تفسير القاسمي؛ محاسن التأويل.(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [ 1 ]
قال الإمام ابن جرير : إنَّ الله تعالى ذكره ، وتقدست أسماؤه ، أدّب نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بتعليمه تقديم ذكر أسماءه الحسنى أمام جميع أفعاله ، وتقدم إليه في وصفه بها قبل جميع مهماته ، وجعل - ما أدّبه به من ذلك ، وعلّمه إياه - منه لجميع خلقه : سنة يستنون بها ، وسبيلاً يتبعونه عليها ، في [ في المطبوع : فبه ] افتتاح أوائل منطقهم ، وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم ، حتى أغنت دلالة ما ظهر ، من قول القائل : بسم الله ، على ما بطن من مراده الذي هو محذوف ، وذلك أن الباء مقتضية فعلاً يكون لها جالباً ، فإذا كان محذوفاً يقدّر بما جُعلت التسمية مبدأ له .
والاسم هنا بمعنى التسمية - كالكلام بمعنى التكليم ، والعطاء بمعنى الإعطاء - والمعنى : أقرأ بتسمية الله وذكره ، وافتتح القراءة بتسمية الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى . و : { اللَّهُ } علم على ذاته ، تعالى وتقدس ؛ قال ابن عباس : هو الذي يألهه كل شيء ويعبده ، وأصله : إلاه ؛ بمهنى مألوه أي : معبود ، فلما أُدخلت عليه الألف واللام حذفت الهمزة تخفيفاً لكثرته في الكلام ، وبعد الإدغام فخّمت تعظيماً - هذا تحقيق اللغويين . و : { الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } قال الجوهري : هما اسمان مشتقان من الرحمة ، ونظيرهما في اللغة : نديم وندمان ؛ وهما بمعنى . ويجوز تكرير الاسمين إذا اختلف اشتقاقهما على جهة التوكيد ، كما يقال : جادّ مجد إلا أن : { الرَّحْمَنُ } اسم متخصص بالله لا يجوز أن يسمى به غيره . ألا ترى أنه قال : { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } [ الإسراء : 110 ] فعادل به الاسم الذي لا يشركه فيه غيره .
وقد ناقش في كون : { الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } بمعنى واحد ، العلامة الشيخ محمد عبده المصري في " مباحثه التفسيرية " قائلاً : إن ذلك غفلة ، نسأل الله أن يسامح صاحبها - ثم قال : - وأنا لا أجيز لمسلمٍ أن يقول ، في نفسه أو بلسانه : إن في القرآن كلمة جاءت لتأكيد غيرها ولا معنى لها في نفسها ، بل ليس في القرآن حرف جاء لغير معنى مقصود .
والجمهور : على أن معنى الرحمن : المنعم بجلائل النعم ، ومعنى الرحيم : المنعم بدقائقها . وبعضهم يقول : إن الرحمن هو المنعم بنعم عامة تشمل الكافرين مع غيرهم ، والرحيم المنعم بالنعم الخاصة بالمؤمنين ، وكل هذا تحكم باللغة مبنيٌّ على أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ، ولكن الزيادة تدل على الوصف مطلقاً ، فصيغة : { الرَّحْمَنُ } تدل على كثرة الإحسان الذي يعطيه ، سواء كان جليلاً أو دقيقاً ، وأما كون أفراد الإحسان التي يدل عليها اللفظ الأكثر حروفاً أعظم من أفراد الإحسان التي يدل عليها اللفظ الأقل حروفاً ، فهو غير معنيّ ولا مراد ، وقد قارب من قال : إن معنى : { الرَّحْمَنُ } المحسن بالإحسان العام . ولكنه أخطأ في تخصيص مدلول الرحيم بالمؤمنين ، ولعل الذي حمل من قال : إن الثاني مؤكد للأول - على قوله هذا - وهو عدم الاقتناع بما قالوه من التفرقة ، مع عدم التفطن لما هو أحسن منه ، ثم قال : والذي أقول : إن لفظ : رحمن ؛ وصفٌ فعليٌّ فيه معنى المبالغة - كفعّال - ويدل في استعمال اللغة على الصفات العارضة - كعطشان وغرثان وغضبان - وأما لفظ : رحيم ؛ فإنه يدل في الاستعمال على المعاني الثابتة ، كالأخلاق والسجايا في الناس - كعليم وحكيم وحليم وجميل - والقرآن لا يخرج عن الأسلوب العربي البليغ في الحكاية عن صفات الله عز وجل التي تعلو عن مماثله صفات المخلوقين .
فلفظ : { الرَّحْمَنُ } ديل على من تصدر عنه آثار الرحمة بالفعل وهي إفاضة النعم والإحسان ، ولفظ : { الرَّحِيْمُ } يدل على منشأ هذه الرحمة والإحسان ، وعلى أنها من الصفات الثابتة الواجبة ، وبهذا المعنى لا يستغني بأحد الوصفين عن الآخر ، ولا يكون الثاني مؤكداً للأول ، فإذا سمع العربيّ وصف الله جل ثناؤه بـ : { الرَّحْمَنُ } ، وفهم منه أنه المفيض للنعم فعلاً ، لا يعتقد منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائماً - لأن الفعل قد ينقطع إذا كان عارضاً لم ينشأ عن صفة لازمة ثابتة - فعندما يسمع لفظ [ الرحيم ] يكمل اعتقاده على الوجه الذي يليق بالله تعالى ويرضيه سبحانه . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 2 ]
{ الْحَمْدُ للّهِ } أي : الثناء بالجميل ، والمدح بالكمال ثابت لله ، دون سائر ما يعبد من دونه ، ودون كل ما برأ من خلقه . واللام في : { الْحَمْدُ } للاستغراق أي : استغراق جميع أجناس الحمد وثبوتها لله تعالى تعظيماً وتمجيداً - كما في الحديث : < اللهم لك الحمد كله ، ولك الملك كله > .
قال الإمام ابن القيم في " طريق الهجرتين " : الملك والحمد في حقه تعالى متلازمان . فكل ما شمله ملكه وقدرته شمله حمده ، فهو محمود في ملكه ، وله الملك والقدرة مع حمده ، فكما يستحيل خروج شيء من الموجودات عن ملكه وقدراته ، يستحيل خروجها عن حمده وحكمته ، ولهذا يحمد سبحانه نفسه عند خلقه ، وأمره لينبَّه عباده على أن مصدر خلقه وأمره عن حمده . فهو محمود على كل ما خلقه وأمر به ، حمد شكر وعبودية ، وحمد ثناء ومدح ، ويجمعهما التبارك ، { تَبَارَكَ اللَّهُ } يشمل ذلك كله ، ولهذا ذكر هذه الكلمة عقيب قوله : { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 54 ] . فالحمد أوسع الصفات واعم المدائح . والطرق إلى العلم به في غاية الكثرة ، والسبيل إلى اعتباره في ذرات العالم وجزئياته ، وتفاصيل الأمر والنهي واسعة جداً ، لأن جميع أسمائه ، تبارك وتعالى حمدٌ ، وصفاته حمدٌ ، وأفعاله حمد ، وأحكامه حمد ، وعدله حمد ، وانتقامه من أعدائه حمد ، وفضله في إحسانه إلى أوليائه حمد ، والخلق والأمر إنما قام بحمده ، ووجد بحمده ، وظهر بحمده ، وكان الغاية هي حمده ، فحمده سبب ذلك وغايته ومظهره وحامله ، فحمده روح كل شيء ، وقيام كل شيء بحمده ، وسريان حمده في الموجودات ، وظهور آثاره فيه أمرٌ مشهود بالأبصار والبصائر - ثم قال - : وبالجملة فكل صفة علياء ، واسم حسن ، وثناء جميل ، وكل حمدٍ ومدح وتسبيح وتنزيه وتقديس وجلال وإكرام فهو لله عز وجل على أكمل الوجوه وأتمها وأدومها ، وجميع ما يوصف به ، ويذكر به ، ويخبر عنه به فهو محامد له وثناء وتسبيح وتقديس ، فسبحانه وبحمده لا يُحصي أحدٌ من خلقه ثناء عليه .
{ رَبِّ الْعَالَمِينَ } الرب يطلق على السيد المطلق ، وعلى المصلح ، وعلى المالك - تقول : ربَّه يرُبُّه فهو ربّ كما تقول : نمّ عليه ينمّ فهو نمّ - فهو صفة مشبهة ، ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى التربية ، وهي : تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً ، وصف به الفاعل مبالغة كما وصف بالعدل ، والرب - باللام - لا يقال إلا لله عز وجل . وهو في غيره على التقييد بالإضافة - كرب الدار - ومنه قوله تعالى : { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ } [ يوسف : 50 ] : { إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } [ يوسف : 23 ] .
و : { الْعَالَمِينَ } جمع عالم وهو : الخلق كله وكل صنف منه ، وإيثار صيغة الجمع لبيان شمول ربوبيته تعالى لجميع الأجناس ، والتعريف لاستغراق أفراد كل منها بأسرها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } [ 3 ]
إيرادهما عقد وصف الربوبية من باب قرن الترغيب بالترهيب الذي هو أسلوب التنزيل الحكيم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ } [ 4 ] .
قرأ عاصم والكسائي بإثبات ألف : { مَاْلِك } والباقون بحذفها . قال الزمخشري : ورجحت قراءة : { مَلِكِ } لأنه قراءة أهل الحرمين ، وهم أولى الناس بأن يقرأوا القرآن غضاً طرياً كما أنزل ، وقراؤهم الأعلون رواية وفصاحة ، ولقوله تعالى : { لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } [ غافر : 16 ] فقد وصف ذاته بأنه الملك يوم القيامة ، والقرآن يتعاضد بعضه ببعض ، وتتناسب معانيه في المراد [ في المطبوع : المواد ] . وثمة مرجحات أخرى .
وقال بعضهم : إن قراءة : { مالك } أبلغ ، لأن الملك هو الذي يدبر أعمال رعيته العامة ، ولا تصرّف له بشيء من شؤونهم الخاصة . وتظهر التفرقة في عبد مملوك في مملكة لها سلطان ، فلا ريب أن مالكه هو الذي يتولى جميع شؤونه دون سلطانه ، ومن وجوه تفضيلها : إنها تزيد بحرف ، ولقارئ القرآن بكل حرف عشر حسنات كما رواه الترمذي عن ابن مسعود بإسناد صحيح ، وكلاهما صحيح متواتر في السبع .
و : { الدِّينِ } الحساب والمجازاة بالأعمال . ومنه : < كما تدين تدان > أي : مالك أمور العالمين كلها في يوم الدين ، وتخصيصه بالإضافة إمّا لتعظيمه وتهويله ، أو لبيان تفرده تعالى بإجراء الأمر وفصل القضاء فيه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ 5 ]
قال الطبري : أي : لك ، اللهم نخشع ونذل ونستكين . إقراراً لك بالربوبية لا لغيرك - قال - والعبودية عند جميع العرب أصلها الذلة ، وأنها تسمِّي الطريق المذلل الذي قد وطئته الأقدام ، وذلّلته السابلة : معبّداً ، ومنه قيل للبعير المذلل بالركوب في الحوائج : مبعبّد ، ومنه سمي العبد : عبداً ؛ لذلته لمولاه انتهى .
وفيه إعلام بما صدع به الإسلام من تحرير الأنفس لله تعالى وتخليصها لعبادته وحده . أعني : أن لا يشرك شيئاً ما معه ، لا في محبته كمحبته ، ولا في خوفه ، ولا في رجائه ، ولا في التوكل عليه ، ولا في العمل له ، ولا في النذر له ، ولا في الخضوع له ، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقريب ، فإن كل ذلك إنما يستحقه فاطر الارض والسماوات وحده ، وذلك أن لفظ العبادة يتضمن كمال الذل بكمال الحب ، فلا بد أن يكون العابد محبّاً للإله المعبود كمال حب ، ولا بد أن يكون ذليلاً له كمال الذل ، وهما لا يصلحان إلا كله وحده . فهو الإله المستحق للعبادة ، الذي لا يستحقها إلا هو ، وهي كمال الحب والذل والإجلال والتوكل والدعاء بما لا يقدر عليه إلا هو ، تعالى . وقد أشار لذلك تقديم المفعول ، فإن فيه تنبيهاً على ما يجب للعبد من تخصيصه ربّه بالعبادة ، وإسلامه وجهه لله وحده ، لا كما كان عليه المشركون الذين ظهر النبي صلى الله عليه سُلَيم عليهم ، فقد كانوا متفرقين في عبادتهم ، متشاكسين في وجهتهم : منهم من يعبد الشمس والقمر ، ومنهم من يعبد الملائكة ، ومنهم من يعبد الأصنام ، ومنهم من يعبد الأحبار والرهبان ، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار . . . إلى غير ذلك ، كما بينه القرآن الكريم في قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ } [ فصلت : 37 ] الآية . وفي قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } [ سبأ : 40 - 41 ] . وفي قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ } [ المائدة : 116 ] الآية . وقوله تعالى : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً } [ آل عِمْرَان : 80 ] الآية . وفي قوله تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى } [ االنجم : 19 - 20 ] . وحديث أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر ، وللمشركين سدرة يعكفون عندها ، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها : ذات أنواط ، فمررنا بسدرة فقلنا : يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < الله أكبر ، إنها السَّنَن ، قلتم - والذي نفسي بيده - كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } إلى قوله : { وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 138 - 140 ] > رواه الترمذي وصححه .
وأما عبادتهم للأحبار والرهبان في قوله تعالى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } [ التوبة : 31 ] ، فروى الإمام أحمد والترمذي عن عديّ بن حاتم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } الآية ، فقلت له : إنا لنسا نعبدهم ، قال : < أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمون ، ويحلون ما حرم الله فتحلونه ؟ > فقلت : بلى قال : < فتلك عبادتهم > .
فالعبادة أنواع وأصناف ، ولا يتم الإيمان إلا بتوحيدها كلها لله سبحانه . وقد بينت السنة أن الدعاء هو العبادة ؛ أي : ركنها المهم الأعظم ، وأصله من التنزيل الكريم قوله تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي } [ غافر : 60 ] . فمساه عُبَاْدَة . وفي الخبر : < الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل > .
قال شمس الدين بن القيم : ولهذا كان العبد مأموراً في كل صلاة أن يقول : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } والشيطان يأمر بالشرك ، والنفس تطيعه في ذلك ، فلا تزال النفس تلتفت إلى غير الله ، إما خوفاً منه ، أو رجاءً له ، فلا يزال العبد مفتقراً إلى تخليص توحيده من شوائب الشرك ، ولذا أخبر سبحانه عن المشركين أنهم ما قدروه حق قدره في ثلاثة مواضع من كتابه ، وكيف يقدره حق قدره من جعل له عدلاً ونداً ، يحبه ، ويخافه ، ويرجوه ، يذل ، ويخضع له ، ويهرب من سخطه ، ويؤثر مرضاته ، والمؤثر لا يرضى بإيثاره انتهى .
فائدة : قال بعض السلف : الفاتحة سر القرآن ، وسرها هذه الكلمة : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } : فالأول تبرؤٌ من الشرك ، والثاني تبرؤٌ من الحول والقوة ، والتفويض إلى الله عز وجل ، وهذا المعنى في غير آية من القرآن كما قال تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ الصافات : 23 ] { قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [ الملك : 29 ] { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً } [ المزمل : 9 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [ 6 ]
أي ألهمنا الطريق الهادي ، وأرشدنا إليه ، ووفقنا له
قال الإمام الراغب في تفسيره : الهداية دلالة بلطف ، ومنه الهداية ، وهوادى الوحس ، وهي متقدماتها لكونها هادية لسائرها ، وخص ما كان بفعلت نحو : هديته الطريق ، وما كان من الإعطاء بفعلت نحو : أهديت الهدية . ولما يصور العروس على وجهين : قيل فيه : هديت وأهديت . فإن قيل : كيف جعلت الهدى دلالة لطف وقد قال تعالى : { فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } [ الصافات : 23 ] وقال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } [ الحج : 4 ] . قيل : إن ذلك حسب استعمالهم اللفظ على التهكم كما قال :
~وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيْعُ !
والهداية هي الإرشاد إلى الخيرات قولاً وفعلاً ، وهي من الله تعالى على منازل بعضها يترتب على بعض ، لا يصح حصول الثاني إلا بعد الأول ، ولا الثالث إلا بعد الثاني ، فأول المنازل إعطاؤه العبد القوى التي بها يهتدي إلى مصالحه إما تسخيراً وإما طوعاً - كالمشاعر الخمسة والقوة الفكرية ، وبعض ذلك قد أعطاه الحيوانات ، وبعض خصّ به الْإِنْسَاْن ، وعلى ذلك دلّ قوله تعالى : { أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [ طه : 50 ] ، وقوله تعالى : { الَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [ الأعلى : 3 ] وهذه الهداية إما تسخير وإما تعليم ، وإلى نحوه أشار بقوله تعالى : { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ } [ النحل : 68 ] ، وقوله تعالى : { بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا } [ الزلزلة : 5 ] ، وقال في الْإِنْسَاْن بما أعطاه من العقل ، وعرفه من الرشد : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ } [ الْإِنْسَاْن : 3 ] وقال : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } [ البلد : 10 ] ، وقال في ثمود : { فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } [ فصلت : 17 ] .
وثانيهما الهداية بالدعاء وبعثه الأنبياء عليهم السلام . وإياها عنى بقوله تعاى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } [ السجدة : 24 ] . وبقوله : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [ الرعد : 7 ] ، وهذه الهداية تنسب تارة إلىالله عز وجل ، وتارة إلى النبي عليه السلام ، وتارة إلى القرآن . قال الله تعالى : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] .
وثالثها هداية يوليها صالحي عباده بما اكتسبوه من الخيرات ، وهي الهداية المذكورة في قوله عز وجل : { وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } [ الحج : 24 ] . وقوله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } [ الأنعام : 90 ] وقوله : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] . وهذه الهداية هي المعنية بقوله : { وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } [ الحديد .
ويصح أن ننسب هذه الهداية إلى الله عز وجل فيقال : و آثرهم بها من حيث إنه هو السبب في وصولهم إليها . ويصح أن يقال : اكتسبوها من حيث أنهم توصلوا إليها باجتهادهم . فمن قصد سلطاناً مسترفداً فأعطاه ، يصح أن يقال : إن السلطان خوله . ويصح أن يقال : فلان اكتسب بسعيه ، ولانطواء ذلك على الأمرين ، قال تعالى : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ } [ محمد : 17 ] ، وقال : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } [ يونس : 9 ] . فنبه أن ذلك بجهدهم وبفضله جميعا . وهذه الهداية يصح أن يقال : هي مباحة للعقلاء كلهم ، ويصح أن يقال : هي محظورة إلا على أوليائه ، لما كان في إمكان جميع العقلاء أن يترشحوا لتناولها ، ومن ذلك قيل : إنها لا يسهل تناولها قبل أن يتشكل الْإِنْسَاْن بشكل مخصوص ، بتقديم عبادات . وقد قال بعض المحققين : الهدى من الله كثير ، ولا يبصره إلاالبصير ، ولا يعمل به إلا اليسير . ألا ترى أن نجوم أسماء ما أكثرها ولا يهتدي بها إلا العلماء . وقال بعض الأولياء : إن مثل هداية الله مع الناس كمثل سيلٍ مرّ على قِلات وغدران ، فيتناول كل قُلُتٍ منها بقدر سعته - ثم تلا قوله - : { أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } [ الرعد : 17 ] وقال بعضهم : هي كمطرٍ أتى على أرضين فينفع [ في المطبوع : فينتفع ] كلَّ أرضٍ بقدر ترشيحها للانتفاع به .
والمنزلة الرابعة : من الهداية التمكين من مجاورته في دار الخلد ، وإياها عنى الله بقوله : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا } [ الأعراف : 43 ] . فإذا ثبت ذلك فمن الهداية ما لا يُنْفى عن أحد بوجه . ومنها ما يُنفى عن بعض ، ويثبت لبعض ، ومن هذا الوجه قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] . وقال : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء } [ البقرة : 272 ] . وقال : { وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ } [ الروم : 53 ] . فإنه عنى الهداية - التي هي التوفيق وإدخال الجنة - دون التي هي الدعاء لقوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] . وقال في الأنبياء : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } [ الأنبياء : 73 ] .
فقوله : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } فسر على وجوه بحسب أنظار مختلفة إلى الوجوه المذكورة :
الأول : أنه على الهداية العامة ، وأمر أن ندعو بذلك - وإن كان هو قد فعله لا محالة - ليزيدنا ثواباً بالدعاء ، كما أمرنا أن نقول : اللهم صل على محمد .
الثاني : قيل : وفقنا لطريق الشرع .
الثالث : احرسنا عن استغواء الغواة واستهواء الشهوات ، واعصمنا من الشبهات .
الرابع : زدنا هدى استنجاحاً لما وعدت بقولك : { وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 ] . وقولك : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى } [ محمد : 17 ] .
الخامس : قيل : علمنا العلم الحقيقي فذلك سبب الخلاص ، وهو المعبر عنه بالنور في قوله : { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء } [ النور : 35 ] .
السادس : قيل : هو سؤال الجنة ، لقوله تعالى : { وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } [ محمد : 4 - 5 ] . وقال : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } [ يونس : 9 ] . فهذه الأقاويل اختلفت باختلاف أنظارهم إلى أبعاض الهداية وجزئياتها ، والجميع يصح أن يكون مراداً بالآية - إذ لا تنافي بينها - وبالله التوفيق . [ اهـ ] كلام الراغب .
وبه يعلم تحقيق معنى الهداية في سائر مواقعها في التنزيل الكريم ، وأن الوجوه المأثورة في آية ما - إذا لم تتناف - صح إرادتها كلها ، ومثل هذا يسمى : اختلاف تنوّع لا اختلاف تضاد .
كما أشار لذلك شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في مبحث له مهم ، نأثره عنه هنا ، لما فيه من الفوائد الجليلة ، قال رحمه الله :
ينبغي أن يعلم أن الاختلاف الواقع من المفسرين وغيرهم على وجهين :
أحدهما ليس فيه تضاد وتناقض ، بل يمكن أن يكون كل منهما حقاً ، وإنما هو اختلاف تنوع أو اختلاف في الصفات أو العبارات ، وعامة الاختلاف الثابت عن مفسري السلف من الصحابة والتابعين هو من هذا الباب ، فإن الله سبحانه إذا ذكر في القرآن اسماً مثل قوله : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } فكل المفسرين يعبر عن الصراط المستقيم بعبارة تدل بها على بعض صفاته ، وكل ذلك حق بمنزلة ما يسمى الله ورسوله وكتابه بأسماء ، كل اسم منها يدل على صفة من صفاته ، فيقول بعضهم : الصراط المستقيم كتاب الله ، أو أتباع كتاب الله . ويقول الآخر : الصراط المستقيم هو الإسلام أو دين الإسلام . ويقول الآخر : الصراط المستقيم هو السنة والجماعة . ويقول الآخر : الصراط المستقيم طريق العبودية ، أو طريق الخوف والرضا والحب ، امتثال المأمور ، واجتناب المحظور ، أو متابعة الكتاب والسنة ، أو العمل بطاعة الله ، أو نحو هذه الأسماء والعبارات ، ومعلوم أن المسمى هو واحد ، وإن تنوعت صفاته وتعددت أسماؤه وعباراته ، وكثير من التفسير والترجمة تكون من هذا الوجه .
ومنه قسم آخر وهو أن يذكر المفسر والمترجم معنى اللفظ على سبيل التمثيل لا على سبيل الحدّ والحصر - مثل أن يقول قائل من العجم : ما معنى الخبز ؟ فيشار له إلى رغيف - وليس المقصود مجرد عينه ، وإنما الإشارة إلى تعيين هذا الشخص تمثيلاً . وهذا كما إذا سئلوا عن قوله : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } [ فاطر : 32 ] . أو عن قوله : { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } [ النحل : 128 ] . أو عن الصالحين أو الظالمين ، ونحو ذلك من الأسماء العامة الجامعة التي قد يتعسر أو يتعذر على المستمع أو المتكلم ضبط مجموع معناه ؛ إذ لا يكون محتاجاً إلى ذلك فيذكر له من أنواعه وأشخاصه ما يحصل به غرضه ، وقد يستدل به على نظائره . فإن الظالم لنفسه هو تارك المأمور فاعل المحظور ، والمتقصد هو فاعل الواجب وتارك المحرم ، والسابق هو فاعل الواجب والمستحب ، وتارك المحارم والمكروه . فيقول المجيب بحسب حاجة السائل : الظالم الذي يفوّت الصلاة ، أو الذي لا يسبغ الوضوء ، أو الذي لا يتم الأركان ونحو ذلك . والمقتصد الذي يصلي في الوقت - كما أمر - والسابق بالخيرات الذي يصلي الصلاة بواجباتها ومستحباتها ويأتي بالنوافل المستحبة معها ، وكذلك يقول مثل هذا في الزكاة والصوم الحج وسائر الواجبات .
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : التفسير على أربعة أوجه :
تفسير تعرفه العرب من كلامها .
وتفسير لا يعذر أحد بجهالته .
وتفسير يعلمه العلماء .
وتفسير لا يعلمه إلا الله ، فمن ادعى علمه فهو كاذب .
والصحابة أخذوا عن الرسول لفظ القرآن ومعناه كما أخذوا عنه السنة ، وإن كان من الناس من غيّر السنة ، فمن الناس من غير بعض معاني القرآن - إذ لم يتمكن من تغيير لظفه ، وأيضاً فقد يخفى على بعض العلماء بعض معاني القرآن ، كما خفي عليه بعض السنة ، فيقع خطأ المجتهدين من هذا الباب والله أعلم .
وتقدم في مقدمة الكتاب بسطٌ لهذا البحث فارجع إليه .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أيضاً في تحقيق هذه الآية :
كل عبد مضطر دائماً إلى مقصود هذا الدعاء ، وهو هداية الصراط المستقيم ، فإنه لا نجاة من العذاب إلا بهذه الهداية ، ولا وصول إلى السعادة إلا به ، فمن فاته هذا الهدى فهو : إما من المغضوب عليهم ، وإما من الضالين ، وهذا الاهتداء لا يحصل إلا بهدى الله : { مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً } [ الكهف : 17 ] . فإن الصراط المستقيم : أن تفعل في كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل ، ولا تفعل ما نهيت عنه ، وهذا يحتاج في كل وقت إلى أن تعلم : ما أمر به في ذلك الوقت ، وما نهى عنه ، وإلى أن يحصل لك إرادة جازمة لفعل المأمور ، وكراهة لترك المحظور . والصراط المستقيم قد فسّر بالقرآن والإسلام وطرق العبودية ، وكل هذا حق ، فهو موصوف بهذا وبغيره ، فحاجته إلى هذه الهداية ضرورية في سعادته ونجاته ، بخلاف الحاجة إلى الرزق والنصر ، فإن الله يرزقه ، وإن انقطع رزقه مات -والموت لا بد منه - فإن كان من أهل الهداية ، كان سعيداً بعد الموت ، وكان الموت موصلاً له إلى السعادة الدائمة الأبدية ، فكيون رحمة في حقه ، وكذلك النصر - إذا قدّر أنه قُهر وغُلب حتى قُتل - فإذا كان من أهل الهداية إلى الاستقامة مات شهيداً ، وكان القتل من تمام نعمة الله عليه ، فتبين أن حاجة العباد إلى الهدى أعظم من حاجتهم إلى الرزق والنصر ، بل لا نسبة بينهما فلهذا كان هذا الدعاء مفروضاً عليهم في الصلوات - فرضها ونفلها - وأيضاً فإن هذا الدعاء يتضمن الرزق والنصر لأنه إذا هدي الصراط المستقيم كان من المتقين : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2 - 3 ] وكان من المتوكلين : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } [ الطلاق : 3 ] ، وكان ممن ينصر [ في المطبوع : ينصره ] الله ورسوله ، ومن ينصر الله ينصره ، وكان من جند الله ، وجند الله هم الغالبون . فالهدى التام يتضمن حصول أعظم ما يحصل به الرزق والنصر ، فتبين أن هذا الدعاء هو الجامع لكل مطلوب تحصل به كل منفعة ، وتندفع به كل مضرة .
فائدة : الصراط المستقيم : أصله الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه ، ولا انحراف ، ويستعار لكل قول أو عمل يبلغ به صاحبه الغاية الحميدة ، فالطرق الواضح للحسّ ، كالحق للعقل ، في أنه : إذا سير بهما أبلغا السالك النهاية الحسنى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } [ 7 ]
أي بطاعتك وعبادتك ، وهم المذكورون في قوله تعالى : { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ } [ النساء : 69 ] .
{ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } قال الأصفهاني : وإنما ذكر تعالى هذه الجملة لأن الكفار قد شاركوا المؤمنين في إنعام كثير عليهم ، فبين بالوصف أن المراد بالدعاء ليس هو النعم العامة ، بل ذلك نعمة خاصة ، ثم إن المراد بالمغضوب عليهم والضالين : كل من جاد عن جادة الإسلام من أي : فرقة ونحلة ، وتعيين بعض المفسرين فرقة منهم من باب تمثيل العام بأوضح أفراده وأشهرها ، وهذا هو المراد بقول ابن أبي حاتم : لا أعلم بين المفسرين اختلافاً في أن المغضوب عليهم اليهود ، والضالين النصارى .
فوائد :
الأولى : يستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها : آمين ؛ ومعناه : اللهم استجب ، أو كذلك فليكن ، أو كذلك فافعل : وليس من القرآن . بدليل أنه لم يثبت في المصاحف ، والدليل على استحباب التأمين ما رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي عن وائل بن حجر قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } فقال : < آمين > مدَّ بها صوته . ولأبي داود : رفع بها صوته . قال الترمذي : هذا حديث حسن ، وفي الباب عن علي وأبي هريرة ، وروي عن علي وابن مسعود وغيرهم [ ؟ ؟ ؟ كذا في المطبوع ] .
وعن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا : { غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } . قال : < آمين > حتى يسمع من يليه من الصف الأول . رواه أبو داود .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إذا أمّن الإمام فأمنوا ، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملاكئة غفر الله له ما تقدم من ذنبه > .
وفي صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعاً : < إذا قال - يعني الإمام - ولا الضالين فقولوا : آمين يجبكم الله > .
الثانية : في ذكر ما اشتملت عليه هذه السورة من العلوم .
اعلم أن هذه السورة الكريمة قد اشتملت - وهي سبع آيات - علىحمد الله تعالى وتمجيده ، والثناء عليه : بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا ، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين ، وعلى إرشاد عبيده إلى سؤاله والتضرع إليه والتبرؤ من حولهم وقوتهم ، وإلى إخلاص العبادة له ، وتوحيده بالألوهية ، تبارك وتعالى ، وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل ، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم - وهو الدين القويم - وتثبيتهم عليه حتى يُفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة ، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة ، وهم المغضوب عليهم والضالون .
قال العلامة الشيخ محمد عبده في تفسيره : الفاتحة مشتملة على مجمل ما في القرآن . وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها ، ولست أعني بهذا ما يعبرون عنه بالإشارة ودلالة الحروف كقولهم : إن أسرار القرآن في الفاتحة ، وأسرار الفاتحة في البسملة ، وأسرار البسملة في الباء ، وأسرار الباء في نقطتها ! فإن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليهم الرضوان ، ولا هو معقول في نفسه ، وإنما هو من مخترعات الغلاة الذين ذهب بهم الغلو إلى إعدام القرآن خاصته ، وهي البيان - قال - وبيان ما أريد : أن ما نزل القرآن لأجله أمور :
أحدها التوحيد : لأن الناس كانوا كلهم وثنيين - وإن كان بعضهم يدعي التوحيد - .
ثانيها : وعد من أخذ به ، وتبشيره بحسن المثوبة ، ووعيد من لم يأخذ به ، وإنذاره بسوء العقوبة ، والوعد يشمل ما للأمة وما للأفراد ، فيعم نعم الدنيا والآخرة وسعادتهما ، والوعيد - كذلك - يشمل نقمهما وشقاءهما ، فقد وعد الله المؤمنين : بالاستخلاف في الأرض ، والعزة ، والسلطان ، والسيادة ، وأوعد المخالفين ، بالخزي والشقاء في الدنيا ، كما وعد في الآخرة بالجنة والنعيم وأوعد بنار الجحيم .
ثالثها : العبادة التي تحيي التوحيد في القلوب وتثبته في النفوس .
رابعها : بيان سبيل السعادة وكيفية السير فيه ، الموصل إلى نعم الدنيا والآخرة .
خامسها : قصص من وقف عند حدود الله تعالى ، وأخذ بأحكام دينه ، وأخبار الذين تعدوا حدوده ونبذوا أحكام دينه ظهرياً لأجل الاعتبار ، واختيار طريق المحسنين .
هذه هي الأمور التي احتوى عليها القرآن ، وفيها حياة الناس وسعادتهم الدنيوية والأخروية ، والفاتحة مشتملة عليها اجمالاً بغير ما شك ولا ريب .
فأما التوحيد ففي قوله : { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } لأنه ناطق بأن كل حمد وثناء يصدر عن نعمة ما فهو له تعالى ، ولا يصح ذلك إلا إذا كان سبحانه مصدر كل نعمة في الكون تستوجب الحمد ، ومنها نعمة الخلق والإيجاد والتربية والتنمية ، ولم يكتف باستلزام العبارة لهذا المعنى فصرّح به بقوله : { رَبِّ الْعَالَمِينَ } ولفظ رب : ليس معناه المالك والسيد فقط ، بل فيه معنى التربية والإنماء ، وهو صريح بأن كل نعمة يراها الإنسان في نفسه وفي الآفاق منه عز وجل ، فليس في الكون متصرف بالإيجاد والإشقاء ، والإسعاد سواه ، ثم إن التوحيد أهم ما جاء لأجله الدين ، ولذلك لم يكتف في الفاتحة بمجرد الإشارة إليه ، بل استكمله ، وبقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فاجتث بذلك جذور الشرك والوثنية التي كانت فاشية في جميع الأمم ، وهي اتخاذ أولياء من دون الله تعتقد لهم السطلة الغيبية ، يُدعون لذلك من دون الله ، ويستعان بهم على قضاء الحوائج في الدنيا ، ويتقرب بهم إلى الله زلفى ، وجميع ما في القرآن من آيات التوحيد ومقارعة المشركين هو تفصيل لهذا الإجمال .
وأما الوعد والوعيد : فالأول منهما مطوي في : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } فذكر الرحمة في اول الكتاب ، وهي التي وسعت كل شيء ، وعدٌ بالإحسان - لاسيما وقد كررها مرة ثانية - تنبيهاً لنا على أن أمره إيانا بتوحيده وعباده رحمة منه سبحانه بنا ، لأنه لمصلحتنا ومنفعتنا . وقوله تعالى : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } يتضمن الوعد والوعيد معاً ، لأن معنى الدين الخضوع ، أي : إن له تعالى في ذلك اليوم السلطان المطلق ، والسيادة التي لا نزاع فيها ، لا حقيقة ولا ادعاء ، وإن العالم كله يكون فيه خاضعاً لعظمته - ظاهراً وباطناً - يرجو رحمته ، ويخشى عذابه ، وهذا يتضمن الوعد والوعيد ، أو معنى الدين الجزاء وهو : إما ثواب للمحسن ، وإما عقاب للمسيء ، وذلك وعدٌ ووعيد ، وزد على ذلك أنه ذكر بعد ذلك : { الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } وهو الذي من سلكه فاز ، ومن تنكبه هلك ، وذلك يستلزم الوعد والوعيد .
وأما العبادة ، فعد أن ذكرت في مقام التوحيد بقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعين } ، أوضح معناها بعض الإيضاح بقوله تعالى : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } أي : إنه قد وضع لنا صراطاً سيبينه ويحدده ، ويكون مناطُ السعادة في الاستقامة عليه ، والشقاء في الانحراف عنه ، وهذه الاستقامة عليه هي روح العبادة ، ويشبه هذا قوله تعالى : { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَاْن لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [ العصر : 1 - 3 ] . فالتواصي بالحق والصبر هو كمال العبادة بعد التوحيد . والفاتحة بجملتها تنفخ روح العبادة في المتدبر لها ، وروح العبادة هي إشراب القلوب خشية الله ، وهيبته ، والرجاء لفضله ، لا الأعمال المعروفة من فعلٍ وكفّ وحركات اللسان والأعضاء . فقد ذكرت العبادة في الفاتحة قبل ذكر الصلاة وأحكامها ، والصيام وأيامه ، وكانت هذه الروح في المسلمين قبل أن يكلفوا بهذه الأعمال البدنية ، وقبل نزول أحكامها التي فصلت في القرآن تفصيلاً ما ، وإنما الحركات والأعمال مما يتوسل به إلى حقيقة العبادة ، ومخ العبادة الفكر والعبرة ، وأما الأخبار والقصص ففي قوله تعالى : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ } تصريح بأن هنالك قوماً تقدموا ، وقد شرع الله شرائع لهدايتهم ، وصائح يصيح ألا فانظروا في الشؤون العامة التي كانوا عيها واعتبروا بها ، كما قال تعالى لنبيه يدعوه إلى الاقتداء بمن كان قبله من الأنبياء : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } [ الأنعام : 90 ] . حيث بين أن القصص إنما هو للعظة والاعتبار . وفي قوله تعالى : { غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } تصريح بأن من دون المنعَم عليهم فريقان : فريق ضل عن صراط الله ، وفريق جاحده ، وعاند من يدعو إليه ، فكان محفوفاً بالغضب الإلهي ، والخزي في هذه الحياة الدنيا ، وباقي القرآن يفصل لنا في أخبار الأمم هذا الإجمال على الوجه الذي يفيد العبرة ، فيشرح حال الظالمين الذين قاوموا الحق ، وحال الذين حافظوا عليه وصبروا على ما أصابهم في سبيله .
فتبين من مجموع ما تقدم : أن الفاتحة قد اشتملت إجمالاً على الأصول التي يفصلها القرآن تفصيلاً . فكان إنزالها أولاً موافقاً لسنة الله تعالى في الإبداع ، وعلى هذا تكون الفاتحة جديرة بأن تسمى : أم الكتاب .
الثالثة : مما صح في فضلها من الأخبار : ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال :
كنت أصلي في المسجد فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فلم أجبه . فقلت : يا رسول الله إني كنت أصلي . فقال : < ألم يقل الله : { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ } [ الأنفال : 24 ] > - ثم قال لي : < لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ؟ > ثم أخذ بيدي ، فملا أراد أن نخرج ، قلت : يا رسول الله ألم تقل : < لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن > . قال :
< الحمد لله رب العالمين ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته > .
وروي الإمام أحمد والترمذي بإسناد حسن صحيح عن أبي هريرة ، نحوه ، غير أن القصة مع أبيّ بن كعب ، وفي آخره :
< والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الزبور ، ولا في الفرقان مثلها ، إنها السبع المثاني > .
واستدل بهذا الحديث وأمثاله على تفاضل بعض الآيات والسور على بعض ، كما هو المحكي عن كثير من العلماء منهم : إسحاق بن راهويه ، وأبو بكر بن العربي وابن الحصار [ في المطبوع : ابن الحضار ] من المالكية ، وذلك بين واضح .
وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال : كنا في مسير لنا فنزلنا ، فجاءت جارية فقالت : إن سيد الحي سَلِيْم ، وإن نَفَرنا غَيْبٌ ، فهل منكم واق ؟ فقام معها رجل ما كنا نأْبُِنُه برقية . فرقاه ، فبرأ ، فأمر له بثلاثين شاة ، وسقانا لبناً ، فلما رجع قلنا له : أكنت تحسن رقية ، أو كنت ترقِي ؟ قال : لا ، ما رقيت إلا بأم الكتاب . قلنا : لا تحدثوا شيئاً حتى نأتي ، أو نسأل ، النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما قدمنا المدينة ، ذكرناه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : < وما كان يُدريه أنها رقية ؟ اقمسوا واضربوا لي بسهم > . وهكذا رواه مسلم وأبو داود ، وفي بعض روايات مسلم : أن أبا سعيد الخدري هو الذي رقى ذلك السليم - يعني اللديغ ن يسمونه بذلك تفاؤلاً - .
وروى مسلم والنسائي عن ابن عباس قال :
بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه ، فرفع فقال : < هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم . فنزل منه ملك . فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم . فسلم وقال : أبشر بنورين قد أوتيتهما ، لم يؤتهما نبي قبلك ؛ فاتحة الكتاب وخواتيم البقرة ، لم تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته > .
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج - ثلاثا - غير تمام > فقيل لأبي هريرة : إنا نكون وراء الإمام . فقال : اقرأ بها في نفسك ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
< قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، قال الله : حمدني عبدي ، وإذا قال : { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } ، قال الله تعالى : أثنى علي عبدي ، وإذا قال : { مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ } ، قال : مجدني عبدي - وقال مرة : فوض إلي عبدي - فإذا قال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، قال : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } قال : هذا لعبدي ، ولعبدي ما سأل > .
ويكفي من شرح الفاتحة هذا المقدار الجليل ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الم } [ 1 ]
أعلم أن للناس في هذا وما يجري مجراه من الفواتح مذهبين :
الأول : أن هذا علم مستور ، وسرّ محجوب ، استأثر الله تبارك وتعالى به ؛ فهو من المتشابه . ولم يرتض هذا كثير من المحققين وقالوا : لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوماً للخلق ، واحتجوا بأدلة عقلية ونقلية ، بسطها العلامة الفخر .
المذهب الثاني : مذهب من فسرها ، وتكلم فيما يصح أن يكون مراداً منها ، وهو ما للجمهور . وفيه وجهان :
الأول : وعليه الأكثر ؛ أنها أسماء للسور .
الثاني : أن يكون ورود الأسماء هكذا مسرودة على نمط التعديد : كالإيقاظ وقرع العصا لمن تُحُدِّي بالقرآن وبغرابة نظمه ، وكالتحريك لنظر في أن هذا المتلوّ عليهم - وقد عجزوا عنه عن آخرهم - كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم ، ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا أن لم تتساقط مقدرتهم دونه ، ولم تظهر معجزتهم عن أن يأتوا بمثله - بعد المراجعات المتطاولة - وهم أمراء الكلام ، وزعماء الحوار ، وهم الحراص على التساجل في اقتضاب الخطب ، والمتهالكون على الاقتنان في القصيد والرجز ، ولم يبلغ من الجزلة وحسن النظم المبالغ التي بزت بلاغة كل ناطق ، وشقت غبار كل سابق ، ولم يتجاوز الحد الخارج من قوى الفصحاء ، ولم يقع وراء مطامح أَعْيَن البصراء إلاَّ لأنه ليس بكلام البشر ، وإنه كلام خالق القوى والقدر . قاله الزمخشري .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ 2 ]
أي : هذا القرآن لا شك أنه من عند الله تعالى كما قال تعالى في السجدة : { ألم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ السجدة : 1 - 2 ]
. قال بعض المحققين : اختصاص ذلك بالإشارة للبعيد حكم عرفيّ لا وضعيّ ، فإن العرب تعارض بين اسمي الإشارة ، فيستعملون كلاً منهما مكان الآخر ، وهذا معروف في كلامهم .
وفي التنزيل من ذلك آيات كثيرة ، ومن جرى على أن ذلك إشارة للبعيد يقول : إنما صحت الإشارة بذلك هنا إلى ما ليس ببعيد ، لتعظيم المشار إليه ، ذهاباً إلى بُعد درجته وعلوّ مرتبته ومنزلته في الهداية والشرف .
والريب في الأصل : مصدر رابني إذا حصل فيك الريبة . وحقيقتها : قلق النفس واضطرابها . ثم استعمل في معنى الشك مطلقاً ، أو مع تهمة . لأنه يقلق النفس [ في المطبوع : لنفس ] ويزيل الطمأنينة . وفي الحديث : < دع ما يريبك إلى ما لا يَريبُك > .
ومعنى نفيه عن الكتاب ، أنه في علو الشأن ، وسطوع البرهان ، بحيث ليس فيه مظنة أن يُرتاب في حقيقته ، وكونه وحياً منزلاً من عند الله تعالى ، والأمر كذلك ، لأن العرب ، مع بلوغهم في الفصاحة إلى النهاية ، عجزوا عن معارضة أقصر سورة من القرآن ، وذلك يشهد بأنه بلغت هذه الحجة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه ، لا أنه لا يرتاب فيه أحد أصلاً .
{ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } أي : هادٍ لهم ودالّ على الدين القويم المفضي إلى سعادتي الدارين .
قال الناصر في الانتصاف : الهدى يطلق في القرآن على معنيين :
أحدهما : الإرشاد وإيضاح سبيل الحق ، ومنه قوله تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } [ فصلت : 17 ] . وعلى هذا يكون الهدى للضالّ باعتبار أنه رشد إلى الحق ، سواء حصل له الاهتداء أو لا .
والآخر : خلق الله تعالى الاهتداء في قلب العبد ، ومنه : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } [ الأنعام : 90 ] . فإذا ثبت وروده على المعنيين فهو في هذه الآية يحتمل أن يراد به المعنيان جميعاً ، وعلى الأول ، فتخصيص الهدى بالمتقين للتنويه بمدحهم حتى يتبين أنهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا به ، كما قال تعالى : { إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا } [ النازعات : 45 ] . وقال : { إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ } [ يس : 11 ] . وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم ، منذراً لكل الناس ، فذكر هؤلاء لأجل أنهم هم الذين انتفعوا بإنذاره ، وهذه الآية نظير آية : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } فصلت : 44 ] { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً } [ الإسراء : 82 ] . وكقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ يونس : 57 ] إلى غير ذلك ، مما دل على أن النفع به لا يناله إلا الأبرار ، والمراد بالمتقين - هنا - من نعتهم الله تعالى بقوله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [ 3 ]
{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } أي : يصدقون : { بِالْغَيْبِ } الغيب في الأصل مصدر غاب .
بمعنى استتر واحتجب وخفي ، وهو بمعنى الفاعل - كالزور للزائر - أُطلق عليه مبالغة ، والمراد به ما لا يقع تحت الحواس ، ولا تقتضيه بداهة [ في المطبوع : بداية ] العقول ، وإنما يعلم بخبر الأنبياء عليهم السلام ، والمعنى يؤمنون بما لا يتناوله حسّهم . كذاته تعالى ، وملائكته ، والجنة ، والنار ، والعرش ، والكرسي ، واللوح ، ونحوها .
{ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ } ، أي : يؤدونها بحدودها وفروضها الظاهرة والباطنة . كالخشوع والمراقبة وتدبر المتلوّ والمقروء .
قال الراغب : إقامة الصلاة توفية حدودها ، وإدامتها . وتخصيص الإقامة تنبيه على أنه لم يُرد إيقاعها فقط ، لهذا لم يأمر بالصلاة ولم يمدح بها إلا بلفظ الإقامة نحو : { أَقِمِ الصَّلاةَ } [ الإسراء : 78 ] ، وقوله : { وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ } [ النساء : 162 ] و : { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ } [ المائدة : 55 ] . ولم يقل : المصلي ، إلا في المنافقين : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ } [ الماعون : 4 - 5 ] وذلك تنبيه على أن المصلين كثير والمقيمين لها قليل - كما قال عمر رضي الله عنه : الحاجّ قليل والركب كثير - ولهذا قال عليه السلام : < من صلى ركعتين مقبلاً بقلبه على ربه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه > . فذكر مع قوله : < صلّى > الإقبال بقلبه على الله تنبيهاً على معنى الإقامة ، وبذلك عظم ثوابه ، وكثير من الأفعال التي حث تعالى على توفية حقه ، ذكره بلفظ الإقامة ، نحو : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ } [ المائدة : 66 ] ، ونحو : { وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ } [ الرحمن : 9 ] تنبيهاً على المحافظة على تعديله . انتهى .
فالإقامة من أقام العود إذا قوّمه . و : { الصَّلَاةَ } فعلة من صلى إذا دعا ، كـ : { الزَّكَاةَ } من زكى - وإنما كتبنا بالواو مراعاة لفظ المفخّم - وإنما سمي الفعل المخصوص بها لاشتماله على الدعاء .
{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } أي : يؤتون مما رزقناهم من الأموال من شرح لهم إيتاؤه والإنفاق عليه من الفقراء والمساكين وذوي القربى واليتامى وأمثالهم ، على ما بيّن في آيات كثيرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [ 4 ]
{ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } والمراد : { بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } الكتاب المنزل كله ، وإنما عبر عنه بلفظ الماضي - وإن كان بعضه مترقباً - تغليباً للموجود على ما لم يوجد . كما أن المراد من قوله : { وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } الكتب الإلهية السالفة كلها . وهذا كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ } الآية . والإنزال النقل من الأعلى إلى الأسفل . فنزول الكتب الإلهية إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام بأن يتلقاها جبريل من جنابه عز وجل فينزل بها إلى الرسل عليهم السلام . ولهذا يقال : القرآن ، كلام الله ليس بمخلوق ، منه بدأ . أي : تكلم به حقيقة لا مجازاً .
قال الإمام أحمد وغيره : وإليه يعود أي : لا يبقى له أثر في الوجود أي : هو المتكلم به قال تعالى : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } [ الأنعام : 114 ] وقال تعالى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } [ النحل : 102 ] وقال تعالى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [ الزمر : 1 ] .
{ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } الآخرة في الأصل : تأنيث الآخر الذي هو نقيض الأول وهي صفة الدار ، بدليل قوله تعالى : { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ } [ القصص : 83 ] . سميت بذلك لأنها متأخرة عن الدنيا . وقيل للدنيا : دنيا ، لأنها أدنى من الآخرة . وهما من الصفات الغالبة . ومع ذلك فقد جريا مجرى الأسماء ؛ إذ قد غلب ترك ذكر اسم موصوفهما معهما ، كأنهما ليس من الصفات .
والإيقان : إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه ، وفي تقديم : { الْآخِرَةُ } وبناء : { يُوقِنُونَ } على : { هُمْ } تعريض بأهل الكتاب ، وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته . كزعمهم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هوداً أو نصارى ، وأن النار لن تمسهم إلا إِِِِِياماً معدودة ، واختلافهم في أن نعيم الجنة هل هو من قبيل نعيم الدنيا أو لا ؟ وهل هو دائم أو لا ؟ فاعتقادهم في أمور الآخرة بمعزل من الصحة ، فضلاً عن الوصول إلى مرتبة اليقين ! .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ 5 ]
{ أُوْلَئِكَ } أي : المتصفون بما تقدّم : { عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } أي : على نورٍ من ربهم ، وبرهان ، واستقامة ، وسدادٍ - بتسديده إياهم وتوفيقه لهم : { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : المنجحون ، المدركون ما طلبوا عند الله - بإيمانهم - من الفوز بالثواب ، والخلود في الجنات ، والنجاة مما أعد الله لأعدائه من العقاب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ 6 ]
لما بين تعالى نعوت المؤمنين قبل ، شرح أحوال مقابليهم وهم الكفرة المردة بأنهم : تناهوا في الغواية والضلال إلى حيث لا يجديهم الإنذار والتذكير ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } [ يونس : 96 - 97 ] . وكقوله سبحانه في المعاندين الكتابيين : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ } [ البقرة : 145 ] الآية .
و : { سَوَاءٌ } اسم بمعنى : الاستواء ، وصف به ، كما يوصف بالمصادر ، مبالغةً ، ومنه قوله تعالى : { تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } بمعنى : مستوية .
والإنذار : الإعلام مع تخويف ، والمراد هنا : التخويف من عذابه تعالى ، وانتقامه ، والاقتصار عليه لما أنهم ليسوا أهلاً للبشارة ، ولأن الإنذار أوقع في القلوب ، ومن لم يتأثر به فلأنْ لا يرفع للبشارة رأساً - أولى .
وقوله : { لاَ يُؤْمِنُونَ } جملة مستقلة ، مؤكدة لما قبلها ، مبيّنة لما فيه من إجمال ما فيه الاستواء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } [ 7 ]
استنئاف معلّل لما سبق من الحكم ، أو بيانٌ وتأكيدٌ له ، والختم على الشيء : الاستيثاق منه بضرب الخاتم عليه . والمراد : إحداث حالة تجعلها - بسبب تماديهم في الغي ، وانهماكهم في التقليد ، وإعراضهم عن منهاج النظر الصحيح - بحيث لا يؤثر فيها الإنذار ، ولا ينفذ فيها الحق أصلاً .
قال أبو السعود : وإسناد إحداث تلك الحالة في قلوبهم إلى الله تعالى ، لاستناد جميع الحوادث عندنا - من حيث الخلق - إليه سبحانه . وورود الآية الكريمة ناعية عليهم سوء صنيعهم ، ووخامة عاقبتهم ، لكون أفعالهم - من حيث الكسب - مستندة إليهم ، فإن خلْقها منه سبحانه ليس بطريق الجبر ، بل بطريق الترتيب - على ما اقترفوه من القبائح - كما يعرب عنه قوله تعالى : { بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } [ النساء : 155 ] ونحو ذلك ، يعني كقوله تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } وقوله : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 110 ] .
وأما المعتزلة فقد سلكوا مسلك التأويل ، وذكروا في ذلك عدة من الأقاويل .
منها : أن القوم لما أعرضوا عن الحق ، وتمكن ذلك في قلوبهم ، حتى صار كالطبيعة لهم ، شبه بالوصف الخلقيّ المجبول عليه .
ومنها : أن المراد به تمثيل قلوبهم بقلوب البهائم التي خلقها الله تعالى خالية عن الفطن ، أو بقلوب قدّر ختم الله تعالى عليها . كما في : سال به الوادي - إذا هلك - وطارت به العنقاء - إذا طالت غيبته - .
ومنها : أن أعراقهم لما رسخت في الكفر ، واستحكمت ، بحيث لم يبق إلى تحصيل إيمانهم طريق سوى الإلجاء والقسر ، ثم لم يفعل ذلك محافظةً على حكمة التكليف ، عبر عن ذلك بالختم ، لأنه سدٌّ لطريق إيمانهم بالكلية . وفيه إشعار بترامي أمرهم في الغي والعناد .
ومنها : أن ذلك حكاية لما كانت الكفرة يقولونه . مثل قولهم : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت : 5 ] . تهكماً بهم .
ومنها : أن ذلك في الآخرة ، وإنما أخبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه . ويعضده قوله تعالى : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً } [ الإسراء : 97 ] . انتهى ملخصاً
فائدة : قال الراغب : المراد بالقلب في كثير من الآيات العقل والمعرفة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [ 8 ]
أصل ناس أناس ، حذفت همزته تخفيفاً ، وحذفها مع لام التعريف كاللازم . ويشهد لأصله إنسان ، وأُناس ، وأناسي ، وإنس ، وسموا لظهورهم وأنهم يؤنسون أي : يبصرون - كما سمي الجن لاجتنانهم - ولذلك سموا بشراً . وقيل : اشتقاقه من الأنس - ضد الوحشة - لأن الْإِنْسَاْن مدنيٌّ بالطبع . والأول أظهر .
واعلم أن صفات المنافقين إنما نزلت في السور المدنية ؛ لأن مكة لم يكن فيها نفاق ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج ، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب ، وبها اليهود - من أهل الكتاب - وهم ثلاث قبائل : بنو قينقاع - حلفاء الخزرج - وبنو النضير وبنو قريظة - حلفاء الأوس - فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج ، وقلّ من أسلم من اليهود - إلا عبد الله بن سلام رضي الله عنه - ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضاً ، لأنه لم يكن للمسلمين ، بعدُ شوكة تُخاف ، بل قد كان عليه الصلاة والسلام وادَعَ اليهود ، وقبائل كثيرة - من أحياء العرب حوالي المدينة - فلما كانت وقعة بدر العظمى ، وأظهر الله كلمته ، وأعز الإسلام وأهله ، قال عبد الله بن أبيّ بن سلول - وكان رأساً في المدينة ، وهو من الخزرج ، وكان ابن سيد الطائفتين في الجاهلية ، وكانوا قد عزموا على أن يملّكوه عليهم ، فجاءهم الخير ، وأسلموا ، واشتغلوا عنه ، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله ، فلما كانت وقعة بدر ، قال : هذا أمر قد توجّه . فأظهر الدخول في الإسلام ، ودخل معه طوائف - ممن هو على طريقته ونحلته - وآخرون من أهل الكتاب ، فمن ثَمَّ وُجد النفاق في أهل المدينة ، ومن حولها من الأعراب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ } [ 9 ]
قال القاشاني : المخادعة استعمال الخدع من الجانبين ، وهو إظهار الخير ، واستبطان الشر ، ومخادعة الله مخادعة رسوله ، لقوله : { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } [ النساء : 80 ] . فخداعهم لله وللمؤمنين إظهار الإيمان والمحبة ، واستبطان الكفر والعداوة . وخداع الله و المؤمنين إياهم مسالمتهم ، وإجراء أحكام الإسلام عليهم . بحقن الدماء وحصن الأموال وغير ذلك . و ادخّار العذاب الأليم ، و المآل الوخيم ، و سوء المعبّة لهم ، وخزيهم في الدنيا لافتضاحهم بإخباره تعالى بالوحي [ في المطبوع : وبالوحي ] عن حالهم . لكن الفرق بين الخداعين : أن خداعهم لا ينجح إلَّا في أنفسهم . بإهلاكها ، و تحسيرها ، وإيراثها الوبال والنكال - بازدياد الظلمة ، والكفر ، و النفاق ، و اجتماع أسباب الهلكة ، والبعد و الشقاء ، عليها - وخداع الله يؤثر فيهم أبلغ تأثير ، ويوبقهم أشد إيباق ، كقوله : { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ آل عِمْرَان : 54 ] . وهم - من غاية تعمّقهم في جهلهم - لا يحسون بذلك الأمر الظاهر .
و قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عَمْرو : { وَمَا يُخَادِعُوْنَ } بالألف .
قال ابن كثير : نبه الله سبحانه على صفات المنافقين ، لئلا يغتر بظاهر أمرهم
المؤمنون ، فيقع بذلك فساد عريض - من عدم الاحتراز منهم ، ومن اعتقاد إيمانهم ، وهم كفار في نفس الأمر - وهذا من المحذورات : أن يُظَنّ بأهل الفجور خيرٌ . ثم إن قول من قال : كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض المنافين -إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقاً - في غزو تبوك - الذين همُّوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلماء الليل عند عقبة هناك ، عزموا على أن ينفِّروا به الناقة ، ليسقط عنها ، فأوحى الله إليه أمرهم ، فأطلع على ذلك حذيفة .
فأما غير هؤلاء ، فقد قال الله تعالى : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ } [ التوبة : 101 ] الآية . وقال تعالى : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً } [ الأحزاب : 60 ] ففيها دليل على أنه لم يعرفهم [ في المطبوع : يغربهم ] ولم يدرك على أعيانهم ، وإنما كان تُذكر له صفاتهم ، فيتوسمها في بعضهم ، كما قال تعالى : { وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } [ محمد : 30 ] . وقد كان من أشهرهم بالنفاق ، عبد الله بن أُبيّ بن سلول .
واستند - غير واحد من الأئمة - في الحكمة عن كفه صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين ، بما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه < أكره أن يتحدث العرب أنّ محمداً يقتل أصحابه > . ومعناه خشية أن يقع بسبب ذلك تنفيرٌ لكثيرٍ من الأعراب عن الدخول في الإسلام ، ولا يعلمون حكمة قتلهم - بأنّه لأجل كفرهم - فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم ، فيقولون : إن محمداً يقتل أصحابه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [ 10 ]
المرض : السقم ، وهم نقيض الصحة ، بسبب ما يعرض للبدن ، فيخرجه عن الاعتدال اللائق به ، ويوجب الخلل في أفاعيله ، استعير هاهنا لعدم صحة يقينهم ، وضعف دينهم - وكذا توصف قلوب المؤمنين بالسلامة التي هي صحة اليقين ، وعدم ضعفه ، كما قال تعالى : { إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء : 89 ] . أي : غير مريض بما ذكرنا - أو استعير لشكّهم ، لأن الشك تردُّد بين الأمرين ، و المنافق متردّدٌ ، كما في الحديث < مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين > و المريض متردد بين الحياة والموت .
{ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً } [ البقرة : 10 ] بأن طبع على قلوبهم ، لعلمه تعالى بأنه لا يؤثر فيها التذكير و الإنذار . وقال القاشاني : أي : مرضاً آخر - حقداً وحسداً وغلاًّ - بإعلاء كلمة الدين ، ونصرة الرسول والمؤمنين - ثم قال : و الرذائل كلها أمراض القلوب ، لأنها أسباب ضعفها وآفتها في أفعالها الخاصة ، وهلاكها في العاقبة .
{ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : مؤلمٌ - بكسر اللام - فعيل بمعنى فاعل - كسميع وبصير - قال في المحكم : الأليم من العذاب الذي يبلغ إيجاعهُ غابة البلوغ . ومنه يُعلم وجه إيثاره في عذاب المنافقين على العظم المتقدم في وصف عذاب الكافرين ويؤيده : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا } [ النساء : 145 ] .
{ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } الباء للسببية أو للمقابلة - أي : بسبب كذبهم أو بمقابلته - وهو قولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وهم غير مؤمنين . وفيه رمز إلى قبح الكذب ، وسماجته ، وتخييل أن العذاب الأليم لاحق بهم من أجل كذبهم - مع إحاطة علم السامع بأنَّ لحوق العذاب بهم من جهات شتى - ونحوه قوله تعالى : { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا } [ نوح : 25 ] . - والقوم كفرة - وإنما خصّت الخطيئات استعظاماً لها ، وتنفيراً عن ارتكابها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } [ 11 ، 12 ]
شروع في تعديد بعضٍ من مساوئهم المتفرعة - على ما حكى عنهم من الكفر والنفاق - ، والفساد : خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعاً به ، ونقيضه الصلاح : وهو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة . والفساد في الأرض : تهييج الحروب والفتن ، لأن في ذلك فساد ما في الأرض ، وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس ، والزروع ، والمنافع الدينية والدنيوية . قال الله تعالى : { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ } [ البقرة : 205 ] { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } [ البقرة : 30 ] . ومنه قيل لحربٍ كانت بين طيء : حرب الفساد - .
وكان إفساد المنافقين في الأرض أنهم كانوا يُمالئون الكفار على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم ، وإغرائهم عليهم ، واتخاذهم أولياء ، مع ما يدعون في السر إلى تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم وجحد الإسلام ، وإلقاء الشبه ، وذلك مما يجرئ الكفرة على إظهار عداوة النبي صلى الله عليه وسلم ، ونصب الحرب له ، وطمعهم - في الغلبة ، فلما كان ذلك من صنيعهم مؤدّياً إلى الفساد - بتهييج الفتن بينهم - قيل لهم : لا تفسدوا - كما تقول للرجل : لا تقتل نفسك بيدك ولا تلق نفسك في النار ، إذا أقدم على ما هذه عاقبته - وقد قال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } [ الأنفال : 73 ] . فأخبر أن مولاة الكافرين تؤدّي إلى الفتنة والفساد ، لما تقدم .
و قولهم : { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي : بين المؤمنين و أهل الكتاب . نداري
الفريقين و نريد الإصلاح بينهما كما حكى الله عنهم أنهم قالوا : { إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً } [ النساء : 62 ] . أو معناه : إنما نحن مصلحون في الأرض بالطاعة والانقياد .
قال الراغب : تصوروا إفسادهم بصورة الإصلاح - لما في قلوبهم من المرض - كما قال : { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً } [ فاطر : 8 ] وقوله : { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 43 ] . وقوله : { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [ الكهف : 104 ] .
وقال القاشاني كانوا يرون الصلاح في تحصيل المعاش ، وتيسير أسبابه ، وتنظيم أمور الدنيا - لأنفسهم خاصة - لتوغّلهم في محبة الدنيا ، و انهماكهم في اللذات البدنية ، واحتجابهم - بالمنافع الجزئية ، والملاذّ الحسية - عن المصالح العامة الكلّية ، واللذات العقلية ، وبذلك يتيسر مرادهم ، ويتسهل مطلوبهم ، وهم لا يحسون بإفسادهم المدرك بالحس .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } [ 13 ]
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } بطريق الأمر بالمعروف ، إثر نهيهم عن المنكر - إتماماً للنصح ، وإكمالاً للإرشاد : { آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ } أي : الكاملون في الْإِنْسَاْنية ، فإن المؤمنين هم الناس في الحقيقة لجمعهم ما يُعد من خواص الْإِنْسَاْن وفضائله - : { قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء } استفهام في معنى الإنكار . والسفه : خفّةٌ وسخافةُ رأيٍ يورثهما قصور العقل ، وقلة المعرفة بمواضع المصالح والمضار ، ولهذا سمى الله النساء والصبيان سفهاء في قوله تعالى : { وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً } [ النساء : 5 ] .
وإنما سفّهوهم - مع أنهم العقلاء المراجيح - لأنهم لجهلهم ، وإخلالهم بالنظر ، وإنصاف أنفسهم ، اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحقّ ، وأن ما عداه باطل - ومن ركب متن الباطل كان سفيهاً - ولأنهم كانوا في رياسة في قومهم ، ويسار ، وكان أكثر المؤمنين فقراء ، ومنهم مَوَالٍ - كصهيب ، وبلال ، وخباب - فدعوهم سفهاء تحقيراً لشأنهم ! : { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ } [ 14 ]
{ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا } أي : أظهروا لهم الإيمان ، والموالاة ، والمصافاة - نفاقاً ، ومصانعةً ، وتقيَّةً ، وليشركوهم فيما أصابوا من خيرٍ ومغنم - .
واعلم أنّ مساق هذه الآية بخلاف ما سيقت له أول قصة المنافقين ، فليس بتكرير ؛ لأن ، تلك في بيان مذهبهم ، والترجمة عن نفاقهم ، وهذه لبيان تباين أحوالهم ، وتناقض أقوالهم - في أثناء المعاملة والمخاطبة - حسب تباين المخاطبين !
{ وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ } يقال : خلوت بفلان وإليه أي : انفردت معه ، ويجوز أن يكون من خلا بمعنى : مضى ، ومنه : القرون الخالية . والمراد بـ : { شَيَاطِينِهِمْ } : أصحابهم أُولو التمرد والعناد ، والشيطان يكون من الإنس والجن ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً } [ الأنعام : 112 ] . وإضافتهم إليهم للمشاركة في الكفر ، واشتقاق شيطان من شطن ، إذا بَعُد ؛ لبعده من الصلاح والخير .
ومعنى : { إِنَّا مَعَكْمْ } أي : في الاعتقاد على مثل ما أنتم عليه ، إنّما نحن في إظهار الإيمان عند المؤمنين مستهزئون ساخرون بهم ، والاستهزاء بالشيء السخرية منه ، يقال : هزأت واستهزأت بمعنى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ 15 ]
{ اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } يسخر بهم للنقمة منهم - هكذا فسره ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه الضحاك - : { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } يزيدهم على وجه الإملاء ، والترك لهم في عتوهم وتمردهم ، كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأنعام : 110 ] .
والطغيان : المراد به هنا : الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتوّ . وأصل المادة هو المجاوزة في الشيء ، كما قال تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَة } [ الحاقة : 11 ] .
والعمه : مثل العمى - إلا أن العمى عامّ في البصر والرأي ، والعمه في الرأي خاصة - وهو التحير والترددّ ، لا يدري أين يتوجه .
أي في ضلالهم وكفرهم - الذي غمرهم دنسه ، وعلاهم رِجْسه - يتردّدون حيارى ، ضُلّالاً ، لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً .
والمشهور فتح الياء من : { يَمُدُّهُمْ } ، وقرئ - شاذاً - بضمها ، وهما بمعنى واحد . يقال : مد الجيش وأمده - إذا زاده ، وألحق به ما يقويه ويكثره - وكذلك مدّ الدواة وأمدها زادها ما يصلحها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } [ 16 ] .
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى } إشارة إلى المذكورين باعتباره اتصافهم بما ذكر من الصفات الشنيعة المميزة لهم عمن عداهم أكمل تمييز ، بحيث صاروا كأنهم حضّار مشاهدون على ما هم عليه . وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الشر وسوء الحال ، ومحلُّه الرفع على الابتداء ، خبرُه قوله تعالى : { الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ } الخ . والجملة مسوقةٌ لتقرير ما قبلها ، وبيانٌ لكمال جهالتهم - فيما حكي عنهم من الأقوال والأفعال - بإظهار غاية سماجتها ، وتصويرها بصورة ما لا يكاد يتعاطاه من له أدنى تمييز - فضلاً عن العقلاء - .
و : { الضَّلاَلَةَ } الجور عن ا لقصد ، و : { الهدى } التوجه إليه . وقد استعير الأول : للعدول عن الصواب في الدين ، والثاني : للاستقامة عليه . والاشتراء : استبدال السلعة بالثمن - أي : أخذها به - فاشتراء الضلالة بالهدى مستعار لأخذها بدلاً منه أخذاً منوطاً بالرغبة فيها والإعراض عنه .
فإن قيل : كيف اشتروا الضلالة بالهدى ، وما كانوا على هدى ؟
قلت : جعلوا لتمكُّنهم منه - بتيسير أسبابه - كأنه في أيديهم ، فإذا تركوه إلى الضلالة قد عطَّلوه ، واستبدلوها به ، فاستعير ثبوته لتمكُّنهم بجامع المشاركة في استتباع الجدوى . ولا مِرْية في أن هذه المرتبة - من التمكن - كانت حاصلة لهم بما شاهدوه - من الآيات الباهرة ، والمعجزات القاهرة - من جهة النبي صلى الله عليه وسلم .
{ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ } عطف على الصلة داخل في حيزها . والفاء على ترتُّب مضمونه عليها . والتجارة صناعة التجار ، وهو التصدِّي للبيع والشراء ، لتحصيل الربح وهو الفضل على رأس المال ، وإسناد عدمه - الذي هو عبارة عن الخسران - إليها ، وهو لأصحابها ، من الإسناد المجازيّ ، وهو : أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له - كما تلبست التجارة بالمشترين - . وفائدته : المبالغة في تخسيرهم ، لما فيه من الإشعار بكثرة الخسار ، وعمومه المستتبع ، لسرايته إلى ما يلابسهم .
فإن قلتَ : هب أنَّ شراء الضلالة بالهدى وقع مجازاً في معنى الاستبدال ، فما معنى ذكر الربح ، والتجارة كأن ثَم مبايعة على الحقيقة ؟
قلتُ : هذا من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا ، وهو أن تُساق كلمةٌ مساق المجاز ، ثم تقفَّى بأشكال لها ، وأخوَاتٍ إذا تلاحقن لم تَرَ كلاماً أحسن منه ديباجة ، وأكثر ماءً ورونقاً ، وهو المجاز المرشّح ، فإيرادهما - إثر الاشتراء - تصويرٌ لما فاتهم من فوائد الهدى بصورة خسار التجارة - الذي يتحاشى عنه كل أحدٍ - للإشباع في التخسير والتحسير . وهذا النوع قريب من التتميم الذي يمثله أهل صناعة البديع بقول الخنساء :
~وَإِنَّ صَخْرَاً لَتَأْتَمُّ الْهُدَاةُ بِهِ كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِيْ رَأْسِهِ نَارُ . . !
لما شبهته - في الاهتداء به - بالعلم المرتفع ، أتبعت ذلك ما يناسبه ويحققه ، فلم تقنع بظهور الارتفاع حتى أضافت إلى ذلك ظهوراً آخر ، باشتعال النار في رأسه .
وقوله : { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } أي : لزوال استعدادهم ، وتكدير قلوبهم بالرَّين الموجب للحجاب والحرمان الأبدي .
قال الزمخشري : فإن قيل : لِمَ عطف بالواو عدم اهتدائهم على انتفاء ربح تجارتهم ، ورُتّباً معاً بالفاء على اشتراء الضلالة بالهدى ؟ وما وجه الجمع بينهما - مع ذلك الترتيب - على أن عدم الاهتداء قد فُهم من استبدال الضلالة بالهدى ، فيكون تكراراً لما مضى ؟ فالجواب : أن رأس مالهم هو الهدى ، فلمَّا استبدلوا به ما يضادُّه - ولا يجامعه أصلاً - انتفى رأس المال بالكلية ، وحين لم يبق في أيديهم إلا ذلك الضد - أعني الضلالة - وصفوا بانتفاء الربح والخسارة . لأن الضال في دينه خاسرٌ هالك - وإن أصاب فوائد دنيوية - ولأن من لم يسلم له رأس ماله لم يوصف بالربح ، بل بانتفائه ، فقد أضاعوا سلامة رأس المال بالاستبدال ، وترتّب على ذلك إضاعة الربح .
وأما قوله : { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } فليس معناه عدم اهتدائهم في الدين - فيكون تكراراً لما سبق - بل لما وُصفوا بالخسارة في هذه التجارة أشير إلى عدم اهتدائهم لطرق التجارة - كما يهتدي إليه التجار البصراء بالأمور التي يُربح فيها ويُخسر - فهذا راجع إلى الترشيح .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } [ 17 ]
ولما جاء بحقيقة صفتهم ، عقّبها بضرب المثل - زيادة في الكشف ، وتتميماً للبيان - فقال تعالى : { مَثَلُهُمْ } أي : مثالهم في نفاقهم ، وحالهم فيه : { كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ } أي : أوقد : { نَاراً } في ظلمة - والتنكير [ في المطبوع : التتنكير ] للتعظيم - : { فَلَمَّا أَضَاءتْ } أي : أثارت النار : { مَا حَوْلَهُ } فأبصر ، واستدفأ ، وأمن مما يخافه : { ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ } أي : أطفأ الله نارهم - التي هي مدار نورهم - فبقوا في ظلمة وخوف - وجمع الضمير مراعاة لمعنى الذي ، كقوله : { وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } [ التوبة : 69 ] { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } ما حولهم - متحيرين عن الطريق ، خائفين - فكذلك هؤلاء استضاؤوا قليلاً بالانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم ، حيث أمِنوا على أنفسهم وما يتبعها ، ثم وراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة - ظلمة النفاق - التي ترمي بهم إلى ظلمة سخط الله ، وظلمة العقاب السرمد ، ومحصوله : أنهم انتفعوا بهذه الكلمة مدّة حياتهم القليلة ، ثم قطعه الله تعالى بالموت .
ونُقِلَ - عن كثير من السلف - تفسير آخر ، وهو : تمثيل إيمانهم أوّلاً ، ثم كفرهم ثانياً . فيكون إذهاب النور في الدنيا ، كما قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا } [ المنافقون : 3 ] الآية ، فلما آمنوا أضاء الإيمان في قلوبهم - كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ناراً - ثم لمّا كفروا ، ذهب الله بنورهم : انتزعه - كما ذهب بضوء هذه النار - وعلى هذا فالتمثيل مرتبط بما قبله . فإنهم - لما وُصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى - مثّل هداهم - الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد - والضلالة - التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم - بذهاب الله بنورهم ، وتركه إيّاهم في الظلمات .
قال الزمخشري في الكشف : ولضرب العرب الأمثال ، واستحضار العلماء المثل والنظائر شأنٌ ليس بالخفي في إبراز خبيّات المعاني ، ورفع الأستار عن الحقائق ، حتى تريك المتخيل في صورة المحقَّق ، والمتوهم في معرض المتيقّن ، والغائب كأنه مشاهد - وفيه تبكيت للخصم الألدّ ، وقمعٌ لسَوْرةِ الجامح الآبِي [ في المطبوع : الجامع الأبي ] .
ولأمرٍ ما ، أكثر الله - في كتابه المبين ، وفي سار كتبه - أمثاله ، وفشت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكلام الأنبياء والحكماء ، قال الله تعالى : { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ } [ العنكبوت : 43 ] .
والمثَلَ : في أصل كلامهم بمعنى : المِثْل وهو النظير . يقال : مِثْل ، ومَثَل ، ومثيل - كشِبه وشَبَه وشَبيه - ثم قيل للقول السائر الممثّل مضربه بمورده : مَثَلٌ . ولم يضربوا مثلاً ، ولا رأوه أهلاً للتسيير ولا جديراً بالتداول والقبول ، إلا قولاً فيه غرابة من بعض الوجوه . ومن ثَمّ حوفظ عليه ، وحُمي من التغيير .
فإنه - لو غُيِّر - لربما انتفت [ في المطبوع : انتفى ] الدلالة على تلك الغرابة . وقيل : إن المحافظة على المثل إنما هي بسبب كونه استعارة . فوجب لذلك أن يكون هو بعينه لفظ المشبه به . فإن وقع تغيير ، لم يكن مَثَلاً ، بل مأخوذاً منه ، وإشارة إليه - كما في قولك : بالصيف ضيعتَ اللبنَ بالتذكير .
وقال بعضهم : قد استعير المثل للحال ، أو القصَّة ، أو الصِّفة - إذا كان لها شأن ، وفيها غرابة - كأنه قيل : حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد ناراً . وكذلك قوله : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ } [ الرعد : 35 ] أي : - فيما قصصنا عليك من العجائب - قصة الجنّة العجيبة الشأن ، ثم أخذ في بيان عجائبها : { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى } [ النحل : 60 ] أي : الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة { مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ } [ الفتح : 29 ] أي : صفتهم وشأنهم المتعجب منه .
ولما في المثل من معنى الغرابة قالوا : فلان مثلة في الخير والشر ، فاشتقوا منه صفة للعجيب الشأن .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ 18 ]
{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } الصمم : آفة مانعة من السماع ، سمّى به فقدان حاسّة السمع ، لما أنّ سببه اكتناز باطن الصِّماخ ، وانسداد منافذه ، بحيث لا يكاد يدخله هواء يحصل الصوت بتموّجه . والبكم : الخرس . والعمَى : عدم البصر عمّا من شأنه أن يُبصر .
وُصفوا بذلك - مع سلامة حواسّهم المذكورة - لما أنّهم سّدوا عن الإصاخة إلى الحقّ مسامعهم ، وأبوا أن يُنطلقوا به ألسنتهم ، وأن ينظروا ويتبصروا بعيونهم ، فجعلوا كأنما أصيب بآفة مشاعرهم - كقوله - :
~صُمٌّ إِذَا سَمِعُوْا خَيْراً ذُكِرْتُ بِهِ وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوْءٍ عِنْدَهُمْ أذِنُوْا
وكقوله :
~أَصمُّ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِيْ لَا أُرِِيْدُهُ وَاسْمَعُ خَلْقَِ اللَّهِ حِيْنَ أُرِيْدُ
{ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } أي : - بسبب اتصافهم بالصفات المذكورة - لا يعودون إلى الهدى - بعد أن باعوه ، أو عن الضلالة - بعد أن اشتروها ، فالآية الكريمة تتمةٌ للتمثيل بأن ما أصابهم ليس مجرد انطفاء نارهم ، وبقائهم في ظلمات كثيفة هائلة - مع بقاء حاسة البصر بحالها - بل اختلَّت مشاعرهم جميعاً ، واتصفوا بتلك الصفات فبقُوا جامدين في مكانهم لا يرجعون ، ولا يدرون أيتقدَّمون أم يتأخَّرون ؟ وكيف يرجعون إلى ما ابتدأوا منه ؟ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ } [ 19 ]
{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء } تمثيل لحالهم إثر تمثيل ، ليعمّ البيانُ منها كلَّ دقيق وجليل ، ويوفي حقها من التفظيع والتهويل . فإنه تفننهم في فنون الكفر والضلال حقيقٌ بأن يضرب في شأنه الأمثال . وكما يجب على البليغ - في مظانّ الإجمال والإيجاز - أن يجمل ويوجز ، فكذلك الواجب عليه - في موارد التفصيل والإشباع - أن يفصّل ويشبع . والصيِّب : السحاب ذو الصوب ، والصوب الغيث . والمراد بالسماء : السحاب ، كما قال تعالى : { أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ } [ الواقعة : 69 ] . وهي في الأصل : كل ما علاك من سقف ونحوه .
{ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } التنوين في الكل للتفخيم والتهويل - كأنه قيل : فيه ظلماتٌ داجية ، ورعدٌ قاصف ، وبرقٌ خاطف - : { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ } الصاعقة : الصوت الشديد من الرعدة يسقط معها قطعة نارٍ تنقدح من السحاب - إذا اصطكت أجرامه - لا تأتي على شيء إلا أحرقته : { حَذَرَ } - أي : خوف - : { الْمَوْتِ } من سماعها : { واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ } علماً وقدرة فلا يفوتونه .
والجملة اعتراضية منبهة على أنَّ ما صنعوا - من سد الآذان بالأصابع - لا يغني عنهم شيئاً ، فإنَّ القدر لا يدافعه الحذر ، والحيل لا ترد بأس الله عز وجل . وفائدة وضع الكافرين موضع الضمير - الراجع إلى أصحاب الصيّب - الإيذان بأنَّ ما دهمهم - من الأمور الهائلة المحكية - بسبب كفرهم ، فيُظهر استحقاقهم شدة الأمر عليهم ، على طريقة قوله تعالى : { أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا } [ آل عِمْرَان : 117 ] فإن الإهلاك الناشئ عن السخط أشد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 20 ]
{ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } استئناف آخر وقع جواباً عن سؤال مقدّر - كأنه قيل : فكيف حالهم مع ذلك البرق ؟ فقيل : يكاد يخطف أبصارهم ، أي : يأخذها بسرعة : { كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ } أي : في ضوئه : { وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } أي : وقفوا ، وثبتوا في مكانهم - ومنه : قامت السوق ، إذا ركدت وكسدت . وقام الماء ، جمد - وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين : بشدته على أصحاب الصيّب ، وما هم فيه من غاية التحيّر والجهل - بما يأتون وما يذرون - إذا صادفوا من البرق خفقةً - مع خوف أن يخطف أبصارهم - انتهزوا تلك الخفقة فرصةً ، فَخَطوا خطوات يسيرة ، فإذا خفي ، وفتر لمعانه ، بقوا وافقين متقيدين عن الحركة : { وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } أي : لزاد في قصيف الرعد فأصمهم ، أو في ضوء البرق فأعماهم . ومفعول : شاء ، محذوف ، لأن الجواب يدلّ عليه . والمعنى : ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها .
ولقد تكاثر هذا الحذف في : شاء وأراد . لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب - كنحو قوله : فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته ، وقوله تعالى : { لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا } [ الأنبياء : 17 ] : { إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تعليل للشرطية ، وتقريرٌ لمضمونها الناطق بقدرته تعالى على إزالة مشاعرهم بالطريق البرهاني .
تنبيهات :
الأول : محصول التمثيلين - غِبّ وصف أربابهما بوقوعهم في ضلالتهم التي استبدلوها بالهدى - هو أنه شبّه ، في الأول ، حيرتهم وشدّة الأمر عليهم بما يكابد من طَفِئَت نارة بعد إيقادها في ظلمة الليل .
وفي الثاني : شبه حالهم بحال من أخذتهم السماء في ليلة تكاثف ظلماتها - بتراكم السحب ، وانتساج قطراتها ، وتواتر فيها الرعود الهائلة ، والبروق [ في المطبوع : البروف ] المخيفة ، والصواعق المختلفة المهلكة ، وهم في أثناء ذلك يزاولون غمرات الموت . وبذلك يعلم أنّ التمثيلين جميعاً من جملة التمثيلات المركبة ، وهو الذي تقتضيه جزالة المعاني - لأنه يحصل في النفس من تشبيه الهيئات المركبة ما لا يحصل من تشبيه مفرداتها . فإنك إذا تصورت حال من طَفِئَت ناره بعد إيقادها . . . الخ . وحال من أخذتهم السماء . . الخ . حصل في نفسك هيئة عجيبة توصلك إلى معرفة حال المنافقين ، على وجه يتقاصر عنه تشبيه المنافق - في التمثيل الأول - بالمستوقد ناراً ، وإظهاره الإيمان بالإضاءة ، وانقطاع انتفاعه بانتفاء النار وتشبيه دين الإسلام - في الثاني - بالصيب ، وما يتعلق به - من شبه الكفار - بالظلمات ، وما فيه - من الوعد والوعيد - بالرعد والبرق ، وما يصيب الكفرة - من الإفزاع والبلايا والفتن - من جهة أهل الإسلام بالصواعق . وأيضاً في تشبيه المفردات ، وطيّ ذكر المشبهات تكلّف ظاهر . وأيضاً في لفظ : المثل ، نوع إنباء عن التركيب ، إذ المتبادر منه القصة التي هي في غرابتها كالمثل السائر ، وهي في الهيئة المركبة دون كل واحد من مفرداتها . وأيضا في التمثيل المركب اشتمال على التشبيه في المفردات إجمالاً ، مع أمر زائد : هو تشبيه الهيئة بالهيئة ، وإيذائه بأن اجتماع تلك المفردات مستتبع لهيئةٍ عجيبة حقيقة بأن تكون مثلاً في الغرابة .
التنبيه الثاني :
قال الإمام العلامة ابن القيم في كتابه " إجتماع الجيوش على غزو المعطلة والجهمية " .
هذه الآية ، شبّه ، سبحانه ، أعدائه المنافقين ، بقومٍ أوقدوا ناراً لتضيء لهم ، وينتفعوا بها ، فلمّا أضاءت لهم النار فأبصروا في ضوئها ما ينفعهم ويضرهم ، وأبصروا الطريق - بعد أن كانوا حيارى تائهين - فهم كقوم سَفْر ضلوا عن الطريق ، فأوقدوا النار لتضيء لهم الطريق فلما أضاءت لهم - فأبصروا وعرفوا - طَفِئَت تلك الأنوار ، وتبقوا في الظلمات لا يبصرون ، قد سُدت عليهم أبواب الهدى الثلاث - فإن الهدى يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب : ما يسمعه بإذنه ، ويراه بعينه ، ويعقل بقلبه ، وهؤلاء قد سُدت عليهم أبواب الهدى ، فلا تسمع قلوبهم شيئاً ، ولا تبصره ، ولا تعقل ما ينفعها . وقيل : لما لم ينتفعوا بأسماعهم وأبصارهم وقلوبهم نزلوا بمنزلة من لا سمع له ، ولا بصر ، ولا عقل ، والقولان متلازمان .
وقال في صفتهم : { فهم لا يرجعون } لأنهم قد رأوا في ضوء النار ، وأبصروا الهدى ، فلما طَفِئَت عنهم لم يرجعوا إلى ما رأوا وأبصروا . وقال سبحانه وتعالى : { ذهب الله بنورهم } ولم يقل : ذهب نورهم ، وفيه سرّ بديع : وهو انقطاع سر تلك المعية الخاصة - التي هي للمؤمنين - من الله تعالى ، فإن الله تعالى مع المؤمنين [ في المطبوع : جعل هذه آية قرآنية من سورة الأنفال وليس كذلك ] ، { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 153 ] ، و : { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } [ النحل : 128 ] . فذهاب الله بذلك النور : انقطاع المعية - التي خصّ بها أولياءه - فقطعها بينه وبين المنافقين ، فلم يبق عندهم - بعد ذهاب نورهم - ، ولا معهم ، فليس لهم نصيب من قوله : { لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [ التوبة : 40 ] ، ولا من : { كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] .
وتأمل قوله تعالى : { أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ } كيف جعل ضوءها خارجاً عنه ، منفصلاً ، ولو اتصل ضوؤُها به ، ولابَسَه ، لم يذهب ، ولكنه كان ضوء مجاورة لا ملابسة ومخالطة ، وكان الضوء عارضاً والظلمة أصلية ، فرجع الضوء إلى معدنه ، وبقيت الظلمة في معدنها ، فرجع كلٌّ منهما إلى أصله اللائق به : حجة من الله قائمة ، وحكمة بالغة ، تعرَّف بها إلى أولي الألباب من عباده .
وتأمل قوله تعالى : { ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ } ولم يقل بنارهم ، ليطابق أول الآية ، فإن النار فيها إشراق وإحراق : فذهب ما فيها من الإشراق - وهو النور - وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق - وهو النارية - وتأمّل كيف قال : { بنورهم } ولم يقل : بضوئهم مع قوله : { فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ } - لأن الضوء هي زيادة في النور ، فلو قيل : ذهب الله بضوئهم ، لأوهم الذهاب بالزيادة فقط دون الأصل ، فلما كان النور أصل الضوء ، كان الذهاب به ذهاباً بالشيء وزيادته ، وأيضاً فإنه أبلغ في النفي عنهم ، وأنهم من أهل الظلمات الذين لا نور لهم ، وأيضاً فإن الله تعالى سمّى كتابه : نوراً ، ورسوله صلى الله عليه وسلم : نوراً ، ودينه : نوراً ، وهُداه : نوراً ، ومن أسمائه : النور ، والصلاة : نور . فذهابه سبحانه بهم : ذهابٌ بهذا كله ، وتأمل مطابقة هذه المثل - لما تقدمه من قوله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } [ البقرة : 16 ] كيف طابق هذه التجارة الخاسرة ، التي تضمنت هول الضلالة والرضاء بها ، وبدّل الهدى في مقابلتها ، وهول الظلمات - التي هي الضلالة والرضاء بها - بدلاً عن النور - الذي هو الهدى والنور - فبدّلوا الهدى والنور ، وتعوّضوا عنه بالظلمة والضلالة ، فيا لها من تجارةٍ ما أخسرها ، وصفقةٍ ما أشدَّ غبنها .
وتأمل كيف قال تعالى : { ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ } فوحّده ثم قال : { وتركهم في ظلمات } فجمعها . فإن الحق واحد : هو صراط الله المستقيم - الذي لا صراط يوصل إليه سواه - وهو عبادته وحده لا شريك له ، بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، لا بالأهواء ، والبدع ، وطرق الخارجين عن ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم - من الهدى ودين الحق - ، بخلاف طرق الباطل ؛ فإنها متعددة متشعبة . ولهذا ، يُفرِدُ ، سبحانه ، الحق ، ويجمع الباطل ، كقوله تعالى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } [ البقرة : 257 ] وقال تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] ، فجمع سُبُل الباطل ، ووحّد سبيل الحق ، ولا يناقض هذا قوله : { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ } [ المائدة : 16 ] فإنّ تلك هي طرق مرضاته التي يجمعها سبيله الواحد ، وصراطه المستقيم : إنّ طرق مرضاته كلها ترجع إلى صراط واحد ، وسبيل واحد ، وهي سبيله التي لا سبيل إليه إلا منها .
وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه خط خطّاً مستقيماً ، وقال : < هذا سبيل الله > . ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله ، وقال : < هذه سُبلٌ ، على كلّ سبيل منها شيطانٌ يدعو إليه > ثم قرأ قوله تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأنعام : 153 ] .
وقد قيل : إنّ هذا مثلٌ للمنافقين ، وما يوقدونه من نار الفتنة التي يوقعونها بين أهل الإسلام ، ويكون بمنزلة قول الله تعالى : { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ } [ المائدة : 64 ] . ويكون قوله تعالى : { ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ } مطابقاً لقوله تعالى : { أطفأها الله } ويكون تخييبهم ، وإبطال ما راموه ، هو : تركهم في ظلمات الحيرة ، لا يهتدون إلى التخلص مما وقعوا فيه ، ولا يبصرون سبيلاً ، بل هم : { صم بكم عمي } . وهذا التقدير - وإن كان حقاً - ففي كونه مرادُ بالآية نظر ؛ فإنّ السياق إنما قصد لغيره ، ويأباه قوله تعالى : { فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ } وموقدُ نار الحرب لا يضيء ما حوله أبداً ، ويأباه قوله تعالى : { ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ } وموقد نار الحرب لا نور له ، ويأباه قوله تعالى : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } وهذا يقتضي أنهم انتقلوا من نور المعرفة والبصيرة ، إلى ظلمة الشك والكفر .
قال الحسن رحمه الله : هو المنافق أبصر ثم عمي ، وعرف ثم أنكر . ولهذا قال : { فهم لا يرجعون } أي : لا يرجعون إلى النور الذي فارقوه . وقال تعالى في حق الكفار : { صم بكم عمي فهم لا يعقلون } فسلب العقل عن الكفار - إذ لم يكونوا من أهل البصيرة والإيمان - وسلب الرجوع عن المنافقين - لأنهم آمنوا ثم كفروا - فلم يرجعوا إلى الإيمان .
فصل
ثم ضرب الله ، سبحانه ، لهم مثلاً آخر مائياً ، فقال تعالى : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ } . فشبه نصيبهم - مما بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم - من النور والحياة بنصيب المستوقد النار التي طَفِئَت عنه أحوج ما كان إليها وذهب نوره ، وبقي في الظلمات حائراً ، تائهاً ، لا يهتدي سبيلاً ، ولا يعرف طريقاً ، وبنصيب أصحاب الصيب - وهو المطر الذي يصّوب ؛ أي : نزل من علوّ إلى أسفل - فشبه الهدى - الذي هدى به عباده - بالصيب ، لأن القلوب تحيي به حياة الأرض بالمطر ، ونصيب المنافقين من هذا الهدى ، بنصيب من لم يحصل له نصيب من الصيب إلا ظلمات ورعد و برق ، ولا نصيب له - فيما وراء ذلك - مما هو المقصود بالصيب - من حياة البلاد ، والعباد ، والشجر ، والدواب ، وأن تلك الظمات التي فيه ، وذلك الرعد ، والبرق ، مقصود لغيره ، وهو وسيلة إلى كمال الانتفاع بذلك الصيب . فالجاهل - لفرط جهله - يقتصر على الإحساس بما في الصيّب من ظلمة ورعد وبرق ولوازم ذلك من برد شديد ، وتعطيل المسافر عن سفره ، وصانع عن صنعته ولا بصيرة له تنفذ إلى ما يؤول إليه أمر ذلك الصيب من الحياة والنفع العام . وهكذا شأن كلّ قاصر النظر ، ضعيف العقل ، لا يجاوز نظره الأمر المكروه الظاهر إلى ما وراءه من كلّ محبوب ، وهذه حال أكثر الخلق ، إلاّ من صحت بصيرته - فإذا رأى ضعيف البصيرة ما في الجهاد من التعب ، والمشاق ، والتعرّض لإتلاف المنهجة ، والجراحات الشديدة ، وملامة اللوّام ، ومعاداة من يخاف معاداته - لم يقدم عليه ، لأنه لم يشهد ما يؤول إليه من العواقب الحميدة ، والغايات التي إليها تسابق المتسابقون ، وفيها تنافس المتنافسون . وكذلك من عزم على سفر الحج إلى البيت الحرام ، فلم يعلم - من سفره ذلك - إلا مشقة السفر ، ومفارقة الأهل والوطن ، ومقاساة الشدائد ، وفراق المألوفات ، ولا يجاوز نظره وبصيرته آخر هذا السفر ، ومآله ، وعاقبته - فإنه لا يخرج إليه ، ولا يعزم عليه . وحال هؤلاء ، حال الضعيف البصيرة والإيمان ، الذي يرى ما في القرآن من الوعد والوعيد . والزواجر والنواهي ، والأوامر الشاقة على النفوس التي تفطمها عن رضاعها من ثدي المألوفات والشهوات -والفطام على الصبي أصعب شيء ، وأشقّه - والناس كلهم صبيان العقول ، إلا من بلغ مبالغ الرجال العقلاء الألباء ، وأدرك الحقّ علماً ، وعملاً ، ومعرفة ، فهو الذي ينظر إلى ما وراء الصيّب ، وما فيه - من الرعد والبرق والصواعق - ويعلم أنه حياة الوجود .
التنبيه الثالث :
قال القاشاني : إنما بولغ في ذكر فريق المنافقين ، وذمهم ، وتعييرهم ، وتقبيح صورة حالهم ، وتهديدهم ، وإبعادهم ، وتهجين سيرهم وعاداتهم : لإمكان قبولهم للهداية ، وزوال مرضهم العارض . عسى التقريع بكسر أعواد شكائمهم ، والتوبيخ يقلع أصول رذائلهم ، فتتزكى بواطنهم ، وتتنور قلوبهم ، فيسلكوا طريق الحق ، ولعل موادعة المؤمنين ، وملاطفتهم إياهم ، ومجالستهم معهم - تستميل طباعهم ، فتهيج فيهم محبةً ما ، وشوقاً تلين به قلوبهم إلى ذكرٍ لله ، وتنقاد به نفوسهم لأمر الله ، فيتوبوا ويصلحوا ، كما قال تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً } [ النساء : 145 - 146 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ 21 ]
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } لما ذكر الله علوَّ طبقة كتابه الكريم ، وتحزّب الناس في شأنه إلى ثلاث فرق ، مؤمنة به محافظة على ما فيه من الشرائع والأحكام . وكافرة قد نبذته وراء ظهرها بالمجاهرة والشقاق ، وأخرى مذبذبة بينهما بالمخادعة والنفاق ، وما اختصت به كلّ فرقة مما يسعدها ويشقيها ، ويحظيها عند الله ويرديها ، أقبل عليهم بالخطاب - وهو من الالتفات المذكور عند قوله جل ذكره : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } - وهو فنّ من الكلام جزلٌ ، فيه هزٌّ وتحريك من السامع - كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكياً عن ثالث لكما : إنَّ فلاناً من قصته كيت وكيت ، فقصصت عليه ما فرط منه ، ثم عدلت بخطابك إلى الثالث ، فقلت : يا فلان ! من حقك أن تلزم الطريقة الحميدة في مجاري أمورك ، وتستوي على جادة السداد في مصادرك ومواردك - نبهته بالتفاتك نحوه فضل تنبه ، واستدعيت إصغاءه إلى إرشادك زيادة استدعاء ، وأوجدته ، بالانتقال من الغيبة إلى المواجهة هازاً من طبعه ، ما لا يجده إذا استمررت على لفظ الغيبة ، وهكذا الافتنان في الحديث والخروج فيه من صنف إلى صنف ، يستفتح الآذان للاستماع ، ويستهش الأنفس للقبول ، وإنما كثر النداء في كتابه تعالى على طريقة : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } لاستقلاله بأوجه من التأكيد ، وأسباب من المبالغة . كالإيضاح بعد الإبهام . واختيار لفظ البعيد ، وتأكيد معناه بحرف التنبيه .
ومعلوم أنَّ كل ما نادى الله له عباده : من أوامره ، ونواهيه وعظاته ، وزواجره ، ووعده ، ووعيده ، واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليهم ، وغير ذلك . . مما أنطق به كتابه - أمور عظام ، وخطوب جسام ، ومعان علّمهم أن يتيقَّظوا لها ، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها وهم عنها غافلون فاقتضت الحال أن يُنادوا بالآكد الأبلغ - . أفاده الزمخشري - .
والمراد بالناس : كافة المكلفين - مؤمنهم وكافرهم - فطلبُ العبادة من المؤمنين طلب الزيادة فيها ، والثبات عليها ، ومن الكافرين ابتداؤها { الَّذِي خَلَقَكُمْ } أنعم عليكم بإخراجكم من العدم إلى الوجود وخلق : { وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي : كي تتقون ، كقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، وقوله سبحانه : { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الملك : 2 ] . وفي إيراد : لعلّ ، تشبه طلبه تعالى برجاء الراجي من المرجو منه أمراً هيّن الحصول ؛ فإنَّه تعالى لما وضع في أيدي المكلفين زمام الاختيار ، وطلب منهم الطاعة ، ونصب لهم أدلة عقليّةً ونقليّةً داعية إليها ، ووعد ، وأوعد ، وألطف بما لا يحصى كثرة ، لم يبق للمكلف عذر ، وصار حاله في رجحان اختياره للطاعة مع تمكنه من المعصية كحال المترجي منه في رجحان اختياره لما يرتجي منه - مع تمكنه من خلافه - وصار طلب الله تعالى لعبادته واتقائه بمنزلة الترجّي - فيما ذكرناه - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ 22 ]
{ الَّذِي جَعَلَ } - خلق - : { لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً } بساطاً ومهاداً غير حزنة ، { وَالسَّمَاء بِنَاءً } البناء ، في الأصل ، مصدر سمي به المبني - بيتاً كان ، أو قبةً ، أو خباءً .
قال بعض علماء الفلك في معنى الآية : أي : كالبنيان يشد بعضه بعضاً .
و : { السماء } يراد بها الجنس كالسماوات ، والمعني بها الكواكب السيارات - قال : فجميع السماوات أو الكواكب كالبناء المرتبط بعضه ببعض من كل جهة ، المتماسك كأجزاء الجسم الواحد بالجاذبية التي تحفظ نظامها في مداراتها ، وهو جذب الشمس له .
{ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء } أي : السحاب : { مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً } النهي متفرع على مضمون ذلك الأمر ، كأنه قيل : إذا أُمرتم بعبادة من هذا شأنه - من التفرد بهذه الأفعال الجليلة - فلا تجعلوا له أنداداً شركاء في العبادة ، أي : أمثالاً تعبدونهم كعبادته - جمع ندّ . وهو المثل ، ولا يقال إلّا للمثل المخالف المناوئ - فإن قيل : كيف صلح تسميتها أنداداً ، وهم ما كانوا يزعمون أنها تخالفه وتناوئه ، بل كانوا يجعلونها شفعاء عنده ؟ أجيب : بأنهم لما تقربوا إليها ، وعظموها ، وسموها آلهة - أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة مثله قادرة على مخالفته ، ومضادته ، فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم . وكما تهكَّم بهم بلفظ الندّ شنّع عليهم ، واستفظع شأنهم ، بأن جعلوا أنداداً كثيرة لمن لا يصح أن يكون له ند قط .
{ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } ما بينه وبينها من التفاوت ، وأنها لا تفعل مثل أفعاله ، كقوله : { هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ } [ الروم : 40 ] أو وأنتم من أهل العلم والمعرفة - والتوبيخ فيه آكد - أي : أنتم العرّافون المميزون ، ثم ما أنتم عليه في أمر ديانتكم من جعل الأصنام لله أنداداً - هو غاية الجهل ، ونهاية سخافة العقل .
ومما ينبغي التفطن له - في الاعتبار بهذه الآية - ما قاله الزمخشري : من أنَّه سبحانه وتعالى قدَّم من موجبات عبادته ، وملزمات حقَّ الشكر له : خلْقَهُمْ أحياء قادرين أولاً ؛ لأنه سابقة أصول النعم ، ومقدِّمتها ، والسبب في التمكُّن من العبادة والشكر وغيرهما ، ثم خلق الأرض ، التي هي مكانهم ، ومستقرهم الذي لا بدَّ لهم منه - وهي بمنزلة عرصة المسكن ، ومتقلَّبه ، ومفترشه ، ثم خلق السماء ، التي هي كالقبّة المضروبة ، والخيمة المطنّبة - على هذا القرار ، ثمَّ ما سواه عز وجل من شبه عقد النكاح بين المُقِلَّة والمُظِلَّة بإنزال الماء عليها ، والإخراج به من بطنها أشباه النسل المنتج من الحيوان - من ألوان الثمار - رزقاً لبني آدم ، ليكون لهم ذلك معتبراً ، ومتسلقاً إلى النظر الموصل إلى التوحيد والاعتراف ، ونعمةً يتعرَّفونها فيقابلونها بلازم الشكر ، ويتفكرون في خلق أنفسهم ، وخلق ما فوقهم وتحتهم ، وأنَّ شيئاً من هذه المخلوقات كلِّها لا يقدر على إيجاد شيء منها ، فيتيقَّنوا - عند ذلك - أن لا بُدَّ لها من خالق - ليس كمثلها - حتى لا يجعلوا المخلوقات له أنداداً ، وهم يعلمون أنها [ لا ] تقدر على نحو ما هو عليه قادر .
ونظير هذه الآية قوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ غافر : 64 ] . فمضمونه أنه الخالق الرازق ، مالك الدار وساكنيها ، ورازقهم . فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره .
ولما احتج عليهم بما يثبت الوحدانية ، ويحققها ، ويبطل الإشراك ، ويهدمه ، وعلم الطريق إلى إثبات ذلك ، وتصحيحه . وعرَّفهم أنَ من أشرك فقد كابر عقله ، وغطى على ما أنعم عليه من معرفته وتمييزه - عطف على ذلك ما هو الحجة على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وما يدحض الشبهة في كون القرآن معجزة ، وأراهم كيف يتعرَّفون : أهو من عند الله - كما يدَّعي - أم هو من عند نفسه - كما يدّعون - ؟ بإرشادهم إلى أن يحوزوا [ في المطبوع : يحزروا ] أنفسهم ، ويذوقوا طباعهم ، وهم أبناء جنسه ، وأهل جلدته . فقال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسورة مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ 23 ]
{ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا } - أي : من القرآن الذي نزّلناه - : { عَلَى عَبْدِنَا } محمد صلى الله عليه وسلم أنه من عند الله تعالى ، والتعبير عن اعتقادهم في حقّه بالريب - مع أنهم جازمون بكونه من كلام البشر - كما يعرب عن قوله تعالى : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } إما للإيذان بأنَّ أقصى ما يمكن صدوره عنهم - وإن كانوا في غاية ما يكون من المكابرة والعناد - هو الارتياب في شأنه ، وأما الجزم المذكور فخارج من دائرة الاحتمال ، كما أن تنكيره وتصديره بكلمة الشك للإشعار بأن حقّه أن يكون ضعيفاً مشكوك الوقوع ، وإما للتنبيه على أن جزمهم ذلك بمنزلة الريب الضعيف لكمال وضوح دلائل الإعجاز ، ونهاية قوتها ، وإنما لم يقل : وإن ارتبتم فيما نزلنا . . . الخ ، لما أشير إليه - فيما سلف - من المبالغة في تنزيه ساحة التنزيل عن شائبة وقوع الريب فيه - حسبما نطق به قوله تعالى : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } - والإشعار بأن ذلك - إن وقع - فمن جهتهم لا من جهته العالية . واعتبار استقرارهم فيه ، وإحاطته بهم ، لا ينافي اعتبار ضعفه وقلته : لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به ، لا قلته ولا كثرته .
وفي ذكره صلى الله عليه وسلم بعنوان العبودية ، مع الإضافة إلى ضمير الجلالة - من التشريف ، والتنويه ، والتنبيه على اختصاصه به عز وجل ، وانقياده لأوامره تعالى - ما لا يخفى ، والأمر في قوله تعالى : { فَأْتُواْ بِسورة } من باب التعجيز وإلقام الحجر ، كما في قوله تعالى : { فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ } [ البقرة : 258 ] ، أو من باب المجاراة معهم - بحسب حسبانهم - حيث كانوا يقولون : لو نشاء لقلنا مثل هذا .
والسورة : الطائفة من القرآن العظيم المترجمة ، وأقلها ثلاث آيات ، وواوها أصلية ، منقولة من سور البلد - لأنها محيطةٌ بطائفة من القرآن مفرزةٍ ، مُحْوِزةٍ ، أو محتويةٌ على فنونٍ رائقة من العلوم ، احتواء سور المدينة على ما فيها ، أو من السورة التي هي الرتبة .
فإن سور القرآن مع كونها في أنفسها رتباً- من حيث الفضل والشرف ، أو من حيث الطول والقصر - فهي من حيث انتظامها مع أخواتها في المصحف : مراتب يرتقي إليها القارئ شيئاً فشيئاً . ومن في قوله تعالى : { مِنْ مِثْلِهِ } بيانية متعلقة بمحذوف صفة لسورة ، والضمير : { مِمَّا نَزَّلْنَا } أي : بسورة كائنة من مثله في علو الرتبة ، وسمّو الطبقة ، والنظم الرائق ، والبيان البديع ، وحيازة سائر نعوت الإعجاز . وقيل : من زائدة - على ما هو رأي الأخفش - بدليل قوله تعالى : { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ } [ يونس : 38 ] : { بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ } [ هود : 13 ] .
وقوله تعالى : { وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ } إرشادٌ لهم إلى إنهاض أمةٍ جمَّةٍ ليحتشدوا في حلبة المعارضة بخيلهم ورجلهم ، ويتعاونوا على الإتيان بقدر يسير مماثل في صفات الكمال لما أتى بجملته واحدٌ من أبناء جنسهم ، وهذا كقوله تعالى في سورة هود : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ هود : 13 ]
. والشهداء " جمع شهيد ، بمعنى : الحاضر ، أو القائم بالشهادة ، أو الناصر . ومن : لابتداء الغاية متعلقة بـ " ادعوا " ، والظرف مستقر . والمعنى : ادعوا ، متجاوزين الله تعالى للاستظهار ، من حضركم - كائناً من كان - أو الحاضرين في مشاهدكم ومحاضركم من رؤسائكم وإشرافكم - الذين تفزعون إليهم في الملمات ، وتعوّلون عليهم في المهمّات - أو القائمين بشهاداتكم الجارية فيما بينكم - من أمنائكم المتولين لاستخلاص الحقوق ، بتنفيذ القول عند الولاة - أو القائمين بنصرتكم - حقيقة أو زعماً - من الإنس والجن ليعينوكم . وإخراجه ، سبحانه وتعالى ، من حكم الدعاء في الأول - مع اندراجه في الحضور - لتأكيد تناوله لجميع ما عداه ، لا لبيان استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه ، فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دعوه تعالى لأجابهم إليه . وأما في سائر الوجوه : فللتصريح من أول الأمر ببرائتهم منه تعالى ، وكونهم في عدوة المحادة والمشاقة له ، قاصرين استظهارهم على ما سواه ، والالتفات لإدخال الروعة ، وتربية المهابة : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : في زعمكم أنه من كلامه صلى الله عليه وسلم ، واستلزام المقدم للتالي من حيث إن صدقهم في ذلك الزعم يستدعي قدرتهم على الإتيان بمثله ، بقضية مشاركتهم له صلى الله عليه وسلم في البشرية والعربية ، مع ما بهم من طول الممارسة للخطب والإشعار ، وكثرة المزاولة لأساليب النظم والنثر ، والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام ، لاسيما عند المظاهرة والتعاون - ولا ريب في أن القدرة على الشيء من موجبات الإتيان به ، ودواعي الأمر به - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ 24 ]
{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } أي : ما أمرتم به من الإتيان بالمثل ، بعد ما بذلتم في السعي غاية المجهود : { وَلَن تَفْعَلُواْ } اعتراض بين جزأي الشرطية ، مقرِّر لمضمون مقدامها ، ومؤكدٌ لإيجاب العمل بتاليها ، وهي معجزة باهرة : حيث أخبر بالغيب الخاص - علمه به عز وجل - وقد وقع الأمر كذلك : { فَاتَّقُواْ النَّارَ } جواب الشرط ، على أن اتقاء النار كنايةٌ عن الاحتراز من العناد ، إذ - بذلك - يتحقق تسبُّبه عنه ، وترتبه عليه ، كأنه قيل : فإذا عجزتم عن الإتيان بمثله - كما هو المقرر - فاحترزوا من إنكار كونه منزلاً من عند الله سبحانه ؛ فإنه مستوجب للعقاب بالنار ، لكن أوثر عليه الكناية المذكورة المبنية على تصوير العناد بصورة النار ، وجَعْلِ الاتصاف به عين الملابسة بها للمبالغة في تهويل شأنه ، وتفظيع أمره ، وإظهار كمال العناية - بتحذير المخاطبين منه ، وتنفيرهم عنه ، وحثهم على المجد في تحقيق المكنيّ به - وفيه من الإيجاز البديع ما لا يخفى . حيث كان الأصل : فإن لم تفعلوا فقد صح صدقه عندكم ، وإذا صح ذلك كان لزومكم العناد ، وترْكُكُم الإيمان به ، سبباً لاستحقاقكم العقاب بالنار ، فاحترزوا منه واتقوا النار : { الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } صفة للنار مورثةٌ لها زيادة هول وفظاعة - أعاذنا الله منها برحمته الواسعة - .
والوقود : ما توقد به النار ، وترفع من الحطب . وقُرئ بضم الواو ، وهو مصدرٌ سمي به المفعول مبالغة - كما يقال : فلانٌ فخْرُ قومه ، وزين بلده - . فإن قيل : صلة الذي والتي يجب أن تكون قصة معلومة للمخاطبة ، فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة ؟
قلت : لا يمتنع أن يتقدم لهم بذلك سماع من آيات التنزيل المتقدمة عليها ، أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو من أهل الكتاب . والمراد بالحجارة الأصنام ، وبالناس أنفسهم - حسبما ورد في قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] فإنها مفسرة لما نحن فيه - ، وحكمة اقترانهم مع الحجارة في الوقود : أنهم لما اعتقدوا في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشفعاء والشهداء الذين يستنفعون بهم ، ويستدفعون المضّار عن أنفسهم بمكانهم ، جعلها الله عذابهم ، فقرنهم بها مُحماةٍ في نار جهنم - إبلاغاً في إيلامهم ، وإغراقاً في تحسيرهم ، ونحوه ما يفعله بالكانزين الذين جعلوا ذهبهم وفضَّتهم عدة وذخيرة ، فشحُّوا بها ، ومنعوها من الحقوق ، حيث يُحمى عليها في نار جهنم . فتُكوى جباههم وجنوبهم .
{ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } هيئت لهم ، وجعلت عدة لعذابهم ، والمراد : إما جنس الكفار - والمخاطبون داخلون فيهم دخولاً أوّلياً ، - وإما هم خاصة ، ووضع الكافرين موضع ضميرهم لذمهم ، وتعليل الحكم بكفرهم - والجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها ، ومبينة لمن أريد بالناس ، دافعة لاحتمال العموم .
تنبيه :
هذه الآية الجليلة من جملة الآيات التي صدعت بتحدِّي الكافرين بالتنزيل الكريم ، وقد تحدَّاهم الله تعالى في غير موضع منه ، فقال في سورة القصص : { قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ القصص : 49 ] وقال في سورة الإسراء : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [ الإسراء : 88 ] . وقال في سورة هود : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ هود : 13 ] . وقال في سورة يونس : { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسورة مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ يونس : 37 - 38 ] . وكل هذه الآيات مكية .
ثم تحداهم أيضاً في المدينة بقوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } [ البقرة : 23 ] ، إلى آخر هذه الآية فعجزوا عن آخرهم : - وهم فرسان الكلام ؛ وأرباب النظام ، وقد خصوا من البلاغة والحكم ، ما لم يخص به غيرهم من الأمم ، وأوتوا من ذرابة اللسان ، ما لم يؤت إنسان . ومن فصل الخطاب ، ما يقيّد الألباب ، جعل الله لهم ذلك طبعاً وخلقة ، وفيهم غريزة وقوة ، يأتون منها على البديهة بالعجب ، ويُدلون به إلى كل سبب ، فيخطبون بديهاً في المقامات وشديد الخَطب ، ويرتجزون به بين الطعن والضرب ، ويمدحون ، ويقدحون ، ويتوسلون ، ويتوصّلون ، ويرفعون ، ويضعون ، فيأتون بالسحر الحلال ، ويطوّقون من أوصافهم أجمل من سمط اللآل ، فيخدعون الألباب ، ويذللون الصعاب ، ويذهبون الإحن ، ويهيجون الدّمن ، ويُجرِّئون الجبان ، ويبسطون يد الجعد البنّان ، ويصيّرون الناقص كاملاً ، ويتركون النبيه خاملاً ، منهم البدوي : ذو اللفظ الجزل ، والقول الفصل ، والكلام الفخم ، والطبع الجوهري ، والمنزع القوي ، ومنهم الحضريّ : ذو البلاغة البارعة ، والألفاظ الناصعة ، والكلمات الجامعة ، والطبع السهل ، والتصرُّف في القول القليل الكلفة ، الكثير الرونق ، الرقيق الحاشية ، وكلا البابين فلَهما - في البلاغة - الحجَّة البالغة ، والقوّة الدامغة ، والقدح الفالج ، والمهبع الناهج ، لا يشكون أنّ الكلام طوع مرادهم ، والبلاغة ملك قيادهم ، قدَحُوا فنونها ، واستنبطوا عيونها ، ودخلوا من كلّ باب من أبوابها ، وعلوا صرحاً لبلوغ أسبابها ، فقالوا في الخطير والمهين ، وتفننوا في الغث والسمين ، وتقاولوا في القلّ والكثر ، وتساجلوا في النظم والنثر - ومع هذا فيم يتصد للإتيان بما يوازيه أو يدانيه واحدٌ من فصحائهم ، ولم ينهض - لمقدار أقصر سورة منه - ناهضٌ من بلغائهم ، على أنهم كانوا أكثرَ من حصى البطحاء ، وأوفر عدداً من رمال الدهناء ، ولم ينبض منهم عرق العصبية مع اشتهارهم بالإفراط في المضادة والمضارّة ، وإلقائهم الشراشر على المُعازَّة والمُعارّة ، ولقائهم دون المناضلة عن أحسابهم الخُطط ، وركوبهم في كل ما يرمونه الشطط : إن أتاهم أحدٌ بمفخرة أتوه بمفاخر ، وإن رماهم بمأثرةٍ رموه بمآثر . وقد جرّد لهم الحجة أولاً ، والسيف آخراً ، فلم يعارضوا إلا السيف وحده . فما أعرضوا عن معارضة الحجَّة إلا لعلمهم أنّ البحر قد زخر فطمّ على الكواكب ، وأن الشمس قد أشرقت فطمست نور الكواكب ، وبذلك يظهر أنَّ في قوله تعالى : { وَلَن تَفْعَلُواْ } معجزةً أخرى ، فإنهم ما فعلوا ، وما قدروا ، ومن تعاطى ذلك من سخفائهم - كمسيلمة - كشف عواره لجميعهم .
قال الحافظ ابن كثير : ذكروا أن عُمَر بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم عَمْرو ، ، فقال له مسيلمة : ما أُنزل على صاحبكم في هذه المدة ؟ فقال له عَمْرو : لقد أُنزل عليه سورة وجيزة بليغة . فقال وما هي ؟ فقال : { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَاْن لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [ العصر : 1 - 3 ] .
ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال : ولقد أنزل عليها مثلها . قال : وما هو ؟ فقال : يا وَبْرُ يا وَبْرُ ! إنما أنت أُذنان وصدر . وسائرك حَفْر نقْر - . ثم قال - : كيف ترى يا عَمْرو ؟ فقال له عَمْرو : والله إنك لتعلم إني أعلم أنك تكذب ! . .
وحيث عجز عرب ذلك العصر ، فما سواهم أعجز في هذا الأمر . . ! وقد مضى إلى الآن - أكثر من ألف وثلاثمائة عام ، ولم يوجد أحدٌ من معاديه البلغاء إلا وهو مسلم ، أو ذو استسلام ، فدل على أنَّه ليس من كلام البشر ، بل كلام خالق القُوى والقُدر ، أنزله تصديقاً لرسوله ، وتحقيقاً لمقوله ، وهذا الوجه - أعني بلوغه في الفصاحة والبلاغة إلى حدٍّ خرج عن طوق البشر - كافٍ وحده في الإعجاز ، وقد انضمَّ إليه أوجه :
منها : إخباره عن أمور مغيبة ظهرت كما أخبر .
ومنها : كونه لا يملّه السمع مهما تكرر .
ومنها : جمعه لعلوم لم تكن معهودة ، عند العرب والعجم .
ومنها : إنباؤه عن الوقائع الخالية ، وأحوال الأمم ، والحال أنَّ من أُنزل عليه ، صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يكتب ولا يقرأ ، لاستغنائه بالوحي ، وليكون وجه الإعجاز بالقبول أحرى . وبذلك يُعلم أنَّ القرآن أعظم المعجزات ؛ فإنَّه آية باقية مدى الدهر ، يشاهدها - كلّ حين بعين الفكر - كلُّ ذي حجر ، وسواه - من المعجزات - انقضت بانقضاء وقتها ، فلم يبق منها إلا الخبر .
وقد ذهب بعض علماء الشيعة - في وجه الإعجاز - إلى : كونه قاهراً لمن يقاومه ، وغالباً على من يغالبه ، ونافذاً في إزهاق ما يخالفه ، وكونه مؤثراً في إيجاد الأمة ، وبقاء الشريعة ، ونفوذ الحكم ، وثبوت الكلمة ، لما جعل الله فيه من النور ، والهداية ، والرحمة . وعبارته :
إن كلام الله تعالى يمتاز عن غيره بالنفوذ ، والغلبة في هداية الخلق ، وإنشاء أمة مستقلة ، وإبقاء شريعة جديدة ، وهي علامة كافية في معرفة الكلمات الإلهية ، والآيات السماوية ، ثم قال : وخلاصة تقرير الدليل أن الكلام - الذي يتحدّى الداعي به ، وينسبه إلى الله - إذا ظهر منه التأثير التام في هداية النفوس المستعدة الطالبة ، وقهر الأمم المنكرة المانعة ، فأوجد أمّةً مستقلة ناميةً ، وشريعة جديدة باقية ، فلا يبقى ثمّة شك أنه هو كلام الله النازل من السماء ، والقدرة الظاهرة منه هي القدرة التي منذ القديم ظهرت من المرسلين والأنبياء ، وإلى هذه النكتة أشير في قوله تعالى : { وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ } [ الأنفال : 7 ] وقال تعالى : { وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } [ الشورى : 16 ] . وهذه العلامة لا توجد إلاَّ كتب الله تعالى ، ويتمكن كل إنسان أن يدركها ويفهمها منها . سواء كان عالماً ، أو أمياً ، أو عجمياً . شرقياً ، أو غربياً . . ! .
فمن الذي يشك أن بني إسرائيل ما خرجوا عن ظلمات الجهل إلى نور الإيمان ، وعن ذلّة العبودية إلى عز الاستقلال إلا بسبب التوراة . . ؟ ! ومن الذي يجهل أن الأمم الأوروبية ما وصلوا إلى عُبَاْدَة الله تعالى - بعد عُبَاْدَة الأوثان - إلا بواسطة الإنجيل . . ؟ ! ومن الذي لا يعرف أن الأمم الكبرى - من حدود الشرق الأقصى إلى أقاصي إفريقية - ما خرجوا عن ربقة الوثنية ، وعبادة النار إلى التوحيد وعبادة الله إلا بهداية القرآن العظيم ؟ وما تحرروا [ في المطبوع : وما تحروا ] عن أغلال العقائد الفاسدة ، والأعمال القبيحة ، وما وصلوا إلى الأخلاق الفاضلة ، والعقائدة الصحيحة إلاَّ بنور هذا السفر الكريم . . ؟ ! ثم قال : والخلاصة إن هذه العلامة وهي هداية النفوس ، وإيجاد الديانة الجديدة - بقهر الأديان القديمة ، وتبديل العوائد العتيقة - هي العلامة الظاهرة المميزة بين الكلمات الإلهية ! والمصنفات البشرية ، حتى أن أول نفس أذعنت بحقيقة رسالة رسول ، وصدق شريعته ، لو لم تعرف في نفسها هذه الهداية ، ولم تشعر في ذاتها بهذه المغلوبية لما كانت أول من صدقه ولبّاه ، واتبعه وآساه ، فإن محبّة الدين القديم الموروث راسخةٌ في جميع النفوس . والخوف من تبديل أركانه وآدابه متمكّنٌ في أعماق القلوب . فالهداية أظهر علامة في صدق النبوة والرسالة ؛ إذ هي صفة الفعل ، ومرتبطة بالدعوة - كالإبراء للطب ، ومعرفة السطوح للهندسة ، والبيع والشراء للتجارة ، وصنع الأسرّة والأبواب وغيرها للنجارة - .
ثم قال : وإذا تصفحّت القرآن المجيد ، تجد أن الله تعالى استدلّ بها في مواضع متعددة ، ووصف القرآن بأنه حجّة - بما أودع فيه من الهداية والرحمة - ولا ترى موضعاً واحداً وصفه بأنه أفصح الكتب وأبلغ الصحف ، فانظر في قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ * قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ القصص : 48 - 49 ] . أترى أن الله تعالى أفحمهم بقوله : فأتوا بكتاب من عند الله هو أصفح منهما أو أبلغ منهما ؟ وكذلك لما انتقدوا على النبي صلى الله عليه وسلم بعدم صدور معجزة منه كالمعجزات السالفة ؛ فقال تعالى : { وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ العنكبوت : 50 - 51 ] ، فبين الله تعالى مزية القرآن على سائر المعجزات ، وكفايته عن غيره بأن فيه الذكرى والرحمة .
وقال تعالى في أول هذه السورة : { الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 1 ، 2 ] وما قال فيه فصاحة وبلاغة يعجز عن مثلها جميع العالمين ؛ وذلك لأن الفصاحة والبلاغة من الأوصاف الخفية الغامضة الدقيقة - التي تختلف فيها الأذواق ، وتتشعب فيها الآراء والأنظار - ولكن ما ظهر من الرسول عليه السلام - بسبب نزول القرى ، عليه - من العلم والقدرة على هداية الأمم ، وإزالة أسقام أهل العالم ، وتأسيس الشريعة الإلهامية ، وإيجاد الأمة الإسلامية رغماً للأمم الكبرى ، ومبايناً للديانات العظمى ، أمرٌ ظاهرٌ محسوسٌ ، تصعب فيه المناقشة ، ولا تفيد معه المغالطة ، فمن الذي يمكنه أن ينكر أن الأمم العظيمة - كالعرب والفرس ، والخزر ، والترك ، والهنود ، والصينيين ، وأهالي إفريقية - خرجوا من ظلمات الشرك ، وعبادة النار والأوثان ، وإنكار الأنبياء ودخلوا في نور التوحيد ، وعبادة الله وحده ، والإيمان بأنبيائه ورسله وكتبه ، بنور الكتاب المبين . . . !
كذا في كتاب " الدرر البهية " لأبي الفضائل الإيراني - ولا يخفى أنّ ما ذكره هو وجه متين ، ولكن لا يسوغ نفي ما عداه لأجله ، بل يجدر أن يضم إليها ، ويكون في مقدمتها والله أعلم .
ثم إن من عادته تعالى ، في كتابه ، أن يذكر الترغيب مع الترهيب ، ويشفع البشارة بالإنذار ، وهذا معنى تسمية القرآن مثاني - على الأصح - وهو أن يذكر الإيمان ويتبع بذكر الكفر - أو عكسه - أو حال السعداء ثم الأشقياء - أو عكسه - وحاصله ذكر الشيء ومقابله . والحكمة في ذلك : هي إرادة التنشيط لاكتساب ما يزلف ، والتثبيط عن اقتراف ما يتلف . فلما ذكر الكفار وأعمالهم ، وأوعدهم بالعقاب ، قفّاه ببشارة عباده الذين جمعوا بين التصديق ، والأعمال الصالحة من فعل الطاعات وترك المعاصي - فقال عز وجل :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 25 ]
{ وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } البشارة : الإخبار بما يظهر سرور المخبر به ، ومنه البَشَرة : لظاهر الجلد . وتباشير الصبح ما ظهر من أوائل ضوئه . وأما : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء - الزائد في غيظ المستهزأ به ، وتألمه ، واغتمامه - ففيه استعارة أحد الضدّين للآخر تهكُّماً وسخرية .
و : { الصالحات } ما استقام من الأعمال أي : صلح لترتب الثواب عليه ، وقد أجمع السلف على أن الإيمان : قولٌ وعملٌ ، يزيد وينقص ، ثم إنه إذا طلق دخلت في الأعمال ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : < الإيمان بضع وستون شعبة - أو بضع وسبعون شعبة - أعلاها قول : لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبةٌ من الإيمان > .
وإذا عطف عليه - كما في هذه الآية - فهنا ، قد يقال : الأعمال دخلت فيه ، وعطفت عطف الخاص على العام ، وقد يقال : لم تدخل فيه ، ولكن مع العطف - كما في اسم الفقير والمسكين . إذا أفرد أحدهما تناول الآخر ، وإذا عطف أحدهما على الآخر فهما صنفان - وهذا التفصيل في الإيمان هو كذلك في لفظ البرّ ، والتقوى ، والمعروف . وفي الإثم ، والعدوان ، والمنكر ، تختلف دلالتها في الإفراد والاقتران لمن تدبّر القرآن .
وقد بين حديث جبريل أنَّ الإيمان أصله في القلب ، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله - كما في " المسند " عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال : < الإسلام علانية والإيمان في القلب > .
وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : < ألا إنَّ في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ، ألا وهي القلب > .
فإذا كان الإيمان في القلب ، فقد صلح القلب ، فيجب أن يصلح سائر الجسد ، فلذلك هو ثمرة ما في القلب . فلهذا قال بعضهم : الأعمال ثمرة الإيمان ، وصحته ؛ لما كانت لازمة لصلاح القلب ، دخلت في الاسم ، كما نطق بذلك الكتاب والسنة في غير موضع ، هذا ما أفاده الإمام ابن تيميّة رحمه الله .
وقوله تعالى : { أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ } جمع جنّة : وهي البستان من النخل والشجر المتكاثف المظلّل بالتفاف أغصانه ، وإنما سميت : دار الثواب ، بها مع أنَّ فيها ما لا يوصف من الغرفات والقصور ، لما أنَّها مناط نعيمها ، ومعظم ملاذّها . وجمعها مع التنكير : لاشتمالها على جنان كثيرة في كلّ منها مراتب ودرجات متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال وأصحابها .
وقوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } صفة جنات ، ثم إن أريد بها الأشجار ، فجريان الأنهار من تحتها ظاهر ، وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها ، فلا بدّ من تقدير مضاف - أي : من تحت أشجارها - ، وإن أريد بها مجموع الأرض والأشجار ، فاعتبار التحتية بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحّح لإطلاق اسم الجنّة على الكل ، وإنما جيء ذكر الجنات - مشفوعاً بذكر الأنهار الجارية - لِما أنَّ أنزهَ البساتين ، وأكرمها منظراً ، ما كانت أشجاره مظلِّلة ، والأنهار في خلالها مطّردة ، وفي ذلك النعمة العظمى ، واللذة الكبرى . واللام في الأنهار : للجنس : كما في قولك : لفلان بستان فيه الماء الجاري . أو للعهد . والإشارة إلى ما ذكر في قوله تعالى : { فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ } [ محمد : 15 ] الآية .
{ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا } أي : أُطعموا من تلك الجنات : { مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } أي : مثل الذي رزقناه من قبل هذا الذي أحضر إلينا ، فالإشارة إلى المرزوق في الجنة لتشابه ثمارها . بقرينة قوله : { وَأُتُواْ بِهِ } أي : أتتهم الملائكة ، والولدان برزق الجنة : { مُتَشَابِهَا } يشبه بعضه بعضاً لوناً ويختلف طعماً ، وذلك أجْلَبُ للسرور ، وأزْيَدُ في التعجب ، وأظهر للمزّية ، وأبينُ للفضل .
وترديدهم هذا القول ، ونطقهم به - عند كل ثمرة يرزقونها - دليلٌ على تناهي الأمر في استحكام الشَّبه ، وأنَّه الذي يستملي تعجُّبهم ، ويستدعي استغرابهم ، ويفرط ابتهاجهم . فإن قيل : كيف موقع قوله : { وأتوا به مُتَشَابِهاً } من نظم الكلام ؟ قلت : هو كقولك : فلان أحسنَ بفلان ، ونعم ما فعل . ورأى من الرأي كذا ، وكان صواباً . ومنه قوله تعالى : { وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } [ النمل : 34 ] . وما أشبه ذلك من الجمل التي تساق في الكلام معترضة للتقرير .
{ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } من الحيض والاستحاضة وما يختص [ في المطبوع : ما لا يختص ] بهنّ من الأقذار والأدناس - ويجوز لمجيئه مطلقاً ، أن يدخل تحته الطهر من دنَس الطباع ، وسوء الأخلاق وسائر مثالبهن وكيدهنّ .
وقوله تعالى : { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } هذا هو تمام السعادة ، فإنَّهم - مع هذا النعيم - في مقام أمين من الموت والانقطاع ، فلا آخر له ولا انقضاء . بل في نعيمٍ سرمديٍّ أبديٍّ على الدوام . والله المسؤول أن يحشرنا في زمرتهم ، إنه البر الرحيم .
ولمّا ضرب تعالى - فيما تقدم - للمنافقين مثلين : في قوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ } الخ . وقوله : { أَوْ كَصَيِّبٍ } الخ . إلى أمثالٍ أخرى تقدمت على نزول هذه السورة ، من السّور المكية ، ضربت للمشركين - نبّه تعالى إلى موضع العبرة بها ، والحكمة منها ، وتضليل من لا يقدّرها قدرها - ممَّن يتجاهل عن سرّها ، ويتعامى عن نورها ، ويحول دون الاهتداء بها ، والأخذ بسببها - فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى
{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ } [ 26 ]
{ إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } أي : يذكر مثلاً ما . يقال ضرب مثلاً ، ذكره ، فيتعدّى لمفعول واحد . أو صيّر ، فلمفعولين .
قال أبو إسحاق في قوله تعالى : { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً } [ الكهف : 32 ] أي : اذكر لهم . وعبارة الجوهري : ضرب الله مثلاً أي : وصف وبيّن . وفي " شرح نظم الفصيح " : ضرب المثل : إيراده ليمتثل به ، ويتصوّر ما أراد المتكلم بيانه للمخاطب . يقال : ضرب الشيء مثلاً ، وضرب به ، وتمثَّله ، وتمثل به . ثم قال : وهذا معنى قول بعضهم : ضرب المثل اعتبار الشيء بغيره ، وتمثيله به . وما : هذه اسمية إبهاميّة ، وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاماً ، وزادته شياعاً وعموماً - كقولك : أعطني كتاباً ما ، تريد أي : كتاب كان - كأنه قيل : مثلاً ما من الأمثال ، أي : مثل كان . فهي صفة لما قبلها . أو حرفية مزيدة لتقوية النسبة وتوكيدها كما في قوله تعالى : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } [ النساء : 155 ] كأنه قيل : لا يستحيي أن يضرب مثلاً حقَّاً ، أو البتّة .
و : { بَعَوْضَة } : بدل من : { مَثَلاً } . أو هما مفعولا يضرب ؛ لتضمنّه معنى الجعل والتصيير . ومعنى الآية : إنه تعالى لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ، ترك من يستحيي أن يتمثل بها لحقارتها . أي : لا يستصغر شيئاً يضرب به مثلاً - ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة كما لا يستنكف عن خلقها ، كذلك لا يستنكف عن ضرت المثل بها ، كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } [ الحج : 73 ] ، وقال : { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 41 ] ، وغير ذلك من أمثال الكتاب العزيز ، فما استنكره السفهاء ، وأهل العناد والمراء ، واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء ، ومضروباً بها المثل ليس بموضع للاستنكار والاستغراب . من قبل أن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى ، ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب ، وإدناء المتوهِّم من المشاهد . فإن كان المتمثّل له عظيماً كان المتمثل به مثله ، وإن كان حقيراً كان المتمثل به كذلك ، فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل إذاً ، إلاَّ أمراً تستدعيه حال المتمثَّل له وتستجّره إلى نفسها ، فيعمل الضارب للمثل على حسب تلك القضية ، ألا ترى إلى الحق لما كان واضحاً ، جلياً أبلج ، كيف تمثّل له بالضياء والنور ؟ وإلى الباطل لما كان بضد صفته ، كيف تمثل له بالظلمة ؟ أفاده الزمخشري .
{ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا } شروع في تفصيل ما يترتب على ضرب المثل من الحكم إثر تحقيق حقية صدوره عنه تعالى ؛ أي : فأما المؤمنون : { فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ } كسائر ما ورد منه تعالى ، والحق : هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره ، وذلك لأن التمثل به مسوق على قضية مضربه ، ومحتذى على مثال ما يستدعيه - كما جعل بيت العنكبوت مثل الآلهة التي جعلها الكفار أنداداً لله تعالى - وجعلت أقل من الذباب ، وأخسّ قدراً ، وضربت لها البعوضة فما دونها مثلاً ؛ لأنه لا حال أحقر من تلك الأنداد وأقل . . . . . . . ! .
فالمؤمنون الذين عادتهم الإنصاف ، والعمل على العدل والتسوية ، والنظر في الأمور بناظر العقل - إذا سمعوا بمثل هذا التمثيل علموا أنه الحقُّ الذي لا تمرّ الشبهة بساحته ، والصواب الذي لا يرتع الخطأ حوله { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } ممن غلبهم الجهل على عقولهم ، وغشيهم على بصائرهم فلا يتفطَّنون ، ولا يلقون أذهانهم ، أو عرفوا أنه الحق ، إلا أنّ حب الرياسة ، وهوى الإلف والعادة ، لا يُخَلِّيهم أن يُنصفوا : { فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً } أي : فِإذا سمعوه عاندوا ، وكابروا ، وقضوا عليه بالبطلان ، وقابلوه بالإنكار ، ولا خفاء في أن التمثيل بالبعوضة وبأحقر منها مما لا تخفى استقامته وصحته على من به أدنى مسكة ، ولكن ديدن المحجوج المبهوت الذي لا يبقى له متمسك بدليل ، ولا متشبث بأمارة ولا إقناع ، أن يرمي لفرط الحيرة ، والعجز عن إعمال الحيلة ، بدفع الواضح ، وإنكار المستقيم ، والتعويل على المكابرة والمغالطة إذا لم يجد سوى ذلك معولاً .
{ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } جواب عن تلك المقالة الباطلة ، وردّ لها ببيان أنه مشتمل على حكمةٍ جليلة ، وغاية جميلة ، هي كونه ذريعة إلى هدايةٍ المستعدّين للهداية ، وإضلال المنهمكين في الغواية ، وقدّم الإضلال على الهداية - مع تقدم حال المهتدين على حال الضالّين فيما قبله ، ليكون أول ما يقرع أسماعهم من الجواب أمراً فظيعاً يسوؤهم ، ويفت في أعضادهم ، وهو السر في تخصيص هذه الفائدة بالذكر : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ } أي : بالمثل أو بضربه : { إِلَّا الْفَاسِقِينَ } تكملة للجواب والرد ، وزيادة تعيين لمن أريد إضلالهم ، ببيان صفاتهم القبيحة المستتبعة له .(/)
القول في تأويل قوله تعالى
{ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [ 27 ]
{ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ } صفة للفاسقين للذم ، والعهد : الذي وصفوا بنقضه : هو وصية الله إلى خلقه ، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه ، وعلى لسان رسله - ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به : { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } عام في كل قطيعة لا يرضاها الله تعالى : كقطع الرحم ، والإعراض عن موالاة المؤمنين ، والتفرقة بين الأنبياء عليهم السلام ، والكتب في التصديق ، وسائر ما فيه رفض خيرٍ أو تعاطي شر ، فِإنه يقطع ما بين الله تعالى ، وبين العبد من الوصلة التي هي المقصودة بالذات من كل وصل وفصل : { وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ } بالمنع عن الإيمان ، والاستهزاء بالحق ، وقطع الوصل التي بها نظام العالم وصرحه : { أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } لأنهم استبدلوا النقض بالوفاء ، والقطع بالوصل ، والفساد بالصلاح ، وعقابها بثوابها .
وهذه الصفات المسوقة في الآية صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين ، كما قال تعالى في سورة الرعد : { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ } [ الرعد : 19 20 21 ] الآيات إلى أن قال : { وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ الرعد : 25 ](/)
القول في تأويل قوله تعالى
{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ 28 ]
{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ } التفات إلى خطاب المذكورين ، مبنيٌّ على إيراد [ في المطبوع : إيراث ] ما عدّد من قبائحهم السابقة ، لتزايد السخط الموجب للمشافهة بالتوبيخ والتقريع . والاستفهام إنكاريّ بمعنى إنكار الواقع . واستبعاده ، والتعجيب منه ؛ لأن معهم ما يصرف عن الكفر ، ويدعو إلى الإيمان : { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً } أجساماً لا حياة لها عناصر ، وأغذية ، ونطفاً ، ومضغاً مخلّقة وغير مخلَّقة ، وإطلاق الأموات على تلك الأجسام الجمادية ، إمَّا حقيقة بناء على أنَّ الميت عادم الحياة مطلقاً . كما في قوله تعالى : { بَلْدَةً مَيْتاً } [ الفرقان : 49 ] و : { وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ } [ يس : 33 ] . أو استعارة ، جرياً على أن إطلاق الميت فيما تصح فيه الحياة ، لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس { فَأَحْيَاكُمْ } بخلق الأرواح ، ونفخها فيكم . وإنما عطفه بالفاء لأنه متصل بما عطف عليه ، غير متراخٍ عنه ، بخلاف البواقي : { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } عندما تُقضى آجالكم : { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } بالنشور ، والبعث ، للحساب والجزاء : { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } بعد الحشر فيجازيكم بأعمالكم : إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر . فما أعجب كفركم مع علمكم بحالتكم هذه . . . . . !
فإن قيل : إن علموا أنهم كانوا أمواتاً فأحياهم ثم يميتهم ، لم يعلموا أنه يحييهم ثم إليه يرجعون ، فيكف نظم ما ينكرونه ، من الإحياء الأخير والرجع ، في سلك ما يعترفون به من الإحياء الأول ، والإماتة . . . . . . ؟
قلت : تمكنهم من العلم بهما لما نصب لهم من الدلائل منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر . سيما وفي الآية تنبيه على ما يدل على صحتهما ، وهو أنه تعالى لمال قدر على إحيائهم أولاً ، قدر على أن يحييهم ثانياً ، فإنَّ بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته . . . ! أو الخطاب ، مع أهل الكتابين ، وإنكار اجتماع الكفر مع القصة التي ذكرها الله تعالى إما لأنها مشتملة على آيات بينات تصرفهم عن الكفر ، أو على نعمٍ جسامٍ حقها أن تُشكر ولا تُكفر ، أو لإرادة الأمرين جميعاً ؛ فإن ما عدده آيات ، وهي مع كونها آيات من أعظم النعم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ 29 ]
{ هو الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاًَ } بيان نعمة أخرى مرتبة على الأولى ، فإنها خلقهم أحياء قادرين مرة بعد أخرى ، وهذه خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم ، ويتم به معاشهم ، ومعنى : { لَكُمْ } لأجلكم ، ولانتفاعكم . وفيه دليل على أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة حتى يقوم دليل يدل على النقل عن هذا الأصل ، ولا فرق بين الحيوانات وغيرها ، مما ينتفع به من غير ضرر . وفي التأكيد بقوله : { جميعاً } أقوى دلالة على هذا .
{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء } قال أبو العالية الرياحي : استوى إلى السماء أي : ارتفع . نقله عنه البخاري في صحيحه ، ورواه محمد بن جرير الطبريّ في تفسيره عن الربيع بن أنس . وقال البغوي : قال ابن عباس وأكثر المفسِّرين : ارتفع إلى السماء . وقال الخليل بن أحمد في : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء } : ارتفع . رواه أبو عمر [ في المطبوع : عَمْرو ] ابن عبد البر في شرح الموطأ ، [ و ] نقله الذهبي في " كتاب العلو " . وقد استدل بقوله : { ثُمَّ اسْتَوَى } على أن خلق الأرض متقدم على خلق السماء ، وكذلك الآية التي في [ حم ، السجدة ] . وقوله تعالى في سورة [ وَالنَّازِعَاتِ ] : { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [ النازعات : 30 ] إنما يفيد تأخُّر دحوّها ، لا خلق جرمها ، فإنّ خلق الأرض وتهيئتها لما يراد منها قبل خلق السماء ، ودحوها بعد خلق السماء ، والدحو : هو البسط ، وإنبات العشب منها ، وغير ذلك . مما فسره قوله تعالى : { أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا } [ النازعات : 31 ] . الآية وكانت قبل ذلك خربة وخالية ؛ على أن : { بعد } تأتى بمعنى : مع ؛ كقوله : { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } [ القلم : 13 ] أي : مع ذلك ، فلا إشكال . وتقديم الأرض هنا ؛ لأنها أدل لشدة الملابسة والمباشرة { فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } أي : صيرهن ، كما في آية أخرى : { فَقَضَاهُنَّ } [ فصلت : 12 ] .
تنبيه :
قال بعض علماء الفلك : السموات السبع المذكورة كثيراً في القرآن هي هذه السيارات السبع . وإنما خصت بالذكر مع أن السيارات أكثر من ذلك لأنها أكبر السيارات وأعظمها ، على أن القرآن الكريم لم يذكرها في موضع واحد على سبيل الحصر فلا ينافي ذلك أنها أكثر من سبع .
وقال بعض علماء اللغة : إن العرب تستعمل لفظ سبع ، وسبعين ، وسبعمائة للمبالغة في الكثرة . فالعدد إذن غير مراد . ومنه آية : { سَبْعَ سَنَابِلَ } [ البقرة : 261 ] وآية : { وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ } [ لقمان : 27 ] وآية : { سَبْعِيْنَ مَرَّةً } [ التوبة : 80 ] والله أعلم .
وذهب بعض علماء الفلك إلى أن الحصر في السبع حقيقيّ ، وأن المراد به العالم الشمسي وحده دون غيره . وعبارته : إن قيل : إن كل ما يعلو الأرض من الشمس والقمر والكواكب هو سماء ، فلماذا خصّص تعالى عدداً هو سبع ؟
فالجواب : لا شكّ أنه يشير إلى العالم الشمسيّ الذي أحطنا الآن به علماً وأن حصر العدد لا يدل على احتمال وجود زيادة عن سبع ، لأن القول بذلك ، يخرج تطبيق القرآن على الفلك ، لأن العلم أثبتها سبعاً كالقرآن الذي لم يوجد فيه احتمال الزيادة لأن الجمع يدخل فيه جميع العوالم التي لا نهاية لها حتى يمكن أن يقال : إنّ سبعاً للمبالغة كسبعين وسبعمائة ، ولا يصح أن يكون العدد سبعة للمبالغة لأنه قليل جداً بالنسبة إلى العوالم التي تعد بالملايين مثل العالم الشمسي ويؤيد الحصر في هذا العدد آيةُ : { أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجا } [ نوح : 15 ، 16 ] فأخرج الشمس لأنها مركز ، وأخرج القمر لأنه تابع للأرض ، ولم يبق تعد ذلك إلا سبع . . . . . !
قال : وبذلك تتجلى الآن معجزة واضحة جلية . لأنه في عصر التقدم والمدنية العربية ، حينما كان العلم ساطعاً على الأرض بعلماء الإسلام ، كان علماء الفلك لا يعرفون من السيارات إلاَّ خمساً بأسمائها العربية إلى اليوم وهي : عطارد ، الزهرة ، المريخ ، المشتري ، زحل . وكانوا يفسرونها بأنها هي السموات المذكورة في القرآن . ولمّا لم يمكنهم التوفيق بين السبع والخمس ، أضافوا الشمس والقمر لتمام العدد . مع أنَّ القرآن يصرح بأن السموات السبع غير الشمس والقمر . وذلك في قوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً } [ الرعد : 2 ] فلفظ : { وسخر } دليل يفصل تعداد الشمس والقمر عن السبع السموات . ولذلك كان المفسرون الذين لا يعرفون الهيئة لا يرون أن تعدَّ الشمس سماءً ، ولا القمر ، لعلمهم أن السموات السبع مسكونة ، وأما الشمس فنار محرقة ؛ فذهبوا في تفسير السموات على تلك الظنون ، ولما اكتشف بعدُ بالتلسكوب سيّارٌ لم يكن معلوماً ، دعوه : أورانوس ، ثم سيّار [ في المطبوع : سيّر ] آخر سموه : نبتون ، صارت مجاميع السيارات سبعاً ، فهذا الاكتشاف الذي ظهر النبي صلى الله عليه وسلم بألف ومائتي سنة دل على معجزة القرآن ، ونبوة المنزَّل عليه صلى الله عليه وسلم . ثم قال : وأما كون السموات هي السيارات السبع بدون توابعها ، فلا يفهم من الآية ، لأن الأقمار التي نثبتها ، والنجوم الصغيرة التي مع المريخ ، يلزم أن تكون تابعة للسموات السبع ِ لأنها تعلونا وهي في العالم الشمسي . وحينئذٍ فالسموات السبع هي مجاميع السيارات السبع ؛ بمعنى : أن مجموعة زحل بما فيها هو نفسه أي : مع أقماره الثمانية تعد سماء ، لأن فلكها طبقة فوق طبقة فلك مجموعة المشتري ، ويدل على هذا التطبيق قوله تعالى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ } [ الملك : 5 ] يشير إلى أن السماء الدنيا - أي : السماء التي تلي الأرض - فلك المريخ ؛ فهو وما حوله من النجوم العديدة التي تسمى مصابيح ، وتعتبر كلها سماء وليس السيّار نفسه . . . . . ! انتهى .
وقوله تعالى : { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } اعتراض تذييليّ مقرِّر لما قبله ، من خلق السموات والأرض وما فيها على هذا النمط البديع المنطوي على الحكم الفائقة ، والمصالح اللائقة ، فإن علمه عز وجل بجميع الأشياء يستدعي أن يخلق كل ما يخلقه على الوجه الرائق .
ولما ذكر تعالى الحياة والموت المشاهدَيْن تنبيهاً على القدرة على ما اتبعهما به من البعث ، ثم دل على ذلك أيضاً بخلق هذا الكون كله على هذا النظام البديع ، وختم ذلك بصفة العلم ذكر ابتداء خلق هذا النوع البشري المودع من صفة العلم ما ظهر به فضله بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ 30 ]
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } أي : قوماً يخلف بعضهم بعضاً ، قرناً بعد قرن . كما قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ } [ الأنعام : 165 ] وقال : { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ } [ النمل : 62 ] وقال : { وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ } [ الزخرف : 60 ] وقال : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } [ مريم : 59 ] . ويجوز أن يراد : خليفة منكم ، لأنهم كانوا سكان الأرض ، فخلفهم فيها آدم وذريّته ، وأن يراد : خليفة مني ، لأن آدم كان خليفة الله في أرضه ، وكذلك كل نبيّ : { إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ } [ ص : 26 ] والغرض من إخبار الملائكة بذلك ، هو أن يسألوا ذلك السؤال ، ويجابوا بما أجيبوا به ، فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم ، صيانة لهم عن اعتراض الشبهة في وقت استخلافهم ، أو الحكمة : تعليم العباد المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها ، وعرضها على ثقاتهم ونصحائهم وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنياً عن المشاروة أو تعظيم شأن المجعول ، وإظهار فضله ، بأن بشرَّ بوجود سكّان ملكوته ، ونوّه بذكره في الملأ الأعلى قبل إيجاده ، ولقَّبَه بالخليفة .
{ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } هذا تعجب من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها ، واستعلام عن الحكمة في ذلك . أي : كيف تستخلف هؤلاء ، مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ؟ فإن كان المراد عبادتك ، فنحن نسبح بحمدك ، ونقدس لك أي : ولا يصدر عنّا شيء من ذلك وهلاّ وقع الاقتصار علينا . . . . . ؟ فقال تعالى مجيباً لهم : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } أي : إن لي حكمة في خلق الخليفة لا تعلمونها .
فإن قلت : من أين عرف الملائكة ذلك حتى تعجبوا منه ، وإنما هو غيب ؟ أجيب : بأنهم عرفوه : إما بعلمٍ خاص ، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية ؛ فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف : { مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ } [ الحجر : 26 ] أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ، ما يقع بينهم من المظالم ، ويردَعُهُم عن المحارم والمآثم .
قال العلامة برهان الدين البقاعي في تفسيره : وما يقال من أنه كان قبل آدم ، عليه السلام ، في الأرض خلق يعصون ، قاس عليهم الملائكة حال آدم عليه السلام كلامٌ لا أصل له . بل آدم أول ساكنيها بنفسه . انتهى .
وقوله تعالى : { نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } أي : ننزهك عن كل ما لا يليق بشأنك ، ملتبسين بحمدك على ما أنعمت به علينا من فنون النعم التي من جملتها توفيقنا لهذه العبادة .
وقوله : { نُقَدِّسُ لَكَ } أي : نصفك بما يليق بك من العلوّ والعزّة وننزّهك عمّا لا يليق بك . وقيل : المعنى نُطَهّر نفوسنا عن الذنوب لأجلك ، كأنهم قابلوا الفساد الذي أعظمه الإشراك بالتسبيح . وسفك الدماء الذي هو تلويث النفس بأقبح الجرائم ، بتطهير النفس عن الآثام . لا تمدحاً بذلك ، ولا إظهاراً للمنة ، بل بيانا للواقع
تنبيهات
في وجوه فوائد من الآية
الأول : دلت الآية على أن الله تعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعته ، وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه ، لاسيما عند الحيرة . والسؤال يكون بالمقال ، ويكون بالحال ، والتوجه إلى الله تعالى في إفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنته تعالى بأن يفيض منها كالبحث العلمي ، والاستدلال العقلي ، والإلهام الإلهي .
الثاني : إذا كان من أسرار الله تعالى ، وحكمه ، ما يخفى على الملائكة ، فنخن أولى بأن يخفى علينا ، فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها ، لأنه لم يؤت من العلم إلا قليلاً . . . . . . . !
الثالث : إن الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم ، وأجابهم عن سؤالهم بإقامة الدليل تعد الإرشاد إلى الخضوع والتسليم ؛ وذلك أنه تعد أن أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون علّم آدم الأسماء ، ثم عرضهم على الملائكة ، كما سيأتي بيانه .
الرابع : تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ، عن تكذيب الناس ، ومحاجتهم في النبوة بغير برهان ، على إنكار ما أنكروا ، وبطلان ما جحدوا ، فإذا كان الملأ الأعلى قد مُثلوا على أنهم يختصمون ، ويطلبون البيان والبرهان ، فيما لا يعلمون ، فأجدرْ بالناس أن يكونوا معذورين ، وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين ، أي : فعليك يا محمد أن تصبر على هؤلاء المكذبين ، وترشد المسترشدين ، وتأتي أهل الدعوة بسلطان مبين . وهذا الوجه هو الذي يبين اتصال هذه الآيات بما قبلها ، وكون الكلام لا يزال في موضوع الكتاب ، وكونه لا ريب فيه ، والرسول ، وكونه يبلغ وحي الله تعالى ، ويهدي به عباده ، واختلاف الناس فيها .
ومن خواص القرآن الحكيم الانتقال من مسألة إلى أخرى مباينة لها ، أو قريبة منها ، مع كون الجميع في سياق موضوع واحد . كذا في تفسير مفتي مصر . ولما بين سبحانه وتعالى لهم أولاً على وجه الإجمال والإبهام ، أن في الخليفة فضائل غائبة عنهم ، ليستشرفوا إليها ، أبرز لهم طرفاً منها ، ليعاينوه جهرةً ، ويُظهر لهم بديع صنعه وحكمته ، وتنزاح شبهتهم بالكلية ، فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى
{ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 31 ]
{ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } إما بخلق علم ضروري بها فيه ، أو إلقاءٍ في روعه . وآدم : اسم عبرانيّ مشتق من أدَمَه ، وهي لفظة عبرانية معناها التراب ، لأنه جُبل من تراب الأرض . كما أن حواء كلمة عبرانية معناها : حي ، وسميت بذلك لأنها تكون أم الأحياء . والمراد بالأسماء ، أسماء كل شيء . قال ابن عباس : هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس : إنسان ، ودابة ، وأرض ، وسهل ، وبحر ، وجبل ، وحمار ، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها ، وفي التوراة مصداق الآية : وهو أنه تعالى صور من الأرض كل حيوانات البر ، وكل طيور السماء ، وأحضرها إلى آدم ، لينظر ما يسميها ، وكل ما سماه آدم من نفسٍ حية ، فهو اسمه . وسمى آدم جميع الحيوانات بأساميها ، وجميع طيور السماء ، وجميع وحوش الأرض
وقال ابن جرير : وفي هذه الآيات العبرة لمن اعتبر ، والذكرى لمن ادّكر ، والبيان لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، عما أودع الله عز وجل في هذا القرآن ، من لطائف الحكم التي تعجز عن أوصافها الألسن ؛ وذلك أن الله جل ثناؤه ، احتج فيه لنبيه صلى الله عليه وسلم ، على من كان بين ظهرانيّه ، من يهود بني إسرائيل ، بإطلاعه إياه من علوم الغيب ، التي لم يكن تعالى أطلع من خلقه إلا خاصّاً ، ولم يكن مدركاً علمه إلا بالأنباء والأخبار ، لتتقرر عندهم صحة نبوته ، ويعلموا أن ما آتاهم به فمن عنده .
قال الحافظ ابن كثير : وهذا كان بعد سجودهم له ، وإنما قدم هذا الفصل على ذاك ، لمناسبة ما بين هذا المقام ، وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة ، حين سألوا عن ذلك . فأخبرهم تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون ، ولهذا ذكر الله هذا المقام ، عقيب هذا ، ليبين لهم شرف آدم بما فضل عليهم في العلم : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ } أي : عرض أهل الأسماء ، فالضمير للمسميات المدلول عليها ضمناً : { فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ } أي التي علمتها آدم . وإنما استنبأهم ، وقد علم عجزهم عن الإنباء ، تبكيتاً لهم ، وإظهاراً لعجزهم عن إقامة ما علقوا به رجاءهم من أمر الخلافة ، فِإن التصرف والتدبير ، وإقامة المعدلة ، بغير وقوف على مراتب الاستعدادات ، ومقادير الحقوق ، مما لا يكاد يمكن : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : في زعمكم أنكم أحقاء بالخلافة ممن استخلفته ، كما ينبئ عنه مقالكم . والتصديق كما يتطرق إلى الكلام باعتبار منطوقه ، قد يتطرق إليه باعتبار ما يلزمه من الأخبار ؛ فإن أدنى مراتب الاستحقاق ، هو الوقوف على أسماء ما في الأرض ، ولما اتضح لهم موضع خطأ قيلهم ، وبدت لهم هفوة زلتهم ، أنابوا إلى الله تعالى بالتوبة ، وذلك ما أفاده قوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى
{ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [ 32 ]
{ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } تقديس وتنزيه من الملائكة لله تعالى أن يحيط أحد بشيء من علمه ، إلا بما شاء . وأن يعلموا شيئاً إلا ما علمهم الله تعالى ، واعتراف منهم بالعجز والقصور عما كلفوه ، أنه العالم بكل المعلومات التي من جملتها استعداد آدم عليه والسلام ، لما نحن بمعزل من الاستعداد له ، من العلوم الخفية المتعلقة بما في الأرض من أنواع المخلوقات التي عليها يدور فلك خلافة الحكيم الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة ، ومن جملته تعليم آدم عليه السلام ما هو قابل له من العلوم الكلية ، والمعارف الجزئية ، المتعلقة بالأحكام الواردة على ما في الأرض ، وبناء أمر الخلافة عليها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى
{ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [ 33 ]
{ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ } أي : أعلمهم : { بِأَسْمَائِهِمْ } التي عجزوا عن علمها : { فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ } عز وجل تقريراً لما مر من الجواب الإجمالي واستحضاراً له : { أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } إيراد ما لا تعلمون بعنوان الغيّب مضافاً إلى السموات والأرض للمبالغة في بيان كمال شمول علمه المحيط ، وغاية سعته مع الإيذان بأن ما ظهر من عجزهم ، وعلم آدم عليه السلام ، الأمور المتعلقة بأهل السموات والأرض . وهذا دليل واضح على أن المراد بما لا تعلمون ، فيما سبق ، ما أُشير إليه هناك ، كأنه قيل : ألم أقل لكم إني أعلم فيه من دواعي الخلافة ما لا تعلمونه فيه ، هو هذا الذي عاينتموه . وفي الآية تعريض بمعاتبتهم على ترك الأولى ، وهو أن يتوقفوا مترصدين لأن يبين لهم : { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } عطف على جملة : { ألم أقل لكم } لا على : { أعلم } ، إذ هو غير داخل تحت القول . أي : ما تظهرونه بألسنتكم ، وما كنتم تخفون في أنفسكم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } [ 34 ]
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ } لما أنبأهم بأسماء ، وعلمهم ما لا يعلموا أمرهم بالسجود له ، على وجه التحية والتكرمة تعظيماً له ، واعترافاً بفضله ، واعتذاراً عما قالوا فيه . وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم عليه السلام : { فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى } أي : امتنع عن السجود : { وَاسْتَكْبَرَ } أي : تكبر ، وقال : أنا خير منه ، فالسين للمبالغة : { وَكَانَ } في سابق علم الله ، أو صار : { مِنَ الْكَافِرِينَ } .
تنبيهات :
الأول : للناس في هذا السجود أقوال : أحدها أنه تكريم لآدم ، وطاعة لله ، ولم يكن عبادةً لآدم . وقيل : السجود لله ، وآدم قبلة ، أو السجود لآدم تحية ، أو السجود لآدم عُبَاْدَة بأمر الله ، وفرضه عليهم . ذكر ابن الأنباري عن الفرّاء ، وجماعة من الأئمة : أن سجود الملائكة لآدم ، كان تحية ، ولم يكن عُبَاْدَة ، وكان سجود تعظيم وتسليم وتحيه ، لا سجود صلاة وعبادة . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : قال أهل العلم : السجود كان لآدم بأمر الله وفرضه . وعلى هذا إجماع كل من يسمع قوله . فإن الله تعالى قال : { اسجدوا لآدم } ولم يقل : إلى آدم . وكل حرف له معنى ، وفرق بين : سجدت له ، وبين : سجدت إليه . قال تعالى : { لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ } [ فصلت : 37 ] : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ الرعد : 15 ] أجمع المسلمون على أن السجود للأحجار ، والأشجار ، والدواب محرم ، وأما الكعبة ، فيقال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس ، ثم صلى إلى الكعبة ، ولا يقال صلى لبيت المقدس ، ولا للكعبة . والصواب أن الخضوع بالقلوب ، والاعتراف بالعبودية ، لا يصل [ في المطبوع : لا يصلى ] على الإطلاق إلا لله سبحانه . وإما السجود فشريعة من الشرائع يتبع الأمر . فلو أمرنا سبحانه أن نسجد لأحد من خلقه ، لسجدنا طاعة واتباعاً لأمره . فسجود الملائكة لآدم عُبَاْدَة لله ، وطاعة ، وقربة يتقربون بها إليه . وهو لآدم تشريف وتعظيم وتكريم . وسجود إخوة يوسف له تحية وسلام . ولم يأت أن آدم سجد للملائكة . بل لم يؤمر بالسجود إلا لله رب العلمين . وبالجملة ، أهل السنة قالوا : إنه سجود تعظيم وتكريم وتحية له . وقالت المعتزلة : كان آدم كالقبلة يسجد إليه ، ولم يسجدوا له . قالوا ذلك هرباً من أن تكون الآية الكريمة حجة عليهم ؛ فإن أهل السنة قالوا : إبليس من الملائكة ، وصالح البشر أفضل من الملائكة ، واحتجوا بسجود الملائكة لآدم . خالفت المعتزلة في ذلك وقالت : الملائكة أفضل من البشر ، وسجود الملائكة لآدم كان كالقبلة ، ويبطله ما حكى الله سبحانه عن إبليس : { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً } [ الإسراء : 62 ] .
الثاني : اختلفوا في الملائكة الذين أمروا بالسجود ، فقيل : هم الذين كانوا مع إبليس في الأرض . قال تقي الدين بن تيمية : هذا القول ليس من أقوال المسلمين واليهود النصارى . وقيل : هم جميع الملائكة ، حتى جبريل وميكائيل . وهذا قول العامة من أهل العلم بالكتاب والسنة . قال ابن تيمية : ومن قال خلافه فقد ردّ القرآن بالكذب والبهتان ، لأنه سبحانه قال : { فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [ الحجر : 30 ] ، وهذا تأكيد للعموم .
الثالث : للعلماء في إبليس ، هل كان من الملائكة أم لا ؟ قولان :
أحدهما أنه كان من الملائكة . قاله ابن عباس ، وابن مسعود ، وسعيد بن المسيب ، واختاره الشيخ موفق الدين ، والشيخ أبو الحسن الأشعري ، وأئمة المالكية ، وابن جرير الطبري . قال البغوي : هذا قول أكثر المفسرين ، لأنه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم . قال تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ } فلولا أنه من الملائكة ، لمَا توجه الأمر إليه بالسجود ، ولو لم يتوجه الأمر إليه بالسجود لم سكن عاصياً ، ولما استحق الخزي والنكال .
والقول الثاني : أنه كان من الجن ، ولم يكن من الملائكة . قاله ابن عباس ، في رواية ، والحسن وقتادة ، واختاره الزمخشري ، وأبو البقاء العكبري ، والكواشي في تفسيره . لقوله تعالى : { إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ الكهف : 50 ] ، فهو أصل الجن ، كما أن آدم أصل الإنس ، ولأنه خلق من نار ، والملائكة خلقوا من نور ، ولأن له ذرية ، ولا ذرية للملائكة .
قال في الكشاف : إنما تناوله الأمر ، وهو للملائكة خاصة ، لأن إبليس كان في صحبتهم ، وكان يعبد الله عبادتهم ، فلما أمروا بالسجود لآدم والتواضع له كرامة له كان الجنيّ الذي معهم أجدر بأن يتواضع .
والقول الأول هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء ، وصححه البغوي . وأجابوا عن قوله تعالى : { إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ } أي : من الملائكة الذين هم خزنة الجنة .
قال ابن القيم : الصواب التفصيل في هذه المسألة ، وأن القولين في الحقيقة قول وحد . فإن إبليس كان مع الملائكة بصورته ، وليس منهم بمادته وأصله ؛ كان أصله من نار ، وأصل الملائكة من نور . فالنافي كونه من الملائكة ، والمثبت ، لم يتواردا على محل واحد . وكذلك قال الشيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية في الفتاوي المصرية : وقيل إن فرقة من الملائكة خلقوا من النار ، سموا : جناً ؛ لاستتارهم عن الأعين ، فإبليس كان منهم . والدليل على ذلك قوله تعالى : { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً } [ الصافات : 158 ] ، وهو قولهم : الملائكة بنات الله ، ولما أخرجه الله من الملائكة جعل له ذرية .
سئل الشعبي : هل لإبليس زوجة ؟ قال : ذلك عرس لم أشهده ! قال : ثم قرأت هذه الآية ، فعلمت أنه لا يكون له ذرية إلا من زوجة . فقلت : نعم . وقال قوم : ليس له ذرية ولا أولاد ، وذريته أعوانه من الشياطين .
الرابع : في قوله تعالى : { وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِين } قولان : أحدهما أنه وقت العبادة كان منافقاً ، والثاني أنه كان مؤمناً ثم كفر ، وهذا قول الأكثرين . فقيل في معنى الآية : { وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِين } في علم الله ، أي : كان عالماً في الأزل أنه سيكفر . والذي عليه الأكثرون أن إبليس أول كافر بالله . أو يقال : معنى الآية أنه صار من الذين وافقوه في الكفر بعد ذلك . واختلف الناس بأي سبب كفر إبليس ، لعنه لله . فقالت الخوارج : إنما كفر بمعصية الله ، وكل معصية كفر . وهذا قول باطل بالكتاب والسنة وإجماع الأمة . وقال آخرون : كفر بترك السجود لآدم ومخالفته أمر الله . وقال آخرون : كفر لأنه خالف الأمر الشفاهي من الله ، فإن الله خاطب الملائكة وأمرهم بالسجود . ومخالفة الأمر الشفاهي أشد قبحاً . وقال جمهور الناس : كفر إبليس لأنه أبى السجود واستكبر وعاند وطعن ، واعتقد أنه محق في تمرده ، واستدل بـ : { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ } [ الأعراف : 12 ] كما يأتي . فكأنه ترك السجود لآدم . تسفيها لأمر الله وحكمته . وهذا الكبر عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : < لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر > كذا في " كتاب الاستعاذة " للإمام [ ابن ] مفلح [ في المطبوع : سقط ابن ] الحنبلي رحمه الله تعالى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى
{ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } [ 35 ]
{ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام ، وخلق له زوجة وأقرهما في الجنة ، أباحهما الأكل منها بقوله : { وَكُلا مِنْهَا رَغَداً } أي : أكلاً واسعاً . وحيث : للمكان المبهم ، أي : أيّ مكان من الجنة شئتما . أطلق لهما الأكل من الجنة على وجه التوسعة البالغة المزيحة للعلة ، حين لم يحظر عليهما بعض الأكل ولا بعض المواضع الجامعة للمأكولات من الجنة ، حتى لا يبقى لهما عذر في التناول مما منعا منه بقوله :
{ وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } أي : هذه الحاضرة من الشجر ، أي : لا تأكلا منها ، وإنما علق النهي بالقربان منها ، مبالغة في تحريم الأكل ، ووجوب الاجتناب عنه ، لأن القرب من الشيء مقتضى الألفة . والألفة : داعية للمحبة ، ومحبة الشيء تعمي وتصمّ . فلا يرى قبيحاً ، ولا يسمع نهياً ، فيقع . والسبب الداعي إلى الشر منهيّ عنه ، كما أن السبب الموصل إلى الخير مأمور به . وعلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم < العينان تزنيان > لما كان النظر داعياً إلى الألفة ، والألفة إلى المحبة ، وذلك مفضٍ لارتكابه ، فصار النظر مبدأ الزنا . وعلى هذا قوله تعالى : { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى } [ الإسراء : 32 ] ، { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ الأنعام : 152 ] .
قال ابن العربي : سمعت الشاشي في مجلس النظر يقول : إذا قيل : لا تقرَب بفتح الراء ، كان معناه لا تتلبس بالفعل ، وإذا كان بضم الراء ، معناه لا تَدْنُ ، نقله ابن مفلح في " كتاب الاستعاذة " . ونقل الفرق المذكور بينهما أيضاً السيد مرتضى في " شرح القاموس " عن شيخه العلامة الفاسي ، قال : إن أرباب الأفعال نصوا عليه ، وظاهر القاموس أنهما مترادفان ، فإنه قال : قرب منه ، ككرم ، وقريه كسمع قرباً وقَرباناً ، وقِرباناً : دنا ، فهو قريب . للواحد والجمع . انتهى .
لطيفة :
جاء في آية الأعراف : { فَكُلا } [ الأعراف : 19 ] وهنا بالواو ، لأن كل فعل عطف عليه شيء ، وكان ذلك الفعل كالشرط ، وذكر الشيء كالجزاء ، عطف بالفاء دون الواو ، كقوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً } [ البقرة : 58 ] لما كان وجود الأكل منها متعلقاً بدخولها ذكر بالفاء ، كأنه قال : إن دخلتموها أكلتم منها ، فالأكل يتعلق وجوده بوجود الدخول . وقوله في الأعراف : { اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا } [ الأعراف : 161 ] بالواو دون الفاء ، لأنه منه السكنى ، وهو في المقام مع اللبث الطويل ، والأكل لا يختص وجوده بوجوده ، لأن من دخل بستاناً قد يأكل منه ، وإن كان مجتازاً ، فلما لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجزاء بالشرط ، عطف بالواو . وإذا ثبت هذا فنقول : قد يراد بـ : { اسكن } الزم مكاناً دخلته ، ولا تنتقل عنه ، وقد يراد ادخله واسكن فيه . ففي البقرة ، ورد الأمر ، بعد أن كان آدم في الجنة ، فكان المراد المكث ، والأكل لا يتعلق به ، فجيء بالواو . وفي الأعراف ورد قبلُ أنَّ دخول [ في المطبوع : دخل ] الجنة ، والمراد الدخول والأكل متعلق به ، فورد بالفاء .
تنبيه :
لم يرد في القرآن المجيد ، ولا في السنة الصحيحة تعيين هذه الشجرة ؛ إذ لا حاجة إليه ، لأنه ليس المقصود تعرف عين تلك الشجرة ، وما لا يكون مقصوداً ، لا يجب بيانه . وقوله : { مِنَ الظَّالِمِينَ } أي : من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله تعالى .
قال ابن مفلح الحنبلي في " كتاب الاستعاذة " : قال ابن حزم : حمل الأمر على الندب ، والنهي على الكراهة ، يقع في الفقهاء والأفاضل كثيراً ، وهو الذي يقع من الأنبياء عليهم السلام ، ولا يؤخذون به [ في المطبوع : يوخذاون ] ، وعلى السبيل أكل آدم من الشجرة . ومعنى قوله : { فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } أي : ظالمين لأنفسكما ، والظلم في اللغة : وضع الشيء في غير موضعه . انتهى
ثم قال : وقال أبو محمد بن حزم في " الملل والنحل " : لا براءة من المعصية أعظم من حال من ظن أن أحداً لا يحلف حانثاً ، وهكذا فعل آدم عليه السلام ، فإنه أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها ناسياًً لنص القرآن ، ومتأولاً وقاصداً إلى الخير ، لأنه قدّر أنه يزداد حظوة عند الله فيكون ملكاً مقرباً ، أو خالداً فيما هو فيه أبداً ، فأداه ذلك إلى خلاف ما أمره الله به ، وكان الواجب أن يحمل أمر ربه على ظاهره ، لكن تأوّل وأراد الخير فلم يصبه ، ولو فعل هذا عالم من علماء المسلمين لكان مأجوراً ، ولكن آدم لما فعل وأخرج عن الجنة إلى الدنيا ، كان بذلك ظالماً لنفسه ، وقد سمى الله تعالى قاتل الخطأ قاتلا ، كما سمى العامد ، والمخطئ لم يعمد معصية ، وجعل في مثل الخطأ عتق رقبة ، وهو لم يعمد ذنباً .
انتهى .
وقال الشيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية ، وجماعة من المتأخرين : الصواب أن آدم عليه السلام ، لما قاسمه عدوّ الله أنه ناصح ، وأكد كلامه بأنواع من التأكيدات :
أحدها القسم .
الثاني الإتيان بجملة اسمية لا فعلية .
والثالث تصديرها بأداة التأكيد .
الرابع الإتيان بلام التأكيد في الخبر .
الخامس الإتيان به اسم فاعل لا فعلاً دالاً على الحدث .
السادس تقدم المعمول على العامل [ في المطبوع : القليل ] فيه .
ولم يظن آدم أن أحداً يحلف بالله كاذباً يميناً غموساً [ في المطبوع : يمين غموس ] ، فظن صدقه ، وأنه إن أكل منها لم يخرج من الجنة ، ورأى أن الأكل ، وإن كان فيه مفسدة ، فمصلحة الخلود أرجح ، ولعله يتأتى له استدراك مفسدة اليمين في أثناء ذلك باعتذار أو توبة ، كما تجد هذا التأويل في نفس كل مؤمن أقدم على معصية .
قال ابن مفلح : فآدم عليه السلام لم يخرج من الجنة إلا بالتأويل ، فالتأويل لنص الله أخرجه ، وإلا فهو لم يقصد المعصية ، والمخالفة ، وأن يكون ظالماً مستحقاً للشفاء . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } [ 36 ]
{ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا } أي : أذهبهما عن الجنة ، وأبعدهما . يقال : زلّ عن مرتبته ، وزل عني ذاك ، إذا ذهب عنك ، وزلّ من الشهر كذا . وقال ابن جرير : فأزلهما ، بتشديد اللام ، بمعنى استزلهما ، من قولك زلّ الرجل في دينه ، إذا هفا فيه وأخطأ ، فأتى ما ليس له إتيان فيه ، وأزله غيره إذا سبب له ما يزل من أجله في دينه أو دنياه . وقرئ : { فأَزالهما } بالألف ، من التنحية : { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } من الرغَد والنعيم والكرامة : { وقلنا اهبطوا } أي : انزلوا إلى الأرض ، خطاب لآدم وحواء والشيطان ، أو خطاب لآدم وحواء خاصة ، لقوله في الآية الأخرى : { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً } [ طه : 123 ] ، وجمع الضمير لأنهما أصلا الإنس ، فكأنهما الإنس كلهم : { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } متعادين يبغي بعضكم على بعض : { وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ } منزل وموضع استقرار : { وَمَتَاعٌ } تمتع بالعيش : { إِلَى حِينٍ } أي : إلى الموت .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ 37 ]
{ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } استقبلها بالأخذ والقبول ، والعمل بها حين علمها . قال ابن جرير : وهي الكلمات التي أخبر عنه أنه قالها متنصلاً بقيلها إلى ربه ، معترفاً بذنبه ، وهو قوله : { قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] الآية ، فدعا بها لكي تكون عنواناً له ولأولاده على التوبة : { فَتَابَ عَلَيْهِ } فرجع عليه بالرحمة والقبول ، وتجاوز عنه ، وقوله تعالى : { إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } في الجمع بين الإسمين ، وعدٌ للتائب بالإحسان مع العفو .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ 38 ]
{ قُلْنَا } لآدم وحواء : { اهْبِطُواْ مِنْهَا } من الجنة : { جَمِيعاً } ثم ذكر ذرية آدم فقال : { فَإِمَّا } بإدغام نون أن الشرطية في ما الزائدة : { يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } كتاب أنزله عليكم ، ورسول أبعثه إليكم : { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } أقبل على الهدى وقبل : { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } في الآخرة بأن يدخلوا الجنة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 39 ]
{ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } بالكتاب والرسول : { أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } لا يموتون ولا يخرجون .
تنبيه :
إنما كرر الأمر بالهبوط للتأكد والإيذان بتحتم مقتضاه ، وتحققه لا محالة . أو لاختلاف ولمقصود . فإن الأول دل على أن هبوطهم إلى دار بلية يتعادون فيها ولا يخلدون . والثاني أشعر بأنهم أُهبطوا للتكليف . فمن اتبع الهدى نجا . ومن ضله هلك .
فوائد :
الأولى : ذهب كثيرون إلى أن الجنة التي أُهبط منها آدم عليه السلام ، كانت في الأرض . قال بعضهم : هي على رأس جبل بالمشرق تحت خط الاستواء . وحملوا الهبوط على الانتقال من بقعة إلى بقعة ، كما في قوله تعالى : { اهْبِطُوا مِصْراً } [ البقرة : 61 ] ، واحتجوا عليه بوجوه :
أحدها : أن هذه الجنة : لو كانت هي دار الثواب ، لكانت جنة الخلد ، ولو كان آدم في جنة الخلد ، لَمَا لحقه الغرور من الشيطان بقوله : { هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى } [ طه : 120 ] ، ولَمَا صح قوله : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ } [ الأعراف : 20 ]
وثانيها : أن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها لقوله تعالى : { وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ } [ الحجر : 48 ] .
وثالثها : لا نزاع في أن الله تعالى خلق آدم عليه السلام في الأرض ، ولم يذكر في هذه القصة أنه نقله إلى السماء ، ولو كان تعالى قد نقله إلى السماء ، لكان ذلك أولى بالذكر ، لأن نقله من الأرض إلى السماء ، من أعظم النعم . فدل ذلك على أنه لم يحصل . وذلك يوجب أن المراد من الجنة غير جنة الخلد .
ورابعها : روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < سيحان وجيحان والفرات والنيل ، كل من أنهار الجنة > .
قال ابن مفلح : أكثر الناس على أن المراد بالجنة التي أسكنها آدم جنة الخلد ، دار الثواب . ثم قال : قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية : وهذا قول أهل السنة والجماعة ، ومن قال إنها جنة في الأرض بالهند أو جدَّة ، أو غير ذلك ، فهو من الملحدة المبتدعين . والكتاب والسنة يردان [ في المطبوع : يرد ] هذا القول . وقد استوفى الكلام فيها في " مفتاح دار السعادة " وكتاب " حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح " .
الفائدة الثانية : اتفق الناس أن الشيطان كان متولياً إغواء آدم ، واختلف في الكيفية ، فقال ابن مسعود وابن عباس وجمهور العلماء : أغواهما مشافهة ، ودليل ذلك قوله : { هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى } [ طه : 120 ] ، وقوله : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ } [ الأعراف : 20 ] ، ومقاسمته لهما : { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } [ الأعراف : 21 ] . والمقاسمة ظاهرها المشافهة ، ومنهم من قال : كان ذلك بالوسوسة ، كما قال : { فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ } [ الأعراف : 20 ] ، فإغوؤه إغراؤه بوسواسه وسلطانه الذي جعل له ، كما قال صلى الله عليه وسلم : < إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم > .
وزعموا أن الشيطان لم يدخل الجنة إلى آدم بعد ما أخرج منها . والوسوسة : لغة ، حديث النفس والأفكار ، وحديث الشيطان بما لا نفع فيه ولا خير ، والكلام الخفي . وظاهر الآيات يؤيد القول الأول .
الفائدة الثالثة : لم يسمَّ الشيطان في الآية ، إذ لا حاجة ماسة إلى اسمه ، كما تقدم في الشجرة .
ولما قدم الله تعالى دعوة الناس عموماً ، وذكر مبدأهم - دعا بني إسرائيل خصوصاً ، وهم اليهود ، لأنهم كانوا أولى الناس بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ، لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة ، وقد جرى الكلام معهم - من هنا إلى الآية رقم 142 - فتارة دعاهم بالملاطفة ، وذكر الإنعام عليهم وعلى آبائهم . وتارة بالتخويف ، وتارة بإقامة الحجة وتوبيخهم على سوء أعمالهم ، وذكر عقوباتهم التي عاقبهم بها ، كما سيأتي تفصيله ، فقال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } [ 40 ]
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي : أولاد يعقوب . وقد هيجهم تعالى بذكر أبيهم إسرائيل ، كأنه قيل : يا بني العبد الصالح المطيع لله ، كونوا مثل أبيكم ، كما تقول : يا ابن الكريم ، افعل كذا ، ويا ابن العالم ، اطلب العلم ، { اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } قال ابن جرير : نعمه التي أنعم بها على بني إسرائيل : اصطفاؤه منهم الرسل ، وإنزاله عليهم الكتب ، واستنقاذه إياهم مما كانوا فيه من البلاء والضراء من فرعون وقومه ، إلى التمكين لهم في الأرض ، وتفجير عيون الماء من الحجر ، وإطعام المن والسلوى ، فأمر جل ثناؤه أعقابهم أن يكونَ ما سلف منه إلى آبائهم على ذِكْرٍ [ في المطبوع : ذُكْرٍ ] ، وأن لا ينسوا صنيعه إلى أسلافهم وآبائهم ، فيحل بهم من النقم ، ما أحل بمن نسي نعمه عنده منهم وكفرها ، وجحد صنائعه عنده : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } العهد هو الميثاق ، وقد أشير إليه في قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } [ المائدة : 12 ] ، الآية . فعهد الله هو وصيته لهم ، بما ذكر في الآية . ومنها : الإيمان برسله المتناول لخاتمهم عليه السلام ، لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة . وعهده تعالى إياهم ، هو أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة ، وقوله تعالى : { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } قال ابن جرير : أي : اخشوني واتقوا ، أيها المضيعون عهدي من بني إسرائيل ، والمكذبون رسولي الذي أخذت ميثاقكم فيما أنزلت على أنبيائي أن تؤمنوا به وتتبعوه ، أن أُحلّ بكم من عقوبتي إن لم تتوبوا إليّ باتباعه والإقرار بما أنزلت إليه ، ما أحللت بمن خالف أمري ، وكذب رسلي من أسلافكم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ } [ 41 ]
{ وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ } أي : من القرآن : { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } أي : موافقاً بالتوحيد ، وصفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ، وبعض الشرائع ، لما معكم من الكتاب كما في " التنوير " قال ابن جرير : أمرهم بالتصديق بالقرآن ، وأخبرهم أن في تصديقهم بالقرآن تصديقاً منهم للتوراة ؛ لأن الذي في القرآن من الأمر بالإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه واتباعه ، نظيرُ الذي من ذلك في الإنجيل والتوراة . ففي تصديقهم بما أنزل على محمد ، تصديق منهم لما معهم من التوراة . وفي تكذيبهم به تكذيب منهم لما معهم من التوراة . انتهى .
وتقييد المنزَّل بكونه مصدقاً لما معهم ، لتأكيد وجوب الامتثال بالأمر ، فإن إيمانهم بما معهم مما يقتضي الإيمان بما يصدقه قطعاً .
تنبيه :
كثيراً ما يستدل مجادلة أهل الكتاب على عدم تحريف كتبهم بهذه الآية وأمثالها ، كآية : { وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } [ البقرة : 89 ] ، وآية : { وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } [ يونس : 37 ] وغيرهما . مع أنه ثبت بالبراهين القاطعة ذهاب قدر كبير من كتبهم ، واختلاط حقها بباطلها فيما بقي ، كما صنفت في ذلك مصنفات عدة ، وقد رُد استدلالهم بهذه الآية وأمثالها على ما ادعوه ، بأن معنى كون القرآن مصدقاً لما معهم ، ما ذكرناه قبل في تأويلها ؛ وحاصله أن ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم هو طبق ما عندهم من حقية نبوته ، وصحة البشائر عنه ، كما قال تعالى : { وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } أي : أنه عليه السلام جاء طبق ما عندهم عنه في التوراة والإنجيل ، وبمعنى أن أحواله جميعاً توافق البشائر .
{ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } يعني من جنسكم أهل الكتاب ، بعد سماعكم بمبعثه . فالأولية نسبية ، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن ، أو هو تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته ، ولأنهم كانوا المبشرين بزمان من أوحى إليه ، والمستفتحين على الذين كفروا به ، وكانوا يعدون أتباعه أول الناس كلهم ، ، فلما بعث كان أمرهم على العكس ، لقوله : { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } .
{ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } أي : لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي ، بالدنيا وشهواتها ، فإنها قليلة فانية ، فالاشتراء استعارة للاستبدال { وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ } بالإيمان واتباع الحق ، والإعراض عن حطام الدنيا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ } [ 42 ، 43 ]
{ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ } اللبس الخلط ، وقد يلزمه الاشتباه بين المختلطين . والمعنى لا تخلطوا الحق المنزل بالباطل الذي يخترعونه أو يذكرونه في تأويله حتى يشتبه أحدهما بالآخر ، وقوله : { وَتَكْتُمُواْ } مجزوم داخل تحت حكم النهي . وتكرير الحق ، لزيادة تقبيح المنهي عنه ؛ إذ في التصريح باسم الحق ، ما ليس في ضميره ، والتقييد بقوله : { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } لزيادة تقبيح حالهم ؛ إذ الجاهل عسى يعذر ، وقوله : { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } الآية ، أمر بلزوم الشرائع عليهم بعد الإيمان ، وذلك إقامة الصلاة بأدائها بفروضها والمحافظة عليها ، وإعطاء الصدقة المفروضة ، والركوع لله ، أي : الخضوع لأوامره بإطاعتها .
قال ابن جرير : هذا أمر من الله جل ثناؤه ، لمن ذكر من أحبار بني إسرائيل ومنافقيها بالإنابة والتوبة إليه ، وبإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، والدخول مع المسلمين في الإسلام ، والخضوع له بالطاعة ، ونهي منه لهم عن كتمان ما قد علموه من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، بعد تظاهر حججه عليهم ، وبعد الإعذار لهم والإنذار ، وبعد تذكيره نعمه إليهم ، وإلى أسلافهم تعطفاً منه بذلك عليهم ، وإبلاغاً إليهم في المقدرة .
وقد قيل في قوله : { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } حث على إقامة الصلاة في الجماعة ؛ لما فيها من تظاهر النفوس في المناجاة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ 44 ]
{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ } أي : بما فيه لله رضا من القول أو الفعل . وجماع البر كل ما فيه طاعة لله تعالى . والهمزة للتقرير مع التوبيخ والتعجيب من حالهم : { وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ } أي : تتركونها من البر كالمنسيات . والمعنى تخالفون ما تأمرون به من ذلك إلى غيره . وقوله : { وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ } تبكيت مثل قوله : { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } يعني تتلون التوراة ، وفيها الوعيد على الخيانة وترك البر ، ومخالفة القولِ العملَ { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } توبيخ عظيم بمعنى أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه ، حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه ، وكأنكم في ذلك مسلوبوا العقول ، لأن العقول تأباه وتدفعه .
روى الحافظ ابن كثير الدمشقي في تفسيره عن إبراهيم النَّخَعِي قال : إني لأكره القصص لثلاث آيات : قوله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ } وقوله :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ، 3 ] ، وقوله إخباراً عن شعيب : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ هود : 88 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } [ 45 ]
{ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ } أي : على الوفاء بالعهد : { وَالصَّلاَةِ } أي : التي سرها خشوع القلب للرب . فإنها من أكبر العون على الثبات في الأمر . قال ابن جرير : أي : استعينوا على الوفاء بعهدي الذي عاهدتموني في كتابكم من طاعتي ، واتباع أمري وترك ما تهوونه من الرياسة وحب الدنيا إلى ما تكرهونه من التسليم لأمري ، واتباع رسولي محمد صلى الله عليه وسلم بالصبر عليه ، والصلاة . فالآية متصلة بما قبلها ، كأنهم لما أمروا بما شق عليهم لما فيه من الكلفة وترك الرياسة ، والإعراض عن المال عولجوا بذلك { وَإِنَّهَا } الضمير للصلاة ، وتخصيصها برد الضمير إليها لعظم شأنها ، واشتمالها على ضروب من الصبر ، وجُوّز عود الضمير على الاستعانة بهما : { لَكَبِيرَة } لشاقة ثقيلة كقوله تعالى : { كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } [ الشورى : 13 ] : { إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [ 46 ]
{ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } أي : محشورون إليه يوم القيامة للجزاء . والظن هنا بمعنى اليقين ، ومثله : { إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ } [ الحاقة : 20 ] .
قال ابن جرير : العرب قد تسمي اليقين ظنّاً ، نظير تسميتهم الظلمة سُدْفَةً ، والضياء سُدْفَةً ، والمغيث صارخاً ، والمستغيث صارخاً ، وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضده .
والشواهد على ذلك من أشعار العرب أكثر من أن تحصر : { وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } أي : بعد الموت فيجازيهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ 47 ] : { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } كرر التذكير للتأكيد ولربط ما بعده من الوعيد الشديد به : { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ } عطف على نعمتي ، عطف الخاص على العام لكماله . أي : فضلت آباءكم : { عَلَى الْعَالَمِينَ } أي : عالمي زمانهم بإنزال الكتاب عليهم ، وإرسال الرسل فيهم وجعلهم ملوكاً ، وهم آباؤهم الذين كانوا في عصر موسى عليه السلام ، وبعده قبل أن يغيروا ، وتفضيل الآباء شرف الأبناء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [ 48 ]
{ وَاتَّقُواْ يَوْماً } يريد يوم القيامة أي : حسابه أو عذابه : { لاَّ تَجْزِي } فيه : { نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } أي : لا تقضي عنها شيئاً من الحقوق . فانتصاب : { شيئاًْْ } على المفعولية ، أو شيئاً من الجزاء فيكون نصبه على المصدرية ، وإيراده منكّراً مع تنكير النفس للتعميم ، والإقناط الكلي : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ } لا يقبل : { مِنْهَا عَدْلٌ } أي : فدية : { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } يمنعون من عذاب الله . وجُمع لدلالة النفس المنكّرة على النفوس الكثيرة ، وذُكّر لمعنى العباد أو الأناسي .
تنبيه :
تمسكت المعتزلة بهذه الآية على أن الشفاعة لا تقبل للعصاة ؛ لأنه نفى أن تقضي نفس عن نفس حقاً أخلت به من فعل أوترك ، ثم نفى أن يقبل منها شفاعة شفيع ، فعلم أنها لا تقبل للعصاة .
والجواب : أنها خاصة بالكفار . ويؤيده أن الخطاب معهم كما قال : { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } [ المدثر : 48 ] ، وكما قال عن أهل النار : { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [ الشعراء : 100 ، 101 ] فمعنى الآية أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة ، ولا يُنفذ أحداً من عذابه منقذ ، ولا يخلص منه أحد .
وفي الانتصاف : من جحد الشفاعة فهو جدير أن لا ينالها . وأما من آمن بها وصدقها ؛ وهم أهل السنة والجماعة ، فأولئك يرجون رحمة الله ، ومعتقدهم أنها تنال العصاة من المؤمنين وإنما ادخرت لهم ، وليس في الآية دليل لمنكريها ؛ لأن قوله : { يوماً } أخرجه منكّراً ، ولا شك أن في القيامة مواطن ، ويومها معدود بخمسن ألف سنة ، فبعض أوقاتها ليس زماناً للشفاعة ، وبعضها هو الوقت الموعود ، وفيها المقام المحمود لسيد البشر عليه أفضل الصلاة والسلام ، وقد وردت آي كثيرة ترشد إلى تعدد أيامها واختلاف أوقاتها ؛ منها قوله تعالى : { فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] ، مع قوله : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ } [ الصافات : 27 ] فيتعين حمل الآيتين على يومين مختلفين ، ووقتين متغايرين : أحدهما محل للتناول ، والآخر ليس محلاً له . وكذلك الشفاعة ، وأدلة ثبوتها لا تحصى كثرة ، رزقنا الله الشفاعة ، وحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } [ 49 ]
{ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } تذكير لتفاضيل ما أجمل في قوله تعالى : { نعمتي التي أنعمت عليكم } من فنون النعماء . أي : واذكروا وقت تنجيتنا إياكم ، أي : آباءكم ، فإن تنجيتهم تنجية لأعقابهم . والمراد بالآل : فرعون وأتباعه ؛ فإن الآل يطلق على الشخص نفسه ، وعلى أهله وأتباعه وأوليائه . قاله في " القاموس " .
ثم بين ما أنجاهم منه بقوله : { يَسُومُونَكُمْ } أي : يبغونكم : { سُوَءَ الْعَذَابِ } أي : أفظعه وأشده : { يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ } أي : يتركونهم أحياء : { وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } البلاء إما المحنة ، إن أشير بذلكم إلى صنيع فرعون ، أو النعمة ، إن أشير به إلى الإنجاء . قال ابن جرير : العرب تسمي الخير بلاء ، والشر بلاء .
فائدة :
فرعون لقب لمن ملك مصر كافراً ، ككسرى لملك الفرس ، وقيصر لملك الروم ، وتُبّع لمن ملك اليمن كافراً ، والنجاشي لمن ملك الحبشة ، وخاقان لملك الترك . ولعتوّه أشتق منه : تفرعن الرجل ، إذا عتا وتمرد .
وسبب سَوْمِهِ بني إسرائيل سوء العذاب ، من تذبيح أبنائهم - على ما روي في التوراة - خوفه من نموهم وكثرة توالدهم . وكانت أرض مصر امتلأت منهم ؛ فإن يوسف عليه السلام ، لما استقدم أباه وإخوته وأهلهم من أرض كنعان إلى مصر ، أعطاهم ملكاً في أرض مصر في أفضل الأرض كما أمره ملك مصر ، وكان لهم في مصر مقام عظيم بسبب يوسف عليه السلام ، فتكاثروا وتناسلوا ، ولما توفي يوسف عليه السلام ، والملك الذي اتخذه وزيراً عنده ، انقطع ذلك الاحترام عن بني إسرائيل ، إلى أن قام على مصر أحد ملوكها الفراعنة ، فرأى غوّ الإسرائيليين ، فقال لقومه : أضحى بنو إسرائيل شعباً أكثر منا وأعظم ، فهلمّ نحتال لهم لئلا ينمو ، فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا ، ويخرجون من أرضنا . فسلط عليهم رؤساء تسخير لكي يذلوهم بأثقالهم ، وكانوا كلما أشتد تعبدهم ازدادوا كثرة وشدة ، فشق على المصريين كثرتهم واختشوا منهم ، فجعل أهل مصر يستعبدونهم جوراً ويمرّرون عليهم حياتهم بالعمل الشديد بالطين واللَّبِن ، وكل فلاحة الأرض ، وكل الأفعال التي استعبدوهم بها بالمشقة ، وأمر فرعون بذبح أبنائهم كما قصه الله تعالى ، ولم يزل الأمر في هذه الشدة عليهم حتى نجاهم سبحانه بإرسال موسى عليه السلام . وقوله جل ذكره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } [ 50 ]
{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ } بيان لسبب التنجية ، وتصوير لكيفيتها ، إثر تذكيرها وبيان عظمها وهولها ، وقد بين في تضاعيف ذلك نعمة جليلة أخرى هي الإنجاء من الغرق ؛ أي : واذكروا إذ فلقناه بسلوككم ، أو ملتبساً بكم ، أو بسبب إنجائكم ، وفصلنا بين بعضه وبعض حتى حصلت مسالك . فالباء على الأول استعانة ، مثلها في : كتبت بالقلم . وعلى الثاني للمصاحبة ، مثلها في : أسندت ظهري بالحائط . وعلى الثالث للسببية . والوجه الأول ضعيف من حيث إن مقتضاه أن تفريق البحر وقع ببني إسرائيل والمنصوص عليه في التنزيل أن البحر إنما انفلق بعصا موسى . قال تعالى : { أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } [ الشعراء : 63 ] فآلة التفريق العصا لا بنو إسرائيل : { فَأَنجَيْنَاكُمْ } أي : من الغرق بإخراجكم إلى الساحل : { وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ } أريد فرعون وقومه ، وإنما اقتصر على ذكرهم للعلم بأنه أولى به منهم : { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } أي : إلى ذلك وتشاهدونه لا تشكون فيه ؛ ليكون ذلك أشفى لصدوركم ، وأبلغ في إهانة عدوكم .
وكانت قصة إغراق آل فرعون المشار لها في هذه الآية ، على ما روي ، أن الحق تعالى لما شاء إخراج بني إسرائيل من مصر من بيت العبودية ، أوقع في نفس فرعون أن يطلقهم من مصر . بعد إباء شديد منه ، ورؤية آيات إلهية كادت تُحِل به وبقومه البوارَ . فدعا موسى وهارون وقال : اخرجوا من بين شعبي أنتما وبنو إسرائيل جميعاً ، واذهبوا اعبدوا الرب كما تكلمتم . فلما ارتحلوا وأخبر فرعون أن الشعب قد هرب ، تغير قلبه عليهم ، وقال : ماذا فعلنا حتى أطلقناهم من خدمتنا ؟ فشد مركبته وأخذ قومه معه وسعى وراءهم ، وأدركهم وهم نازلون عند بحر القلزم ، وهو المشهور ببحر السويس فلما رأت بنو إسرائيل عسكر فرعون وراءهم ، قالوا : يا موسى أين ما وعدتنا من النصر والظفر ؟ فلو بقينا على خدمة المصريين لكان خيراً لنا من أن نهلك في هذه البرية : { قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 128 ] وقال : { عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 129 ] . وأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق ، وأيبس قعره ، فدخل بنو إسرائيل فيه ، فتبعهم فرعون وجنوده ، فخرج موسى وقومه من الجهة الثانية ، وانطبق البحر على فرعون ومن معه فغرقوا كلهم . وسيأتي الإشارة إلى هذه القصة في مواضع من التنزيل ، ومن أبسطها فيه سورة الشعراء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ } [ 51 ]
{ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى } أي : بعد فراغه من مقاومة آل فرعون وإهلاكهم : { أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } أي : لنعطيه عند انقضائها التوراة لتعملوا بها . وقد روي في ترجمة التوراة أنه تعالى قال لموسى : اصعد إلى الجبل وكن هناك فأعطيك ألواحاً من حجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعلمهم . فصعد موسى إلى الجبل ، وبقي هناك أربعين يوماً وأربعين ليلة . وموسى : كلمة عبرانية معناها منشول من الماء : { ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ } أي : إلهاًً ومعبوداً : { مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد مضيّه للميقات : { وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ } أي : بوضع العبادة في غير موضعها ، وهو حال من ضمير اتخذتم ، أو اعتراض تذييليّ ؛ أي : وأنتم قوم عادتكم الظلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ 52 ]
{ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ } أي : محونا ذنوبكم : { مِّن بَعْدِ ذَلِكَ } أي : الاتخاذ والظلم القبيح : { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } لكي تشكروا نعمة العفو وتستمروا بعد ذلك على الطاعة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [ 53 ] : { وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ } يعني الجامع بين كونه كتاباً منزلاً ، وفرقاناً يفرق بين الحق والباطل ؛ يعني التوراة ، كقولك : رأيت الغيث والليث تريد الرجل الجامع بين الجود والجراءة ، ونحوه قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ } [ الأنبياء : 48 ] يعني الكتاب الجامع بين كونه فرقاناً وضياء وذكراً ، أو التوراة والبرهان الفارق بين الكفر والإيمان من العصا واليد وغيرها من الآيات ، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام . وقيل : الفرقان انفراق البحر . وقيل : النصر الذي فرق بينه وبين عدوه ، كقوله تعالى : { يَوْمَ الْفُرْقَانِ } [ الأنفال : 41 ] يريد به يوم بدر : { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي : لكي تهتدوا بالعمل فيه من الضلال .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ 54 ]
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } هذه الآية بيان لكيفية وقوع العفو المذكور في الآية قبلُ ، روى أن موسى عليه السلام لما رجع من الميقات ، ورأى ما صنع قومه بعده من عُبَاْدَة العجل ، غضب ورمى باللوحين من يده ، فكسرهما في أسفل الجبل ، ثم أحرق العجل الذي صنعوه ، ثم قال : من كان من حزب الرب فليُقبل إليّ . فاجتمع إليه جميع بني لاوى ، وقال لهم : هذا ما يقول الرب إله إسرائيل : ليتقلد كل رجل منكم سيفه . فجوزوا في وسط المحلة من باب وارجعوا ، وليقتل الرجل منكم أخاه وصاحبه وقريبه . فصنع بنو لاوى كما أمرهم موسى ، فقتلوا في ذلك اليوم من الشعب نحو ثلاثة وعشرين ألف رجل ، وفي رواية نحو ثلاثة آلاف رجل ، وفي غد ذلك اليوم كلم موسى الشعب ، وقال لهم : أنتم قد أخطأتم خطيئة عظيمة ، وإني الآن أصعد إلى الرب فأتضرع إليه من أجل خطيئتكم . فصعد موسى وتضرع للرب وسأل المغفرة لقومه .
و لاوي : ثالث مولود ليعقوب عليه السلام من أولاده الاثني عشر ، معناه في العربية ملتصق أو متصل . والأحبار اللاويّون ينسبون إليه ، وقد اختارهم تعالى من بني إسرائيل على لسان موسى عليه السلام للخدمة المقدسة ، وجعلهم من المقربين لديه . وبما سقناه يعلم أن قوله تعالى : { فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } أمر لمن لم يعبد العجل ، أعني اللاويين ، أن يقتلوا العَبَدَة . لا كما فهمه بعضهم من قتل بعضهم بعضاًَ مطلقاًَ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ 55 ، 56 ]
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق ؛ إذ سألتم رؤيتي عياناً مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم في دار الدنيا . وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن القائلين لموسى ذلك هم السبعون المختارون . ويؤيده آية الأعراف : { وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ } [ الأعراف : 155 ] الآية .
وقد غلط أهل الكتاب في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل ؛ فإن موسى الكليم عليه السلام قد سأل ذلك ، فمنع منه ، فكيف يناله هؤلاء السبعون ؟ أفاده ابن كثير . وقد رأيت دعواهم المذكورة في الفصل الرابع والعشرين في سفر الخروج ، وهذا من المواضع المحقق تحريفها ، ويدل عليه ما في الفصل الثالث والثلاثين من السفر المذكور أنه تعالى قال لموسى : لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش .
وجهرةً : في الأصل ، مصدر قولك جهرت بالقراءة . استعيرت للمعاينة لما بينهما من الاتحاد ، في الوضوح والانكشاف ، إلا أن الأول في المسموعات ، والثاني في المبصرات ، ونصبها على المصدر لأنها نوع من الرؤية ، فنصبت بفعلها كما تنصب القرفصاء بفعل الجلوس ، أو على الحال من الفاعل أو المفعول .
قال ابن جرير : وأصل الصاعقة كل أمر هائل رآه ، أو عاينه ، أو أصابه ، حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب ، وإلى ذهاب عقل وغمور فهم ، أو فقد بعض آلات الجسم ، صوتاً كان ذلك أو ناراً ، أو زلزلة أو رجفاً . قال : ومما يدل على أنه قد يكون مصعوقاً ، وهو حيّ غير ميت ، قول الله عز وجل : { وَخَرَّ موسَى صَعِقاً } يعني مغشياً عليه . ومنه قول جرير :
~وَهَلْ كَانَ الْفَرَزْدَقُ غَيْرَ قِرْدٍ أَصَابَتْهُ الصَّوَاعِقُ فَاسْتَدَارَا !
فقد علم أن موسى لم يكن ، حين غُشي عليه وصعق ميتاً ؛ لأن الله ، جل وعز ، أخبر عنه أنه لما أفاق قال : تبت إليك . ولا شبّه جريرٌ الفرزدقَ ، وهو حيّ ، بالقرد ميتاً ، ولكن معنى ذلك ما وصفناه .
وقوله تعالى : { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } أي : إلى تلك الصاعقة . وقوله تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ } قال الراغب الأصبهاني في تفسيره : البعث إرسال المبعوث من المكان الذي فيه ، لكن فرق بين تفاسيره بحسب اختلاف المعلق به ، فقيل : بعثت البعير من مبركه أي : أثرته ، وبعثته في السير أي : هيجته ، وبعث الله الميت أحياه ، وضرب البعث على الجند إذا أمروا بالارتحال . وكل ذلك واحد في الحقيقة ، وإنما اختلف لاختلاف صور المبعوثات . ثم قال : والموت حُمِلَ على المعروف ، وحُمِلَ أيضاً على الأحوال الشاقة الجارية مجرى الموت ، وليس يقتضى قوله : { فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ } أنهم ماتوا ، ألا ترى إلى قوله : { وَخَرَّ موسَى صَعِقاً } لكن الآية تحتمل الأمرين ، وحقيقة ما كان إنما يعتمد فيها على السمع المُتعري [ في المطبوع : المتعدي ] عن الاحتمالات . انتهى .
وقد يؤيد الثاني آية الأعراف المذكرة وهي : { وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ } [ الأعراف : 155 ] ، فالرجفة هي المسماة بالصاعقة هنا ، والتنزيل يفسر بعضه بعضاً ، والأصل توافق الآي . وقد ذكر ابن إسحاق والسدّي أن الذين أخذتهم الرجفة هم الذين سألوا موسى رؤية الله جهرة ، وسيأتي في الأعراف بسط ذلك إن شاء الله .
دلت الآية على أن طلب رؤيته تعالى في الدنيا مستنكر غير جائر ، ولذا لم يذكر ، سبحانه وتعالى ، سؤال الرؤية إلا استعظمه ، وذلك في آيات : منها هذه . ومنها قوله تعالى : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ } [ النساء : 153 ] . ومنها قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } [ الفرقان : 21 ] فدلت هذه التهويلات الفظيعة الواردة لطالبيها في الدنيا على امتناعها فيها . وكما أخبر تعالى بأنه لا يرى في الدنيا ، فقد وعد الوعد الصادق عز وجل برؤيته في الدار الآخرة في آيات عديدة ، كما تواترت الأحاديث الصحيحة بذلك ، وهي قطيعة الدلالة ، لا ينبغي لمنصفٍ أن يتمسك في مقابلها بتلك القواعد الكلامية التي جاء بها قدماء المعتزلة ، وزعموا أن العقل قد حكم بها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ 57 ]
{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم شرع يذكرهم أيضاً بما أسبغ عليهم من النعم ، فمنها تظليل الغمام عليهم ، وذلك أنهم كانت تظلهم سحابة إذا ارتحلوا ، لئلا تؤذيهم حرارة الشمس ، وقد ذكر تفصيل شأنها في توراتهم في الفصل التاسع من سفر العدد ، ومنها إنزال المنّ .
وقد روي في التوراة أنهم لما ارتحلوا من إيليم ، وأتوا إلى برية سين ، التي [ في المطبوع : الت ] بين إيليم وسيناء ، في منتصف الشهر الثاني بعد خروجهم من مصر ، تذمروا على موسى وهارون في البرية ، وقالوا لهما : ليتنا متنا في أرض مصر ؛ إذ كنا نأكل خبزاً ولحماً ، فأخرجتمانا إلى هذه البرية لتُهلكا هذا الجمع بالجوع . فأوحى تعالى لموسى عليه السلام إني أمطر عليكم خبزاً من السماء ، فليخرج الشعب ، ويلتقطوا [ في المطبوع : ويلتقطون ] حاجة اليوم بيومها طعامهم من أجل أني أمتحنهم ، هل يمشون في شريعتي أم لا ، وليكونوا في اليوم السادس أنهم يهيؤون ضِعف ما يلتقطونه يوماً فيوماً . لأن اليوم السابع يوم عيد لا يُشخص فيه لأمر المعيشة ولا لطلبة شيء .
فقال لهم موسى : إن الرب تعالى يعطيكم عند المساء لحماً تأكلون ، وبالغداة تشبعون خبزاً . فكان في المساء أن السلوى صعدت وغطت المحلة ، وبالغداة أيضاً وقع الندى حول المحلة ، ولما غطى وجه الأرض تباين في البرية شيء رقيق كأنه مدقوق بالمدقة ، يشبه الجليد على الأرض ، فلما نظر إليه بنو إسرائيل قالوا : ما هذا ؟ لأنهم لم يعرفوه . فقال لهم موسى : هذا هو الخبز الذي أعطاكم الرب لتأكلوا ، وقد أمركم أن يلقط كل واحد على قدر ما في بيته ، وقدر مأكله . ففعل بنو إسرائيل كذلك ، ولقطوا ما بين مكثّر ومقلّل ، وقال لهم موسى : لا تبقوا منه شيئاً إلى الغد . فلم يطيعوا موسى ، واستفضل منه رجال إلى الغد ، فضرب فيه الدود ونتن ، فغضب عليهم موسى ، وكانوا يلقطون غدوة ، كل إنسان يلقط على قدر ما يأكل ، فإذا أصابه حر الشمس ذاب . وقد أُعطوا في اليوم السادس خبز يومين ليجلس كل رجل منهم في مكانه في اليوم السابع ، راحةً وتقديساً له . وكان إذا خرج بعض الشعب ليلقط ، يوم السابع ، لا يجد في الأرض منه شيئاً . ودعا آل إسرائيل اسمه المنّ ، وكان مثل حب الكُزْبُرة أبيض ، وطعمه كرقاق بعسل ، وأكل بنو إسرائيل المنّ أربعين سنة حتى أتو إلى الأرض العامرة ، ودنوا من تخوم أرض كنعان . وروي في ترجمة التوراة أيضاً أن المنّ كان يشبه لون اللؤلؤ ، وكان يطوف الشعب ويلتقطونه ويطحنونه بالرحى . ويدقونه في الهاون ويطبخونه في القدور ، ويعملون منه رغفاً طعمها كالخبز المعجون بالدهن . ومتى نزل الندى على المحلة ليلاً كان ينزل المن معه .
هذا ما كان من أمر المن . وأما السلوى فروي أيضاً : أن جماعة ممن صعد مع بني إسرائيل من مصر تاقت أنفسهم للحم ، وجلسوا يبكون ، ووافقهم بنو إسرائيل على اشتهائه أيضاً ، وقالوا : من يطعنا لحماً لنأكل ؟ قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله بمصر من غير ثمن ، والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم ، والآن قد يبست نفوسنا ولا تنظر عيوننا إلا المنّ . فلما سمع موسى الشعب يبكون بعشائرهم ، وعلم غضب الرب عليهم ، لذلك ، ابتهل إلى ربه وقال : من أين لي لحم أطعم منه هذا الجمع وهم يبكون عليّ ، ويقولون أعطنا لحماً لنأكل ؟ فأوحى إليه ربه أن يجمع سبعين رجلاً من شيوخ شعبه وعرفائه ، ويقبل بهم إلى خيمة الاجتماع فيكونوا معه ، ثم كلمه ربه ووعده أن يعطيه لحماَ يأكلون منه شهراً حتى يأنفوا منه . فأخبر موسى الشعب بذلك ، ثم انحاز إلى المحلة هو وشيوخ قومه ، فخرجت ريح وحملت السلوى من البحر وألقتها على المحلة مسيرة يوم حول المحلة من كل جانب ، وكانت تطير بالجوّ ذراعين على الأرض ، وقام الشعب يومهم ذلك كله والليل . وفي غد اليوم الثاني ، فجمعوا السلوى أقل من جمع عشرة أكرار ، سطحوه سطيحاً ويبسوه حول المحلة . وقبل أن ينقطع اللحم من عندهم غضب الرب تعالى على الشعب ؛ فضربه ضربة عظيمة جداً ، ودعي اسم ذلك الموضع قبور الشهوة ؛ لأنهم هناك دفنوا القوم الذين اشتهوا ، ثم خرجوا من قبور الشهوة ، وارتحلوا لغيره . انتهى .
وقوله تعالى : { كلوا } على إدارة القول أي : قائلين لهم ، أو قيل لهم كلوا . وقوله : { وما ظلمونا } كلام عدل به عن نهج الخطاب السابق للإيذان باقتضاء جنايات المخاطبين للإعراض عنهم وتعداد قبائحهم عند غيرهم على طريق المباثة . معطوف على مضمر قد حذف للإيجاز ، والإشعار بأنه أمر محقق غنيّ عن التصريح به ؛ أي : فظلموا بأن أكثروا من التضجر والتذمر على ربهم وشكوى سكناهم في البرية وفراقهم مصر ، وما ظلمونا بذلك ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، بالعصيان ؛ إذ لا يتخطاهم ضرره ، وبذلك حق عليهم العذاب الذي ضربوا به كما ذكرناه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } [ 58 ، 59 ]
{ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } هذا إشارة إلى ما حلّ ببني إسرائيل لما نكلوا عن الجهاد ودخولهم الأرض المقدسة ، أرضَ كنعان ، لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى عليه السلام ، وإنما أطلق على الأرض المذكورة قرية ؛ لأن القرية : كل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قراراً . وتقع على المدن وغيرها . كذا في " كفاية المتحفظ " ثم إنّ ما قصّ هنا ذكر في سورة المائدة في قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } [ المائدة : 20 - 22 ] الآيات .
وقوله تعالى : { ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً } في التأويلات : يحتمل المراد من الباب حقيقة الباب ، وهو باب القرية التي أمروا بالدخول فيها . ويحتمل من الباب القرية نفسها ، لا حقيقة الباب كقوله : { وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية } ذكر القرية ولم يذكر الباب ، وذلك في اللغة جائز . ويقال : فلان دخل في باب كذا . لا يعنون حقيقة الباب ، ولكن كونه في أمر هو فيه .
وقوله : { سجداً } يحتمل المراد من السجود : حقيقة السجود . فيُخرّج على وجوه : على التحية لذلك المكان ، ويحتمل على الشكر له لما أهلك أعداءهم الجبارين ، ويحتمل الكناية عن الصلاة ؛ إذ العرب قد تسمّي السجود : صلاة ، كأنهم أُمروا بالصلاة فيها ، ويحتمل أن الأمر بالسجود لا على حقيقة السجود والصلاة ولكن أمر بالخضوع له ، والطاعة والشكر على أياديه والله أعلم .
وقوله تعالى : { وقولوا حطة } خبر محذوف ، أي : مسألتنا حطة . والأصل النصب ؛ بمعنى : حطّ عنّا ذنوبنا حطة ، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات .
وقوله سبحانه : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } أي : بدّلوا أمر تعالى لهم
بدخول الأرض مجاهدين بالإحجام عنه ، وتثبيط الناس . ولذا قال أبو مسلم : قوله تعالى : { فبدل } يدلّ على أنهم لم يفعلوا ما أمروا به ، لا على أنهم أتوا له ببدل . والدليل عليه : أن تبديل القول قد يستعمل في المخالفة . قال تعالى : { سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ } إلى قوله : { يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ } [ الفتح : 15 ] ولم يكن تبديلهم إلاّ الخلاف في الفعل لا في القول . فكذا هنا ، فيكون المعنى : إنهم لما أمروا بدخول الأرض ، وما ذكر معه ، لم يمتثلوا أمر الله ، ولم يلتفتوا إليه .
وفي تكرير : { الَّذِينَ ظَلَمُواْ } زيادة في تقبيح أمرهم ، وإيذان بأن إنزال الرجز عليهم لظلمهم . والرجز : هو الموت بغتة ، كما تقدّم .
قال الراغب : وتخصيص قوله : { رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء } هو أنّ العذاب ضربان : ضرب قد يمكن على بعض الوجوه دفاعه ، أو يظنّ أنه يمكن فيه ذلك ، وهو كلّ عذاب على يد آدميّ ، أو من جهة المخلوقات كالهدم والغرق ، وضرب لا يمكن ولا يظنّ دفاعه بقوّة آدميّ كالطاعون ، والصاعقة ، والموت وهو المعنيّ بقوله : { رجزاً من السماء } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [ 60 ]
هذا تذكير لنعمة أخرى كفروها . وروي في توراتهم أنه ارتحلت كل جماعة بني إسرائيل من برية سينا بأمره تعالى ، وحلوا في رقادين ، ولم يكن هناك ماء ليشربوا ، فخاصموا موسى ، وقالوا له أعطنا ماء لنشرب ، أخرجتنا من مصر لتقتلنا نحن وأولادنا ، ودوابنا بالعطش ؟ فابتهل موسى إلى ربه في السقيا ، فأوحى إليه أن أمض أمام الشعب ، وخذ معك من شيوخ إسرائيل ، والعصا التي ضربت بها النهر خذها بيدك ، واذهب إلى صخرة حوريب ، فاضربها فيخرج منها ماء ليشرب الشعب . ففعل موسى كذلك أمام شيوخ إسرائيل . انتهى .
وقوله تعالى : { اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً } أي : عدد أسباط يعقوب الاثني عشر ، لكل سبط منهم عين قد عرفوها . قال الراغب : وأنكر ذلك بعض الطبيعيين واستبعده ، وهذا المنكر ، مع أنه لم يتصور قدرة الله تعالى في تغيير الطبائع والاستحالات الخارجة عن العادات ، فقد ترك النظر على طريقته ؛ إذ قد تقرر عندهم أن حجر المغناطيس يجر الحديد ، وأن الحجر المنفر للنحل ينفره ، والحجر الحلاق يحلق الشعر ، وذلك كله عندهم من أسرار الطبيعة ، وإذا لم يكن مثل ذلك منكراً عندهم ، فغير ممتنع أن يخلق الله حجراً يسخره لجذب الماء من تحت الأرض . وقوله : { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } أي : لا تمشوا في الأرض بالفساد ، وخلاف أمر موسى . قال الراغب : فإن قيل : فما فائدة قوله : { مفسدين } والعثوّ ضرب من الإفساد ؟ قيل : قد قال بعض النحويين : إن ذلك حال مؤكدة ، وذكر ألفاظاً مما يشبه . وقال بعض المحققين : إن العثو ، وإن اقتضى الفساد ، فليس بموضوع له ، بل هو كالاعتداء ، وقد يوجد في الاعتداء ما ليس بفساد ، وهو مقابلة المعتدي بفعله نحو : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 194 ] ، وهذا الاعتداء ليس بإفساد ، بل هو بالاضافة إلى ما قوبل به ، عدل . ولولا كونه جزاءً لكان إفساداً . فبين تعالى أن العثو المنهي عنه ، هو المقصود به الإفساد . فالإفساد مكروه على الإطلاق ، ولهذا قال : { وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا } [ الأعراف : 56 ] ، وقد يكون في صورة العثو والتعدي ما هو صلاح وعدل ، كما تقدم . وهذا ظاهر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } [ 61 ] : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ } قال قتادة : لما ملّوا طعامهم وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه قبل ذلك ، قالوا ذلك . قال الراغب : إن قيل : كيف قال : { لن نصبر على طعام واحد } وكان لهم المن والسلوى ، قيل : إن ذلك إشارة إلى مساواته في الأزمنة المختلفة ، كقولك : فلان يفعل فعلاً واحداً في كل يوم ، وإن كثرت أفعاله ، إذا تحرى طريقة واحدة وداوم عليها . وهذا المعنى في إنكار الطعام أبلغ ؛ لأنهم لم يكتفوا في إنكاره بقولهم : { لن نصبر على طعام } ، حتى أكدوا بقولهم : { واحداً } أو أرادوا بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدل .
{ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا } هو الثوم لقراءة ابن مسعود " وثومها " وللتصريح به في التوراة في هذه القصة . وقد ذكر ابن جرير شواهد لإبدال الثاء فاءً لتقارب مخرجيهما كقولهم للأثافي : أثاثي ، وقولهم وقعوا في عاثور شر وعافور شر ، وللمغافير : مغاثير { وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى } أي : أدون قدراً ، وأصل الدنوّ القرب في المكان ، فاستعير للخسة ، كما استعير البعد للشرف والرفعة ، فقيل : بعيد الهمة { بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } أي : بقابلة ما هو خير ، أي : أرفع وأجل ، وهو المنّ الذي فيه الحلاوة التي تألفها أغلب الطباع البشرية ، والسلوى من أطيب لحوم الطير ، وفي مجموعهما غذاء تقوم به البنية . وليس فيما طلبوه ما يساويهما لذة ولا تغذية : { اهْبِطُواْ مِصْراً } هكذا هو منوّن مصروف مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية ، وهو قراءة الجمهور ، بالصرف . قال ابن جرير : ولا أستجيز القراءة بغير ذلك . لإجماع المصاحف [ في المطبوع : المصحف ] على ذلك ، أي : من الأمصار ، أي : انحدروا إليه : { فَإِنَّ لَكُم } فيها : { مَّا سَأَلْتُمْ } أي : فإن الذي سألتم يكون في الأمصار لا في القفار ، والمعنى أن هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز ، بل هو كثير ، في أي : بلد دخلتموها وجدتموه . فليس يساوي مع دناءته ، وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه . ولما حكى الله تعالى إنكار موسى عليه السلام على اليهود استبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير ، بعد تعداد النعم ، جاء بحكاية سوء صنيعهم بالأنبياء ، وكفرهم ، واعتدائهم ، وضرب الذلة عليهم لذلك ، استطراداً ، فقال : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ } فمن هنا إلى قوله : { فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } معترض في خلال القصص المتعلقة بحكاية أحوال بني إسرائيل الذين كانوا في عهد موسى ، يدل هذا على قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } فإن قتل الأنبياء إنما كان من فروعهم وذريتهم . والذلة بالكسر الصَغار والهوان والحقارة . والذُّل بالضم ضد العز . والمسكنة مفعلة من السكون ، لأن المسكين قليل الحركة والنهوض ، لما به من الفقر ، والمسكين مفعيل منه كذا في " السمين " وفي الذلة استعارة بالكناية حيث شبهت بالقبة في الشمول والإحاطة ، أو شبهت الذلة بهم بلصوق الطين بالحائط في عدم الانفكاك . وهذا الخبر الذي أخبر الله تعالى به هو معلوم في جميع الأزمنة ، فإن اليهود أذل الفرق ، وأشدهم مسكنة ، وأكثرهم تصاغراً ، لم ينتظم لهم جمع ، ولا خفقت على رؤوسهم راية ، ولا ثبتت له ولاية ، بل ما زالوا عبيد العصى في كل زمن ، وطروقة كل فحل في كل عصر ، ومن تمسك منهم بنصيب من المال ، وإن بلغ في الكثرة أي : مبلغ ، فهو مرتد بأثواب المسكنة .
{ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ } أي : رجعوا به ، أي : صار عليهم ، أو صاروا أحقاء به . من قولهم . باء فلان بفلان ، أي : صار حقيقاً أن يقتل بمقابلته . فالباء على التقديرين صلة باؤوا ، لا للملابسة . وإلا لاحتيج اعتبار المرجوع إليه ، ولا دلالة في الكلام عليه : { ذَلِكَ } إشارة إلى ما سلف من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب العظيم : { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم : { كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ } الباهرة التي ظهرت على يدي عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام : { وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } كزكريا ويحيى عليهما السلام . وقتل الأنبياء في بني إسرائيل كان ظاهراً ، ولم يذكر قتل رسول من الرسل . وذلك والله أعلم لقوله : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا } [ غافر : 51 ] وقوله : { إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ } [ الصافات : 172 ] وقال قوم : لم يقتل أحد من الرسل ، وإنما قتل الأنبياء ، أو رسل الرسل ، والله أعلم . كذا في التأويلات .
وقوله : { بغير الحق } لم يخرج مخرج التقييد ، حتى يقال إنه لا يكون قتل الأنبياء بحق في حال من الأحوال ، لمكان العصمة . بل المراد نعي هذا الأمر عليهم ، وتعظيمه ، وأنه ظلم بحت في نفس الأمر ، حملهم عليه اتباع الهوى وحب الدنيا ، والغلوّ في العصيان ، والاعتداء ، كما يفصح عنه قوله تعالى : { ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } أي : جرّهم العصيان والتمادي في العدوان إلى ما ذكر من الكفر ، وقتل الأنبياء عليهم السلام . وقيل : كررت الإشارة للدلالة على أن ما لحقهم ، كما أنه بسبب الكفر والقتل ، فهو بسبب ارتكابهم المعاصي ، واعتدائهم حدود الله تعالى . وعليه فيكون ذكر علل إنزال العقوبة بهم في نهاية حسن الترتيب ؛ إذ بدىء أولاً بما فعلوه في حق الله تعالى وهو كفرهم بآياته . ثم ثُنّي بما يتلوه في العظم ، وهو قتل الأنبياء ، ثم بما يكون منهم من المعاصي التي تخصهم ، ثم بما يكون منهم من المعاصي المعتدية إلى الغير ، مثل الاعتداء . وهذا من " لطائف أسلوب التنزيل " .
ثم أعلم تعالى بأن باب التوبة مفتوح على الوجه العامّ لليهود وغيرهم . وأن من ارتكب كبائر الذنوب التي تستوجب الغضب الإلهيّ ، وضرب الذلة والمسكنة ، كما حل باليهود ، إذا آمن وتاب فله في الدنيا والآخرة ما للمؤمنين . وعادة التنزيل جارية بأنه متى ذكر وعد أو وعيد ، عقب بضده ليكون الكلام تاماً فقيل :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ 62 ]
أي إن الذين آمنوا بما دعا إليه محمد صلى الله عليه وسلم ، وصاروا من جملة أتباعه . قال في " فتح البيان " : كأنه سبحانه أراد أن يبين أن حال هذه الملة الإسلامية ، وحال من قبلها من سائر الملل ، يرجع إلى شيء واحد ، وهو أن من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً استحق ما ذكره الله من الأجر . ومن فاته ذلك فاته الخير كله ، والأجر دقه وجله . والمراد بالإيمان ههنا هو ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله ، لما سأله جبريل عليه السلام عن الإيمان فقال : < أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره > . ولا يتصف بهذا الإيمان إلا من دخل في الملة الإسلامية . فمن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا بالقرآن ، فليس بمؤمن . ومن آمن بهما صار مسلماً مؤمناً ، ولم يبق يهودياً ولا نصرانياً ولا مجوسياً . انتهى .
قال الراغب في تفسيره : تقدم أن الإيمان يستعمل على وجهين : أحدهما الإقرار بالشهادتين ، الذي يؤمّن نفس الْإِنْسَاْن ، وماله عن الإباحة إلا بحق ، وذلك بعد استقرار هذا الدين مختص به كالإسلام . والثاني تحري اليقين فيما يتعاطاه الْإِنْسَاْن من أمر دينه . فقوله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ } عنى به المتديّن بدين محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله : { من آمن بالله } عنى به المتحري للاعتقاد اليقيني ، فهو غير الأول . ولما كانت مشاهير الأديان هذه الأربع ، بيّن تعالى أن كل من تعاطى ديناً من هذه الأديان في وقت شرعه ، وقبل أن ينسخ ، فتحرى في ذلك الاعتقاد اليقينيّ ، وأتبع اعتقاده بالأعمال الصالحة ، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
ثم قال : وقول ابن عباس : إن هذا منسوخ بقوله : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عِمْرَان : 85 ] ، يعنون أن هذه الأديان كلها منسوخة بدين الإسلام ، وأن الله عز وجل جعل لهم الأجر قبل وقت النبيّ عليه السلام . فأما في وقته ، فالأديان كلها منسوخة بدينه . أي : فليس مراد ابن عباس ، ومن وافقه ، أنه تعالى كان وعد من عَمِل صالحاً من اليهود ، ومن ذكر معهم على عمله ، في الآخرة الجنة ، ثم نسخه بآية : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } بل مراده ما ذكر الراغب . وهذا ما لا شبهة فيه . ولذا قال ابن جرير : ظاهر التنزيل يدل على أنه تعالى لم يخصص بالأجر على العمل الصالح مع الإيمان ، بعض خلقه دون بعض منهم ، والخبر بقوله : { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } عن جميع ما ذكر في أول الآية .
تنبيه :
ظاهر هذه الآية ، مع تفسير الراغب : { مَنْ آمَنَ } بالمتحري للاعتقاد اليقينيّ ، مما قد يستدل به العنبريّ لمذهبه . فقد نقل الأصوليون في باب الاجتهاد والتقليد أن العنبريّ ذهب إلى كل مجتهد مصيب ، حتى في الأصول ، ووافقه الجاحظ . قال الغزالي في " المستصفى " : ذهب الجاحظ إلى أن مخالف ملة الإسلام من اليهود والنصارى والدهرية ، إن كان معانداً على خلاف اعتقاده ، فهو آثم ، وإن نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم ، وإن لم ينظر من حيث لم يعرف وجوب النظر ، فهو أيضاً معذور ، وإنما الآثم المعذب المعاند فقط ؛ لأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها ، وهؤلاء قد عجزوا عن دَرك الحق ، ولزموا عقائدهم خوفاً من الله تعالى ؛ إذ استُدّ عليهم طريق المعرفة . ثم ردّه الغزاليّ بأدلة سمعية ضرورية ، وذلك مثل معرفتنا ضرورة أمره عليه السلام اليهود والنصارى بالإيمان به ، وذمّهم على إصرارهم على عقائدهم ، وذلك لا ينحصر في الكتاب والسنة .
ثم قال الغزاليّ : وأما قوله - أي : الجاحظ - : كيف يكلفهم ما لا يطيقون ؟ قلنا : نعلم ضرورة أنه كلفهم ، أما أنهم يطيقون أو لا يطيقون ، فلننظر فيه ، بل نبه الله تعالى على أنه أقدرهم عليه بما رزقهم من العقل ، ونصب من الأدلة ، وبعث من الرسل المؤيدين بالمعجزات ، الذين نبّهوا العقول ، وحركوا دواعي النظر ، حتى لم يبق على الله لأحد حجة بعد الرسل . وقوله : { وَالَّذِينَ هَادُواْ } أي : تهودوا . يقال : هاد يهود ، وتهوّد ، إذا دخل في اليهودية . هو هائد ، والجمع هود . وهم أمة موسى عليه السلام ، وإنما لزمهم هذا الاسم ؛ لأن الإسرائيليين الذين رجعوا من جلاء سبعين سنة ، ومن سبي بابل إلى وطنهم القديم ، كان أكثرهم من نسل يهوذا بن يعقوب - بالذال المعجمة ، فقلبتها العرب دالاً مهملة - .
وقوله تعالى : { وَالنَّصَارَى } جمع نصران ، كندامى جمع ندمان ، يقال : رجل نصران ، وامرأة نصرانية ، والياء في نصرانيّ للمبالغة ، كما في أحمريّ ، سُموا بذلك لأنهم نصروا المسيح عليه السلام . كذا في " الكشاف " أو هو جمع نصرانيّ ، مغير عن ناصريّ نسبة إلى ناصرة ، القرية المعروفة . وقد نسب إليها المسيح عليه السلام ، لأنه رُبِّيَ بها . وجاء في الإنجيل : يسوع الناصري .
وقوله تعالى : { والصابئين } جمع صابئ ، ويقال لهم الصابئة . قال ابن جرير : الصابئ هو المستحدث ، سوى دينه ، ديناً ، كالمرتد من أهل الإسلام عن دينه . وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره تسميه العرب : صابئاً . يقال منه : صبا فلان يصبو صباء ، ويقال : صبأت النجوم إذا طلعت .
وقد اختلف أهل التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم ، من أهل الملل ؟ . فقال بعضهم : يلزم ذلك كل من خرج من دين إلى غير دين . وقالوا : الذي عنى الله بهذا الاسم قوماً لا دين لهم ، فعن مجاهد : الصابئون ليسوا بيهود ولا نصارى ، ولا دين لهم . وعن ابن زيد : الصابئون دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل ، يقولون لا إله إلا الله ، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي ّ . وعن قتادة : أنهم قوم يعبدون الملائكة . وقال الإمام الشهرستانيّ ، في الكلام عن الصابئة ما مثاله : والصبوة في مقابلة الحنيفية . وفي اللغة : صبا الرجل إذا مال وزاغ . فبحكم ميل هؤلاء عن سنن الحق وزيغهم عن نهج الأنبياء قيل لهم : الصابئة . وهم يقولون : الصبوة هو الانحلال عن قيد الرجال . وإنما مدار مذهبهم على التعصب للروحانيين ، كما أن مدار مذهب الحنفاء هو التعصب للبشر الجسمانيين .
والصابئة تدعي أن مذهبها هو الاكتساب ، [ و ] الحنفاء تدعي أن مذهبها هو الفطرة . فدعوة الصابئة إلى الاكتساب ، ودعوة الحنفاء إلى الفطرة ، فالصابئة قوم يقولون بحدود وأحكام عقلية ، ولا يقولون بالشريعة والإسلام . فيقابلون أرباب الديانات تقابل التضاد . والصابئة الأولى الذين قالوا بعاذيمون وهرمس ، وهما شيت وإدريس ، ولم يقولوا بغيرهما من الأنبياء . وهم أصحاب الروحانيات . فيعتقدون أن للعالم صانعاً حكيماً مقدّساً عن سمات الحدثان . والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله ، وإنما يُتقرب إليه بالمتوسطات المقربين لديه ، وهم الروحانيون المطهرون المقدسون جوهراً وفعلاً وحالة . أما الجوهر فهم المقدسون عن المواد الجسمانية ، الذين جبلوا على الطهارة ، وفطروا على التقديس والتسبيح ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . قالوا فنحن نتقرب إليهم ونتوكل عليهم ، منهم أربابنا وآلهتنا وشفعاؤنا عند الله ، وهو رب الأرباب .
وأما الفعل ، فقالوا : الروحانيات هم الأسباب المتوسطون في الاختراع وتصريف الأمور من حال إلى حال ، يستمدون القوة من الحضرة الإلهية ، ويفيضون الفيض على الموجودات السفلية ، فمنها مدبرات الكواكب السبع السيارة في أفلاكها وهي هياكلها ، ولكل روحاني هيكل ، ولكل هيكل فلك ، ونسبة الروحاني إلى ذلك الهيكل الذي اختص به نسبة الروح إلى الجسد ، فهو ربه ومدبره . - وكانوا يسمون الهياكل أرباباً ، وربما يسمونها آباء ، والعناصر أمهات - ، ففعل الروحانيات : تحريكها على قدر مخصوص ليحصل من حركاتها انفعالات في الطبائع والعناصر ، فيحصل من ذلك تركيبات وامتزاجات في المركبات ، فيتبعها قوى جسمانية ويركب عليها نفوس روحانية : مثل أنواع النبات وأنواع الحيوان . ثم قد تكون التأثيرات كليّة صادرة عن روحانيّ كليّ ، وقد تكون جزئية صادرة عن روحاني جزئيّ . فمع جنس المطر ملك ، ومع كل قطرة ملك . ومنها مدبرات الآثار العلوية الظاهرة في الجوّ مما يصعد من الأرض فينزل ، مثل الأمطار والثلوج والبرد والرياح ، وما ينزل من السماء : مثل الصواعق والشهب ، وما يحدث في الجو من الرعد ، والبرق ، والسحاب ، والضباب ، وقوس قزح ، وذوات الأذناب ، والهالة ، والمجرة ، وما يحدث في الأرض من الزلازل ، والمياه ، والأبخرة ، إلى غير ذلك .
قالوا : وأما الحالة ، فأحوال الروحانيات من الروح والريحان والنعمة واللذة والسرور في جوار رب الأرباب كيف يخفى ؟ .
هذا ملخص ما أفاده العلامة الشهرستانيّ في كتاب " الملل والنحل " ثم ساق مناظرات ومحاورات بين الصابئة والحنفاء جرت في المفاضلة بين الروحاني المحض ، والبشرية النبوية . وأوردها على شكل سؤال وجواب . فلتنظر ثَمَّ .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه في " الرد على المنطقيين " : إن حرّان كانت دار هؤلاء الصابئة ، وفيها ولد إبراهيم عليه السلام ، أو انتقل إليها من العراق . على اختلاف القولين وكان بها هيكل العّلة الأولى ، هيكل العقل الأول ، هيكل النفس الكلية ، هيكل زحل . هيكل المشتري . هيكل المريخ ، هيكل الشمس . وكذلك الزهرة ، وعطارد ، والقمر . وكان هذا دينهم قبل ظهور النصرانية فيهم . ثم ظهرت النصرانية فيهم مع بقاء أولئك الصابئة المشركين ، حتى جاء الإسلام ، ولم يزل بها الصابئة والفلاسفة في دولة الإسلام إلى آخر وقت ، ومنهم الصابئة الذين كانوا ببغداد وغيرها ، أطباء وكتاباً ، وبعضهم لم يسلم . وكذلك كان دين أهل دمشق وغيرها قبل ظهور النصرانية . وكانوا يصلّون إلى القطب الشماليّ . وتحت جامع دمشق مَعْبَد كبير له قبلة إلى القطب الشماليّ كان لهؤلاء .
فإن الصابئة نوعان : صابئة حنفاء موحّدون ، وصابئة مشركون . فالأول هم الذين أثنى الله عليهم بهذه الآية . فأثنى على من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً ، من هذه الملل الأربع : المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين ، فهؤلاء كانوا يدينون بالتوراة قبل النسخ والتبديل ، وكذلك الذين دانوا بالإنجيل قبل النسخ والتبديل .
والصابئون الذين كانوا قبل هؤلاء ، كالمتبعين ملة إبراهيم إمام الحنفاء قبل نزول التوراة والإنجيل . وهذا بخلاف المجوس والمشركين ، فإنه ليس فيهم مؤمن . فلهذا قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصابئينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ الحج : 17 ] ، فذكر الملل الست هؤلاء ، وأخبر أنه يفصل بينهم يوم القيامة . لم يذكر في الست من كان مؤمناً ، وإنما ذكر ذلك في الأربعة فقط . ثم إن الصابئين ابتدعوا الشرك فصاروا مشركين ، والفلاسفة المشركون من هؤلاء المشركين .
وأما قدماء الفلاسفة الذين كانوا يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئاً ، ويؤمنون بأن الله محدث لهذا العالم ، ويقرون بمعاد الأبدان ، فأولئك من الصابئة الحنفاء الذين أثنى الله عليهم . ثم المشركون من الصابئة كانوا يقرون بحدوث هذا العالم كما كان المشركون من العرب يقرون بحدوثه . وكذلك المشركون من الهند . وقد ذكر أهل المقالات أن أول من ظهر عنه القول بقدمه من هؤلاء الفلاسفة المشركين ، هو أرسطو . انتهى .
وما قرره الإمام ابن تيمية ، يؤيد ما ذهب إليه كثير من المفسرين ، من أن معنى قوله تعالى : { مَنْ آمَنَ } من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ ، مصدقاً بقلبه بالمبدأ والمعاد ، علاماً بمقتضى شرعه ، وذلك كأهل الكتابين أو كان من الصابئة الموحدين . وذهب آخرون إلى أن معنى قوله : { مَنْ آمَنَ } من أحدث من هذه الطوائف ، إيماناً خالصاً بما ذكر . قالوا : لأن مقتضى المقام هو الترغيب في دين الإسلام . وأما بيان حال من مضى على دين آخر قبل انتساخه ، فلا ملابسة له بالمقام ، والصابئون ليس لهم دين يجوز رعايته في وقت من الأوقات . فليتأمل .
وقوله تعالى : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } أي : الذي وعدوه على تلك الأعمال المشروطة بالإيمان ، وهو في الأصل جعل العامل على عمله . وفي قوله : { عِندَ رَبِّهِمْ } مزيد لطف بهم وإيذان بأن أجرهم متيقن الثبوت ، مأمون من الفوات . وقوله تعالى : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي : حين يخاف الكفار العقاب ويحزنون على تفويت الثواب .
تنبيه :
قال العلامة البقاعي في تفسيره : وحسن وضع هذه الآية ، في أثناء قصصهم ، أنهم كانوا مأمورين بقتل كل ذكر ممن عداهم . وربما أمروا بقتل النساء أيضاً . فربما ظن من ذلك أن من آمن من غيرهم لا يقبل . وقد ذكر منه في سورة المائدة ، وفي وضعها أيضاً في أثناء قصصهم ، إشارة إلى تكذيبهم في قولهم : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } [ آل عِمْرَان : 75 ] وأن المدار في عصمة الدم والمال إنما هو الإيمان والاستقامة . وذلك موجود في نص التوراة في غير موضع . وفيها تهديدهم على المخالفة في ذلك بالذل والمسكنة . وسيأتي بعض ذلك عند قوله : { لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ } [ البقرة : 83 ] الآية . بل وفيها ما يقتضي المنع من مال المخالف في الدين ، فإنه قال في وسط السفر الثاني : وإذا لقيت ثور عدوّك أو حماره وعليه حمولة فارددها إليه . وإذا رأيت حمار عدوك جاثماً تحت حمله فهممت أن لا توازره فوازره وساعده . ثم رجع إلى قصصهم على أحسن وجه فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ 63 ]
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ } تذكيراً لجناية أخرى لأسلافهم ، أي : واذكروا وقت أخذنا لميثاقكم بالمحافظة على ما في التوراة ، { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ } ترهيباً لكم لتقبلوا الميثاق . وذلك أن الطور اقتلع من أصله ، ورفع وظلل فوقهم . والطور : هو الجبل . وقيل لهم وهم مظلٌّ [ في المطبوع : مطلٌّ ] فوقهم : { خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم } من الكتاب : { بِقُوَّةٍ } أي : بجد واجتهاد : { وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ } واحفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } لكي تتقوا المعاصي ، أو رجاء منكم أن تنتظموا في سلك المتقين ، أو طلباً لذلك .
وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة الأعراف : { وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأعراف : 171 ] .
قال الراغب : إن قيل إن هذا يكون إلجاء ولا يستحق به الثواب ، قيل : لم يستحقوا الثواب بالالتزام ، وإنما استحقوه بالعمل بها من بعد . فأما في التزامها فمضطرون ، قال بعض الناس : عنى بالطور تشديد الأمر عليهم ، وجعل ذلك مثلاً . وذلك بعيد . ومثله قال القاشانيّ : طور الدماغ للتمكن من فهم المعاني وقبولها . فإنه بعيد يأباه ظاهر الآية الأخرى . وإن كان الإطلاق في اللغة لا ينحصر في الحقيقة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ } [ 64 ]
{ ثُمَّ تَوَلَّيْتُم } أي : أعرضتم عن الوفاء بالميثاق : { مِّن بَعْدِ ذَلِكَ } أي : من بعد أخذ ذلك الميثاق المؤكد : { فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } أي : لكم بتوفيقكم للتوبة ، أو تأخير العذاب { لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ } أي : الهالكين بالعقوبة .
قال الراغب : الخاسر المطلق ، في القرآن ، هو الذي خسر أعظم ما يقتني ، وذلك نعيم الأبد ، وهو المذكور في قوله : { قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [ الزمر : 15 ] .
وقال القفال : قد يعلم في الجملة أنهم بعد قبول التوراة ورفع الطور ، تولوا عن التوراة بأمور كثيرة ؛ فحرفوا كلمها عن مواضعه ، وتركوا العلم بها ، وقتلوا الأنبياء ، وكفروا بهم ، وعصوا أمرهم . ومنها ما عمله أوائلهم ، ومنها ما فعله متأخروهم ، ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلاً ونهاراً يخالفون موسى ويعترضون عليه ، ويلقونه بكل أذى ويجاهرون بالمعاصي في معسكرهم ذلك . حتى لقد خسف ببعضهم ، وأحرقت النار بعضهم وعوقبوا بالطاعون . وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرون بها ، ثم فعل متأخروهم ما لا خفاء به . حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس ، وكفروا بالمسيح ، وهموا بقتله .
والقرآن ، وإن لم يكن فيه بيان ما تولوا به عن التوراة ، فالجملة معروفة ، وذلك إخبار من الله تعالى عن عناد أسلافهم . فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام من الكتاب ، وجحودهم لحقه . وحالهم في كتابهم ونبيهم ما ذكر . والله أعلم .
ثم ذكرّهم تعالى بالإيقاع بمن نقض ميثاقه وفيما أخذه عليهم من تعظيم السبت بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [ 65 ]
{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ } أي : تعمدوا العدوان : { مِنكُمْ فِي السَّبْتِ } بأن استحلوه وتحيّلوا على اصطياد الحيتان فيه . وذلك أن الله ابتلاهم ، فما كان يبقى حوت في البحر إلا أخرج خرطومه يوم السبت ، فإذا مضى تفرقت كما قال : { تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ } [ الأعراف : 163 ] ، فحفروا حياضاً عند البحر ، وشرعوا إليها الجداول ، فكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد . فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم . فتسبب عن اعتدائهم المذكور ما ذكره تعالى بقوله : { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } أي : صاغرين مطرودين مبعدين من الخير ، أذلاء . وقد روي عن الضحاك وقتادة : أنهم مسخوا قردة ، لها أذناب تعاوى ، بعد ما كانوا رجالاً ونساء . وأما مجاهد فقال : مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة . وإنما هو مثل ضربه الله لهم كمثل الحمار يحمل أسفاراً . رواه ابن جرير . وهكذا قال القاشانيّ : { كُونُواْ قِرَدَةً } أي : مشابهين الناس في الصورة وليسوا بهم . ثم قال : والمسخ بالحقيقة حق غير منكر في الدنيا والآخرة . وردت به الآيات والأحاديث . وفي أثر : عدّ المسوخ ثلاثة عشر ، وبيان أعمالهم ومعاصيهم وموجبات مسخهم . والحاصل أن من غلب عليه وصف من أوصاف الحيوانات ، ورسخ فيه بحيث زال استعداده ، وتمكن في طبعه ، وصار صورة ذاتية له ، صار طبعه طبع ذلك الحيوان . ونفسه نفسه ، فصارت صفته صورته . وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف حيث يقول تعالى : { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [ الأعراف : 163 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } [ 66 ]
{ فَجَعَلْنَاهَا } أي : المسخة والعقوبة : { نَكَالاً } عبرة تنكل المعتبر بها ، أي : تمنعه وتردعه . ومنه النكل للقيد : { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } من المعاصي من أهل عالمها الشاهدين لها : { وَمَا خَلْفَهَا } ممن جاء بعدهم ، أو لأهل تلك القرية وما حواليها ، أو لما بحضرتها من القرى وما تباعد عنها : { وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } من قومهم ، أو لكل متق سمعها . وأشعر هذا أن التقوى عصمة من كل محذور ، وأن النقم تقع في غيرهم ، وعظاً لهم .
تنبيه :
أفادت هذه الآية التنويه بشأن يوم السبت عند الإسرائيليين ؛ إذ مستحلوه منهم مسخوا قردة . وفي ترجمة التوراة ما نصه : وكلم الرب موسى قائلاً : كلم بني إسرائيل ، تحفظون السبت لأنه مقدس لكم ، من دنّسه يقتل ، ومن صنع فيه عملاً يقطع من بين شعبه . في ستة أيام تصنع الأعمال ، وأما اليوم السابع ففيه سبت راحة ، وليحفظ بنو إسرائيل السبت ، وليتخذوه عيداً بأجيالهم . لأن الرب خلق السماء والأرض في ستة أيام ، وفرغ يوم السابع . وفيها أيضاً ما نصه : في ستة أيام تعمل عملك ، وأما اليوم السابع ففيه تستريح ، لكي يستريح ثورك وحمارك ويتنفس ابن أمتك والغريب . انتهى .
وقد حرم على اليهود فيه أن يُعدّوا طعامهم . بل حرم عليهم أن يوقدوا ناراً . وفي سفر نحميا في الفصل الثالث عشر ما نصه : وفي تلك الأيام رأيت في يهوذا قوماً يدوسون في المعاصر في السبت ، ويأتون بأكداسها يحملونها على الحمير ، وبخمر أيضاً ، وعنب وتين ، وكل حمل مما كانوا يأتون به إلى أورشليم في يوم السبت . فأشهدت عليهم يوم بيعهم الطعام . وكان الصوريون المقيمون بها يأتون بالسمك . وكل نوع من المبيعات ، ويبيعون في يوم السبت لبني يهوذا ، وفي أورشليم . فخاصمت عظماء يهوذا ، وقلت لهم : ما هذا الشرّ الذي تفعلونه وتدنّسون يوم السبت ؟ ألم تفعل آباؤكم هكذا ؟ فجلب إلهنا كل هذا الشر علينا وعلى هذه المدينة ، وأنتم تزيدون الغضب على بني إسرائيل بتدنيسكم السبت ، إلى آخره .
ولما بيّن تعالى قساوتهم في حقوقه العلية ، أتبعه ببيان قساوتهم في مصالح أنفسهم توبيخاً لأخلاقهم . مع الإشارة إلى نعمته عليهم في خرق العادة في شأن البقرة ، وبيان من هو القاتل بسببها ، وإحياء الله تعالى المقتول ، ونصه على من قتله منهم ، فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [ 67 ] . : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ } بني إسرائيل : { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } وذلك أنه وجد قتيل فيهم ، وكانوا يطالبون بدمه ، فأمرهم الله بذبح بقرة وأن يضربوه ببعضها ليحيى ويخبر بقاتله : { قَالُواْ } استئناف وقع جواباً عما ينساق إليه الكلام ، كأنه قيل : فماذا صنعوا ؟ هل سارعوا إلى الامتثال أو لا . فقيل : { قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً } بضم الزاي وقلب الهمزة واواً ، وقرئ بالهمزة مع الضم والسكون . أي : أتجعلنا مكان هُزُوٍ ، أو أهل هُزُوٍ ، أو مهزواً بنا ، أو نفس الهزو ، للمبالغة . وأشعر جوابهم ما ثبت من فظاظتهم ؛ إذ فيه سوء الأدب على من ثبتت رسالته وقد علموها .
{ قَالَ } استئناف كما سبق : { أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } لأن الهزؤ في أثناء تبليغ أمر الله ، سبحانه ، جهل وسفه . نفى عنه ، عليه السلام ، ما توهموه من قبله على أبلغ وجه ، وآكده ، بإخراجه مخرج ما لا مكروه وراءه بالاستعاذة منه ، استفظاعاً له ، واستعظاماً لما أقدموا عليه من العظيمة التي شافهوه ، عليه السلام ، بها . والعوذ : اللجأُ من متخوف لكافٍ يكفيه . والجهل : التقدم في الأمور بغير علم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ } [ 68 ]
{ قَالُواْ } تمادياً في الغلظة : { ادْعُ لَنَا } أي : لأجلنا : { رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ } ما حالها ، وصفتها ؟ ! . وذلك أنهم تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيى . فسألوا عن صفة تلك البقرة العجيبة الشأن . الخارجة عما عليه البقر ، و : { مَا } وإن شاعت في طلب مفهوم الحقيقة ، لكنها قد يطلب بها الصفة والحال . تقول : ما زيد ؟ فيقال : طبيب أو عالم { قَالَ } أي : موسى عليه السلام ، بعد ما دعا ربه عز وجل بالبيان ، وأتاه الوحي { إِنَّهُ } تعالى : { يَقُولُ إِنَّهَا } أي : البقرة المأمور بذبحها : { بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ } أي : لا مسنّة . وقد فرضت فروضاً ، فهي فارض ، أي : أسنّت . من الفرض بمعنى القطع . كأنها قطعت سنّها وبلغت آخرها { وَلاَ بِكْرٌ } أي : لا فتية صغيرة لم يلقحها الفحل { عَوَانٌ } أي : نصف : { بَيْنَ ذَلِكَ } أي : سنّي الفارض والبكر : { فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ } هذا أمر من جهة موسى عليه السلام متفرع على ما قبله من بيان صفة المأمور به . وفيه حث على الامتثال ، وزجر عن المراجعة . ومع ذلك لم يفعلوا ، بل سألوا بيان اللون بعد بيان السنّ بأن :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ } [ 69 ]
{ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا َ }
شديد الصفرة ، يقال في التوكيد : أصفر فاقع ووارس ، كما يقال : أسود حالك وأبيض يقق ، وأحمر قانئ ، وأخضر ناضر ومدهامّ . وفي إسناد الفقوع إلى اللون مع كونه من أحوال الملّون لملابسته به ما لا يخفى من فضل تأكيد ، كأنه قيل : صفراء شديدة الصفرة صفرتها كما في : جدّ جدّه { تَسُرُّ النَّاظِرِين } أي : تبهج نفوسهم . روى ابن جرير بإسناد صحيح عن ابن عباس قال : لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها ، ولكنهم شددوا فشدد عليهم . وقد رواه غير واحد عن ابن عباس ، ورفعه ابن جريج والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } [ 70 ]
{ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ } زيادة استكشاف عن حالها لتمتاز عما يشاركها في التعوين والصفرة . ولذلك علّلوا تكرير سؤالهم بقولهم : { إِنَّ البَقَرَ } الموصوف بما تقدم : { تَشَابَهَ عَلَيْنَا } لكثرته ، أي : اشتبه علينا أيّها نذبح .
قال البقاعي : وذكر الفعل ، لأن كل جمع حروفه أقل من حروف واحده ، فإن العرب تذكره . نُقل عن سيبويه { وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } إلى البقرة المراد ذبحها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } [ 71 ]
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ } . أي : لم تذلل لإثارة الأرض وسقي الحرث . و : { لاذلول } صفة لبقرة . بمعنى غير ذلول . و : { لا } الأولى للنفي ، والثانية مزيدة لتوكيد الأولى . لأن المعنى : لا ذلول تثير وتسقي ، على أن الفعلين صفتان لذلول ، كأنه قيل : لا ذلول مثيرة وساقية ، والمقصود : إنها مكرمة ليست مذللة بالحراثة ، ولا معدة للسقي في السانية { مُسَلَّمَةٌ } ، سلمها الله من العيوب ، أو معفاة من العلم ، سلمها أهلها منه ، أومخلصة اللون لم يشب صفرتها شيء من الألوان . من : سلم له كذا ، إذا خلص له : { لاَشِيَةَ فِيهَا } ، أي : لا لون فيها يخالف لون جلدها من بياض وسواد وحمرة ، فهي صفراء كلها ، وهي في الأصل مصدر : وشاه وشيا وشية ، إذا خلط بلونه لوناً آخر . في الصحاح : الشية : كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره . والهاء عوض من الواو الذاهبة من أوله . والجمع : شيات . يقال : ثور أشيه ، كما يقال : فرس أبلق .
{ قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } أي : بحقيقة وصف البقرة بحيث ميزتها عن جميع ما عداها ، ولم يبق لنا في شأنها اشتباه أصلاً . بخلاف المرتين الأوليين ، فإن ما جئت به فيهما لم يكن في التعيين بهذه المرتبة : { فَذَبَحُوهَا } ، الفاء فصيحة ، كما في : { فَانْفَجَرَتْ } ، أي : فحصلوا البقرة فذبحوها : { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } كاد من أفعال المقاربة ، وضع لدنوّ الخبر من الحصول ، والجملة حال من ضمير ذبحوا ، أي : فذبحوها والحال أنهم كانوا قبل ذلك بمعزل منه . اعتراض تذييليّ . ومآله استثقال استقصائهم واستبطاء لهم ، وأنهم لفرط تطويلهم وكثرة مراجعاتهم ما كاد ينتهي خيط إسهابهم فيها .
تنبيه :
قال الراغب : قال بعض الناس : في هذه الآية دلالة على نسخ الشيء قبل فعله . فإن في الأول أمروا بذبح بقرة غير معينة ، وكان لهم أن يذبحوا أي : بقرة شاؤوا . وفي الثاني والثالث أمروا بذبح بقرة مخصوصة . فكأنهم نهوا عما كانوا أمروا به من قبل . وليس كذلك ، فإن الأول أمر مطلق ، والثاني والثالث كالبيان له ، لمّا راجعوا ، ولم يسقط عنهم ذبح البقرة . بل زيد في أوصافها ، وكشف عن المراد بالأمر الأول . وفي الآية دلالة على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } [ 72 ]
{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا } أي : اختلفتم واختصمتم في شأنها ؛ إذ كل واحد من الخصماء يدافع الآخر : { وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } مظهر ، لا محالة ما كتمتم من أمر القتيل ، لا يتركه مكتوماً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ 73 ]
{ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ } أي : المقتول : { بِبَعْضِهَا } أي : البقرة . يعني فضربوه فحيى وأخبر بقاتله . كما دل عليه قوله : { كَذَلِكَ } أي : مثل هذا الإحياء العظيم على هذه الهيئة الغريبة : { يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى } يوم القيامة : { وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } أي : دلائله الدالة على أنه تعالى على كل شيء قدير .
ويجوز أن يراد بالآيات هذا الإحياء . والتعبير عنه بالجمع لاشتماله على أمور بديعة من ترتب الحياة على عضو ميت . وإخباره بقاتله ، وما يلابسه من الأمور الخارقة للعادة : { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } لتكونوا برؤية تلك الآيات على رجاء من أن يحصل لكم عقل ، فيرشدكم إلى اعتقاد البعث وغيره ، مما تخبر به الرسل عن الله تعالى .
قال الراغب : وقوله : { كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى } قيل هو حكاية عن قول موسى عليه السلام لقومه ، وقيل بل هو خطاب من الله تعالى لهذه الأمة ، تنبيهاً على الاعتبار بإحيائه الموتى .
تنبيهات :
الأول : قال الزمخشري : فإن قلت : فما للقصة لم تقص على ترتيبها ، وكان حقها أن يقدم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها ؟ فيقال : وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها ، فقلنا اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها ؟
أجيب : بأن كل ما قص من قصص بني إسرائيل ، إنما قص تعديداً لما وجد منهم من الجنايات ، وتقريعاً لهم عليها ، ولما جدد فيهم من الآيات العظام . وهاتان قصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع وإن كانتا متصلتين متحدتين . فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء ، وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك . والثانية للتقريع على قتل النفس المحرمة ، وما يتبعه من الآية العظيمة . وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل ، لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ، ولذهب الغرض في تثنية التقريع . ولقد روعيت نكتة ، بعد ما استؤنفت الثانية ، استئناف قصة برأسها أن وصلت بالأولى دلالة على اتحادهما بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله : { اضْرِبُوْهُ بِبَعْضِهَا } ، حتى تبين أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع ، وتثنيته بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها ، وأنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة .
وقال الحراليّ : قدم نبأ قول موسى عليه السلام على ذكر ندائهم في القتيل ، ابتداء بأشرف القصدين من معنى التشريع الذي هو القائم على أفعال الاعتداء وأقوال الخصومة . والله أعلم .
التنبيه الثاني : قال الراغب : قد استبعد بعض الناس ذلك وما حكاه الله منه ، وأنكر حصول ذلك الفعل على الحقيقة . وقال : ذلك ممتنع من حيث الطبيعة ، وأيضاً فإن ذلك لا يعرف فيه حكمة إلهية . فأما استبعاده ذلك من حيث الطبيعة فإنما هو استبعاد للإحياء والنشور ، ولذلك موضع لا يختص بالتفسير . ومن كان ذلك طريقته فلا خوض معه في تفسير القرآن . وأما الحكمة فيه فظاهرة إذ هو من المعجزات المحسوسة الباهرة للعقول . وأما تخصيص البقرة ، فإن كثيراً من حكمة الله تعالى لا يمكن للبشر الوقوف عليه . ولو لم يكن في تخصيص بقرة على وصف مخصوص إلاّ توافر المأمورين بذلك على طلبها ، واستيجاب الثواب في بذل ثمنها ، وجلب نفع توفر إلى صاحبها لكان في ذلك حكمة عظيمة .
وفي الآية تنبيه على أن الجماعة التي حكمهم واحد يجوز أن ينسب الفعل إليهم ، وإن كان واقعاً من بعضهم ، ولا يكون ذلك كذباً ، كأن الجملة المركبة من شخص واحد يصح أن ينسب إليها ما وقع من عضو منها .
وقد ذكر أكثر المفسرين قصة البقرة وصاحبها بروايات مختلفة لم نورد شيئاً منها لأنه لم يرو بسند صحيح إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولا يتعلق به كبير فائدة ، كما أن البعض من البقرة لم يجئ من طريق صحيح عن معصوم بيانُه . فنحن نبهمه كما أبهمه الله تعالى ؛ إذ ليس في تعيينه لنا فائدة دينية ولا دنيوية ، وإن كان معيناً في نفس الأمر ، وأيّاً كان فالمعجزة حاصلة به .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ 74 ] . : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ } المخاطبون إما أهل الكتاب الذين كانوا في زمنه صلى الله عليه وسلم ، أي : اشتدت قلوبكم وقست وصلبت من بعد البينات التي جاءت أوائلكم ، والأمور التي جرت عليهم ، والعقاب الذي نزل بمن أصرّ على المعصية منهم ، والآيات التي جاءهم بها أنبياؤهم ، والمواثيق التي أخذوها على أنفسهم ، وعلى كل من دان بالتوراة ممن سواهم . فأخبر بذلك عن طغيانهم وجفائهم مع ما عندهم من العلم بآيات الله التي تلين عندها القلوب . وهذا أَولى ؛ لأن قوله تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم } ، خطاب مشافهة . فحمله على الحاضرين أولى . وإما [ في المطبوع : وأما ] أن يكون المراد أولئك اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام خصوصاً ، أو من قبل المخاطبين من سلفهم . والله أعلم { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ } في القساوة : { أَوْ أَشَدُّ } منها : { قَسْوَةً } أي : هي في القسوة مثل الحجارة أو زائد عليها فيها . و : { أَوْ } للتخير أو للترديد . بمعنى أن من عرف حالها شبهها بالحجارة ، أو بما هو أقسى كالحديد ، أو من عرفها شبهها بالحجارة ، أو قال هي أقسى من الحجارة ، وترك ضمير المُفَضَّل عليه للأمن من الالتباس : { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ } أي : يتفتح بالسعة والكثرة : { مِنْهُ الأَنْهَارُ } بيان لأشديّة قلوبهم من الحجارة في القساوة وعدم التأثر بالعظات ، والقوارع التي تميع منها الجبال وتلين بها الصخور ، يعني أن الحجارة ربما تتأثر حيث يكون منها ما يتفجر منه المياه العظيمة : { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ } أي : يتشقق : { فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء } أي : العيون التي هي دون الأنهار : { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ } أي : يتردى من رأس الجبل من خشية الله ، انقياداً لما سخره له من الميل إلى المركز بالسلاسة ، قاله القاشانيّ .
وقد ذهب بعض المفسرين إلى الاستدلال بظاهر الآية على خلق التمييز في الجماد حتى يخشى ويسبح . والمحققون على أن هذه الآية وأمثالها من المجاز البليغ ، وأن الإطلاق لا ينحصر في الحقيقة ، لاسيما وأن المجاز أكثر في اللسان منها ، كما بسط في مطولات البيان .
وقد رد الإمام ابن حزم ، في أول كتابه " الفصل " على من زعم أن للحيوان والجماد تمييزاً ، رداً مسهباً . وقال : من ادعى ذلك أكذبه العيان . ثم استثنى ما كان معجزة للأنبياء عليهم السلام .
قال : ولعل معترضاً يعترض بقوله تعالى يصف الحجارة : { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الْلَّهِ } ، فقد علمنا بالضرورة أن الحجارة لم تؤمر بشريعة ولا بعقل ولا بعث إليها نبيّ . فإذْ لا شك في هذا ، فإن القول منه تعالى يخرج على أحد ثلاثة أوجه :
أحدها أن يكون الضمير في قوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ } راجع إلى القلوب المذكورة في أول الآية في قوله تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } فذكر تعالى أن من تلك القلوب القاسية ما يقبل الإيمان يوماً ما ، فيهبط عن القسوة إلى اللين من خشية الله تعالى ، وهذا أمر يشاهد بالعيان ، فقد تلين القلوب القاسية بلطف الله تعالى ، ويخشى العاصي . وقد أخبر عز وجلّ : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ } [ آل عِمْرَان : 199 ] ، وكما أخبر تعالى أن : { وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ } [ التوبة : 99 ] من بعد أن أخبر أن : { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً } [ التوبة : 97 ] . قال : فهذا وجه ظاهر متيقن الصحة .
والوجه الثاني : أن الخشية المذكورة في الآية إنما هي التصرف بحكم الله تعالى وجري أقداره ، كما قلنا في قوله تعالى حاكياً عن السماء والأرض : { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [ فصلت : 11 ] .
والوجه الثالث : أن يكون الله تعالى عنى بقوله : { وإنّ منها لما يهبط من خشية الله } الجبل الذي صار دكّاً ، إذ تجلى الله تعالى له يوم سأله كليمه عليه السلام الرؤية ، فذلك الجبل بلا شك من جملة الحجارة ، وقد هبط عن مكانه من خشية الله تعالى ، وهذه معجزة وآية وإحالة طبيعة في ذلك الجبل خاصة . ويكون : { يهبط } بمعنى : هبط ؛ كقوله تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [ الأنفال : 30 ] معناه : وإذ مكر ، وبين قوله تعالى ، مصدقاً إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم في إنكاره على أبيه عُبَاْدَة الحجارة : { لم تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ } [ مريم : 42 ] وقوله تعالى : { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ } [ الزمر : 43 ] فصح بهذا ، صحة لا مجال للشك فيها ، أن الحجارة لا تعقل . وإذ تيقن ذلك بالنص وبالضرورة والمشاهدة فقد انتفى عنها النطق والتمييز والخشية ، المعهود كل ذلك عندنا .
وأما الأحاديث المأثورة في أن الحجر له لسان وشفتان ، والكعبة كذلك ، وأن الجبال تطاولت ، وخشع جبل كذا ، فخرافات موضوعة نقلها كل كذاب وضعيف ، لا يصح منها شيء من طريق الإسناد أصلاً . ويكفي من التطويل في ذلك أنه لم يدخل شيئاً منها من انتدب من الأئمة لتصنيف الصحيح من الحديث ، أو ما يستجاز روايته ، مما يقارب الصحة . انتهى كلام ابن حزم .
وقال ابن جرير : اختلف أهل النحو في معنى الهبوط ؛ ما هبط من الأحجار من خشية الله فقال بعضهم : إن هبوط ما هبط منها من خشية الله تفيّؤ ظلاله . وقال آخرون : ذلك الجبل الذي صار دكاً إذ تجلى له ربه . وقال آخرون : قوله : { يهبط من خشية الله } كقوله : { جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ } [ الكهف : 77 ] لا إرادة له . قالوا : وإنما أريد بذلك أنه من عظم أمر الله يرى كأنه هابط خاشع من ذلّ خشية الله . قال زيد الخيل :
~بِجَمْعٍ تَضِلُّ اْلبُلْقُ فِيْ حَجَرَاتِهِ تَرَى الْأُكْمَ مِنْهُ سُجَّداً لِلْحَوَافِر
وكما قال سويد بن أبي كاهل ، يصف عدوّاً له :
~سَاْجِدَ الْمَنَْخِرِ لَاْ يَرْفَعُهُ خَاْشِعَ الطَّرْفِ أَصَمَّ الْمُستَْمَعْ
يريد أنه ذليل .
وكما قال جرير بن عطية :
~لَمَّا أتَىْ خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَواضَعَتْ سُوْرُ المَدِينَةِ والْجِبَالُ الْخُشَّعُ
وقال آخرون : معنى قوله : { يهبط من خشية الله } أي : يوجب الخشية لغيره بدلالته على صانعه . كما قيل : ناقة تاجرة إذا كانت ، من نجابتها وفراهتها ، تدعو الناس إلى الرغبة فيها ، كما قال جرير بن عطية :
~وَأَعْوَرُ مِنْ نَبْهَاْنَ ، أَمَّاْ نَهَاْرُهُ فَأَعْمَىْ ، وَأَمَّاْ لَيْلُهُ فَبَصِيْرُ
فجعل الصفة لليل والنهار ، وهو يريد بذلك صاحبه النبهانيّ الذي يهجوه . من أجل أنه فيهما كان ما وصفه به . ثم اختار ابن جرير ما يقتضيه ظاهر الآية . وتقدم رد ابن حزم له مبرهناً عليه .
ثم رأيت الإمام الراغب حاول هنا تقريب ما نقل من الوقوف على ظاهرها بتأويله . وعبارته : قال مجاهد وابن جريج : كل حجر تردى من رأس جبل فخشية الله نزلت به ، وقال الزجاج : الهابط منها قد جعل له معرفة ، قال ويدل على ذلك قوله : { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } [ الحشر : 21 ] ، وقال : { لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ } [ الحج : 18 ] ، إلى قوله : { النُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ } [ الحج : 18 ] وقد روي مثل هذا عن السلف ، ولا بد في معرفة ذلك من مقدمة تكشف عن وجه هذا القول ، وحقيقته . فإن قوماً استسلموا لما حكي لهم من هذا النحو ، فانطووا على شبهة ، وقوماً استبعدوا ذلك واستخفوا عقل رواته وقائليه ، فيقال وبالله التوفيق : إن قوماً من المتقدمين ذكروا أن جميع المعارف على أضرب :
الأول المعرفة التامة التي هي العلم التام . وذلك لعلاّم الغيوب الذي أحاط بكل شيء علماً .
والثاني معرفة متزايدة ، وهي للإنسان ، وذاك أن الله تعالى جعل له معرفة غريزية ، وجعل له بذلك سبيلاً إلى تعريف كثير مما لم يعرفه ، وليس ذلك إلا للإنسان .
والثالث معرفة دون ذلك ، وهي معرفة الحيوانات التي سخرها لإيثار أشياء نافعة لها والسعي إليها . واسترذال أشياء هي ضارة لها وتجنبها ، ودفع مضار عن أنفسها .
والرابع : معرفة الناميات من الأشجار والنبات ، وهي دون ما للحيوانات ، وليس ذلك إلا في استجلاب المنافع وما ينميها .
والخامس : معرفة العناصر ، فإن كل واحد منها مسخر لأن يشغل المكان المختص به كالحجر في طلب السفل ، والنار في طلب العلّو ، وذلك بتسخير الله تعالى ، بلا اختيار منه . قالوا : والدلالة على ذلك أن كل واحدٍ من هذه العناصر إذا نقل من مركزه قهراً ، أبى إلا العود إليه طوعاً . قالوا ويوضح ذلك أن السراج يجتذب الأدهان التي تبقيه ، ويأبى الماء الذي يطفيه ، وأن المغناطيس يجر الحديد ولا يجر غيره . هذا ما حكوه .
فعلى هذا إذا قيل : لهذه الأشياء معرفة ، فليس ببعيد ، متى سلم لهم أن هذه القوى تسمى معرفة ، فأما إذا قيل إن للجمادات معارف الْإِنْسَاْن في أنها تميز وتختار وتريد ، فهذا مما تعافه العقول . انتهى قول الراغب .
وهو تأويل حسن ، ومبناه على أن اصطلاح السلف في كثير من الإطلاقات غير اصطلاحات الخلف . وهو مسلم في كثير من الإطلاقات .
وقوله تعالى : { وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } فيه من التهديد وتشديد الوعيد ما لا يخفى . فإن الله عز وجل إذا كان عالماً بما يعملونه ، مطلعاً عليه غير غافل عنه ، كان لمجازاتهم بالمرصاد ، ولما بيّن سبحانه وتعالى قساوة قلوبهم ، تسبب عن ذلك بعدهم عن الإيمان ، فالتفت إلى المؤمنين يُؤْيسهم من فلاحهم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما كان يشتد حرصه عليه من طلب إيمانهم في معرض التنكيب عليهم ، والتبكيت لهم ، منكراً للطمع في إيمانهم فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ 75 ]
{ أَفَتَطْمَعُونَ } أيها المؤمنون بعد أن علمتم تفاصيل شؤون أسلافهم المؤيسة عنهم : { أَن يُؤْمِنُواْ } أي : هؤلاء اليهود الذين بين أظهركم ، وهم متماثلون في الأخلاق الذميمة ، لا يأتي من أخلاقهم إلا مثل ما أتى من أسلافهم . واللام في قوله : { لَكُمْ } لتضمن معنى الاستجابة . كما في قوله عز وجل : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } [ العنكبوت : 26 ] ، أي : في إيمانهم مستجيبين لكم ، أو للتعليل أي : في أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم : { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } أي : طائفة فيمن سلف منهم : { يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ } وهو ما يتلونه من التوراة : { ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } قال ابن كثير : أي : يتأولونه على غير تأويله . وقال ابن جرير : يعني بقوله : { يحرفونه } يبدلون معناه وتأويله ويغيّرونه ، أصله من انحراف الشيء عن جهته وهو ميله عنها إلى غيرها . فكذلك قوله : { يحرفونه } أي : يميلونه عن وجهه ، ومعناه الذي هو معناه ، إلى غيره : { مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } أي : فهموه على الجلية ، ومع هذا يخالفونه على بصيرة : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله .
قال ابن جرير : هذا إخبار عن إقدامهم على البهت ومناصبتهم العداوة له ولرسوله موسى عليه السلام . وأن بقاياهم في العصر المحمديّ على مثل ما كان عليه أوائلهم في العصر الموسويّ بغياً وحسداً . وهذا المقام شبيه بقوله تعالى : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } [ المائدة : 13 ] ، والظاهر أن المراد ، بالفريق منهم ، أحبارهم ، وإنما فعلوا ذلك لضرب من الأغراض على ما بينه الله تعالى ، من بعد ، في قوله تعالى : { وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } [ آل عِمْرَان : 187 ] ، وقال : { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [ البقرة : 146 ] .
ولقائلٍ أن يقول ، كيف يلزم من إقدام البعض على التحريف حصول اليأس من إيمان الباقين ، فإن عناد البعض لا ينافي إقرار الباقين . وأجاب القفال عنه فقال : يحتمل أن يكون المعنى : كيف يؤمن هؤلاء ، وهم إنما يأخذون دينهم ، ويتعلمونه من قوم هم يتعمدون التحريف عناداً ، فأولئك إنما يعلمونهم ما حرفوه وغيّروه عن وجهه ، والمقلدة لا يقبلون إلا ذلك ، ولا يلتفتون إلى أقوال أهل الحق ، وهو قولك للرجل كيف تفلح ، وأستاذك فلان ؟ أي : وأنت عنه تأخذ ، ولا تأخذ عن غيره .
ونحوه قول الراغب : لما كان الإيمان هو العلم الحقيقيّ مع العمل بمقتضاه ، فمتى لم يتحر ذلك من حصل له بعض العلوم ، فحقيق أن لا يحصل لمن غَبِيَ عن كل العلوم . فذكر ذلك تبعيداً لإيمانهم لا يأساً للحكم بذلك ؛ إذ ليس كل ما لا يطمع فيه كان مأيوساً . ثم قال الراغب : وفي الآية تنبيه أن ليس المانع للإنسان من تحري الإيمان الجهل به فقط ، بل يكون عناداً وغلبة شهوة .
تنبيه :
ما نقلناه عن ابن جرير وابن كثير في تفسير : { ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } هو الأنسب باعتبار سوق الآية الكريمة ، ولا يتوهم من ذلك دفع تحريفهم اللفظيّ عن التوراة ، فإنه واقع بلا ريب ؛ فقد بدلوا بعضاً منها وحرفوا لفظة ، وأوّلوا بعضاً منها بغير المراد منه ، وكذا يقال في الإنجيل . ويشهد لذلك كلام أحبارهم ، فقد نقل العلامة الجليل الشيخ رحمه الله الهندي في كتابه " إظهار الحق " : أن أهل الكتاب سلفاً وخلفاً ، عادتهم جارية بأنهم يترجمون غالباً الأسماء في تراجمهم ، ويوردون بدلها معانيها ، وهذا خبط عظيم ومنشأ للفساد ، أنهم يزيدون تارة شيئاً بطريق التفسير في الكلام ، الذي هو كلام الله في زعمهم ، ولا يشيرون إلى الامتياز ، وهذان الأمران بمنزلة الأمور العادية عندهم ، ومن تأمل في تراجمهم المتداولة بألسنةٍ مختلفة وجد شواهد تلك الأمور كثيرة . ثم ساق بعضاً منها فانظره .
وفي " ذخيرة الألباب " ، لأحد علماء النصارى ، ما مثاله : إن بعضهم ذهب إلى أن الروح القدس لم يقِ الكتبة عثرة الخطأ الطفيف ، ولا كفاهم زلة القدم حتى لم يستحِل أنهم خلطوا البشريات بالإلهيات . وفيه أيضاً : إن بين النسخة العبرانية والسامرية واليونانية من الأسفار الخمسة خلافاً عظيماً في أمر التاريخ . فإذاً تحريف الأسفار الخمسة أمر بيّن . وفيه أيضاً في الفصل " 31 " : أن بعض علمائهم زعم أنه وجد في الترجمة اللاتينية العامية للعهدين العتيق والجديد نيفاً وأربعة آلاف غلطة ، ورأى آخر فيها ما يزيد على الثمانية آلاف خطأ . انتهى . فثبت من شهادتهم وقوع التحريف اللفظيّ فيها . وهو المقصود .
وأما القول بتحريف الأسفار كلها أو جلها ، فهو إفراط . قال الحافظ ابن حجر في آواخر شرح الصحيح في باب قول الله تعالى : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ } [ البروج : 21 ]
إن القول بأنها بدلت كلها مكابرة . والآيات والأخبار كثيرة في أنه بقي منها أشياء كثيرة لم تبدل . من ذلك قوله تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ } [ الأعراف : 157 ] الآية . ومن ذلك قصة رجم اليهوديين وفيه وجود آية الرجم ، ويؤيده قوله تعالى : { قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ آل عِمْرَان : 93 ] .
وقد أسلفنا تتمة هذا البحث في مقدمة التفسير في الكلام على الإسرائيليات . فارجع إليه .
ثم أخبر تعالى ، عن تخلق أولئك المأيوس من إيمانهم من اليهود بأخلاق المنافقين ، وسلوكهم منهاجهم ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ 76 ]
{ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ } أي : بالله ورسوله من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { قَالُواْ آمَنَّا } أي : بأنكم على الحق ، وأن محمداً هو الرسول المبشر به ، وكأنهم يقولون ذلك إرضاءً لحلفائهم من الأوس والخزرج ، أو جهراً بحقيقةٍ لا يسعهم أمام حلفائهم السكوتُ عنها { وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ } يعني الذين لم ينافقوا : { إِلَىَ بَعْضٍ } أي : الذين نافقوا : { قَالُواْ } أي : عاتبين عليهم : { أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ } أي : بما بيّن لكم في التوراة من البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والإيمان بالنبي الذي يجيئكم مصدقاً لما معكم ، ونصره .
قال ابن إسحاق : أي : أتقرّون بأنه نبيّ ، وقد علمتم أنه أُخذ له الميثاق عليكم باتباعه ، وهو يخبرهم أنه النبيّ الذي نجده في كتابنا ، اجحدوه ولا تُقرّوا به .
قال ابن جرير : أصل الفتح في كلام العرب القضاء والحكم . والمعنى : أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم وقضاه فيكم ؟ ومن حكمه تعالى وقضائه فيهم ، ما أخذ به ميثاقكم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به في التوراة .
{ لِيُحَآجُّوكُم } متعلقة بالتحديث ، دون الفتح ، أي : ليقيم المؤمنون به عليكم الحجة : { بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ } أي : لتكون الحجة للمؤمنين عليكم في الآخرة ، فيقولون : ألم تحدثونا بما في كتابكم ، في الدنيا ، من حقيّة ديننا ، وصدق نبينا ؟ فيكون ذلك زائداً في ظهور فضيحتكم ، وتوبيخكم على رؤوس الخلائق ، في الموقف ؛ لأنه ليس من اعتراف بالحق ، ثم كتم ، كمن ثبت على الإنكار . وتأول الراغب الأصفهانيّ قوله تعالى : { عند ربّكم } أي : في حكمه وكتابه كما هو وجهٌ في آية : { فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [ النور : 13 ] أي : في حكم الله وقضائه ، وهو وجه جيد ، وقوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } من تمام التوبيخ والعتاب ، فهو من جملة الحكاية عنهم على سبيل إنكار بعضهم على بعض . قال الراغب : ويصح أن تكون استئناف إنكار من الله عز وجل ، على سبيل ما يسمى في البلاغة : الالتفات . ويصح أن يكون ذلك خطاباً للمؤمنين ، تنبيهاً على ما يفعله الكفار والمنافقون .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } [ 77 ]
{ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ } أي : يخفون من قولهم لأصحابهم ، ومن غيره : { وَمَا يُعْلِنُونَ } أي : يظهرون من ذلك ، فيخبر به أولياءه . قال الراغب : هذا تبكيت لهم ، وإنكار لما يتعاطونه ، مع علمهم بأن الله لا يخفى عليه خافية .
ولما ذكر العلماء من اليهود الذين عاندوا بالتحريف ، مع العلم والاستيقان ، ذكر العوامّ الذين قلدوهم ، ونبّه على أنهم في الضلال سواء ؛ لأن العالم عليه أن يعمل بعلمه ، وعلى العامّي أن لا يرضى بالتقليد والظن ، وهو متمكن من العلم ، فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } [ 78 ]
{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ } أي : لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها من دلائل النبوة ، فيؤمنوا { لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ } أي : التوراة ، أي : لا يدرون ما فيها من حدود وأحكام ومواثيق : { إِلاَّ أَمَانِيَّ } بالتشديد جمع أمنية ، أصلها أُمْنٌوْيَة " أُفْعُوْلَة " فأعلَّت إعلال سيّد ، وميّت . مأخوذة من تمنَّى الشيء : قدّرة وأحب أن يصير إليه . أو من تمنَّى : كذب . أو من تمنَّى الكتاب : قرآه . وعلى كلٍّ فالاستثناء منقطع ؛ إذ ليس ما يُتمنى ، وما يُختلق وما يُتلى ، من جنس علم الكتاب أي : لا يعلمون الكتاب . لكن يتمنون أمانيّ حسبما منَّتْهم أحبارهم من أن الله سبحانه يعفو عنهم ، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ، وغير ذلك من أمانيهم الفارغة ، المستندة إلى الكتاب ، على زعم رؤسائهم . أو لا يعلمون الكتاب ، لكن أكاذيب مختلفة سمعوها من علمائهم ، فتقبلوها على التقليد . أو لا يعلمون الكتاب لكن يتلقونه قدر ما يتلى عليهم ، فيقبلونه من غير أن يتمكنوا من التدبر والتأمل فيه .
قال ابن جرير : وأولى ما روينا في تأويل قوله : { إِلاَّ أَمَانِيَّ } أن هؤلاء الأميين لا يفقهون ، من الكتاب الذي أنزله الله ، شيئاً . ولكنهم يتخرصون الكذب ويتقوّلون الأباطيل كذباً وزوراً . والتمني في هذا الموضع هو تخلقّ الكذب وتخرّصه وافتعاله . بدليل قوله تعالى بعدُ : { إن هم إلا يظنون } فأخبر عنهم أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب ظناً منهم ، لا يقنياً .
وقال أبو مسلم الأصفهانيّ : حمله على تمني القلب أولى . بدليل قوله تعالى : { وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } [ البقرة : 111 ] أي : تمنيهم . وقال الله تعالى : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوآ يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123 ] ، وقال : { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ البقرة : 111 ] ، { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } [ الجاثية : 24 ] بمعنى يقدّرون ويخرصون .
ورجح كثيرون حمله على القراءة ، كقوله تعالى : { ذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } [ الحج : 52 ] إذ في الاستثناء ، حينئذاً ، نوع تعلق بما قبله . فيكون أليقَ في طريقة الاستثناء . و : { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } ما هم إلاّ قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد . من غير أن يصلوا إلى رتبة العلم . فأنى يُرجى منهم الإيمان المؤسس على قواعد اليقين ؟
تنبيه :
قال الراغب : قد أنبأ الله عن جهل الأميين وذمهم ، والمبالغة في ذم علمائهم وأحبارهم ؛ فإن الأميين لم يعرفوا إلا مجرد التلاوة ، واعتمدوا على زعمائهم وأحبارهم ، وهم قد ضلوا وأضلوا ، ونبهنا الله تعالى بذم الأميين ، على اكتساب المعارف لئلا يُحتاج إلى التقليد والاعتماد على من لا يؤمن كذبه ، وبذم زعمائهم ، على تحريّ الصدق وبجنب الإضلال ؛ إذ هو أعظم من الضلال .
ولما بين حال هؤلاء في تمسكهم بحبال الأماني واتباع الظن ، عقب ببيان حال الذين أوقعوهم في تلك الورطة ، وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله ، وأكل أموال الناس بالباطل ، فقيل على وجه الدعاء عليهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } [ 79 ]
{ فَوَيْلٌ } فإن أضيف ، نُصب . نحو : ويلك وويحك وإذا فُصل عن الإضافة ، رفع . نحو : ويلٌ له . الويل : الهلاك وشدة العذاب : { لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ } أي : المحرّف ، أو ما كتبوه من التأويلات الزائفة : { بِأَيْدِيهِمْ } تأكيد لدفع توهم المجاز . كقولك : كتبته بيميني . وقد يقال في مثل هذا : إن فائدته تصوير الحالة في النفس كما وقعت حتى يكاد السامع لذلك أن يكون مشاهداً للهيئة : { ثُمَّ يَقُولُونَ } لما كتبوه ، كذباً وبهتاناً : { هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ } أي : يأخذوا لأنفسهم بمقابلته : { ثَمَناً قَلِيلاً } أي : عرضاً يسيراً .
ويجوز في الآية معنى آخر ؛ أي : فويل للذين يكتبون كتاب التوراة بأيديهم ثم يقولون : هذا من عند الله ، فيشهدون بذلك ، وكان من مقتضى كتابتهم بأيديهم التي تقفهم من الكتاب على ما لا يقفون عليه ، لو كان كتابة غيرهم ، ومقتضى قولهم وإقرارهم بأنه من عند الله الوقوف مع عهوده ومواثيقه ، إجلالاً لمنزله وموحيه ، ودعوى الناس إلى ظواهره وخوافيه ، ولكن لم يكن ذلك منهم ، بل كان أن حرّفوا كلمه عن مواضعه ليشتروا به ثمناً قليلاً . وحاصل هذا الوجه إبقاء الكتاب المكتوب على أصله ، وصدقهم في قولهم : هذا من عند الله . ثم مخالفتهم لذلك . فيكون قوله تعالى : { لِيَشْتَرُواْ بِهِ } تعليلاً لمحذوف دل عليه السياق . أي : ثم بعد ذلك يحرفونه ثم ليشتروا به ، وهو وجه جيد يوافق آية : { يحرفون الكلم عن مواضعه } وربما يشير إلى هذا الوجه قول مجاهد فيما رواه ابن جرير : هؤلاء الذين عرفوا أنه من عند الله يحرفونه : { فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ } أي : فشدة العذاب لهم مما غيرت أيديهم : { وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } يصيبون من الحرام والسحت .
قال الراغب : إن قيل : لِمَ ذكر : { يكسبون } بلفظ المستقبل و : { كتبت } بلفظ الماضي ؟ قيل : تنبيهاً على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم < من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة >
فنبه بالآية أن ما أضّلوه وأثبتوه من التأويلات الفاسدة ، التي يعتمدها الجهلة ، هو اكتساب وزر يكتسبونه حالاً فحالاً . وإن قيل : لم ذكر الكتابة دون القول . قيل : لمّا كانت الكتابة متضمنة للقول وزائدة عليه ؛ إذ هو كذب باللسان واليد ، صار أبلغ ؛ لأن كلام اليد يبقى رسمه والقول يضمحل أثره .
إن قيل : ما الذي كانوا يكتبونه ؟ قيل : روي عن بعض السلف أن رؤساء اليهود كانوا يغيرون من التوراة نعت النبي صلى الله عليه وسلم . ثم يقولون هذا من عند الله . وهذا فصل يحتاج إلى فضل شرح . وهو أنه يجب أن يتصور أن كل نبيّ أتى بوصف لنبيّ بعده ، فإنه أتى بلفظة معرّضة وإشارة مدرجة ، لا يعرفها إلا الراسخون في العلم . وقد قال العلماء : ما انفك كتاب منزل من السماء من تضمن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن بإشارات ، ولو كان ذلك متجلياً للعوامّ لما عوتب علماؤهم في كتمانه ، ثم ازداد ذلك غموضاً بنقله من لسان إلى لسان ؛ من العبرانيّ إلى السريانيّ إلى العربيّ ، وقد ذكر المحصلة ألفاظاَ من التوراة والإنجيل ، إذا اعتبرت وجدت دالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بتعريض ، هو عند الراسخين في العلم جليّ ، وعند العامة خفيّ . فبان بهذه الجملة أن ما كتبت أيديهم كانت تأويلات محرّفة ، وقد نبه الله تعالى بالآية على التحذير من تغيير أحكامه ، وتبديل آياته ، وكتمان الحق عن أهله ، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، طمعاً في عرض الدنيا ، وقد تقدم أنه عنى بالثمن القليل ، أعراض الدنيا وإن كثرت ؛ لقوله تعالى : { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ } [ النساء : 77 ] . [ إلى هنا ] كلام الراغب رحمه الله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ 80 ]
{ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } بيان لبعض آخر من جناياتهم فيما ادّعوا لأنفسهم من أنهم لا تمسهم النار في الآخرة إلا مدة يسيرة ، ومرادهم بذلك أنهم لا يخلدون فيها ؛ لأن كل معدود منقض . قال مجاهد : كانت اليهود تقول : إنما الدنيا سبعة آلاف سنة . فإنما نعذب ، مكان كل ألف سنة يوماً ، ثم ينقطع العذاب . وروي ذلك عن ابن عباس . وعنه أن اليهود قالوا : لن ندخل النار إلا الأيام التي عبدنا فيها العجل ، أربعين ، فإذا انقضت انقطع عنا العذاب ، ثم بين تعالى إفكهم . لأن العقل لا طريق له إلى معرفة ذلك ، وإنما سبيل معرفته الإخبار منه تعالى ، وهو منتف ، فقال سبحانه : { قُلْ } منكراً لقولهم وموبّخاً لهم : { أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً } أي : عهد إليكم أنه لا يعذبكم إلا هذا المقدار : { فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ } أي : فتقولوا لن يخلف الله عهده . وجعل بعضهم الفاء فصيحة مُعربة عن شرط مقدر ؛ أي : إن كان الأمر كذلك فلن يخلفه : { أَمْ تَقُولُونَ } أي : أم لم يكن ذلك فأنتم تقولون مفترين : { عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي : وقوعه جهلاً وجراءة . وقولهم المحكيّ ، وإن لم يكن تصريحاً بالافتراء عليه سبحانه ، لكنه مستلزم له . لأن ذلك الجزم لا يكون إلا بإسناد سببه إليه تعالى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 81 ]
{ بَلَى } إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله : { لن تمسنا النار } أي : بلى تمسكم أبداً ، بدليل قوله : { هم فيها خالدون } ، { مَن كَسَبَ سَيِّئَةً } أي : عملها وهي والسيء عملان قبيحان أصلها سيوءة ، من : ساءه يسوه . فأُعلت إعلال سيد . ثم أوضح سبحانه أن مجرد كسب السيئة لا يوجب الخلود في النار ، بل لا بد أن يكون سببه محيطاً به فقال : { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } أي : غمرته من جميع جوانبه فلا تبقي له حسنة ، وسدت عليه مسالك النجاة ؛ بأن عمل مثل عملكم أيها اليهود . وكفر بما كفرتم به حتى يحيط كفره بما له من حسنة : { فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
تنبيه :
ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن الخلود في النار إنما هو للكفار والمشركين لما ثبت في السنة ، تواتراً ، من خروج عصاة الموحدين من النار ، فيتعين تفسير السيئة والخطيئة ، في هذه الآية ، بالكفر والشرك . ويؤيد ذلك كونها نازلة في اليهود .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 82 ]
{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } من عادة التنزيل العزيز أنه لا يذكر فيه آية الوعيد إلا ويتلوها آية في الوعد . وذلك لفوائد :
منها ، ليظهر بذلك عدله سبحانه ؛ لأنه لما حكم بالعذاب الدائم على المصرّين على الكفر ، وجب أن يحكم بالنعيم الدائم على المصرّين على الإيمان .
ومنها ، أن المؤمن لا بد وأن يعتدل خوفه ورجاؤه ، وذلك الاعتدال لا يحصل إلا بهذا الطريق .
ومنها ، أنه يظهر بوعده كمال رحمته ، وبوعيده كمال حكمته ، فيصير ذلك سبباً للعرفان .
وقد قدمنا عند قوله تعالى : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ البقرة : 25 ] أن السلف أجمعوا على أن الإيمان قول وعمل . فإذا عطف عليه العمل ، فإما أن يكون من عطف الخاص على العام . أو يقال : لم يدخل فيه ولكن مع العطف ، كما في اسم الفقير والمسكين . فتذكر .
قال الراغب : في هذه الآية دليل على أن قوله تعالى من قبل : { بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً } هو الكفر ، وإحاطة الخطيئة به ، الأعمال السيئة ، وذلك لما قابله به من الإيمان والأعمال الصالحة .
ثم شرع ، سبحانه ، يقيم الدليل على أنهم ممن أحاطت به خطيئته فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ } [ 83 ]
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } ثم بيّن الميثاق بقوله تعالى : { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ } وهو إخبار في معنى النهي ، كقوله تعالى : { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } [ البقرة : 282 ] ، وكما تقول : تذهب إلى فلان وتقول له كذا ، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي . وقد بدئ بأعلى الحقوق وأعظمها ، وهو حق الله تبارك وتعالى . أن يعبد وحده ولا يشرك به شيئاً . وبهذا أمر جميع خلقه . ولذلك خلقهم . كما قال تعالى :
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } والإحسان نهاية البر ، فيدخل فيه جميع ما يجب من الرعاية والعناية ، وقد أكد الله الأمر بإكرام الوالدين . حتى قرن تعالى الأمر بالإحسان إليهما ، بعبادته التي هي توحيده ، والبراءة عن الشرك ، اهتماماً به وتعظيماً له .
قال حكيم مصر في تفسيره : العلة الصحيحة في وجوب هذا الإحسان على الولد ، هي العناية الصادقة التي بذلاها في ترتيبه ، والقيام بشؤونه أيام كان ضعيفاً عاجزاً جاهلاً . لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضرراً . وكانا يحوطانه بالعناية والرعاية ، ويكفلانه ، حتى يقدر على الاستقلال والقيام بشأن نفسه . فهذا هو الإحسان الذي يكون منهما ، عن علمٍ واختيارٍ ، بل مع الشغف الصحيح والحنان العظيم ، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان ، وإذا وجب على الْإِنْسَاْن أن يشكر ، لكل من يساعده على أمر عسير فضلَه ، ويكافئه بما يليق به على حسب الحال في المساعد ، وما كانت به المساعدة ، فكيف لا يجب أن يكون الشكر للوالدين بعد الشكر لله تعالى ، وهما اللذان كانا يساعدانه [ في المطبوع : يسعدانه ] على كل شيء ، أيام كان يتعذر عليه كل شيء : { وَذِي الْقُرْبَى } أي : القرابة .
قال الأستاذ الحكيم : الإحسان هو الذي يقوي غرائز الفطرة ، ويوثق الروابط الطبيعية ، حتى تبليغ البيوت ، في وحدة المصلحة ، درجة الكمال ، والأمة تتألف من البيوت ، أي : العائلات . فصلاحها صلاحها . ومن لم يكن له بيت لا تكون له أمة ، وذلك أن عاطفة التراحم وداعية التعاون إنما تكونان على أشدّهما وأكملهما في الفطرة بين الوالدين والأولاد ، ثم بين سائر الأقربين ، فمن فسدت فطرته حتى لا خير فيه لأهله ، فأي خير يرجى منه للبعداء والأبعدين ؟ ومن لا خير فيه للناس لا يصلح أن يكون جزءاً من بنية أمته ؛ لأنه لم تنفع فيه اللحمة النسبية التي هي أقوى لحمة طبيعية تصل بين الناس ، فأي لحمة بعدها تصله بغير الأهل فتجعله جزءاً منهم ، يسره ما يسرهم ويؤلمه ما يؤلمهم ، ويرى منفعتهم عين منفعته ، ومضرتهم عين مضرته ؟ قضى نظام الفطرة بأن تكون نعرة القرابة أقوى من كل نعرة ، وصلتها أمتن من كل صلة ، فجاء الدين يقدّم حقوق الأقربين على سائر الحقوق .
وجعل حقوقهم على حسب قربهم من الشخص ، ثم ذكر تعالى حقوق أهل الحاجة من سائر الناس فقال سبحانه : { وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } . اليتامى جمع يتيم . وهو من مات أبوه وهو صغير . قدم تعالى الوصية به على الوصية بالمسكين ، ولم يقيدها بفقر ولا مسكنة ، فعُلم أنها مقصودة لذاتها . وقد أكد تعالى في الوحي الوصية باليتيم ، وفي القرآن والسنة كثير من هذه الوصايا ، وحسبك أن القرآن نهى عن قهر اليتيم ، وشدد الوعيد على أكل ماله تشديداً خاصاًَ ، والسرّ في ذلك هو كون اليتيم لا يجد ، قي الغالب ، من تبعثه عاطفة الرحمة الفطرية على العناية بتربيته والقيام بحفظ حقوقه ، والعناية بأموره الدينية والدنيوية ؛ فإن الأم ، إن وجدت ، تكون في الأغلب عاجزة ، لاسيما إذا تزوجت بعد أبيه . فأراد الله تعالى ، وهو أرحم الراحمين ، بما أكد من الوصية بالأيتام ، أن يكونوا من الناس بمنزلة أبنائهم ، يربونهم تربية دينية دنيوية ، لئلا يفسدوا ويفسد بهم غيرهم ، فينتشر الفساد في الأمة فتنحل انحلالاً . فالعناية بتربية اليتامى هي الذريعة لمنع كونهم قدوة سيئة لسائر الأولاد . والتربية لا تتيسر مع وجود هذه القدوة . فإهمال اليتامى إهمال لسائر أولاد الأمة .
وأما المساكين فلا يراد بهم هؤلاء السائلون الشحاذون الملحّفون الذين يقدرون على كسب ما يفي بحاجاتهم ، أو يجدون ما ينفقون ولو لم يكتسبوا ، إلا أنهم قد اتخذوا السؤال حرفة يبتغون بها الثروة من حيث لا يعملون عملاً ينفع الناس ، ولكن المسكين من يعجز عن كسب ما يكفيه .
{ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً } أي : قولاً حسناً . أي : كلموهم طيباً ولينوا لهم جانباً . وفيه من التأكيد والتحضيض على إحسان مقاولة الناس ، أنه وضع المصدر فيه موضع الاسم ، وهذا إنما يستعمل للمبالغة في تأكيد الوصف ، كرجل عدل وصوم وفطر { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ } خطاب لبني إسرائيل . فالمراد الصلاة التي كانوا يصلونها ، والزكاة التي كانوا يخرجونها { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } أي : أعرضتم عن المضي على مقتضى الميثاق الذي فيه سعادتكم ورفضتموه . وقوله : { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ } استثناء لبعض من كانوا في زمن سيدنا موسى عليه السلام ، أو في كل زمن ، فإنه لا تخلو أمة من الأمم ، من المخلصين الذين يحافظون على الحق بحسب معرفتهم وقدر طاقتهم .
والحكمة في ذكر هذا الاستثناء عدم بخس المحسنين حقهم ، وبيان أن وجود قليل من الصالحين في الأمة لا يمنع عنها العقاب الإلهيّ إذا فشا فيها المنكر ، وقلُّ المعروف { وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ } عادتكم الإعراض عن الطاعة ، ومراعاة حقوق الميثاق ، ثم نعى عليهم أيضاً إخلالهم بواجب الميثاق المأخوذ عليهم في حقوق العباد بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } [ 84 ]
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ } إخبار في معنى النهي . والمراد به النهي الشديد عن تعرض بعض بني إسرائيل لبعضٍ بالقتل والإجلاء . أن لا يقتل بعضكم بعضاً ولا يخرجه من منزله : { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ } أي : أظهرتم الالتزام بموجب المحافظة على الميثاق المذكور : { وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } بلزومه ؛ فهو توكيد للإقرار ، كقولك : أقر فلان ، شاهداً على نفسه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ 85 ]
{ ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء } خطاب خاص للحاضرين ، فيه توبيخ شديد : { تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ } من غير التفات إلى هذا العهد الوثيق : { تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم } أي : تتعاونون عليهم : { بِالإِثْمِ } وهو الفعل الذي يستحق فاعله الذم واللوم : { وَالْعُدْوَانِ } وهو التجاوز في الظلم : { وَإِن يَأتُوكُمْ } أي : هؤلاء الذين تعاونتم أو عاونتم عليهم : { أُسَارَى } بضم الهمزة ، وفتح السين ، والألف بعدها . وقرأ حمزة : { أَسْرى } بفتح الهمزة ، وسكون السين كقتلى ، جمع أسير ، وأصله المشدود بالأسر ، وهو القدّ ، وهو ما يُقدّ أي : يقطع من السير : { تُفَادُوهُمْ } بضم التاء وفتح الفاء . وقرئ " تَفْدُوْهُم " بفتح التاء وسكون الفاء ، أي : تخلصوهم بالمال من الفداء . وهو الفكاك بعوض : { وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ } الجملة حال من الضمير في : { تخرجون } أو من : { فريقاً } أو منهما . وتخصيص بيان الحرمة ههنا بالإخراج ، مع كونه قريناً للقتل عند أخذ الميثاق ، لكونه مظنة للمساهلة في أمره ، بسبب قلة خطره بالنسبة إلى القتل ، ولأن مساق الكلام لذمهم وتوبيخهم على جناياتهم ، وتناقض أفعالهم معاً . وذلك مختص بصورة الإخراج حيث لم ينقل عنهم تدارك القتلى بشيء من دية أو قصاص . وهو السرّ في تخصيص التظاهر به فيما سبق . ثم أنكر عليهم التفرقة بين الأحكام فقال : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ } أي : للتوراة وهو الموجب للمفاداة : { وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } وهو المحرم للقتل والإخراج . ثم اعلم أن ما ذكرناه في قوله تعالى : { تُفَادُوْهُمْ } ، و [ قوله ] : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ } هو ما ذهب إليه جمهور المفسرين من أن ذلك وصف لهم بما هو طاعة ، وهو التخليص من الأسر ببذل مال أو غيره ، والأيمان بذلك . وذكر أبو مسلم أنه ضد ذلك . والمراد أنكم ، مع القتل والإخراج ، إذا وقع أسير في أيديكم لم ترضوا منه إلا بأخذ مال وإن كان ذلك محرماً عليكم ، ثم عنده تخرجونه من الأسر .
قال أبو مسلم : والمفسرون ، إنما أتوا من جهة قوله تعالى : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } وهذا ضعيف ؛ لأن هذا القول راجع إلى ما تقدم من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل عليهم ، والمراد أنه إذا كان في الكتاب الذي معكم نبأ محمد فجحدتموه فقد آمنتم ببعض الكتب وكفرتم ببعض .
وكلا القولين يحتمله لفظ المفاداة ، لأن الباذل عن الأسير يوصف بأنه فاداه . والآخذ منه للتخليص يوصف أيضاً بذلك . إلا أن الذي أجمع المفسرون عليه أقرب ؛ لأن عود قوله : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } إلى ما تقدم ذكره في هذه الآية ، أولى من عوده إلى أمور تقدم ذكرها بعد آيات . أفاده الرازيّ .
{ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ } إشارة إلى الكفر ببعض الكتاب مع الإيمان ببعض ، أو إلى ما فعلوا من القتل والإجلاء مع مفاداة الأسارى : { إِلاَّ خِزْيٌ } ذلّ وهوان مع الفضيحة . والتنكير للتفخيم { فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وقد فعل سبحانه ذلك ، فقُتلت بنو قريظة وأُجليت بنو النضير إلى أذرعات وأريحا من الشام { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ } يعني النار : { وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [ 86 ]
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ } أي : آثروا : { الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } على خساستها . واستبدلوها : { بِالآَخِرَةِ } مع نفاستها { فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ } في واحدة من الدارين { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } قال الحافظ ابن كثير في تفسيره : أنكر تعالى على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في المدينة ، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج ، وذلك أن الأوس والخزرج وهم الأنصار كانوا في الجاهلية عبّاد أصنام ، وكانت بينهم حروب كثيرة ، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل : بنو قينقاع ، حلفاء الخزرج ، وبنو نضير ، وبنو قريظة ، حلفاء الأوس فكانوا ، إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب ، خرجت بنو قينقاع مع الخزرج ، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس ، يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه . فيخربون ديارهم ويخرجونهم منها ، ويسفكون دماءهم ، وبأيديهم التوراة . يعرفون فيها ما عليهم وما لهم . والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ، ولا يعرفون جنة ولا ناراً ولا بعثاً ولا قيامة ، ولا كتاباً ، ولا حلالاً ولا حراماً ، فإذا وضعت الحرب أوزارها ، وأسر الرجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتى يفدوه ، فتفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس ، وتفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم . فإذا عيرتهم العرب بذلك وقالوا : كيف تقاتلوهم وتفدونهم ؟ قالوا . إنا أمرنا أن نفديهم وحرّم علينا قتالهم . فيقال : لم تقاتلونهم ؟ قالوا : إنا نستحي أن تُسْتَذلّ حلفاؤنا . فلذلك حين عيرهم عز وجل فقال : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } أي : تفادوهم بحكم التوراة وتقتلونهم ، وفي حكم التوراة أن لا يقتل ولا يخرج من داره ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ، ويعبد الأوثان من دونه ، ابتغاء عرض الدنيا . هذا ملخص ما ساقه ابن كثير عن محمد بن إسحاق بسنده إلى ابن عباس . ورواه أيضاً عن السدّي . فليحقق تصحيح هذه القصة .
وفي الآية تفسير آخر : أي : لا تقتلوا أنفسكم لشدة تصيبكم بسكّين ، أو خنق ، أو بارتكاب ما يوجب ذلك ، كالارتداد ، والزنى بعد الإحصان ، وقتل النفس بغير الحق نحو ذلك ، ولا تسيئوا جوار من جاوركم فيضطرون إلى الخروج من دياركم ، أو : لا تفسدوا فتكونوا سبباً لإخراجكم أنفسكم . والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } [ 87 ]
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } شروع في بيان بعضٍ آخر من جناياتهم . وتصديره بالجملة القسمية لإظهار كمال الاعتناء به . والمراد بالكتاب التوراة { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ } يقال : قفّاه به أتبعه إياه ، من التقفية وهي متابعة شيء شيئاً ؛ كأنه يتلو قفاه ، وقفا الصورة منها ، خلفها المقابل للوجه ، والمعنى : لم نقتصر على الضبط بالكتاب الذي تركه فيكم موسى ، بل أرسلنا من بعده الرسل تترى ، ليجددوا لكم أمر الدين ، ويؤكدوا عليكم العهود { وَآتَيْنَا عِيسَى } اسم معرّب أصله يسوع ؛ لفظة يونانية بمعنى مخلص ، ومثله يشوع بالمعجمة ، في اللغة العبرانية : { ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ } المعجزات الواضحات التي لا مرية فيها لذي عقل . كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص : { وَأَيَّدْنَاهُ } أي : قويناه على ذلك كله : { بِرُوحِ الْقُدُسِ } بالروح المقدسة كما تقول : حاتم الجودِ ورجل صدقٍ ، وهي الروح الطاهرة التي نفخها الله فيه ، وميزه بها عن غيره ممن خلق . قال تعالى : { وَرُوحٌ مِنْه } [ النساء : 171 ] ، ولذا كان له ، عليه الصلاة والسلام ، بالروح مزيد اختصاص لكثرة ما أحيى من الموتى . وعن الحسن البصري : القدس هو الله ، وروحه : جبريل ، والإضافة للتشريف . والمعنى أعنّاه بجبريل . قال الرازيّ : والذي يدل على أن روح القدس جبريل قوله تعالى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ } [ النحل : 102 ] ، والله أعلم .
وتخصيصه من بين الرسل عليهم السلام بالذكر ووصفه بما ذكر من إيتاء البينات ، والتأييد بروح القدس لحسم مادة اعتقادهم الباطل في حقه عليه السلام ، ببيان حقيته ، وإظهار نهاية قبح ما فعلوا به عليه السلام : { أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ } من الحق ، أي : لا تحبه ، من هوى كفرح ، إذا أحب : { اسْتَكْبَرْتُمْ } عن الاتباع له ، والإيمان بما جاء به من عند الله تعالى : { فَفَرِيقاً } منهم : { كَذَّبْتُمْ } إذ لم تنل أيديكم مضرته : { وَفَرِيقاً } آخر منهم : { تَقْتُلُونَ } غير مكتفين بتكذيبهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } [ 88 ]
{ وَقَالُواْ } بيان لنوع آخر من مخازيهم . والقائلون المعاصرون للنبي عليه السلام : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } هذا كقوله تعالى : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } [ فصلت : 5 ] ، أي : هي مغشاة بأغطية مانعة من وصول أثر دعوتك إليها ، فلا تفقهه : مستعار من الأغلف الذي لم يختن : { بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ } رد الله أن تكون قلوبهم كذلك لأنها متمكنة من قبول الحق ، وإنما طردهم عن رحمته بسبب كفرهم وزيغهم ، وهذا كما قال في سورة النساء : { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً } [ النساء : 155 ] . وقوله : { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } " ما " مزيدة للمبالغة أي : فإيماناً قليلاً يؤمنون ؛ وهو إيمانهم ببعض الكتاب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ } [ 89 ]
{ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ } هو القرآن الكريم الذي مقصود هذه السورة . وصفه بالهدى . وتنكيره للتفخيم . ونعته بقوله : { مِّنْ عِندِ اللّهِ } للتشريف : { مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } من التوراة . وجواب لما ، محذوف دل عليه جواب لما الثانية . وعليه ، فقوله تعالى : { وَكَانُواْ } الخ . . جملة معطوفة على الشرطية ، عطف القصة على القصة . وقيل : جوابها كفروا . ولمّا الثانية تكرار للأولى ، فلا تحتاج إلى جواب . وقيل : كفروا جواب للأولى والثانية ؛ لأن مقتضاهما واحد . وعلى الوجهين فجملة قوله : { وكانوا مِن قَبْلُ } أي : قبل مجيئه : { يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ } جملة حالية مفيدة لكمال مكابرتهم وعنادهم . والاستفتاح : الاستنصار أي : طلب النصر ، أي : يطلبون من الله النصر على المشركين لما أنهم كانوا مستذلين في جزيرة العرب ، ولذا كانوا يحالفون بعض القبائل تعزّزاً بهم على ما تقدم : { فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ } صحته وصدقه ، كان من حقهم أن يسارعوا إلى الإيمان به لظفرهم بأمنيتهم حينئذ ، وهو انتصارهم على المشركين ، وحصول العزة لهم مع المؤمنين ، ولكن : { كَفَرُواْ بِهِ } أي : امتنعوا من الإيمان به خوفاً من زوال رياستهم وأموالهم ، وأصروا على الإنكار مع علمهم بحقيقة نبوته ؛ ولذا قال عبد الله بن سلام في قصة بإسلامه : يا معشر اليهود اتقوا الله . فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله ، وأنه جاء بحق . رواه البخاري في الهجرة .
وروى أيضاً أن عبد الله بن سلام لما بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم أتاه فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيّ . فلما أجابه عنها قال : أشهد أنك رسول الله . وسنذكر الحديث بتمامه عند قوله تعالى : { مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ } [ البقرة : 97 ] الآية إن شاء الله تعالى . وقوله : { فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ } اللام فيه للعهد أي : عليهم ، ووضع المظهر موضع المضمر للإشعار بأن حلول اللعنة عليهم بسبب كفرهم ، كما أن الفاء للإيذان بترتبها عليه ، أو للجنس وهم داخلون في الحكم دخولاً أولياً ، إذ الكلام فيهم ، وأيّاً ما كان فهو محقق لمضمون قوله تعالى : { بل لعنهم الله بكفرهم } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ 90 ]
{ بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ } " ما " نكرة موصوفة بما بعدها ، منصوبة على التمييز ، مفسرة لفاعل بئس . أي : بئس شيئاً باعوا به أنفسهم واعتاضوا لها ، فرضوا به وعدلوا إليه . والمخصوص بالذم [ ما دل عليه ] قوله تعالى : { أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ } أي : كفرهم بالكتاب المصدق لما معهم بعد الوقوف على حقيقته : { بَغْياً } حسداً : { أَن يُنَزِّلُ اللّهُ } لأن ينزل ، أو على أن ينزل ، أي : حسدوه على أن ينزل الله : { مِن فَضْلِهِ } الذي هو الوحي : { عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } أي : يشاؤه ويصطفيه للرسالة : { فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ } أي : رجعوا لأجل ذلك بغضب ، في حسدهم لهذا النبي صلى الله عليه وسلم حتى كفروا به : { عَلَى غَضَبٍ } كانوا استحقوه قبل بعثته صلى الله عليه وسلم من أجل تحريفهم الكلم ، وتضييعهم بعض أحكام التوراة ، وكفرهم بعيسى عليه السلام .
قال الرازيّ : إن غضبه تعالى يتزايد ، ويكثر ويصح فيه ذلك كصحته في العذاب ، فلا يكون غضبه على من كفر بخصلة واحدة ، كغضبه على كفر بخصال كثيرة .
قلت : وفي الصحيحين عن أبي هريرة : < اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الأملاك ؛ لا ملك إلا الله > . والروايات في توصيف غضبه تعالى بالشدة على بعض المنكرات متوافرة . انظر " الجامع الصغير " .
ويحتمل المعنى . فصاروا أحقاء بغضب مترادف ، فلا يكون القصد إثبات غضبين لأمرين متنوعين أو أمور . بل المراد به تأكيد الغضب ، وتكثيره لأجل أن هذا الكفر ، وإن كان واحداً ، إلا أنه عظيم . والله أعلم .
وقد قدمنا في تفسير قوله تعالى : { غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } أن الغضب صفة وصف الله تعالى نفسه بها . وليس غضبه كغضبنا ، كما أن ذاته ليست مثل ذواتنا ، فليس هو مماثلاً لأبداننا ولا لأرواحنا ، وصفاته كذاته . وما قيل : إن الغضب من الانفعالات النفسانية فيقال نحن وذاتنا منفعلة ، فكونها انفعالات فينا لا يجب أن يكون الله منفعلاً بها ، كما أن نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين . فصفاته كذلك ليست كصفات المخلوقين ، ونسبة صفة المخلوق إليه كنسبة صفة الخالق إليه ، وليس المنسوب كالمنسوب والمنسوب إليه ، كالمنسوب إليه . كما قال صلى الله عليه وسلم : < ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر > فشبه الرؤية بالرؤية لا المرئيّ بالمرئيّ . وهذا يتبين بقاعدة : وهي أن كثيراً من الناس يتوهم ، في بعض الصفات أو كثير منها ، أو أكثرها أو كلها ، أنها تماثل صفات المخلوقين . ثم يريد نفي ذلك الذي فهمه فيقع في أربعة أنواع من المحاذير :
أحدها : كونه مثّل ما فهمه من النصوص لصفات المخلوقين ، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل .
الثاني : أنه إذ جعل ذلك هو مفهومها وعطله ؛ فبقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله ، فيبقى مع جنايةٍ على النصوص ، وظنه السَّيء الذي ظنه بالله ورسوله ، حيث خلاف الذي يفهم من كلامهما ، من إثبات صفات الله ، والمعاني الإلهية الله اللائقة بجلال الله تعالى .
الثالث : أنه ينفي تلك الصفات عن الله بغير دليل ؛ فيكون معطلاً عما يستحقه الرب تبارك وتعالى .
الرابع : أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الموات ، والجمادات ، وصفات المعدومات ؛ فيكون قد عطل صفات الكمال التي يستحقها الرب ، ومثّله بالمنقوصات والمعدومات ، وعطَّل النصوص عما دلت عليه من الصفات ، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات ؛ فيجمع في الله ، وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل . سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون عُلُُوّاً كبيراً . أفاده الإمام ابن تبمية . عليه الرحمة ، في " القاعدة التدمرية " .
{ وَلِلْكَافِرِينَ } أي : لهم . والإظهار في موضع الإضمار للإشعار بعلّية كفرهم لما حاق بهم : { عَذَابٌ مُّهِينٌ } يراد به إهانتهم . أي : إذلالهم . فإن كفرهم ، لما كان سببه البغي والحسد ، ومنشأ ذلك التكبر ، قوبلوا بالإهانة والصغار في الآخرة كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] أي : صاغرين حقيرين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ 91 ]
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } أي : لليهود : { آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ } على محمد صلى الله عليه وسلم وصدَّقوه واتبعوه : { قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا } من التوراة ، ولا نقرّ إلا بها : { وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ } حال من ضمير " قالوا " بتقدير مبتدأ . أي : قالوا ما قالوا وهم يكفرون بما بعده : { وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ } منها غير مخالف له . وفيه ردٌ لمقالتهم ؛ لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها : { قُلْ } تبكيتاً لهم ببيان التناقض بين أقوالهم وأفعالهم : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي : كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم ، فلِم قتلتم الأنبياء الذين جاؤوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم وأنتم تعلمون صدقهم ، قتلتموهم بغياً وعناداً واستكباراً على رسل الله فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والآراء والتشهي ، كما قال تعالى : { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } [ البقرة : 87 ] ، والخطاب للحاضرين من اليهود والماضين ، على طريق التغليب ، وحيث كانوا مشاركين في العقد والعمل ، كان الاعتراض على أسلفهم اعتراضاً على أخلاقهم . و دلت الآية على أن المجادلة في الدين من عرف الأنبياء عليهم السلام ، وإن إيراد المناقضة على الخصم جائز .
ولما دل على كذبهم في دعوى الإيمان بما فعلوا بعد موسى ، أقام دليلاً آخر أقوى مما تقدمه . فإنه لم يعهد إليهم في التوراة ما عهد إليهم في التوحيد والبعد عن الإشراك ، وهو في النسخ الموجودة بين أظهرهم الآن . وقد نقضوا جميع ذلك باتخاذ العجل في أيام موسى ، وبحضرة هارون عليهما السلام فقال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ } [ 92 ]
{ وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ } من الآيات كفلق البحر ، وإنزال المن والسلوى ، وغير ذلك من الدلائل القاطعات على أنه رسول الله ، وأنه لا إله إلا الله : { ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ } معبوداً من دون الله : { مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد ما ذهب موسى عنكم إلى الطور لمناجاة الله عز وجل ، كما قال تعالى : { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ } [ الأعراف : 148 ] . وقوله تعالى : { وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ } أي : بعبادته ، واضعين لها في غير موضعها ، أو بالإخلال بحقوق آيات الله تعالى ، أو هو اعتراض ؛ أي : وأنتم قوم عادتكم الظلم .
ثم ذكر أمراً آخر هو أبين في عنادهم ، وأنهم مع الهوى فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ 93 ] . : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ } على الإيمان والطاعة { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ } قائلين : { خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم } أي : ما أمرتم به في التوراة : { بِقُوَّةٍ } بجد : { وَاسْمَعُواْ } أطيعوا : { قَالُواْ سَمِعْنَا } قولك : { وَعَصَيْنَا } أمرك . وظاهر السوق يقتضي أنهم قالوا ذلك حقيقة .
قال أبو مسلم : وجائز أن يكون المعنى : سمعوه فتلقوه بالعصيان ، فعبّر عن ذلك بالقول وإن لم يقولوه : كقوله تعالى : { أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] .
{ وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ } أي : حبّه على حذف المضاف ، وإقامة المضاف [ إليه ] مقامه للمبالغة . أو العجل مجاز عن صورته . فلا يحتاج إلى حذف المضاف . وعلى كلٍّ ، فأشربوا استعارة تبعية ، إما من إشراب الثوب الصبغَ أي : تداخله فيه ، أو من إشراب الماء أي : تداخله أعماق البدن ، والجامع السراية في كل جزء ، وإسناد الفعل إليهم إيهام لمكان الإشراب ، ثم بُيَّن بقوله : { في قلوبكم } للمبالغة ، فظهر وجه العدول عن مقتضى الظاهر ، وهو : وأُشرب قلوبهم العجل : { بِكُفْرِهِمْ } بسبب كفرهم .
{ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي : كما زعمتم ، بالتوراة . وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم كما في قصة شعيب : { أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ } [ هود : 87 ] وكذا إضافة الإيمان إليهم . وقوله : { إن كنتم مؤمنين } قدح في صحة دعواهم ؛ فإن الإيمان إنما يأمر بعباده الله وحده لا بشركة العبادة لما هو في غاية البلادة . فهو غاية الاستهزاء . وحاصل الكلام : إن كنتم مؤمنين بها عاملين ، فيما ذكر من القول والعمل ، بما فيها ، فبئسما يأمركم به إيمانكم بها ، وإذ لا يسوغ الإيمان بها مثل تلك القبائح فلستم بمؤمنين بها قطعاً . فجواب الشرط محذوف كما ترى ؛ لدلالة ما سبق عليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 94 ]
{ قُلْ } كرر الأمر بتبكيتهم لإظهار نوع آخر من أباطيلهم ، وهو ادعاؤهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس ، لكنه لم يُحك عنهم قبل الأمر بإبطاله ، بل اكتفى بالإشارة إليه في تضاعيف الكلام بقوله : { إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً } ، نصب على الحال من الدار الآخرة ، والمراد الجنة ؛ أي : سالمة لكم ، خاصة بكم ، ليس لأحد سواكم فيها حق كما تقولون : { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً } [ البقرة : 111 ]
: { مِّن دُونِ النَّاسِ } اللام للجنس أو للعهد وهم المسلمون : { فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ } فسلوا الموت : { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها ، وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم ، والتخلص من الدار ذات الأكدار ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالموت . والذي يتوقف عليه المطلوب لا بد وأن يكون مطلوباً ، نظراً إلى كونه وسيلة إلى ذلك المطلوب . والمراد بالتمني هنا هو التلفظ بما يدل عليه كما أشرنا إليه ، لا مجرد خطوره بالقلب ، وميل النفس إليه ، فإن ذلك لا يراد في مقام المحاجّة ، ومواطن الخصومة ، ومواقف التحدي لأنه من ضمائر القلوب ، وثَمَّ تفسير آخر للتمني بأن يُدعَوا إلى المباهلة ، والدعاء بالموت . وإليه ذهب ابن جرير . والأول أقرب إلى موافقة اللفظ . و قوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ } [ 95 ]
{ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً } من المعجزات لأنه إخبارٌ بالغيب . وكان كما أخبر به ؛ كقوله : { وَلَنْ تَفْعَلُوا } [ البقرة : 24 ] { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } بما أسلفوا من أنواع العصيان . واليد مجاز عن النفس . عبّر بها عنها ، لأنها من بين جوارح الْإِنْسَاْن ، مناط عامة صنائعه . ولذا كانت الجنايات بها أكثر من غيرها . ولم يجعل المجاز في الإسناد فيكون المعنى بما قدموا بأيديهم ، ليشمل ما قدموا بسائر الأعضاء : { وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ } أي : بهم . تذييل للتهديد . والتنبيه على أنهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم ، ونفيه عمن سواهم . ونظير هذه الآية في سورة الجمعة قوله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } [ الجمعة : 6 ، 7 ] .
و قد تلطف الغزالي في توجيه الإتيان بـ " لن " هنا ، و " لا " في سورة الجمعة بأن الدعوى هنا أعظم من الثانية ؛ إذ السعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب ، وأما مرتبة الولاية فهي ، وإن كانت شريفة إلا أنها إنما تراد ليتوسل بها إلى الجنة . فلما كانت الدعوى الأولى أعظم ، لا جَرَمَ بيّن تعالى فساد قولهم بلفظ : لن ؛ لأنها أقوى الألفاظ النافية . ولما كانت الدعوى الثانية ليست في غاية العظمة اكتفى في إبطالها بلفظ : لا ؛ لأنه ليس في نهاية القوة ، في إفادة معنى النفي . و الله أعلم .
ولما أخبر تعالى عنهم أنهم لا يتمنون الموت ، أتبعه بأنهم في غاية الحرص على الحياة بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [ 96 ]
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } التنكير يدل على أن المراد حياة مخصوصة ، وهي الحياة المتطاولة ، ولذا كانت القراءة بها أوقع من قراءة أُبيّ : على الحياة { وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ } عطف على ما قبله بحسب المعنى ، كأنه قيل : أحرص من الناس ومن الذين أشركوا . وإفرادهم بالذكر ، مع دخولهم في الناس ، للإيذان بامتيازهم من بينهم بشدة الحرص . للمبالغة في توبيخ اليهود ، فإن حرصهم ، وهم معترفون بالجزاء ، لمّا كان أشد من حرص المشركين المنكرين له ، دلّ ذلك على جزمهم بمصيرهم إلى النار ، ويجوز أن يحمل على حذف المعطوف ثقة بإنباء المعطوف عليه عنه ؛ أي : وأحرص من الذين أشركوا .
وأما تجويز كون الواو للاستئناف ، وقد تم الكلام عند قوله : { على حياة } تقديره : { ومن الذين أشركوا } ناس يود أحدهم ، على حذف الموصوف ، وقولُ أبي [ في المطبوع : أبو ] مسلم : إن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، وتقديره : ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة ، ثم فسر هذه المحبة بقوله : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } فلا يخفى بُعده ؛ لأنه إذا كانت القصة في شأن اليهود خاصة فالأليق بالظاهر ، أن يكون المراد : ولتجدن اليهود أحرص على الحياة من سائر الناس ومن الذين أشركوا ، ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم ، وفي إظهار كذبهم في قولهم : إن الدار الآخرة لنا ، لا لغيرنا . والله أعلم .
{ يودّ أحدهم لو يعمر ألف سنة } بيان لزيادة حرصهم ، على طريق الاستئناف . و : { لو } مصدرية ، بمعنى " أن " مؤوّل ما بعدها بمصدر ، مفعول يود ؛ أي : يود أحدهم تعمير ألف سنة : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ } : { ما } حجازية ، والضمير العائد على أحدهم اسمها ، وبمزحزحه : خبرها ، والباء : زائدة ، وأن يعمر : فاعل مزحزحه ؛ أي : وما أحدهم المتمني بمن يزحزحه ، أي : يبعده وينجيه ، من العذاب ، تعميره . قال القاضي : والمراد أنه لا يؤثر في إزالة العذاب أقل تأثير ، ولو قال تعالى : وما هو بمبعده وبمنجيه لم يدل على قلة التأثير كدلالة هذا القول : { وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } فسوف يجازيهم عليه .
وما ذكره بعض المفسرين من أن البصير في اللغة بمعنى العليم لا يخفى فساده ، فإن العليم والبصير اسمان متباينا المعنى لغة . نعم ! لو حمل أحدهما على الآخر مجازاً لم يبعد ، ولا ضرورة إليه هنا . ودعوى أن بعض الأعمال مما لا يصح أن يرى ، فلذا حَمْلُ هذا البصر على العلم هو من باب قياس الغائب على الشاهد ، وهو بديهيّ البطلان . قال شمس الدين ابن القيم الدمشقيّ في كتاب " الكافية الشافية " :
وَهُوَ الْبَصِيْرُ يَرَىْ دَبِيْبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاْءِ تَحْتَ الصَّخْرِ وَالصَّوَّانِ
~وَيَرَىْ مَجَارِى الْقُوْتِ فِيْ أَعْضَائِهَا وَيَرَى عُرُوْقَ بََِيَاضِهَا بِعَيَانِ
~وَيَرَى خِيَانَاتِ الْعُيُوْنِ بِلَحْظِهَا وَيَرَىْ ، كَذَاكَ ، تَقَلُّبَ الْأَجْفَانِ
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } [ 97 ، 98 ]
{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } .
روى البخاري في صحيحه في كتاب التفسير عن أنس قال : سمع عبد الله ابن سلام بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث ، لا يعلمهن إلا نبيّ . فما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال : < أخبرني بهن جبريل آنفاً > ، قال : جبريل ؟ قال : < نعم > قال : ذاك عدوّ اليهود من الملائكة ، فقرأ هذه الآية : { من كان عدواً لجبريل فإنّه نزله على قلبك } . < أما أول أشراط الساعة ، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب . وأما أول طعام أهل الجنة ، فزيادة كبد الحوت . وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة ، نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة نزعت > قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أنك رسول الله . يا رسول الله ! إن اليهود قوم بُهُتٌ وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني . فجاءت اليهود ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم
< أي : رجل عبد الله فيكم > ؟
قالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، قال : < أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام > ؟ فقالوا : أعاذه الله من ذلك ! فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله . فقالوا : شرنا وابن شرنا . وانتقصوه .
قال : فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله .
وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية قال : حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم ، حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي . وساق نحواً مما تقدم . وتتمته قالوا : أنت الآن ، فحدثنا من وليّك من الملائكة ، فعندها نجامعك أو نفارقك ، قال : < فإن ولي جبريل ، ولم يبعث الله نبيّاً قط ، إلا وهو وليه > . قالوا : فعندها نفارقك . ولو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك . قال : فما منعكم أن تصدقوه ؟ قالوا : إنه عدوّنا ، فأنزل الله عز وجل : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } إلى قوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } فعندها باؤوا بغضب على غضب .
وفي رواية للإمام أحمد والترمذي والنسائي في القصة : فأخبرنا من صاحبك ؟ قال : < جبريل عليه السلام > . قالوا : جبريل ! ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب ، عدونا . لو قلت : ميكائيل ، الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان ! فأنزل الله تعالى : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } إلى آخر الآية . ويؤخذ من روايات أخر أن سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين عُمَر بن الخطاب في أمر النبي صلى الله عليه وسلم . فقد روى ابن جرير عن الشعبيّ قال : نزل عمر الرَّوحاء ، فرأى رجالاً يبتدرون أحجاراً يصلّون إليها . فقال : ما هؤلاء ؟ قالوا : يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ههنا . قال فكره ذلك ، وقال : أيما ؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بواد فصلى ، ثم ارتحل فتركته . ثم أنشأ يحدثهم ، فقال : كنت أشهد اليهود يوم مِدْراسِهم ، فأعجب من التوراة كيف تصدّق الفرقان ، ومن الفرقان كيف يصدّق التوراة ! فبينما أنا عندهم ذات يوم ، قالوا : يا ابن الخطاب ! ما من أصحابك أحد أحبّ إلينا منك . قلت : ولم ذلك ؟ قالوا : إنك تغشانا وتأتينا . قال : قلت إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدق التوراة ، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان قال ، ومرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا ابن الخطاب ! ذاك صاحبكم فالحق به . قال : فقلت لهم عند ذلك : أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو ، وما استرعاكم من حقه ، وما استودعكم من كتابه ، أتعلمون أنه رسول الله ؟ قال : فسكتوا . قال : فقال لهم عالمهم وكبيرهم : إنه قد عظَّم عليكم فأجيبوه . قالوا : أنت عالمنا وسيدنا ، فأجبه أنت . قال : أمّا إذ نشدتنا به . فإنا نعلم أنه رسول الله . قال : قلت ويحكم ، إذاً هلكتم . قالوا : إنا لم نهلك . قال : قلت : كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول الله ثم لا تتبعونه ولا تصدقونه ؟ قالوا : إن لنا عدواً من الملائكة وسلماً من الملائكة . وإنه قُرن به عدونا من الملائكة . قال : قلت : ومن عدوكم ، ومن سلمكم ؟ . قالوا عدونا جبريل ، وسلمنا ميكائيل . قال : قلت : وفيم عاديتم جبريل ؟ وفيم سالمتم ميكائيل ؟ قالوا : إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار ، والتشديد والعذاب ، ونحو هذا . وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف ، ونحو هذا . قال : قلت : وما منزلتهما من ربهما ؟ قالوا : أحدهما عن يمنيه والآخر عن يساره .
قال : قلت : فو الله الذي لا إله إلا هو إنهما والذي بينهما لعدوّ لمن عاداهما وسلم لمن سالمهما ، ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدوّ ميكائيل ، وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدوّ جبريل . قال : ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم فلحقته وهو خارج من مخرفة لبني فلان . فقال لي : يا ابن الخطاب ، ألا أقرئك آيات نزلن ؟ فقرأ عليّ : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ } حتى قرأ الآيات . قال : قلت : بأبي وأمي أنت يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق ، لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك بالخبر ، فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر .
ورواه مختصراًَ ابن أبي حاتم أيضاً ، وفيه انقطاع ، فإن الشعبيّ لم يدرك زمان عمر رضي الله عنه . كذا قاله الحافظ ابن كثير ، وساقه أيضاً الواحديّ ، وزاد في آخره : قال عمر : فلقد رأيتني في دين الله أشد من حجر .
قال العلامة البقاعيّ : وقد روى هذا الحديث أيضاً إسحاق بن راهويه في " مسنده " عن الشعبيّ ، عن عمر رضي الله عنه . قال شيخنا البوصيريّ : وهو مرسل صحيح الإسناد ، انتهى .
وثَمّ روايات متنوعات ساقها ابن كثير في تفسيره ، لا نطوّل كتابنا بسردها ، ومرجعها واحد . فإن قيل : بين رواية البخاريّ الأولى وما بعدها تناف ! . فالجواب : لا منافاة ؛ لأن قراءته صلى الله عليه وسلم لها في محاورة عبد الله بن سلام ، ردّاً لقول اليهود ، لا يستلزم نزولها حينئذ . فإن المعتمد في سبب نزولها غير قصة عبد الله بن سلام مما سلف من الروايات . فإن طرقها يقوي بعضها بعضاً ، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له عبد الله بن سلام : إن جبريل عدو لليهود ، تلا عليه الآية ، مذكّراً له سبب نزولها كذا قاله الحافظ ابن حجر في الفتح .
وقد أشار إلى ذلك السيوطي في " الإتقان " حيث قال :
تنبيه : قد يكون في إحدى القصتين ، " فتلا " فَيَهِمُ الراوي ، فيقول : فينزل . وقال العلامة ولي الله الدهلويّ قدس سره في كتابه " أصول التفسير " وقد تحقق عند الفقير أن الصحابة والتابعين كثيراً ما كانوا يقولون : نزلت الآية في كذا وكذا ، وكأن غرضهم تصوير ما صدقت عليه الآية ، وذِكْرَ بعض الحوادث التي تشملها الآية بعمومها ، سواء تقدمت القصة أو تأخرت ، إسرائيلياً كان ذلك أو جاهلياً أو إسلامياً ، استوعبت جميع قيود الآية أو بعضها ، والله أعلم .
فعلم من هذا التحقيق أن للاجتهاد في هذا القسم مدخلاً ، وللقصص المتعددة هنالك سعة . فمن استحضر هذه النكتة يتمكن من حل ما اختلف من سبب النزول بأدنى عناية . انتهى .
وقوله تعالى : { لجبريل } قرئ في السبع بكسر الجيم والراء بلا همز ، وبفتح الجيم بدونها أيضاً ، وبفتح الجيم والراء وهمزة مكسورة ثم ياء وبدونها . قال ابن جنيّ : العرب إذا نطقت بالأعجميّ خلطت فيه .
وقوله : { فإنه نزله } تعليل لجواب الشرط قائم مقامه ، والبارز الأول لجبريل عليه السلام ، والثاني للقرآن ، أضمر من غير سبق ذكر ، إيذاناً بفخامة شأنه ، واستغنائه عن الذكر ، لكمال شهرته ونباهته ، لاسيما عند ذكر شيء من صفاته . وقوله : { على قلبك } زيادة تقرير للتنزيل ، ببيان محل الوحي ، فإنه القابل الأول له ، إن أريد به الروح . ومدار الفهم والحفظ إن أريد به العضو ، وهذا كقوله : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ } [ الشعراء : 193 ، 194 ] ، وكان حق الكلام أن يقال : على قلبي ؛ لأنه المطابق لِقُل ولكن جاء على حكاية كلام الله كما تكلم به تحقيقاً لكونه كلام الله ، وأنه أمر بأبلاغه .
وقوله : { بِإِذْنِ اللّهِ } أي : بأمره . وقوله : { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : من التوراة وبقية الصحف المنزلة . وقوله : { وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } أي : يهدي للرشد وبشرى لهم بالجنة ، كما قال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ } [ فصلت : 44 ] الآية ، وقال تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ الإسراء : 82 ] وفيه رد على اليهود ، حيث قالوا : إن جبريل ينزل بالحرب والشدة كما والشدة ، فقيل : فإنه ينزل بالهدى والبشرى أيضاً . فإن قيل : من شأن الشرط والجزاء الاتصال بالسببية والترتب ، فكيف استقام قوله : { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ } جزاء للشرط ؟ أجيب بأن قوله : { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ } تعليل لجواب الشرط ، كما أسلفنا . والمعنى : من عادى جبريل من أهل الكتاب ، فلا وجه لمعاداته ، بل يجب عليه محبته ، فإنه نزل عليك كتاباً مصدقاً لكتبهم . فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه ، في إنزاله ما ينفعهم ، ويصحح المنزل عليهم . وقيل : الجواب محذوف تقديره : فليمت غيظاً . وعليه فلا يكون : { فإنه نزله } نائباً عنه . ووجهه أن يقدر الجواب مؤخراً عن قوله : { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ } ويكون هو تعليلاً وبياناً لسبب العداوة ، كأنه قيل : من عاداه ؛ لأنه نزل على قلبك فليمت غيظاً .
قال الرضى : كثيراً ما يدخل الفاء على السبب ويكون بمعنى اللام ، قال الله تعالى
{ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } [ الحجر : 34 ] ، وقيل تقديره : فهو عدو لي وأنا عدوه ، بقرينة الجملة المعترضة المذكورة بعده في وعيدهم ، هي قوله تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } أي : من كان عدواً لله لإنزاله فضله على من يشاء أو لأمر آخر .
وأفادت الآية غضب الله تعالى لجبريل على من عاداه ، وقد روى البخاري في صحيحه ، عن أبي هريرة حديثاً قدسياً < من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب > .
وصدّر الكلام بذكر الجليل تفخيماً لشأنهم ، وإيذاناً بأن عداوتهم عداوته عز وعلا ، وقدم الملائكة على الرسل ، كما قدم الله على الجميع ؛ لأن عداوة الرسل بسبب نزول الوحي ، ونزوله بتنزيل الملائكة ، وتنزيلهم لها بأمر الله ، فذكر الله تعالى ومن بعده على هذا الترتيب ، وإنما خص جبريل وميكائيل بعد ذكر الملائكة لقصد التشريف لهما ، والدلالة على فضلهما ، وإنهما ، وإن كانا من الملائكة ، فقد صارا باعتبار ما لهما من المزية بمنزلة جنس آخر أشرف من جنس الملائكة ، تنزيلاً للتغاير الوصفي ، منزلة التغاير الذاتيّ ، وللتنبيه على أن معاداة الواحد والكل سواء في الكفر ، واستجلاب العداوة من الله تعالى ، وإن من عادى أحدهم فكأنه عادى الجميع ؛ إذ الموجب لمحبتهم وعداوتهم على الحقيقة واحد ، ولأن المحاجة كانت فيهما . ووضع : الكافرين ، موضع : لهم ؛ ليدل على أن الله إنما عاداهم لكفرهم ، وأن عداوة الملائكة كفر . وقد قرئ في السبع : { مِيْكَالَ } كميزان ، و : { مِيْكَائِل } بهمزة مكسورة بعد الألف بدون ياء و : { مِيْكَائِيْلَ } بالهمزة والياء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ } [ 99 ]
{ وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ } أي : أنزلنا إليك علامات واضحات دالات على نبوتك ، وتلك الآيات هي ما حواه القرآن من خفايا علوم اليهود ومكنونات سرائر أخبارهم ، وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل ، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم ، وما حرّفه أوائلهم وأواخرهم ، وبدلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة ، فأطلعها الله في كتابه الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف من نفسه ولم يَدعه إلى إهلاكها الحسدُ والبغيُ ؛ إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة ، تصديق من أتى بمثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات التي وصفت ، من غير تعلمٍ تعلمه من بشر ، ولا أخذ شيء منه عن آدميّ .
وحملُ الآيات على ما ذكرناه من آيات القرآن المجيد أولى من حملها على سائر المعجزات المأثورة ؛ لأن الآيات إذا قرنت إلى التنزيل ، كانت أخص بالقرآن ، وقوله : { وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ } أي : المتمردون من الكفرة ، واللام للعهد ، أي : الفاسقون المعهودون ، وهم اليهود ، أو للجنس ، وهم داخلون فيه دخولاً أوليّاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ 100 ]
{ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } الهمزة للإنكار ، والواو للعطف على محذوف يقتضيه المقام ، أي : كفروا بالآيات بالبينات ، { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ } الخ ، أو أينكرون فسقهم وكلما الخ ، وقيل : الواو زائدة ، وقيل هي " أَوْ " التي لأحد الشيئين . حركت بالفتح . وقد قرئ شاذاً بسكونها . فتكون بمعنى بل . دلت عليه القرينة . أعني قوله : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ترقياً إلى الأغلظ فالأغلظ . قال ابن جنيّ : " أو " هذه هي التي بمعنى " أم " المنقطعة ، وكلتاهما بمعنى " بل " موجودة في الكلام كثيراً . أنشد الفراء لذي الرمة :
~بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِيْ رَوْنَقِ الضُّحَى وَصُوْرَتِهَا . أَوْ أَنْتَ فِيْ الْعَيْنِ أَمْلَحُ
وكذا قال في قوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } وعلى الوجه الأول ، فالمقصود من هذا الاستفهام الإنكار ، وإعظام ما يَقْدمون عليه ، لأن مثل ذلك ، إذا قيل بهذا اللفظ كان أبلغ في التنكير والتبكيت .
ودل بقوله : { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ } على عهد بعد عهد نقضوه ونبذوه . بل يدل على أن ذلك كالعادة فيهم . فكأنه تعالى أراد تسلية الرسول عند كفرهم بما أنزل عليه من الآيات ، بأن ذلك ليس ببدع منهم بل هو سجيتهم وعادتهم وعادة سلفهم ، على ما بيّنه في الآيات المتقدمة من نقضهم العهود والمواثيق حالاً بعد حال ؛ لأن من يعتاد منه هذه الطريقة لا يصعب على النفس مخالفته ، كصعوبة من لم تجر عادته بذلك .
قال العلامة : واليهود موسومون بالغدر ونقض العهود ، وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا ، وكم عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفوا : { الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ } [ الأنفال : 56 ] ، والنبذ الرمي بالذمام ، ورفضه . وإسناده إلى فريق منهم ، لأن منهم من لم ينبذه . وفي قوله : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } دفع لما يتوهم من أن النابذين هم الأقلون . قوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ 101 ]
{ وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } تصريح بما طوى قبلُ . فإن نبذهم العهود التي تقدم الله إليهم في التمسك بها والقيام بحقها ، أعقبهم التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة ، الذي في كتبهم نعته ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ } [ الأعراف : 157 ] الآية ، فتنكير : { رسول } للتفخيم . والجار بعده متعلق بجاء ، أو بمحذوف وقع صفة لرسول ، لإفادة مزيد تعظيمه بتأكيد ما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية ، وقوله : { كِتَابَ اللّهِ } يعني التوراة ؛ لأنهم بكفرهم برسول الله ، المصدِّق لما معهم ، كافرون بها ، نابذون لها . وقيل : { كِتَابَ اللّهِ } القرآن نبذوه بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول . وقوله : { وَرَاء ظُهُورِهِمْ } مثل لتركهم وإعراضهم عنه ، مثّل بما يرمي به وراء الظهر استغناء عنه ، وقلة التفاوت إليه ، وقوله : { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } جملة حالية ، أي : نبذوه وراء ظهورهم ، مشبّهين بمن لا يعلمه . فإن أريد بهم أحبارهم ، فالمعنى كأنهم لا يعلمونه على وجه الإيقان ، ولا يعرفون ما فيه من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم . ففيه إيذان بأن علمهم به رصين ، لكنهم يتجاهلون ، أو كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله ، أو لا يعلمون أصلاً ، كما إذا أريد بهم الكل .
وفي هذين الوجهين ، زيادة مبالغة في إعراضهم عما في التوراة من دلائل نبوية ، وهذا وإن أريد بما نبذوه من كتاب الله القرآن ، فالمراد بالعلم المنفيّ في : { كأنهم لا يعلمون } هو العلم بأنه كتاب الله ، ففيه ما في الوجه الأول من الإشعار بأنهم متيقنون في ذلك ، وإنما يكفرون به مكابرة وعناداً ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ 102 ]
{ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } هو حكاية لفن آخر من زيغهم وضلالهم ، إثر نبذهم كتاب الله والعمل بما بين أيديهم ؛ وهو اتباعهم لما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر والكفر ، وإنه إنما نال ذلك الملك بسبب معرفته السحر ، وزادوا على ذلك فنسبوه إلى الردة والكفر لأسباب افتروها عليه ، فبرأه الله تعالى من هذا الافتراء والاختلاق ، وألصق الكفر بأولئك الشياطين الذين يضللون العقول والأفهام بتعليم السحر والشعبذة ، وإسناد التأثير إلى غير الخالق سبحانه ، والصد عن سبيل الحق ، وابتغائهم إياها عوجاً و : { تتلو } بمعنى تقصّ وتحدث . من التلاوة ، وهي القراءة . أو بمعنى تكذب وتختلق ، وهو قول أبي مسلم ؛ قال : يقال تلا عليه ، إذا كذب ، وتلا عنه إذا صدق . وهكذا قال الراغب في تفسيره : تلا عليه كذب ، نحو روى عليه ، وقال عليه : { وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } [ آل عِمْرَان : 75 ] . وقال : الآية معطوفة على ما تقدم من ذكر اليهود ، وهي منطوية على أمرين : ذم اليهود في تحريّ السحر وإيثاره ، وتبرئة لسليمان عليه السلام مما نسبوه إليه ، وتخرّصوه عليه . وذلك أنهم زعموا أن سليمان عليه السلام ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام ، وبنى لها المعابد ، كما تراه في الفصل الحادي عشر من سفر الملوك الثالث . فانظر إلى هذه الجرأة العظيمة والقحة الكبيرة ، ولما تنبه عقلاء أهل الكتاب المتأخرون لمثل هذه الفرى ، اعترفوا بأنه ليس كل قول من الأقوال المندرجة في كتبهم المقدسة إلهامياً ، بل بعضها كُتب على طريقة المؤرخين ، يعني بلا إلهام ، كما في " إظهار الحق " . والمراد بالشياطين شياطين الإنس ، وهم المتمردة العصاة الأشرار الأقوياء ، الدعاة إلى الباطل .
وقوله : { عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أي : على عهد ملكه من تلك الأقاصيص المختلقة عليه . وقوله تعالى : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } تنزيه لساحته عليه السلام من الردة والشرك وعبادة الأوثان التي نسبوها إليه ، وتكذيب لمن تقوّلها ، وقال كثيرون : هذا تبرئة من السحر ، وأنه تعالى كنى عن السحر بالكفر ليدل على أنه كفر ، وأن من كان نبياً كان معصوماً عنه ، وإنما كان كفراً لكونه يكون بالتوجه إلى الأفلاك والشياطين وعبادتها ، وزعم أنها مؤثرة دونَه تعالى .
والمعنى الأول أصرح واوضح .
وقوله تعالى : { ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } عنى بالشياطين من ذكرناهم قبلُ وهم خبثاء الإنس وأشرارهم . كما قي قوله تعالى : { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ } [ البقرة : 14 ] وقوله : { شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ } [ الأنعام : 112 ] والذي يعيّن هذا المعنى قوله : { تتلو } لأن تلاوة شياطين الجن ، لا يسمعها أحد ، ومعنى : { تتلو } تقص كما تقدم . وقوله : { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } يعيّن هذا المعنى أيضاً ؛ إذ لا يتعلم أحد السحر إلا من شياطين الإنس .
والمراد بقوله : { كفروا } كفرهم بآيات الله المنزلة ، أو عبادتهم غيره تعالى ، أو كفرهم باستعمال السحر والشعوذة ، تعمية على الحق ، وتغشية للبصائر . وجملة قوله : { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } حالية من ضمير : { كفروا } ، أو خبر ثان لـ : { لكن } ، أو مستأنفة . هذا على تقدير كون الضمير للشياطين . وأما على تقدير رجوعه إلى فاعل : { أتبعوا } فهي إما حال منه أو استئنافية . وقوله تعالى : { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .
أعلم أن للعلماء في هذه الآية وجوهاً كثيرة ، وأقوالاً عديدة ، فمنهم من ذهب فيها مذهب الأخبار بين نقَلة الغث والسمين ، ومنهم من وقف مع ظاهرها البحت [ في المطبوع : البحث ] وتمحّل لما اعترضه ، بما المعنى الصحيح في غنى عنه . ومنهم من ادعى فيها التقديم والتأخير وردّ آخرها على أولها ، بما جعلها أشبه بالألغاز والمعميات ، التي يتنزه عنها بيان أبلغ كلام . إلى غير ذلك مما يراه المتتبع لما كتب فيها .
والذي ذهب إليه المحققون أن هاروت وماروت كانا رجلين متظاهرين بالصلاح والتقوى في بابل وهي مدينة بالعراق على نهر الفرات وكانا يعلمان الناس السحر ، وبلغ حسن اعتقاد الناس بهما أن ظنوا أنهما ملكان من السماء ، وما يعلمانه للناس هو بوحي من الله ، وبلغ مكر هذين الرجلين ، ومحافظتهما على اعتقاد الناس بالحسن فيهما أنهما صارا يقولان لكل من أراد أن يتعلم منهما : { إنما نحن فتنة فلا تكفر } ، أي : إنما نحن أولو فتنة نبلوك ونختبرك ، أتشكر أم تكفر ، وننصح لك أن لا تكفر . يقولان ذلك ليوهما الناس أن علومهما إلهية ، وصناعتهما روحانية ، وأنهما لا يقصدان إلا الخير . كما يفعل ذلك دجاجلة هذا الزمان ، قائلين لما يعلمونهم الكتابة للمحبة والبغض على زعمهم : نوصيك بأن لا تكتب لجلب امرأة متزوجة إلى رجل غير زوجها ، إلى غير ذلك من الأوهام والافتراء .
ولليهود في ذلك خرافات كثيرة . حتى إنهم يعتقدون أن السحر نزل عليهما من الله ، وأنهما ملكان جاءا لتعليمه للناس . فجاء القرآن مُكذّباَ لهم في دعواهم نزوله من السماء ، وفي ذم السحر ومن يتعلمه أو يعلمه ، فقال : { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } الآية ، فـ " ما " هنا نافية ، على أصح الأقوال ، ولفظ " الملكين " هنا وارد حسب العرف الجاري بين الناس في ذلك الوقت ، كما يرد ذكر آلهة الخير والشر في كتابات المؤلفين عن تاريخ اليونان والمصريين وغيرهم ، وكما يرد في كلام المسلم ، في الرد على المسيحيين ، ذكر تجسد الإله وصلبه ، وإن كان لا يعتقد ذلك .
وقوله تعالى : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } من قبيل التمثيل ، وإظهار الأمر في أقبح صورة ، أي : بلغ من أمر ما يتعلمونه من ضروب الحيل ، وطرق الإفساد ، أن يتمكنوا به من التفريق بين أعظم مجتمع : كالمرء وزوجه .
والخلاصة : أن معنى الآية من أولها إلى آخرها هكذا : أن اليهود كذّبوا القرآن ونبذوه وراء ظهورهم ، واعتاضوا عنه بالأقاصيص والخرافات التي يسمعونها من خبثائهم عن سليمان وملكه ، وزعموا أنه كفر ، وهو لم يكفر . ولكن شياطينهم هم الذين كفروا ، وصاروا يعلمون الناس السحر ، ويدعون أنه أنزل على هاروت وماروت ، اللذين سموهما ملكين ، ولم ينزل عليهما شيء ، وإنما كانا رجلين يدّعيان الصلاح لدرجة أنهما كانا يوهمان الناس أنهما لا يقصدان إلا الخير ، ويحذرانهم من الكفر ، وبلغ من أمر ما يتعلمونه منهما من طرق الحيل والدهاء أنهم يفرقون به بين المجتمعين ، ويحلون به عقد المتحدين .
فأنت ترى من هذا المقام كله للذم ، فلا يصح أن يرد فيه مدح هاروت وماروت ، والذي يدل على صحة ما قلناه فيهما أن القرآن أنكر نزول أي : ملك إلى الأرض ليعلم الناس شيئاً من عند الله ، غير الوحي إلى الأنبياء ، ونص نصّاً صريحاً أن الله لم يرسل إلا الإنس لتعليم بني نوعهم فقال : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [ الأنبياء : 7 ] ، وقال منكِراً على من طلب إنزال الملك : { وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ } [ الأنعام : 8 ] ، وقال في سورة الفرقان : { وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } إلى قوله : { فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً } [ الفرقان : 7 9 ] .
وللقُصاص في هاروت وماروت في أحاديث عجيبة . فزعموا أنهما كان ملكين من الملائكة ، وأنهما لما نظرا إلى ما يصنع أهل الأرض من المعاصي ، أنكرا ذلك وأكبراه ودعوا على أهل الأرض . فأوحى الله إليهما : إني لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم من الشهوات لعصيتماني ، فقالا : يا رب ، لو ابتليتنا لم نفعل ، فجرّبنا . فأهبطهما إلى الأرض ، وابتلاهما الله بشهوات بني آدم ، فمكثا في بلدة كانت فيها فاجرة تسمى : الزهرة ، فدعواها إلى الفاحشة وواقعاها بعد أن شربا الخمر ، وقتلا النفس وسجدا للصّنم ، وعلمّاها الاسم الأعظم ، الذي كانا به يعرجان إلى السماء ، فتكلمت المرأة بذلك الاسم ، وعرجت إلى السماء ، فمسخها الله تعالى ، وصيرها هذا الكوكب المسمى بالزهرة . ثم إن الله تعالى عرّف هاروت وماروت قبيح ما فيه وقعا ، ثم خيّرهما بين عذاب الآخرة آجلاً ، وبين عذاب الدنيا عاجلاً ، فاختارا عذاب الدنيا ، فجعلهما ببابل منكوسين في بئر إلى يوم القيامة ، وهما يعلّمان الناس السحر ، ويدعوان إليه ، ولا يراهما أحد إلا من ذهب إلى ذلك الموضع لتعلم السحر خاصة .
وهذه القصة من اختلاق اليهود وتقولاتهم . ولم يقل بها القرآن قط ، وإنما ذكرها التلمود ، كما يعلم من مراجعة " مدارس يدكوت " في الاصحاح الثالث والثلاثين ، وجاراه جهلة القصاص من المسلمين ، فأخذوا منه .
قال الرازي في تفسيره : إن القصة التي ذكروها باطلة من وجوه :
أحدها : أنهم ذكروا في القصة أن الله تعالى قال لهما - أي : لهاروت وماروت - : لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم لعصيتماني ، فقالا : لو فعلت ذلك بنا يا رب لما عصيانك ، وهذا منهم تكذيب لله تعالى ، وتجهيل له ، وذلك من صريح الكفر .
وثانيها : أنهما خُيّرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، وذلك فاسد ، بل كان الأولى أن يخيرا بين التوبة وبين العذاب ، والله تعالى خيّر بينهما من أشرك به طول عمره ، وبالغ في إيذاء أنبيائه .
وثالثهما : أن من أعجب الأمور قولهم : إنهما يعلمان السحر ، في حال كونهما معذبين ويدعوان إليه ، وهما يعاقبان .
وهكذا ، الإمام أبو مسلم احتج على بطلان نزول السحر عليهما أيضاً بوجوه :
الأول : أن السحر لو كان نازلاً عليهما لكان منزّله هو الله ، وذلك غير جائز ؛ لأن السحر كفر وعبث لا يليق بالله تعالى إنزال ذلك .
الثاني : أن قوله : { وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } يدل على أن تعليم السحر كفر . فلو ثبت في الملائكة أنهم يعلمون السحر لزمهم الكفر . وذلك باطل .
الثالث : كما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا لعليم السحر ، فكذلك في الملائكة بطريق الأولى .
الرابع : إن السحر لا ينضاف إلا إلى الكفرة والفسقة والشياطين المردة ، وكيف يضاف إلى الله ما ينهى عنه ويتوعد عليه بالعقاب ؟ وهل السحر إلا الباطل المموه ؟ وقد جرت عادة الله بإبطاله ، كما قال في قصة موسى عليه السلام : { مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ } [ يونس : 81 ] انتهى .
وقد ساق الرازيّ ما ارتآه أبو مسلم في تفسير هذه الآية . ولم نشأ نقله لبعده عن الصواب . وهكذا ما ذكره الإمام ابن حزم في كتابه " الفصل " في بحث عصمة الملائكة ففيه تكلف وتمحل غريب ، كما يعلم بمراجعتهما .
وللراغب الأصفهاني احتمالات في تصحيح القصة ، وتجويزات عجيبة تنبو عن الحق الصراح الذي آثرنا نقله أولاً عن بعض المحققين . والله أعلم .
واعلم أن لفظ السحر ، في عرف الشرع ، مختص بكل أمر يخفى سببه ، ويتخيل على غير حقيقته ، ويجري مجرى التمويه والخداع ، ومتى أطلق ولم يقيد ، أفاد ذم فاعله ، قال تعالى : { سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ } [ الأعراف : 116 ] ، يعني موّهوا عليهم حتى ظنوا أن حيالهم وعصيهم تسعى . وقد يستعمل مقيداً فيما يمدح ويحمد ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن أهتم : < إن من البيان لسحراً > ، لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل ، ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه ، وبليغ عبارته . وبالجملة : فالسحر المطلق إنما هو تخييل بشعوذة صارفة للأبصار ، أو تمتمة مزخرفة عائقة للأسماع ، فلا يغير حقائق الأشياء ، ولا ينقل الصور . وقوله تعالى : { وما بهم بضارين به من أحد إلا بإن الله } قال الراغب : الإذن قد يقال في الإعلام بالرخصة ، ويقال للعلم ، ومنه آ ذنته بكذا ، ويقال للأمر الحتم . وينبغي أن يعلم أن الإذن في الشيء من الله تعالى ضربان :
أحدهما : الإذن لقاصد الفعل في مباشرته . نحو قولك : أذن الله لك أن تصل الرحم .
والثاني : الإذن في تسخير الشيء على وجه تسخير السم في قتله من يتناوله ، والترياق في تخليصه من أذيته . فإذنُ الله تعالى وقوع التسخير وتأثيره من القبيل الثاني ، وذلك هو المشار إليه بالقضاء ، وعلى هذا يقال : الأشياء كلها بإذن الله وقضائه . ولا يقال : الأشياء كلها بأمره ورضاه . وقوله تعالى : { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ } إرشاد إلى أن ليس في تعلم السحر إلا المضرة ، لما فيه من التلبيس والتمويه ، وإيهام الباطل حقاً ، والتوصل به إلى المفاسد والشرور . وقوله سبحانه : { ولا ينفعهم } صرح به إيذاناً بأنه ليس من الأمور المشربة بالنفع والضرر ، بل هو شرٌ بحت ، وضرر محض .
وقوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ } أي : اليهود الذي حكيت ضلالاتهم . وقوله : { لَمَنِ اشْتَرَاهُ } أي : استبدل ما تتلو الشياطين بكتاب الله ، والحق الذي أنزله . وقوله : { مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } أي : نصيب ، لإقباله على التمويه والكذب ، واستعمال ذلك في اكتساب حطام الدنيا وتمتعاتها . وفيه إشارة إلى أن اختيارهم للسحر ليس من جهلهم بضرره ، بل أتوا ما أتوا عن علم بعاقبته السوأى .
وقوله تعالى : { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ } أي : ما باعوا به حظهم الأخرويّ ، حتى كأنهم أتلفوا أنفسهم ، وإنما نفى عنهم العلم بقوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } مع إثباته لهم على سبيل التوكيد القسمي بقوله : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ } لأن معناه لو كانوا يعملون بعلمهم . فجعلهم غير عالمين ، لعدم عملهم بموجب علمهم . ولما بين سبحانه ما عليهم فيما ارتكبوا من المضار أتبعه ما في الإعراض عنه من المنافع فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ 103 ]
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ } أي : بما دعوا إليه من القرآن الحكيم : { واتَّقَوْا } أي : ما يؤثمهم ، ومنه السحر والتمويه وقوله : { لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ } جواب : لو ، وأصله : لأثيبوا مثوبة من عند الله خيراً مما شروا به أنفسهم . فحذف الفعل وغيّر السبك إلى ما عليه النظم الكريم ، دلالة على ثبات المثوبة لهم والجزم بخيريتها ، وحذف المفضل عليه إجلالاً للمفضل من أن ينسب إليه
، وقوله تعالى : { لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أي : أن ثواب الله خير . وإنما نسبوا إلى الجهل لعدم العمل بموجب العلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 104 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ } للنبي صلى الله عليه وسلم : { رَاعِنَا } التي تقصدون بها الرعاية والمراقبة لمقصد الخير وحفظ الجانب ، فاغتنمها اليهود لموافقة كلمة سيئة عندهم فصاروا يلوون بها ألسنتهم ، ويقصدون بها الرعونة ، وهي إفراط الجهالة ، فنهاهم عن موافقتهم في القول ، منعاً للصحيح الموافق في الصورة لشبهه من القبيح ، وعوضهم منها ما لا يتطرق إليه فساد فقال : { وَقُولُواْ انظُرْنَا } فأبقى المعنى وصرف اللفظ . أي : أنظر إليها . بالحذف والإيصال ، أو انتظرنا . على أنه من نظره إذا انتظره ، وقرئ : { انظرنا } من النظرة أي : أمهلنا حتى نحفظ . وقرئ : راعونا على صيغة الجمع للتوقير . وراعناً على صيغة الفاعل أي : قولاً ذا رعن ، كدارع ولابن ، لأنه لما أشبه قولهم راعينا وكان سبباً للسب بالرعن اتصف به
{ وَاسْمَعُوا } أي : قولوا ما أمرتكم به ، وامتثلوا جميع أوامري ، ولا تكونوا كاليهود ، حيث قالوا سمعنا وعصينا : { وَلِلكَافِرِينَ } أي : اليهود الذي توسلوا بقولكم المذكور إلى التهاون بمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم : { عَذَابٌ أَلِيمٌ } لما اجترؤوا عليه من العظيمة ، وهو تذييل لما سبق ، فيه وعيد شديد لهم ، ونوع تحذير للمخاطبين عما نُهوا عنه .
وهذه الآية يظير قوله تعالى في سورة النساء : { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً } [ النساء : 46 ] ، ومن ليّهم ما جاء في الحديث أنهم كانوا إذا سلموا يقولون : السام عليكم . والسام هو الموت ، ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بـ < وعليكم > وإنما يستجاب لنا فيهم ، ولا يستجاب لهم فينا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [ 105 ]
{ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ } بيان لشدة عداوة الكافرين من القَبِيْلَيْنِ للمؤمنين ، حسداً وبغياً . ليقطع التشبه بهم ؛ فإن مخالفة الأعداء من الأغراض العظيمة للمتمكنين في الأخلاق الفاضلة .
ثم بين أن الحسد لا يؤثر في زوال ذلك بقوله : { وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } والاختصاص : عناية تعيّن المختص لمرتبة ينفرد بها دون غيره ، وفيه تنبيه على ما أنعم به على المؤمنين ، من الشرع التام الكامل الذي شرعه لهم .
ولمّا أنكرت اليهود أن يقع شيء من النسخ لآيات الله ، توصلاً بذلك إلى إنكار آيات القرآن ، وتأييدِ تأبيد التوراة ، ردّ عليهم سبحانه بعد تحقيق الوحي بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 106 ]
{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } أي : ما نبدّل من آية بغيرها ، كنسخنا آيات التوراة بآيات القرآن : { أو ننسها } أي : نذهبها من القلوب كما أخبر بقوله : { وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } [ المائدة : 13 ]
وقرئ : { أَوْ نَنْسَأْهَا } أي : نؤخرها ونتركها بلا نسخ ، كما أبقى كثيراً من أحكام التوراة في القرآن . وعلى هذه القراءة ، فقد نشر على ترتيب هذا اللف قوله : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } أي : من المنسوخة المبدلة كما فعل في الآيات التي شرعت في الملة الحنيفية ما فيه اليسر ، ورفع الحرج والعنت ، فكانت خيراً من تلك الآصار ، والأغلال . وقوله : { أَوْ مِثْلِهَا } أي : مثل تلك الآيات الموحاة قبل ، كما يُرى في كثير من الآيات في القرآن الموافقة لما بين يديها مما اقتصت الحكمة بقاءه واستمراره .
قال الراغب : فإن قيل : إن الذي تُرك ولم يُنسخ ليس مثله بل هو هو ، فكيف قال : بمثلها ؟ قيل : الحكم الذي أنزل في القرآن وكان ثابتاً في الشرع الذي قبلنا يصح أن يقال هو هو ، إذا اعتبر بنفسه ولم يعتبر بكسوته ، التي هي اللفظ ، ويصح أن يقال هو مثله إذا لم يعتبر بنفسه فقط بل اعتبر باللفظ ، ونحو ذلك أن يقال : ماء البئر هو ماء النهر إذا اعتبر جنس الماء ، وتارة يقال : مثل ماء النهر إذا اعتبر قرار الماء . على أن إرادة العين بالمثل شائعة ؛ كما في قولهم : مثلك لا يبخل .
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فهو يقدر على الخير ، وما هو خير منه ، وعلى مثله في الخير ، قال الراغب : أي : لا تحسبن أن تغييري لحكمٍ حالاً فحالاً ، وأني لم آت بالثاني في الابتداء ، هو العجز ، فإن من علم قدرته على كل شيء لا يظن ذلك . وإنما تغير ذلك يرجع إلى مصلحة العباد ، وأن الأليق بهم ، في الوقت المتقدم ، الحكم المتقدم . وفي الوقت المتأخر ، الحكم المتأخر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } [ 107 ]
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } فهو يملك أموركم ويدبرها ، وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ أو منسوخ { وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ } يلي أموركم : { وَلاَ نَصِيرٍ } ناصر يمنعكم من العذاب .
وقضية العلم بما ذكر من الأمور الثلاثة ، هو الجزم والإيقان بأنه تعالى لا يفعل بهم - في أمر من أمور دينهم أو دنياهم إلا ما هو خيرٌ لهم ، والعمل بموجبه من الثقة به ، والتوكل عليه ، وتفويض الأمر إليه ، من غير إصغاء إلى أقاويل اليهود ، وتشكيكاتها التي من جملتها ما قالوا في أمر النسخ ، حيث أنكروا نسخ أحكام التوراة ، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، لمجيئهما بما جاءا [ في المطبوع : جاءً ] به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة . فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما ، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته ، عليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه ، وأن له أمرهم بما يشاء ، ونهيهم عما يشاء ، ونسخ ما يشاء ، وإقرار ما يشاء . والذي حمل اليهود على منع النسخ إنما هو الكفر والعناد ، وإلا فقد وُجد في شريعتهم النسخ بكثرة .
وقد ذكر العلامة الشيخ رحمه الله الهندي في [ كتابه ] " إظهار الحق " أمثلة وافرة مما وقع من ذلك في التوراة والإنجيل . فارجع إليها في الباب الثالث منه .
تنبيهان :
الأول : قال بعض الفضلاء : نزلت هذه الآية لمّا قال المشركون أو اليهود : إن محمداً يأمر أصحابه بأمرٍ ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه . وفي الآية ردّ عليهم بأن المقصود من نسخ الحكم السابق : تهيؤ النفوس لأرقى منه ؛ وهو معنى قوله تعالى : { نأت بخير منها } لأن الخالق تعالى ربّى الأمة العربية في ثلاث وعشرين سنة تربيةً تدريية لا تتم لغيرها - بواسطة الفواعل الاجتماعية - إلا في قرون عديدة . لذلك كانت عليهم الأحكام على حسب قابليتها ، ومتى ارتقت قابليتها بدّل الله لها ذلك الحكم بغيره . وهذه سنة الخالق في الأفراد والأمم على حد سواء . فإنك لو نظرت في الكائنات الحية - من أول الخلية النباتية إلى أرقى شكلٍ من أشكال الأشجار ، ومن أول رتبةٍ من رتب الحيوانات إلى الْإِنْسَاْن - لرأيت أن النسخ ناموس طبيعي محسوس في الأمور المادية ، والأدبية معاً . . . ! فإن انتقال الخلية الْإِنْسَاْنية إلى جنين ، ثم إلى طفل ، فيافعٍ ، فشاب ، فكهل ٍ ، فشيخ ، وما يتبع كل دور من هذه الأدوار - من الأحوال الناسخة للأحوال التي قبلها - يريك بأجلى دليل : أن التبدل في الكائنات ناموس طبيعي محقق . وإذا كان هذا النسخ ليس بمستنكر في الكائنات ، فكيف يستنكر نسخ حكم وإبداله بحكم آخر في الأمة ، وهي في حالة نمو وتدرج من أدنى إلى أرقى ؟ هل يرى إنسان له مسكة من عقل أن من الحكمة تكليف العرب - وهم في مبدأ أمرهم - بما يلزم أن يتصفوا به ، وهم في نهاية الرقي الْإِنْسَاْني ، وغاية الكمال البشري . . . . ؟ ! وإذا كان هذا يصح ، وجب أن الشرائع تكلف الأطفال بما تكلف به الرجال ، وهذا لم يقل به عاقل في الوجود . . . . ! وإذا كان هذا لا يقول به عاقل في الوجود ، فكيف يجوز على الله - وهو أحكم الحاكمين - بأن يكلف الأمة - وهي في دور طفوليتها - بما لا تتحمله إلا في دور شبوبيتها وكهولتها . . . ؟ وأي الأمرين أفضل : أشرعنا الذي سن الله لنا حدوده بنفسه ، ونسخ منه ما أراد بعلمه ، وأتمه - بحيث لا يستطيع الإنس والجن أن ينقصوا حرفاً منه - لانطباقه على كل زمان ومكان ، وعدم مجافاته لأي حالة من حالات الْإِنْسَاْن . . . ؟ ! أم شرائع دينية أخرى ، حرفها كهانها ، ونسخ الوجودُ أحكامها - بحيث يستحيل العمل بها - لمنافاتها لمقتضيات الحياة البشرية من كل وجه . . . ؟ ! .
الثاني : أسلفنا - في مقدمة التفسير - إلى أن النسخ باصطلاح السلف أعم منه في اصطلاح الخلف ، بما ينبغي مراجعته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ } [ 108 ]
{ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ } : { أَمْ } هنا ، إما متصلة معادلة للهمزة في : { أَلَمْ تَعْلَمْ } أي : ألم تعلموا أنه مالك الأمور ، قادرٌ على الأشياء كلها ، يأمر وينهى كما أراد . . . أم تعلموا وتقترحون بالسؤال كما [ في المطبوع : كلما ] اقترحت اليهود على موسى عليه السلام ؟ وإما منقطعة - بمعنى بل - للإضراب والانتقال على حملهم على العمل بموجب علمهم بما ذكر عند ظهور بعض مخايل المساهلة منهم في ذلك ، وأمارات التأثر من أقاويل الكفرة ، إلى التحذير من ذلك . ومعنى الهمزة : إنكار وقوع الإرادة منهم ، واستبعاده ؛ لما أن قضية الإيمان وازعة عنها . وتوجيه الإنكاري إلى الإرادة - دون متعلقها - للمبالغة في إنكاره واستبعاده ، ببيان أنه مما لا يصدر عن العاقل إرادته ، فضلاً عن صدور نفسه ، وقوله : { وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ } أي : يختره ، ويأخذه لنفسه : { بِالإِيمَانِ } . بمقابلته بدلاً منه : { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ } أي : عدل عن الصراط المستقيم . جملة مستقلة مشتملة على حكم كلي أخرجت مخرج المثل جيء بها لتأكيد النهي عن الاقتراح المفهوم من قوله : { أَمْ تُرِيدُونَ } الخ ، معطوفة عليه . ومعنى الآية لا تقترحوا فتضلوا وسط السبيل ويؤدي بكم الضلال إلى البعد عن المقصد ، وتبديل الكفر بالإيمان . فظهر وجه ذكر قوله : { أَمْ تُرِيدُونَ } الخ بعد قوله تعالى : { مَا نَنسَخْ } . فإن المقصود من كل منهما تثبيتهم على الآيات وتوصيتهم بالثقة بها .
قال الراغب : فإن قيل ما فائدة قوله : { وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ } الخ ومعلوم أنه بدون الكفر يضل الْإِنْسَاْن سواء السبيل فكيف بالكفر ؟ وقيل معنى ذلك من يتبدل الكفر بالإيمان يعلم أنه قد ضل ، قبلُ سواء السبيل ، وفي ذلك تنبيه أن ضلاله سواء السبيل قاده إلى الكفر بعد الإيمان ، ومعناه : لا تسألوا رسولكم كما سئل موسى ؛ فتضلوا سواء السبيل فيؤدي بكم إلى تبديل الكفر بالإيمان . فمبدأ ذلك : الضلال عن سواء السبيل . ووجه آخر وهو أنه سمى معاندة الأنبياء عليهم السلام ، بعد حصول ما تسكن النفس إليه كفراً ؛ إذ هي مؤدية إليه ، كتسمية العصير خمراً ، فقال : { وَمَن يَتَبَدَّلِ } أي : يطلب تبديل : { الكفر } ، أي : المعاندة التي هي مبدأ الكفر : { بالإيمان } أي : بما حصل له من الدلالة المتقضية لسكون النفس ، فقد ضل سواء السبيل .
ووجه ثالث : وهو أن ذلك نهاية التبكيت لمن ظهر له الحق فعدل عنه إلى الباطل ، وأنه كمن كان على وضح الطريق فتاه فيه .
ووجه رابع : وهو أن : { سَوَاء السَّبِيلِ } إشارة إلى الفطرة التي فطر الناس عليها . والإيمان إشارة إلى المكتسب من جهة الشرائع فقال : { وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ } أي : بالإيمان المكتسب فقد أبطله ، وضيّع الفطرة التي فطر الناس عليها فلا يرجى له نزوع عما هو عليه بعد ذلك .
هذا . وما قررناه في الآية من أن الخطاب للمسلمين هو ما يترجح ويكون كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } [ المائدة : 101 ] . ويرشحه قوله : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان } فإن موقع خطابه إنما يتضح مع المؤمنين .
ورجح الرازي كون الخطاب مع اليهود ، قال : لأن هذه السورة من أول قوله : { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ } حكاية عنهم ومحاجة معهم ولأنه لم يجر ذكر غيرهم في السياق ، وقد قص تعالى عنهم سؤال النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً } الآية ، وحينئذ فمعنى تبدل الكفر بالآية ، وهم بمعزل من الإيمان ، إعراضهم عنه ، مع تمكنهم منه ، وإيثارهم للكفر عليه ، كما أن إضافة الرسول إليهم باعتبار أنهم من أمة الدعوة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 109 ]
{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً } علة ودّ : { مِنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } من صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بشهادة ما طابقه من التوراة : { فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ } أي : أعرضوا عما يكون منهم من الجهل والعداوة فلا تجازوهم : { حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ } وهو الإذن في قتالهم وإجلائهم : { إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فينتقم منهم إذا آن أوانه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ 110 ]
{ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ } أي : ثوابه : { عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فلا يضيع عنده عمل عامل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 111 ]
{ وَقَالُواْ } أي : أهل الكتاب من اليهود والنصارى : { لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى } نشر لما لفّته الواو في : { وقالوا } ، واليهود جمع هائد ، كعوذ جمع عائذ . وقرئ : { إلا من كان يهودياً أو نصرانياً } { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } جملة معترضة مبينة لبطلان ما قالوا . والأماني جمع أمنية وهي ما يتمنى ، كالأعجوبة والأضحوكة . فإن قيل : قوله : { لن يدخل الجنة } أمنية واحدة ، فلم قال : أمانيّهم ؟ أجيب : بأن الجمع باعتبار صدوره عن الجميع . وأجاب صاحب " الانتصاف " بأنهم لشدة تمنيهم هذه الأمنية ، ومعاودتهم لها وتأكيدها في نفوسهم ، جمعت ؛ ليفيد جمعها أنها متأكدة في قلوبهم ، بالغة منهم كل مبلغ ، والجمع يفيد ذلك ، وإن كان مؤداه واحداً . ونظيره قوله : معي جياعٌ ، فجمعوا الصفة ، ومؤادها واحد ؛ لأن موصوفها واحد ، تأكيد لثبوتها وتمكنها .
وهذا المعنى أحد ما روي في قوله تعالى : { إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } [ الشعراء : 54 ] فإنه جمع : قليلاً ، وقد كان الأصل إفراده فيقال : لشرذمة قليلة . كقوله تعالى : { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ } [ البقرة : 249 ] لولا ما قصد إليه من تأكيد معنى القلة بجمعها . ووجه إفادة الجمع في مثل هذا للتأكيد ، أن الجمع يفيد بوضعه الزيادة في الآحاد ، فنقل إلى تأكيد الواحد ، وإبانة زيادته على نظرائه ، نقلاً مجازياً بديعاً ، فتدبر هذا الفصل فإنه من نفائس صناعة البيان . والله الموفق : { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة : { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } في دعواكم . قال الرازي : دلت الآية على أن المدعي سواه ادعي نفياً أو إثباتاً ، فلا بد له من الدليل والبرهان ، وذلك من أصدق الدلائل على بطلان القول بالتقليد ، قال الشاعر :
~مَنِ ادَّعَى شَيْئَاً بِلَا شَاْهِدٍ لَاْ بُدَّ أَنْ تَبْطُلَ دَعْوَاْهُ
انتهى كلام الرازي . وسبقه إلى ذلك الزمخشري حيث قال : وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين ، وإن كل قول لا دليل عليه ، فهو باطل غير ثابت . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ 112 ]
{ بَلَى } إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة : { مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ } من أخلص نفسه له لا يشرك به غيره . وإنما عبر عن النفس بالوجه ، لأنه أشرف الأعضاء ، ومجمع المشاعر ، وموضع السجود ، ومظهر آثار الخضوع . أو المعنى : من أخلص توجهه وقصده ، بحيث لا يلوي عزيمته إلى شيء غيره : { وَهُوَ مُحْسِنٌ } في عمله ، موافق لهديه صلى الله عليه وسلم ، وإلا لم يقبل ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : < من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد > رواه مسلم { فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ } وهو عبارة عن دخول الجنة ، وتصويره بصورة الأجر للإيذان بقوة ارتباطه بالعمل : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } من لحوق مكروه : { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } من فوات مطلوب . والجمع في الضمائر الثلاثة باعتبار معنى : { مَنْ } كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار اللفظ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ 113 ]
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ } بيان لتضليل كل فريق صاحبه بخصوصه ، إثر بيان تضليله كل من عداه على وجه العموم . ومعنى : { على شيء } أي : أمر يُعتدّ به من الدين : { وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ } الواو للحال ، والكتاب للجنس . أي : قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب . وحق من حمل التوراة أو الإنجيل ، أو غيرهما من كتب الله ، وآمن به ، أن لا يكفر بالباقي ، لأن كل واحد من الكتابين مصدق للثاني ، شاهد بصحته ، وكذلك كتب الله جميعاً متواردة على تصديق بعضها بعضاً : { كَذَلِكَ } أي : مثل الذي سمعت به على ذلك المنهاج : { قَالَ } الجهلة : { الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } لا علم عندهم ولا كتاب كعبدة الأصنام ، قالوا لأهل كل دين : { مِثْلَ قَوْلِهِمْ } ليسوا على شيء . وهذا توبيخ عظيم ، حيث نظموا أنفسهم ، مع علمهم ، في سلك من لا يعلم .
{ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : يفصل بينهم بقضائه العدل ، فيحكم بين المحق والمبطل فيما اختلفوا فيه ، وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحج : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصابئينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ الحج : 17 ] وكما قال تعالى : { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } [ سبأ : 26 ] .
قال الرازي : واعلم أن هذه الواقعة بعينها قد وقعت في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن كل طائفة تكفر الأخرى . مع اتفاقهم على تلاوة القرآن . انتهى .
فها هنا تسكب العبرات بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر ، لا بسنة ولا قرآن ، ولا لبيان من الله ولا لبرهان ، بل لمّا غلت مراحل العصبية في الدين ، تمكن الشيطان من تفريق كلمة المسلمين .
~يَأْبَى الْفَتْحِ إِلَّا اتِّبَاعَ الْهَوَىْ وَمَنْهَجُ الْحَقِّ لَهُ وَاْضِحٌ
مع أن الله تعالى أمر بالجماعة والائتلاف ، ونهى عن الفرقة والاختلاف . فقال تعالى : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } [ آل عِمْرَان : 103 ] . وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء } [ الأنعام : 159 ] . وقال تعالى : { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ } [ آل عِمْرَان : 105 ] . وقال تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] . وقد امتاز أهل الحق ، من هذه الأمة بالسنة والجماعة ، عن أهل الباطل الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب ويعرضون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعما مضت عليه جماعة المسلمين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ 114 ]
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } إنكار واستبعاد لأن يكون أحد أظلم ممن فعل ذلك ، ولما وجّه تعالى الذم فيما سبق في حق اليهود والنصارى ، ذيّله بذم المشركين في قوله : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } . ثم وجّه [ في المطبوع : وجهه ] بهذه الآية أيضاً للمشركين الذين أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة ، ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام ، وصدوهم أيضاً عنه ، حين ذهب إليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المدينة عام الحديبية ، وكل هذا تخريب للمسجد الحرام ؛ لأن منع الناس من إقامة شعائر العبادة فيه ، سعى في تخريبه . وأي خراب أعظم مما فعلوا ؟ أخرجوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه . واستحوذوا عليه بأصنامهم وأندادهم وشركهم ، كما قال تعالى : { وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [ الأنفال : 34 ] ، وقال تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [ التوبة : 17 - 18 ] ، وقال تعالى : { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } [ الفتح : 25 ] ، فإذا كان من آمن بالله واليوم الآخر . . . الخ مصدوداً عنه ، مطروداً منه ، فأي خراب له أعظم من ذلك ، والعمارة إحياء المكان وشغله بما وضع له . وليس المراد بعمارته زخرفته وإقامة صورته فقط ، إنما عمارته بذكر الله فيه وإقامة شرعه فيه ، ورفعة عن الدنس والشرك ، وإنما أوقع المنع على المساجد ، وإن كان الممنوع هو الناس لما أن المآل عائد لها ، ولا يقال : كيف قيل مساجد والمراد المسجد الحرام فقط ؟ لأنه لا بأس أن يجيء الحكم عاماً ، وإن كان السبب خاصاً ، كما تقول لمن آذى صالحاً واحداً : ومن أظلم ممن آذى الصالحين ؟ وكما قال تعالى : { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } [ الهمزة : 1 ] ، والمنزول فيه واحد .
وقوله : { أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ } هذا بشارة من الله للمسلمين بأنه سيظهرهم على المسجد الحرام ، ويذل لهم المشركين ، حتى لا يدخل المسجد الحرام واحد منهم إلا خائفاً ؛ يخاف أن يؤخذ فيعاقب ، أو يقتل إن لم يُسلم ، وقد أنجز الله صدق هذا الوعد فمنعهم من دخول المسجد الحرام ، ونادى فيهم عامَ حجَّ أبو بكر رضي الله عنه : < ألا لا يحجن بعد العام مشرك > . فحج النبي صلى الله عليه وسلم من العام الثاني ظاهراً على المسجد الحرام ، لا يجترئ أحد من المشركين أن يحج ، ويدخل المسجد الحرام .
وهذا هو الخزي لهم في الدنيا ، المشار إليه بقوله تعالى : { لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } لأن الجزاء من جنس العمل ، فكما صدوا المؤمنين صُدُّواً عنه : { وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهو عذاب النار لما انتهكوا من حرمة البيت وامتهنوه ، من نصب الأصنام حوله ، ودعاء غير الله ، والطواف به عرياً ، وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله .
وفي الآية وجه آخر وهو أن الآية في ذم اليهود ، تبعاً للسابق واللاحق ، وما جنوه بكفرهم على بيت المقدس من خرابه وتسليط عدوّهم عليهم حتى خربه ودمر مدينتهم ، وقتل وسبى منهم ، وأسرهم وبقوا في الأسر البابلي سبعين سنة ، كل ذلك كان برفضهم كتاب الله ، والعمل بشريعته .
وفي قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ } إشارة إلى رجوعهم إليه بعد الأسر على تخوف من العدو ومذلة لصقت بهم ، وهو وجه وجيه ؛ لأن لفظ : سعى ، يرشد إلى ذلك ، كما أن مفهومها يشعر بذم القائمين على الخراب بالأولى وهم النصارى ، حينما تمكنت سلطتهم انتقاماً من أعدائهم اليهود .
روى ابن جرير عن مجاهد ، قال في الآية : هم النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه . وقال قتادة : حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس ، وتدل على أن أماكن العبادة تصان وتحترم ؛ لأنها المدرسة العامة التي تتلى فيها الحكم والأحكام ، والإرشاد إلى سبل السلام .
وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ، فيما رواه الإمام أحمد عن بُسر بن أرطاة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو : < اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة > .
قال الحافظ ابن كثير : وهذا حديث حسن ، وليس في شيء من الكتب الستة ، وليس لصحابه ، وهو بسر بن أرطاة ، ويقال ابن أبي أرطاة حديث سواه ، وسوى حديث : < لا تقطع الأيدي في الغزو > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ 115 ]
{ وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } بيان لشمول ملكوته لجميع الآفاق ، المتسبب عنه سعة علمه . وفي ذلك تحذير من المعاصي وزجر عن ارتكابها . وقوله تعالى : { إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } نظير قوله : { إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ } [ الرحمن : 33 ] ، وكقوله تعالى : { هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } [ الحديد : 4 ] وقوله : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] ، وقوله : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً } [ غافر : 7 ] ، أي : عمّ كل شيء بعلمه وتدبيره وإحاطته به وعلوه عليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } [ 116 ]
{ وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } يريد الذين قالوا المسيح ابن الله ، وعزيرٌ ابن الله ، والملائكة بنات الله ، فأكذب الله تعالى جميعهم في دعواهم وقولهم : إن لله ولداً ؛ فقال : { سبحانه } أي : تقدس وتنزه عما زعموا تنزهاً بليغاً . وكلمة : { بل } للإضراب عما تقتضيه مقالتهم الباطلة من مجانسته سبحانه وتعالى لشيء من المخلوقات . أي : ليس الأمر كما زعموا ، بل هو خالق جميع الموجودات التي من جملتها عزير والمسيح والملائكة ، والتنوين في : { كلٌّ } عوض عن المضاف إليه . أي : كل ما فيهما ، كائناً ما كان من أولي العلم وغيرهم : { لَّهُ قَانِتُونَ } منقادون ، لا يستعصي شيء منهم على تكوينه وتقديره ومشيئته ، ومن كان هذا شأنه لم يتصور مجانسته لشيء ، ومن حق الولد أن يكون من جنس الوالد .
قال الراغب في تفسيره : نبه على أقوى حجة على نفي ذلك ، وبيانها : هو أن لكل موجود في العالم ، مخلوقاً طبيعياً ، أو معمولاً صناعياً ، غرضاً وكمالاً أوجد لأجله ، وإن كان قد يصلح لغيره على سبيل العرض ، كاليد للبطش ، والرجل للمشي ، والسكين لقطع مخصوص ، والمنشار للنشر ، وإن كانت اليد قد تصلح للمشي في حالٍ ، والرجل للتناول ، لكن ليس على التمام .
والغرض في الولد للإنسان إنما هو لأن يبقى به نوعه ، وجزء منه ، لَمّا لم يجعل الله له سبيلاً إلى بقائه بشخصه ، فجعل له بذراً لحفظ نوعه . ويقوي ذلك ، أنه لم يجعل للشمس والقمر وسائر الأجرام السماوية بذراً واستخلافاً ، لمّا لم يجعل لها فناء النبات والحيوان .
ولما كان الله تعالى هو الباقي الدائم ، بلا ابتداء ولا انتهاء ، لم يكن لاتخاذه الولد لنفسه معنى ، ولهذا قال : { سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } أي : هو منزه عن السبب المقتضي للولد . ثم لما كان اقتناء الولد لفقر ٍ ما ، وذلك لما تقدم ، أن الْإِنْسَاْن افتقر إلى نسل يخلقه لكونه غير كامل إلى نفسه - بيّن تعالى بقوله : { لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أنه لا يتوهم له فقر ، فيحتاج إلى اتخاذ ما هو سد لفقره ، فصار في قوله : { له ما في السماوات والأرض } دلالة ثانية ، ثم زاد حجة بقوله : { قانتون } وهو أنه لما كان الولد يعتقد فيه خدمة الأب ، ومظاهرته كما قال : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَة } [ النحل : 72 ] بيّن أن كل ما في السماوات والأرض ، مع كونه ملكاً له ، قانتاً [ في المطبوع : قانت ] أيضاً ، إما طائعاً ، وإما كارهاً ، وإما مسخراً . كقوله : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً } [ الرعد : 15 ] ، وقوله : { إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ] وهذا أبلغ حجة لمن هو على المحجة .
ثم قال الراغب : إن قيل من أين وقع لهم الشبهة في نسبة الولد إلى الله تعالى ؟ قيل قد ذكر في الشرائع المتقدمة : كانوا يطلقون على البارئ تعالى اسم الأب وعلى الكبير منهم اسم الإله ، حتى إنهم قالوا : إن الأب هو الرب الأصغر ، وإن الله هو الأب الأكبر ، وكانوا يريدون بذلك أنه تعالى هو السبب الأول في وجود الْإِنْسَاْن ، وإن الأب هو السبب الأخير في وجوده ، وإن الأب هو معبود الابن من وجه أي : مخدومه . وكانوا يقولون للملائكة : آلهة . كما قالت العرب للشمس : إلاهة ، وكانوا يقصدون معنى صحيحاً كما يقصد علمائنا بقولهم : الله محب ومحبوب ، ومريد ومراد ونحو ذلك من الألفاظ . كما يقال للسلطان : الملك ، وقولُ الناس : رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك ، مما يكشف عن تقدم ذلك التعارف ، ويقوي ذلك ما يروى أن يعقوب كان يقال له بكر الله ، وأن عيسى كان يقول : أنا ذاهب إلى أبي . ونحو ذلك من الألفاظ ، ثم تصور الجهلة منهم بآخرة : معنى الولادة الطبيعية . فصار ذلك منهياً عن التفوه به في شرعنا ، تنزهاً عن هذا الاعتقاد ، حتى صار إطلاقه ، وإن قصد به ما قصده هؤلاء ، قرين الكفر . [ أهـ ] كلام الراغب رحمه الله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ 117 ]
{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : مبدعهما وخالقهما على غير مثال سبق . وكل من فعل ما لم يسبق إليه يقال له : أبدعت . ولهذا قيل لمن خالف السنة والجماعة : مبتدع ؛ لأنه يأتي في دين الإسلام ، ما لم يسبقه إليه الصحابة والتابعون رضي الله عنهم ، وهذه الجملة حجة أخرى لدفع تشبثهم في ولادة عيسى بلا أب ، وعلم عزير بالتوراة بلا تعلم . وتقرير الحجة : إن الله سبحانه مبدع الأشياء كلها ، فلا يُبْعد أن يوجِد أحداً بلا أب ، أو يعلم بلا واسطة بشر .
وقال الراغب : ذكر تعالى في هذه الآية حجة رابعة ، شرحها : إن الأب هو عنصر للابن ، منه تكوّن . والله مبدع الأشياء كلها ، فلا يكون عنصرا ًللولد ، فمن المحال أن يكون المنفعل فاعلاً . وقوله تعالى : { وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ البقرة : 117 ] أي : إذا أراد أمراً . والقضاء : إنفاذ المقدر . والمقدر ما حد من مطلق المعلوم .
قال الراغب : القضاء إتمام الشيء قولاً أو فعلاً ، فمن القول آية : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] ، { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ } [ الإسراء : 4 ] ، ومن الفعل قوله : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } [ فصلت : 12 ] وقضى فلان دينه ، وقضى نحبه ، وانقضى الأمر .
ثم قال : ونبّه بقوله : { وَإِذَا قَضَى أَمْراً } على حجة خامسة ، وهو أن الولد يكون بنشوء وتركيب ، حالاً بعد حال ، وهو إذا أراد شيئاً ، فقد فعل بلا مهلة ، ولم يرد بـ : { إذا } حقيقة الزمان ، إذ كان ذلك إشارة إلى ما قبل وجود الزمان ، ولم يرد أيضاً بـ : { كن } حقيقة اللفظ ، ولا بالفاء التعقيب الزماني . بل استعير كل ذلك لأنه أقرب ما يتراءى لنا به سرعة الفعل وتمامه ، وذكر لفظ القضاء إذ هو لإتمام الفعل ، والأمر لكونه منطوياً على اللفظ والفعل ، والقول ؛ إذ هو أخف موجد منا وأسرعه إيجاداً ، ولفظ : { كُنْ } لعموم معناه واختصار لفظه ، ثم قال : { فيكون } تنبيهاً لأنه لا يمتنع عليه شيء يريد إيجاده . و : { كُن فَيَكُونُ } وإن كان مخرجها مخرج شيئين ، أحدهما مبني على الآخر ، فهو في الحقيقة شيء واحد . انتهى .
والذين ذهبوا إلى أن المراد بـ : { كن } حقيقة اللفظ ، ورد عليهم سؤال مشهور ، وهو : إن : { كن } لفظ أمر ، والأمر لا يكون إلا لموجود ؟ . فبعضٌ أجاب بأنه أمرٌ للشيء في حال تكونه لا قبله ولا بعده . وبعضٌ قال : هو أمر لمعلوم له ، وذلك في حكم الموجود ، وإن كان معدوم الذات . وبعضٌ قال : هو أمر للمعدوم . قال ويصح أمر المعدوم كما يصح أمر الموجود .
ولهم أجوبة أكثر تكلفاً وتمحلاً .
وقد سئل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى عن هذا بأنه إن كان المخاطب بـ : { كن } موجوداً ، فتحصيل الحاصل محال . وإن كان معدوماً ، فكيف يتصور خطاب المعدوم ؟ فأجاب بقوله : هذه المسألة مبينة على أصلين :
أحدهما : الفرق بين خطاب التكوين الذي لا يطلب به سبحانه فعلاً من المخاطب ، بل هو الذي يكوّن المخاطب به ، ويخلقه بدون فعل من المخاطب ، أو قدرة أو إرادة أو وجود له ، وبين خطاب التكليف الذي يطلب به من المأمور فعلاً أو تركاً يفعله بقدرة وإرادة ، وإن كان ذلك جميعه بحول الله وقوته ؛ إذ لا حول ولا قوة إلا بالله ، وهذا الخطاب قد تنازع فيه الناس ، هل يصح أن يخاطب به المعدوم بشرط وجوده أم لا يصح أن يخاطب به إلا بعد وجوده ؟ لا نزاع بينهم أنه لا يتعلق به حكم الخطاب إلا بعد وجوده ، وكذلك تنازعوا في الأول هل هو خطاب حقيقي ؟ أم هو عبارة عن الاقتدار وسرعة التكوين بالقدرة ؟ . والأول هو المشهور عند المنتسبين إلى السنة . والأصل الثاني : أن المعدوم في حال عدمه ، هل هو شيء أم لا ؟ فإنه قد ذهب طوائف من متكلمة المعتزلة والشيعة إلى أنه شيء في الخارج وذات وعين ، وزعموا أن الماهيات غير مجعولة ولا مخلوقة ، وأن وجودها زائد على حقيقتها ، وكذلك ذهب إلى هذا طوائف من المتفلسفة والاتحادية وغيرهم من الملاحدة .
والذي عليه جماهير الناس ، وهو قول متكلمة أهل الإثبات والمنتسبين إلى السنة والجماعة ، إنه في الخارج عن الذهن قبل وجوده ليس بشيء أصلا ولا ذات ولا عين ، وإنه ليس في الخارج شيئان أحدهما حقيقة ، والآخر وجوده الزائد على حقيقته . فإن الله أبدع الذوات التي هي الماهيات . فكل ما سواه سبحانه مخلوق ومجعول ومبدع ومبدوء له سبحانه وتعالى . ولكن في هؤلاء من يقول : المعدوم ليس بشيء أصلاً ، وإن سمي شيئاً باعتبار ثبوته في العلم ، كان مجازاً . ومنهم من يقول : لا ريب أن له ثبوتاً في العلم . ووجوداً فيه فهو باعتبار هذا الثبوت والوجود هو شيء وذات ، وهؤلاء لا يفرقون بين الوجود والثبوت . كما فرق من قال : المعدوم شيء . ولا يفرقون في كون المعدوم ليس بشيء بين الممكن والممتنع ، كما فرق أولئك ؛ إذ قد اتفقوا على أن الممتنع ليس يشيء وإنما النزاع في الممكن . وعمدة من جعله شيئاً ، إنما هو لأنه ثابت في العلم ، وباعتبار ذلك صح أن يخص بالقصد والخلق والخبر عنه والأمر به والنهي عنه ، وغير ذلك . قالوا : وهذه التخصيصات تمتنع أن تتعلق بالعدم المحض . فإن خُص الفرق بين الوجود الذي هو الثبوت العيني ، وبين الوجود الذي هو الثبوت العلمي ، زالت الشبهة في هذا الباب .
وقوله تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] ذلك الشيء هو معلوم قبل إبداعه وقيل توجيه هذا الخطاب إليه ، وبذلك كان مقدراً مقضياً . فإن الله سبحانه وتعالى يقول ويكتب مما يعلمه ما شاء . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عُمَر وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة > . قال : < وعرشه على الماء > . وفي " صحيح البخاري " عن عِمْرَان بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ، ثم خلق السماوات والأرض > . وفي " سنن أبي داود " وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب قال : رب ، وماذا أكتب ؟ قال : أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة > . إلى أمثال ذلك من النصوص التي تبين أن المخلوق قبل أن يخلق كان معلوماً مخبراً عنه ، مكتوباً ، فهو شيء باعتبار وجوده العلميّ الكلاميّ الكتابيّ ، وإن كانت حقيقته التي هي وجوده العيني ليس ثابتاً في الخارج . بل هو عدم محض ونفيٌ في صرف .
وهذه المراتب الأربعة المشهورة موجودات ، وقد ذكرها الله سبحانه في أول سورة أنزلها على نبيه في قوله : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَق ٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَم ُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 1 - 4 ] وقد بسطنا الكلام في ذلك في غير هذا الموضع ، وإذا كان كذلك كان الخطاب موجهاً إلى من توجهت إليه الإرادة ، وتعلقت به القدرة ، وخلق كوّن ، كما قال : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] في الذي يقال له : { كن } هو الذي يراد ، وهو ، حين يراد قبل أن يخلق ، له ثبوت وتميز في العلم والتقدير . ولولا ذلك لما تميز المراد المخلوق من غيره ، وبهذا يحصل الجواب عن التقسيم . فإن فوق السائل : إن كان المخاطب موجوداً ، فتحصيل الحاصل محال ، يقال له هذا إذا كان موجوداً في الخارج وجودَه الذي هو وجوده . ولا ريب أن المعدوم ليس موجوداً ، ولا هو في نفسه ثابت . وأما ما علم وأريد وكان شيئاً في العلم والإرادة والتقدير فليس وجوده في الخارج محالاً ، بل جميع المخلوقات لا توجد إلا بعد وجودها في العلم والإرادة .
وقول السائل : إن كان معدوماً فكيف يتصور خطاب المعدوم ؟ يقال له : أما إذا قصد أن يخاطب المعدوم بخطاب يفهمه ويمتثله فهذا محال ، إذ من شرط المخاطب أن يتمكن من الفهم والفعل ، والمعدوم لا يتصور أن يفهم ويفعل ، فيمتنع خطاب التكليف له حال عدمه بمعنى أنه مطلوب منه حين عدمه أن يفهم ويفعل ، ولذلك أيضاً يمتنع أن يخاطب المعدوم في الخارج خطاب تكوين . بمعنى أن يعتقد أنه شيء ثابت في الخارج ، وأنه يخاطب بأن يكون . وأما الشيء المعلوم المذكور المكتوب إذا كان توجيه خطاب التكوين إليه مثل توجيه الإرادة إليه ، فليس ذلك محالاً . بل هو أمر ممكن . بل مثل ذلك يجده الْإِنْسَاْن في نفسه ، فيقدر أمراً في نفسه يريد أن يفعله وبوجه إرادته وطلبه إلى ذلك المراد المطلوب ، الذي قدره في نفسه ، ويكون حصول المارد المطلوب بحسب قدرته ، فإن كان قادراً على حصوله حصل مع الإرادة والطلب الجازم . وإن كان عاجزاً ، لم يحصل ، وقد يقول الْإِنْسَاْن : ليكن كذا ونحو ذلك من صيغ الطلب . فيكون المطلوب بحسب قدرته عليه ، والله سبحانه على كل شيء قدير ، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فإن أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [ 118 ]
{ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } من المشركين أو من أهل الكتاب وهو الأظهر ؛ لأن ما تقدم ، كلَّه في حوارهم وردّ أضاليلهم ، ونفى عنهم العلم لأنهم لم يعملوا به : { لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ } هلا يكلمنا كما يكلم الملائكة وكلم موسى ؟ استكباراً منهم وعتواً : { أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ } جحوداً لأن يكون ما أتاهم من آياتِ الله آياتٌ ، واستهانة بها : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ } أي : هذا الباطل الشنيع فقالوا : أرنا الله جهرة . وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه كما تُعُنِّت عليه تُعُنِّت على من قبله : { تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } أي : قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى والعناد والتحكم على الأنبياء : { قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي : بالحق . لا تعتريهم شبهة ولا ريبة وهذا رد لطلبهم الآية ، وفي تعريف الآيات وجمعها وإيراد التبيين المفصح عن كمال التوضيح ، مكان الإتيان الذي طلبوه ، ما لا يخفى من الجزالة . والمعنى أنهم اقترحوا آية فذة ، ونحن قد بينا الآيات العظام لقوم يطلبون الحق واليقين . وإنما لم يتعرض لرد قولهم : { لولا يكلمنا الله } إيذاناً بأنه من ظهور البطلان بحيث لا حاجة إلى الرد والجواب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } [ 119 ]
{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً } بالثواب للمؤمنين : { وَنَذِيراً } بالعقاب للكافرين : { وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } ولا نسألك عنهم : ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلّغْتَ وبَلَغْتَ جهدك في دعوتهم ؟ كقوله : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [ الرعد : 40 ] وفي التعبير عنهم بصاحبية الجحيم ، دون الكفر والتكذيب ونحوهما ، وعيد شديد لهم ، وإيذان بأنهم مطبوع على قلوبهم ، لا يرجى منهم الإيمان .
والجحيم ، من أسماء النار ، وتطلق على النار الشديدة التأجج ، وعلى كل نار بعضها فوق بعض ، وعلى كل نار عظيمة في مهواة ، وعلى المكان الشديد الحر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } [ 120 ]
{ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } أي : لأنهم يريدون أن يكونوا متبوعين على الإطلاق ، وفيه مبالغة في الإقناط من إسلامهم ، وتنبيه على أنه لا يرضيهم إلا ما لا يجوز ووقوعه منه ، عليه السلام : { قُلْ } لا يتبع رسولٌ إلا الهدى : { إِنَّ هُدَى اللّهِ } أي : الذي هو الإسلام : { هُوَ الْهُدَى } أي : فليس وراءه هدى ، وما تدعون إليه ليس يهدى ، بل هو هوى . كما يعرب عنه قوله : { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم } أي : آراءهم الزائغة الصادرة عنهم بقضية شهوات أنفسهم : { بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ } بأن دين الله هو الإسلام ، أو من الدين المعلوم صحته بالبراهين الواضحة : { مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ } يلي أمرك : { وَلاَ نَصِيرٍ } يدفع عنك عقابه . وإنما أُوثر خطابه صلى الله عليه وسلم ليدخل دخولاً أولياً من اتبع أهواءهم بعد الإسلام من المنافقين تمسكاً بولايتهم ، طمعاً في نصرتهم .
قال الإمام الرازي : وفي الآية دلالة على أن اتباع الهوى لا يكون إلا باطلاً ، فمن هذا الوجه تدل على بطلان التقليد . انتهى .
وفي " فتح البيان " ما نصه : وفي هذه الآية من الوعيد الشديد الذي ترجف له القلوب وتتصدع منه الأفئدة ، ما يوجب على أهل العلم الحاملين لحجج الله سبحانه ، والقائمين ببيان شرائعه ترك الدهان لتاركي العلم بالكتاب والسنة ، المُؤْثرين لمحض الرأي عليهما . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [ 121 ]
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } لما ذكر تعالى ، فيما تقدم ، عدم رضاء اليهود والنصارى إلاَّ باتباع ملتهم ، لدعواهم أنهم على حق ، وأنهم مؤمنون بما لديهم - فنّد تعالى دعواهم الإيمان به بأن من أوتي الكتاب فتلاه حق تلاوته فذاك المؤمن به ، والمذكورون ممن لم يتله حق تلاوته ، لَمَا عدد من مساوئ اليهود أولاً ، وشفعه بدعوى النصارى اتخاذ الولد ، ومن كان يعتقد ذلك فأنَّى له الإيمان ؟ وهل هو ممن يتلو الكتاب حق تلاوته ؟ وكتابه يأمر [ في المطبوع : بأمر ] بتوحيد ربه والمشي مع شريعته وتصديق كل نبي يصدق ما معهم ، وقد كفروا بكل ذلك . فجملة : { يتلونه } حال مقدرة من : { هُم } أو من : { الكتاب } . وجوَّز أن تكون الآية سيقت مدحاً لمن آمن من أهل الكتاب بالقرآن . فالضمير في : { يتلونه } للقرآن ، فتكون كآية : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [ القصص : 52 - 54 ] ، وكآية : { قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدا } [ الإسراء : 107 ] .
ومن تلاوته حق تلاوته الإيمانُ بأنه حق من ربهم ، وصبرهم ودرؤهم بالحسنة السيئة ، وإنفاقهم وسجودهم له تعالى فالآيتان مفسرتان لتلاوتهم حق تلاوته .
وعن ابن مسعود : والذي نفسي بيده ! إن حق تلاوته أن يُحلّ حلاله ويحرم حرامه ، ويقرأه كما أنزل الله ، ولا يحرف الكلم عن مواضعه ، ولا يتأول منه شيئاً على غير تأويله . ومثله عن ابن عباس .
وقوله تعالى : { أُوْلَئِكَ } إشارة إلى الموصوفين بإيتاء الكتاب وتلاوته كما هو حقه : { يُؤْمِنُونَ بِهِ } محط الفائدة ما يلزم الإيمان به من الربح ، بقرينة قوله : { وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } حيث اشتروا الضلالة بالهدى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [ 122 ، 123 ]
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُواْ } أي : خافوا : { يَوْماً لاَّ تَجْزِي } أي : لا تغني : { نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ } فيه : { شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ } أي : فداء : { وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } أي : يمنعون من عذاب الله . وقد مر نظير الآيتين في صدر السورة .
قال القاضي : ولما صدّر قصتهم بالأمر بذكر النعم ، والقيام بحقوقها ، والحذر عن إضاعتها ، والخوف من الساعة ، وأهوالها كرر ذلك وختم به الكلام معهم ، مبالغة في النصح وإيذاناً بأنه فذلكة القضية والمقصود من القصة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } [ 124 ]
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } لما عاب سبحانه أهل الضلال ، وكان جلّهم من ذرية إبراهيم عليه السلام ، وجميع طوائف الملل تعظمه ومنهم العرب ، وبيته الذي بناه أكبر مفاخرهم وأعظم مآثرهم ذكّر الجميع ما أنعم به عليه تذكيراً يؤدي إلى ثبوت هذا الدين بإطلاع هذا النبي الأميّ ، الذي لم يخالط عالماً قط ، على ما لا يعلمه إلاَّ خواص العلماء ، وذكروا البيت الذي بناه فجعله عماد صلاحهم ، وأمر بأن يتخذ بعض ما هناك مصلّى ، تعظيماً لأمره وتفخيماً لعلي قدره ، وفي التذكير بوفائه بعد ذكر الذين وفوا بحق التلاوة ، وبعد دعوة بني إسرائيل عامة إلى الوفاء بالشكر - حثّ على الإقتداء به ، وكذا في ذكر الإسلام والتوحيد ، هزٌّ لجميع من يعظمه إلى اتباعه في ذلك ، ذكره البقاعيّ .
و : { إذ } منصوب على المفعولية بمضمر مقدم خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين أي : واذكر لهم وقت ابتلائه عليه السلام ، ليتذكروا بما وقع فيه من الأمور الداعية إلى التوحيد ، الوازعة عن الشرك ، فيقبلوا الحق ويتركوا ما هم فيه من الباطل ، ولا يبعد أن ينتصب بمضمر معطوف على : { اذكروا } خوطب به بنو إسرائيل ليتأملوا فيما يحكى ، عمن ينتمون إلى ملته من إبراهيم وبنيه عليهم السلام ، من الأفعال والأقوال ، فيقتدوا بهم ويسيروا سيرتهم . أي : واذكروا إذ ابتلى أباكم إبراهيم ، فأتم ما ابتلاء به ، فما لكم أنتم لا تقتدون به فتفعلوا عند الابتلاء فِعْله في إيفاء العهد والثبات على الوعد ، لأُجازيكم على ذلك جزاء المحسنين .
والابتلاء في الأصل : الاختبار . أي : تطلّب الخبرة بحال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه ، غالباً ، فعله أو تركه . والاختيار منا لظهور ما لم نعلم ، ومن الله لإظهار ما قد علم . وعاقبه الابتلاء ظهور الأمر الخفيّ في الشاهد والغائب جميعاً ، فلذا تجوز إضافته إلى الله تعالى . وقوله تعالى : { بكلمات } أي : بشرائع : أوامر ونواهٍ . وللمفسرين أقاويل فيها وفي تعدادها . قال ابن جرير : ولا يجوز الجزم بشيء مما ذكروه منها أنه المراد على التعيين ، إلا بحديث أو إجماع . قال : ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له . انتهى .
وعندي أن الأقرب في معنى الكلمات هو ابتلاؤه بالإسلام ، فأسلم لرب العالمين وابتلاؤه بالهجر . فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجراً إلى الله ، وابتلاؤه بالنار فصبر عليها ، ثم ابتلاؤه بالختان فصبر عليه ، ثم ابتلاؤه بذبح ابنه فسلم واحتسب .
كما يؤخذ ذلك من تتبع سيرته في التنزيل العزيز ، وسفر التكوين من التوراة . ففيهما بيان ما ذكرناه في شأنه عليه الصلاة والسلام . من قيامه بتلك الكلمات حق القيام ، وتوفيتهن أحسن الوفاء ؛ وهذا معنى قوله تعالى : { فأتمهن } كقوله تعالى : { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [ النجم : 37 ] والإتمام التوفية .
{ قَالَ } جملة مستأنفة وقعت جواباً عن سؤال نشأ من الكلام . فكأنه قيل : فما جوزي على شكره ؟ قيل : قال ربه : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } أي : قدوة لمن بعدك . والإمام اسم لمن يؤتم به ، ولم يبعث بعده نبي إلا كان مأموارً باتباع ملته ، وكان من ذريته ، وكان من ذريته ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } [ العنكبوت : 27 ] { قَالَ } أي : إبراهيم : { وَمِن ذُرِّيَّتِي } أي : واجعل من ذريتي أئمة : { قَالَ لاَ يَنَالُ } أي : قد أجبتك وعاهدتك بأن أحسن إلى ذريتك . لكن لا ينال : { عَهْدِي } أي : الذي عهدته إليك بالإمامة : { الظَّالِمِينَ } أي : منهم ؛ لأنهم نفوا أنفسهم عنك في أبوة الدين ففي قوله : { لا ينال } . . . الخ إجابة خفية لدعوته عليه السلام . وعدةٌ إجمالية منه تعالى بتشريف بعض ذريته بنيل عهد الإمامة ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } [ العنكبوت : 27 ] وفي ذلك أتم ترغيب في التخلق بوفائه ، لاسيما للذين دعوا قبلها إلى الوفاء بالعهد ، وإشارة إلى أنهم إن شكروا أبقى رفعتهم كما أدام رفعته ، وإن ظلموا لم تنلهم دعوته ، فضربت عليهم الذلة وما معها ، ولا يجزى أحد عنهم شيئاً ولا هم ينصرون . وقرئ : { الظالمون } على أن : { عهدي } مفعول مقدم اهتماماً ورعاية للفواصل .
وقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الظالم ليس بأهل للإمامة . و " الكشاف " أوسع المقال في ذلك هنا ، وأبدع في إيراد الشواهد ، كما أن الشيعة استدلت بها على صحة قولهم في وجوب العصمة في الأئمة ، ظاهراً وباطناً ، على ما نقله الرازيّ عنهم وحاورهم . أقول : إن استدلال الفرقتين على مدعاهما وقوف مع عموم اللفظ . إلا أن الآية الكريمة بمعزل عن إرادة خلافة السلطنة والملك .
المراد بالعهد ، تلك الإمامة المسؤول عنها ، وهل كانت إلا الإمامة في الدين وهي النبوة التي حرمها الظالمون من ذريته ؟ كما قال تعالى : { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ } ولو دلت الآية على ما ادعوا لَخالفه الواقع . . . فقد نال الإمامة الدنيوية كثير من الظالمين ، فظهر أن المراد من العهد إنما هو الإمامة في الدين خاصّة . والاحتجاج بها على عدم صلاحية الظالم للولاية تمحل ؛ لأنه اعتبار لعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق ، أو ذهاب إلى الخبر في معنى الأمر بعدم تولية الظالم ، كما قاله بعضهم . وهو أشد تمحلاً . ومعلوم أن الإمام لا بد أن يكون من أهل العدل والعمل بالشرع ، كما ورد ، ومثنى زاغ عن ذلك كان ظالماً ، والبحث في ذلك له غير هذا المقام . وبالله التوفيق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [ 125 ]
{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ } أي : الذي بناه إبراهيم بأم القرى ، وهو اسم غالب للكعبة كالنجم للثريا : { مَثَابَةً لِّلنَّاسِ } مباءة مرجعاً للحجاج والعمار ، يتفرقون عنه ثم يتوبون إليه . ومثابة مفعلة من الثوب ؛ وهو الرجوع ترامياً إليه بالكلية ، وسر هذا التفضل ظاهر في انجذاب الأفئدة وهوى القلوب وانعطافها ومحبتها له . فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد فهو الأولى بقول القائل :
~مَحَاسِنُهُ هُيُوْلَى كُلِّ حُسْنٍ وَمِغْنَاطِيْسِ أَفْئِدَةِ الْرِّجَاْلِ
فهم يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار ، ولا يقضون منه وطراً . بل كلما ازدادوا له زيارة ، ازدادوا له اشتياقاً .
~لَاْ يَرْجِعُ الطًّرْفُ عَنْهَا حِيْنَ يُبْصِرُهَا حَتَّىْ يَعُوْدَ إِلَيْهَا الطَّرْفُ مُشْتَاْقَا
فلله كم لها من قتيل وسليب وجريح ! وكم أنفق في حبها من الأموال والأرواح ! ورضي المحب بمفارقة فلذا الأكباد والأهل والأحباب والأوطان ، مقدماً بين يديه أنواع المخاوف ، والمتالف ، والمعاطب ، والمشاق ، وهو يستلذ ذلك كله ويستطيبه !
ذكر هذه الشذرة الإمام ابن القيم في أوائل " زاد المعاد " .
{ وَأَمْناً } موضع أمن . كقوله : { حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] ، وكقوله : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [ آل عِمْرَان : 97 ] ، وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يُسْبَون . وكان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له ، وفي هذا بيان شرف البيت من كونه محلاً تشتاق إليه الأرواح ولا تقضي منه وطراً ، ولو ترددت إليه كل عام ، استجابة من الله تعالى لدعاء خليله في قوله : { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْْ } [ إبراهيم : 37 ] ، إلى أن قال : { رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ } [ إبراهيم : 40 ] ، ومن كونه مأمناً لمن دخله . كما بيَّنَّا .
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : < إن هذا بلد حرّمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة . وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قلبي ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار > . الحديث .
وقوله تعالى : { وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } قرئ بكسر الخاء ، أمراً معترضاً بين الجملتين الخبرتين ، أو بتقدير : وقلنا اتخذوا . وقرئ بفتح الخاء ماضياً معطوفاً على جعلنا . أي : واتخذوه مصلى ، ومقام إبراهيم هو الحرم كله ، عن مجاهد . وعنه : هو جمع ومزدلفة ومنى ومكة . ويقال : هو مقامه الذي هو في المسجد الحرام . فقد قال قتادة : إنما أمروا أن يصلُّوا عنده ، ولم يؤمروا بمسحه ، ولقد تكلفت الأمم شيئاً مما تكلفته الأمم قبلها .
قال الراغب الأصفهاني : والأولى أنه الحرم كله ، فما من موضع ذكروه إلا هو مصلى ، أو مدعى أو موضع صلاة .
أقول : كان الأصل في الآية : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ومصلى . إلا أنه عدل إلى هذا الأسلوب الحكيم دون ذاك ، ودون أن يقال مثلاً : واتخذوا منه مصلى - لوجوه :
أحدها : التنويه بأمر الصلاة فيه ، والتعظيم لشأنها حيث أفرد ، للعناية بها ، جملة على حدة .
وثانيها : التذكير بأنه مقام الأب الأكبر للأنبياء كافة ، وما كان مقامه فجدير أن يحترم ويعظم .
وثالثها : التنصيص على أن هذا الاتخاذ بأمر رباني لا بتشريع بشر ، تمهيداً للأمر باستقباله ، وإلزاماً لمن جادل فيه ، وهم اليهود .
وقد روى الشيخان وغيرهما أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت : { وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } قال ابن كثير : ومقام إبراهيم هو الحجر الذي يصلي عنده الأئمة ، وذلك الحجر هو الذي قام إبراهيم عليه السلام عند بناء البيت ، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيد لرفع الجدار ، وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى ، يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه ، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها ، وهكذا حتى تم جدران الكعبة ، كما جاء بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت من رواية ابن عباس عند البخاري .
قال ابن كثير : وقد كان هذا المقام ملصقاً بجدار الكعبة قديماً ، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك ، وكان الخليل عليه السلام ، لما فرغ من بناء البيت ، وضعه إلى جدار الكعبة ، أو أنه انتهى عنده البناء ، فتركه هناك ، ولهذا - والله أعلم - أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف ، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه . كما فعل رسول صلى الله عليه وسلم ، فإنه لما قدم مكة طاف بالبيت سبعاً ، وجعل المقام بينه وبين البيت ، فصلى ركعتين .
قال ابن كثير : وإنما أخره عن جدار الكعبة إلى موضعه الآن عمر رضي الله عنه ، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة ، وقد روى البيهقي بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت : إن المقام كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقاً بالبيت ، ثم آخره عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه .
وقال سفيان بن عيينة ، وهو إمام المكيين في زمانه : كان المقام من سُقع البيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم . قال : ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فردّه عمر إليه . وقال سفيان : لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله : وقال أيضاً : لا أدري أكان لاصقاً بها أم لا .
وأثر عائشة المتقدم يدل على أنه كان لاصقاً بها . والله أعلم .
وقال الحافظ الشيخ عُمَر بن الحافظ التقيّ محمد بن فهد المكيّ الهاشميّ ، في كتاب إتحاف الورى بأخبار أم القرى " في حوادث سنة سبع عشرة : فيها جاء سيل عظيم يعرف بسيل أم نهشل من أعلى مكة من طريق الردم ، فدخل المسجد الحرام واقتلع مقام إبراهيم من موضعه ، وذهب به حتى وجد بأسفل مكة ، وعيّن مكانه الذي كان فيه لما عفاه السيل ، فأتى به وربط بلصق الكعبة في وجهها ، وذهب السيل بأم نهشل بنت عبيدة بن سعد بن العاص بن أمية . فماتت فيه واستخرجت بأسفل مكة ، وكان سيلاً هائلاً . فكتب بذلك إلى أمير المؤمنين عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه وهو بالمدينة الشريفة ، فهاله ذلك ، وركب فزعاً إلى مكة ، فدخلا بعمرة في شهر رمضان ، فلما وصل إلى مكة وقف على حجر المقام وهو ملصق بالبيت الشريف . ثم قال : أنشد الله عبداً عنده علم في هذا المقام ! .
فقال المطلب بن أبي وداعة السهمي رضي الله عنه : أنا يا أمير المؤمنين عندي علم ذلك ، فقد كنت أخشى عليه مثل هذا الأمر ، فأخذت قدره من موضعه إلى باب الحجر ، ومن موضعه إلى زمزم بمقاط ، وهي عندي في البيت . فقال له عمر : اجلس عندي وأرسل إليها من يأتي بها . فجلس عنده وأرسل إليها فأتي بها ، فقيس ، ووضع حجر المقام في هذا المحل الذي هو فيه الآن ، وأحكم ذلك واستمر إلى الآن . انتهى : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } أي : أمرناهما . وتعديته بـ : { إلى } لأنه في معنى : تقدمنا وأوحينا : { أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ } أي : عن كل رجس حسي ومعنوي : فلا يفعل بحضرته شيء لا يليق في الشرع ، أو ابنياه على طهر من الشرك بي . كما قال تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [ الحج : 26 ] ، أو أخلصاه للطائفين وما بعده لئلا يغشاه غيرهم . فاللام صلة : { طهراً } على هذا . وعلى ما قبله ، لام العلة ؛ أي : طهراه لأجلهم . وقوله تعالى : { لِلطَّائِفِينَ } أي : حوله . وعن سعيد بن جبير : يعني من أتاه من غربة : { وَالْعَاكِفِينَ } يعني أهله المقيمين فيه أو المعتكفين . كما روى ابن أبي حاتم بسنده إلى ثابت قال : قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير : ما أُراني إلا مكلِّم الأمير : أن أمنع الذين ينامون في المسجد الحرام ، فإنهم يُجنبون ويُحدثون . قال : لا تفعل فإن ابن عمر سئل عنهم فقال : هم العاكفون . ورواه عبد بن حميد في مسنده . وقد ثبت في الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عزب .
وفي " الكشاف " : يجوز أن يريد بالعاكفين الواقفين ، يعني القائمين في الصلاة .
كما قال للطائفين والقائمين : { وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } جمع راكع وساجد والمعنى للطائفين والمصلين ؛ لأن القيام والركوع والسجود هيآت المصلي ، ولتقارب الأخيرين ذاتاً وزماناً ترك العاطف بين موصوفيهما . وجمع صفتين جمع سلامة ، وآخر بين جمع تكسير لأجل المقابلة ؛ وهو نوع من الفصاحة . وأخّر صيغة : فُعُول على فُعَّل ؛ لأنها فاضلة ، والمراد من الآية الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته المؤسس على عبادته وحده لا شريك له ، ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج : 25 ] ففي ذلك تبكيت لهم وتنبيه على توبيخهم بترك دينه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ 126 ]
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا } أي : الموضع الذي جعلت فيه بيتك وأمرتني بأن أسكنته من ذريتي : { بَلَداً } أي : يأنس من يحل به : { آمِناً } أي : من الخوف ، أي : لا يُرعَب أهله . . وقد أجاب الله دعاءه . كقوله تعالى : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [ آل عِمْرَان : 97 ] ، وقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ } [ العنكبوت : 67 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وصحت أحاديث متعددة بتحريم القتال فيه ، وفي صحيح مسلم عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح > فهو آمن من الآفات ، لم يصل إليه جبار إلا قصمه الله . كما فعل بأصحاب الفيل . وقوله تعالى في سورة إبراهيم : { هَذَا الْبَلَدَ آمِناً } [ إبراهيم : 35 ] ، بتعريف البلد مع جعله صفة لهذا ، خلاف ما هنا ، إمّا أن يحمل على تعدد السؤال بأن تكون الدعوة الأولى للمذكورة هنا ، وقعت ولم يكن المكان قد جعل بلداً . كأنه قال : اجعل هذا الوادي بلداً آمناً ؛ لأنه تعالى حكى عنه أنه قال : { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } [ إبراهيم : 37 ] ، فقال ، ههنا ، اجعل هذا الوادي بلداً آمناً . والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلداً . فكأنه قال : اجعل هذا المكان الذي صيرته بلداً ذا أمن وسلامة . وإمّا أن يحمل على وحدة السؤال وتكرر الحكاية كما هو المتبادر ، فالظاهر أن المسؤول كلا الأمرين ، وقد حكى ذلك هنا ، واقتصر هناك على حكاية سؤل الأمن ، اكتفاء عن حكاية سؤال البلدية بحكاية سؤال أجعل أفئدة الناس تهوي إليه ، هذا خلاصة ما حققوه .
وعندي أن السؤال والمسؤول واحد ، إلا أنه تفنن في الموضعين . فحذف من كل ما أثبته في الآخر احتباكاً . والأصل : رب اجعل هذا البلد بلداً آمناً . وبه تتطابق الدعوتان على أبدع وجه وأخلصه من التكلف . على ما فيه من إفادة المبالغة ؛ أي : بلداً كاملاً في الأمن . كأنه قيل : اجعله بلداً معلوم الاتصاف بالأمن ، مشهوراً به ، كقولك : كان هذا اليوم يوماً حاراً . وفي " القاموس " وشرحه التاج : البلد والبلدة علم على مكة ، شرفها الله تعالى ، تفخيماً لها . كالنجم للثريا . وكل قطعة من الأرض مستحيزة عامرة أو غامرة خالية أو مسكونة . وفي " النهاية " : البلد من الأرض ، ما كان مأوى الحيوان ، وإن لم يكن فيه بناء { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ } إنما سأل إبراهيم عليه السلام ذلك ، لأن مكة لم يكن بها زرع ولا ثمر ، فاستجاب الله تعالى له ، فصارت يُجبى إلهيا ثمرات كل شيء : { مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } بدل من : { أهله } ، بدل البعض ، يعني : ارزق المؤمنين من أهله خاصة . وإنما خصّهم بالدعاء إظهاراً لشرف الإيمان ، واهتماماً بشأن أهله ، ومراعاة لحسن الأدب في المسألة . حيث ميزّ الله تعالى المؤمنين عن الكافرين ، في باب الإمامة ، في قوله : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } بعد أن سأل ، عليه السلام ، جعْلها في ذريته ، فلا جرم خصص المؤمنين بهذا الدعاء ، وفيه ترغيب لقومه في الإيمان ، وزجر عن الكفر : { قَالَ } الله تعالى : معلماً أن شمول الرحمانية بأمن الدنيا وزرقها لجميع عَمْرة الأرض : { وَمَن كَفَرَ } أي : أنيله أيضاً ما ألهمتك من الدعاء بالأمن والرزق ، فهو عطف على مفعول فعل محذوف ، دلَّ الكلام عليه . ويجوز أن تكون : { من } مبتدأ موصولة أو شرطية . وقوله : { فَأُمَتِّعُهُ } خبره أو جوابه . وعبر عن رزقه بالمتعة التي هي الزاد القليل والبلغة ، تخسيساً له ، وأكد ذلك بقوله : { قَلِيلاً } تمتيعاً قليلاً ، أو زماناً قليلاً : { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ } أي : ألجئه إليه كما قال تعالى : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً } [ الطور : 13 ] ، و : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ } [ القمر : 48 ] وقرئ فأمتعه قليلاً ثم اضطره ، بلفظ الأمر فيهما على أنهما من دعاء إبراهيم عليه السلام ، وفي : { قال } ضميره : { وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } النار أو عذابها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ 127 ]
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } أي : أذكر بناءهما البيت ورفعهما القواعد منه . وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية ، لاستحضار صورتها العجيبة ، والقواعد : مع قاعدة ، وهي الأساس والأصل لما فوقه ، وقال الزجاج : القواعد : أساطين البناء التي تعمده : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } على إرادة القول أي : يقولان ، وترك مفعول : { تقبل } ليعم الدعاء وغيره من القرب والطاعات ، التي من جملتها ما هما بصدده من البناء ، كما يعرب عنه جعل الجملة الدعائية حالية : { إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ } لدعائنا : { الْعَلِيمُ } بضمائرنا ونياتنا .
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس في حديث مجيء إبراهيم لتفقد إسماعيل عليهما السلام ، ثم قال : يا إسماعيل ! إن الله قد أمرني بأمر ، قال : فاصنع ما أمرك ربك ، قال : وتعينني ؟ قال : وأعينك . قال : فإن الله أمرني أبني ههنا بيتاً ، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها . قال : فعند ذلك رفعا القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة ، وإبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع البناء ، جاء بهذا الحجر ، فوضعه له ، فقام عليه وهو يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، وهما يقولان : { ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } قال فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت ، وهما يقولان : ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ 128 ]
{ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } مخلصين لك أوجهنا . من قوله : أسلم وجهه لله ، أو مستسلمين ، يقال : أسلم له وسلم ، واستسلم ، إذا خضع وأذعن . والمعنى : زدنا إخلاصاً أو إذعاناً لك : { وَمِن ذُرِّيَّتِنَا } واجعل من ذريتنا : { أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } و : { من } للتبعيض ، أو للتبيين ، كقوله : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ } [ النور : 55 ] ، وإنما خصّا الذرية بالدعاء ، لأنهم أحق بالشفقة ، ولأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع : { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } أي : عرفنا متعبداتنا ، جمع منسك بفتح السين وكسرها ، وهو المتعبد ، وشرعة العبادة . يقع على المصدر والزمان والمكان ، من النسك مثلثة وبضمتين وهو العبادة والطاعة ، وكل ما تُقُرِّب به إلى الله تعالى .
ومن المفسرين من حمل المناسك على مناسك الحج لشيوعها في أعماله ومواضعه . فالإراءة حينئذ لتعريف تلك الأعمال والبقاع ، وقد رويت آثار عن بعض الصحابة والتابعين تتضمن أن جبريل أرى إبراهيم المناسك ، وأن الشيطان تعرض له ، فرماه عليه السلام . قالوا : وفي ذلك ظهور لشرف عمل الحج ، حيث كان مُتلقّىً عن الله بلا واسطة ، لكونه عَلَماً على أتي يوم الدين ، حيث لا واسطة هناك بين الرب والعباد . والذي عول عليه أئمة اللغة ما ذكرناه أولاً من حمل المناسك على ما يرجع إليه أصل هذه اللفظة من العبادة والتقرب إلى الله تعالى ، واللزوم لما يرضيه ، وجعل ذلك عامّاً لكل ما شرعه الله تعالى لإبراهيم عليه السلام . أي : علمنا كيف نعبدك وأين نعبدك ، وبماذا نتقرب إليك ، حتى نخدمك كما يخدم العبد مولاه ؟ : { وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } هذا الدعاء استتابه لما فرط من التقصير . فإن العبد ، وإن اجتهد في طاعة ربه ، فإنه لا ينفك عن التقصير من بعض الوجوه إما على سبيل السهو والنسيان ، أو على سبيل ترك الأولى ، فالدعاء منهما ، عليهما السلام ، لأجل ذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } [ 129 ]
{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَوَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } هذا إخبار عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم أن يبعث الله فيهم رسولاً منهم ، أي : من ذرية إبراهيم ، وهم العرب من ولد إسماعيل ، وقد أجاب الله تعالى لإبراهيم عليه السلام هذه الدعوة ، فبعث في ذريته رسولاً [ في المطبوع : رسولً ] منهم ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، إلى الناس كافة ، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن نفسه أنه دعوة إبراهيم ، ومراده هذه الدعوة ؛ وذلك فيما خرجه الإمام أحمد عن العرباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إني ، عند الله ، لخاتم النبيّين ، إن آدم عليه السلام لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بأول ذلك ، أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيّين يرين > وأخرج أيضاً نحوه عن أبي أمامة ، قال : قلت : يا نبي الله ! ما كان أول بدء أمرك ؟ قال : < دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى بي ، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منها قصور الشام > .
والمراد أن أول من نوه بذكره وشَهَرهَ في الناس إبراهيم عليه السلام ، ولم يزل ذكره في الناس مشهوراً حتى أفصح باسمه عيسى ابن مريم ، عليهما السلام ، حيث قال : { إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } [ الصف : 6 ] ، وهذا معنى قوله في الحديث : < دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ابن مريم > . وقوله فيه < ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت منها قصور الشام > . قيل : كان منها ما رأته حين حملت به ، وقصته على قومها ، فشاع فيهم واشتهر بينهم ، وكان ذلك توطئة وإرهاصاً . وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه ونبوته ببلاد الشام ، ولهذا يكون الشام في آخر الزمان معقلاً للإسلام وأهله ، وبها ينزل عيسى ابن مريم - إذا نزل بدمشق - بالمنارة الشرقية البيضاء منها .
ولهذا جاء في الصحيحين : < لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، حتى يأتي أمر الله ، وهم كذلك > وفي صحيح البخاري < وهم بالشام > وقوله تعالى : { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ } هي إما الفرقان الذي أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ، المتلوّ عليهم ، وإما الأعلام الدالة على وجود الصانع وصفاته تعالى ، ومعنى تلاوته إياها عليهم أنه كان يذكرهم بها ، ويدعوهم إليها ، ويحملهم على الإيمان بها . وقوله تعالى : { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ } أي : الكامل الشامل لكل كتاب وهو القرآن : { الحكمة } هي السنة ، فسرها بها كثيرون . وعن مالك : هي معرفة الدين ، والفقه فيه ، والإتباع له . وقوله تعالى : { ويزكيهم } أي : يطهرهم من الشرك ، وسائر الأرجاس ، كقوله : { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ } [ الأعراف : 157 ] .
ولما ذكر عليه السلام هذه الدعوات ، ختمها بالثناء على الله تعالى فقال : { إنك أنت العزيز الحكيم } ، والعزيز ذو العزة وهي القوة ، والشدة ، والغلبة ، والرفعة ، و : { الحكيم } بمعنى الحاكم ، أو بمعنى الذي يحكم الأشياء ويتقنها ، وكلاهما من أوصاف تعالى .
قال الراغب : إن قيل ما وجه الترتيب في الآية ؟ قيل : أما الآيات فهي الآيات الدالة على معجز النبي صلى الله عليه وسلم . وذكر التلاوة لما كان أعظم دلالة نبوته متعلقاً بالقرآن . وأما الترتيب ، فلأن أول منزلة النبي صلى الله عليه وسلم بعد ادعاء النبوة ، الإتيان بالآيات الدالة على نبوته ، ثم بعده تعليمهم الكتاب ، أي : تعريفهم حقائقه لا ألفاظه فقط ، ثم بتعليمهم الكتاب يوصلهم إلى إفادة الحكمة ، وهي أشرف منزلة العلم ، ولهذا قال : { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراُ كثيراٌ } [ البقرة : 269 ] ثم بالتدرج في الحكمة يصير الْإِنْسَاْن مزكى أي : مطهرّاً مستصلحاً لمجاورة الله عز وجل . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } [ 130 ]
{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } هذا إنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء من يرغب عن الحق الواضح الذي هو ملة إبراهيم ، وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك تعريض بمعاندي أهل الكتاب والمشركين ، أي : لا يرغب عن ملته الواضحة الغراء إلا من سفه نفسه ، أي : حملها على السفه وهو الجهل .
قال الراغب : وسفه نفسه أبلغ من جهلها ، وذاك أن الجهل ضربان : جهل بسيط ، وهو أن لا يكون للإنسان اعتقاد في الشيء . وجهل مركب وهو أن يعتقد في الحق أنه الباطل ، وفي الباطل أنه حق . والسفه : أن يعتقد ذلك ويتحرى بالفعل مقتضى ما اعتقده . فبيّن تعالى أن من رغب عن ملة إبراهيم ، فإن ذلك لسَفَه نفسه ، وذلك أعظم مذمة ، فهو مبدأ كل نقيضة ، وذاك أن من جهل نفسه ، جهل أنه مصنوع ، وإذا جهل كونه مصنوعاً جهل صانعه ، وإذا لم يعلم أن له صانعاً ، فكيف يعرف أمره ونهيه ، وما حسّنه وقبّحه ؟ ولكون معرفتها ذريعة إلى معرفة الخالق جل ثناؤه ، قال : { وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] ، وقال : { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } [ الحشر : 19 ] .
وقوله تعالى : { وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا } أي : اخترناه من بين سائر الخلق بالرسالة والنبوة والإمامة ، وتكثير الأنبياء من نسله ، وإعطاء الخلة ، وإظهار المناسك عليه ، وجعل بيته آمناً ، ذا آيات بينات إلى يوم القيامة { وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّاْلِحِيْنَ } الذين لهم الدرجات العلى ، وفي هذا أكبر تفخيم لرتبة الصلاح ، حيث جعله من المتصفين بها ، فهو حقيق بالإمامة ، لعلو رتبته عند الله تعالى في الدارين ، ففي ذلك أعظم ترغيب قي اتباع دينه ، والاهتداء بهديه . وأشدّ ذم لمن خالفه .
قال الراغب : إن قيل كيف وصفه بالاصطفاء في الدنيا ، وبالصلاح في الآخرة ، والنظر يقتضي عكس ذلك ؛ فإن الصلاح وصف يرجع إلى الفعل ، وذلك يكون في الدنيا ، والاصطفاء حال يستحقه العبد بكونه صالحاً ، فحقه أن يكون في الآخرة ؟
قيل : الاصطفاء ضربان ، أحدهما كما قلت ، والآخر في الدنيا ، وهو اختصاص الله بعض العبيد بولايته ونبوته بخصوصية فيه ، وهو المعنيّ بقوله : { شَاْكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ } [ النحل : 121 ] ، والصلاح وإن اعتبر بأحوال الدنيا ، فمجازى به في الآخرة ، فبيّن تعالى أنه مجتبى في الدنيا لما علم الله من حكمته فيه ، ومحكوم له في الآخرة ، بصلاحه في الدنيا ، تنبيهاً أن الثواب في الآخرة لم يستحقه باصطفائه في الدنيا ، وإنما استحقه بصلاحه فيها ، ويجوز أن يكون قوله : { فِي الآخِرَةِ } أي : في أفعال الآخرة حال وفاته ، ويكون الإشارة بصلاحه إلى الثناء الحسن عليه ، الذي رغب إلى الله تعالى فيه بقوله : { وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } [ الشعراء : 84 ] ويجوز أنه لما كان الناس ثلاثة أضرب : ظالم ، ومقتصد ، وسابق ، عبر عن السابق بالصالح ، فكل سابق إلى طاعة الله ورحمته صالح . انتهى . وكل ذلك تذكير لأهل الكتاب بما عندهم من العلم بأمر هذا النبي الكريم ، وإقامة المحجة عليهم ، لأن أكثر ذلك معطوف على : { اذْكُرُواْ } في قوله : { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ } [ البقرة : 40 ] ولما ذكر إمامته عليه السلام ، ذكر ما يؤتم به فيه ، وهو سبب اصطفائه ، وصلاحه ، وذلك دينه ، وما أوصى به بنيه ، وما أوصى به بنوه بنيهم سلفاً عن خلف ، ولاسيما يعقوب عليه السلام المنوه بنسبه أهل الكتاب إليه فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 131 ]
{ إِذْ } أي : أصطفيناه لأنه : { قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ } أي : لربك ، أي : انقد له ، وأخلص نفسك له ، أو استقم على الإسلام ، واثبت على التوحيد : { قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } وظاهر النظم الكريم أن القول حقيقي ، وليس في ذلك مانع ، ولا ما جاء ما يوجب تأويله . وقول بعضهم : هو تمثيل ، والمعنى : أخطر بباله دلائل التوحيد المؤدية إلى المعرفة الداعية إلى الإسلام ليس بشيء . ولا معنى لحمل شيء من الكلام على المجاز ، إذا أمكنت فيه الحقيقة بوجه ما .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ 132 ]
{ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ } شروع في بيان تكميله عليه السلام لغيره ، إثر بيان كماله في نفسه . والتوصية التقدم إلى الغير في الشيء النافع المحمود عاقبته ، والضمير في : { بها } إما عائد لقوله : { أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } على تأويل الكلمة والجملة . ونحوه رجوع الضمير في قوله : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً } [ الزخرف : 28 ] ، إلى قوله : { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } [ الزخرف : 2627 ] ، وقوله : { كَلِمَةً } دليل على أن التأنيث على تأويل الكلمة . وإما عائد إلى الملة في قوله : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ } ، وأيد الأول بكون الموصى به مطابقاً في اللفظ لأسلمت ، وقرب المعطوف عليه . ورجح القاضي الثاني لكون المرجع مذكوراً صريحاً ، وردَ الإضمار إلى المصرح بذكره ، إذا أمكن ، أولى من رده إلى المدلول والمفهوم . ولكون الملة أجمع من تلك الكلمة . والكل حسن . وقوله تعالى : { بَنِيهِ } تفيد صيغة الجمع أن لإبراهيم عليه السلام من الولد غير إسماعيل وإسحاق . وقرأت في سفر التكوين من التوراة أن إبراهيم عليه السلام تزوج ، بعد وفاة سارة أم إسحاق ، امرأة أخرى اسمها قَطُورةُ ، فولدت له : زِمْرَانَ وَيَقْشان وَمَدَانَ ومِدْيانَ ويِشْبَاقَ وشُوحاً ، فعلى هذا تكون بنوه عليه السلام ثمانية : { وَيَعْقُوبُ } معطوف على إبراهيم ، ومفعوله محذوف تقديره : ووصى يعقوب بنيه ؛ لأن يعقوب أوصى بنيه أيضاً كما أوصى إبراهيم بنيه . ودليل ذلك قوله تعالى : { إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي } [ البقرة : 133 ] ، كما سيأتي . وقرئ : { ويعقوبَ } بالنصب عطفاً على بنيه ، ومعناه : ووصى بها إبراهيم بنيه ، ونافلته يعقوب . وقد ولد يعقوب في حياة جده إبراهيم ، وأدرك من حياته خمس عشرة سنة ، كما يستفاد من سفر التكوين من التوراة ، فإن فيها أن إبراهيم عليه السلام ، ولد له إسحاق وهو ابن مائة سنة ، ومات وهو ابن مائة وخمس وسبعين سنة ، وكان لإسحاق ، حين ولد له يعقوب وعيسو ، ستون سنة ، فاستفيد من ذلك ما ذكرناه . ولوجود يعقوب في حياة جده يفهم سر ذكره في قوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } [ الأنعام : 84 ] ، وفي آية أخرى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] { يَا بَنِيَّ } أي : قال كل من إبراهيم ويعقوب ، على القراءة الأولى . وعلى الثانية : قال إبراهيم : يا بني : { إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ } أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان ، وهو دين الإسلام ، الذي لا دين غيره عند الله تعالى : { فَلاَ } أي : فتسبب عن ذلك أني أقول لكم : لا : { تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } وفي هذه الجملة إيجاز بليغ . والمراد : الزموا الإسلام ، ولا تفارقوه حتى تموتوا . وهذا الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال ، أي : لا تموتوا على حالة إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام ، فالنهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا ؛ لأنه هو المقدور . فلا يقال : صيغة النهي موضوعة لطلب الكف عما هو مدلولها ، فيكون المفهوم منه النهي عن الموت على خلاف حال الإسلام ، وذا ليس بمقصود ، لأنه غير مقدور . وإنما المقدور فيه هو الكون على خلاف حال الإسلام ، فيعود النهي إليه ، ويكون المقصود النهي عن الاتصاف بخلاف حال الإسلام وقت الموت ، لما أن الامتناع عن الاتصاف بتلك الحال يتبع الامتناع عن الموت في تلك الحال . فإما أن يقال : استعمل اللفظ الموضوع للأول في الثاني ، فيكون مجازاً . أو يقال : استعمل اللفظ في معناه لينتقل منه إلى ملزومه ، فيكون كناية .
قال الزمخشريّ : ونظير ذلك قولك : لا تصلّ إلا وأنت خاشع ، فلا تنهاه عن الصلاة ، ولكن عن ترك الخشوع في حال صلاته ، والنكتة في إدخال حرف النهي عما ليس بمنهيّ عنه ، هو إظهار أن موتهم لا على حال الثبات على الإسلام ، موت لا خير فيه ، وأنه ليس بموت السعداء ، وأن من حل هذا الموت أن لا يحل فيهم . كما تقول في الأمر : مت وأنت شهيد ، فليس مرادك الأمر بالموت ، ولكن بالكون على صفة الشهداء إذا مات . وإنما أمرته بالموت اعتداداً منك بميتته ، وإظهاراً لفضلها على غيرها ، وإنها حقيقة بأن يُحَثَّ عليها ، هذا وقد قرر سبحانه بهذه الآيات بطلان ما عليه المتعنتون من اليهودية والنصرانية ، وبرأ خليله والأنبياء من ذلك ، ولما حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه بالغ في وصية بنيه بالدين والإسلام ، ذكر عقيبه أن يعقوب وصى بنيه بمثل ذلك تأكيداً للحجة على اليهود والنصارى ، ومبالغة في البيان بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ 133 ]
{ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ } أي : ما كنتم حاضرين حينئذ ، فـ : { أم } منطقعة مقدّرة بـ " بل " ، والهمزة ، وفي الهمزة الإنكار المفيد للتقريع والتوبيخ . والشهداء جمع شهيد أو شاهد بمعنى الحاضر ، وحضور الموت حضور مقدماته : { إِذْ قَالَ } أي : يعقوب : { لِبَنِيهِ } وهم : رأُوبَيْن ، وشِمْعُونَ ، ولاَوِي ، ويَهُوذَا ، ويَسَّاكَر ، وزَبُولُون ، ويُوسُف ، وَبَنْيامين ، ودَانُ ، ونَفْتاَلي ، وجادُ ، وأشِيرُ ، وهم الأسباط الآتي ذكرهم : { مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي } أي : أي : شيء تعبدونه بعد موتي ، وأراد بسؤاله تقريرهم على التوحيد والإسلام ، وأخذ ميثاقهم على الثبات عليهما : { قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ } عطف بيان لآبائك ، وجعل إسماعيل وهو عمه من جملة آبائه ؛ لأن العم أب والخالة أم ، لانخراطهما في سلك واحد ، وهو الأخُّوة ، لا تفاوت بينهما ، ومنه حديث الترمذي عن علي كرم الله وجهه ، رفعه < عم الرجل صنو أبيه > أي : لا تفاوت بينهما ، كما لا تفاوت بين صنوي النخلة . وفي الصحيحين عن البراء ، رفعه : < الخالة بمنزلة الأم > ، وروى ابن سعد عن محمد بن عليّ مرسلا ً : < الخالة والدة > .
{ إِلَهاً وَاحِداً } بدل من إله آبائك ، كقوله تعالى : { بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } [ العلق : 15 - 16 ] أو على الاختصاص ، أي : نريد بإله آبائك إلهاً واحداً ، وفي ذلك تحقيق للبراءة من الشرك ، للتصريح بالتوحيد ، ثم أخبروا بعد توحيدهم بإخلاصهم في عبادتهم ، بقولهم : { وَنَحْنُ لَه } أي : وحده لا لأب ولا غيره : { مُسْلِمُونَ } أي : مطيعون خاضعون ، كما قال تعالى : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً } [ آل عِمْرَان : 83 ] والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة ، وإن تنوعت شرائعهم ، واختلفت مناهجهم ، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] والآيات في هذا كثيرة ، والأحاديث . منها قوله صلى الله عليه وسلم : < نحن معاشر الأنبياء أولاد علاتٍ ، دينناً واحد > وقد اشتمل نبأ وصية إبراهيم ويعقوب عليهما السلام لبنيهما على دقائق مرغبة في الدين :
منها أنه تعالى لم يقل : < وأمر إبراهيم بنيه > بل قال : وصاهم . ولفظ الوصية أوكد من الأمر ، لأن الوصية عند الخوف من الموت ، وفي ذلك الوقت يكون احتياط الْإِنْسَاْن لدينه أشد وأتم ، فدل على الاهتمام بالوصي به ، والتمسك به .
ومنها تخصيص بنيهما بذلك ؛ وذلك لأن شفقة الرجل على أبنائه أكثر من شفقته على غيرهم ، فلما خصَّاهُم بذلك في آخر عمرهما علمنا أن اهتمامهما بذلك كان أشد من اهتمامهما بغيره .
ومنها أنهما ، عليهما السلام ، ما مزجا بهذه الوصية وصية أخرى ، وهذا يدل على شدة الاهتمام أيضاً ، إلى دقائق أخرى أشار إليها الفخر ، عليه الرحمة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ 134 ]
{ تِلْكَ } إشارة إلى إبراهيم ويعقوب وبينهما الموحدين : { أُمَّةٌ } أي : جيل وجماعة : { قَدْ خَلَتْ } أي : سلفت ومضت : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } في إسلامها من الاعتقادات والأعمال والأخلاق : { وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ } أي : مما أنتم عليه من الهوى خاص بكم ، لا يسألون هم عن أعمالكم : { وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } والمعنى أن أحداً لا ينفعه كسب غيره متقدماً كان أو متاخراً : فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا ، فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم ، فما اقتص عليكم أخبارهم ، وما كانوا عليه من الإسلام والدعوة إليه ، إلا لتفعلوا ما فعلوه ، فتنتفعوا ، وإن أبيتم ، لم تنتفعوا بأعمالهم .
قال الرازي : الآية دالة على بطلان التقليد ، لأن قوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } بدل على أن كسب كل واحد يختص به ، ولا ينتفع به غيره ، ولو كان التقليد جائزاً ، لكان كسب المتبوع نافعاً للتابع ، فكأنه قال : إني ما ذكرت حكاية أحوالهم طلباً منكم أن تقلدوهم ، ولكن لتنَبَّهُوا على ما يلزمكم ، فتستدلوا وتعلموا أن ما كانوا عليه من الملة هو الحق . انتهى .
ومعلوم أن إتباع الأنبياء عليهم السلام ، والإيمان بهم ، لا يسمى تقليداً ، لخروجه عن حده المقرر في كتب الأصول .
ثم أخبر تعالى أنهم اعتاضوا عن الاهتداء بالأصفياء من أسلافهم ، بأن صاروا دعاة إلى الكفر ، مع بيان بطلان ما هم عليه من كل وجه بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ 135 ]
{ وَقَالُواْ } أي : الفريقان من أهل الكتاب : { كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ } نتبع : { مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } ونستن بسنته لا نحول عنها كما تحولتم : { حَنِيفاً } أي : مستقيماً أو مائلاً عن الباطل إلى الحق ، لأن الحنف محركة يطلق على الاستقامة ، ومنه قيل للمائل الرِّجل أحنف ، تفاؤلاً بالاستقامة كم قالوا للديغ : سُلَيم . وللمهلكة : مفازة . ويطلق على ميل في صدر القدم ، واعوجاج في الرجل ، فالحنيف المستقيم على إسلامه لله تعالى ، الماثل عن الشرك إلى دين الله سبحانه .
ولما أثبت إسلامه بالحنيفية نفى عنه غيره بقوله : { وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وفيه تعريض بأهل الكتاب ، وإيذان ببطلان دعواهم اتباعَه عليه السلام ، مع إشراكهم بقولهم : عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، قد أفادت هذه الآية الكريمة أن ما عليه الفريقان محض ضلال وارتكاب بطلان ، وأن الدين المرضيّ عند الله الإسلام ، وهو دعوة الخلق على توحيده تعالى ، وعبادته وحده ، لا شريك له .
ولما خالف المشركون هذا الأصل العظيم بعث الله نبيه محمداً خاتم النبيين لدعوة الناس جميعاً إلى هذا الأصل .
القول في تأويل قوله تعالى :(/)
{ قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ 136 ]
{ قُولُواْ } أي : يا أيها الذين آمنوا . وفيه إظهار لمزية فضل الله عليهم حيث يلقنهم ولا يستنطقهم فيقصروا في مقالهم : { آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا } أي : من الكتاب الذي تقدم إنه الهدى : { وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ } من الأحكام التي كانوا متعبدين بها ، مما اشتملت عليه صحف أبيهم إبراهيم عليه السلام ومن الموحى إليهم خاصة . والأسباط هم أولاد يعقوب الاثنا عشر المتقدم ذكرهم ، جمع سبط وهو الحافد . سموا بذلك لكونهم حفدة إبراهيم وإسحاق { وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى } من التوراة والإنجيل : { وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ } مما ذكر ، وغيرهم { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } في الإيمان فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } منقادون .
وقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم < لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالله وما أنزل إلينا > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ 137 ]
{ فَإِنْ آمَنُواْ } أي : أهل الكتاب الذي أرادوا أن يستتبعوكم : { بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ } أي : بما آمنتم به على الوجه الذي فصّل ، على أن المثل مقحم . وقد قرأ ابن عباس وابن مسعود : بما آمنتم به . وقرأ أُبيّ : بالذي آمنتم به : { فَقَدِ اهْتَدَواْ } إلى الحق ، وأصابوه كما اهتديتم . عكس ما قالوا : كونوا مثلنا تهتدوا : { وَّإِن تَوَلَّوْاْ } أي : أعرضوا عن الإيمان بما أمنتم به { فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } أي : فما هم إلا في خلاف وعداوة وليسوا من طلب الحق في شيء .
قال القاضي : ولا يكاد يقال في المعاداة على وجه الحق أو المخالفة التي لا يتكون معصية إنه شقاق . وإنما يقال ذلك في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه ولعنه ، وفي استحقاق النار ، فصار هذا القول وعيداً منه تعالى لهم ، وصار وصفهم بذلك دليلاً على أن القوم معادون للرسول ، مضمرون له السوء ، مترصدون لإيقاعه في المحن ، فعند هذا أمنه الله تعالى من كيدهم ، وأمن المؤمنين من شرهم ومكرهم فقال : { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ } تقوية لقلبه وقلب المؤمنين لأنه تعالى إذا تكفل بالكفاية في أمر حصلت الثقة به . وقد أنجز وعده بقتل قريظة وسبيهم وإجلاء بني النضير : { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } أتبع وعده بالنصر والكفاية ، بما يدل على أن ما يسرون وما يعلنون من أمرهم لا يخفى عليه تعالى . فهو يسبب لكل قول وضمير منهم ما يردّ ضرره عليهم . فهو وعيد لهم ، أو وعدٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم . أي : يسمع ما تدعو به ، ويعلم نيتك وما تريده من إظهار دين الحق ، وهو مستجيب لك وموصلك إلى مرادك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ } [ 138 ]
{ صِبْغَةَ اللّهِ } مصدر مؤكد منتصب من قوله : { آمنا بالله } كذا قاله سيبويه ، فهو بمثابة فِعْلَه . كأنه قيل صبغنا الله صبغة . أي : صبغ قلوبنا بالهداية والبيان صبغة كاملة لا ترتفع بماء الشبه ، ولا تغلب صبغةُ غيره عليه . والصبغة كالصبغ بالكسر فيهما لغة ، ما يصبغ به وتلون به الثياب . ووصف الإيمان بذلك لكونهم تطهيراً للمؤمنين من أوضار الكفر ، وحلية تزيّنهم بآثاره الجميلة ، ومتداخلاً في قلوبهم ، كما أن شأن الصبغ بالنسبة إلى الثوب كذلك ، ويقال : صبغ يده بالماء غمسها فيه ، وأنشد ثعلب :
~دَعِ الشَّرِّ وَأَنْزَلَ بِالنَّجَاةِ تَحَرُّزاً إِذَاْ أَنْتَ لَمْ يَِصْبِغْكَ فِي الشَّرِّ صَاْبِغُ
وقال الراغب : الصبغة إشارة من الله عز وجل إلى ما أوجده في الناس من بداية العقول التي ميزنا بها من البهائم ، ووشحنا بها لمعرفته ومعرفة حسن العدالة وطلب الحق ، وهو المشار إليه بالفطرة في قوله : { فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } [ الروم : 30 ] الآية ، والمعني بقوله عليه السلام : < كل مولود يولد على الفطرة . . . > الخبر ، وتسمية ذلك بالصبغة من حيث إن قوى الْإِنْسَاْن التي ركب عليها ، إذا اعتبرت بذاته ، تجري مجرى الصبغة التي هي زينة المصبوغ . ولما كانت اليهود والنصارى ، إذا لقنوا أولادهم اليهودية والنصرانية ، يقولون : قد صبغناه - بيّن تعالى أن الإيمان بمثل ما آمنتم به هو صبغة الله وفطرته التي ركزها في الخلق ، ولا أحد أحسن صبغة منه .
ثم قال : وقول الحسن وقتادة ومجاهد : إن الصبغة هي الدين ، وقول غيرهم : إنها الشريعة ، وقول من قال : هو الختان - إشارة إلى مغزى واحد : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً } الاستفهام للإنكار والنفي . أي : لا صبغة أحسن من صبغته تعالى ؛ لأنها صبغة قلب لا تزول ؛ لثباتها بما تولاها الحفيظ العليم ، فلا يرتد أحد عن دينه سخطة له بعد أن خالط الإيمان بشاشة قلبه . والجملة اعتراضية مقررة لما في : { صبغة الله } من معنى الابتهاج : { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ } شكراً لتلك النعمة ولسائر نعمه ، فكيف تذهب عنا صبغته ونحن نوكدها بالعبادة ، وهي تزيل رَََيْن القلب فينطبع فيه صورة الهداية ؟ وهو عطف على آمنا ، داخل معه تحت الأمر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } [ 139 ]
{ قُلْ } منكراً لمحاجتهم وموبِّخاً لهم عليها : { أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ } أي : أتناظروننا في توحيد الله والإخلاص له واتباع الهدى وترك الهوى : { وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } المستحق لإخلاص العبودية له وحده لا شريك له ، ونحن وأنتم في العبودية له سواء : { وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } أي : نحن برآء منكم ومما تعبدون ، وأنتم برآء منا . كما قال في الآية الأخرى : { وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } [ يونس : 41 ] . وقال تعالى : { فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ } [ آل عِمْرَان : 20 ] الآية { وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُون } في العبادة والتوجيه ، لا نشرك به شيئاً ، وأنتم تشركون به عزيراً والمسيح والأحبار والرهبان . ولمَّا بقي من مباهتاتهم ادعاؤهم أن أسلافهم كانوا على دينهم ، أبطلها سبحانه بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ 140 ]
{ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ } خليل الله : { وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ } ابنيه : { وَيَعْقُوبَ } ابن إسحاق : { وَالأسْبَاطَ } أولاد يعقوب : { كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى } أي : على ملتهم ، إما اليهودية وإما النصرانية : { قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ } أي : الذي له الإحاطة كلها أعلم . فلا يمكنهم أن يقولوا : نحن . وإن قالوا : الله ، فقد برأ الله إبراهيم ومن معه من ذلك . فبطل ما ادعوا ، وثبت أنهم ، عليهم السلام ، كانوا على الحنيفية مسلمين مبرَّئين عن اليهودية والنصرانية ، هذا مع أن ردَّ قولهم هذا أظهرُ ظاهرٍ من حيث إنه لا يعقل أن يكون السابقُ على نسبة للآحق ، ما حدثت إلا بعده بمدد متطاولة . وسيأتي النص الصريح بإبطال ذلك في آل عِمْرَان . ولما كان العلم عندهم عن الله بأن الخليل ومن ذكر معه ، عليهم السلام ، على دين الإسلام ، وكانوا يكتمون ما عندهم من ذلك ، مع تقرير الله لهم به واستخبارهم عنه ونهيه لهم عن كتمانه وما يقاربه بقوله : { وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } [ البقرة : 42 ] الآية أشار إلى أشد الوعيد في كتمان ذلك بقوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً } موجودة وموعودة : { عِندَهُ مِنَ اللّهِ } وهو كتمان العلم الذي هو الإخبار بما أنزل الله . والاستفهام إنكار لأن يكون أحدٌ أظلم من أهل الكتاب حيث كتموا شهادته تعالى لهم ، عليهم السلام ، بالحنيفية والبراءة من الفريقين .
قال التقيَ ابن تيمية : سمى تعالى ما عندهم من العلم شهادة كما قال : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى } [ البقرة : 159 ] الآية ، كأنه قال : خبراً عنده ، ديناً عنده من الله ، وبياناً عنده من الله ، فإن كان قوله : { مِنَ اللَّهِ } متعلقا ًبـ : { كتم } فإنه يعم كل الشهادات . وإن كان متعلقاً بـ : { عنده } ، وهو الأوجه ، أو بشهادة ، أو بهما ، فإن الأمر في ذلك واحد ؛ أي : شهادة استقرت عنده من جهة الله . فهو كتمان شهادات العلم الموروث عن الأنبياء ، فسمى الإخبار به شهادة .
ثم قال : وكذلك الأخبار النبوية إنما يراد بالشهادة فيها الإخبار : { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ البقرة : 74 ] تهديد ووعيد شديد ؛ أي : أن علمه محيط بكم وسيجزيكم عليه .
قال الرازيّ : هذا هو الكلام الجامع لكل وعيد ، ومن تصور أنه تعالى عالم بسره وإعلانه ، ولا يخفى عليه خافية ، وأنه من وراء مجازاته ، إن خيراً فخير ، وإن شرّاً فشر لا يمضى عليه طرفة عين إلا هو حذر خائف ، ألا ترى أن أحدنا لو كان عليه رقيب من جهة سلطان يعدّ عليه الأنفاس ، لكان دائم الحذر والوجل ، مع أن ذلك الرقيب لا يعرف إلا الظاهر ، فكيف بالرب الرقيب الذي يعلم السر وأخفى ، إذا هدد وأوعد بهذا الجنس من القول ؟(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 141 ]
{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ } فلا يسألون عن أعمالكم : { وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } لما ذكر تعالى حسن طريقة الأنبياء المتقدمين ، ولم يدع لهم متمسكاً من جهتهم ، أتبع ذلك الإشارة إلى أن الدين دائر مع أمره في كل زمان . وأنه لا ينفعهم إلا ما يستجدّونه بحكم ما تجدد من المُنْزَل المعجز لكافة أهل الأرض ، أحمرهم وأسودهم . . . أي : فعليكم بترك الكلام في تلك الأمة ؛ فلها ما كسبت ، وانظروا فيما دعاكم إليه خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فإن ذلك أنفع لكم وأعود عليكم ، ولا تُسألون إلا عن عملكم .
قال الراغب : إعادة هذه الآية من أجل أن العادة مستحكمة في الناس ، صالحهم وطالحهم أن يفتخروا بآبائهم ويقتدوا بهم في متحرياتهم لاسيما في أمور دينهم .
ولهذا حكى عن الكفار قولهم : { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ } [ الزخرف : 22 ] . فأكد الله تعالى القول في إنزالهم عن هذه الطريقة ، وذكر في أثر ما حكى من وصية إبراهيم ويعقوب بنيه بذلك ، تنبيهاً أن الأمر سواء على ما قلت أو لم يكن ، فليس لكم ثواب فعلهم ولا عليكم عقابه ، وفي الثاني لما ذكر ادعاءهم اليهودية والنصرانية لآبائهم أعاد أيضاً تأكيداً عليهم تنبيهاً على نحو ما قال : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ } [ الإسراء : 13 ] ، وقوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [ البقرة : 286 ] ، وقوله : { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [ الأنعام : 164 ] ولما جرت به عادتهم وتفردت به معرفتهم ؛ كل شاة تناط برجليها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ 142 ]
{ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } روى البخاريّ في صحيحه عن البراء رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن تكون قبلته قِبَلَ البيت ، وأنه صلى أول صلاة صلاها ، صلاة العصر وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمرّ على أهل المسجد وهم راكعون ، فقال : أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قِبَلَ مكة ، فداروا كما هم قِبَلَ البيت .
وروى مسلم : عن البراء رضي الله عنه نحو ما تقدم ولفظه : صلينا مع رسول . الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً ، ثم صرفنا نحو الكعبة .
وروى الشيخان ابن عمر قال : بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن . وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكانت وجوهم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة . اللفظ لمسلم .
والأحاديث في تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة متوافرة ، وفيما ذكرنا كفاية .
وقد أعلم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن فريقاً من الناس سينكرون تغيير القبلة وسماهم سفهاء ، جمع سفيه ، وهو الخفيف الحلم والأحمق والجاهل . قال أبو السعود : أي : الذين خفّت أحلامهم واستمهنوها بالتقليد والإعراض عن التدبر والنظر . انتهى .
ومعنى قوله : { مَا وَلَّاهُمْ } أي : أي : شيء صرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، أي : ثابتين على التوجه إليها ، وهي بيت المقدس . ومدار الإنكار ، إن كان القائلون هم اليهود ، كراهتهم للتحويل عنها لأنها قبلتهم ، وإن كان غيرهم ، فمجرد القصد إلى الطعن في الدين والقدح في أحكامه . وقد روي عن ابن عباس : أن القائلين هم اليهود ، وعن الحسن أنهم مشركو العرب . وعن السدي أنهم المنافقون .
قال الراغب : ولا تنافي بين أقوالهم فكل قد عابوا ، وكلٌّ سفهاء .
تنبيه :
ظاهر قوله تعالى : { سَيَقُولُ السُّفَهَاء } الخ ، أنه إخبار بقولهم المذكور ، ثم إن الإخبار قبل وقوعه ، وفائدته توطين النفس وإعداد ما يبكتهم ، فإن مفاجأة المكروه على النفس أشق وأشد ، والجواب العتيد الشغب الخصم الألد أردّ ، مع ما فيه من دلائل النبوة حيث يكون إخباراً عن غيب ، فيكون معجزاً : { قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } جواب عن شبهتهم ، وتقريره أن الجهات كلها لله ملكاً ، فلا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة . بل إنما تصير قبلة لأن الله تعالى جعلها قبلة ، فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى أخرى ، وما أمر به فهو الحق : { يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } فيه تعظيم أهل الإسلام وإظهار عنايته تعالى بهم ، وتفخيم شأن الكعبة . كما فخمه بإضافته إليه في قوله تعالى : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } [ الحج : 26 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ 143 ]
{ وَكَذَلِكَ } أي : كما هديناكم إلى قبلة هي أوسط القِبل وأفضلها : { جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } أي : عدولاً ، خياراً ، وقوله تعالى : { لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } تعليل للجَعْل المنوه به الذي تَمَّتْ المنة به عليهم . واعلم أن أصل الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة ، إما بالبصر أو بالبصيرة . قال الرازي : الشهادة والمشاهدة والشهود هو الرؤية ، يقال شاهدت كذا إذا رأيته وأبصرته ، ولما كان بين الإبصار بالعين ، وبين المعرفة بالقلب مناسبة شديدة ، لا جرم قد تسمى المعرفة التي في القلب مشاهدة وشهوداً ، والعارف بالشيء شاهداً ومشاهداً ، ثم سميت الدلالة على الشيء شاهداً على الشيء ؛ لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهداً . ولما كان المخبر عن الشيء والمبيّن لحاله جارياً مجرى الدليل على ذلك ، سمي ذلك المخبر أيضاً شاهداً . وبالجملة ، فكل من عرف حال شيء ، وكشف عنه كان شاهداً عليه . انتهى .
والشهيد أصله الشاهد والمشاهد للشيء والمخبر عن علم حصل بمشاهدة بصرٍ أو بصيرة . وهو ، بالمعنى الثالث ، من النعوت الجليلة . ولذلك وصف به النبيون والسادة والأئمة . كما ترى في هذه الآية وفي آية : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً } [ النساء : 41 ] وآية : { وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ } [ البقرة : 23 ] : { وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ } [ النساء : 69 ] ، ثم إن في اللام في قوله تعالى : { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } وجهين :
الأول : إنها لام الصيرورة والعاقبة ؛ أي : فآل الأمر بهدايتكم وجعلكم وسطاً أن كنتم شهداء على الناس ، وهم أهل الأديان الأخر ؛ أي : بصراء على كفرهم بآيات الله وما غيروا وبدلوا وأشركوا وألحدوا ، مما قص عليكم في الآيات قبل ، حتى أحطتم به خبراً ، فعرفتم حق دينهم من باطله ، ووحيه من مخترعه .
يعني : وإذا شهدتم ذلك منهم وأبصرتم فاشكروا مولاكم على ما أولاكم ، وعافكم مما ابتلى به سواكم ، حيث وفقكم للمنهج السويّ وهداكم للمهيع الرضي ، وذلك صار الرسول عليكم شهيداً بأنكم عرفتم الحق من الباطل ، والهدى من الضلال ، والنور من الظلمات ، بما بلغكم من وحيه وأراكم من آياته . فعظمت المنة لله عليكم ؛ إذ أصبحتم مهتدين بعد الضلالة ، علماء بعد الجهالة . ففيه إشارة إلى تحذير المؤمنين من أن يزيغوا بعد الهدى ، كما زاغ أولئك الذين نعى عليهم ضلالتهم ، فتقوم عليهم الحجة كما قامت من أولئك .
الوجه الثاني : أن تكون اللام للتعليل ، على أصلها . والمعنى : جعلناكم أمة خياراً لتكونوا شهداء على الناس ، أي : رقباء قُوَّاماً عليهم بدعائهم إلى الحق ، وإرشادهم إلى الهدى وإنذارهم مما هم فيه من الزيغ والضلال ، كما كان الرسول شهيداً عليكم بقيامه عليكم بما بلغكم وأمركم ونهاكم وحذركم وأنذركم . فتكون الآية نظير آية : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } [ آل عِمْرَان : 110 ] ، وربما آثر هذا المعنى من قال : خير ما فسِّر القرآن بالقرآن ، لتماثل الآيتين بادئ بدء ؛ فإن الوسط بمعنى الخيار . وقد صرح به في قوله : { خَيْرَ أُمَّةٍ } وإلى هذا المعنى يشير قول مجاهد في الآية : لتكونوا شهداء لمحمد عليه السلام على الأمم اليهود والنصارى والمجوس : أي : شهداء على حقية رسالته ، وذلك بالدعوة إليها ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر الذي هو قطب الدعوة وروحها .
وبعد كتابة هذا رأيت السمرقنديّ في تفسيره نقل خلاصة ما قلناه ؛ وعبارته : وللآية تأويل آخر : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } أي : عدولاً : { لتكونوا شهداء على الناس } الخ يقول : إنكم حجة على جميع من خالفكم ، ورسول الله عليه السلام حجة عليكم . والشهادة في اللغة هو البيان ولهذا سمي الشاهد بينة ؛ لأنه يبيّن حق المدعي ؛ يعني إنكم تبينون لمن بعدكم ، والنبيّ عليه السلام يبين لكم . انتهى .
وأوضح ذلك الراغب الأصفهاني : بأسلوب آخر فقال : إن قيل : على أي : وجه شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة وشهادة الأمة على الناس ؟ قيل : الشاهد هو العالم بالشيء المخبر عنه مثبتاً حكمه ، وأعظم شاهد من ثبت شهادته بحجة ، ولما خص الله تعالى الْإِنْسَاْن بالعقل ، والتمييز بين الخير والشر ، وكمله ببعثة الأنبياء ، وخصّ هذا الأمة بأنم كتاب ، كما وصفه بقوله : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 38 ] . وقوله : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ } [ النحل : 89 ] ، فأفادناه عليه السلام وبينه لنا - صار حجة وشاهداً أن يقولوا : { مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ } [ المائدة : 19 ] . وجعل أمته ، المتخصصة بمعرفته ، شهوداً على سائر الناس .
إن قيل : هل أمته شهود كلهم أم بعضهم ؟ قيل : كلهم ممكن من أن يكونوا شهداء ؛ وذلك بشريطة أن يزكوا أنفسهم بالعلم والعمل الصالح ، فمن لم يزك نفسه لم يكن شاهداً ومقبولاً . ولذلك قال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] وعلى هذا قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } [ النساء : 135 ] ، فالقيام بالقسط مراعاة العدالة ، وهي بالقول المجمل ثلاث : عدالة بين الْإِنْسَاْن ونفسه ، وعدالة بينه وبين الناس ، وعدالة بينه وبين الله عز وجل . فمن رعى ذلك فقد صار عدلاً شاهداً لله عز وجل .
إن قيل : فهل هم شهود على بعض الأمة أم على الناس كافة ؟ قيل : بل كلُّ شاهد نفسه ، وعلى أمته ، وعلى الناس كافة ، فإن من عرف حكمة الله تعالى وجوده ، وعدله ، ورأفته ، علم أنه لم يغفل تعالى عنه ، ولا عن أحد من الناس ، ولا بخل عليهم ولا ظلمهم ، ومن علم ذلك فهو شاهد لله على من في زمانه ، وعلى من قبله ومن بعده ، وعلى هذا الوجه ما روي في الخبر : < أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على الأمم > . انتهى كلام الراغب .
والخبر الذي أشار إليه رواه البخاري عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < يدعى نوح يوم القيامة فيقول : لبيك وسعديك يا رب . فيقول : هل بلغتَ ؟ فيقول : نعم . فيقال لأمته : هل بلَّغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير . فيقول : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته . فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيداً > . فذلك قوله جل ذكره : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } . وقد روي مرفوعاً عن جابر . أخرجه الطبري . وعن ثلة من التابعين من قولهم .
وأقول : قد بينا مراراً ، أن مثل هذا الخبر وكل ما يروى مرفوعاً أو غير مرفوع في تأويل هذه الآية ، فكله يفيد أن للآية عموماً يشمل ما ذكر ، لا أنها خاصة به لا يستفاد منها غيره . كما أوضحناه في المقدمة في قولهم : نزلت الآية في كذا ؛ وعليه فلا تنافي بين ما يفهم من سياق الآية أو ما يتقاضاه معناها لغة ، من حيث عمومها ، أو ما يحمل عليها من نظائرها في التنزيل الكريم ، وبين ما يروى في تفسيرها ، فمآل ما يتعدد من سبب النزول في آية ما ، أو ما يكثر من الآثار في وجوهها ، كله من باب تفسير العامّ ببعض ما يتناوله لفظه . ولذلك يكثر في بعض طرق الروايات . ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى ، أو : ثم قرأ . أو : اقرأوا إن شئتم . مما يدل على أنه ذكرتْ الآية حجة لما أخبر به ؛ لأنه مما يندرج فيها . فاحرص على ذلك .
تنبيهات :
الأول : استدل بالآية على أن الإجماع حجة ؛ لأن الله تعالى وصف هذه الأمة بالعدالة . والعدل هو المستحق للشهادة وقبولها ، فإذا اجتمعوا على شيء وشهدوا به لزم قبوله ، فإجماع الأمة حق ؛ لا تجتمع الأمة - والحمد لله - على ضلالة . كما وصفها الله بذلك في الكتاب فقال تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [ آل عِمْرَان : 110 ] ، وهذا وصف لهم بأنهم يأمرون بكل معروف ، وينهون عن كل منكر ، كما وصف نبيهم صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله : { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ } [ الأعراف : 157 ] ، وبذلك وصف المؤمنين في قوله : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } [ التوبة : 71 ] ، قلو قالت الأمة في الدين بما هو ضلال ، لكانت لم تأمر بالمعروف في ذلك ، ولم تنه عن المنكر فيه ، وقد جعلهم الله شهداء على الناس ، وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول . وقد ثبت في " الصحيح " عن عبد العزيز بن صهيب قال : سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه فيقول : مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً فقال النبي صلى الله عليه وسلم < وجبت > ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً فقال < وجبت > . فقال عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه : ما وجبت ؟ قال : < هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة ، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار ؛ أنتم شهداء الله في الأرض > .
وعند الحاكم أنه قرأ هذه الآية : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ } إلى آخرها .
فإذا كان الرب قد جعلهم شهداء ، لم يشهدوا بباطل ، فإذا شهدوا أن الله أمر بشيء ، فقد أمر به ، وإذا شهدوا أن الله نهى عن شيء فقد نهى عنه ، ولو كانوا يشهدون بباطل أو خطأ لم يكونوا شهداء الله في الأرض . بل زكاهم الله في شهادتهم ، كما زكى الأنبياء فيما يبلّغون عنه أنهم لا يقولون عليه إلا الحق ، وكذلك الأمة لا تشهد على الله إلا الحق .
هذه نبذة من كلام الإمام ابن تيمية عليه الرحمة ، في الإجماع ، من بعض رسائله .
الثاني : مما يتعلق أيضاً بهذا المقام ، ما قاله أيضاً هذا الإمام في رسالته إلى جماعة عدي بن مسافر . ونصه : فعصم الله هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة ، وجعل فيها من تقوم به الحجة إلى يوم القيامة ، ولهذا كان إجماعهم حجة ، كما كان الكتاب والسنة حجة . ولهذا امتاز أهل الحق من هذه الأمة بالسنة والجماعة ، عن أهل الباطل الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب ، ويعرضون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعما مضت عليه جماعة المسلمين ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة ، رواها عنه أهل السنن والمسانيد . كالإمام أحمد ، وأبي داود ، والترمذي وغيرهم ، أنه قال : < ستفترق هذه الأمة على اثنتين وسبعين فرقة ، كلها في النار ، إلا واحدة ، وهي الجماعة > . وفي رواية : < من كان على مثل ما أنا عليه اليوم ، وأصحابي > . وهذه الفرقة الناجية أهل السنة . وهم وسط في النِّحل ، كما أن ملة الإسلام وسط في الملل ، فالمسلمون وسط في أنبياء الله ، ورسله ، وعباده الصالحين ، لم يغْلوا فيهم كما غلت في النصارى فـ : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 31 ] . ولا جَفَوْا عنهم ، كما جفت اليهود ، فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق : { وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ } [ آل عِمْرَان : 21 ] . و : { كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ } [ المائدة : 70 ] بل المؤمنون آمنوا برسل الله ، وعزروهم ، ونصروهم ، ووقروهم ، وأحبوهم ، وأطاعوهم ، ولم يعبدوهم ، ولم يتخذوهم أرباباً . كما قال تعالى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ آل عِمْرَان : 79 - 80 ] . ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في المسيح ، فلم يقولوا : هو الله ، ولا ابن الله ، ولا ثالث ثلاثة . كما تقوله النصارى . ولا كفروا به ، وقالوا على مريم بهتاناً عظيماً ، حتى جعلوه ، ولدَ غيّة ، كما زعمت اليهود . بل قالوا : هذا عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول ، وروح منه . وكذلك المؤمنون وسط في شرائح دين الله ، فلم يحرّموا على الله أن ينسخ ما شاء ، ويمحو ما شاء ويثبت . كما قالته اليهود . كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله : { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } [ البقرة : 142 ] ، وبقوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ } [ البقرة : 91 ] ، ولا جوّزوا لأكابر علمائهم وعبّادهم أن يغيّروا دين الله ، فيأمروا بما شأؤوا وينهوا عما شأؤوا . كما يفعله النصارى ؛ كما ذكر الله عنهم بقوله : { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ } [ التوبة : 31 ]
قال عديّ بن حاتم رضي الله عنه : قلت : يا رسول الله ما عبدوهم ؟ قال : < ما عبدوهم ، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم ، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم > . والمؤمنون قالوا : لله الخلق والأمر . فكما لا يخلق غيره ، لا يأمر غيره . وقالوا : سمعنا وأطعنا ، فأطاعوا كل ما أمر الله به . وقالوا : إن الله يحكم ما يريد . وأما المخلوق ، فليس له أن يبدل أمر الخالق تعالى ، ولو كان عظيماً . وكذلك في صفات الله تعالى ، فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق الناقصة ، فقالوا : هو : { فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } [ آل عِمْرَان : 181 ] . وقالوا : { يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } [ المائدة : 64 ] . وقالوا : إنه تعب من الخلق فاستراح يوم السبت . إلى غير ذلك . والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به . فقالوا إنه يخلق ويرزق ، ويرحم ويتوب على الخلق ، ويثيب ويعاقب . والمؤمنون آمنوا بالله سبحانه وتعالى ، ليس له سمي ولا ندٌّ { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] . و : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] ، فإنه رب العالمين ، وخالق كل شيء ، وكل ما سواه عَبَّاد له ، فقراء إليه .
{ إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً } [ مريم : 93 - 95 ] ، ومن ذلك : أمر الحلال والحرام ، فإن اليهود كما قال تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [ النساء : 160 ] ، فلا يأكلون ذوات الظفر مثل الإبل والبط ، ولا شحم الثَّرْب - الثَّرْب : شحم رقيق يغشى الكَرِش والأمعاء ، وجمعه ثروب - والكليتين ، ولا الجدي في لبن أمه ، إلى غير ذلك ، مما حرم عليهم من الطعام واللباس وغيرهما ؛ حتى قيل : إن المحرمات عليهم ثلاثمائة وستون نوعاً ، والواجب عليهم مائتان وثمانية وأربعون أمراً ، وكذلك شدد عليهم في النجاسات حتى لا يواكلوا الحائض ، ولا يجامعوها في البيوت .
وأما النصارى فاستحلوا الخبائث وجميع المحرمات ، وباشروا جميع النجاسات ، وإنما قال لهم المسيح : { وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } [ آل عِمْرَان : 50 ] . ولهذا قال تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [ التوبة : 29 ] .
وأما المؤمنون فكما نعتهم الله به في قوله : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُون َ *الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ الأعراف : 156 - 157 ] .
وهذا باب يطول وصفه ، وهكذا أهل السنة والجماعة في الفِرق ، فهم في باب أسماء الله وآياته وصفاته ، وسط بين أهل التعطيل ، الذين يلحدون في أسماء الله وآياته ، ويعطلون حقائق ما نَعَتَ الله به نفسه حتى يشبهونه بالعدم والموات ، وبين أهل التمثيل الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات . فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه ، وما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف وتمثيل ، وهم في باب خلْقه وأمره وسط بين المكذبين بقدرة الله ، الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء ، وبين المفسدين لدين الله الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل ، فيعطون الأمر ، والنهي ، والثواب ، والعقاب ، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير . فيقدر أن يهدي العباد ، ويقلب قلوبهم ، وإنه ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فلا يكون في ملكه ما لا يريد ، ولا يعجز عن إنفاذ مراده ، وإنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات ، ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة وعمل ، وأنه مختار ، ولا يسمونه مجبوراً ؛ إذ المجبور من أكره على خلاف اختياره ، والله سبحانه جعل العبد مختاراً لما يفعله ، فهو مختار مريد ، والله خالقه وخالق اختياره ، وهذا ليس له نظير . فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولافي أفعاله .
وهم في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد ، وسط بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار ، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية ، ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم . وبين المرجئة الذين يقولون : إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء ، والأعمال الصالحة ليست من الدين والإيمان ، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية ؛ فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فسّاق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله ، وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة ، وأنهم لا يخلدون في النار بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان ، أو مثقال خردلة من إيمان ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أدَّخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته ، وهم أيضاً في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم ، وسط بين الغالية الذي يغالون في علي رضي الله عنه فيفضلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، ويعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما ، وأن الصحابة ظلموا وفسقوا ، وكفروا الأمة بعدهم كذلك ، وربما جعلوه نبياً أو إلهاً . وبين الجافية الذين يعتقدون كفره وكفر عثمان رضي الله عنهما ، ويستحلون دماءهما ودماء من تولاهما ، ويستحبون سب عليّ وعثمان ونحوهما ، ويقدحون في خلافة عليّ رضي الله عنه وإمامته .
وكذلك في سائر أبواب السنة هم وسط . لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان انتهى .
{ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا } أي : ما شرعنا القبلة ، كقوله تعالى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ } [ المائدة : 103 ] أي : ما شرعها . و : { التي كنت عليها } ليس بصفة للقبلة إنما هو ثاني مفعوليّ : { جعل } أي : وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها ، أي : في مكة تستقبلها قبل الهجرة ، وهي الكعبة . يعني : وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس وابتلاء . أو : { كنت عليها } بمعنى صرت عليها الآن . كقوله تعالى : : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } [ آل عِمْرَان : 110 ] . أو بمعنى كنت على تطلّبها ، أي : حريصاً عليه ، وراغباً فيه . كما يفصح عنه قوله تعالى بعد : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ } [ البقرة : 144 ] الآية .
وعلى هذه الأوجه ، فتكون الآية بياناً للحكمة في جعل الكعبة قبلة ، أو معنى : { التي كنت عليها } : قبل وقتك هذا ، وهي بيت المقدس . أي : إنما شرعنا لك التوجه أولاً إليه ثم صرفناك عنه إلى الكعبة ليظهر حال من يتبعك ، حيثما توجهت ، من غيره . فتكون الآية بياناً للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة أولاً .
ثم اعلم أن الحكمة هو التمييز بين الناس بقوله : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ } في كل ما يؤمر به ، فيثبت عند تقلب الأحكام بما في قلبه من صدق التعلق بالله والتوجه له أيَّانَ ما وجهه : { مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } أي : يرتد عن دينه فينافق ، أو يكفر ممن كان يظهر الاتّباع . وأصل المنقلب على عقبيه : الراجح مستديراً في الطريق الذي قد كان قطعه منصرفاً عنه ، استعير لكل راجع عن أمر كان فيه من دين أو خير .
قال ابن جرير : قد ارتد ، في محنة الله أصحابَ رسوله في القبلة ، رجالٌ ممن كان قد أسلم ، وأظهر كثير من المنافقين من أجل ذلك نفاقهم ، وقالوا : ما بال محمد يحوّلنا مرة إلى ههنا ومرة إلى ههنا ؟ وقال المسلمون ، فيمن مضى من إخوانهم المسلمين وهم يصلون نحو بيت المقدس : بطلت أعمالنا وأعمالهم وضاعت . وقال المشركون : تحيّر محمد في دينه . فكان ذلك فتنة للمؤمنين وتمحيصاً للمؤمنين . انتهى .
لطيفة :
العقبين تثنية عقب وهو مؤخر القدم . والانقلاب عليهما استعارة تمثيلية ، وهذه الاستعارة نظير قوله تعالى : { ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ } [ المدثر : 23 ] ، وكقوله : { كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [ طه : 48 ] .
تنبيه :
قال الراغب رحمه الله : ما وجه قوله : { إِلَّا لِنَعْلَمَ } وذلك يقتضي استفادة علم ، ولم يزل تعالى عالماً بما كان وبما يكون ؟ قيل : إن ذلك من الألفاظ التي لولا السمع لما تجاسرنا على إطلاقها عليه تعالى ، ومجاز ذلك على أوجه :
الأول : أن اللام في مثل ذلك تقتضي شيئين : حدث الفعل في نفسه ، وحدوث العلم به ، ولما كان علم الله لم يزل ولا يزال ، صار اللام فيه مقتضياً حدوث الفعل لا حدوث العلم .
والثاني : أن العلم يتعلق بالشيء على ما هو به ، والله تعالى عَلِمَهُمْ ، قبل أن يتبعوه ، غير تابعين . وبعد أن تبعوه عَلِمَهُم تابعين . وهذا الجواب هو في الحقيقة الأول ؛ لأن التغيير داخل في المعلوم لا في العلم .
والثالث : معناه ليُعلِم غيرنا بنا . فنسب ذلك إلى نفسه . كقوله تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } [ الزمر : 42 ] ، وفي موضع آخر : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } [ السجدة : 11 ] ، وقال تعالى : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } [ النساء : 113 ] ، وإنما علمه بملائكته .
والرابع : معناه لنجازي ، وذلك متعارف ، نحو قولك : سأعلم حسن بلائك ؛ أي : سأجزيك على حسب مقتضى علمي قبل ، فعبّر عن الجزاء بالعلم لما كان هو سببه .
والخامس : أن عادة الحليم إذا أفاد غيره علماً أن يقول : تعال حتى نعلم كذا ، وإنما يريد إعلام المخاطب ، لكن يُحله نفسه محل المشارك للمتعلم على سبيل اللطف . انتهى .
والوجه الثالث هو الذي اختاره الإمام ابن جرير قال : أما معناه عندنا : ما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا ليعلم رسول وحزبي وأوليائي : من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه .
قال : وكان من شأن العرب إضافة ما فعلته أتباع الرئيس ، إلى الرئيس ، وما فعل بهم ، إليه . نحو قولهم : فتح عُمَر بن الخطاب سواد العراق وجبى خراجها ، وإنما فعل ذلك أصحابه ، عن سببٍ كان منه في ذلك ، وكالذي روي في نظيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < يقول الله جل ثناؤه : مرضت فلم يعدني عبدي ، واستقرضته فلم يقرضني > فأضاف ، تعالى ذكره ، الاستقراض والعيادة إلى نفسه ، وقد كان ذلك بغيره ، إذ كان ذلك عن سببه .
قد حكي عن العرب سماعاً : أجوع في غير بطني ، وأعرى في غير ظهري ؛ بمعنى جوع أهله وعياله وعري ظهورهم . فكذلك قوله : { إِلَّا لِنَعْلَمَ } بمعنى : يعلم أوليائي وحزبي .
{ وَإِن كَانَتْ } أي : التولية إليها أو الجعلة أو التحويلة : { لَكَبِيرَةً } أي : ثقيلة شاقة ؛ لأن مفارقة الإلف ، بعد طمأنينة النفس إليه ، أمر شاق جداً { إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ } قلوبهم ، فأيقنوا بتصديق الرسول ، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه ، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم وما يريد . فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء ، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك ، بخلاف الذين في قلوبهم مرض ، فإنه كلما حدث أمر ، أحدث لهم شكاً . كما يحصل ، للذين آمنوا ، إيقانٌ وتصديقٌ . كما قال تعالى : { وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سورة فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 124 - 125 ] . وقال تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً } [ الإسراء : 82 ] . وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } . هذا تطمين لمن صلى إلى بيت المقدس من المسلمين ، ومن أهل الكتاب قبل النسخ ، وبيان أنهم يثابون على ذلك . وقد روى البخاري من حديث أبي إسحاق المتقدم عن البراء : وكان الذي مات على القبلة ، قبل أن تحوّل قبل البيت ، رجال قتلوا ، لم ندر ما نقول فيهم ، فأنزل الله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ] ، أي : صلاتكم ، وإنما عدل إلى لفظ الإيمان ، الذي هو عام في الصلاة وغيرها ، ليفيدهم أنه لم يضع شيء مما عملوه ، ثم يصح عنهم ، فيندرج المسؤول عنه اندراجاً أولياً ، ويكون الحكم كلياً . وذكر بلفظ الخطاب دون الغائب ، ليتناول الماضيين والباقين ، تغليباً لحكم المخاطب على الغائب في اللفظ ، وفي تتمة الآية إشارة إلى تعليل عدم الإضاعة ، بما اتصف به من الرأفة المنافية لما هجس في نفوسهم من الإضاعة . ولما انطوى النبي صلى الله عليه وسلم على إرادة التوجه إلى الكعبة ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم ومفخرة العرب ومزارهم ومطافهم ، ولمخالفة اليهود - أجابه الحق إلى ذلك بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } [ 144 ]
{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء } أي : تردد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء تشوفاً لنزول الوحي بالتحويل .
قالوا : وفي ذلك تنبيه على حسن أدبه حيث انتظر ولم يسأل . وهلا ألطف مما قيل : إن تقلب وجهه كناية عن دعائه ، ولا مانع أن يراد بتقلب وجهه صلى الله عليه وسلم بالتحويل ، ففيه إعلام بما جعله تعالى من اختصاص السماء بوجه الداعي ، وهذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة ، فهي متقدمة في المعنى ، فإنها رأس القصة : { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } أي : لنعطينك أو لنوجهنك إلى قبلة تحبها وتميل إليها . ودل على أن مرضيّة الكعبة ، بقاء السبب في قوله : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أي : نحوه وجهته . والتعبير عن الكعبة بالمسجد الحرام إشارة إلى أن الواجب مراعاة الجهة دون العين : { وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } أي : حيثما كنتم في بر أو بحر فولوا وجوهكم في الصلاة تلقاء المسجد .
وأما سرّ الأمر بالتولية خاصاً وعاماً ، فقال الراغب : أما خطابه الخاص فتشريفاً له وإيجاباً لرغبته . وأما خطابه العام بعده ، فلأنه كان يجوز أن يعتقد أن هذا أمر قد خُص عليه السلام به ، كما خص في قوله : { قُمِ اللَّيْلَ } [ المزمل : 2 ] ، ولأنه لما كان تحويل القبلة أمراً له خطر ، خصهم بخطاب مفرد ليكون ذلك أبلغ وليكون لهم في ذلك تشريف ، ولأن في الخطاب العام تعليق حكم آخر به ، وهو أنه لا فرق بين القرب والبعد في وجوب التوجه إلى الكعبة .
{ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } قال الفخر : الضمير في قوله : { أنه الحق } راجع إلى مذكور سابق ، وقد تقدم ذكر الرسول كما تقدم ذكر القبلة ، فجاز أن يكون المراد أن القوم يعلمون أن الرسول مع شرعه ونبوته حق ، فيشتمل ذلك على أمر القبلة وغيرها ، ويحتمل أن يرجع إلى هذا التكليف الخاص بالقبلة ، وأنهم يعلمون أنه الحق . وهذا الاحتمال الأخير أقرب ؛ لأنه أليق بالمساق .
ثم ذكر من وجوه علمهم لذلك : أنهم كانوا يعلمون أن الكعبة هي البيت العتيق الذي جعله الله تعالى قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، وأنهم كانوا يعلمون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لما ظهر عليه من المعجزات ، ومتى علموا نبوته فقد علموا لا محالة أن كل ما أتى به فهو حق ؛ فكان هذا التحويل حقاً .
قلت : وثم وجه آخر أدق مما ذكره الفخر في علمهم حقيّة ذلك التحويل ، وأنه من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم ، وبيانه : أن أمره تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولكافة من اتبعه ، باستقبال الكعبة ، من جملة الاستعلان في فاران المذكور في التوراة إشارةً لخاتم النبيين وبشارة به ؛ فقد جاء في الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر التثنية - ويقال الاستثناء - هكذا : وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجلُ الله بني إسرائيل قبل موته فقال : جاء الرب من سيناءَ ، وأشرق لهم من سَعِير ، وتلألأ من جبل فارانَ .
وهذه البشارة تنبه على موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله تعالى أنزل التوراة على موسى في طور سيناء ، والإنجيل على عيسى في جبل سُعَيْر ، لأنه عليه السلام كان يسكن أرض الخليل من سُعَيْر بقرية تدعى الناصرة . وتلألؤه من جبل فاران عبارة عن إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في جبل فاران ، وفاران هي مكة . لا يخالفنا في ذلك أهل الكتاب ؛ ففي الإصحاح الحادي والعشرين من سفر التكوين في حال إسماعيل عليه السلام هكذا : وكان الله مع الغلام فكبر ، وسكن في البرية ، وكان ينموا رامي قوس ، وسكن في برّية فاران .
ولا شك أن إسماعيل ، عليه السلام ، كان سكناه في مكة ، وفيها مات وبها دفن .
وقال ابن الأثير : وفي الحديث ذكر جبل فاران اسم لجبال مكة بالعبرانيّ ، له ذكر في أعلام النبوة ، وألفه الأولى ليست بهمزة { وََمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } قرئ بالياء والتاء . فيه إنباء بتماديهم على سوء أحوالهم .
ولما بين تعالى أنهم يعلمون أن هذه القبلة حق ، أعلم أن صفتهم لا تتغير في الاستمرار على المعاندة بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ } [ 145 ]
{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ } أي : من اليهود والنصارى : { بِكُلِّ آيَةٍ } أي : برهان قاطع أن التوجه إلى الكعبة هو الحق : { مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ } أي : هذه التي حوّلت إليها ؛ لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة تزيلها بإيراد الحجة ، إنما هو عن مكابرة وعناد ، مع علمهم بما في كتبهم من نعتك أنك على الحق ، وقوله تعالى : { وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } هذا حسم لأطماعهم في العود إليها ، أو للمقابلة ؛ يعني ما هم بتاركي باطلهم ، وما أنت بتارك حقك { وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } فلا أتفاق بين فريقيهم ، مع كون الكل من بني إسرائيل .
قال الزمخشري : أخبر تعالى عن تصلب كل حزب فيما هو فيه وثباته عليه ، فالمحق منهم لا يزلّ عن مذهبه لتمسكه بالبرهان ، والمبطل لا يقلع عن باطله لشدة شكيمته في عناده ، وفيه إراحة للنبي صلى الله عليه وسلم من التطلع إلى هدى بعضهم .
فوائد :
الأولى : قال الراغب : إن قيل كيف أعلم بأنهم لا يتبعون قبلته وقد آمن منهم فريق ؟ قيل : قال بعضهم : إن هذا حكم على الكل دون الأبعاض ، وهذا صحيح ؛ بدلالة أنك لو قلت : ما آمنوا ولكن آمن بعضهم ، لم يكن منافياً . وقيل : عني به أقوام مخصوصون .
الثانية : قال الراغب : في قوله تعالى : { وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } إشارة على أن من عرف الله حق معرفته ، فمن المحال أن يرتد ، ولذا قيل : ما رجع من رجع إلا من الطريق : أي : ما أخل بالإيمان إلا من لم يصل إيه حق الوصول .
إن قيل : فقد يوجد من يحصل له معرفة الله ثم يرتدّ ! . قيل : إن الذي يقدّر أنه معرفة ، هو ظن متصور بصورة العلم . فأما أن يحصل له العلم الحقيقي ثم يعقبه الارتداد فبعيد ، ولم يعن بهذه المعرفة ما جعله الله تعالى للإنسان بالفطنة ، فإن تكل كشررة تخمد إذا لم تتوقد .
الثالثة : قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ، في [ في المطبوع : وفي ] " بدائع الفوائد " : قبلة أهل الكتاب ليست بوحي وتوقيف من الله . بل بمشورة واجتهاد منهم . أما النصارى فلا ريب أن الله لم يأمرهم في الإنجيل ولا في غيره باستقبال المشرق ، وهم يقرّون بأن قبلة المسيح قبلة بني إسرائيل ، وهي الصخرة ، وإنما وضع لهم أشياخهم هذه القبلة ، فهم مع اليهود ، متفقون على أن الله لم يشرع استقبال بيت المقدس على رسوله أبداً . والمسلمون شاهدون عليهم بذلك الأمر . وأما اليهود فليس في التوراة الأمر باستقبال الصخرة البتة ، وإنما كانوا ينصبون التابوت ويصلون إليه من حيث خرجوا ، فإذا قدموا نصبوه على الصخرة وصلوا إليه ، فلما رفع صلوا إلى موضعه وهو الصخرة . وقوله : { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ } بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله : { وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } كلام وارد على سبيل الفرض والتقدير ؛ بمعنى : ولئن اتبعتهم ، مثلاً ، بعد وضوح البرهان والإحاطة بحقيقة الأمر : { إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ } أي : المرتكبين الظلم الفاحش .
وفي ذلك لطف للسامعين وزيادة تحذير واستفظاع لحال من يترك الدليل بعد إثارته ، ويتبع الهوى ، وتهييجٌ وإلهاب للثبات على الحق . أفاده الزمخشريّ .
تنبيهات :
الأول : قال الراغب : حذر تعالى نبيه من إتباع أهوائهم ، ونبه أن إتباع الهوى بعد التحقيق بالعلم يدخل متحريه في جملة الظلمة ، وقد أكثر الله تحذيره من الجنوح إلى الهوى حتى كرر ذلك في عدة مواضع . وقول من قال : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمعنيّ به الأمة ، فلا معنى لتخصصه . فإن الله تعالى يحذر نبيه من إتباع الهوى أكثر مما يحذر غيره ، فذو المنزلة الرفيعة إلى تحذير الإنذار عليه أحوج ، حفظاً لمنزلته وصيانة لمكانته . وهو كلام نفيس جداً .
الثاني : في الآية تنويه بشأن العلم ؛ حيث سمى أمر النبوات والدلائل والمعجزات باسم العلم ، فذلك ينبه على أن العلم أعظم المخلوقات شرفاً ومرتبة .
الثالث : دلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم ؛ لأن قوله تعالى : { مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ } يدل على ذلك . ذكره الرازيّ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ 146 ]
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ } أي : يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم معرفة لا امتراء فيها ، كما لا يمترون في معرفة أولادهم من بين أولاد الناس . وهذه المعرفة مستفادة من الكتاب ؛ كما أخبر تعالى عن نعته فيه بقوله : { يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ } [ الأعراف : 157 ] ، يعني يعرفونه بالأوصاف المذكورة في التوراة والإنجيل بأنه هو النبي الموعود بحيث لا يلتبس عليهم ، كما يعرفون أبناءهم ، ولا تلتبس أشخاصهم بغيرهم ، فهو تشبيه للمعرفة العقلية الحاصلة من مطالعة الكتب السماوية ، بالمعرفة الحسية في أن كل منهما يقينيّ ، لا اشتباه فيه . وقد روي عن عمر أنه قال لعبد الله بن سلام : أتعرف محمداً كما تعرف ولدك ؟ قال : نعم وأكثر ؛ نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته ، وإني لا أدري ما كان من أمه . فقبّل عمر رأسه { وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ } أي : أهل الكتاب ، مع ذلك التحقق والإتقان العلمي : { لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ } أي : يخفونه ولا يعلنونه : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي : الحق ، أو عقاب الكتمان ، أو أنهم يكتمون . قال الراغب : لم يقل يكتمونه ؛ لأن في كتمان أمره كتمان الحق جملة . وزاد في ذمهم بقوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فإنه ليس المرتكب ذنباً عن جهل ، كمن يرتكبه عن علم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [ 147 ]
{ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } أي : الحق من الله ، لا من غيره . يعني أن الحق ما ثبت أنه من الله ، كالذي أنت عليه ، وما لم يثبت أنه من الله ، كالذي عليه أهل الكتاب ، فهو الباطل . أي : هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك . وقرأ علي رضي الله عنه : الحقَّ ، بالنصب على الإبدال من الأول ، كما في الكشاف . أو المفعولية لـ : { يعلمون } . كما قاله أبو البقاء { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } الشاكين في كتمانهم الحق مع علمهم ، أو في الحق الذي جاءك من ربك ، وهو ما أنت عليه . ومعلوم أن الشك غير متوقع منه ، ففيه تعريض للأمة . وقال الراغب : ليس هذا بنهي عن الشك لأنه لا يكون بقصد من الشاك ، بل هو حث على اكتساب المعارف المزيلة للشك واستعمالها . وعلى ذلك قوله : { إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [ هود : 46 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 148 ]
{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ } أي : لكل أمة ، أو لكل نبي قبلة أو شرعة ومنهاج : { هُوَ مُوَلِّيهَا } وجهه . أي : مائل إليها بوجهه ، تابع لها ؛ لأنها حُببت إليه ، وزينت له . وقال أبو معاذ : موليها بمعنى متوليها ؛ أي : تولاها ورضيها واتبعها : { فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ } أي : ابتدروها بالمسابقة إليها . وهذا أبلغ من الأمر بالمسارعة ، لما فيه من الحث على إحراز قصب السبق ، والمراد بالخيرات جميع أنواعها مما ينال به سعادة الدارين : { أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً } قال الراغب : أي : أيّ شغل تحرّيتم ، وحيثما تصرفتم ، وأي معبود اتخذتم ، فإنكم مجموعون ومحاسبون عليها : { إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تعليل لما قبله ؛ أي : هو قادر على جمعكم من الأرض ، وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم .
تنبيه :
تشير الآية إلى أن الناس على مذاهب عديدة وأديان متنوعة ، وأن على العاقل أن يستبق إلى ما كان خيرها وأرقاها . وقد اتفق العقلاء قاطبة والفلاسفة أن دين الإسلام أرقى الأديان كلها لما حوى من حاجيات الكمال البشري ، ووفى بشؤون الاجتماع ، وأسباب العمران ، وذرائع الرقيّ وطرق السعادتين . وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى : { لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ } [ الحج : 67 ] . وقوله : { لكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [ المائدة : 48 ] .
ثم إنه تعالى أكد حكم التحويل وبين عدم تفاوت أمر الاستقبال في حالتي السفر والحضر بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ 149 ]
{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ } أي : ومن أي : بلد خرجت للسفر : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } إذا صليت : { وَإِنَّهُ } أي : هذا الأمر : { لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } قرئ بالياء فهو وعيد للكافرين ، وبالتاء فهو وعد للمؤمنين ، ولما عَظُم في شأن القبلة انتشار أقوال السفهاء وتنوع شغبهم وجدالهم ، كان الحال مقتضياً لمزيد تأكيد لأمرها ، تعظيماً لشأنها وتوهية لشبههم ، فقال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [ 150 ]
{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } وقوله تعالى : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } أي : لئلا يحتج عليكم أحد في التولي إلى غيره ، ولتنتفي مجادلتهم لكم ، كقول اليهود مثلاً : يجحد دينناً ويتبع قبلتنا ! وقول غيرهم : يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته ! فإذا صليتم إليه لا تكون لهم عليكم حجة .
قال الراغب : وأشار بقوله : { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } إلى تحقيق ما قدمه ، فبيّن أنه إذا كانت الحكمة تقتضي أن يكون لكل صاحب شرع قبلة يختص بها ، وأنت صاحب شرع ، فتغيير القبلة لك حق من ربك . ثم قال : إن قيل : لِمَ كرّر قوله : { وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } ؟ قيل : حثّ بإحداهما على التوجه نحو القبلة بالقلب والبدن في أي : مكان حصل للإنسان ، نائياً كان عنها أو دانياً منها . وذلك مآل الاختيار والتمكن ، وحث بالآخر على التمكن بالقلب وحده عند اشتباه القبلة ، وفي النافلة في حال اليسر على الراحلة والسفر { إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } فإنهم يظهرون فجوراً ولَدَداً في ذلك ، بالعناد . وهم : إما اليهود المعبر عنهم بأهل الكتاب قبلُ ، أو المنافقون أو المشركون كما حكى قبلُ في السفهاء ، وكان من قول اليهود ، فيما حكاه قتادة : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه . ومن قول المشركين ، فيما حكاه مجاهد : قد رجع إلى قبلتكم فيوشك أن يرجع إلى دينكم وتقدم قول المنافقين . وبالجملة فالكل عابوا وخاضوا : { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ } تخافوا جدالهم : { وَاخْشَوْنِي } فلا تخالفوا أمري : { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } بالتوجه إلى أكمل الجهات المتضمنة للآيات البينات والأمن : { وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } للصراط المستقيم بالتوجه إليها ، فتهتدون بهذه القبلة هداية كاملة .
قال الحراليّ : وفي طيه بشرى بفتح مكة ، واستيلائه على جزيلة العرب كلها ، وتمكينه بذلك من سائر أهل الأرض ، لاستغراق الإسلام لكافة العرب الذين فتح الله بهم له مشارق الأرض ومغاربها ، التي انتهى إليها ملك أمته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } [ 151 ]
{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ } وقوله تعالى : { فِيْكُمْ } المراد به العرب . وكذلك قوله : { مِنْكُمْ } وفي إرساله فيهم ومنهم نعم عظيمة عليهم لما لهم فيه من الشرف ، ولأن المشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد للغير ، فبعثه الله تعالى من واسطتهم ليكونوا إلى القول أقرب : { يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا } يقرأ عليكم القرآن الذي هو من أعظم النعم ؛ لأنه معجزة باقية ، ولأنه يتلى فتتأدى به العبادات ويستفاد منه جميع العلوم ، ومجامع الأخلاق الحميدة ، فتحصل من تلاوته كل خيرات الدنيا والآخرة : { وَيُزَكِّيكُمْ } أي : يطهركم من الشرك وأفعال الجاهلية وسفاسف الأخلاق : { وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ } وهو القرآن . وهذا ليس بتكرار ؛ لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم : { وَالْحِكْمَةَ } وهي العلم بسائر الشريعة التي يشتمل القرآن على تفصيلها ؛ ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه : الحكمة هي سنة الرسول . وقوله : { وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } تنبيه على أنه تعالى أرسل رسوله على حين فترة من الرسل ، وجهالة من الأمم ، فالخلق كانوا متحيّرين ضالين في أمر أديانهم ، فبعث الله تعالى النبي بالحق ، حتى علمهم ما احتاجوا إليه في دينهم ، فصاروا أعمق الناس علماً وأبرهم قلوباً وأقلهم تكلفاً وأصدقهم لهجة ، وذلك من أعظم أنواع النعم ؛ قال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } [ آل عِمْرَان : 164 ] الآية ، وذم من لم يعرف قدر هذه النعمة فقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } [ إبراهيم : 28 ] ، قال ابن عباس يعني : بنعمة الله ، محمداً صلى الله عليه وسلم ، ولهذا ندب الله المؤمنين إلى الاعتراف بهذه النعمة ومقابلتها بذكره وشكره . وقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } [ 152 ]
{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } قال ابن جرير : أي : اذكروني أيها المؤمنون بطاعتكم إياي فيما آمركم به وفيما أنهاكم عنه ، أذكركم برحمتي إياكم ومغفرتي لكم ، وقد كان بعضهم يتأول ذلك أنه من الذكر بالثناء والمدح . وقال القاشاني : اذكروني بالإجابة والطاعة ، أذكركم بالمزيد والتوالي ، وهي بمعنى ما قبله ، وقوله : { وَاشْكُرُواْ لِي } قال ابن جرير : أي : اشكروا لي فيما أنعمت عليكم من الإسلام والهداية للدين الذي شرعته . وقوله : { وَلاَ تَكْفُرُونِ } أي : لا تجحدوا إحساني إليكم ، فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم .
قال السمرقنديّ : أي : اشكروا نعمتي : أن أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ، ولا تجحدوا هذه النعمة ، ويقال : النعمة ، في الحقيقة هي العلم ، وما سواه فهو تحول من راحة إلى راحة ، وليس بنعمة ، والعلم لا يمل منه صاحبه ، بل يطلب منه الزيادة ، فأمر الله تعالى بشكر هذه النعمة ، وهي نعمة بعثة رسولاً يعلمهم الكتاب والحكمة . كما قصه الحراليّ . ولما كان للعرب ولع بالذكر لآبائهم ولوقائعهم ، جعل تعالى ذكره لهم عوض ما كانوا يذكرون ، كما جعل كتابه عوضاً من أشعارهم ، وهزّ عزائمهم لذلك بما يسرهم به من ذكره لهم .
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < يقول الله عز وجل : أنا مع عبدي حين يذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، وإن اقترب إليّ شبراً اقتربت إليه ذراعاً ، وإن اقترب إليّ ذراعاً اقتربت إليه باعاً ، فإن أتاني يمشي أتيته هرولة > صحيح الإسناد أخرجه البخاري أيضاً .
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة : أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده > .
والآثار في فضل الذكر متوافرة ويكفي فيه هذه الآية الكريمة .
تنبيه :
قال النووي رحمه الله تعالى : اعلم أن فضيلة الذكر غير منحصرة في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحوهما ، بل كل عامل لله تعالى بطاعة ، فهو ذاكر لله تعالى .
كذا قاله سعيد بن جبير رضي الله عنه ، وغيره من العلماء . وقال عطاء رحمه الله : مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام ، كيف تشتري وتبيع ؟ ، وتصلي وتصوم ؟ ، وتنكح وتطلّق ؟ ، وأشباه هذا . وقال النووي أيضاً : إن الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها ، واجبة كانت أو مستحبة ، لا يحسب شيء منها ولا يعتد به حتى يتلفظ به بحيث يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع ، لا عارض ، وقد صنف ، في عمل اليوم والليلة ، جماعة من الأئمة كتباً نفيسة . ومن أجمعها للمتأخرين " كتاب الأذكار " للنوويّ ، وممن جمع زبدة ما روى فيها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في " زاد المعاد " ، وقال في طليعة ذلك : كان النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق ذكراً لله عز وجل ، بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه ، وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكراً منه لله ، وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله ووعده ووعيده ذكراً منه له ، وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وتسبيحه ذكراً منه له ، وسؤاله ودعاؤه إياه ورغبته ورهبته ذكراً منه له ، وسكونه وصمته ذكراً منه له بقلبه ، فكان ذكر الله في كل أحيانه وعلى جميع أحواله ، وكان ذكره الله يجري مع أنفاسه قائماً وقاعداً ، وعلى جنبه ، وفي مشية وركوبه ومسيره ، ونزوله وطعنه وإقامته . انتهى .
وأما الأذكار المحدثة والسماعات المبتدعة ، سماع الكف والدف ، فلم يكن الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، وسائر الأكابر من أئمة الدين ، يجعلون هذا طريقاً إلى الله تبارك وتعالى ، ولا يعدّونه من القرب والطاعات بل يعدونه من البدع المذمومة ؛ حتى قال الشافعي : خلفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة يسمونه : التغبير ، يصدّون به الناس عن القرآن . وأولياء الله العارفون يعرفون ذلك ، ويعلمون أن للشيطان فيه نصيباً وافراً ، ولهذا تاب منه خيار من حضره منهم ، ومن كان أبعد عن المعرفة وعن كمال ولاية الله ، كان نصيب الشيطان فيه أكثر فسماع الغناء والملاهي من أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية ، وهو سماع المشركين ؛ قال الله تعالى : { وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً } [ الأنفال : 35 ] ، قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ، وغيرهما من السلف : التصدية ، التصفيق باليد . والمكاء مثل الصفير . فكان المشركون يتخذون هذا عُبَاْدَة .
وأما النبي صلى الله عليه وسلم فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة والقراءة والذكر نحو ذلك ، والاجتماعات الشرعية ولم يجتمع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على استماع غناء قط ، لا بكف ولا بدف ولا تواجد وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، إذا اجتمعوا ، أمروا واحداً منهم أن يقرأ ، والباقون يستمعون وكان عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى الأشعري : ذكرنا ربنا . فيقرأ وهم يستمعون . ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال له : < مررت بك البارحة ، وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك > . فقال : لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيراً . أي : لحسنته لك تحسيناً . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : < زينوا القرآن بأصواتكم > . وقال صلى الله عليه وسلم : < لله أشد أذَناً - أي : استماعاً - إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن يجهر به ، من صاحب القينة إلى قينته > . وعن عبد الله بن مسعود قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : < اقرأ عليّ > ، قلت : يا رسول الله : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : < نعم > . فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً } [ النساء : 41 ] ، قال : < حسبك الآن > . فالتفت فإذا عيناه تذرفان .
ومثل هذا السماع هو سماع النبيين وأتباعهم كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه فقال : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً } [ مريم : 58 ] . وقال تعالى في أهل المعرفة : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } [ المائدة : 83 ] ، ومدح سبحانه أهل هذا السماع بما يحصل لهم من زيادة الإيمان واقشعرار الجلد ودمع العين فقال تعالى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } [ الزمر : 23 ] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } [ الأنفال : 2 ] ، فخلاف هذا السماع ، من الباطل الذي نهى عنه ، ولذلك لم يفعله القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا فعله أكابر المشايخ ، فليُفقْ من كان من الفريق الأدنى في سلوك فقره ، وليصحب من هو من الرفيق الأعلى إلى حلول قبره ، وليُدَاوِ جراحات اجتراح بدعته ، باتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ولزوم سنته . واعلم أن ذكر الله تعالى تارة يكون لعظمته ، فيتولد منه الهيبة والإجلال ، وتارة يكون لقدرته فيتولد منه الخوف والحزن ، وتارة لنعمته فيتولد منه الشكر ، ولذلك قيل : ذكر النعمة شكرها ، وتارة لأفعاله الباهرة فيتولد منه العبر ، فحق المؤمن أن لا ينفك أبداً عن ذكره تعالى على أحد هذه الأوجه . وقوله تعالى : { واشكروا لي ولا تكفرون } فيه أمر بشكره على نعمه وعدم جحدها ؛ فالكفر هنا ستر النعمة لا التكذيب . وقد وعد تعالى على شكره بمزيد الخير فقال : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [ إبراهيم : 7 ] قال ابن عطية : اشكروا لي واشكروني بمعنى واحد . و لي أفصح وأشهر مع الشكر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ 153 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ } أرشد تعالى المؤمنين ، إثر الأمر بالشكر في الآية قبل ، بالاستعانة بالصبر والصلاة ؛ لأن العبد إما أن يكون في نعمة فيكر عليها ، أو في نقمة فيصبر [ في المطبوع : فيصير ] عليها . كما جاء في الحديث : < عجباً للمؤمن لا يقضى له قضاء إلا كان خيراً له ، إن أصابته سراء فشكر كان خيراً له ، وإن أصابته ضراء فصبر كان خير له > . وبيّن تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب في سبيل الله ، الصبر والصلاة ؛ كما تقدم في قوله : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } [ البقرة : 45 ] ، وفي الحديث : < أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر صلى > . ثم إن الصبر صبران : صبر على ترك المحارم والمآثم ، وصبر على فعل الطاعات والقربات . والثاني أكثر ثواباً ؛ لأن المقصود وأما الصبر الثالث ، وهو الصبر على المصائب والنوائب ، فذاك أيضاً واجب . كالاستغفار من المعائب .
وقال الإمام ابن تيمية في كتابه " السياسة الشرعية " وأعظم عون لوليّ الأمر خاصة ، ولغيره عامة ثلاثة أمور : أحدها الإخلاص لله ، والتوكل عليه بالدعاء وغيره . وأصل ذلك المحافظة على الصلاة بالقلب والبدن . والثاني الإحسان إلى الخلق بالنفع والمال الذي هو الزكاة . والثالث الصبر على الأذى من الخلق وغيره من النوائب ؛ ولهذا يجمع الله بين الصلاة والصبر كثيراً كقوله تعالى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } [ البقرة : 45 ] ، وكقوله تعالى : { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ هود : 114 - 115 ] ، وقوله : { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } [ طه : 130 ] ، وأما قِرانُهُ بين الصلاة والزكاة في القرآن فكثير جداً . فبالقيام بالصلاة والزكاة والصبر يصلح حال الراعي والرعية ، إذا عرف الْإِنْسَاْن ما يدخل في هذه الأسماء الجامعة ، يدخل في الصلاة من ذكر الله تعالى ودعائه وتلاوة كتابه وإخلاص الدين له والتوكل عليه ، وفي الزكاة الإحسان إلى الخلق بالمال والنفع : من نصر المظلوم وإعانة الملهوف وقضاء حاجة المحتاج . وفي الصبر احتمال الأذى وكظم الغيظ والعفو عن الناس ومخالفة الهوى وترك الشر والبطر . انتهى .
{ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } قال الإمام ابن تيمية في " شرح حديث النزول " : لفظ المعية في كتاب الله جاء عاماً كما في قوله تعالى : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } [ الحديد : 4 ] ، وفي قوله : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] إلى قوله : { إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } [ المجادلة : 7 ] وجاء خاصاً كما في قوله : { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } [ النحل : 128 ] ، وقوله : { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [ طه : 46 ] ، وقوله : { لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [ التوبة : 40 ] ، فلو كان المراد بذاته مع كل شيء لكان التعميم يناقض التخصيص ، فإنه قد علم أن قوله : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا } أراد به تخصيص نفسه وأبا بكر دون عدوهم من الكفار ، وكذلك قوله : { إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } خصهم بذلك دون الظالمين والفجار .
وأيضاً ، فلفظ المعية ليست في لغة العرب ولا في شيء من القرآن أن يراد بها اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى . كما في قوله : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ } [ الفتح : 29 ] ، وقوله : { فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } [ النساء : 146 ] ، وقوله : { اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [ التوبة : 119 ] ، وقوله : { وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ } [ الأنفال : 75 ] ، ومثل هذا كثير . فامتنع أن يكون قوله : { وَهُوَ مَعَكُمْ } يدل على أن تكون ذاته مختلطة بذوات الخلق .
وقد بسط الكلام عليه في موضع آخر وبين أن لفظ المعية في اللغة ، وإن اقتضى المجامعة والمصاحبة والمقارنة ، فهو ، إذا كان مع العباد ، لم يناف ذلك علوّه على عرشه ، ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه ، فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان ، ويخص بعضهم بالإعانة والنصرة والتأييد . انتهى مختصراً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } [ 154 ]
وقوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } ينهى تعالى عباده المؤمنين عن أن يقولوا للشهداء أمواتا ؛ بمعنى الذين تلفت نفوسهم وعدموا الحياة ، وتصرمت عنهم اللذات ، وأضحوا كالجمادات ، كما يتبادر من معنى الميت ، ويأمرهم سبحانه بأن يقولوا لهم : الأحياء ؛ لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، كما قال تعالى في آل عِمْرَان : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ } [ آل عِمْرَان : 169 - 171 ] ، فقوله في هذه الآية : { عِندَ رَبِّهِمْ } يفسر المراد من حياتهم ؛ أي : إنها لأرواحهم عنده تعالى ، وقوله : { وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } أي : بحياتهم الزوجية بعد موتهم ؛ إذ لم يظهر منها شيء في أبدانهم ، وإن حفظ بعضها عن التلف ، كما ترون النيام هموداً لا يتحركون ، فلا فخر أعظم من ذلك في الدنيا ، ولا عيش أرغد منه في الآخرة .
قال الحراليّ : فكأنه تعالى ينفي عن المجاهد منال المكروه من كل وجه ، حتى في أن يقال عنه : ميت . فحماه من القول الذي هو عندهم من أشد غرض أنفسهم ، لاعتلاق أنفسهم بجميل الذكر . انتهى .
ولذا قال الأصم : يعني لا تسموهم بالموتى ، وقولوا لهم الشهداء الأحياء . وقال الراغب الأصفهانيّ : الحياة على أوجه ، وكل واحد منها يقابله موت :
الأولى : هو القوة النامية التي بها الغذاء ، والشهوة إليه ، وذلك موجود في النبات والحيوان والْإِنْسَاْن ؛ ولذلك يقال : نبات حيّ .
والثانية : في القوة الحاسة التي بها الحركة المكانية ، وهي في الحيوان دون النبات .
والثالثة : القوة العاملة العاقلة ، وهي في الْإِنْسَاْن دون الحيوان والنبات ، وبها يتعلق التكليف ، وقد يقال للعلم المستفاد والعمل الصالح : حياة ، وعلى ذلك قوله تعالى : { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] وقيل : المحسن حي وإن كان في دار الأموات ، والمسيء ميت وإن كان في دار الأحياء .
قال : ونعود إلى معنى الآية فنقول : قد أجمعوا على أنه لا يثبت لهم الحياة التي بها النموّ والغذاء ، ولا الحياة التي بها الحس ، فإن فقدانهما عن الميت محسوس ومعقول ، فبعض المفسرين اعتبر الحياة المختصة بالْإِنْسَاْن . وقال : إن هذه الحياة مخصصة بالقوة المسماة تارة الروح وتارة النفس . قال : والموت المشاهد هو مفارقة هذه القوة - التي هي الروح - البدنَ . فمتى كان الْإِنْسَاْن محسناً كان منعّماً بروحه مسروراً لمكانه إلى يوم القيامة ، وإن كان مسيئاً كان به معذباً ، وإلى هذا ذهب الحكماء ودلوا عليه بالبراهين والأدلة ، وهو مذهب أصحاب الحديث ، ويدل على صحته الأخبار والآيات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم . بل إليه ذهب أصحاب الملل كلها .
ومما دل على صحته خَبَرَا < الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف > وما روي عن أمير المؤمنين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام > . وروي أنه لما قتل من قتل من صناديد قريش - يوم بدر - وجمعوا في قَليب ، أقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم فخاطبهم بقوله : < هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً ؟ فأني وجدت ما وعدني ربي حقاً > قيل : يا رسول الله ! أتخاطب جيفاً ؟ فقال : < ما أنتم بأسمع منهم ، ولو قدروا لأجابوا > . إلى غير ذلك من الأخبار . وقال تعالى في آل فرعون : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } وهذا يعني به قبل يوم القيامة ؛ لأنه قال في آخر الآية : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [ غافر : 46 ] . انتهى .
وفي البيضاوي وحواشيه : إن إثبات الحياة للشهداء في زمان بطلان الجسد ، وفساد البنية ، ونفي الشعور بها - دليل على أنّ حياتهم ليست الجسد ، ولا من جنس حياة الحيوان ، لأنها بصحة البنية ، واعتدال المزاج وإنما هي أمر يدرك بالوحي لا بالعقل . انتهى .
وقد جاء الوحي ببيان حياتهم - كما أسلفنا - قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب " الروح " : وقد أخبر سبحانه عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، وهذه حياة أرواحهم ، ورزقها دارٌّ ، وإلاّ فالأبدان قد تمزقت ، وقد فسّر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحياة : بأن أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلّقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع إليهم ربهم اطَّلاعة فقال : هل تشتهون شيئاً ؟ قالوا : أي : شيء نشتهي ؟ ونحن نسرح في الجنة حيث شئنا . . . ! ففعل بهم ذلك ثلاث مرات . فلما رأوا أنهم لن يُتركوا من أن يُسألوا - قالوا : يا رب ! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى . . ! فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا . وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم : < إن أرواح الشهداء في طير خضر تعلُق من ثمر الجنة > . - وتعلُق بضم اللام ؛ أي : تأكل العلقة - وهذا صريح في أكلها ، وشربها ، وحركتها ، وانتقالها ، وكلامها . . . ! انتهى .
قال الطبيّ : قوله صلى الله عليه وسلم : < أرواحهم في جوف طير خضر > أي : يخلق لأرواحهم ، بعدما ما فارقت أبدانهم ، هياكل تلك الهيئة ، تتعلق بها وتكون خلفاً عن أبدانهم ، فيتوسلون بها إلى نيل ما يشتهون من اللذات الحسية . وقال ابن القيم في كتاب " لروح " : إن الله سبحانه وتعالى جعل الدور ثلاثة : دار الدنيا ، ودار البرزخ ، ودار القرار ، وجعل لكل دار أحكاماً تختص بها ، وركب هذا الْإِنْسَاْن من بدن ونفس وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان ، والأرواح تبع لها ، ولهذا جعل أحكامه الشرعية مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح ، وإن أضمرت النفوس خلافه .
وجعل أحكام البرزخ على الأرواح ، والأبدان تبع لها ، فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا ، فتألمت بألمها ، والتذّت براحتها ، وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب - تبعث الأبدان الأرواح في نعيمها وعذابها ، والأرواح حينئذ هي التي تباشر العذاب والنعيم ، فالأبدان هنا ظاهرة ، والأرواح خفية . والأبدان كالقبور لها ، والأرواح هناك ظاهرة والأبدان خفية في قبورها ، فتجري أحكام البرزخ على الأرواح ، فترى إلى أبدانها نعيماً وعذاباً ، كما جرى أحكام الدنيا على الأبدان فترى إلى أرواحها نعيماً وعذاباً ، فأحطْ بهذا الموضع علماً واعرفه كما ينبغي ، يَزُلْ عنك كل إشكال يورد عليك من داخل وخارج . وقد أرانا الله سبحانه ، بلطفه ، ورحمته وهدايته من ذلك ، أنموذجاً في الدنيا من حال النائم ، فإن ما ينعم به ، أو يعذب في نومه ، يجري على روحه أصلاً ، والبدن تبع له ، وقد يقوى حتى يؤثر في البدن تأثيراً مشاهداً ، فيرى النائم أنه في نومه ضُرِبَ ، فيصبح وآثار الضرب في جسمه ، ويرى أنه قد أكل وشرب ، فيستيقظ وهو يجد أثر الطعام والشراب فيه ، ويذهب عنه الجوع والظمأ .
وأعجب من ذلك أنك ترى النائم ، ثم يقوم من نومه ، ويضرب ويبطش ويدافع ، كأنه يقظان ، وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك ؛ لأن الحكم ، لما جرى على الروح ، استعانت بالبدن من خارجه ، ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحسّ .
فإذا كانت الروح تتألم وتتنعم ، ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع ، فهكذا في البرزخ ، بل أعظم ، فإن تجرد الروح هناك أكمل وأقوى ، وهي متعلقة ببدنها ، لم تنقطع عنه كل الانقطاع ، فإذا كان يوم حشر الأجساد ، وقيام الناس من قبورهم ، صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد ظاهراً بادياً . ومتى أعطيت هذا الموضع حقه تبين لك أن ما أخبر به الرسول من عذاب القبر ونعيمه ، وضيقه وسعته ، وضمه ، وكونه حفرة من حفر النار ، أو روضة من رياض الجنة - مطابق للعقل ، وأنه حق لا مرية فيه ، وأن من أشكل عليه ذلك ، فمن سوء فهمه ، وقله علمه . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين َ *الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ } [ 155 ، 156 ]
وقوله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ } خطاب لمن آمن مع النبي صلى الله عليه وسلم ، خُصّوا به ، وإن شمل من ماثلهم ، لأنهم المباشرون للدعوة والجهاد ، ومكافحة الفجّار ، وكل قائم بحق ، وداع إليه ، معرض للابتلاء بما ذكر ، كله أو بعضه . والتن وين للتقليل ؛ أي : بقليل من كل واحد من هذه البلايا وطرف منه ، وإنما قَلّل ليؤذن أن كل بلا أصاب الْإِنْسَاْن ، وإن جل ، ففوقه ما يقل إليه ، وليخفف عليهم ويريهم أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم ، وإنما أخبر به قبل الوقوع ، ليوطنوا عليه نفوسهم ، ويزداد يقينهم ، عند مشاهدتهم له حسبما أخبر به ، وليعلموا أنه شيء يسير ، له عاقبة حميدة : { مِّنَ الْخَوفْ } أي : خوف العدو والإرجاف به : { وَالْجُوعِ } أي : الفقر ، للشغل بالجهاد ، أو فقد الزاد ، إذا كنتم في سرية تجاهدون في سبيل الله ، وقد كان يتفق لهم ذلك أياماً يتبلغون فيها بتمرة : { وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ } أي : لانقطاعهم بالجهاد عن عُمارة بساتينهم ، أو لافتقادهم بعضها بسبب الهجرة ، وترك شيء منه في البلدة المهاجر منها : { وَالأنفُسِ } بقتلها شهيدة في سبيل الله ، أو ذهاب أطرافها فيه : { وَالثَّمَرَاتِ } أي : بأن لا نغلَّ الحدائق كعادتها ، للغيبة عنها في سبيل الله ، وفقد من يتعاهدها ، وخصت بالذكر لأنها أعظم أموال الأنصار الذين هم أخص الناس بهذا الذكر لاسيما في وقت نزول هذه الآيات ، وهو أول زمان الهجرة .
فكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده كما قال : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ } [ محمد : 31 ] . قال الراغب : هذه الآية مشتملة على محن الدنيا كلها : أي : إذا نظر إلى عموم كل فرد مما ذكر فيها ، وقطع النظر عن خصوص حال المخاطبين فيها ، بما يدل عليه سابقه .
ثم بين تعالى ما للصابرين عنده بقوله : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ } مكروه ، اسم فاعل من أصابته شدة : لحقته . أي : كهذه البلايا : { قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ } أي : ملكاً وخلقاً فلا ينبغي أن نخاف غيره ، لأنه غالب على الكل ، أو نبالي بالجوع ؛ لأن رزق العبد على سيده ، فإن مُنِع وقتاً ، فلا بد أن يعود إليه . وأموالنا وأنفسنا وثمراتنا ملك له ، فله أن يتصرف فيها بما يشاء : { وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ } في الدار الآخرة . فيحصل لنا عنده ما فوّته علينا ؛ لأنه لا يضيع أجر المحسنين . فالمصاب يهون عليه خطبه ، إذا تسلّى بقوله هذا ، وتصور ما خلق له ، وأنه رجع إلى ربه ، وتذكر نعم الله عليه ، ورأى أن ما أبقى عليه أضعاف ما استرده منه . قال الراغب : وليس يريد بالقول اللفظ فقط ، فإن التلفظ بذلك مع الجزع القبيح وتسخط القضاء ليس يغني شيئاً ، وإنما يريد تصور ما خلق الْإِنْسَاْن لأجله والقصد له ، والاستهانة بما يعرض في طريق الوصول إليه ، فأمر تعالى ببشارة من اكتساب العلوم الحقيقية وتصورها ، وقصد هذا المقصد وطن نفسه عليه .
ثم قال : إن قيل : ولم قلت : إن الأمر بالصبر يقتضي العلم ؟ قيل : الصبر في الحقيقة إنما يكون لمن عرف فضيلة مطلوبه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [ 157 ]
{ أُولَئِكَ } إشارة إلى الصابرين باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت : { عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ }
قال الراغب : الصلاة ، وإن كانت في الأصل الدعاء ، فهي من الله البركة على وجه ، والمغفرة على وجه . وقال الرازيّ : الصلاة من الله هي الثناء والمدح والتعظيم . قال الراغب : وإنما قال : { صَلَوَاتٌ } على الجمع ، تنبيهاً على كثرتها منه وأنها حاصلة في الدنيا توفيقاً وإرشاداً ، وفي الآخرة ثواباً ومغفرة : { وَرَحْمَةٌ } عظيمة في الدنيا عوض مصيبتهم : { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } أي : إلى الوفاء بحق الربوبية والعبودية ، فلا بد أن يوفي الله عليهم صلواته ورحمته .
تنبيه :
ورد في ثواب الاسترجاع وهو قول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، عند المصائب ، وفي أجر الصابرين ، أحاديث كثيرة . منها ما في صحيح مسلم عن أم سلمة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجُرني في مصيبتي ، واخلف لي خيراً منها ، إلا أجَرَهُ الله في مصيبته ، وأخلف له خيراً منها > . قالت : فلما توفي أبو سلمة قلت : مَن خيرٌ من أبي سلمة : صاحب رسول الله ؟ ثم عزم الله لي فقلتها . قالت : فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وروى الإمام أحمد عن الحسين بن علي عليهما السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها ، وإن طال عهدها ، فيحدث لذلك استرجاعاً ، إلا جدد الله له عند ذلك ، فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب بها > .
وروى الإمام أحمد بسنده عن أبي سنان قال : دفنت ابناً لي ، وإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة - يعني الخولانيّ - فأخرجني وقال : ألا أبشرك ؟ قال قلت : بلى . قال : حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب [ في المطبوع : عوزب ] عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < قال الله تعالى : يا ملك الموت ، قبضت ولد عبدي ، قبضتَ قرة عينه وثمرة فؤاده ؟ قال : نعم . قال : فما قال ؟ قال : حمدك واسترجع . قال : ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد > . ورواه الترمذي وقال : حسن غريب .
وروى البخاري : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من يرد الله به خيراً يصب منه > . وروى الشيخان عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حَزْن ولا أذى ولا غم ، حتى الشوكة يشاكها ، إلا كفر الله بها من خطاياه > .
ورويا أيضاً عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به عنه من سيئاته ، كما تحط الشجرة ورقها > .
والأحاديث في ذلك متوافرة معروفة في كتب السنة .
وللإمام عز الدين محمد بن عبد السلام ، رحمه الله تعالى ، كلام على فوائد المحن والرزايا يحسن إيراده هنا . قال عليه الرحمة : للمصائب والبلايا والمحن والرزايا فوائد تختلف باختلاف رتب الناس :
أحدها : معرفة عز الربوبية وقهرها .
والثاني : معرفة ذلة العبودية وكسرها ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [ البقرة : 156 ] ، اعترفوا بأنهم ملكه وعبيده ، وأنهم راجعون إلى حكمه وتدبيره وقضائه وتقديره لا مفر لهم منه ولا محيد لهم عنه .
والثالثة : الإخلاص لله تعالى ؛ إذ لا مرجع في رفع الشدائد إلا إليه ، ولا معتمد في كشفها إلا عليه : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ } [ الأنعام : 17 ] ، { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [ العنكبوت : 65 ] .
الرابعة : الإنابة إلى الله تعالى والإقبال عليه : { وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ } [ الزمر : 8 ] .
الخامسة : التضرع والدعاء : { وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا } [ يونس : 12 ] ، : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ } [ الإسراء : 67 ] { بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 41 ] { قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } [ الأنعام : 63 ] .
السادسة : الحلم ممن صدرت عنه المصيبة : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } [ التوبة : 114 ] ، { إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } [ الحجر : 53 ] ، [ وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد قيس ] : < إن فيك لخصلتين يحبهما الله تعالى : الحلم والأناة > . وتختلف مراتب الحلم باختلاف المصائب في صغرها وكبرها ، فالحلم عند أعظم المصائب أفضل من كل حلم .
السابعة : العفو عن جانيها : { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } [ آل عِمْرَان : 134 ] { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه } [ الشورى : 40 ] . والعفو عن أعظمها أفضل من كل عفو .
الثامنة : الصبر عليها ، وهو موجب لمحبة الله تعالى وكثرة ثوابه : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } [ آل عِمْرَان : 146 ] : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر .
التاسعة : الفرح بها لأجل فوائدها : قال عليه الصلاة والسلام : < والذي نفسي بيده ! إن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء > . وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : حبذا المكروهان الموت والفقر . وإنما فرحوا بها ؛ إذ لا وقع لشدتها ومرارتها بالنسبة إلى ثمرتها وفائدتها ، كما يفرح من عظمت أدواؤه بشرب الأدوية الحاسمة لها ، مع تجرعه لمرارتها .
العاشرة : الشكر عليها لما تضمنته من فوائدها ، كما يشكر المريض الطبيب القاطع لأطرافه ، المانع من شهواته ، لما يتوقع في ذلك من البرء والشفاء .
الحادية عشرة : تمحيصها للذنوب والخطايا : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير } [ الشورى : 30 ] [ وكما جاء في الحديث ] : < ولا يصيب المؤمن وصب ولا نصب حتى الهم يهمه والشوكة يشاكها إلا كفر به من سيئاته > .
الثانية عشرة : رحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم ؛ فالناس معافى ومبتلى ، فارحموا أهل البلاء واشكروا الله تعالى على العافية ، وإنما يرحم العشاق من عشق .
الثالثة عشرة : معرفة نعمة العافية والشكر عليها ؛ فإن النعم لا تعرف أقدارها إلا بعد فقدها .
الرابعة عشرة : ما أعده الله تعالى على هذه الفوائد من ثواب الآخرة على اختلاف مراتبها .
الخامسة عشرة : ما في طيّها من الفوائد الخفية : { فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } [ النساء : 19 ] { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } [ البقرة : 216 ] { إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } [ النور : 11 ] .
ولما أخذ الجبار سارة من إبراهيم كان في طيّ تلك البلية أن أخدمها هاجر . فولدت إسماعيل لإبراهيم عليهما الصلاة والسلام ، فكان من ذرية إسماعيل خاتم النبيين ، فأعظم بذلك من خبر كان في طي تلك البلية ، وقد قيل :
~كَمْ نِعْمَةٍ مَطْوِيَّةٍ لَكَ بَيْنَ أَثْنَاْءِ الْمَصَاْئِبِ
وقال آخر :
~رُبَّ مَبْغُوْضٍ كَرِيْهِ فِيْهِ لِلَّهِ لَطَائِفُ
السادسة عشرة : إن المصائب والشدائد تمنع من الأشر والبطر والفخر والخيلاء والتكبر والتجبر ، فإن نمرود ، لو كان فقيراً سقيماً ، فاقد السمع والبصر ، لما حاجّ إبراهيم في ربه ، لكن حمله بطرُ الملك على ذلك ، وقد علل الله سبحانه وتعالى مُحاجّته بإتيانه الملك ، ولو ابتلى فرعون بمثل ذلك لما قال : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } [ النازعات : 24 ] ، { وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ } [ التوبة : 74 ] ، { إِنَّ الْإِنْسَاْن لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى } [ العلق : 6 - 7 ] { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ } [ الشورى : 27 ] { وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ } [ هود : 116 ] ، { لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } [ الجن : 16 ] : { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [ سبأ : 34 ] .
والفقراء والضعفاء هم الأولياء وأتباع الأنبياء ؛ ولهذه الفوائد الجليلة كان أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل ؛ نُسبوا إلى الجنون : { إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ] ، والسحر : { قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [ الذاريات : 52 ] ، والكهانة : { فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ } [ الطور : 29 ] . واستهزئ بهم : { وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ الحجر : 11 ] . وسخر منهم : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ الأنعام : 10 ] ، { فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا } [ الأنعام : 34 ] . وقيل لنا : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين } [ البقرة : 155 ] ، { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً } [ آل عِمْرَان : 186 ] . كالذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم وتغربوا عن أوطانهم ، وكثر عناهم ، وأشتدّ بلاهم ، وتكاثر أعداهم ، فغلبوا في بعض المواطن ، وقتل منهم بأُحُد وبئر مَعُونَةَ من قتل .
وشُجّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكسرت رباعيته ، وهشمت البيضة على رأسه ، وقتل أعزاؤه ومُثِّل بهم ، فشمتت أعداؤه واغتم أولياؤه ، وابتلوا يوم الخندق ، وزلزلوا زلزالاً شديداً ، وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ، وكانوا في خوف دائم وعري لازم ، وفقر مدقع ، حتى شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع ، ولم يشبع سيد الأولين والآخرين من خبز بُرّ في يوم مرتين ، وأوذي بأنواع الأذية حتى قذفوا أحب أهله إليه .
ثم ابتلي في آخر الأمر بمسيلمة وطُلَيْحة والعَنْسي ، ولقي هو وأصحابه في جيش العسرة ما لقوه ، ومات ودرعه عند يهوديّ على آصع من شعير ، ولم تزل الأنبياء والصالحون يتعهدون بالبلاء الوقت بالوقت يبتلي الرجل على قدر دينه ، فإن كان صلباً في دينه شدد في بلائه ، ولقد كان أحدهم يوضع المنشار على مفرقه فلا يصده ذلك عن دينه . وقال عليه الصلاة والسلام : < مثل المؤمن مثل الزرع ، لا تزال الريح تميله ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء > وقال عليه الصلاة والسلام : < مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الريح ، تصرعها مرة وتعدلها مرة حتى تهيج > فحال الشدة والبلوى مقبلة بالعبد إلى الله عز وجل ، وحال العافية والنعماء صارفة للعبد عن الله تعالى : { وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } [ يونس : 12 ] ، فلأجل ذلك تقللوا في المأكل والمشارب والمناكح والمجالس والمراكب وغير ذلك ؛ ليكونوا على حالةٍ توجب لهم الرجوع إلى الله تعالى عز وجل والإقبال عليه .
السابعة عشرة : الرضا الموجب لرضوان الله تعالى ، فإن المصائب تنزل بالبَرِّ والفاجر ، فمن سخطها فله السخط وخسران الدنيا والآخرة ، ومن رضيها فله الرضا والرضا أفضل من الجنة وما فيها ؛ لقوله تعالى : { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] ، أي : من جنات عدن ومساكنها الطيبة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } [ 158 ]
قوله تعالى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } ، { الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ } : علمان لجبلين بمكة ، ومعنى كونهما من شعائر الله : من أعلام مناسكه ومتعبّداته .
قال الرازي : كل شيء جعل علماً من أعلام طاعة الله ، فهو من شعائر الله . قال الله تعالى : { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } [ الحج : 36 ] ، أي : علامة للقربة . وقال : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ } [ الحج : 32 ] ، وشعائر الحج معالم نسكه ، ومنه المشعر الحرام ، ومنه إشعار السنام - وهو أن يُعَلِّم بالمدية ، فيكون ذلك علماً على إحرام صاحبها ، وعلى أنه قد جعله هدياً لبيت الله . والشعائر : جمع شعيرة وهي العلامة ، مأخوذ من الإشعار الذي هو الإعلام ، ومنه قولك : شعرت بكذا أي : علمت انتهى .
والحجّ : في الغلة : القصد . والاعتمار : الزيارة . غُلِبَا في الشريعة على قصد البيت ، وزيارته ، على الوجهين المعروفين في النسك . والجُناح : بالضم : الإثم والتضييق والمؤاخذة . وأصل الطواف : المشي حول الشيء . والمراد : السعي بينهما .
وقد روي في سبب نزول الآية عدة روايات :
ولفظ البخاري عن عروة قال : سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها : أرأيت قول الله تعالى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } فوالله ! ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة ! قالت : بئسما قلت يا ابن أختي ! إن هذه لو كانت كما أولّتَها عليه ، كانت : لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما ، ولكنها أنزلت في الأنصار ، كانوا قبل أن يسلموا يهلّون لمناة الطاغية ، التي كانوا يعبدونها عند المشلَّل ، فكان من أهلّ يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة . فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ؟ قالوا : يا رسول الله ! إنَّا كنا نتحرّج أن نطوف بين الصفا والمروة ، فأنزل الله : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ } الآية .
قالت عائشة رضي الله عنها : وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما . فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما .
ثم أخبرتُ أبا بكر بن عبد الرحمن فقال : إن هذا لَعِلمٌ ما كنت سمعته ، ولقد سمعت رجالاً من أهل العلم يذكرون أنّ الناس - إلا من ذكرت عائشة ممن كان يهلّ بمناة - كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة ، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ، ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن قالوا : يا رسول الله ! كنا نطوف بالصفا والمروة ، وإن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا . فهل علينا من حرج أن نطَّوَّف بالصفا والمروة ؟ فأنزل الله تعالى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ } الآية .
قال أبو بكر : فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما : في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا بالجاهلية بالصفا والمروة ، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام . من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا ، حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت .
وفي رواية معمر عن الزهريّ : إن كنّا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيماً لمناة . أخرجه البخاري تعليقاً ، ووصله أحمد وغيره .
وأخرج مسلم في رواية يونس عن الزهري عن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا ، هم وغَسَّانُ ، يهلّون لمناة . فتحرّجوا أن يطوفوا بن الصفا والمروة ، وكان ذلك سنّةً في آبائهم : من أحرم لمناةَ لم يطف بين الصفا والمروة . وإنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك حين أسلموا . فأنزل الله عز وجل في ذلك : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } .
وروى الفاكهيّ عن الزهري : أن عَمْرو بن لحيَ نصب مناة على ساحل البحر مما يلي قُدَيْد ، فكانت الأزد وغسان يحجونها ويعظمونها ، إذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات وفرغوا من منى أتوا مناة فأهلوا لها . فمن أهلّ لها لم يطف بين الصفا والمروة . قال : وكانت مناة للأوس والخزرج والأزد من غسان ، ومن دان دينهم من أهل يثرب .
وروى النسائي بإسناد قوي عن زيد بن حارثة قال : كان على الصفا والمروة صنمان من نحاس يقال لهما إساف ونائلة كان المشركون إذا طافوا تمسّحوا بهما . . . الحديث .
وروى الطبراني وابن أبي حاتم في التفسير بإسناد حسن من حديث ابن عباس قال : قالت الأنصار : إن السعي بين الصفا والمروة من أمر الجاهلية . فأنزل الله عز وجل : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ } الآية .
وروى الفاكهيّ وإسماعيل القاضي في " الأحكام " بإسناد صحيح عن الشعبي قال : كان صنم بالصفا يدعى إساف ، ووثن بالمروة يدعى نائلة ، فكان أهل الجاهلية يسعون بينهما ، فلما جاء الإسلام رمى بهما ، وقالوا : إنما كان ذلك يصنعه أهل الجاهلية من أجل أوثانهم ، فأمسكوا عن السعي بينهما ، قال : فانزل الله تعالى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ } الآية .
وقد استفيد من مجموع هذه الروايات : أنه تحرّج طوائف من السعي بين الصفا والمروة لأسباب متعددة فنزلت في الكل . والله أعلم .
وجواب عائشة ، رضي الله عنها ، لعروة هو من دقيق علمها وفهمها الثاقب ، وكبير معرفتها بدقائق الألفاظ ؛ لأنّ الآية الكريمة إنما دلّ لفظها على رفع الجناح عمّن يطوف بهما ، وليس فيه دلالة على عدم وجوب السعي ولا على وجوبه .
{ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } ، أي : من فعل خيراً فإن الله يشكره عليه ويثيبه به . ومعنى : { تَطَوَّعَ } أتى بما في طوعه أو بالطاعة ، وإطلاقه على ما لا يجب عرفٌ فقهي لا لغوي . والشكر من الله تعالى المجازاة والثناء الجميل .
قال الراغب : الشكر ، كما يكون بالقول ، يكون بالفعل ، وعلى ذلك قوله تعالى : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً } [ سبأ : 13 ] ؛ قال : وليس شكر الرفيع للوضيع إلا الإفضال عليه وقبول حمدٍ منه .
تنبيهات :
الأول : تمسّك بعضهم بقوله تعالى : { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً } على أنّ السعي سنة ، وأن من تركه لا شيء عليه ، فإن كان مأخذه منها : إنّ التطوع التبرع بما لا يلزم ، فَقَدْ قدّمنا أنه عرفٌ فقهي لا لغويّ ، فلا حجّة فيه . وإن كان نفي الجناح ، فقد علمت المراد منه . وممن ذهب إلى أنه سنّة ، لا يجبر بتركه شيء ، أَنَسٌ فيما نقله ابن المنذر وعطاء ، نقله ابن حجر في " الفتح " .
وقال الرازيّ : روي عن ابن الزبير ومجاهد وعطاء ، أن من تركه فلا شيء عليه . وأما حديث : < اسعوا فإنّ الله كتب عليكم السعي > رواه أحمد وغيره ، ففي إسناده عبد الله بن المؤمل ، وفيه ضعف . ومن ثَمّ قال ابن المنذر : إن ثبت فهو حجّة في الوجوب . ذكره الحافظ ابن حجر في " الفتح " .
الثاني : صحّ أنّه صلى الله عليه وسلم طاف بين الصفا والمروة سبعاً . رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر . وأخرج مسلم وغيره من حديث أبي هريرة : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا فرغ من طوافه أتى الصفا فَعَلَا عليه حتى نظر إلى البيت ورفع يديه ، فجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو . وأخرج أيضاً من حديث جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دنا من الصفا قرأ : < إنّ الصفا والمروة من شعائر الله . أبدأ بما بدأ الله به > فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت ، فاستقبل القبلة ، فوحّد الله وكبّره قال : < لاإله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير . لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده > ثمّ دعا بين ذلك ، فقال مثلَ هذا ثلاث مرات ، ثمّ نزل إلى المروة حتى إذا نصبت قدماه في بطن الوادي ، حتى إذا صَعِدَتَا مشى حتى أتى المروة ، ففعل على المروة كما فعل على الصفا . وظاهر هذا أنه كان ماشياً .
وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : طاف النبيّ في حجة الوداع على راحلته بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ليراه الناس ، وليشرف وليسألوه ، فإن الناس غشُوه .
ولم يطف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلاَّ طوافاً واحداً .
قال ابن حزم : لا تعارض بينهما ، لأن الراكب إذا انصبّ به بعيره فقد انصبّ كلّه وانصبّت قدماه أيضاً مع سائر جسده .
وعندي - في الجمع بينهما - وجه آخر أحسن من هذا وهو : أنه سعى ماشياً أوَّلاً ، ثم أتم سعيه راكباً ، وقد جاء ذلك مصرّحاً به ؛ ففي صحيح مسلم عن أبي الطفيل قال : قلت لابن عباس : أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكباً ، أسنّة هو ؟ فإن قومك يزعمون أنه سنّة ! قال : صدقوا وكذبوا . . ! قال : قلت : ما قولك صدقوا وكذبوا . . ؟ قال : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس . يقولون : هذا محمد . . ! حتى خرج عليه العواتق من البيوت - قال - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُضْرَبُ الناس بين يديه - فلمّا كثر عليه ركب . والمشي والسعي أفضل .
وفي الصحيحين عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إنما سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت وبين الصفا والمروة ليُرِيَ المشركين قوّته . . !
وعن كريب مولى ابن عباس : أن ابن عباس قال : ليس السعي ببطن الوادي بين الصفا والمروة بسنّة ، إنما كان أهل الجاهلية يسعونها ويقولون : لا نُجِيزُ البطحاء إلاَّ شَدّاً . . ! رواه البخاري تعليقاً ، ووصله أبو نعيم في مستخرجه . قال شرّاح الصحيح : المراد بالسعي المنفي هو شدّّّة المشي والعَدْو . فهو ، رضي الله عنه ، لم ينف سنية السعي المجرد ، بل مجاوزة الوادي بقوّةٍ وعَدْوٍ شديد ، إذ أصل السعي هدية صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم .
الثالث : في البخاري عن ابن عباس في قصة هاجر أم إسماعيل : إنّ الطواف بينهما مأخوذ من طوافها وتزدادها في طلب الماء . ولفظه : وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء ، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوّى - أو قال : يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً ؟ فلم تر أحداً ، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الْإِنْسَاْن المجهود حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة ، فقامت عليها ، ونظرت هل ترى أحداً ؟ فلم تر أحداً ، ففعلت ذلك سبع مرات .
قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : < فذلك سعي الناس بينهما فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً . . . > الحديث .
قال ابن كثير : لما ترددت هاجر في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة ، تطلب الغوث من الله تعالى متذللةً ، خائفةً ، مضطرة ، فقيرة إلى الله عز وجل ، كشف تعالى كربتها ، وأنس غربتها ، وفرج شدّتها ، وأنبع لها زمزم التي طعامها طعام طعم . وشفاء سقم . فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذلّه وحاجته إلى الله في هداية قلبه ، وصلاح حاله ، وغفران ذنبه ، وأنه يلتجئ إلى الله عز وجل لتفريج ما هو به من النقائص والعيوب ، وأنْ يهديه إلى الصراط المستقيم ، وأن يثبته عليه إلى مماته ، وأن يحوله من حاله الذي هو عليه - من الذنوب والمعاصي - إلى حال الكمال والغفران والسداد والاستقامة ، كما فعل بهاجر عليها السلام .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } [ 159 ]
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } . لما تقدم أن بعض أهل الكتاب يكتمون ما يعلمون من هذا الحق ، وختم ما أتبعه له بصفتي الشكر والعلم - ترغيباً وترهيباً - بأنه يشكر من فَعَل ما شرعه له ، ويعلم من أخفاه وإن دقّ فعله وبالغ في كتمانه ، انعطف الكلام إلى تبكيت المنافقين منهم ، ولعنهم على كتمانهم ما يعلمون من الحق ؛ إذ كانت هذه كلها في الحقيقة قِصَصَهم ، والخروج إلى غيرها إنّما هو استطراد على الأسلوب الحكيم المبين ؛ لأنّ هذا الكتاب هدى ، وكان السياق مرشداً إلى أن التقدير بعد : { شَاْكِرٌ عَلِيْمٌ } : ومن أحدث شراً فإن الله عليم قدير ، فوصل به استئنافاً قوله - على وجه يعمهم وغيرهم - : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا } الآية ، بياناً لجزائهم ، فانتظمت هذه الآية في ختمها لهذا الخطاب بما مضى في أوله من قوله : { وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 42 ] ، فكانت البداية خاصة ، وكان الختم عاماً ، لكيون ما في كتاب لله أمراً منطبقاً - على نحو ما كان أمر محمد صلى الله عليه وسلم ومن تقدّمه من الرسل خلقاً - لينطبق الأمر على الخلق بدءاً وختماً انطباقاً واحداً ، فعم كلّ كاتم من الأولين والآخرين . نقله البقاعي .
واللعن : الطرد والإبعاد عن الخير ، هذا من الله تعالى ، ومن الخلق : السبّ والشتم ، والدعاء على الملعون ، ومشاقّته ، ومخالفته ، مع السخط عليه ، والبراءة منه . والمراد بقوله : { اللَّاْعِنُوْنَ } كل من يصح منه لعن ، وقد بيّنه بعد قوله تعالى : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ البقرة : 161 ] ، وقد دلت الآية على أن هذا الكتمان من الكبائر ؛ لأنه تعالى أوجب فيه اللعن ، لأنّ ما يتصل بالدين ويحتاج إليه المكلف لا يجوز أن يُكتمَ ، ومن كتَمَه فقد عظمت خطيئته ، وبلغ للَعْنِهِ من الشقاوة والخسران الغاية التي لا يدرك كنهها . . ! وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن كتمان العلم . وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : لولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدثت شيئاً أبداً : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ } [ البقرة : 159 ] الآية ، وقوله : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ } [ آل عِمْرَان : 187 ] الآية .
ثم استثنى تعالى من هؤلاء من تاب إليه فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ 160 ]
{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ } - أي : عن الكتمان - : { وَأَصْلَحُواْ } - أي : عملوا صالحاً - : { وَبَيَّنُواْ } - ما كانوا كتموه فظهرت توبتهم بالإقلاع - : { فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ } - أي : أقبل توبتهم بإفاضة المغفرة والرحمة عليهم - : { وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } .
ثم أخبر تعالى عمن كفر به واستمر به الحال إلى كفره بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } [ 161 ، 162 ]
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا } - أي : في اللعنة ، أو في النار ، على أنها أضمرت من غير ذكرٍ تفخيماً لشأنها وتهويلاً لأمرها - : { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } - إما من الإنظار بمعنى التأخير والإمهال . أي : لا يمهلون عن العذاب ولا يؤخر عنهم ساعة بل هو متواصل دائم ، أو من النظر بمعنى الرؤية أي : لا ينظر إليهم نظر رحمة كقوله : { وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [ آل عِمْرَان : 77 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } [ 163 ]
{ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } يخبر تعالى بخطابه كافة الناس عن تفرده بالإلهية ، وأنه لا شريك له ولا عديل .
قال الراغب : يجوز أن يكون قوله : { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } خطاباً عاماً ، أي : المستحق منكم العبادة هو إله واحد لا أكثر ، ويجوز أن يكون خطاباً للمؤمنين ، والمعنى : الذي تبعدونه إله واحد ، تنبيهاً أنكم لستم كالكفار الذين يعبدون أصناماً آلهة والشيطان والهوى وغير ذلك . إن قيل : ما فائدة الجمع بين : { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } وبين : { لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } وأحدهما يبنى على الآخر ؟ قيل : لما بيّن بقوله : { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } أنه المقصود بالعبادة أو المستحق لها - وكان يجوز أن يتوهم أنه يوجد إله غيره ، ولكن لا يعبد ولا يستحق العبادة - أكده بقوله : { لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } وحقّ لهذا المعنى أن يكون مؤكداً وتكرر عليه الألفاظ ؛ إذ هو مبدأ مقصود العبادة ومنتهاه . انتهى .
وقال الرازي : إنما خص سبحانه وتعالى هذا الموضع بذكر هاتين الصفتين ؛ لأن ذكر الإلهية والفردانية يفيد القهر والعلو ، فعقبهما بذكر هذه المبالغة في الرحمة ترويحاً للقلوب عن هيبة الإلهية وعزة الفردانية ، وإشعاراً بأن رحمته سبقت غضبه ، وأنه ما خلق الخلق إلا للرحمة والإحسان . انتهى .
ولما كان مقام الوحدانية لا يصح إلا بتمام العلم وكمال القدرة ، نصب تعالى الأدلة ، من العلويات والسفليات وعوارضهما والمتوسطات ، على ذلك تبصيراً للجهّال وتذكيراً للعلماء بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ 164 ]
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } - في ارتفاع الأولى ولطافتها واتساع وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها ، وفي انخفاض الثانية وكثافتها وجبالها وبحارها وقفارها ووهادها وعمرانها وما فيه من المنافع - : { وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أي : اعتقابهما وكون كل منهما خلفاً للآخر ، فيجيء أحدهما ثم يذهب ويخلفه الآخر يعقبه لا يتأخر عنه لحظة . كقوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً } [ الفرقان : 62 ] ، أو اختلاف كل منهما في أنفسهما ازدياداً وانتقاصاً كما قال : { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } [ الحج : 61 ] ، أي : يزيد من هذا في هذا ومن هذا في ذاك { وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ } أي : في تسخير البحر بحمل السفن من جانب إلى آخر لمعايش الناس والانتفاع بما عند أهل إقليمٍ لغيره .
قال الراغب : ولما لم يكن فرق بين أن يقال : { وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ } وبين أن يقال : والبحر الذي يجري فيه الفلك ، في أن القصد الأول بالآية أن يعرف منفعة البحر ، وإن أخر في اللفظ ، قدم ذكر الفلك الذي هو من صنعتنا . ولما كان سبيلنا إلى معرفتها أقرب منه إلى معرفة صنعه - قدم ذكر الفلك لينظر منها إلى آثار خلق الله تعالى { وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء } أي : المزن : { مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ } بأنواع النبات والأزهار وما عليها من الأشجار : { بَعْدَ مَوْتِهَا } باستيلاء اليبوسة عليها : { وَبَثَّ فِيْهَا } أي : نشر وفرق : { مِنْ كُلِّ دَاْبَّةٍ } من العقلاء وغيرهم : { وَتَصْرِيْفِ الرِّيَاْحِ } أي : تقليبها في مهابها : قبولاً ودبوراً وجنوباً وشمالاً ، وفي أحوالها : حارةً وباردةً وعاصفةً ولينة ، فتارة مبشرة بين يدي السحاب ، وطوراً تسوقه ، وآونةً تجمعه ، ووقتاً تفرقه ، وحيناً تصرفه .
قال الثعالبي : إذا جاءت الريح بنَفَس ضعيف ، ورَوْح فهي النسيم ، فإذا كانت شديدة فهي العاصف ، فإذا حركت الأغصان تحريكاً شديداً وقلعت الأشجار فهي الزعزَعان والزعزع ، فإذا جاءت بالحصباء فهي الحاصبة ، فإذا هبت من الأرض نحو السماء كالعمود فهي الإعصار ، ويقال لها زوبعة أيضاً ، فإذا هبت بالغبرة فهي الهَبْوة ، فإذا كانت باردة فهي الصرصر ، فإذا كان مع بردها ندى فهي البليل ، فإذا كانت حارة فهي الحَرُور والسّموم ، فإذا لم تُلقح شجراً ولم تحمل مطراً فهي العقيم ، ومما يذكر منها بلفظ الجمع : الأعاصير وهي التي تهيج بالغبار ، واللواقع التي تلقح الأشجار ، والمعصرات التي تأتي بالأمطار ، والمبشرات التي تأتي بالسحاب والغيث .
{ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ } أي : فلا يهوي إلى جهة السفل مع ثقله يحمله بخار الماء - كما تهوي بقية الأجرام العالية - حيث لم يكن لها ممسك محسوس ، ولا يعلو ، ولا ينقشع ، مع أن الطبع يقتضي أحد الثلاثة : فالكثيف يقتضي النزول ، واللطيف يقتضي العلو ، والمتوسط يقتضي الانقشاع . ذكره البقاعي .
لطيفتان :
الأولى : قال الثعالبي : أول ما ينشأ السحاب فهو النَّشْءُ ، فإذا انسحب في الهواء فهو السحاب ، فإذا تغيرت له السماء ، فهو الغمام ، فإذا أظلّ فهو لعارض ، فإذا ارتفع وحمل الماء وكثُف وأطبق فهو العماء ، فإذا عنّ فهو العَنان ، فإذا كان أبيض فهو المزن .
الثانية : قال الراغب : التسخير القهر على الفعل ، وهو أبلغ من الإكراه ، فإنه حمل الغير على الفعل بلا إرادة منه على وجه ، كحمل الرحى على الطحن ، وقوله تعالى : { لآيات } : أي : عظيمة كثيرة ، فالتنكير للتفخيم كَمّاً وكيفاً : { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي : يتفكرون فيها وينظرون إليها بعين العقول ، فيستدلون على قدرته ، سبحانه ، القاهرة ، وحكمته الباهرة ، ورحمته الواسعة المقتضية لاختصاص الألوهية به جل شأنه .
قال البقاعي : وسبب تكثير الأدلة أنّ عقول الناس متفاوته فجعل سبحانه العالَمَ - وهو الممكنات الموجودة ، وهي جملة ما سواه ، الدالّة على وجوده وفعله بالاختيار - على قسمين : قسم من شأنه أن يدرك بالحواس الظاهرة ، ويسمى في عرف أهل الشرع : الشهادة والخلق والملك ، وقسم لا يدرك بالحواس الظاهرة ويسمى : الغيب والأمر والملكوت . والأول يدركه عامة الناس ، والثاني يدركه أولو الألباب الذين عقولهم خالصة عن الوهم والوساوس . فالله تعالى - بكمال عنايته ورأفته ورحمته - جعل العالم بقسميه محتوياً على جمل وتفاصيل من وجوهٍ متعدّدة ، وطرق متكثرة ، تعجز القوى البشرية ، عن ضبطها ، يستدلّ بها على وحدانيته ، بعضها أوضح من بعض ، ليشترك الكل في المعرفة ، فيحصل لكلٍّ بقدر ما هُيِّئَ له ، اللهم إلا أن يكون ممن طُبع على قلبه ، فذلك - والعياذ بالله - هو الشقي انتهى .
قال المهايمي : وكيف ينكرون وجود الله ، وتوحيده ، ورحمانيته ، ورحيميته ، وقد دلّ عليها دلائل العلويات والسفليات وعوارضهما والمتوسطات ؟ ثم قال :
أما دلالة السماء والأرض على وجود الإله فلأنهما حادثان ؛ لأن لهما أجزاء يفتقران إليها ، فلا بدّ لها من محدث ليس بعضَ أجزائهما ، لأنه دخله التركيب الحادث ، والقديم لا يكون محلاً للحوادث ، والمحدث لا بدّ أن يكون قديماً قطعاً للتسلسل ، وعلى التوحيد ، فلأن إله السماوات لو كان غير إله الأرض لم يرتبط منافع أحدهما بالآخر ، وعلى الرحمتين لأنه عز وجل جعل في الأرض موادّ قابلة للصور المختلفة وأفاضها واحدة بعد أخرى بتحريك السماوات .
وأما دلالة اختلاف الليل والنهار على وجود الإله فلحدوثهما من حركات السماوات ، ولا بد لها من محرك ، فإن كان حادثاً فلا بدّ له من محدث ، وعلى التوحيد ، فلأن إله الليل لو كان غير إله النهار لأمكن كل واحد أن يأتي بما هو له في وقت إتيان الآخر بما هو له ، فيلزم اجتماعهما وهو محال . فإن امتنع لزم عجز أحدهما أو كليهما ، وعلى الرحمتين ، فلأن الاعتدال الذي به انتظام أمر الحيوانات إنما يكون من تعاقبهما ، إذْ دوام الليل مبرِّد للعالم في الغاية ، ودوام النهار مسخِّن له في الغاية .
وأما دلالة الفُلْك على وجود الإله ، فلأنها أثقل من الماء فحقّها الرسوب فيها ، فإمساكها فوق الماء من الله ، ودخول الهواء فيها - وإن كان من الأسباب - فلا يتم عند امتلاء الفلك بالأمتعة الكثيرة ، إذ يقلّ الهواء جداً فيضعف أثره في إمساك هذا الثقيل جداً ، فلا ينبغي أن ينسب إلاّ إلى الله تعالى من أوَّل الأمر ، وعلى التوحيد ، فلأن إله الفُلْك لو كان غير إله البحر لربما منع أحدهما الآخر من التصرف في ملكه ، وهو يفضي إلى اختلال نظام العالم لاختلاف المنافع المنوطة بالفلك ، وعلى الرحمتين فلأنه رحم المسافرين بالتجارات ، والمسافَر إليهم بالأمتعة التي يحتاجون إليها .
وأما دلالة إنزال الماء على وجود الإله ، فلأنه أثقل من الهواء ، فوجوده في مركزه لا يكون إلا من الله ، وعلى التوحيد ، فلأنّ إله الماء لو كان غير إله الهواء ، لمنع من التصرف في ملكه ، وعلى الرحمتين ، فلأنّه أحْيَى به الأرض معاشاً للحيوانات ، وبثّ به الدواب تكميلاً لمنافع الْإِنْسَاْن .
وأما دلالة تصريف الرياح على وجود الإله ، فلأنها حادثة تحدث هذه مرة وهذه أخرى ، وقد يعدم الكلّ ، فلا بد من محدث ، فإنْ كان حادثاً افتقر إلى قديم ، وعلى التوحيد ، فلأنّه لو كان لكلّ ريح إله لأمكن للكلّ أن يأتي بما له ، فيلزم اجتماع الرياح المختلفة وهو مخل بالنظام ، وعلى الرحمتين ، فلأنها تحرك الفلك والسحب وتنمي الأشجار والثمار .
وأما دلالة السحاب على وجود الإله ، فلأنه لو كان ثقيلاً لنزل ، أو كان خفيفاً لصعد ، لكنه يصعد تارةً وينزل أخرى فهو من الله تعالى ، وأما على التوحيد ، فلأن إله السحاب ، لو كان غير إله السحاب الآخر ، لأمكن لكل واحد أن يجعل سحابه في مكان سحاب الآخر ، فيلزم تداخل الأجسام أو العجز ، وعلى الرحمتين فلأن منها الأمطار .
وله وجوه آخر من الدلالات ، وفوائد غير محصوبة ، قنعنا بما ذكرنا .
قال القاضي عبد الجبار : الآية تدلّ على أمورٍ :
أحدها : لو كان الحق يدرك بالتقليد ، واتباع الآباء ، والجري على الإلف والعادة ، لما صح ذلك .
وثانيها : لو كانت المعارف ضرورية وحاصلة بالإلهام لما صحّ وصف هذه الأمور بأنها آيات ؛ لأن المعلوم بالضرورة لا يحتاج في معرفته إلى الآيات .
وثالثها : أنّ سائر الأجسام والأعراض ، وإن كانت تدلّ على الصانع ، فهو تعالى خصّ هذه الثمانية بالذكر لأنها جامعة بين كونها دلائل وبين كونها نعماً على المكلفين على أوفر حظّ ونصيب ، ومتى كانت الدلائل كذلك كانت أنجع في القلوب وأشدّ تأثيراً في الخواطر . نقله الرازي .
ثم إن الله تعالى إنما أظهر هذه الآيات الدالة على وجوده ، وتوحيده ، رحمته ، ليخصّه الخلق بالمحبة والعبادة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } [ 165 ]
{ وَ } لكن : { مِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً } أي : أمثالاً . مع أن الآيات منعت من أن يكون له ندّ واحد فضلاً عن جماعتها يسوّون بينهم وبين الله إذ : { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ } أي : يعظمونهم ويخضعون لهم كتعظيم الله والخضوع له . والأنداد هي : إما الأوثان التي اتخذوها آلهة لتقربهم إلى الله زلفى ، ورجوا منها النفع والضرّ ، وقصدوها بالمسائل ، ونذروا لها النذور وقرّبوا لها القرابين . وإمّا الرؤساء الذين يتبعونهم فيما يأتون وما يذرون ، لاسيما في الأوامر والنواهي ، ورجح هذا ؛ لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية : { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا } [ البقرة : 166 ] وذلك لا يليق إلا بمن اتخذ الرجال أنداداً ، وأمثالاً لله تعالى يلتزمون من تعظيمهم والانقياد لهم ما يلتزمه المؤمنون من الانقياد لله تعالى : { والذين آمنوا أشد حباً لله } من المشركين لأندادهم ، لأنّ أولئك اشركوا في المحبة ، والمؤمنون أخلصوها كلّها لله ، ولأنهم يعلمون أن جميع الكمالات له ومنه ، ولأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره ، بخلاف المشركين فكانوا يعبدون الصنم زماناً ثم يرفضونه إلى غيره أو يأكلونه ، كما أكلت باهلة إلهها من حيسٍ ، عام المجاعة .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في " شرح المنازل " في باب التوبة :
أما الشرك فهو نوعان : أكبر وأصغر . فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة ، وهو أن يتخذ من دون الله ندّاً يحبه كما يحب الله تعالى ، وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين ، ولذا قالوا لآلهتهم في النار : { تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 97 - 98 ] مع إقرارهم بأن الله تعالى وحده خالق كل شيء ، وربه ، ومليكه ، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تميت ولا تحيي ، وإنما كانت هذه التسوية في المحبة ، والتعظيم ، والعبادة ، كما هو حال أكثر مشركي العالم . . ! بل كلهم يحبون معبوديهم ، ويعظمونها ، ويوادونها من دون الله تعالى . . ! وكثير منهم - بل أكثرهم - يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله تعالى . . ! ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله تعالى . . ! ويغضبون بتنقص معبوديهم وآلهتهم من المشايخ أعظم ما يغضبون إذا انتقص أحدٌ رب العالمين . . ! وإذا انتقصت حرمات آلهتهم ومعبوديهم غضبوا غضب الليث أو الكلب . . ! وإذا انتهكت حرمات الله تعالى لم يغضبوا لها . بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئاً رضوا عنه ، ولم تنكر له قلوبهم . . ! قد شاهدنا نحن وغيرنا هذا منهم . . انتهى .
وقال الإمام تقي الدين أحمد بن علي المقريزيّ رحمه الله :
ومن أجلّ الشرك ، وأصله الشرك في محبة الله ، قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } [ البقرة : 165 ] الآية ، فأخبر سبحانه أن من أحب مع الله شيئاً غيره ، كما يحبه ، فقد اتخذ ندّاً من دونه ! وهذا على أصح القولين في الآية أنهم يحبونهم كما يحبون الله ، وهذا هو العدل المذكور في قوله تعالى : { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] ، والمعنى على أصح القولين : أنهم يعدلون به غيره في العبادة فيسوون بينه وبين غيره في الحب والعبادة ، وكذلك قوله المشركين في النار لأصنامهم : { تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 97 - 98 ] ، ومعلوم قطعاً أن هذه التسوية لم تكن بينهم وبين الله في كونهم خالقيهم ، فإنهم كانوا كما أخبر الله عنهم مقرّين بأن الله تعالى وحده هو رَبُّهم وخالقهم ، وأنّ الأرض ومن فيها لله وحده ، وأنه ربّ السموات وربُّ العرش العظيم ، وأنّه هو الذي بيده ملكوت كلّ شيء ، وهو يجير ولا يجار عليه . . . . وإنما كانت هذه التسوية بينهم وبين الله تعالى في المحبّة والعبادة ، فمن أحبّ غير الله تعالى ، وخافه ، ورجاه ، وذلّ له كما يحبّ الله ويخافه ويرجوه فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله تعالى . . . ! فعياذاً بالله ! من أنْ ينسلخ القلب من التوحيد والإسلام ، كانسلاخ الحيّة من قِشرها ، وهو يظن أنّه مسلم موحدٌ . . . !
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاويه :
والمتّخذ إلهه هواه ، له محبة كمحبة المشركين لآلهتهم ، ومحبّة عُبّاد العجل له ، وهذه محبّة مع الله لا محبّة لله ! وهذه محبّة أهل الشرك . . . ! والنفوس قد تدّعي محبّة الله ، وتكون في نفس الأمر محبة شرك تحب ما تهواه ، وقد أشركته في الحب مع الله ! وقد يخفى الهوى على النفس ، فإن حبك الشيء يعمي وبصمّ . . ! وهكذا الأعمال التي يظنّ الْإِنْسَاْن أنه يعملها لله وفي نفسه شرك قد خفي عليه وهو يعلمه ، إما لحبّ رياسة ، وإمّا لحبّ مال ، وإما لحبّ صورة . . . ! .
ولهذا قالوا : يا رسول الله ! الرجل يقاتل شجاعةً وحميّةً ورياءً ، فأي ذلك في سبيل الله ؟ قال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله . . . ! فلمّا صار كثير من الصوفية النسّاك المتأخّرين يدّعون المحبّة - ولم يزنوها بميزان العلم والكتاب والسُّنة - دخل فيها نوعٌ من الشرك واتّباع الأهواء ، والله تعالى قد جعل محبته موجبة لاتباع رسوله ؛ فقال : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ } [ آل عِمْرَان : 31 ] ، وهذا ، لأن الرسول هو الذي يدعو إلى ما يحبّه الله ، وليس شيء يحبّه الله إلا والرسول يدعو إليه . . . ! وليس شيءٌ يدعو إليه الرسول إلاّ والله يحبه . . . ! فصار محبوب الربّ ومَدَعُوُّ الرسول متلازمين ، بل هذا هو هذا في ذاته ، وإنْ تنوعت الصفات . . . ! انتهى .
{ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ } أي : باتخاذ الأنداد ووضعها موضع المعبود : { إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ } المعد لهم يوم القيامة : { أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً } أي : القدرة كلها لله ، على كل شيء ، من العقاب والثواب ، دون أندادهم : { وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } أي : العقاب للظالمين . وفائدة عطفها على ما قبلها : المبالغة في تهويل الخطب ، وتفظيع الأمر ؛ فإن اختصاص القوة به تعالى لا يوجب شدّة العذاب ، لجواز تركه عفواً مع القدرة عليه . وجواب لو : محذوف للإيذان بخروجه عن دائرة البيان ، إما لعدم الإحاطة بكنهه ، وإما لضيق العبارة عنه ، وإمّا لإيجاب ذكره ما لا يستطيعه المعبّر أو المستمع من الضجر والتفجّع عليه ؛ أي : لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم . ونظيره - في حذف الجواب - قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ } [ الأنعام : 27 ] وقولهم : لو رأيت فلاناً والسياط تأحذه . وقرئ : { وَلَوْ تَرَىْ } بالتاء على خطاب الرسول أو كلّ مخاطب ؛ أي : ولو ترى ذلك لرأيت أمراً عظيماً في الفظاعة والهول .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ } [ 166 ]
{ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ } بدل من : { إِذْ يَرَوْنَ } أي : تبرأ المتبوعون وهم الرؤساء الآمرون باتخاذ الأنداد وكل ما عبد من دونه تعالى : { مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ } من الأتباع ، بأن اعترفوا ببطلان ما كانوا يدعونه في الدنيا لهم ، أو يدعونهم إليه من فنون الكفر والضلال ، واعتزلوا عن مخالطتهم ، وقابلوهم باللعن . وقرئ الأول على البناء للفاعل ، والثاني على البناء للمفعول ، أي : تبرّأ الأتباع من الرؤساء : { وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ } الواو للحال ، أي : تبرّأوا في حال رؤيتهم العذاب : { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ } أي : الوصل التي كانت بينهم ، من الاتفاق على دين واحد ، ومن الأنساب ، المحابّ ، والاتباع ، والاستتباع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [ 167 ]
{ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ } حين عاينوا تبرّؤ الرؤساء منهم ، وندموا على ما فعلوا من اتباعهم لهم في الدنيا : { لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً } أي : ليت لنا رجعة إلى الدنيا : { فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ } هناك ، ومن عبادتهم ، ونعبده تعالى وحده : { كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا } اليوم . وهم كاذبون في هذا ، بل لو ردوا لعادوا لما نُهُوا عنه ، كما أخبر تعالى عنهم بذلك : { كَذَلِكَ } أي : مثل تلك الإراءة الفظيعة : { يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ } ندمات شديدة : { عَلَيْهِمْ } أي : تذهب وتضمحلّ ، كما قال تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] وقال تعالى : { مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } [ إبراهيم : 18 ] الآية ، وقال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء } [ النور : 39 ] الآية : { وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } ونظير هذه الآية قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ سبأ : 31 ، 33 ] . . . ؟ وقال تعالى : { وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 81 - 82 ] .
وقال الخليل لقومه : { وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ } [ العنكبوت : 25 ] . وقالت الملائكة : { تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } [ القصص : 63 ] ويقولون : { سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } [ سبأ : 41 ] . وقال تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 5 ، 6 ] . وقال تعالى : { وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم } [ إبراهيم : 22 ](/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ 168 ]
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً } حال أو مفعول ، وهو ما انتفى عنه حكم التحريم : { طَيِّباً } أي : مستطاباً في نفسه ، غير ضار للأبدان ولا للعقول .
وقد روى الحافظ أبو بكر بن مردويه بسنده عن ابن عباس قال : تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً } فقام سعد بن أبي وقاص فقال : يا رسول الله ! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة ! فقال : < يا سعد ! أَطِبْ مطعمك تكن مستجاب الدعوة . والذي نفس محمد بيده ! إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوماً ، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والرِّبا فالنار أولى به . . . ! > : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } وهي طرائقه ومسالكه فيما أضلّ أتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل ونحوها . . . مما زينه لهم في جاهليتهم ، كما في حديث عياض بن حمار الذي في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < يقول الله تعالى : إنّ كلّ مالٍ منحته عبادي فهو لهم حلال > . وفيه : < وإني خلقت عبادي حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرّمتْ عليهم ما أحللت لهم > . ومما يدخل في خطوات الشيطان : كلّ معصيةٍِ لله ، ومنها : النذور في المعاصي كما قاله بعض السلف في الآية .
قال الشعبيّ : نذر رجل ينحر ابنه ، فأفتاه مسروق بذبح كبش ، وقال : هذا من خطوات الشيطان !
قال أبو الضحى عن مسروق : أتى عبد الله بن مسعود بضرعٍ وملحٍ ، فجعل يأكل فاعتزل رجلٌ من القوم ، فقال ابن مسعود : ناولوا صاحبكم ، فقال لا أريده . فقال : أصائم أنت ؟ قال لا . . ! قال : فما شأنك ؟ قال حرّمت أن آكل ضرعاً أبداً . . . ! فقال ابن مسعود : هذا من خطوات الشيطان ، فاطْعَمْ وكفَّرْ عن يمينك . . ! رواه ابن أبي حاتم .
وروي أيضاً عن أبي رافع قال : غضبت يوماً على أمرأتي ، فقالت : هي يوماً يهودية ويوماً نصرانية ، وكل مملوك لها حرّ إن لم تطلق امرأتك . . ! فأتيت عبد الله بن عُمَر فقال : إنما هذه من خطوات الشيطان . . ! وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة - وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة - وأتيت عاصماً وابن عمر فقالا مثل ذلك .
وروى عبد بن حميد عن ابن عباس قال : ما كان من يمين أو نذرٍ في غضب ، فهو من خطوات الشيطان ، وكفّارته كفارة يمين ! نقله الإمام ابن كثير الدمشقيّ .
{ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } تعليل للنهي ، للتنفير عنه والتحذير منه كما قال : { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ فاطر : 6 ] . وقال تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } [ الكهف : 50 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ 169 ]
{ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء } استئناف لبيان كيفية عداوته ، وتفصيلٌ لفنون شرّه وإفساده . والسُّوء : يشكل جميع المعاصي ، سواء كانت من أعمال الجوارح ، أو أفعال القلوب . و : { وَالْفَحْشَاء } ما تجاوز الحدّ في القبح من العظائم { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي : بأن تفتروا عليه تعالى بأنه حرّم هذا وذاك بغير علمٍ . فمعنى : { مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ما لا تعلمون أن الله تعالى أمر به . قال البقاعي : ولقد أبلغ سبحانه في هذه الآية في حسن الدعاء لعباده إليه ، لطفاً بهم ورحمة لهم ، بتذكيرهم في سياق الاستدلال على وحدانيته ، بما أنعم عليهم ، بخلقه لهم أولاً ، وبجعله ملائماً لهم ثانياً وإباحته لهم ثالثاً ، وتحذيره لهم من العدو رابعاً . . . . إلى غير ذلك من دقائق الألطاف وجلائل المنن . . . ! .
قال الرازي : قوله تعالى : { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } يتناول جميع المذاهب الفاسدة ، بل يتناول مقلد الحق . . . ! لأنه - وإن كان مقلداً للحق - لكنه قال ما لا يعلمه ، فصار مستحقاً للذم لا ندراجه تحت الذم في هذه الآية . ! انتهى .
وقال الإمام ابن القيم في " أعلام الموقعين " : القول على الله بلا علم يعم القول عليه سبحانه في أسمائه ، وصفاته ، وأفعاله ، وفي دينه وشرعه . وقد جعله الله تعالى من أعظم المحرمات ، بل جعله في المرتبة العليا منها ، فقال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ] . وقال تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النحل : 116 117 ] . ! فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه ، وقولهم لما لم يحرمه : هذا حرام . ولما لم يحلّه : هذا حلال . وهذا بيانٌ منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول : هذا حلال وهذا حرام ، إلا بما علم أن الله سبحانه أحله وحرّمه .
وقال بعض السلف : ليتَّق أحدُكم أن يقول لما لا يعلم ولا ورد الوحي المبين بتحليله وتحريمه : أحله الله وحرّمه ، لمجرد التقليد أو بالتأويل .
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم ، في الحديث الصحيح ، أميره بريدة أن ينزل عدوّه إذا حاصرهم ، على حكم الله ، وقال : < فإنك لا تدري أتصيب حُكْم الله فيهم أم لا . . . . ؟ ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك . . . . . > فتأملّ ، كيف فرق بين حكم الله وحكم الأمير المجتهد ، ونهى أن يسمى حكم المجتهدين حكم الله . ومن هذا لما كتب الكاتب بين يدي أمير المؤمنين عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه حكماً حكم به فقال : هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر ، فقال : لا تقل هكذا . ولكن قل هذا ما رأى أمير المؤمنين عُمَر بن الخطاب . وقال مالك : لم يكن مِنْ أمرِ الناس ، ولا مَنْ مضى من سلفنا ، ولا أدركتُ أحداً أقتدي به ، يقول في شيء : هذا حلال وهذا حرام . وما كانوا يجترئون على ذلك . وإنما كانوا يقولون : نكره كذا ونرى هذا حسناً .
ولما نهاهم سبحانه عن متابعة العدوّ ، ذمّهم بمتابعته ، مع أنه عدوٌّ ، من غير حجة ، بل بمجرد التقليد للجهلة ، فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ 170 ]
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ } على رسوله واجتهدوا في تكليف أنفسكم الرد عن الهوى الذي نفخه فيها الشيطان : { قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا } أي : وجدنا : { عَلَيْهِ آبَاءنَا } أي : من عُبَاْدَة الأصنام والأنداد . فقال مبكّتاً لهم : { أَوَلَوْ } أي : أيتبعون آباءهم ولو : { كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً } أي : من الدين : { وَلاَ يَهْتَدُونَ } للصواب إذ جهلوه ؟
قال الحراليّ : فيه إشعار بأن عوائد الآباء منهية حتى يشهد لها شاهد أبوّة الدين ، ففيه التحذير في رتب ما بين حال الكفر إلى أدنى الفتنة التي شأن الناس أن يتبعوا فيها عوائد آبائهم .
قال الرازي : معنى الآية : إن الله تعالى أمرهم بأن يتبعوا ما أنزل الله من الدلائل الباهرة . فهم قالوا : لا نتبع ذلك وإنما نتبع آباءنا وأسلافنا . فكأنهم عارضوا الدلالة بالتقليد ، وأجاب الله تعالى عنهم بقوله : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ } إلى آخره .
ثم قال : تقرير هذا الجواب من وجوه :
أحدها : أن يقال للمقلّد : هل تعترف بأنّ شرط جوازتقليد الْإِنْسَاْن أن يعلم كونه محقاً أم لا ؟ فإن اعترفت بذلك ، لم تعلم جواز تقليده إلا بعد أن تعرف كونه محقاً ، فكيف عرفت أنه محق ؟ وإن عرفته بتقليد آخر ، لزم التسلسل ، ، عن عرفته بالعقل ، فذاك كافٍ ، فلا حاجة إلى التقليد . . . ! وإن قلتَ : ليس من شرط جواز تقليده أن يعلم كونه محقاً . . . فإذن قد جوّزت تقليده وإن كان مبطلاً . . ! فإذن أنت - على تقليدك - لا تعلم أنّك محقّ أو مبطل . . . !
وثانيها : هَبْ أنّ ذلك المتقدم كان عالماً بهذا الشيء ، إلا أنّا لو قدرنا أن ذلك المتقدم ما كان عالماً بذلك الشيء قط ، وما اختار فيه البتة مذهباً ، فأنت ماذا كنت تعمل ؟ فعلى تقدير أن لا يوجد ذلك المتقدم ولا مذهبه ، كان لا بدّ من العدول إلى النظر ، فكذا ههنا .
وثالثها : أنك إذا قلّدت من قبلك ، فذلك المتقدم كيف عرفته ؟ أعَرَفَته بتقليد أم لا بتقليد ؟ فإن عرفته بتقليد ، لزم إمّا الدور وإمّا التسلسل . وإن عرفته لا بتقليد ، بل بدليل ، فإذا أوجبت تقليد ذلك المتقدّم ، وجب أن تطلب العلم بالدليل لا بالتقليد ؛ لأنك لو طلبت بالتقليد لا بالدليل - مع أن ذلك المتقدم طلبه بالدليل لا بالتقليد - كنت مخالفاً له . فثبت أن القول بالتقليد يفضي ثبوته إلى نفيه ، فيكون باطلاً .
ثم قال الرازي عليه الرحمة : إنما ذكر تعالى هذه الآية عقيب الزجر عن اتباع خطوات الشيطان ، تنبيهاً على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان وبين متابعة التقليد ، وفيه أقوى دليل ، على وجوب النظر والاستدلال وترك التعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليل ، أوعلى ما يقوله الغير من غير دليل .
وقال الإمام الراغب : ذمّهم الله بأنهم أبطلوا ما خص الله به الْإِنْسَاْن من الفكر والروية ، وركّب فيه من المعارف ، وذلك أن الله ميزّ الْإِنْسَاْن بالفكر ليعرف به الحق من الباطل في الاعتقاد ، والصدق من الكذب في الأقوال ، والجميل من القبيح في الفعل ، ليتحرى الحقّ والصدق والجميل ، ويتجنب أضدادها ، وجعل له من نور العقل ما يستغني به . فيدله على معرفة مطلوبه . فلما حثّ الناس على تناول الحلال الطيب ، ونهاهم عن متابعة الشيطان ، بيّن حال الكفار في تركهم الرشاد ، واتباعهم الآباء والأجداد ليحذّر الاقتداء بهم ، تاركين استعمال الفكر الذي هو صورة الْإِنْسَاْن وحقيقته ، ثم قال : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً } أي : أيتبعونهم وإن كانوا جهلة ؟ تنبيهاً على أنه محال اتباع من لاعقل له ولا اهتداء .
إن قيل : ما فائدة الجمع بين قوله : { يَعْقِلُونَ } و : { يَهْتَدُونَ } وأحدهما يغني عن الآخر ؟ قيل : قد تقدم أن العاقل يقال على ضربين : أحدهما لمن يحصل له القوة التي بها يصح التكليف ، والثاني لمن يحصل العلوم المكتسبة وهو المقصود ههنا . والمهتدي قد يقال لمن اقتدى في أفعاله بالعالم وإن لم يكن مثله في العلم ، فبيّن أنهم لا يعقلون ولا يهتدون ، ووجه آخر : وهو أن يعقل ويهتدي ، وإنْ كان كثيراً ما يتلازمان ، فإنّ العقل يقال بالإضافة إلى المعرفة ، والاهتداء بالإضافة إلى العمل ، فكأنه قيل : لا علم لهم صحيح ولا مستقيم .
ثم ضرب تعالى للكافرين مثلاً فظيعاً كما قال سبحانه : { لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ } [ النحل : 60 ] . فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى
{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ 171 ]
{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ } أي : يصيح ، يقال : نعق الراعي بغنمه : صاح بها وزجرها . وقوله تعالى : { بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء } أي : بالبهائم التي لا تسمع إلاّ دعاء الناعق ونداءه - الذي هو تصويت بها ، وزجرٌ لما - ولا تفقه شيئاً آخر ، ولا تعي كما يفهم العقلاء ويعون . وقد أفهم هذا الإيجاز البليغ تمثيلين في مثل واحد . فكأن وفاء اللفظ : مثل الذين كفروا ومثل داعيهم كمثل الراعي ومثل ما يرعى من البهائم . وهو من أعلى خطاب فصحاء العرب ، ومن لا يصل فهمه إلى جمع المثلين ، يقتصر على تأويله بمثل واحد ، فيقدر في الكلام : ومثل داعي الذين كفروا . أشار لذلك الحراليّ فيما نقله البقاعي عنه .
وقال الفراء : أضاف تعالى المثل إلى الذين كفروا ، ثمّ شبههم بالراعي ولم يقل كالغنم . والمعنى والله أعلم : مثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من الصوت ، فأضاف التشبيه إلى الراعي والمعنى في المرعيّ . قال : ومثله في الكلام : فلان يخافك كخوف الأسد . المعنى كخوفه الأسد ، لأن الأسد معروف أنه المَخُوف .
وقيل : أريدَ تشبيه حال الكافر في دعائه الصنم بحال من ينعق بما لا يسمعه . والمعنى : مثل هؤلاء في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم كمثل الناعق بغنمه فلا ينتفع من نعيقه بشيء ، غير أنّه هو في دعاء ونداء . وكذلك المشرك ليس له من دعائه وعبادته إلا العناء . وقال ابن القيم في " أعلام الموقعين " : ولك أن تجعل هذا من التشبه المركّب ، أن تجعله من التشبيه المفرّق . فإن جعلته من المركّب : كان تشبيهاً للكفار في عدم فقههم وانتفاعهم بالغنم التي ينعق بها الراعي فلا تفقه من قوله شيئاً غير الصوت المجرّد الذي هو الدعاء والنداء . وإن جعلته من التشبيه المفرق : فالذين كفروا بمنزلة البهائم ، ودعاء داعيهم إلى الطريق والهدى بمنزلة الذي ينعق بها ، ودعاؤهم إلى الهدى بمنزلة النعق ، وإدراكهم مجرّد الدعاء والنداء كإدراك البهائم مجرّد صوت الناعق . والله أعلم .
قال الرازي : اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم عند الدعاء إلى اتّباع ما أنزل الله ، تركوا النظر والتدبّر ، وأخلدوا ِإلى التقليد ، وقالوا : بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا ، ضَرَبَ لهم هذا المثل تنبيهاً للسامعين لهم إنهم إنما وقعوا فيما وقعوا فيه : بسبب ترك الإصغاء ، وقلة الاهتمام بالدين ، فصيرهم من هذا الوجه بمنزلة الأنعام . . . ! ومثل هذا المثل يزيد السامع معرفة بأحوال الكفار ، ويحقّر إلى الكافر نفسه إذا سمع ذلك ، فيكون كسراً لقلبه ، وتضييقاً لصدره حيث صيّره كالبهيمة فيكون في ذلك نهاية الزجر والردع لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقة في التقليد . ثمّ زاد في تبكيتهم فقال : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } فهم بمنزلة الصم : في أنّ الذي سمعوه كأنهم لم يسمعوه ، وبمنزلة البُكْم : في أنهم لم يستجيبوا لما دُعوا إليه ، وبمنزلة العُمْيِ : من حيث إنهم أعرضوا عن الدلائل فصاروا كأنهم لم يشاهدوها . ولمّا كان طريق اكتساب العقل المكتسب هو الاستعانة بهذه القوى الثلاثة ، فلمّا أعرضوا عنها ، فقدوا العقل المكتسب . ولهذا قيل : من فقد حسّاً فقد علماً . . !(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ 172 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } أي : ما أخلصناه لكم من الشبه ، ولا تعرضوا لما فيه دنس كما أحلّه المشركون من المحرّمات ، ولا تحرموا ما أحلّوا منها من السائبة وما معها : { وَاشْكُرُواْ لِلّهِ } الذي رزقكم هذه النعم : { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ } أي : وحده : { تَعْبُدُونَ } أي : إن صَحَّ أنكم تخصونه بالعبادة ، وتقرّون أنه سبحانه هو المنعم لا غير .
قال الإمام ابن تيمية في " جواب أهل الإيمان " : الطيبات التي أباحها هي المطاعم النافعة للعقول والأخلاق ، والخبائث هي الضارة في العقول والأخلاق ، كما أن الخمر أم الخبائث لأنها تفسد العقول والأخلاق . فأباح الله الطيبات للمتّقين التي يستعينون بها على عُبَاْدَة ربهم التي خلقوا لها . وحرّم عليهم الخبائث التي تضرّهم في المقصود الذي خلقوا له ، وأمرهم مع أكلها بالشكر ، ونهاهم عن تحريمها ، فمن أكلها ولم يشكر ترك ما أمر الله به واستحق العقوبة ، ومن حرّمها كالرهبان فقد تعدّى حدود الله فاستحق العقوبة .
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < إن الله ليرضى عن العبد أنْ يأكل الأكلة فيحمده عليها ، أو يشرب الشربة فيحمده عليها > . وفي حديث آخر : < الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر > .
وقال تعالى : { لتسألن يومئذ عن النعيم } [ التكاثر : 8 ] . أي : عن شكره ؛ فإنّه لا يبيح [ في المطبوع : بييح ] شيئاً ويعاقب من فعله ، ولكن يسأله عن الواجب الذي أوجبه معه ، وعمّا حرّمه عليه ، هل فرّط بترك مأمور أو فعل محظور ؟ كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [ المائدة : 78 ] .
ولما قيد تعالى الإذن لهم بالطيب من الرزق ، افتقر الأمر إلى بيان الخبيث منه ليجتنب ، فبين صريحاً ما حرّم عليهم مما كان المشركون يستحلّونه ويحرّمون غيره وأفهم حلّ ما عداه ، وأنه كثيرٌ جداً ليزداد المخاطب شكراً ، فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 173 ]
{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ } وهي في عرف الشرع : ما مات حتف أنفه ، أو قتل على هيئة غير مشروعة ، إما في الفاعل أو في المفعول فدخل فيها : المنخنقة والموقوذة ، والمتردّية ، والنطيحة ، وما عدا عليها السبُع .
قال ابن كثير : وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر ، لقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ } [ المائدة : 96 ] ، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وحديث العنبر في الصحيح .
وفي المسند ، والموطّأ ، والسنن : قوله صلى الله عليه وسلم في البحر : < هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته > .
وروى الشافعيّ وأحمد وابن ماجة والدارقطني حديث ابن عمر : < أحلت لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان الحوت والجراد . وأما الدمان فالكبد والطحال > { وَالدَّمَ } وهو المسفوح أي : الجاري ، كما صرّح بذلك في الآية الأخرى والمفسّر قاضٍ على المبهم ، وكان بعض العرب يجعل الدم في المصارين ثم يشويها ويأكلها ويسمونه الفصد . وفي القاموس وشرحه : والفصيد دمٌ كان يوضع في الجاهلية في معىً مِنْ فصد عرق البعير ، ويشوى ، وكان أهل الجاهلية يأكلونه ويطعمونه الضيف في الأزمة .
ويحكى : أنه بات رجلان عند أعرابيَّ فالتقيا صباحاً ، فسأل أحدهما صاحبه عن القرى ، فقال : ما قريت وإنما فُصْدَ لي . فقال لم يُحْرَمْ من فُصد له - بسكون الصاد - فجرى ذلك مثلاً لمن نال بعض المقصد ، وسكّن الصاد تخفيفاً ، أي : لم يحرم القرى من فصدت له الراحلة فحظي بدمها . ويروى : من فزْد له بالزاي بدل الصاد وتعضهم يقول : من قصد له - بالقاف - أي : من أعطى قصداً أي : قليلاً . وكلام العرب بالفاء . وقال يعقوب : تأويل هذا أنَّ الرجل كان يضيف الرجل في شدّة الزمان ، فلا يكون عنده ما يقريه ، ويشحّ أن ينحر راحلته ، فيفصدها ، فإذا خرج الدم سخّنه للضيف إلى أن يجمد ويقوى فيطعمه إيّاه { وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ } ويدخل شحمه وبقية أجزائه في حكم لحمه : إما تغليباً ، أو لأنّ اللحم يشمل ذلك لغةً ، لأنه ما لَحم بين أخفى ما في الحيوان من وسط عظمه ، وما انتهى إليه ظاهره من سطح جلده ، وعرف غلبة استعماله على رطبه الأحمر ، وهو هنا على أصله في اللغة ، وإما بطريق القياس على رأيٍ ؛ لأنه إذا حرّم لحمه الذي هو المقصود بالأكل وهو أطيب ما فيه كان غيره من أجزائه أولى بالتحريم ، ولمّا حرّم ما يضرّ الجسم ويؤذي النفس ، حرّم ما يرين على القلب ، فقال : { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ } أي : ذُبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له . وأصل الإهلال : رفع الصوت أي : رفع به الصوت للصنم ونحوه ، وذلك كقول أهل الجاهلية : باسم اللات والعزّى .
وذكر القرطبيّ عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري أنه سئل عن امرأة عملت عرساً للُعَبِها ، فنحرت فيه جزوراً ، فقال : لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم . وذكر أيضاً عن عائشة رضي الله عنها : أنها سئلت عمّا يذبحه العجم لأعيادهم فيهدون منه للمسلمين فقالت : ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه ، وكلوا من أشجارهم . والقَصْدُ سَدُّ ما كان مظنّةً للشرك .
قال النووي في " شرح مسلم " : فإن قصد الذابح مع ذلك تعظيم المذبوح له ، وكان غير الله تعالى والعبادة له ، كان ذلك كفراً ، فإن كان الذابح مسلماً ، قبل ذلك ، صار بالذبح مرتداً . ذكره في الكلام على حديث علي رضي الله عنه : < لعن الله من ذبح لغير الله > .
قال الحراليّ : وذَكْرُ الإهلال إعلامٌ بأنّ ما أعلن عليه بغير اسم الله هو أشدّ المحرم ، ففي إفهامه تخفيف الخطاب عما لا يُعلم من خفي الذكر . وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : إن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن قوماً يأتوننا باللحم ، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ فقال : < سموا عليه أنتم وكلوه > . قالت : وكانوا حديثي عهد بكفر . فكأنَّ المحرّم ليس ما لم يعلم أنّ اسم الله ذكر عليه ؛ بل الذي علم أنّ اسم الله قد أعلن به عليه .
وروي عن علي رضي الله عنه قال : إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا ، وإذا لم تسمعوهم فكلوا ، فإن الله قد أحلّ ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون .
فصل
فيما لتحريم هذه المذكورات من الحكم والأسرار الباهرات
فأما الميتة : فقال الحراليّ : هي ما أدركه الموت من الحيوان عن ذبول القوّة وفناء الحياة ، وهي أشد مفسد للجسم ، لفساد تركيبها بالموت ، وذهاب تلزز أجزائها ، وعفنها ، وذهاب روح الحياة والطهارة منها .
وقال المهايميّ في " تفسيره " : ثم أشار تعالى إلى أنه إنما يقطع محبته أكل ما حرّم ، وهو الميتة وما ذكر معها . فأما الميتة فلأنها خبثت بنزع الروح منها بلا مطهر من الذبح باسم الله ، تحقيقاً أو تقديراً فتتعلّق أرواحكم بالخبيث فتخبث ، فينقطع عنها محبة الله . وإنما أبيح ميتة السمك لأن أصله الماء المطهر ، فكما لا يؤثر فيه النجاسة ، لا يؤثر نزع الروح فيما حصل منه ، والجراد لأنّه حصل من غير تولد ولا خبث في ذاته كسائر الحشرات .
وأمّا خبث الدم فلأنه جوهر مرتكس عن حال الطعام ، ولم يبلغ بعد إلى حال الأعضاء فهو ميتة .
وقال الإمام ابن تيمية : حرّم الدم المسفوح لأنه مجمع قوى النفس الشهوية الغضبية ، وزيادته توجب طغيان هذه القوى ، وهو مجرى الشيطان من البدن ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : < إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم > .
وأما خبث لحم الخنزير : فَلأَذاه للنفس ، كما حرّم ما قبله لمضرّتها في الجسم لأن من حكمة الله في خلقه : أن من اغتذى جسمه بجسمانية شيء اغتذت نفسانيته بنفسانية ذلك الشيء : < الكبر والخيلاء في الفدّادين أهل الوبر ، والسكينة في أهل الغنم > . فلما جعل في الخنزير من الأوصاف الذميمة ، حرّم على من حوفظ على نفسه من ذميم الأخلاق . نقله البقاعيّ .
وقد كُشف لأطباء هذا العصر من مضار لحم الخنزير المبنية على التجارب الحسّية غير ما قالوه القدماء . فمن مضارّه : أنه يورث الدودة الوحيدة المتسبب من وجودها في الأمعاء أعراض كثيرة : كالمغص ، والإسهال ، والقيء ، وفقد شهوة الطعام ، أو النهم الشديد ، وآلام الرأس ، والإغماء ، والدوار ، واضطراب الفكر ، وعروض نوبات صرعية ، وتشنجات عصبية ، وإصابة مرض دودة الشعر الحلزونية الذي يفوق الحمّى ، ويودي بحياة المصاب . . . . . . إلى غير ذلك من التعب وعسر الهضم ، ومضار سواها .
قال حكيم : فالإسلام لم يأت لإصلاح الروح فقط ، بل لإصلاح الروح والجسم معاً . . ! فلم يترك ضارّاً لأحدهما إلا ونّبه عليه تصريحاً أو تلويحاً . . . وقد بسط الحكماء المتأخرون الكلام على مضرات لحم الخنزير في مقالات عديدة .
وأما خبث المهلّ به لغير الله : فلأنه يرين على القلب ، لأنه تقرب به لغير موجده وخالقه تقرُّبَ عُبَاْدَة ، وذلك من صريح الإشراك والاعتماد على غيره تعالى ؛ فكان خبثه معنوياً لتأثيره على النفوس والأخلاق كتأثير المضر بالجسم والبدن ، والشرع جاء للحفظ عما يضرّ مطلقاً ، ولصيانة مقام التوحيد .
ولما كان هذا الدين يُسراً لا عُسرَ فيه ولا حَرَجَ ، رفع حكم هذا التحريم عن المضطر . فقال : { فَمَنِ اضْطُرَّ } أي : ألجاه ملجئ بأي ضرورة كانت إلى أكل شيء مما حرم بأنْ أشرف على التلف ، فأكل من شيء منه حال كونه : { غَيْرَ بَاغٍ } أي : غير طالب له راغب فيه لذاته . من بغى الشيء وابتغاه طلبه وحرص عليه { ولا عاد } أي : مجاوزٍ لسدّ الرمق وإزالة الضرورة : { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } وإن بقيت حرمته ، لأنه إذا تناوله حال الاضطرار لا يؤثر فيه الخبث لأنه كارهٌ بالطبع . وقال الراغب : واختلف إذا اضطر إلى ذلك في دواء لا يسدّ غيره مسدّه . والصحيح أنه يجوز له تناوله للعلّة المذكورة ، يعني : إبقاء روحه بجهة ما رآه أقرب إلى إبقائه ، وهي التي أجيز تناوله ما ذكر له للجوع .
{ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ } لما أكله حال الضرورة : { رَّحِيمٌ } حيث رخّص لعباده في ذلك إبقاءً عليهم .
ثم أعاد تعالى وعيد كاتمي أحكامه ، إثْر ما ذكره من الأحكام ، تحذيراً لهذه الأمة أن يسلكوا سبيل من عنوا به ، وهم أهل الكتاب ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 174 ]
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ } أي : من حدوده وأحكامه وغير ذلك مما أشارت إليه الآية الأولى بالبيّنات والهدى : { وَيَشْتَرُونَ بِهِ } أي : يأخذون بدله : { ثَمَناً قَلِيلاً } أي : مما يتمتعون به من لذات العاجلة ، وقَلَّلَهَ لحقارته في نفسه ، ففيه إشعار بدناءة نفوسهم حيث رضيت بالقليل ، أو بالنسبة لما فَوَّتوه على انفسهم من نعيم الآخرة الذي لا يُحاط بوصفه : { أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ } أي : ما يَسْتَتْبِعُ النارَ ويستلزمها ، فكأنه عينُ النار ، وأكلُهُ أكْلُهَا ، و : { فِي بُطُونِهِمْ } متعلق بـ : { يأكلون } وفائدته : تأكيد الأكل ، وتقريره ببيان مقرّ المأكول .
قال الراغب : أكل النار : تناول ما يؤدي إليها ، وذكر الأكل لكونه المقصود الأول بتحصيل المال ، وذكر : { فِي بُطُونِهِمْ } تنبيهاً على شرههم وتقبيحاً لتضييع أعظم النعم لأجل الطعم الذي هو أحسّ متناولٍ من الدنيا . . . . !
{ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } قال الراغب : لم يعن نفي الكلام رأساً ، فقد قال : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } [ الأعراف : 6 ] ، وقال : { وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ } [ الكهف : 52 ] . وإنما أراد كلاماً يقتضي جدوى ؛ ولهذا قال الحسن : معناه يغضب عليهم تنبيهاً أنهم بخلاف من قال فيهم : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ } . وقيل : حقيقة : { كلمته } حملتُه على الكلام ، نحو حركته ، لأنّ مَنْ كلمتَه فقد استدعيت كلامه ؛ فكأنه قيل : لا يستدعي كلامهم نحو قوله : { وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 36 ] .
{ وَلا يُزَكِّيهِمْ } أي : يطهرهم من دنس الذنوب لغضبه عليهم لأنهم كتموا ، وقد علموا ، فاستحقّوا الغضب : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : مؤلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } [ 175 ]
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى } أي : استبدلوا إضلال أنفسهم وغيرهم من الكتمان والتحريف بالاهتداء : { وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ } أي : أسبابه بأسبابها ، ولما جعل سبحانه أول مأكلهم ناراً ، وآخر أمرهم عذاباً ، وترجمة حالهم عدم المغفرة ، فكان بذلك أيضاً أوسط حالهم ناراً سبب عنه التعجيب من أمرهم : بحبسهم أنفسهم في ذلك الذي هو معنى الصبر ، لالتباسهم بالنار حقيقةً أو بموجباتها من غير مبالاة ، فقال : { فَمَا أَصْبَرَهُمْ } أي : ما أشد حبسهم أنفسهم ، أو ما أجراهم : { عَلَى النَّارِ } التي أكلوها في الدنيا فأحسوا بها في الأخرى نقله البقاعيّ .
ثم قال : وإذا جعلته مجازاً ، كان مثل قولك لمن عاند السلطان : ما أصبرك على السجن الطويل والقيد الثقيل ؟ تهديداً له ، تريد أنّه لا يتعرض لذلك إلا من هو شديد الصبر على العذاب .
وقد روي عن الكسائي أنه قال : قال لي قاضي اليمن بمكة : اختصم إليَّ رجلان من العرب ، فحلف أحدهما على حق صاحبه فقال له : ما أصبرك على الله ! أي : ما أصبرك على عذاب الله . نقله الزمخشري .
قال الراغب : وقد يوصف بالصبر من لا صبر له اعتباراً بالناظر إليه ، وتَصَوُّر أنّه صابر ، واستعمال لفظ التعجب في ذلك اعتباراً بالخلق لا بالخالق .
ثم ذكر تعالى السبب الموجب لهذا الإبعاد العظيم بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } [ 176 ]
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } إنما استحقوا هذا العذاب الشديد ، لأن الله تعالى أنزل الكتاب الجامع لأنواع الهدى ، وهو صالح لإرادة القرآن والتوراة ، بالحق ، أي : متلبساً به ، فلا جرم يكون من يختلف فيه ويرفضه بالتحريف والكتمان مبتلى بمثل هذا من أفانين العذاب ؛ لأنه حاول نفي ما أثبت الله ، فقد ضادَّ الله في شرعه ، عياذاً به سبحانه { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ } أي : في جنس الكتاب الإلهي ، بأن آمنوا ببعض كتب الله تعالى وكفروا ببعضها ؛ أو في التوراة ، بأن آمنوا ببعض آياتها وكفروا ببعض ، أو الاختلاف في تأويلها ، فاجترأوا لأجله على تحريفها ، أو في القرآن بأن قال بعضهم : إنّه سحرٌ ، وبعضهم إنّه شعر ، وبعضهم : أساطير الأولين .
قال الراغب : وأصل الاختلاف : التخلف عن المنهج . وقيل اختلفوا : أتوا بخلاف ما أنزل الله . وقيل : اختلفوا : بمعنى خلفوا نحو اكتسبوا ، وكسبوا ، وعملوا واعتملوا أي : صاروا خلفاء فيه ، نحو : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } [ الأعراف : 169 ] و [ مريم : 59 ] .
{ لَفِي شِقَاقٍ } أي : خلاف ومنازعة : { بَعِيدٍ } عن الحق والصواب ، مستوجب لأشدّ العذاب . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [ 177 ] : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } [ البر ] : اسم جامع للطاعات ، وأعمال الخير المقرّبة إلى الله تعالى ، ومن هذا : برّ الوالدين ، قال تعالى : { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار : 1413 ] فجعل البرّ ضدّ الفجور ، وقال : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [ المائدة : 2 ] . فجعل البر ضد الإثم ، فدلّ على أنه اسم علم لجميع ما يؤجر عليه الْإِنْسَاْن . أي : ليس الصلاح والطاعة والفعل المرضي في تزكية النفس - الذي يجب أن تذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البر - هو أمر القبلة ، ولكن البِرّ الذي يجب الاهتمام به - هو هذه الخصال التي عدّها جل شأنه .
ولا يبعد أن يكون بعض المؤمنين - عند نسخ القبلة وتحويلها - حصل منهم الاغتباط بهذه القبلة ، وحصل منهم التشدّد في شأنها حتى ظنّوا أنه الغرض الأكبر في الدين ، فبعثهم تعالى بهذا الخطاب على استيفاء جميع العبادات والطاعات . أشار لهذا الرازي .
وقال الراغب : الخطاب في هذه الآية للكفار والمنافقين الذين أنكروا تغيير القبلة . وقيل : بل لهم وللمؤمنين حيث قد يرون أنهم نالوا البرّ كلّه بالتوجه إليها .
{ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } أي : إيمان من آمن بالله الذي دعت إليه آية الوحدانية فأثبت له صفات الكمال ، ونزههُ عن سمات النقصان { وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } الذي كذب به المشركون ، فاختل نظامهم ببغي ببعضهم على بعض : { وَالْمَلائِكَةِ } أي : وآمن بهم وبأنهم عَبَّاد مكرمون متوسطون بينه تعالى وبين رسله بإلقاء الوحي وإنزال الكتب : { وَالْكِتَابِ } أي : بحبس الكتاب . فيشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء التي من أفرادها : أشرفها وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب الذي انتهى إليه كل خير واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة { وَالنَّبِيِّينَ } جميعاً من غير تفرقة بين أحد منهم ، كما فعل أهل الكتابين .
قال الحراليّ ففيه - أي : الإيمان بهم وبما قبلهم قهر النفس للإذعان لمن هو من جنسها ، والإيمان بغيب من ليس من جنسها ، ليكون في ذلك ما يزع النفس عن هواها .
{ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } أي : أخرجه وهو محبٌّ له راغبٌ فيه ، نص على ذلك ابن مسعود وسعيد بن جبير ، غيرهما من السلف والخلف ، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً : < أفضل الصدقة أن تصدّق وأنت صحيح شحيح ، تأمل الغنى وتخشى الفقر > . وقوله : { ذَوِي الْقُرْبَى } هم قرابات الرجل ، وهم أولى من أعطى من الصدقة . وقد روى الإمام أحمد ، والترمذي ، والنسائي وغيرهم عن سليمان بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن الصدقة على المسكين صدقة . وعلى ذي الرحم اثنتان : صَدَقَةٌ وصِِلَةٌ > . وفي الصحيحين من حديث زينب ، امرأة عبد الله بن مسعود ، أنها وامرأة أخرى سألتا رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما . . . . ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لهما أجران : أجر القرابة وأجر الصدقة > . وقد أمر الله تعالى بالإحسان إلى القرابة في غير موضع من كتابه العزيز .
{ وَالْيَتَامَى } وهم الذين لا كاسب لهم وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ { وَالْمَسَاكِينَ } وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم ، فيعطون ما يسد به حاجتهم وخلتهم . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه > .
{ وَابْنَ السَّبِيلِ } وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته ، فيُعطى ما يوصله إلى بلده لعجزه بالغربة ، وكذا الذي يريد سفراً في طاعة فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه . ويدخل في ذلك الضيف ، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال : ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين .
وكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبو جعفر الباقر ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، والزهري ، والربيع بن أنس ، ومقابل بن حيان . والسبيل اسم الطريق ، وجعل المسافر ابناً لها لملازمته إياها كما يقال لطير الماء : ابن الماء ، ويقال للرجل الذي أتت عليه السنون : ابن الأيام ، وللشجعان : بنو الحرب ، وللناس : بنو الزمان .
{ وَالسَّائِلِينَ } وهم الذين يتعرضون للطلب ، فيعطون من الزكوات والصدقات . كما روى الإمام أحمد عن حسين بن علي عليهما السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < للسائل حقٌ وإن جاء على فرس > . ورواه أبو داود { وَفِي الرِّقَابِ } معطوف على المفعول الأول وهو ذوي أي : وآتى المال في الرقاب ، أي : دفعه في فكَّها ، أي : لأجله وبسببه
قال الراغب : الرقاب جمع رقبة . وأصل الرقبة : العنق . ويعبرّ بها عن الجملة ، كما يعبرّ عنها بالرأس .
وقال الحراليّ : الرقاب جمع رقبة وهو ما ناله الرقّ من بني آدم . فالمراد : الرقاب المسترقّة التي يرام فكّها بالكتابة ، وفكّ الأسرى منه ، وقدّم عليهم أولئك ؛ لأنّ حاجتهم لإقامة البنية [ ؟ ؟ ؟ ] .
قيل نكتة إيراد : في ؛ هُوَ أنَّ ما يعطى لهم : مصروف في تخليص رقابهم ، فلا يملكونه كالمصارف الأخرى . والله أعلم .
لطيفة :
قال الراغب : إن قيل كيف اعتبر الترتيب المذكور في قوله تعالى : { وَآَتَى الْمَاْلَ عَلَىْ حُبِّهِ } الآية ؟ قيل : لما كان أولى من يتفقدّه الْإِنْسَاْن بمعروفه أقاربه ، كان تقديمها أولى ثمّ عقبه باليتامى لأن مواساتهم بعد الأقارب أولى ، ثمّ ذكر المساكين الذين لا مال لهم حاضراً ولا غائباً ، ثم ذكر ابن السبيل الذي قد يكون له مال غائب ، ثم ذكر السائلين الذين منهم صادق وكاذب ، ثم ذكر الرقاب الذين لهم أرباب يعولونهم ، فكلّ واحد ممن أُخّر ذكره أقل فقراً ممن قدّم ذكره . . . !
{ وَأَقَامَ الصَّلاةَ } أي : أتم أفعالها في أوقاتها بركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها على الوجه الشرعي المرضيّ { وَآتَى الزَّكَاةَ } أي : زكاة المال المفروضة ؛ على أن المراد بما مرّ من إيتاء المال ، التنفل بالصدقات والبرّ والصلة ، قدّم على الفريضة مبالغةً في الحث عليه ، أو المراد بهما المفروضة ، والأول لبيان المصارف ، والثاني لبيان وجوب الأداء ، وقد أبعد من حمل الزكاة هنا على زكاة النفس وتخليصها من الأخلاق الدنيئة الرذيلة ، كقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } وقوله : { هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى } ، ووجه العبد : أن الزكاة المقرونة بالصلاة في التنزيل لا يُراد بها إلا زكاة المال ، وأما مع الانفراد فعلى حسب المقام : { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا } عطف على من آمن ، فإنه في قوة أن يقال : ومن أوفوا بعهدهم . وإيثار صيغة الفاعل للدلالة على وجوب استمرار الوفاء .
قال الرازيّ : اعلم أن هذا العهد إما أن يكون بين العبد وبين الله ، أو بينه وبين رسول الله ، أو بينه وبين سائر الناس . فالأول : ما يلزمه بالنذور والأيمان . والثاني : فهو ما عاهد الرسول عليه عند التبعة : من القيام بالنصرة ، والمظاهرة ، وموالاة من والاه ، ومعاداة من عاداه . والثالث : قد يكون من الواجبات : مثل ما يلزمه في عقود المعاوضات من التسليم والتسلم . وكذا الشرائط التي يلتزمها في السلم والرهن ، وقد يكون من المندوبات : مثل الوفاء بالمواعيد في بذل المال ، والإخلاص في المناصرة . فالآية تتناول كلّ هذه الأقسام .
قال ابن كثير : وعكس هذه الصفة النفاق ، كما صحّ في الحديث : < آية المنافق ثلاث : إذا حدَّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان > . وفي رواية : < إذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر > : { وَالصَّابِرِينَ } نصب على الاختصاص . غيرَّ سبكه عما قبله تنبيهاً على فضيلة الصبر ومزّيته ، وهو في الحقيقة معطوف على ما قبله . قال أبو عليّ : إذا ذكرت صفات للمدح أو للذم فخولف في بعضها الإعرابَ ، فقد خولف للافتِنَان ، ويسمى ذلك قطعاً ؛ لأن تغيير المألوف يدلّ على زيادة ترغيب في استماع المذكور ، ومزيدِ اهتمامٍ بشأنه ّ ! وقد قرئ : وَالصَّاْبِرُوْنَ . كما قرئ : وَالْمُوْفِيْنَ .
قال الراغب : لما كان الصبر : من وجه مبدأ للفضائل ، ومن وجهٍ جامعاً للفضائل ؛ إذ لا فضيلةَ إلاَّ وللصبر فيها أثر بليغ . غيّر إعرابه تنبيهاً على هذا المقصد . . ! : { فِي الْبَأْسَاءِ } أي : الشدّة ، أي : عند حلولها بهم : { وَالضَّرَّاءِ } بمعنى البأساء وهي الشدة أيضاً ، كما فسرهما بها في القاموس . وقال ابن الأثير : الضرّاء : الحالة التي تضرّ وهي نقيض السرّاء ، وهما بناءان للمؤنث ولا مذكّر لهما : { وَحِينَ الْبَأْسِ } أي : وقت مجاهدة العدوّ في مواطن الحرب ، وزيادة الحين للإشعار بوقوعه أحياناً ، وسرعة انقاضائه ، ومعنى البأس في اللغة : الشدّة ، يقال : لا بأس عليك في هذا أي : لا شدّة . وعذاب بئيس شديد . وسميت الحرب بأساً لما فيها من الشدّة . والعذاب يسمى بأساً لشدته . قال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } [ غافر : 84 ] { فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا } [ الأنبياء : 12 ] { فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ } [ غافر : 29 ] . وقال ابن سيده : البأس الحرب ، ثمّ كثر حتى قيل : لا بأس عليك ، أي : لا خوف .
وقال الراغب : استوعبت هذه الجملة أنواع الضرّ . لأنّه إمّا يحتاج إلى الصبر في شيء يعوز الْإِنْسَاْن ، أو يريده فلا يناله ، وهو البأساء . أو فيما نال جسمه من ألم ، وهو الضرّاء . أو في مدافعة مؤذيه وهو اليأس .
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا } في إيمانهم ، لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال ، فلم تغيرهم الأحوال ، ولم تزلزلهم الأهوال . وفيه إشعار بأنّ من لم يفعل أفعالهم لم يصدق في دعواه الإيمان . . . ! : { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } عن الكفر وسائر الرذائل . وتكرير الإشارة لزيادة تنويهٍ بشأنهم . وتوسيط الضمير للإشارة إلى انحصار التقوى فيهم .
قال الواحديّ : هذه الواوات في الأوصاف في هذه الآية للجمع . فمنْ شرائط البرّ ، وتمام شرط البارّ ، أن تجتمع فيه هذه الأوصاف ، ومن قام به واحدٌ منها لم يستحق الوصف بالبر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 178 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } هذا شروع في بيان الحدود والحقوق التي لآدمي معين ، وهي النفوس . و : { كُتِبَ } بمعنى فرض وأوجب .
قال الراغب : الكتابة يعبر بها عن الإيجاب . وأصل ذلك : أنّ الشيء يراد ثم يقال ثم يكتب . فيعبر عن المراد الذي هو المبدأ بالكتابة التي هي المنتهى .
{ الْحُرُّ } يقتل : { بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ } من القاتلين : { مِنْ أَخِيهِ } أي : دم أخيه المقتول : { شَيْءٌ } بأن ترك وليّه القود منه ، ونزل عن طلب الدم إلى الدية . وفي ذكر الأخوة : تعطف داعٍ إلى العفو ، وإيذان بأن القتل لا يقطع أخوة الإيمان : { فَاتِّبَاعٌ } أي : فعلى العافي اتباع للقاتل : { بِالْمَعْرُوفِ } بأن يطالبه بالدية بلا عنف : { وَ } على القاتل : { أَدَاءٌ } للدية : { إِلَيْهِ } أي : العافي وهو الوارث : { بِإِحْسَانٍ } بلا مطل ولا بخس : { ذَلِكَ } أي : ما ذكر من الحكم ، وهو جواز القصاص والعفو عنه على الدية : { تَخْفِيفٌ } تسهيل : { مِّن رَّبِّكُمْ } عليكم : { وَرَحْمَةٌ } بكم ، حيث وسّع في ذلك ، ولم يحتم واحد منهما : { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } بأن قتل غير القاتل بعد ورود هذا الحكم ، أو قتل القاتل بعد العفو ، أو أخذ الدية : { فَلَهُ } باعتدائه : { عَذَابٌ أَلِيمٌ } أما في الدنيا فبالإقتصاص بما قتله بغير حق ، وأما في الآخرة فبالنار .
تنبيهات :
الأول : قال الراغب : إن قيل : على من يتوجه هذا الوجوب في قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ } ؟ أجيب : على الناس كافة . فمنهم من يلزمه استقادته - وهو الإمام - إذا طلبه الولي . ومنه من يلزمه تسليم النفس وهو القاتل . ومنهم من يلزمه المعاونة والرضا به . ومنهم من يلزمه أن لا يتعدى بل يقتص ، أو يأخذ الدية . والقصد بالآية : منع التعدي الجاهلي .
الثاني : القصاص مصدر قاصّه ، المزيد . وأصل القص : قطع الشيء على سبيل الاجتذاذ ، ومنه : قص شعره . وقص الحديث : اقتطع كلاماً حادثا ًجداً وغيره ، والقصة اسم منه . وحقيقة القصاص : أن يفعل بالقاتل والجارح مثل ما فعلا . أفاده الراغب .
الثالث : ذكر تقي الدين ابن تيمية في " السياسة الشرعية " جملة من أحكام القتل نأثرها عنه . قال رحمه الله :
القتل ثلاثة أنواع :
أحدها : العمد المحض ، وهو أن يقصد من يعلمه معصوماً بما يقتل غالباً . سواء كان يقتل بحده : كالسيف ونحوه ، أو بثقله : كالسندان وكودس القصار . أو بغير ذلك : كالتحريق ، والتغريق ، وإلقاءه [ في المطبوع : وإلقاد ] من مكان شاهق ، والخنق ، وإمساك الخصيتين حتى يخرج الروح ، وغم الوجه حتى يموت ، وسقي السموم . . . ونحو ذلك من الأفعال . فهذا إذا فعله وجب فيه القود . وهو أن يمكن أولياء المقتول من القاتل . فإن أحبوا قتلوا ، وإن أحبوا عفوا ، وإن أحبوا أخذوا الدية ؛ وليس لهم أن يقتلوا غير قاتله . قال الله تعالى : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } [ الإسراء : 33 ] . وقيل في التفسير : لا يقتل غير قاتله . وعن أبي شريح الخُزَاعِي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من أصيب بدم أو خبل - والخبل : الجرح - فهو بالخيار بين إحدى ثلاث . فإن أراد الرابعة ، فخذوا على يديه : أن يقتل ، أو يعفو ، أو يأخذ الدية . فمن فعل شيئاً من ذلك فعاد ، فإن له نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً > . فمن قتل بعد العفو وأخذ الدية فهو أعظم جرماً ممن قتل ابتداءً . حتى قال بعض العلماء : إنه يجب قتله حداً ، ولا يكون أمره إلى أولياء المقتول ، فإن الله تعالى قال : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } قال العلماء : إن أولياء المقتول تغلي قلوبهم بالغيظ ، حتى يؤثروا أن يقتلوا القاتل وأولياءه . وربما لم يرضوا بقتل القاتل ، بل يقتلون كثيراً من أصحاب القاتل كسيّد القبيلة ومقدّم الطائفة - فيكون القاتل قد اعتدى في الابتداء ، ويعتدي هؤلاء في الاستيفاء ، كما كان يفعله أهل الجاهلية ، وكما يفعله أهل الجاهلية الخارجون عن الشريعة في هذه الأوقات : من الأعراب والحاضرة وغيرهم . وقد يستعظمون قتل القاتل لكونه عظيماً ، أشرف من المقتول ، فيفضي ذلك أن أولياء المقتول يقتلون من قدروا عليه من أولياء القاتل . وربما حالف هؤلاء قوماً واستعانوا بهم ، وهؤلاء قوما ، فيفضي إلى الفتن والعداوة العظيمة . وسبب ذلك : خروجهم عن سنن العدل الذي هو القصاص في القتلى . فكتب الله علينا القصاص وهو المساواة والمعادلة في القتل . وأخبر أن فيه حياة فإنه يحقن دم غير القاتل من أولياء الرجلين . وأيضاً إذا علم من يريد القتل : أنه يقتل ، كفّ عن القتل . . . !
وقد روي عن علي بن أبي طالب وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، وهم يدٌ على من سواهم ، ويسعى بذمّتهم أدناهم . ألا لا يقتل مسلم بكافر ، ولا ذو عهد في عهده . . ! > رواه أحمد وأبو داود وغيرهما من أهل السنن . فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المسلمين تتكافأ دماؤهم - أي : تتساوى أو تتعادل - فلا يفضل عربي على عجمي ، ولا قرشي أو هاشمي على غيره من المسلمين ، ولا حر أصلي على مولى عتيق ، ولا عالم أو أمير على أمي أو مأمور . وهذا متفق عليه بين المسلمين . بخلاف ما عليه أهل الجاهلية وحكام اليهود . فإنه كان يقرب مدينة النبي صلى الله عليه وسلم صنفان من اليهود : قريظة والنضير . وكانت النضير تفضل على قريظة في الدماء . فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وفي حدّ الزاني ، فإنهم كانوا قد غيّروه من الرجم إلى التحميم ، وقالوا : إن حكم بينكم بذلك كان لكم حجّة ، وإلا أنتم فقد تركتم حكم التوراة . فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } إلى قوله : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [ المائدة : 41 - 42 ] إلى قوله . . { فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } [ المائدة : 44 - 45 ] .
فبين سبحانه أنه سوّى بين نفوسهم ، ولم يفضل منهم نفساً على أخرى ، كما كانوا يفعلونه ، إلى قوله : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } - إلى قوله - : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [ المائدة : 48 - 50 ] .
فحكم الله سبحانه وتعالى في دماء المسلمين أنها كلها سواء . خلاف ما عليه أهل الجاهلية . وأكثر سبب الأهواء الواقعة بين الناس - في البوادي والحواضر - إنما هي البغي وترك العدل . فإن إحدى الطائفتين قد يصيب بعضها دماً من الأخرى ، أو مالاً ، أو يعلو عليها بالباطل ، فلا ينصفها . ولا تقتصر الأخرى على استيفاء الحق ! فالواجب في كتاب الله الحكم بين الناس في الدماء ، والأموال ، وغيرها . . . بالقسط الذي أمر الله به ، ومحو ما كان عليه كثير من الناس من حكم الجاهلية . . . . وإذا أصلح مصلح بينهم فليصلح بالعدل ، كما قال تعالى : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّالْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الحجرات : 9 - 10 ] . وينبغي أن يطلب العفو من أولياء المقتول ، فإنه أفضل لهم كما قال تعالى : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } [ المائدة : 45 ] . قال أنس : ما رأيت نبي الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو . . ! رواه أبو داود وغيره . وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما نقصت صدقة من مال ، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً ، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله > . وهذا الذي ذكرناه من التكافؤ ، هو في المسلم الحر مع المسلم الحر ، فأما الذمي : فجمهور العلماء على أنه ليس بكفء للمسلم . كما أن المستأمن الذي يقدم من بلاد الكفار - رسولاً أو تاجراً أو نحو ذلك - ليس بكفءٍ لهم وفاقا . ومنهم من يقول : بل هو كفء له . وكذلك النزاع في قتل الحر بالعبد .
النوع الثاني : الخطأ الذي يشبه العمد : قال النبي صلى الله عليه وسلم : < ألا إن قتيل العمد الخطأ بالسوط والعصا شبه العمد فيه مائة من الإبل مغلّظة ، منها أربعون خلفةٌ في بطونها أولادها > . سماه شبه العمد ؛ لأنه قصد العدوان عليه بالخيانة ، لكنه بفعلٍ لا يقتل غالباً ، فقد تعمد العدوان ولم يتعمد ما يقتل .
الثالث : الخطأ المحض وما يجري مجراه : مثل أن يكون يرمي صيداً أو هدفاً ، فيصيب إنساناً بغير علمه ولا قصده . فهذا ليس فيه قود ، وإنما فيه الدية والكفارة . وهنا مسائل كثيرة معروفة في كتب أهل العلم وبينهم .
التنبيه الرابع : قال الراغب : إن قيل : لمَ قال فمن عفي له من أخيه شيء ولم يقل : فمن عفا له أخوه شيئاً . . . ؟ قيل : العدول إلى ذلك للطيفة ، وهي أنه لا فرق بين أن يكون صاحب الدم قد عفا أو جماعة ، فعفا أحدهم ؛ إذ القصاص يبطل ويعدل حينئذ إلى الدية . فقال : فمن عفي له من أخيه شيء ليدل على هذا المعنى ، والهاء في قوله : أخيه يجوز أن تكون للمقتول ولوليه . وجعله أخاً لولي الدم لا للنسب ولا لموالاة دينية ، ولكن للإحسان الذي أسداه في الرضا منه بالدية .
الخامس : هذه الآية مفسرة لما أبهم في آية المائدة ، وهي قوله تعالى : { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } [ المائدة : 45 ] . كما أنها مقيدة ، وتلك مطلقة ، والمطلق يحمل على المقيد . وكذا ما ورد في السنة وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ، فإنه يبين ما يراد في هذه الآية وآية المائدة . وقد رويت أحاديث من طرق متعددة بأنه لا يقتل حر بعبد . كالأحاديث والآثار القاضية بأنه يقتل الذكر بالأنثى . فالتعويل على ذلك . وبالجملة : فقوله تعالى : { الْحُرُّ بِالْحُرِّ } . . . إلخ لا يفيد الحصر البتة ، بل يفيد شرع القصاص بين المذكورين من غير أن يكون فيه دلالة على سائر الأقسام . هذا ما اعتمدوه . والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ 179 ]
وقوله تعالى : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } كلام في غاية الفصاحة والبلاغة ؛ لما فيه من الغرابة ، حيث جعل الشيء محل ضده ، فإن القصاص قتل وتفويت للحياة ، وقد جعل مكاناً وظرفاً للحياة ، وعرف القصاص ونكر الحياة ؛ ليدل على أن في هذا الجنس من الحكم - الذي هو القصاص - حياة عظيمة . وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة . وكم قتل مهلهل بأخيه ، حتى كاد يفني بكر بن وائل ! . وكان يقتل بالمقتول غير قاتله ، فتثور الفتنة ، ويقع بينهم التناحر . . ! . فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أي : حياة . . ! أو نوع من الحياة ، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل ، لأنه إذا همّ بالقتل ، فعلم أنه يقتص منه فارتدع ؛ سلم صاحبه من القتل ، وسلم هو من القود . فكان القصاص سبب حياة نفسين . . . ! . هذا ما يستفاد من " الكشاف " .
لطيفة :
اتفق علماء البيان على أن هذه الآية - في الإيجاز مع جمع المعاني - بالغة إلى أعلى الدرجات . . . ! وذلك لأن العرب عبّروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة ، كقولهم : قتل البعض إحياء للجميع ، وقول آخرين : أكثروا القتل ليقلّ القتل . وأجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم : القتل أنفى للقتل . وقد كانوا مطبقين على استجادة معنى كلمتهم واسترشاق لفظها . . . ! ومن المعلوم لكل ذي لب أن بينها وبين ما في القرآن كما بين الله وخلقه ! وأنّى لها الوصول إلى رشاقة القرآن وعذوبته .
قال في الإتقان : وقد فضلت هذه الجملة على أوجز ما كان عند العرب في هذا المعنى ، وهو قولهم : " القتل أنفى للقتل " بعشرين وجهاً أو أكثر . وقد أشار ابن الأثير إلى إنكار هذا التفضيل وقال : لا تشبيه بين كلام الخالق وكلام المخلوق . . ! وإنما العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك . . !
الأول : أنّ ما يناظره من كلامهم وهو : { الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } أقلّ حروفاً ، فإنّ حروفه عشرة ، وحروف " القتل أنفى للقتل " أربعة عشر . . !
الثاني : أن نفي القتل لا يستلزم الحياة ، والحياة ناصّة على ثبوتها التي هي الغرض المطلوب منه ! .
الثالث : أن تنكير : { حَيَاةٌ } يفيد تعظيماً ، فيدل على أن في القصاص حياة متطاولة ، كقوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } [ البقرة : 96 ] . ولا كذلك المثل ، فإن اللام فيه للجنس ، ولذا فسروا الحياة فيها بالبقاء .
الرابع : أن الآية فيه مطّردة ، بخلاف المثل ، فإنه ليس كل قتلٍ أنفى للقتل ، بل قد يكون أدعى له ، وهو القتل ظلماً ! وإنما ينفيه قتل خاص ، وهو القصاص ، ففيه حياة أبداً . .
الخامس : أن الآية خالية من تكرار لفظ القتل الواقع في المثل ، والخالي من التكرار أفضل من المشتمل عليه وإن لم يكن مخلاً بالفصاحة . . !
السادس : أن الآية مستغنية عن تقدير محذوف . بخلاف قولهم . فإن فيه حذف من التي بعد أفعل التفضيل وما بعدها . وحذف " قصاصاً " مع القتل الأول ، " وظلماً " مع القتل الثاني ، والتقدير : القتل قصاصاً أنفى ظلماً من تركه .
السابع : أن في الآية طباقاً ، لأن القصاص يشعر بضد الحياة بخلاف المثل . . .
الثامن : أن الآية اشتملت على فنٍّ بديع ، وهو جعل أحد الضدّين - الذي هو الفناء والموت - محلاً ومكاناً لضده - الذي هو الحياة . واستقرار الحياة في الموت مبالغة عظيمة . . . ذكره في " الكشاف " . وعبر عنه صاحب " الإيضاح " بأنه جعل القصاص كالمنبع للحياة والمعدن لها بإدخال " في " عليه .
التاسع : إن في المثل توالي أسباب كثيرة خفيفة - وهو السكون بعد الحركة - وذلك مستكره . فإن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكّن اللسان من النطق به وظهرت بذلك فصاحته ، بخلاف ما إذا تعقّب كل حركة سكونٌ ، فالحركات تنقطع بالسكنات . نظيره : إذا تحركت الدابة أدنى حركة ، فحبست ، ثم تحركت فحبست ، لا تطيق إطلاقها ، ولا تتمكن من حركتها على ما تختاره ، فهي كالمقيدة ! .
العاشر : أن المثل كالتناقض من حيث الظاهر ؛ لأن الشيء لا ينفي نفسه ! .
الحادي عشر : سلامة الآية من تكرير قلقلة القاف الموجب للضغط والشدة ، وبعدها عن غنة النون .
الثاني عشر : اشتمالها على حروف متلائمة ، لما فيها من الخروج من القاف إلى الصاد ؛ إذ القاف من حروف الاستعلاء ، والصاد من حروف الاستعلاء والإطباق . بخلاف الخروج من القاف إلى التاء - التي هي من حرف منخفض - فهو غير ملائم للقاف . وكذا الخروج من الصاد إلى الحاء أحسن من الخروج من اللام إلى الهمزة ، لبعد ما دون طرف اللسان وأقصى الحلق .
الثالث عشر : في النطق بالصاد والحاء والتاء حسن الصوت ، ولا كذلك تكرير القاف والتاء .
الرابع عشر : سلامتها من لفظ القتل المشعر بالوحشة ، بخلاف لفظ الحياة ، فإن الطباع أقبل له من لفظ القتل .
الخامس عشر : أن لفظ القصاص مشعر بالمساواة ، فهو منبئ عن العدل ، بخلاف مطلق القتل .
السادس عشر : الآية مبنية على الإثبات ، والمثل على النفي ، والإثبات أشرف ؛ لأنه أول ، والنفي ثانٍ عنه .
السابع عشر : أن المثل لا يكاد يفهم إلا بعد فهم أن القصاص هو الحياة ، وقوله : { فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } مفهوم من أول وهلة . . !
الثامن عشر : أن في المثل بناء أفعل التفضيل من فعل متعدّ ، والآية سالمة منه . . !
التاسع عشر : أن أفعل في الغالب يقتضي الاشتراك ، فيكون ترك القصاص نافياً للقتل ، ولكن القصاص أكثر نفياً . . ! وليس الأمر كذلك ، والآية سالمة من ذلك .
العشرون : أن الآية رادعة عن القتل والجروح معاً ، لشمول القصاص لهما . والحياة أيضاً في قصاص الأعضاء ؛ لأن قطع العضو ينقص أو ينغّص مصلحة الحياة ، وقد يسري النفس فيزيلها ، ولا كذلك المثل ! . في أول الآية : { لَكُمْ } وفيها لطيفة ، وهي : بيان العناية بالمؤمنين على الخصوص ، وأنهم المراد حياتهم لا غيرهم ، لتخصيصهم بالمعنى مع وجوده فيمن سواهم . . ! انتهى .
وقوله تعالى : { يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ } المراد به : العقلاء الذين يعرفون العواقب ويعلمون جهات الخوف . فإذا أرادوا الإقدام على قتل أعدائهم ، وعلموا أنهم يطالبون بالقود ، صار ذلك رادعاً لهم ؛ لأن العاقل لا يريد إتلاف غيره بإتلاف نفسه . فإذا خاف ذلك كان خوفه سبباً للكفّ والامتناع . . ! إلا أن هذا الخوف إنما يتولّد من الفكر الذي ذكرناه ممن له عقل يهديه إلى هذا الفكر ، فمن لا عقل له يهديه إلى هذا الفكر لا يحصل له هذا الخوف ، فلهذا السبب خص الله سبحانه بهذا الخطاب أولي الألباب ، ثم علل ذلك بقوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي : الله تعالى بالانقياد لما شرع ، فتتحامون القتل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } [ 180 ]
.
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ } أي : فرض ، كما استفاض في الشرع : { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } أي : أمارته وهو المرض المخوف : { إِن تَرَكَ خَيْراً } أي : مالاً ينبغي أن يوصي فيه . وقد أطلق في القرآن : { الْخَيْر } وأريد به المال في آيات كثيرة ، منها هذه ، ومنها قوله : { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ } [ البقرة : 273 ] ومنها : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ] . ومنها : { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] إلى غيرها . وإنما سمى المال خيراً ؛ تنبيهاً على معنى لطيف : وهو أن المال الذي يحسن الوصية به ما كان مجموعاً من وجه محمود . . ! كما أن في التسمية إشارة إلى كثرته ، كما قال بعضهم : لا يقال للمال خيرٌ حتى يكون كثيراً ، ومن مكان طيب . . ! . وقد روى ابن أبي حاتم عن هشام بن عروة عن أبيه : أن علياً رضي الله عنه دخل على رجل من قومه يعوده ، فقال له : أُوصي ؟ فقال له علي : إنما قال الله : { إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ } . إنما تركت شيئاً يسيراً فاتركه لولدك . . ! وروى الحاكم عن ابن عباس : من لم يترك ستين ديناراً لم يترك خيراً ! . وقال طاوس : لم يترك خيراً من لم يترك ثمانين ديناراً . وقال قتادة : كان يقال : ألفاً فما فوقها .
ومنه يعلم أن لا تحديد للكثرة المفهومة ، وأن مردّها للعرف لاختلاف أحوال الزمان والمكان .
ثم ذكر نائب فاعل كُتب بعد أن اشتد التشوّف إليه ، فقال : { الْوَصِيَّةُ } وتذكير الفعل الرافع لها : إما لأنه أريد بالوصية الإيصاء ، ولذلك ذكّر الضمير في قوله : { فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ } وإما للفصل بين الفعل ونائبه ، لأن الكلام لما طال ، كان الفاصل بين المؤنث والفعل كالعوض من تاء التأنيث . وقوله : { لِلْوَالِدَيْنِ } بدأ بهما لشرفهما وعظم حقهما : { وَالأقْرَبِينَ } من عداهما من جميع القرابات : { بِالْمَعْرُوفِ } وهو ما تتقبله الأنفس ولا تجد منه تكرّهاً .
وفي الصحيحين : أن سعداً قال : يا رسول الله ، إن لي مالاً ولا يرثني إلا ابنة لي : أفأوصي بثلثي مالي ؟ قال : < لا > . . قال : فبالشطر ؟ قال : < لا > . . ! قال : فالثلث ؟ قال : < الثلث ، والثلث كثير ، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس > ! . وفي صحيح البخاري أن ابن عباس قال : لو أنّ الناس غضوا من الثلث إلى الربع ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < الثلث والثلث كثير > . . ! .
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد مولى بني هاشم عن زياد بن عُتْبَةُ بن حنظلة : سمعت حنظلة بن جذيم بن حنيفة أنّ جدّه أوصى ليتيم في حجره بمائة من الإبل ، فشق ذلك على بنيه ، فارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال حنيفة : إني أوصيت ليتيم لي بمائة من الإبل كنا نسميها : المطيبة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < لا لا لا . . ! الصدقة خمس ، وإلا فعشر ، وإلا فخمس عشرة ، وإلا فعشرون ، وإلا فخمس وعشرون ، وإلا فثلاثون ، وإلا فخمس وثلاثون ، فإن كثرت فأربعون > ! وذكر الحديث بطوله .
ثم أكد تعالى الوجوب بقوله : { حَقّاً } - وكذا قوله - : { عَلَى الْمُتَّقِينَ } فهو إلهاب وتهييج وتذكير بما أمامه من القدوم على من يسأله عن النقير والقطمير .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 181 ]
.
{ فَمَن بَدَّلَهُ } أي : فمن غيّر الإيصاء عن وجهه ، إن كان موافقاً للشرع ، من الأوصياء والشهود : { بَعْدَمَا سَمِعَهُ } أي : بعد ما وصل إليه وتحقق لديه : { فَإِنَّمَا إِثْمُهُ } أي : التبديل : { عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ } لأنهم خانوا وخالفوا حكم الشرع ، فلا يلحق الموصي منه شيء ، وقد وقع أجره على الله : { إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وعيد شديد للمبدّلين .
هذا ، وما ذكرناه من أن المنهيّ عن التبديل إما الأوصياء أو الشهود ، هو المشهور . وهناك وجه آخر - أراه أقرب - وهو أن يكون المنهي عن التغيير هو الموصي ، نُهي عن تغيير الوصية عن المواضع التي بيّن تعالى الوصية إليها . وذلك لأنهم كانوا في الجاهلية يوصون للأبعدين الأجانب ، طلباً للفخر والشرف . ويتركون الأقارب في الفقر والمسكنة والضر ، فأوجب الله تعالى الوصية لهؤلاء منعاً للقوم عما اعتادوه . كذا قاله الأصم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 182 ]
.
{ فَمَنْ خَافَ } أي : توقّع وعلم ، وهذا في كلامهم شائع ، ويقولون : أخاف أن ترسل السماء ، يريدون : التوقع والظن الغالب الجاري مجرى العلم : { مِن مُّوصٍ جَنَفاً } ميلاً عن الحق ، بالخطأ في الوصية ، والتصرف فيما ليس له : { أَوْ إِثْماً } أي : ميلاً فيها عمداً : { فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ } أي : بينه وبين الموصى لهم - وهم الوالدان والأقربون - بإجرائهم على طريق الشرع .
قال ابن جرير : بأن يأمره بالعدل في وصيته ، وأن ينهاهم عن منعه فيما أذن له فيه وأبيح له : { فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } أي : بهذا التبديل ، لأن تبديله تبديل باطل إلى حق ! : { إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قال ابن جرير : أي : غفور للموصي - فيما كان حدّث به نفسه من الجنف والإثم إذا ترك أن يأثم ويجنف في وصيته - فتجاوز له عما كان حدّث به نفسه من الجور إذ لم يُمض ذلك ، { رَّحِيمٌ } بالمصلح بين الوصيّ وبين من أراد أن يحيف عليه لغيره أو يأثم فيه له . . ! .
تنبيه :
ما أفادته الآية من فرضية الوصية للوالدين والأقربين .
ذكر بعضهم : أنه كان واجباً قبل نزول آية المواريث . فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه ، وصارت المواريث المقدّرة فريضة من الله ، يأخذه أهلوها حتماً من غير وصية ، ولا تحمّل منّة الموصي . ولهذا جاء في الحديث - الذي في السنن وغيرها - عن عَمْرو بن خارجة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول : < إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث > .
ونص الإمام الشافعي على أن هذا المتن متواتر ، فقال : وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح : < لا وصية لوارث > . ويأثرونه عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهل العلم ، فكان نقل كافة عن كافة . فهو أقوى من نقل واحد .
قال الإمام مالك في " الموطأ " : السنة الثابتة عندنا التي لا اختلاف فيها : أنه لا تجوز وصية لوارث إلا أن يجيز له ذلك ورثة الميت .
وذهبت طائفة إلى أن الآية محكمة لا تخالف آية المواريث . والمعنى : كتب عليكم ما أوصاكم به من توريث الوالدين والأقربين من قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } أو كتب على المحتضر : أن يوصي للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى به الله لهم عليهم ، وأن لا ينقص من أنصبائهم ! فلا منافاة بين ثبوت الميراث للأقرباء ، مع ثبوت الوصية بالميراث عطية من الله تعالى ، والوصية عطيّة ممن حضره الموت . فالوارث جمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين . ولو فرض المنافاة ، لأمكن جعل آية الميراث مخصصة لهذه الآية . بإبقاء القريب الذي لا يكون وارثاً لأجل صلة الرحم . فقد أكد تعالى الإحسان إلى الأرحام وذوي القربى في غير ما آية ، فتكون الوصية للأقارب الذين لا يرثون عصبة ، أو ذوي رحم مفروضة . . ! قالوا : ونسخ وجوبها للوالدين والأقربين الوارثين لا يستلزم نسخ وجوبها في غيرهم . . ! .
ومما استدل به على وجوب الوصية من السنة : خبر الصحيحين عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده > . قال ابن عمر : ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي . . ! . والآيات والأحاديث - بالأمر ببرّ الأقارب والإحسان إليهم - كثيرة جداً . .
ظهر لي في آية : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } الخ - وكان درسنا صباحاً من البخاري في كتاب " الوصايا " - أن هذه الآية ليست منسوخة - كما قيل - بل هي محكمة بطريقة لا أدري هل أحد سبقني بها أم لا ؟ فإني في تفسيري المسمى بمحاسن التأويل نقلت هناك مذاهب العلماء ، ولا يحضرني الآن أن ما سأذكره مأثور أم لا ؟ وهو أن هذه الآية مع آية : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } ، متلاقيتان في المعنى ، من حيث إن المراد بالوصية : وصية الله في إيتاء ذوي الحقوق حقوقهم ، وعدم الغض منها ، والحذر من تبديلها ، لما يلحق المبدّل من الوعيد الشديد . . ! وخلاصة المعنى على ما ظهر :
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ } أي : فرض عليكم فرضاً مؤكداً بمثابة المكتوب الذي لا يمحى ولا يعتوره تغيير : { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } أي : قرب نزوله به ، بأن قرب مفارقته الحياة : { إِن تَرَكَ خَيْراً } أي : مالاً يورث : { الْوَصِيَّةُ } أي : المعهودة ، وهي وصية الله سبحانه وتعالى في إيتاء كل ذي حق حقه ، على ما بينته تلك الآية : { لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ } أي : في إبلاغهم فرضهم المبين في آية : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } فإنه أجمع آية : { حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } تأكيدٌ للكتابة بأنها أمر ثابت لا يسوغ التسامح فيه بوجه ما : { فَمَن بَدَّلَهُ } أي : هذا المكتوب الحق : { بَعْدَ مَا سَمِعَهُ } أي : فعلم الحق المفروض فيه : { فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : فلا يخفى عليه شيء من حال الممتثل والمبدّل . وقوله تعالى : { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً } أي : ميلاً عما فرضه تعالى : { أَوْ إِثْماً } أي : بقطع من يستحق عن حقه ، لما لا تخلو عنه كثير من الأنفس التي لم يدركها نور التهذيب : { فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ } أي : بأمر رضي به الكل : { فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } أي : لأن الصلح جائز ، إلا صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً ، والله أعلم . المنقول من الدفتر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ 183 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ } - فرض - : { عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس .
واعلم أن مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة ، والفطر المستقيمة شرعه الله لعباده رحمة لهم ، وإحساناً إليهم ، وحميّة ، وجنّة . . ! فإن المقصود من الصيام : حبس النفس عن الشهوات ، وفطمها عن المألوفات ، وتعديل قوتها الشهوانية ، لتسعد بطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها ، وقبول ما تزكوا به مما فيه حياتها الأبدية . . ! . ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها ، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين... وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب ، وحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها ، ويسكن كل عضو منها وكل قوة عن جماحها ، وتلجم بلجامه ، فهو لجام المتقين ، وجنة المجاهدين ، ورياضة الأبرار والمقربين... وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال ، فإن الصائم لا يفعل شيئاً ، إنما ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده ، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها ؛ إيثاراً لمحبة الله ومرضاته ، وهو سرّ بين العبد وربّه ، ولا يطلع عليه سواه . . .
والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة . وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده ، فهو أمر لا يطلع عليه بشر . وذلك حقيقة الصوم . . ! وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة ، والقوى الباطنة . وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة ، التي إذا استولت عليها أفسدتها . واستفراغ المواد الردية المانعة له من صحتها ، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها . ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات . فهو من أكبر العون على التقوى ، كما قال تعالى في تتمة الآية : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وقال النبي صلى الله عليه وسلم : < الصوم جنة > . وأمر من اشتدت عليه شهوة النكاح ولا قدرة له عليه بالصيام ، وجعله وجاء هذه الشهوة . وكان هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أكمل الهدى ، وأعظم تحصيلاً للمقصود ، وأسهله على النفوس . ولما كان فطم النفس عن مألوفاتها وشهواتها من أشق الأمور وأصعبها ، تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة ؛ لما توطنت النفوس على التوحيد والصلاة ، وألفت أوامر القرآن ، فنقلت إليه بالتدريج . وكان فرضه السنة الثانية من الهجرة . فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صام تسعة رمضانات . وفرض أولاً على وجه التخيير بينه وبين أن يطعم عن كل يوم مسكيناً . ثم نقل من ذلك التخيير إلى تحتم الصوم ، وجعل الإطعام للشيخ الكبير والمرأة - إذا لم يطيقا الصيام - فإنهما يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكيناً - كما سيأتي بيانه - وكان للصوم رتب ثلاث :
أحدها : إيجابه بوصف التخيير .
والثانية : تحتمه ، لكن كان الصائم إذا نام قبل أن يطعم حرم عليه الطعام والشراب إلى الليلة القابلة ، فنسخ ذلك بالرتبة الثالثة ، وهي التي استقر عليها الشرع إلى يوم القيامة . . ! كما أفاده ابن القيم في زاد المعاد .
وقوله تعالى : { كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } تأكيد للحكم ، وترغيب فيه ، وتطييب لأنفس المخاطبين به ، فإن الشاق إذا عمّ سهل عمله . والمماثلة إنما هي في أصل الوجوب لا في الوقت والمقدار ، وفيه دليل على أن الصوم عبادة قديمة .
وفي التوراة ، سفر عَزْرا ، الأصحاح الثاني ، ص 750 :
( 21 ) وناديت هناك بصوم على نهر أهوا ، لكي نتذلل أمام إلهنا لنطلب منه طريقاً مستقيمة لنا ولأطفالنا ولكل مالنا .
وفي سفر إشعياء ، الأصحاح الثامن والخمسون ص 1062 :
( 3 ) يقولون : لماذا صمنا ولم ننظر . ذلّلنا أنفسنا ولم نلاحظ . ها إنكم في يوم صومكم توجدون مسرّة وبكل أشغالكم تُسخَّرون .
( 4 ) ها إنكم للخصومة والنزاع تصومون ولتضربوا بلكمةٍ الشر . لستم تصومون ، كما اليوم ، لتسميع صوتكم في العلاء .
( 5 ) أمثل هذا يكون صوم أختاره ، يوماً يذلل الإِنْسَاْن فيه نفسه ، يحنى كالأسلة رأسه ، ويفرش تحته مسحاً ورماداً . هل تسمي هذا صوماً ويوماً مقبولاً للرب ؟ . . . إلخ .
وفي سفر يوئيل ، الأصحاح الأول ، ص 1299 :
( 14 ) قدّسوا صوماً .
وفي الأصحاح الثاني ، ص 1300 :
( 12 ) ولكن الآن يقول الرب : ارجعوا إليّ بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنوح .
( 13 ) ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم ، وارجعوا إلى الرب إلهكم ؛ لأنه رؤوف رحيم بطيء الغضب وكثير الرأفة . . .
( 15 ) . . قدسوا صوماً نادوا باعتكاف .
( 16 ) اجمعوا الشعب قدسوا الجماعة .
وفي سفر زكرياء ، الأصحاح الثامن ص 1347 :
( 19 ) هكذا قال رب الجنود : إن صوم الشهر الرابع وصوم الخامس وصوم السابع وصوم العاشر يكون لبيت يهوذا ابتهاجاً وفرحاً وأعياداً طيبة . فأحبوا الحق والسلام .
وفي إنجيل متى ، الأصحاح السادس ص 11 :
( 17 ) وأما أنت فمتى صمت فادهُن رأسك واغسل وجهك .
( 18 ) لكي لا تظهر للناس صائماً ، بل لأبيك الذي في الخفاء . فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية .
الأصحاح السابع عشر ص 32 :
لما رأى عيسى عليه الصلاة والسلام فتىً وأخرج منه الشيطان قال لأصحابه :
( 21 ) وأما هذا الجنس فلا يخرج إلا بالصلاة والصوم .
وفي الأصحاح الرابع ص 6 :
( 2 ) فبعد ما صام أربعين نهاراً وأربعين ليلة جاع أخيراً أي : المسيح عليه السلام .
وفي رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس ، الأصحاح السادس ص 295 :
( 4 ) بل في كل شيء نظهر أنفسنا كخدّام الله في صبر كثير ، في شدائد ، في ضرورات ، في ضيقات .
( 5 ) في ضربات ، في سجون ، في اضطرابات ، في أتعاب ، في أسهار ، في أصوام .
وفي الأصحاح الحادي عشر ص 301 :
( 27 ) في تعب وكدّ ، في أسهار مراراً كثيرة ، في جوع وعطش ، في أصوام مراراً كثيرة ، في برد وعري .
هذا ، ومتى أطلق الصوم في كل شريعة ، فلا يقصد به إلا الامتناع عن الأكل كل النهار إلى المساء ، لا مجرد إبدال طعام بطعام .
وقوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي : تجعلون بينكم وبين سخطه تعالى وقاية بالمسارعة إليه ، والمواظبة عليه ، رجاء لرضاه تعالى ؛ فإن الصوم يكسر الشهوة ، فيقمع الهوى ، فيردع عن مواقعة السوء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ 184 ]
.
{ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } نصب على الظرف ، أي : كتب عليكم الصيام في أيام معدودات ، وهي أيام شهر رمضان ، كما بينها تعالى فيما بعد ، بقوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ } { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً } أي : مرضاً يضرّه الصوم ، أو يعسر معه .
والمرض : السقم ، وهو نقيض الصحة واضطراب الطبيعة بعد صفائها واعتدالها : { أَوْ عَلَى سَفَرٍ } أي : فافطر : { فَعِدَّةٌ } أي : فعليه صوم عدة أيام المرض والسفر : { مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } غير المعدودات المذكورة . وإنما رخص الفطر في حال المرض والسفر لما في ذلك من المشقة . وقد سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في أعظم الغزوات وأجلها : في غزوة بدر ، وغزة والفتح . قال عُمَر بن الخطاب : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان غزوتين : يوم بدر والفتح ، فأفطرنا فيهما .
تنبيهات :
الأول : ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صام في السفر وأفطر ، كما خيّر بعض الصحابة بين ا لصوم والفطر . ففي الصحيحين عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حارّ ، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر ، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة . وقوله : في بعض أسفاره : وقع في إحدى روايتي مسلم ، بدله في شهر رمضان . وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال : سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم . وفي رواية : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فلما غابت الشمس قال لرجل : < انزل فاجدح لنا . . ! > فقال : يا رسول الله ! لو أمسيت . قال : < انزل فاجدح لنا > . قال : < إن عليك نهاراً > . فنزل ، فجدح له ، فشرب ، ثم قال : < إذا رأيتم الليل قد أقبل من ههنا - وأشار بيده نحو المشرق - فقد أفطر الصائم > رواه الشيخان . واللفظ لمسلم .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصام حتى بلغ عسفان ، ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه الناس ، فأفطر حتى قدم مكة ، وذلك في رمضان .
فكان ابن عباس يقول : قد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر ، فمن شاء صام ، ومن شاء أفطر . رواه الشيخان . واللفظ للبخاري .
وعن قزعة قال : أتيت أبا سعيد الخدري فسألته عن الصوم في السفر ، فقال : سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام ، قال : فنزلنا منزلاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إنكم قد دنوتم من عدوكم ، والفطر أقوى لكم > . فكانت رخصة ، فمنا من صام ومنا من أفطر .
ثم نزلنا منزلاً آخر فقال : < إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا > . وكانت عزمة فأفطرنا . ثم قال لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر ، رواه مسلم . وعن عائشة : أن حمزة بن عَمْرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أأصوم في السفر ؟ - وكان كثير الصيام - فقال : < إن شئت فصم وإن شئت فأفطر > . رواه البخاري .
ورواه مسلم من طريق آخر ، أنه قال : يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < هي رخصة من الله ، فمن أخذ بها فحسن ، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه > .
وعن أنس بن مالك قال : كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم . رواه الشيخان .
الثاني : لا يخفى أن جواز الصوم للمسافر إذا أطاقه بلا ضرر . وأما إذا شق عليه الصوم فلا ريب في كراهته ، لما في الصحيحين : عن جابر رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فرأى زحاماً ، ورجل قد ظلل عليه ، فقال : < ما هذا ؟ > فقالوا : صائم ، فقال : < ليس من البر الصوم في السفر > . فلا ينافي هذا ما تقدم ، كما لا يرد أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، لأن السياق والقرائن تدل على تخصيصه بمن شق عليه الصوم . وما تقدم في غيره .
قال ابن دقيق العيد : وينبغي أن يتنبه للفرق بين دلالة السبب والسياق والقرائن على تخصيص العام ، وعلى مراد المتكلم ؛ وبين مجرد العام على سبب . فإن بين المقامين فرقاً واضحاً . ومن أجراهما مجرىً واحداً لم يصب . فإن مجرد ورود العام على سبب لا يقتضي التخصيص به ، كنزول آية السرقة في قصة رداء صفوان . وأما السياق والقرائن الدالة على مراد المتكلم فهي المرشدة إلى بيان المجملات ، كما في هذا الحديث . انتهى . وهو استنباط جيد . وبالجملة : فالمريض والمسافر يباح لهما الفطر . فإن صاما ، صح ، فإن تضررا ، كره . . ! .
الثالث : لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تقدير المسافة التي يفطر فيه الصائم بحدّ ، ولا صح عنه في ذلك شيء . وقد أفطر دِحْية بن خليفة الكلبي في سفر ثلاثة أميال ، وقال لمن صام : قد رغبوا عن هدي محمد صلى الله عليه وسلم . . ! . وكان الصحابة حين ينشئون السفر يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت ، ويخبرون أن ذلك سنته وهديه صلى الله عليه وسلم . كما قال عبيد بن جبر : ركبت مع أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفينة من الفسطاط في رمضان ، فلم نجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة . قال : اقترب ، قلت : ألست ترى البيوت ؟ قال أبو بصرة : أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ رواه أبو داود وأحمد . ولفظ أحمد : ركبت مع أبي بصرة من الفسطاط إلى الإسكندرية في سفينة ، فلما دفعنا من مرسانا أمر بسفرته فقربت ، ثم دعاني إلى الغداء . وذلك في رمضان, فقلت : يا أبا بصرة ! والله ما تغيبت عنا منازلنا بعد ؟ ! فقال : أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقلت : لا ! قال : فلم نزل مفطرين حتى بلغنا ماحوزنا , قيل : أي : موضعهم الذي أرادوه .
وقال محمد بن كعب : أتيت أنس بن مالك في رمضان - وهو يريد السفر - وقد رُحلت راحلته ، وقد لبس ثياب السفر ، فدعا بطعام فأكل . فقلت له : سنة ؟ قال : سنة . ثم ركب . قال الترمذي : حديث حسن . وقال الدارقطني فيه : فأكل وقد تقارب غروب الشمس . . ! . وهذه الآثار صريحة في أن من أنشأ السفر في أثناء يوم من رمضان فله الفطر فيه . قاله في " زاد المعاد " .
{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي : الصوم ، إن أفطروا : { فِدْيَةٌ } أي : إعطاء فدية وهي : { طَعَامُ مِسْكِينٍ } و " الفدية " : ما يقي الإِنْسَاْن به نفسه من مال يبذله في عبادة يقصر فيها ، و " الطعام " : ما يؤكل وما به قوام البدن : { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً } بأن أطعم أكثر من مسكين : { فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ } لأنه فعل ما يدل على مزيد حبه لربه : { وَأَن تَصُومُواْ } أيها المطيقون : { خَيْرٌ لَّكُمْ } من الفدية وإن زادت : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : فضيلة الصوم وفوائده ، أو إن كنتم من أهل العلم .
وقد ذهب الأكثرون إلى أن هذه الآية منسوخة بما بعدها . فإنه كان في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعودوه ، فاشتد عليهم ، فرخص لهم في الإفطار والفدية ، كما روى مسلم عن سلمة بن الأكوع قال : لما نزلت هذه الآية : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كان من أراد أن يفطر ويفتدي ، حتى نزلت الآية بعدها فنسختها . وأسند من طريق آخر عن سلمة أيضاً قال : كنا في رمضان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء صام ، ومن شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين ، حتى أنزلت هذه الآية : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } . وفي البخاري . قال ابن عمر وسلمة بن الأكوع : نسختها : { شَهْرُ رَمَضَانَ } الآية . ثم روي عن ابن أبي ليلى : حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : نزل رمضان فشق عليهم ، فكان من أطعم كل يوم مسكيناً ترك الصوم ممن يطيقه ، ورخص لهم في ذلك ، فنسخت وأمروا بالصوم . ثم أسند أيضاً عن ابن عمر أنه قال : هي منسوخة .
هذا ، وقد روى البخاري في " التفسير " : عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقول في هذه الآية : ليست بمنسوخة ، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما ، فليطعمان مكان كل يوم مسكيناً .
هذا ، وقد ذكر البخاري في " التفسير " : أن أنس بن مالك أطعم - بعد ما كبر - عاماً أو عامين ، كل يوم مسكيناً ، خبزاً ولحماً ، وأفطر . رواه تعليقاً ، ووصله أبو يعلى الموصلي في " مسنده " ورواه عبد بن حميد في " مسنده " من حديث ستة من أصحاب أنس عن أنس ، بمعناه وروى محمد بن هشام في فوائده عن حميد قال : ضعف أنس عن الصوم عام توفى ، فسألت ابنه عُمَر بن أنس : أطاق الصوم ؟ قال : لا . . ! فلما عرف أنه لا يطيق القضاء أمر بجفانٍ من خبز ولحم فأطعم العدة أو أكثر . . . ! .
ولما أبهم الأمر في الأيام عينت هنا بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ 185 ]
.
{ شَهْرُ رَمَضَانَ } لأن ذلك أفخم وآكد من تعيينه من أول الأمر .
وقال الراغب : جعل معالم فرضه على الأهلة ليبادر الإِنْسَاْن به في كل وقتٍ من أوقات السنة ، كما يدور الشهر فيه من الصيف والشتاء والربيعين .
وفي رفع : { شَهْرُ } وجهان :
أحدهما : أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هي شهر ، يعني الأيام المعدودات . فعلى هذا يكون قوله : { الَّذِيَ أُنزِلَ } نعتاً للشهر أو لرمضان .
والثاني : هو مبتدأ .
ثم في الخبر وجهان :
أحدهما : { الَّذِيَ أُنزِلَ } .
والثاني : إنّ : { الَّذِيَ أُنزِلَ } صفة ، والخبر هو الجملة التي هي قوله : { فَمَن شَهِدَ } .
فإن قيل : لو كان خبراً لم يكن فيه الفاء لأن شهر رمضان لا يشبه الشرط ؟ ! .
قيل : الفاء - على قول الأخفش - زائدة . وعلى قول غيره : ليست زائدة ، وإنما دخلت لأنك وصفت الشهر بـ : { الَّذِيَ } ، فدخلت الفاء كما تدخل في خبر نفس الذي . ومثله : { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ } [ الجمعة : 8 ] . فإن قيل : فأين الضمير العائد على المبتدأ من الجملة ؟ قيل : وضع الظاهر موضعه تفخيماً ، أي : فمن شهده منكم . كذا في العكبري .
{ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } أي : ابتدأ فيه إنزاله ، وكان ذلك في ليلة القدر .
قال الرازي : لأن مبادي الملل والدول هي التي يؤرخ بها ، لكونها أشرف الأوقات ، ولأنها أيضاً أوقات مضبوطة معلومة .
وقال سفيان بن عيينة : معناه : أنزل في فضله القرآن . وهذا اختيار الحسين بن الفضل . قال : ومثله أن يقال : أنزل الله في الصديق كذا آية ، يريدون : في فضله .
وقال ابن الأنباري : أنزل - في إيجاب صومه على الخلق - القرآن ، كما يقال : أنزل الله في الزكاة كذا وكذا ، يريد في إيجابها ، وأنزل في الخمر كذا يريد في تحريمها . والله أعلم .
قال الحرالي : أشعرت الآية أن في الصوم حسن تلقٍّ لمعناه ، ويسراً لتلاوته ، ولذلك جمع فيه بين صوم النهار وتهجد الليل ، وهو صيغة مبالغة من القرء وهو ما جمع من الكتب والصحف والألواح . انتهى .
وفي مدحه - بإنزاله فيه - مدح للقرآن به ، من حيث أشعر أن من أعظم المقاصد بمشروعيته تصفية الفكر لأجل فهم القرآن ، ليوقف على حقيقة ما اتبع هذا به من أوصافه التي قررت ما افتتحت به السورة ، من أنه لا ريب فيه ، وأنه هدى على وجه أعم من ذلك الأول . فقال تعالى : { هُدًى لِّلنَّاسِ } نصب على الحال { وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } عطف على الحال قبله . فهي حال أيضاً . والظرف صفة . أي : أنزل حال كونه هداية للناس ، وآيات واضحة مرشدة إلى الحق ، فارقة بينه وبين الباطل . ولدفع سؤال التكرار في قوله : { وَبَيِّنَاتٍ } إلخ بعد قوله : { هُدًى لِّلنَّاسِ } حمل بعض المفسرين : { الْهُدَى } الأول بواسطة النكرة على الهدى الذي لا يقدر قدره المختص بالقرآن ، أعنى هدايته بإعجازه . والثاني على الهدى الحاصل باشتماله على الواضحات من أمر الدين ، والفرقان بين الحلال والحرام والأحكام والحدود والخروج من الشبهات .
وثمَّة وجه آخر نقله الرازي : وهو أن : { الْهُدَى } الثاني المراد به التوراة والإنجيل ، قال تعالى : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ } [ آل عِمْرَان : 3 - 4 ] . فبين تعالى أن القرآن - مع كونه هدى في نفسه - ففيه أيضاً هدى من الكتب المتقدمة التي هي هدى وفرقان ، والله أعلم .
{ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } هذا إيجاب حتمٌ على من شهد استهلال الشهر - أي : حضر فيه بأن كان مقيماً في البلد حين دخل شهر رمضان ، وهو صحيح في بدنه - أن يصوم لا محالة . ووضع الظاهر موضع الضمير للتعظيم والمبالغة في البيان . ثم أعيد ذكر الرخصة بقوله تعالى : { وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } لئلا يتوهم من تعظيم أمر الصوم في نفسه وأنه خير ، أن الصوم حتم لا تتناوله الرخصة بوجه ، أو تتناوله ولكنها مفضولة . وفيه عناية بأمر الرخصة ، وأنها محبوبة له تعالى كما ورد . وفي إطلاقه ، إشعار بصحة وقوع القضاء متتابعاً وغير متتابع : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ } أي : تشريع السهولة بالترخيص للمريض والمسافر ، وبقصر الصوم على شهر : { وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } في جعله عزيمة على الكل وزيادته على شهر .
قال الحرالي : اليسر : عمل لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم . والعسر : ما يجهد النفس ويضر الجسم .
قال الشعبي : إذا اختلف عليك أمران ، فإن أيسرهما أقربهما إلى الحق ، لهذه الآية .
وروى الإمام أحمد مرفوعاً : < إن خير دينكم أيسره ، إن خير دينكم أيسره > .
وروى أيضاً : < إن دين الله في يسر . ثلاثاً > .
وفي الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه قال لمعاذ وأبي موسى ، حين بعثهما إلى اليمن : < يسرا ولا تعسرا ، وبشرا ولا تنفرا ، وتطاوعا ولا تختلفا > .
وفي السنن والمسانيد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < بعثت بالحنيفية السمحة > .
أي التي لا إصر فيها ولا حرج كما قال تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] .
{ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } علل لفعل محذوف مدلول عليه بما سبق تقديره . ولهذه الأمور شرع ذلك . يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر ، وأمر المرخّص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه ، ومن الترخيص في إباحة الفطر . فقوله : { لِتُكْمِلُوا } علة الأمر بمراعاة العدة : { وَلِتُكَبِّرُوا } علّة ما علّم من كيفية القضاء ، والخروج عن عهدة الفطر : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } علّة الترخيص والتيسير . وهذا نوع من اللف لطيف المسلك ، لا يكاد يهتدي إلى تبيّنه إلا النقّاب المحدث من علماء البيان ! . وإنما [ في المطبوع : وإما ] عدّي فعل التكبير بحرف الاستعلاء لكونه مضمناً معنى الحمد . كأنه قيل : ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم . ومعنى : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } : وإرادة أن تشكروا . ويجوز عطفها على اليسر ، أي : يريد بكم لتكملوا . . . إلخ ، كقوله تعالى : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا } إلخ . [ الصف : 8 ] والمراد بالتكبير : تعظيمه تعالى والثناء عليه . كذا أفاده الزمخشري .
قال الحرّالي : وفي لفظ : { وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ } إشعارٌ لما أظهرته السنة من صلاة العيد ، وأعلن فيها بالتكبير . وكرر مع الجهر فيها لمقصد موافقة معنى التكبير الذي إنما يكون علناً . وجعلت في براحٍ من متسع الأرض لمقصد التكبير ، لأن تكبير الله إنما هو بما جلّ من مخلوقاته . انتهى ملخصاً .
وقال ابن كثير : وقوله تعالى : { وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ } . أي : ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم ، كما قال : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } [ البقرة : 200 ] وقال : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الجمعة : 10 ] وقال : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } [ ق : 39 - 40 ] ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات .
وقال ابن عباس : ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير .
ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية . حتى ذهب داود بن علي الأصبهاني الظاهري إلى وجوبه في عيد الفطر ، لظاهر الأمر في قوله : { وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } وفي مقابلته مذهب أبي حنيفة رحمه الله : أنه لا يشرع التكبير في عيد الفطر . والباقون على استحبابه . انتهى .
وفي " زوائد المشكاة " عن عبد الله بن عُمَر أنه كان إذا غدا يوم الأضحى ويوم الفطر يجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى . ثم يكبّر حتى يأتي الإمام . وفي رواية : رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، رواه الدارقطني . وعن نافع أن ابن عمر كان يغدو إلى المصلى يوم الفطر إذا طلعت الشمس ، فيكبّر حتى يأتي المصلّى ، ثم يكبر بالمصلّى حتى إذا جلس الإمام ترك التكبير . رواه الشافعي .
قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي : حديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الفطر والأضحى رافعاً صوته بالتهليل والتكبير حتى يأتي المصلى ، رواه الحاكم والبيهقي من حديث ابن عمر من طرقٍ مرفوعاً وموقوفاً ، وصحح وقفه . ورواه الشافعي موقوفاً أيضاَ .
وفي الأوسط عن أبي هريرة مرفوعاً : زينوا أعيادكم بالتكبير . إسناده غريب . انتهى .
وفائدة طلب الشكر في هذا الموضع ، هو أنه تعالى ، لما أمر بالتكبير, وهو لا يتم إلا بأن يعلم العبد جلال الله وكبرياءه وعزته وعظمته ، وكونه أكبر من أن تصل إليه عقول العقلاء ، وأوصاف الواصفين ، وذكر الذاكرين . ثم يعلم أنه سبحانه - مع جلاله وعزته واستغنائه عن جميع المخلوقات, فضلاً عن هذا المسكين - خصه الله بهذه الهداية العظيمة - لا بد وأن يصبر ذلك داعياً للعبد إلى الاشتغال بشكره ، والمواظبة على الثناء عليه بمقدار قدرته وطاقته ، فلهذا قال : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أفاده الرازي .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [ 186 ]
.
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } قال الراغب : هذه الآية من تمام الآية الأولى . لأنه لما حث على تكبيره وشكره على ما قيّضه لهم من تمام الصوم ، بيّن أن الذي يذكرونه ويشكرونه قريب منهم ، ومجيب لهم إذا دعوه ، ثم تمم ما بقي من أحكام الصوم .
قال الرازي : إن السؤال متى كان مبهماً ، والجواب مفصلاً ، دل الجواب على أن المراد من ذلك المبهم هو ذلك المعيّن . فلما قال في الجواب : { فَإِنِّي قَرِيبٌ } علمنا أن السؤال كان عن القرب والبعد بحسب الذات ، أي : كما صرحت به الرواية السابقة . والقريب من أسمائه تعالى الحسنى . ومعناه القريب من عبده بسماعه دعاءه ، ورؤيته تضرعه ، وعلمه به ، كما قال : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } [ ق : 16 ] وقال : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } [ الحديد : 4 ] وقال : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] .
قال الإمام تقي الدين ابن تيمية ، عليه الرحمة ، في عقيدته الواسطية :
ودخل - فيما ذكرناه من الإيمان بالله - الإيمان بما أخبر الله به في كتابه ، وتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأجمع عليه سلف الأمة . من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه ، عليٌّ على خلقه . وهو معهم سبحانه أينما كانوا . يعلم ما هم عاملون . كما جمع بين ذلك في قوله : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } . وليس معنى قوله : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } أنه مختلط بالخلق ، فإن هذا لا توجبه اللغة . وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة ، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق . بل القمر - آية من آيات الله - من أصغر مخلوقاته ، وهو موضوع في السماء ، وهو مع المسافر أينما كان . وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه ، مهيمن عليهم ، مطلع إليهم ، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته ، وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش ، وأنه معنا - حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف ، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة . ودخل في ذلك : الإيمان بأنه قريب من خلقه ، كما قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } الآية . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : < إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته > . وما ذكر في الكتاب والسنة - من قربه ومعيته - لا ينافي ما ذكر من علوّه وفوقيته . . ! فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته . وهو عليٌّ في دنوه ، قريب في علوه . . . ! . انتهى كلامه رحمه الله تعالى .
وقوله تعالى : { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } تقرير للقرب وتحقيق له ، ووعد للداعي بالإجابة . وقد قرئ في السبع بإثبات الياء في الداع ودعان في الوصل دون الوقف ، وبالحذف مطلقاً .
تنبيهات :
الأول : في معنى الدعاء .
قال في القاموس وشرحه : الدعاء : الرغبة إلى الله تعالى فيما عنده من الخير ، والابتهال إليه بالسؤال ، ويطلق على العبادة والاستغاثة .
الثاني : فيما فسر به قوله تعالى : { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ } .
قال ابن القيم في " زاد المعاد " في هديه صلى الله عليه وسلم في سجوده ما نصه : وأمر يعني النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء في السجود ، وقال : إنه ضمن أن يستجاب لكم . وهل هذا أمر بأن يكثر الدعاء في السجود ؟ أو أمر بأن الداعي إذا دعا في محل فليكن في السجود ؟ وفرق بين الأمرين . ! وأحسن ما يحمل عليه الحديث ، أن الدعاء نوعان : دعاء ثناء ، ودعاء مسألة . والنبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر في سجوده من النوعين . والدعاء الذي أمر به في السجود يتناول النوعين . والاستجابة - أيضاً - نوعان : استجابة دعاء الطالب بإعطائه سؤاله ، واستجابة دعاء المثني بالثواب . وبكل واحدٍ من النوعين فسر قوله تعالى : { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } . والصحيح أنه يعم النوعين . انتهى .
الثالث : فيمن هو الداعي المجاب :
قال الراغب : بين تعالى - في هذه الآية - إفضاله على عباده ، وضمن أنهم إذا دعوه أجابهم ، وعليه نبّه بقوله تعالى : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] . إن قيل : قد ضمن في الآيتين أن من دعاه أجابه ، وكم رأينا من داع له لم يجبه ؟ ! قيل : إنه ضمن الإجابة لعباده ، ولم يرد بالعباد من ذكرهم بقوله : { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً } [ مريم : 93 ] . وإنما عنى به الموصوفين بقوله : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } [ الحجر : 42 ] ، وقوله : { وَعِبَادُالرَّحْمَنِ } [ الفرقان : 63 ] الآيات . وللدعاء المجاب شرائط وهي : أن يدعو بأحسن الأسماء ، كما قال تعالى : { وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [ الأعراف : 180 ] ويخلص النية ، ويظهر الافتقار ، ولا يدعو بإثم ، ولا بما يستعين به على معاداته . وأن يعلم أن نعمته فيما يمنعه من دنياه كنعمته فيما خوله وأعطاه . ومعلوم أن من هذا حاله فمجاب الدعوة . . !
وقال ابن القيم ، عليه [ في المطبوع : عيه ] الرحمة ، أيضاً في أول كتابه : " الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي " ما نصه ، بعد جمل : وكذلك الدعاء ، فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب . ولكن قد يتخلف عنه أثره ، إما لضعفه في نفسه ، بأن يكون دعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان . وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء ، فيكون بمنزلة القوس الرخو جداً . فإن السهم يخرج منه خروجاً ضعيفاً . وإما لحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام والظلم ورين الذنوب عن القلوب واستيلاء الغفلة والسهو اللهو وغلبتها عليه ، كما في صحيح الحاكم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : < ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلبٍ غافلٍ لاهٍ ! > . فهذا دواء نافع مزيل للداء . ولكن غفلة القلب عن الله ، تبطل قوته . وكذلك أكل الحرام يبطل قوته ويضعفها ، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أيها الناس ! إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ المؤمنون : 51 ] وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [ البقرة : 172 ] ، ثم ذكر : الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء : يا رب يا رب ! ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب لذلك . . ؟ ! > . وذكر عبد الله بن أحمد في كتاب " الزهد " لأبيه : أصاب بني إسرائيل بلاء ، فخرجوا مخرجاً ، فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم أن أخبرهم : إنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة ، وترفعون إليَّ أكفاً قد سفكتم بها الدماء ، وملأتم بها بيوتكم من الحرام ، الآن حين اشتد غضبي عليكم ؟ ! ولن تزدادي مني إلا بعداً . . ! .
ثم قال ابن القيم رحمه الله : والدعاء من أنفع الأدوية . وهو عدو البلاء ، يدافعه ، ويعالجه ، ويمنع نزوله ، ويرفعه ، أو يخففه إذا نزل ، وهو سلاح المؤمن . كما روى الحاكم في " صحيحه " من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ، ونور السموات والأرض > ، وله مع البلاء ثلاث مقامات : أحدها : أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه . الثاني : أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد ، ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفاً . الثالث : أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه... .
وقد روى الحاكم في " صحيحه " من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا يغني حذر من قدر ، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل ، وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة > ! . وفيه أيضاً ، من حيث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل . فعليكم عَبَّاد الله ، بالدعاء > ! .
وفيه أيضا : من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم : < لا يرد القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر ، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه . . > ! .
ثم قال ابن القيم رضي الله عنه : ومن أنفع الأدوية الإلحاح في الدعاء . وقد روى ابن ماجة في " سننه " من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من لم يسأل الله يغضب عليه > ! وفي " صحيح الحاكم " من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم : < لا تعجزوا في الدعاء فإنه لا يهلك مع الدعاء أحد > . وذكر الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن الله يحب الملحّين في الدعاء > ؟ وفي كتاب " الزهد " للإمام أحمد عن قتادة قال : قال مورّق : ما وجدت للمؤمن مثلاً إلا رجل في البحر على خشبة ، فهو يدعو : يا رب ! لعل الله عز وجل أن ينجيه . . ! .
ثم قال ابن القيم نوّر الله ضريحه : ومن الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء عليه ، أن يستعجل العبد ويستبطئ الإجابة ، فيستحسر ويدع الدعاء . وهو بمنزلة من بذر بذرا أو غرس غرساً ، فجعل يتعاهده ويسقيه ، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله . . ! . وفي البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ، يقول : دعوت فلم يستجب لي > ! . وفي صحيح مسلم عنه : < لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل > ! قيل : يا رسول الله ما الاستعجال ؟ قال : < يقول : قد دعوت وقد دعوت فلم أر الله يستجيب لي ، فيستحسر عند ذاك ويدع الدعاء > . وفي مسند أحمد من حديث أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل > . قالوا : يا رسول الله ! كيف يستعجل ؟ قال : < يقول : قد دعوت لربي فلم يستجب لي > .
ثم قال :
فصل
وإذا اجتمع مع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب ، وصادف وقتاً من أوقات الإجابة الستة وهي : الثلث الأخير من الليل ، وعند الأذان ، وبين الأذان والإقامة ، وأدبار الصلوات المكتوبات ، وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تقضى الصلاة ، وآخر ساعة بعد العصر من ذلك اليوم ، وصادف خشوعاً في القلب ، وانكساراً بين يدي الرب ، وذلاً وتضرعاً ورقّة ، واستقبل الداعي القبلة ، وكان على طهارة ، ورفع يديه إلى الله تعالى ، وبدأ بحمد الله والثناء عليه ، ثم ثنّى بالصلاة على محمد عبده صلى الله عليه وسلم ، ثم قدّم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار ، ثم دخل على الله وألح عليه في المسالة وتملّقه ودعاه رغبة ورهبة ، وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده ، وقدّم بين يدي دعائه صدقة ؛ فإن هذا الدعاء لا يكاد يردّ أبداً . ولا سيما إن صادف الأدعية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظنة الإجابة ، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم . فمنها ما في السنن ، وفي صحيح ابن حبان من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول : اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحدا . . ! . فقال : < لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دُعي به أجاب > ! . وفي لفظ : < لقد سألت الله باسمه الأعظم > . وفي السنن و " صحيح ابن حبان " أيضاً من حديث أنس بن مالك أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ورجل يصلي ، ثم دعا : اللهم إني أسألك بأن لك الحمد ، لا إله إلا أنت المنّان بديع السموات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا حي يا قيوم ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى > . وأخرج الحديثين أحمد في " مسنده " وفي " جامع الترمذي " من حديث أسماء بنت يزيد ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين : { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } [ البقرة : 163 ] . وفاتحة آل عِمْرَان : { الم اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } > . قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وفي " مسند أحمد " و " صحيح الحاكم " من حديث أبي هريرة وأنس بن مالك وربيعة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < أَلِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام > . يعني : تعلقوا بها والزموها وداوموا عليها . وفي " جامع الترمذي " من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أهمه الأمر رفع رأسه إلى السماء فقال : < سبحان الله العظيم > وإذا اجتهد في الدعاء قال : < يا حي يا قيوم . . > ! وفيه أيضاً من حديث أنس بن مالك قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمر قال : < يا حي يا قيوم ! برحمتك أستغيث > .
وفي صحيح الحاكم من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < اسم الله الأعظم في ثلاث سور من القرآن : البقرة وآل عِمْرَان وطه > .
قال القاسم : فالتمستها فإذا هي آية الحي القيوم . وفي " جامع الترمذي " و " صحيح الحاكم " من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < دعوة ذي النون إذا دعا وهو في بطن الحوت : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط ، إلا استجاب الله له > . قال الترمذي : حديث صحيح . وفي " صحيح الحاكم " أيضاً من حديث سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم : < ألا أخبركم بشيء إذا نزل برجل منكم أمر مهم فدعا به يفجر الله عنه ؟ ! دعاء ذي النون > . وفي " صحيحه " أيضاً عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : < هل أدلكم على اسم الله الأعظم ؟ دعاء يونس > . فقال رجل : يا رسول الله ! هل كان ليونس خاصة ؟ فقال : < ألا تسمع قوله : { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنبياء : 88 ] فأيما مسلم دعا بها في مرضه أربعين مرة فمات في مرضه ذلك ، أعطي أجر شهيد . وإن برأ ، برأ مغفوراً له ! > . وفي الصحيحين من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب : < لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم > . وفي " مسند الإمام أحمد " : من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : علّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل بي كرب أن أقول : لا إله إلا الله الحليم الكريم ، سبحان الله وتبارك الله رب العرش العظيم ، والحمد لله رب العالمين . وفي " مسنده " أيضاً من حديث عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما أصاب أحداً قط همٌّ ولا حزنٌ فقال : اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماضٍ فيّ حكمك ، عدل فيّ قضاؤك . أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو علّمته أحداً من خلقك ، أو أنزلته في كتابك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ؛ أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ، ونور بصري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي... . إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحاً > فقيل : يا رسول الله ! ألا نتعلّمها ؟ قال : < بل ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها > .
وقال ابن مسعود : ما كرب نبي من الأنبياء إلا استغاث بالتسبيح .
ثم قال ابن القيم : وكثيراً ما نجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم ، فيكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله ، أو حسنة تقدمت منه ، جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكراً لحسنته . أو صادف الدعاء وقت إجابة ، ونحو ذلك ، فأجيبت دعوته . فيظن الظان أن السر في لفظ ذلك الدعاء ، فيأخذه مجرداً عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي . وهذا كما إذا استعمل رجل دواء نافعاً في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي ، فانتفع به ، فظن غيره أن استعمال هذا الدواء بمجرده كاف في حصول المطلوب كان غالطاً . وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس . ومن هذا ، قد يتفق دعاؤه باضطرار عند قبرٍ فيجاب . فيظنّ الجاهل أن السر للقبر . ولم يعلم أن السر للاضطرار وصدق اللجأ إلى الله . فإذا حصل لك في بيت من بيوت الله كان أفضل وأحب إلى الله . . .
ثم قال ابن القيم : والأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح . والسلاح بضاربه لا بحده فقط ! فمتى كان السلاح سلاحاً تاماً لا آفة به ، والساعد ساعدٌ قوي ، والمانع مفقود ، حصلت به النكاية في العدو . . ! ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة ، تخلف التأثير . . ! فإن كان الدعاء في نفسه غير صالح ، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء ، أو كان ثم مانع من الإجابة ؛ لم يحصل التأثير . . ! .
ثم قال ابن القيم : وهنا سؤال مشهور ، وهو : أن المدعو به إن كان قد قدّر لم يكن بد من وقوعه ، دعا به العبد أو لم يدع ، وإن لم يكن قد قدّر لم يقع ، سواء سأله العبد أو لم يسأله . فظنت طائفة صحة هذا السؤال ، فتركت الدعاء وقالت : لا فائدة فيه ! وهؤلاء - مع فرط جهلهم وضلالهم - يتناقضون . فإن طرد مذهبهم يوجب تعطيل جميع الأسباب . فيقال لأحدهم : إن كان الشبع والريّ قد قدّر لك فلا بد من وقوعهما . أكلت أو لم تأكل . وإن لم يقدرا لم يقعا . أكلت أو لم تأكل . وإن كان الولد قدر لك ، فلا بدّ منه ، وطأت الزوجة والأمة أو لم تطأهما ، وإن لم يقدر لم يكن . فلا حاجة إلى التزويج والتسري . وهلم جراً . . . فهل يقال : هذا عاقل أو آدمي ؟ بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها قوامه وحياته . فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً .
وتكايس بعضهم ، وقال : الاشتغال بالدعاء من باب التعبد المحض . يثيب الله عليه الداعي من غير أن يكون له تأثير في المطلوب بوجه ما . . ! ولا فرق - عند هذا الكيّس - بين الدعاء والإمساك عنه بالقلب واللسان في التأثير في حصول المطلوب . وارتباط الدعاء عندهم به كارتباط السكوت ، ولا فرق... . وقالت طائفة أخرى أكيس من هؤلاء : بل الدعاء علامة مجردة نصبها الله سبحانه أمارة على قضاء الحاجة ، فمتى وفّق العبد للدعاء كان ذلك علامة له ، وأمارة على أن حاجته قد قضيت ... وهذا كما إذا رأيت غيماً أسود بارداً في زمن الشتاء . فإن ذلك دليل وعلامة على أنه يمطر... . قالوا : وهكذا حكم الطاعات مع الثواب ، والكفر والمعاصي مع العقاب ، هي أمارات محضة لوقوع الثواب والعقاب ، لا أنها أسباب له . . ! وهكذا - عندهم - الكسر مع الانكسار ، والحرق مع الإحراق ، والإزهاق مع القتل ، ليس شيء من ذلك سبباً البتة ، ولا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه إلا بمجرد الاقتران العادي لا التأثير السببي . وخالفوا بذلك ، الحسّ والعقل والشرع وسائر طوائف العقلاء . بل أضحكوا عليهم العقلاء... . والصواب أن ههنا قسماً ثالثاً غير ما ذكره السائل ، وهو : إن هذا المقدور قدّر بأسباب ، ومن أسبابه الدعاء ، فلم يقدر مجرّداً عن سببه ولكن قدر بسببه ، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور ، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور . وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب ، وقدر الولد بالوطء ، وقدر حصول الزرع بالبذر ، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه . وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال ، ودخول النار بالأعمال . وهذا القسم هو الحق ، وهذا الذي حرمه السائل ولم يوفق له . وحينئذ ، فالدعاء ، من أقوى الأسباب . فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء ، لم يصح أن يقال : لا فائدة في الدعاء ، كما لا يقال : لا فائدة في الأكل والشرب ، وجميع الحركات والأعمال ؛ وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء ولا أبلغ في حصول المطلوب ! ولما كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم الأمة بالله ورسوله وأفقههم في دينه ، كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم . وكان عمر رضي الله عنه يستنصر به على عدوه ، وكان أعظم جنده ، وكان يقول للصحابة : لستم تنصرون بكثرة وإنما تنصرون من السماء ! وكان يقول : إني لا أحمل همّ الإجابة ولكن همّ الدعاء ، فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه . . . .
فمن ألهم الدعاء فقد أريد به الإجابة ، فإن الله سبحانه يقول : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم } [ غافر : 60 ] ، { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } . وفي " سنن ابن ماجة " من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من لم يسأل الله يغضب عليه > . وهذا يدل على أن رضاه في سؤاله وطاعته ، وإذا رضي الرب تبارك وتعالى فكل خير في رضاه ، كما أن كل بلاء ومصيبة في غضبه . . . وقد ذكر الإمام أحمد في كتاب " الزهد " أثراً : أنا الله لا إله إلا أنا ، إذا رضيت باركت وليس لبركتي منتهى . وإذا غضبت لعنت ولعنتي تبلغ السابع من الولد ، وقد دل العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم - على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها - على أن التقرب إلى رب العالمين ، وطلب مرضاته ، والبر والإحسان إلى خلقه ، من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير ؛ وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شر . . . فما استجلبت نعم الله واستدفعت نقمة الله بمثل طاعته والتقرب إليه والإحسان إلى خلقه . وقد رتب الله سبحانه حصول الخيرات في الدنيا والآخرة ، وحصول السرور في الدنيا والآخرة - في كتابه - على الأعمال ، ترتب الجزاء على الشرط ، والمعلول على العلة ، والمسبب على السبب . وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع ، فتارة يرتب الحكم الخبري الكوني والأمر الشرعي على الوصف المناسب له ، كقوله تعالى : { فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [ الأعراف : 166 ] ، وقوله : { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الزخرف : 55 ] ، وقوله : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا } [ المائدة : 38 ] ، وقوله : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } - إلى قوله - : { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } [ الأحزاب : 35 ] ، وهذا كثير جداً . . !
وتارة ترتبه عليه بصيغة الشرط والجزاء : كقوله تعالى : { إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُم } [ الأنفال : 29 ] ، وقوله : { وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً } [ الجن : 16 ] ، وقوله : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } [ التوبة : 11 ] ونظائره . . .
وتارة يأتي بلام التعليل : كقوله : { لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ } [ ص : 29 ] ، وقوله : { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] .
وتارة يأتي بأداة كي التي للتعليل ، كقوله : { كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُم } [ الحشر : 7 ] .
وتارة يأتي بباء السببية كقوله تعالى : { ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } [ آل عِمْرَان : 182 ] ، وقوله : { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 43 ] ، و : { بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ } [ الأعراف : 39 ] وقوله : { ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنَا } [ الإسراء : 98 ] .
وتارة يأتي بالمفعول لأجله ظاهراً أو محذوفاً ، كقوله : { فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى } [ البقرة : 282 ] ، وكقوله تعالى : { أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } [ الأعراف : 172 ] ، وقوله : { أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا } [ الأنعام : 156 ] ، أي : كراهة أن تقولوا .
وتارة بفاء السببية كقوله : { فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ } [ الشمس : 14 ] وقوله : { فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً } [ الحاقة : 10 ] ، وقوله : { فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ } [ المؤمنون : 48 ] , ونظائره .
وتارة يأتي بأداة لمّا الدالة على الجزاء ، كقوله : { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الزخرف : 55 ] ، ونظائره .
وتارة يأتي بإن وما عملت فيه ، كقوله : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } [ الأنبياء : 90 ] ، وقوله في ضد هؤلاء : { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأنبياء : 77 ] .
وتارة يأتي بأداة لولا الدالة على ارتباط ما قبلها بما بعدها ، كقوله : { فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الصافات : 113 - 114 ] .
وتارة يأتي بـ " لو " الدالة على الشرط ، كقوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُم } [ النساء : 66 ] .
وبالجملة : فالقرآن - من أوله إلى آخره - صيح في ترتب الجزاء بالخير والشر والأحكام الكونية والأمرية على الأسباب ، بل ترتب أحكام الدنيا والآخرة ومصالحهما ومفاسدهما على الأسباب والأعمال . ومن تفقه في هذه المسألة ، وتأملها حق التأمل ، انتفع بها غاية النفع ، ولم يتكل على القدر جهلاً منه وعجزاً وتفريطاً وإضاعة ؛ فيكون توكّله عجزاً ، وعجزه توكّلاً . . ! بل الفقيه - كل الفقيه - الذي يرد القدر بالقدر ، ويدفع القدر بالقدر ، ويعارض القدر بالقدر . لا يمكن للإنسان أن يعيش إلا بذلك . . ! فإن الجوع والعطش والبرد وأنواع المخاوف والمحاذير هي من القدر . والخلق كلهم ساعون في دفع هذا القدر... . وهكذا من وفّقه الله وألهمه رشده يدفع قدر العقوبة الأخروية بقدر التوبة والإيمان والأعمال الصالحة . . . فهذا وزن القدر المخوف في الدنيا وما يضاده ، فرب الدارين واحد ، وحكمته واحدة ، لا يناقض بعضها بعضاً ، ولا يبطل بعضها بعضاً . فهذه المسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها ، ورعاها حق رعايتها . . . والله المستعان .
ولكن يبقى عليه أمران بهما تتم سعادته وفلاحه :
أحدهما : أن يعرف تفاصيل أسباب الشر والخير ويكون له بصيرة في ذلك بما شهده في العالم ، وما جرّبه في نفسه وغيره ، وما سمعه من أخبار الأمم قديماً وحديثاً .
ومن أنفع ما في ذلك : تدبر القرآن ، فإنه كفيل بذلك على أكمل الوجوه ، وفيه أسباب الخير والشر جميعاً مفصّلة مبينة ؛ ثم السنة ، فإنها شقيقة القرآن وهي الوحي الثاني . ومن صرف إليهما عنايته اكتفى بهما من غيرهما ، وهما يريانك الخير والشر وأسبابهما ، حتى كأنك تعاين ذلك عياناً . . . وبعد ذلك ، فإذا تأملت أخبار الأمم ، وأيام الله في أهل طاعته وأهل معصيته ، طابق ذلك ما علمته من القرآن والسنة ، ورأيته بتفاصيل ما أخبر الله به ووعد به . وعلمت من آياته في الآفاق ما يدلك على أن القرآن حق ، وأن الرسول حق ، وأن الله ينجز وعده لا محالة . . ! فالتاريخ تفصيلٌ لجزئيات ما عرّفنا الله ورسوله من الأسباب الكلية للخير والشر . . . انتهى .
وقوله تعالى : { فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي } أي : إذا دعوتهم للإيمان والطاعة ، كما أجيبهم إذا دعوني لمهماتهم : { وَلْيُؤْمِنُوا بِي } أمر بالثبات على ما هم عليه : { لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } أي : راجين إصابة الرشد وهو الحق .
تنبيهان :
الأول : قال الراغب : أوثر فليستجيبوا على فليجيبوا للطيفة ، وهي : أن حقيقة الاستجابة طلب الإجابة ، وإن كان قد يستعمل في معنى الإجابة . فبين أن العباد متى تحروا إجابته بقدر وسعهم فإنه يرضى عنهم . إن قيل : كيف جمع بين الاستجابة والإيمان ، وأحدهما يغني عن الآخر ، فإنه لا يكون مستجيباً لله من لا يكون مؤمناً ؟ قلنا : استجابته ارتسام أوامره ونواهيه التي تتولاه الجوارح ، والإيمان هو الذي تقتضيه القلوب . وأيضاً فإن الإيمان المعني ههنا هو الإيمان المذكور في قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ } [ الأنفال : 2 ] الآية .
الثاني : قدمنا عن الراغب سر وصل هذه الآية بما قبلها ، ووجه التناسب . وثمة سر آخر قاله الحافظ ابن كثير ، وعبارته :
وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء ، متخللة بين أحكام الصيام ، إرشادٌ إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة ، بل وعند كل فطر . كما روى أبو داود الطيالسي في " مسنده " عن عبد الله بن عَمْرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة > . فكان عبد الله بن عَمْرو إذا أفطر دعا أهله وولده ودعا . وروى ابن ماجة عن عبد الله بن عَمْرو قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : < إن للصائم عند فطره دعوة ما تردّ . . . > وكان عبد الله يقول إذا أفطر : اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي... وروى الإمام أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العادل ، والصائم حتى يفطر ، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة ، وتفتح لها أبواب السماء ، ويقول : بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ 187 ]
.
وقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ } إرشاد إلى ما شرعه في الصوم - بعد بيان إيجابه على من وجب عليه ، وحاله معه حضراً أو سفراً ، وعدته من إحلال غشيان الزوج ليلاً . وكأن الصحابة تحرجوا عن ذلك ظناً أنه من تتمة الصوم ، ورأوا أن لا صبر لأنفسهم عنه ، فبين هم أن ذلك حلال لا حرج فيه .
وقد روى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم ، فأنزل الله : { عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ } .
إيذاناً بأنه أحله ولم يحرّمه ؛ إذ لم يشرع من فضله ما فيه إعنات وحرج .
و " الرفث " : أصله قول الفحش . وكنى به هنا عن الجماع وما يتبعه ، كما كنى عنه في قوله : { فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } [ الأعراف : 189 ] ، وقوله : { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ } [ البقرة : 223 ] . فالله تعالى كريم يكني . وإيثار الكناية عنه - هنا - بلفظ الرفث الدال على معنى القبح - عدا بقية الآيات - استهجاناً لما وجد منهم قبل الإباحة ، كما سماه اختياناً لأنفسهم . والكناية عما يستقبح ذكره بما يستحسن لفظه من سنن العرب . وللثعالبي في آخر كتابه " فقه اللغة " فصل في ذلك بديع .
ثم إن المستعمل الشائع : رفث بالمرأة - بالباء - وإنما عدي هنا بإلى لتضمنه معنى الإفضاء ، كما في قوله : { وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْض } [ النساء : 21 ] .
{ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } قال الراغب : جعل اللباس كناية عن الزوج لكونه ستراً لنفسه ولزوجه أن يظهر منهما سوء ، كما أن اللباس ستر يمنع أن يبدو منه السوأة . وعلى ذلك كنى عن المرأة بالإزار ، وسمي النكاح حصناً لكونه حصناً لذويه عن تعاطي القبيح .
وهذا ألطف من قول بعضهم : شبه كل واحد من الزوجين - لاشتماله على صاحبه في العناق والضم - باللباس المشتمل على لابسه ، وفيه قال الجعدي :
~إذا ما الضجيع ثنى عطفها تثنت فكانت عليه لباسا
وقال الزمخشري : فإن قلت : ما موقع قوله : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ } ؟ قلت : هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال ، وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة ، قلّ صبركم عنهن ، وصعب عليكم اجتنابهنّ ؛ فلذلك رخص لكم في مباشرتهن .
{ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ } استئناف آخر مبين لما ذكر من السبب ، وهو اختيان النفس ، أي : قلة تصبيرها من نزوعها إلى رغيبتها . ومنه : خانته رجلاه ، إذا لم يقدر على المشي . أي : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ، لو لم يحلَّ لكم ذلك فأحلَّه رحمة بكم ولطفاً ، وفي الاختيان وجه آخر وهو : أنه عنى به مخالفة الحق بنقض العهد ، أي : كنتم تظلمونها بذلك - بتعريضها للعقاب - لو لم يحلّ ذلك لكم . قالوا : والاختيان أبلغ من الخيانة - كالاكتساب من الكسب - ففيه زيادة وشدة .
ثم أشار تعالى إلى لطفه بالمؤمنين بتخفيفه ما كان يغلّهم ويثقلهم ويخونهم لولا رحمته ، بقوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } أي : عاد بفضله وتيسيره عليكم برفع الحرج في الرفث ليلاً : { وَعَفَا عَنكُمْ } أي : جاوز عنكم تحريمه ، فالعفو بمعنى التوسعة والتخفيف : { فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ } قال أبو البقاء : حقيقة الآن : الوقت الذي أنت فيه ؛ وقد يقع على الماضي القريب منك ، وعلى المستقبل القريب وقوعه ، تنزيلاً للقريب منزلة الحاضر وهو المراد - هنا - لأنَّ قوله : { فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ } أي : فالوقت الذي كان يحرم عليكم الجماع فيه من الليل قد أبحناه لكم فيه ؛ فعلى هذا " الآن " ظرف ل " فباشروهن " . وقيل : الكلام محمول على المعنى ، والتقدير : فالآن قد أبحنا لكم أن تباشروهن . ودلّ على المحذوف لفظ الأمر الذي يراد به الإباحة . فعلى هذا الآن على حقيقته .
وأصل " المباشرة " إلصاق البشرة بالبشرة . كني بها عن الجماع الذي يستلزمها : { وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ } تأكيد لما قبله ، أي : ابتغوا هذه الرخصة التي أحلها لكم . و " كتب " هنا ، إما بمعنى جعل كقوله : { كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ } [ المجادلة : 22 ] ، أي : جعل ، وقوله : { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } [ آل عِمْرَان : 53 ] ، { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُون } [ الأعراف : 156 ] ، أي : أجعلها . أو بمعنى قضى ، كقوله : { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا } [ التوبة : 51 ] أي : قضاه ، وقوله : { كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] وقوله : { لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ } [ آل عِمْرَان : 154 ] ، أي : قضي .
قال الراغب : في الآية إشارة في تحرّي النكاح إلى لطيفة . وهي : أن الله تعالى جعل لنا شهوة النكاح لبقاء نوع الإِنْسَاْن إلى غاية ! كما جعل لنا شهوة الطعام لبقاء أشخاصنا إلى غاية ! فحق الإِنْسَاْن أن يتحرى بالنكاح ما جعل الله له على حسب ما يقتضيه العقل والديانة . فمتى تحرى به حفظ النفس وحصن النفس على الوجه المشروع ، فقد ابتغى ما كتب الله له . وإلى هذا أشار من قال : عنى الولد .
{ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } أباح تعالى الأكل والشرب - مع ما تقدم من إباحة الجماع - في أي : الليل شاء الصائم إلى أن يتبين ضياء الصباح من سواد الليل . وشُبّها بخيطين : أبيض وأسود ، لأن أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق وما يمتد معه من غبش الليل ، كالخيط الممدود . قال أبو دؤاد الإيادي :
~فلما أضاءت لنا سدفة ولاح من الصبح خيطٌ أنارا
وقوله : { مِنَ الْفَجْرِ } بيان للخيط الأبيض . واكتفى به عن بيان الخيط الأسود ، لأن بيان أحدهما بيان للثاني . وقد رفع بهذا البيان الالتباس الذي وقع أول أمر الصيام . كما روى الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد قال : أنزلت : { وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ } ولم ينزل : { مِنَ الْفَجْرِ } وكان رجال إذا أرادوا والصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله بعده : { مِنَ الْفَجْرِ } فعلموا إنما يعني الليل والنهار ، ورويا أيضاً . واللفظ لمسلم - عن عدي بن حاتم قال : لما نزلت : { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } قال له عدي : يا رسول الله ! إني أجعل تحت وسادتي عقالين : عقالاً أبيض وعقالاً أسود ، أعرف الليل من النهار . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن وسادك لعريض ، إنما هو سواد الليل وبياض النهار > .
قال ابن كثير : ومعنى قوله : إن وسادك لعريض أي : إن كان يسع تحته الخيطين المرادين من هذه الآية ؛ فيقتضي أن يكون بعرض المشرق والمغرب . . ! وجاء في بعض هذه الألفاظ : < إنك لعريض القفا > ففسره بعضهم بالبلادة - وهو ضعيف بل يرجع إلى هذا ؛ لأنه إذا كان وساده عريضاً فقفاه أيضاً عريض ، والله أعلم . انتهى .
وفي الإتيان بلفظ التفعّل في قوله تعالى : { حَتَّى يَتَبَيَّنَ } إشعار بأنه لا يكفي إلا التبين الواضح لا تباشير الضوء . وقد روى مسلم عن سَمُرة بن جُنْدب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا > . وحكاه حماد بيديه ، قال : يعني معترضاً . وفي لفظ آخر عنه : < لا يغرنكم نداء بلال ولا هذا البياض حتى يبدو الفجر - أو قال : - حتى ينفجر الفجر > . وروى الإمام أحمد عن قيس بن طلق عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < ليس الفجر المستطيل في الأفق ، ولكنه المعترض الأحمر > . ورواه الترمذي بلفظ : < كلوا واشربوا ولا يهدنكم [ في المطبوع : ولا يهيدنكم ] الساطع المصعد ، وكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر > . قال : وفي الباب عن عدي بن حاتم وأبي ذر وسمرة .
ثم قال : حديث طَلْق بن علي حديث حسن غريب من هذا الوجه . والعمل على هذا - عند أهل العلم - أنه لا يحرم على الصائم الأكل والشرب حتى يكون الفجر الأحمر المعترض ، وبه يقول أهل العلم . انتهى .
قال بعضهم : المراد بالأحمر : الأبيض ، كما فسر به حديث : < بعثت إلى الأحمر والأسود > . وقال شمر : سموا الأبيض أحمر تطيراً بالأبرص . حكاه عن أبي عَمْرو بن العلاء . ويظهر أنه لا حاجة إلى هذا ، فإن طلوع الفجر يصحبه حمرة . وفي " القاموس " الفجر : ضوء الصباح ، وهو حمرة الشمس في سواد الليل . فافهم .
وقال الحافظ عبد الرزاق في " مصنفه " : أخبرنا ابن جريج عن عطاء : سمعت ابن عباس يقول : هما فجران : فأما الذي يسطع في السماء فليس يحلّ ولا يحرّم شيئاً ، لكن الفجر الذي يستنير على رؤوس الجبال هو الذي يحرم الشراب . وقال عطاء : فأما إذا سطع سطوعاً في السماء - وسطوعه أن يذهب في السماء طولاً - فإنه لا يحرم به شراب للصائم ولا صلاة ، ولا يفوت به الحج . ولكن إذا انتشر على رؤوس الجبال حرم الشراب للصيام ، وفات الحج .
قال ابن كثير : وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وعطاء . وهكذا روي عن غير واحدٍ من السلف . رحمهم الله . انتهى .
{ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ } أي : صوم كل يوم : { إِلَى الَّليْلِ } أي : إلى ظهور الظلمة من قبل المشرق . وذلك بغروب الشمس . وكلمة إلى تفيد أن الإفطار عند غروب الشمس ، كما جاء في " الصحيحين " عن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إذا أقبل الليل من ههنا ، وأدبر النهار من ههنا ، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم > .
قال ابن القيم : أي : أفطر حكماً وإن لم ينوه ، أو دخل في وقت فطره ، كما في : أصبح وأمسى .
وقد كان صلى الله عليه وسلم يعجل الفطر ويحض عليه ، كما في " الصحيحين " : < لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر > . وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : < يقول الله عز وجل : إن أحب عبادي إليّ أعجلهم فطراً > . ورواه الترمذي وقال : حديث حسن غريب . وعن أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات ، فإن لم تكن رطبات فتميرات ، فإن لم تكن تميرات حساً حسوات من ماء . رواه الترمذي ، وقال : حسن غريب . وروى الإمام أحمد عن ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت : أردت أن أصوم يومين مواصلة ، فمنعني بشير وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال : < يفعل ذلك النصارى ، ولكن صوموا كما أمركم الله ثم أتموا الصيام إلى الليل ، فإذا كان الليل فأفطروا > .
ولهذا ورد في الأحاديث الصحيحة ، النهي عن الوصال . وهو : أن يصل يوماً بيوم ولا يأكل بينهما شيئاً . ففي " الصحيحين " عن أنس رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < لا تواصلوا . . . ! > قالوا : إنك تواصل ، قال : < لست كأحدٍ منكم ، إني أطعم وأسقى - أو إني أبيت أطعم وأسقى > . قال الترمذي : وفي الباب عن علي ، وأبي هريرة ، وعائشة وابن عمر ، وجابر ، وأبي سعيد ، وبشير بن الخصاصية . أي : فالنهي عنه قد ثبت من غير وجه . نعم من أحب أن يواصل إلى السحر فله ذلك ، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا تواصلوا ، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر > قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله قال : < لست كهيئتكم ، إني أبيت لي مُطعم يطعمني وساقٍ يسقيني > . أخرجاه في " الصحيحين " . والمراد بهذا الطعام والشراب : ما يغذيه الله به من المعارف ، وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته ، وقرة عينه بقربه ، وتنعمه بحبه ، والشوق إليه ، وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلب ، ونعيم الأرواح ، وقرة العين ، وبهجة النفوس والروح والقلب ؛ بما هو أعظم غذاء ، وأجوده ، وأنفعه . وقد يقوي هذا الغذاء حتى يغني عن غذاء الأجسام مدة من الزمان .
ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيواني ، ولا سيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد قرت عينه بمحبوبه ، وتنعّم بقربه والرضاء عنه ، وألطاف محبوبه وهداياه وتحفه تصل إليه كل وقت . ومحبوبه حفيّ به ، معتزّ بأمره ، مكرم له غاية الإكرام ، مع المحبة التامة له . أفليس في هذا أعظم غذاء لهذا المحب ؟ ! فكيف بالحبيب الذي لا شيء أجلّ منه ، ولا أعظم ، ولا أجمل ، ولا أكمل ، ولا أعظم إحساناً ، إذا امتلأ قلب المحب بحبه ، وملك حبه جميع أجزاء قلبه وجوارحه ، وتمكّن حبه منه أعظم تمكّن ؟ وهذا حاله مع حبيبه .
أفليس هذا المحب عند حبيبه يطعمه ويسقيه ليلاً ونهاراً ؟ ولهذا قال : < إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني > . ولو كان ذلك طعاماً وشراباً للفم - كما قال - لما كان صائماً ، فضلاً عن كونه مواصلاً . كذا في " زاد المعاد " .
وقد روى ابن جرير عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف ، أنهم كانوا يواصلون الأيام المتعددة . وحمله منهم على أنهم كانوا يفعلون ذلك رياضة لأنفسهم لا أنهم كانوا يفعلونه عبادة . والله أعلم .
قال ابن كثير : ويحتمل أنهم كانوا يفهمون من النهي أنه إرشادي من باب الشفقة . كما جاء في حديث عائشة : رحمة لهم . فكان ابن الزبير وابنه عامر ومن سلك سبيلهم يتجشّمون ذلك ويفعلونه ؛ لأنهم كانوا يجدون قوة عليه .
{ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غيره . فحرم الله عليه أن ينكح النساء ليلاً أو نهاراً حتى يقضي اعتكافه . وقال الضحاك : كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسد جامع إن شاء . وكذا قال مجاهد وقتادة وغير واحد : إنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت هذه الآية . قال ابن أبي حاتم : روي عن ابن مسعود ومحمد بن كعب ، ومجاهد ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، والربيع ابن أنس ، ومقاتل قالوا : لا يقربها وهو معتكف .
قال ابن كثير : وهذا الذي حكاه عن هؤلاء هو الأمر المتفق عليه عند العلماء : أن المعتكف يحرم عليه النساء ما دام معتكفاً في مسجده ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بد له منها ؛ فلا يحلّ له أن يثبت فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك - من قضاء الغائط أو الأكل - وليس له أن يقبّل امرأته ، ولا أن يضمّها إليه ، ولا أن يشتغل بشيء سوى اعتكافه .
ثم قال ابن كثير : المراد بالمباشرة : الجماع ودواعيه : من تقبيل ومعانقة ونحو ذلك . فأما معاطاة الشيء ونحوه فلا بأس به . فقد ثبت في " الصحيحين " عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إليّ رأسه فأرجله وأنا حائض . وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإِنْسَاْن . وفي " الصحيحين " أيضاً : أن صفية أم المؤمنين كانت تزور النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في المسجد . فتتحدث عنده ساعة ثم ترجع إلى منزلها . فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم ليمشي معها حتى يبلغها دارها ، وذلك في الليل .
تنبيهان :
الأول : قال الراغب : ظاهر ذكر المساجد يقتضي جواز الاعتكاف في كل مسجد .
الثاني : في ذكره تعالى الاعتكاف بعد الصيام إرشادٌ وتنبيه على الاعتكاف في الصيام أو في آخر شهر الصيام . كما ثبت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله عز وجل ، ثم اعتكف أزواجه من بعده . ثم إن حقيقة الاعتكاف : هو المكث في بيت الله تقرباً إليه . وهو من الشرائع القديمة .
وقال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " في هديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف : لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفاً وعلى جمعيته على الله . ولم شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى . فإن شعث القلب لا يلمه إلا الإقبال على الله تعالى . وكان فضول الطعام والشراب ، وفضول مخالطة الأنام ، وفضول الكلام ، وفضول المنام ؛ مما يزيده شعثاً ، ويشتته في كل واد ، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى ، أو يضعفه ، أو يعوقه ويوقفه - اقتضت رحمة العزيز الرحيم لعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب ، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوّقة له عن سيره إلى الله تعالى . وشرعه بقدر المصلحة بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه . ولا يضره ولا يقطعه من مصالحه العاجلة والآجلة . وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه ؛ عكوف القلب على الله تعالى ، وجمعيته عليه ، والخلوة به ، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق ، والاشتغال به وحده سبحانه بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته . فيستولي عليه بدلها ، ويصير الهمّ به كلّه ، والخطرات كلها بذكره . والفكرة في تحصيل مراضيه وما يقرب منه . فيكون أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق . فيعدّه بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه . فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم . ولما كان المقصود إنما يتم مع الصوم شرع الاعتكاف في أفضل أيام الصوم وهو العشر الأخير من رمضان . ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف مفطراً قط . بل قد قالت عائشة : لا اعتكاف إلا بصوم . ولم يذكر الله سبحانه الاعتكاف إلا مع الصوم ، ولا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مع الصوم . فالقول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلف ، أن الصوم شرط في الاعتكاف . وهو الذي كان يرجحه شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية . وأما الكلام : فإنه شرع للأمة حبس اللسان عن كل ما لا ينفع في الآخرة . وأما فضول المنام : فإنه شرع لهم من قيام الليل ما هو أفضل من السهر وأحمد عاقبة : وهو السهر المتوسط الذي ينفع القلب والبدن ، ولا يعوق عن مصلحة العبد . ومدار أرباب الرياضات والسلوك على هذه الأركان الأربعة . وأسعدهم بها من سلك فيها المنهاج النبوي المحمدي ، ولم ينحرف انحراف الغالين ولا قصر تقصير المفرطين . ثم قال :
كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل . وتركه مرة فقضاه في شوال . واعتكف مرة - في العشر الأول ، ثم الأوسط ، ثم العشر الأخير - يلتمس ليلة القدر ، ثم تبن له أنها في العشر الأخير ، فداوم على اعتكافه حتى لحق بربه عز وجل . وكان يأمر بخباء فيضرب له في المسجد يخلو فيه بربه عز وجل . وكان إذا أراد الاعتكاف صلى الفجر ثم دخله . فأمر به مرة فضرب . فأمر أزواجه بأخبيتهن فضربت . فلما صلى الفجر نظر فرأى تلك الأخبية . فأمر بخبائه فقوّض . وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأول من شوال . وكان يعتكف كل سنة عشرة أيام . فلما كان في العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً . وكان يعارضه جبريل بالقرآن كل سنة مرة . فلما كان ذلك العام عارضه به مرتين ، ولم يباشر امرأة من نسائه - وهو معتكف - لا بقبلة ولا بغيرها . وكان إذا اعتكف طرح له فراشه ، ووضع له سريره في معتكفه . وكان إذا خرج لحاجته مر بالمريض ، وهو على طريقه ، فلا يعرج له إلا سأل عنه . واعتكف مرة في قبة تركية . وجعل على سدتها حصيراً . كل هذا تحصيلاً لمقصود الاعتكاف وروحه .
{ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا } يعني : تلك الأحكام التي ذكرت في الصيام والاعتكاف : من تحريم الأكل والشرب والجماع . وشبه تلك الأحكام بالحدود الحاجزة بين الأشياء لكونها حاجزة بين الحق والباطل . فإن من عمل بها كان في حيز الحق ، ومن خالفها وقع في الباطل . ونهى عن قربها كيلا يداني الباطل ، فضلاً من أن يتخطى إليه . فالنهي عن مكان القرب من الحدود التي هي الأحكام ، كناية عن النهي عن قرب الباطل ؛ لكون الأول لازماً للثاني . وبذلك يحصل الجمع بين هذه الآية وآية : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا } [ البقرة : 229 ] ويندفع التنافي . وقوله : { فَلاَ تَقْرَبُوهَا } أبلغ من : { لا تَعْتَدُوهَا } لأنه نهي عن قرب الباطل بطريق الكناية التي هي أبلغ من التصريح ، وذلك نهي عن الوقوع في الباطل بطريق التصريح : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ } أي : كما بين ما أمركم به ونهاكم عنه - في هذا الموضع - يبين للناس ما شرعه لهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } المحارم فيعرفون كيف يطيعون ويهتدون . كما قال تعالى : { هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ } [ الحديد : 9 ] .
قال الرازي : والغرض من قوله تعالى : { كَذَلِكَ } إلخ تعظيم حال البيان ، وتعظيم رحمته على الخلق في ذكره مثل هذا البيان .
وفيه أيضاً تقرير للأحكام السابقة ، والترغيب إلى امتثالها بأنها شرعت لأجل التقوى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ 188 ]
{ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ } قال ابن جرير : يعني تعالى ذكره بذلك : ولا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل ، فجعل بذلك أكل مال أخيه بالباطل كالأكل مال نفسه بالباطل ، ونظير ذلك قوله تعالى : { وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } [ الحجرات : 11 ] . وقوله : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] ، بمعنى : لا يلمز بعضكم بعضاً ولا يقتل بعضكم بعضاً ؛ لأنه تعالى جعل المؤمنين إخوة . وكذلك تفعل العرب . تكني عن أنفسها بأخواتها ، وعن أخواتها بأنفسها ؛ لأن أخا الرجل عندها كنفسه . فتأويل الكلام : ولا يأكل بعضكم أموال بعض فيما بينكم بالباطل . وأكله بالباطل أكله من غير الوجه الذي أباحه الله لآكليه .
و بينكم : إما طرف لـ " تأكلوا " بمعنى : لا تتناولوها فيما بينكم بالأكل ، أو حال من الأموال أي : لا تأكلوها كائنة بينكم ودائرة بينكم . وبالباطل في موضع نصب بـ " تأكلوا " أي : لا تأخذوها بالسبب بالباطل - أي : الوجه الذي لم يبحه الله تعالى - ويجوز أن يكون حالاً من الأموال أي : لا تأكلوها متلبسة بالباطل . أو من الفاعل في تأكلوا أي : لا تأكلوها مبطلين ، أي : متلبسين بالباطل : { وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ } أي : تخاصموا بها - أي : بأموالهم - إلى الحكام ، مجزوم عطفاً على النهي . ويؤيده قراءة أبيّ : { ولا وَتُدْلُواْ } بإعادة لا الناهية والإدلاء : مأخوذ من إدلاء الدلو ، وهو : إرسالها في البئر للاستقاء ، ثم استعير لكل إلقاء قول أو فعل توصلا إلى شيء . ومنه يقال للمحتج : أدلى بحجّته . كأنه يرسلها ليصير إلى مراده . كإدلاء المستقي للدلو ليصل إلى مطلوبه من الماء . وفلان يدلي إلى الميت بقرابة أو رحم : إذا كان منتسباً إليه ، فيطلب الميراث بتلك النسبة . فالباء صفة الإدلاء تجوزاً به عن الإلقاء كما ذكرنا . والمعنى : لا تلقوا أمرها - والحكومة فيها - إلى الحكام . أو لا تلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة ليعينوكم على اقتطاع أموال الناس . وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش - وهو الواسطة الذي يمشي بينهما - رواه أهل السنن . وذلك لأن ولي الأمر إذا أكل هذا السحت - أعني الرشوة المسماة : بالبرطيل وتسمى أحياناً : بالهدية وغيرها - احتاج أن يسمع الكذب من الشهادة الزور وغيرها مما فيه إعانة على الإثم والعدوان . ووليّ الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، هذا مقصود الولاية . وإذا كان الوالي يمكّن من المنكر بمال يأخذه كان قد أتى بضدّ المقصود ، مثل من نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك . وبمنزلة من أخذ مالاً ليجاهد به في سبيل الله فقاتل المسلمين . والحكام : جمع حاكم ، وهو : منفذ الحكم بين الناس كالحكم ، محركة { لِتَأْكُلُواْ } أي : بواسطة حكمهم الفاسد والتحاكم إليهم : { فَرِيقاً } - أي : طائفة وقطعة - : { مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ } بما يوجب إثماً - كشهادة الزور واليمين الفاجرة ، وحكمهم الفاسد - فإنه لا يفيد الحل والظلم . فالباء للسببية . متعلقها لتأكلوا . وجوز كونها للمصاحبة . فالمجرور حال من فاعل لتأكلوا أي : متلبسين بالإثم : { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : أنكم على الباطل وارتكاب المعصية - مع العلم بقبحها - أقبح ، وصاحبه أحق بالتوبيخ ، فالتقييد لكمال تقبيح حالهم .
قال الراغب : أي : إن خفي ظلمكم على الناس فإنه لا يخفى عليكم ، تنبيهاً على أن الاعتبار بما عليه الأمر في نفسه ، وما علمتم منه لا بما يظهر .
وقال ابن كثير في " تفسيره " : قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هذه الآية في الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بينة ، فيجحد المال ، ويخاصم إلى الحكام . وهو يعرف أن الحق عليه . وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام . وكذا روي عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل بن حيان ، وعبد الرحمن بن زيد أنهم قالوا : لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم . وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < ألا إنما أنا بشر ، وإنما يأتيني الخصم ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له . فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار . فليحملها أو ليذرها > . فدلت هذه الآية الكريمة وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر . فلا يحل في نفس الأمر حراماً هو حلال ، ولا يحرم باطلاً هو حلال . وإنما هو ملزم في الظاهر . فإن طابق في نفس الأمر فذاك ، وإلا فللحاكم أجره ، وعلى المحتال وزره . ولهذا قال تعالى في آخر الآية : { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : تعلمون بطلان ما تدعونه وترجونه في كلامكم . قال قتادة : اعلم يا بني آدم . . . ! أن قضاء القاضي لا يحل حراماً ، ولا يحق لك باطلاً ، وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى وتشهد به الشهود ، والقاضي بشر يخطئ ويصيب . واعلموا أن من قضى له بباطل أن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة . فيقضي على المبطل للمحق بأجود مما قضى به للمبطل على المحق في الدنيا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ 189 ]
.
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية : بلغنا أنهم قالوا : يا رسول الله ! لِمَ خلقت الأهلة ؟ فنزلت . وروى أبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس قال : نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم . قالا : يا رسول الله ! ما بال الهلال يبدو - أو يطلع - دقيقاً مثل الخيط ، ثم يزيد حتى يعظم ويستدير ، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان ، لا يكون على حال واحد ؟ فنزلت .
ومعنى كونها : { مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } : معالم لهم في حل دينهم ، ولصومهم ، ولفطرهم ، وأوقات حجهم ، وأجائرهم ، وأوقات الحيض ، وعدد نسائهم ، والشروط التي إلى أجل ، فكل هذا مما لا يسهل ضبط أوقاتها إلا عند وقوع الاختلاف في شكل القمر زيادة ونقصاً . ولهذا خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة على حالة واحدة .
قال بعض المفسرين : ثمرة الآية : أن الأحكام الشرعية - كالزكاة والعدد للنساء والحمل تتعلق بشهور الأهلة لا بشهور الفرس . أما ما تعلق بالعقود والأفعال المتعلقة بفعل بني آدم فيتبع فيه العرف من حسابهم ، بالأهلة أو بشهور الفرس . فهذا حكم ، وذاك حكم آخر .
وقد ذكر تعالى هذا المعنى في آيات ، كقوله سبحانه : { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَاب } [ يونس : 5 ] . وقوله : { فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } [ الإسراء : 12 ] . أي : من غير افتقار إلى مراجعة المنجم وحساب الحاسب ؛ رحمة منه تعالى وفضلاً . وإفراد الحج بالذكر هنا تنويهاً بشأنه .
وقال القفال : نكتة إفراده : بيان أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لفرضه . وأنه لا يجوز نقل الحج من تلك الأشهر إلى أشهر ، كما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء . والله أعلم .
والجمهور على فتح حاء الحج والحسن على كسرها في جميع القرآن . قال سيبويه : هما مصدران كالرد والذكر . وقيل : بالفتح المصدر ، وبالكسر الاسم . والأهلة : جمع هلال . وجمعه باختلاف زمانه . وهو : غرة القمر إلى ثلاث ليال أو سبع ، ثم يسمى قمراً ، وليلة البدر لأربع عشرة .
قال أبو العباس : سمي الهلال هلالاً : لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه ، وسمي بدراً : لمبادرته الشمس بالطلوع كأنه يجعلها المغيب . ويقال : سمي بدراً : لتمامه وامتلائه ، وكل شيء تم فهو بدر .
تنبيه :
الجواب على الرواية في سبب نزول الآية من الأسلوب الحكيم . وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب - بتنزيل سؤاله منزلة غيره ؛ تنبيهاً للسائل على أن ذلك الغير هو الأولى بحاله أو المهم له . فلما سألوا عن السبب الفاعلي للتشكلات النورية في الهلال ، أجيبوا بما ترى من السبب الغائي ؛ تنبيهاً على أن السؤال عن الغاية والفائدة هو أليق بحالهم ؛ لأن درك الأسباب الفاعلية لتلك التشكلات مبني على أمور من علم الهيئة لا عناية للشرع بها . فلو أجيبوا : بأن اختلاف تشكلات الهلال ، بقدر محاذاته للشمس ، فإذا حاذاها طرف منه استنار ذلك الطرف . ثم تزداد المحاذاة والاستنارة ، حتى إذا تمت بالمقابلة امتلأ . ثم تنقص المحاذاة والاستنارة حتى إذا حصل الاجتماع أظلم بالكلية ؛ لكان هذا الجواب اشتغالاً بعلم الهيئة الذي لا ينتفع به في الدين ، ولا يتعلق به صلاح معاشهم ومعادهم . والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث لبيان ذلك وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < من اقتبس علماً من النجوم اقتبس باباً من السحر ، زاد ما زاد > . أخرجه الإمام أحمد . وأبو داود ، وابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما . وقال علي رضي الله عنه : من طلب علم النجوم تكهّن . وهو من العلم الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : < علم لا ينفع ، وجهل لا يضر > . والمقصود أن الجواب ، على الرواية الثانية من الأسلوب الحكيم ؛ إشعاراً بأن الأولى السؤال عن الحكمة فيه .
قال السكاكي في " المفتاح " : ولهذا النوع - أعني إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر - أساليب متفننة ، إذ ما من مقتضى كلام ظاهري إلا ولهذا النوع مدخل فيه بجهة من جهات البلاغة . ترشد إليه تارة بالتصريح ، وتارة بالفحوى . ولكل من تلك الأساليب عرق في البلاغة يتشرب من أفانين سحرها ، ولا كأسلوب الحكيم فيها ، وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقب كما قال :
~أنت تشتكي عندي مزاولة القرى وقد رأت الضيفان ينحون منزلي
~فقلت كأني ما سمعت كلامها : هم الضيف جِدّي في قراهم وعجّلي
أو السائل بغير ما يتطلب كما قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ } الآية ، قالوا في السؤال : ما بال الهلال يبدوا دقيقاً . . . ! إلخ ؟ فأجيبوا بما ترى . وكما قال : { يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وابْنِ السّبِيْل } [ البقرة : 215 ] . سألوا عن بيان ما ينفقون ، فأجيبوا ببيان المصرف . ينزل سؤال السائل منزلة سؤال غير سؤالٍ غير سؤاله ، لتوخّي التنبيه له بألطف وجه على تعديه عن موضع سؤالٍ هو أليق بحاله أن يسأله عنه ، أو أهمّ له إذا تأمل ، وأن هذا الأسلوب الحكيم لربما صادف المقام فحرك من نشاط السامع ما سلبه حكم الوقور ، وأبرزه في معرض المسحور ؛ وهل ألان شكيمة الحجاج لذلك الخارجي ، وسلّ سخيمته ، حتى آثر أن يحسن ، على أن يسيء ؛ غير أن سَحَره بهذا الأسلوب ؟ إذ توعده الحجاج بالقيد في قوله " لأحملنك على الأدهم ! " فقال متغابياً : مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب ! مبرزاً وعيده في معرض الوعد ، متوصلاً أن يريه بألطف وجه : أن أمرأً مثله - في مسند الإمرة المطاعة - خليقٌ بأن يُصفِد لا أن يَصفِد ، وأن يعد [ في المطبوع : بعد ] لا أن يوعد .
{ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
قال الراغب في " تفسيره " : الباب معروف . وعنه استعير لمدخل الأمور المتوصل به إليها . وقيل في العلم : باب كذا . وقد سئل عليه السلام عن زيادة القمر ونقصانه ، فأنزل الله هذه الآية تنبيهاً على أظهر فائدته للحس ، وأبينها له . ثم قال : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا } أي : بأن تطلبا الأمر من غير وجهه . وذلك أنه يقال : أتى فلان البيت من بابه - إذا طلب ا لشيء من وجهه . وقال الشاعر :
~أتيت المروءة من بابها
وأتى البيت من ظهره : إذا طلب الأمر من غير وجهه . وجعل ذلك مثلاً لسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم عما هو ليس من العلم المختص بالنبوة . وإن ذلك عدولٌ عن المنهج ، وذلك أن العلوم ضربان :
دنيوي : يتعلق بأمر المعاش - كمعرفة الصنائع . ومعرفة حركات النجوم ومعرفة المعادن ، والنبات ، وطبائع الحيوانات ، وقد جعل لنا سبيلاً إلى معرفته على غير لسان نبيه عليه السلام .
وشريعة : وهو البر : ولا سبيل إلى أخذه إلا من جهته وهو أحكام التقوى...
فلما جاءوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم ، عما أمكنهم معرفته من غير جهته ، أجابهم ، ثم بين لهم أنه ليس البر ترك المنهج في السؤال من النبي ما ليس مختصاً بعلم نبوته . ولكن البر هو مجرد التقوى . وذلك يكون بالعلم والعمل المختص بالدين .
وقال أبو مسلم الأصفهاني : المراد من هذه الآية ، ما كانوا يعملونه من النسيء . فإنهم كانوا يخرجون الحج عن وقته الذي عينه الله له . فيحرمون الحلال ويحللون الحرام . فذكر إتيان البيوت من ظهورها مثلٌ لمخالفة الواجب في الحج وشهوره .
وأما ما رواه البخاري وغيره عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء رضي الله عنه يقول : نزلت هذه الآية فينا . كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤوا لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها . فجاء رجلٌ من الأنصار فدخل من قبل بابه ، فكأنه عيِّرَ بذلك ، فنزلت : { وَلَيْسَ الْبِرُّ } الآية ، فالمراد من نزولها في ذلك ، صدقها عليه حسبما رآه لا أنّ ذلك كان سبب نزولها . كما بينا مراراً معنى قولهم : نزلت الآية في كذا .
وقد أشار لهذا الراغب - بعد حكايته هذه الرواية ، وما قاله أبو مسلم - بقوله : وكل ذلك لا يدفع أن تتناوله الآية ، لكنّ الأليق أن تؤول الآية بما تقدم ذكره من أن معنى : { وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } أي : تحروا في كل عمل إتيان الشيء من وجهه ، تنبيهاً على أن ما يطلب من غير وجهه صعب تناوله . ثم قال : { وَاتَّقُواْ اللّهَ } حثاً لنا أن نجعل تقوى الله شعارنا في كل ما نتحراه . وبين أن ذلك ذريعة إلى تحصيل الفلاح .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } [ 190 ]
.
{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } المقاتلة في سبيل الله هو الجهاد لإعلاء كلمة الله وإعزاز الدين . وفي قوله : { الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } تهييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله . أي : كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم . كما قال : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّة } [ التوبة : 36 ] { وَلاَ تَعْتَدُواْ } أي : بابتداء القتال . أو بقتال من نهيتم عن قتاله ، من النساء ، والشيوخ ، والصبيان ، وأصحاب الصوامع ، والذين بينكم وبينهم عهد . أو بالمثلة ، أو بالمفاجأة من غير دعوة { إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } أي : المتجاوزين حكمه في هذا وغيره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ } [ 191 ]
.
{ وَاقْتُلُوهُمْ } أي : الذين يقاتلونكم : { حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } أي : وجدتموهم : { وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } أي : من مكة . فإن قريشاً أخرجوا المسلمين منها . والمسلمون أخرجوا المشركين يوم الفتح { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } أي : المحنة والبلاء الذي ينزل بالإِنْسَاْن يتعذب به أشد عليه من القتل . أي : إن فتنتهم إياكم في الحرم عن دينكم - بالتعذيب ، والإخراج من الوطن ، والمصادرة في المال - أشد قبحاً من القتل فيه . إذ لا بلاء على الإِنْسَاْن أشد من إيذائه على اعتقاده الذي تمكّن من عقله ونفسه . ورآه سعادة له في عاقبة أمره . فالجملة دفع لما قد يقع من استعظام قتلهم في مثل الحرم ، وإعلام بأن القصاص منهم بالقتل دون جرمهم بفتنة المؤمنين ، لأن الفتنة أشد من القتل : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ } لأن حرمته لذاته . وحرمة سائر الحرم من أجله . وهذا بمثابة الاستثناء من قوله تعالى : { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } : { فَإِن قَاتَلُوكُمْ } أي : فيه فلا تفتقرون إلى الفرار عن الحرم : { فَاقْتُلُوهُمْ } فيه ، إذ لا حرمة لهم لهتكهم حرمة المسجد الحرام : { كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ } لا يترك لهم حرمة كما لم يتركوا حرمة الله في آياته .
تنبيه :
دلت الآية على الأمر بقتال المشركين في الحرم ، إذا بدأوا بالقتال فيه ، دفعاً لصوتهم ، كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال ، لما تألَّب عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ . ثم كف الله القتال بينهم فقال : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } [ الفتح : 24 ] . وقال صلى الله عليه وسلم لخالد ومن معه يوم الفتح : < إن عرض لكم أحدٌ من قريش فاحصدوهم حصداً حتى توافوني على الصفا > . . . فما عرض لهم أحد إلا أناموه ، وأصيب من المشركين نحو اثني عشر رجلاً . كما في السيرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 192 ]
.
{ فَإِنِ انتَهَوْاْ } أي : عن القتال : { فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : فكفّوا عنهم ولا تتعرّضوا لهم تخلقاً بصفتي الحق تعالى المذكورتين وهما : المغفرة والرحمة ، هذا ظاهر المساق .
وقال بعضهم : { فَإِنِ انتَهَواْ } أي : عن الشرك والقتال : { فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ } لما سلف من طغيانهم : { رَّحِيمٌ } بقبول توبتهم وإيمانهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ } [ 193 ]
{ وَقَاتِلُوهُمْ } أي : هؤلاء الذين نسبناهم إلى قتالكم وإخراجكم وفتنكم : { حَتَّى لاَ تَكُونَ } - أي : لا توجد في الحرم - : { فِتْنَةٌ } أي : تقوٍّ بسببه يفتنون الناس عن دينهم ، ويمنعونهم [ في المطبوع : ويمنعونم ] من إظهاره والدعوة إليه : { وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ } خالصاً أي : لا يعبد دونه شيء في الحرام ، ولا يخشى فيه غيره ، فلا يفتن أحد في دينه ، ولا يؤذى لأجله .
وفي " الصحيحين " عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة . فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله > .
{ فَإِنِ انتَهَواْ } عن قتالكم في الحرم : { فَلاَ عُدْوَانَ } فلا سبيل لكم بالقتل : { إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ } المبتدئين بالقتل .
وروى البخاري في صحيحه عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما : أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا : إن الناس قد ضُيِّعوا ، وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم ، فما يمنعك أن تخرج ؟ فقال : يمنعني أن الله حرم دم أخي . . ! قالا : ألم يقل الله : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } ؟ فقال : قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله ، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله .
ثم ساق البخاري رواية أخرى وفيها : قال ابن عمر : فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان الرجل يفتن في دينه ، إمّا قتلوه وإمّا يعذبوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [ 194 ]
.
{ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ } إيذان بأن بمراعاة حرمة الشهر واجبة لمن راعى حرمته ، وإن من هتكها اقتصّ منه ، فهتك حرمته بهتكهم حرمته . فكما يقاتلون عند المسجد الحرام - إذا قاتلوا فيه - يقاتلون في الشهر الحرام إذا قاتلوا فيه .
وقد روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يُغزى - أو يُغزوا - فإذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ . ولهذا لما سار صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة ، سنة ست معتمراً ، وخيّم بالحديبية ، وبلغه أن عثمان قتل - وكان بعثه في رسالة إلى المشركين بايع أصحابه وكانوا ألفاً وأربعمائة تحت الشجرة على قتال المشركين . فلما بلغه أن عثمان لم يقتل كف عن ذلك ، وجنح إلى المسالمة والمصالحة ، فكان ما كان . وكذلك لما فرغ من قتال هوازن يوم حنين وتحصّن فَلُّهم بالطائف عدل إليها فحاصرها ، ودخل ذو القعدة وهو محاصر لها بالمنجنيق . واستمر عليها إلى كمال أربعين يوماً . كما ثبت في " الصحيحين " عن أنس . فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها ، ولم تفتح . ثم كرّ راجعاً إلى مكة ، واعتمر من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين ، وكانت عمرته هذه في ذي القعدة أيضاً عام ثمان .
{ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } أي : متساوية ، فلا يفضل شهر حرام على آخر ، بحيث يمتنع هتك حرمته لهتكهم حرمة ما دونه ، على أنا لا نهتك حرمة الشهر والمسجد الحرام والحرم ، بل نهتك حرمة من هتك حرمة أحدها - قاله المهايمي .
والحرمات : جمع حرمة ، وهي ما يحفظ ويرعى ولا ينتهك . والقصاص : المساواة . والكلام على حذف المضاف . أي : ذوات قصاص ، أو المصدر بمعنى المفعول ، أي : مقاصة ، أو الحمل بطريق المبالغة { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } أمر بالعدل حتى في المشركين ، كما قال : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [ النحل : 126 ] . وقال : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] : { وَاتَّقُواْ اللّهَ } في هتك حرمة الشهر والمسجد والحرم بدون هتكهم ، وفي زيادة الاعتداء : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } أي : بالمعونة والنصر والحفظ والتأييد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ 195 ]
{ وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أمر بالإنفاق في سائر وجوه القربات والطاعات . ومن أهمها : صرف الأموال في قتال الأعداء ، وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم .
وقوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } أي : ما يؤدي إلى الهلاك أي : لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى الهلاك ، وذلك بالتعرض لما تستوخم عاقبته ، جهلاً به .
وقال الراغب : وللآية تأويلان بنظرين :
أحدهما : إنه نهي عن الإسراف في الإنفاق ، وعن التهور في الإقدام .
والثاني : إنه نهي عن البخل بالمال ، وعن القعود عن الجهاد . وكلا المعنيين يراد بها . فالإِنْسَاْن ، كما أنه منهي عن الإسراف في الإنفاق ، والتهور في الإقدام ، فهو منهي عن البخل والإحجام عن الجهاد ، ولهذا قال تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا } [ الفرقان : 67 ] الآية ، وقال : { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ } [ الإسراء : 29 ] الآية .
ولما كان أمر الإنفاق أخص بالأنصار الذين كانوا أهل الأموال ، لتجرد المهاجرين عنها ، وقد اشتهر في هذه الآية حديث أبي أيوب الأنصاري ، رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي وابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه وغيرهم . . . ولفظ الترمذي : عن أسلم أبي عِمْرَان قال : كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم ، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر . وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ، وعلى الجماعة فَضَالة بن عبيد . فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل عليهم ، فصاح الناس وقالوا : سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة . فقام أبو أيوب الأنصاري فقال : يا أيها الناس إنكم لتؤولون هذه الآية هذا التأويل ، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار . لما أعز الله الإسلام ، وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سراً - دون رسول الله صلى الله عليه وسلم - : إن أموالنا قد ضاعت ، وإن الله قد أعز الإسلام ، وكثر ناصروه ، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم يردّ علينا ما قلنا : { وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها ، وتركنا الغزو . فما زال أبو أيوب شاخصاً في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم ، هذا حديث حسن غريب صحيح .
أقول : إنكار أبي أيوب رضي الله عنه إما لكونه لا يقول بعموم اللفظ بل بخصوص السبب ، وإما لرد زعم أنها نزلت في القتال . أي : في حمل الواحد على جماعة العدو كما تأولوها . وهذا هو الظاهر . وإلا فاللفظ يقتضي العموم ، ووروده على السبب لا يصلح قرينة لقصره على ذلك . ولا شبهة أن التعبد إنما هو باللفظ الوارد وهو عام .
وقد استشهد بعموم الآية عَمْرو بن العاص فيما رواه ابن أبي حاتم بسنده : أن عبد الرحمن الأسود بن عبد يغوث أخبر أنهم حاصروا دمشق . فانطلق رجل من أزد نشوءة ، فأسرع إلى العدو وحده ليستقبل ، فعاب ذلك عليه المسلمون ، ورفعوا حديثه إلى عَمْرو بن العاص ، فأرسل إليه عَمْرو فرده . وقال عَمْرو : قال الله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } .
وقد روي في سبب نزولها آثار ضعيفة ساقها ابن كثير وهي - والله أعلم - من باب صدق عمومها على ما رووه .
تنبيه :
قال الحاكم : تدل الآية على جواز الهزيمة في الجهاد إذا خيف على النفس ، وتدل على جواز ترك الأمر بالمعروف إذا خاف ، لأن كل ذلك إلقاء النفس إلى التهلكة . وتدل على جواز مصالحة الكفار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين . كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية . وكما فعله أمير المؤمنين عليّ عليه السلام بصفين . وكما فعله الحسن عليه السلام من مصالحة معاوية . وتدل أيضاً على جواز مصالحة الإمام بشيء من أموال الناس إذا خشي التهلكة . ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يصالح يوم الأحزاب بثلث ثمار المدينة حتى شاور سعد بن معاذ وسعد بن عُبَاْدَة ، فأشارا بترك ذلك . وهو لا يعزم إلا على ما يجوز .
لطيفة :
الإلقاء لغة : طرح الشيء ، عُدِّي بإلى لتضمن معنى الانتهاء ، والباء مزيدة في المفعول لتأكيد معنى النهي . والمراد بالأيدي : الأنفس ، فذكر الجزء وإرادة الكل لمزيد اختصاص لها باليد . بناء على أن أكثر ظهور أفعال النفس بها . والتهلكة والهلاك والهلك واحد . فهي مصدر . أي : لا توقعوا أنفسكم في الهلاك .
والتهلكة بضم اللام . قال الخارزنجي : لا أعلم في كلام العرب مصدراً على تفعلة - بضم العين - إلا هذا .
وقال اليزيدي : هو من نوادر المصادر . ولا يجري على القياس .
قال الزمخشري : ويجوز أن يقال : أصلها التهلكة كالتجربة والتبصرة ونحوهما . على أنها مصدر من هلك . فأبدلت من الكسرة ضمة ، كما جاء الجوار في الجوار هذا ما ذكروه .
قال الفخر الرازي - ولله دره - بعد نقله نحو ما سبق : وإني لأتعجب كثيراً من تكلفات هؤلاء النحويين في أمثال هذه المواضع ، وذلك أنهم لو وجدوا شعراً مجهولاً يشهد لما أرادوه فرحوا به واتخذوه حجة قوية . فورود هذا اللفظ في كلام الله تعالى ، المشهود له من الموافق والمخالف بالفصاحة - أولى أن يدلّ على صحة هذه اللفظة واستقامتها .
{ وَأَحْسِنُوَاْ } أي : تحرّوا فعل الإحسان ، أي : الإتيان بكل ما هو حسن ، ومن أجلِّه الإنفاق . وقوله : { إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } قال الراغب : نبّه بإظهار المحبة للمحسنين على شرف منزلتهم وفضيلة أفعالهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ 196 ]
.
{ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } أي : أدوهما تامين بمناسكهما المشروعة لوجه الله تعالى .
قال الراغب : قيل : { أَتِمُّواْ } خطاب لمن خرج حاجاً أو معتمراً ، فأمر أن لا يصرف وجهه حتى يتمهما . وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله ، واحتج به في وجوب إتمام كل عبادة دخل فيها الإِنْسَاْن متنفلاً ، وأنه متى أفسدها وجب قضاؤها . وقيل : إنه خطاب لهم ولمن لم يتلبس بالعبادة . وذكر لفظ الإتمام تنبيه على توفية حقها وإكمال شرائطها ، وعلى هذا قوله تعالى : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } [ البقرة : 187 ] وإلى هذا ذهب الشافعي رحمه الله واحتج به في وجوب العمرة . وإنما قال في الحج والعمرة : { لله } ولم يقل ذلك في الصلاة والزكاة ؛ من أجل أنهم كانوا يتقربون ببعض أفعال الحج والعمرة إلى أصنامهم ، فخصهما بالذكر لله تعالى حثاً على الإخلاص فيهما ، ومجانبة ذلك الاعتقاد المحظور .
{ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } أي : حبسكم عدو عن إتمام الحجج أو العمرة وأردتم التحلل : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } أي : فعليكم ، أو فالواجب ، أو فأهدوا ما استيسر ؛ يقال : يسُر الأمر واستيسر ، كما يقال : صعب واستصعب . والهدي بتخفيف الياء وتشديدها : جمع هدْية وهديّة ، وهو : ما أهدي إلى مكة من النعم لينحر تقرباً به إلى الله . قال ثعلب : الهدي بالتخفيف ، لغة أهل الحجاز . والتثقيل على فعيل ، لغة بني تميم ، وسفلى قيس . وقد قرئ بالوجهين جميعاً في الآية . وشاهد الهديّ مثقلاً من كلامهم قول الفرزدق :
~حَلَفتُ بربِّ مكة والمصَلَّى وَأَعنَاقِ الهديِّ مقلّدَاتِ
وشاهد الهدية كذلك ، قول ساعدة بن جؤيّة :
~إني وأيديهم وكل هدية مما تثج له ترائب تثعب .
وأعلى الهدي بدنة ، وأدناه شاة . والمعنى : أن المحرم إذا أُحصر وأراد أن يتحلل ، تحلل بذبح هدي تيسر عليه : من بدنة أو بقرة أو شاة .
تنبيه :
قال الراغب : ظاهر قوله تعالى : { أُحْصِرْتُمْ } أنه لا فرق فيه بين أن يحصر بمكة أو بغيرها ، وبعد عرفة أو قبلها . وكذلك لا فرق في الظاهر بين أن يحصره عدو مسلم أو غيره . وظاهره يقتضي أنه لا فصل بين إحصار العدو وإحصار المرض . لولا أن الآية نزلت في سبب العدو فلا يجوز أن تتعدى إلا بدلالة . ولأن قوله : { فَإِذَا أَمِنْتُمْ } يدل على أن ا لمراد بالإحصار هو بالعدو .
وقد يقال : العبرة في أمثاله بعمومه ، كما ذهب إليه ثلة من السلف . فقد روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود ، وابن الزبير ، وعلقمة ، وسعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، ومجاهد ، والنخعي ، وعطاء ، ومقاتل أنهم قالوا : الإحصار من عدو أو مرض أو كسر . وقال الثوري : الإحصار من كل شيء أذاه .
وثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب فقالت : يا رسول الله ! إني أريد الحج وأنا شاكية . فقال : < حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني > . ورواه مسلم عن ابن عباس بمثله .
ومن دلالة الآية ما قاله الراغب : إن ظاهرها يقتضي أن لا قضاء على المحصر ؛ لأنه قال : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } واقتصر عليه .
{ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } أي : الموضع الذي يحلّ فيه نحره ، وهو مكانه الذي يستقر فيه . يعني : موضع الإحصار . وبلوغه إياه كناية عن ذبحه فيه ، واستعمال بلوغ الشيء محله في وصوله إلى ما يقصد منه - شائع . ولما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية ، وحصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم ، حلقوا وذبحوا هديهم بها ولم يبعثوا به إلى الحرم .
وقد ساق الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " بعض ما في قصة الحديبية من القواعد الفقهية في فصل قال فيه : ومنها أن المحصر ينحر هديه حيث أحصر من الحلّ أو الحرم ، وأنه لا يجب عليه أن يواعد من ينحره في الحرم إذا لم يصل إليه ، وأنه لا يتحلل حتى يصل إلى محله ، بدليل قوله تعالى : { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } [ الفتح : 25 ] . ومنها : أن الموضع الذي نحر فيه الهدي كان من الحل لا من الحرم ، لأن الحرم كله محل الهدي .
وقال الإمام مالك في " الموطأ " : من حبس بعدوّ فجال بينه وبين البيت ، فإنه يحل من كل شيء وينحر هديه ، ويحلق رأسه حيث حبس ، وليس عليه قضاء .
قال : فهذا الأمر عندنا فيمن أحصر بعدو ، كما أحصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
{ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } أي : فمن كان منكم - معشر المحرمين - مريضاً مرضاً يتضرر معه بالشعر ويحوجه إلى الحلق ، أو كان به أذى من رأسه - كجراحة وقمل - فعليه إن حلق ، فدية من صيام أو صدقة أو نسك . وقد نزلت هذه الآية في كعب بن عجرة الأنصاري رضي الله عنه قال : حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي ، فقال : < ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ بك هذا . . ! أما تجد شاة ؟ > قلت : لا ! قال : < صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك > . فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة ، رواه الشيخان وغيرهما ، واللفظ للبخاري . وروى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ونحن محرمون ، وقد حصرنا المشركون ، وكانت لي وفرة ، فجعلت الهوام تساقط على وجهي . فمرّ علي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : < أيؤذيك هوام رأسك ؟ > قلت : نعم . فأمره أن يحلق . قال : ونزلت هذه الآية . قال ابن عباس : إذا كان " أو أو " فأيّة أخذت أجزأ عنك . وعامة العلماء : أنه يخيّر في هذا المقام : إن شاء صام وإن شاء تصدق بفرق - وهو ثلاثة أصع ، لكل مسكين نصف صاع وهو مدان - وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على الفقراء ، أي : ذلك فعل أجزأه . ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة ، جاء بالأسهل فالأسهل . ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة ، بذلك أرشده أولاً إلى الأفضل ، فقال : < أما تجد شاة ؟ > فكل حسن في مقامه ، ولله الحمد والمنة . أفاده ابن كثير .
تنبيه :
استفيد من الآية أحكام :
الأول : جواز الحلق من المحرم واللبس للمخيط للضرورة ، ووجوب الفدية عليه ، وذلك لبيان سبب النزول .
الثاني : تحريم الحلق ولبس المخيط لغير عذر ، وهذا مأخوذ من المفهوم ؛ لأنه مصرح به ، وذلك إجماع .
الثالث : أن الفدية الواجبة تكون من أجناس الثلاثة ، وهي : الصيام أو الصدقة ، أو النسك ، وقد ورد بيانها في حديث كعب .
الرابع : أن الفدية واجبة على التخيير كما بيَّنا .
قال الراغب : وظاهر الآية يقتضي أنه لا فرق بين قليل الشعر وكثيره ، بخلاف ما قال أبو حنيفة رحمه الله ، حيث لم يلزم إلا بحلق الثلث . وغيره لم يلزم إلا بحلق الربع .
لطيفة :
أصل النسك العبادة ، وسميت ذبيحة الأنعام نسكاً ؛ لأنها من أشرف العبادات التي يتقرب بها إلى الله تعالى .
قال أبو البقاء : والنسك - في الأصل - مصدر بمعنى المفعول ؛ لأنه من نسك ينسك ، والمراد به ههنا المنسوك ، ويجوز أن يكون اسماً لا مصدراً ، ويجوز تسكين السين . انتهى .
{ فَإِذَا أَمِنتُمْ } أي : كنتم آمنين من أول الأمر ، أو صرتم بعد الإحصار آمنين : { فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ } أي : بإحرامه بها في أشهر الحج ليستفيد الحلّ حين وصوله إلى البيت ، ويستمر حلالاً في سفره ذلك : { إِلَى الْحَجِّ } أي : إلى وقت الإحرام بالحج : { فَمَا } أي : فعليه ما : { اسْتَيْسَرَ } أي : تيسّر : { مِنَ الْهَدْيِ } من النعم ، يكون هذا الهدي لأجل ما تمتع به بين النسكين من الحل .
وفي " النهاية " صورة التمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ، فإذا أحرم بالعمرة بعد إهلاله شوالاً فقد صار متمتعاً بالعمرة إلى الحج وسمي به ؛ لأنه إذا قدم مكة ، وطاف بالبيت ، وسعى بين الصفا والمروة . حل من عمرته وحلق رأسه ، وذبح نسكه الواجب عليه لتمتعه ، وحل له كل شيء كان حرم عليه في إحرامه من النساء والطيب ، ثم ينشئ بعد ذلك إحراماً جديداً للحج وقت نهوضه إلى منى ، أو قبل ذلك ، من غير أن يجب عليه الرجوع إلى الميقات الذي أنشأ منه عمرته ، فذلك تمتعه بالعمرة إلى الحج ، أي : انتفاعه وتبلغه بما انتفع به من حلق ، وطيب ، وتنظف ، وقضاء تفث ، وإلمامٍ بأهله إن كانت معه .
قال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " : وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ذبح هدي العمرة عند المروة ، وهدي القران بمنى . وكذلك كان ابن عمر يفعل . ولم ينحر صلى الله عليه وسلم قط إلا بعد أن حل ، ولم ينحره قبل يوم النحر ولا أحد من الصحابة البتة .
{ فَمَن لَّمْ يَجِدْ } الهدي : { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } أي : بعد الإحرام وقبل الفراغ من أعماله ، والأولى سادس ذي الحجة وسابعه وثامنه .
قال الراغب إن قيل : كيف قال : { فِي الْحَجِّ } ومتى أحرم يوم عرفة لا يمكنه صيام ثلاثة أيام في الحج لأنه منهيّ عنه في يوم النحر وأيام التشريق ؟ ! قيل : الواجب على المتمتع أن يحرم بالحج على وجه يمكنه الإتيان بالصيام لثلاثة أيام . وذلك بتقديم الإحرام قبل يوم عرفة . وقد قال ابن عمر وعائشة : يصوم أيام التشريق ، ويحملان النهي على صوم أيام منى على غير المتمتع .
{ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } أي : إلى أهليكم ، أو إذا أخذتم في الرجوع بعد الفراغ من أعمال الحج .
قال الراغب : وإطلاق اللفظ يحتمل الأمرين جميعاً ، فيصح حمله عليهما .
إلا أن الذي يرجع الوجه الأول ما روي في الصحيحين من حديث بن عُمَر الطويل وفيه : < فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله > .
{ تِلْكَ عَشَرَةٌ } فذلك حساب ، أي : إجمال بعد تفصيل ، وفائدتها : أن لا يتوهم أن الواو بمعنى أو وأن الكلام على التخيير . بل المجموع بدل الهدي . . ! وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلاً ، فيحاط به من وجهين فيتأكد العلم ، وفي المثل : علمان خير من علم . فإن أكثر العرب لا يعرف الحساب . فاللائق الخطاب الذي يفهمه الخاص والعام . وهو ما يكون بتكرار الكلام وزيادة الإفهام...
وفائدة ثالثة : وهو أن المراد بالسبعة : هو العدد دون الكثرة فإنه يطلق لهما...
وفائدة رابعة : أشار لها الراغب وهو :
إن قوله : { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } استطراد في الكلام ، وتنبيه على فضيلة علم العدد ، ولذا قيل : العدد أول العلوم وأشرفها . أما أنه أول ، فلأن ما عداه معدول منه ، وبه يفصل ويميز . وأما كونه أشرف ، فلأنه لا اختلاف فيه ولا تغير ، بل هو لازم طريقة واحدة ، فذكر العشرة ووصفها بالكاملة ؛ إذ هي عدد كمل فيه خواص الأعداد ، فإن الواحد مبدأ العدد ، والاثنين أول العدد ، والثلاثة أول عدد فرد ، والأربعة أول عدد زوج محدود - أي : مجتمع من ضرب عدد في نفسه - والخمسة أول عدد دائر ، والستة أول عدد نام - أي : إذا أخذ جميع أجزائه لم يزد عليه ولم ينقص منه - والسبعة أول عدد أول - أي : لا يتقدمه عدد بعده - والثمانية أول عدد زوج الزوج - والتسعة أول عدد مثلث ، والعشرة أول عدد ينتهي إليه العدد ؛ لأن ما بعده يكون مكرراً بما قبله ، فإذن العشرة هي العدد الكامل...
{ كَامِلَةٌ } صفة مؤكدة لعشرة تفيد المبالغة في المحافظة على العدد ، ففيه زيادة توصية لصيامها ، وأن لا يتهاون بها ، ولا ينقص من عددها ، كأنها قيل : تلك عشرة كاملة ، فراعوا كمالها ولا تنقصوها { ذَلِكَ } أي : وجوب دم التمتع أو بدله لمن لم يجد : { ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أي : بل كان أهلله على مسافة الغيبة منه . وأما من كان أهله حاضريه - بأن يكون ساكناً في مكة - فهو في حكم القرب من الله ، فالله تعالى يجبره بفضله .
هذا ، وقال بعض المجتهدين : إن ذلك إشارة إلى التمتع المفهوم من قوله : { فَمَنْ تَمَتَّعَ } وليست للهدي والصوم ، فلا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عنده .
وروى ابن جرير عن قتادة قال : ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول : يا أهل مكة ! لا متعة لكم أحلت لأهل الآفاق وحرمت عليكم ، إنما يقطع أحدكم وادياً أو قال : يجعل بينه وبين الحرم وادياً - ثم يهل بعمرة . . !
وروى عبد الرزاق عن طاووس قال : المتعة للناس لا لأهل مكة . ثم قال وبلغني عن ابن عباس مثل قول طاووس ، والله أعلم .
والأهل : سكن المرء من زوج ومستوطن . والحضور : ملازمة الموطن .
{ وَاتَّقُواْ اللّهَ } - في الجناية على إحرامه - : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } لمن جنى على إحرامه أكثر من شدة الملوك على من أساء الأدب بحضرته . وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة .
تنبيهات :
الأول : في قوله تعالى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ } الآية ، دليل على مشروعية التمتع ، كما جاء في الصحيحين عن عِمْرَان بن حصين قال : أنزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم ينزل قرآن يحرمه ، ولم ينه عنها حتى مات ، قال رجل برأيه ما شاء .
وروى مالك في " الموطأ " عن عبد الله عن عمر أنه قال : والله ! لأن اعتمر قبل الحج وأهدي أحب إلي من أن أعتمر بعد الحج في ذي الحجة . . ! .
وفي الصحيحين : < لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عَمْرة > . يعني كما فعل أصحابه صلى الله عليه وسلم عن أمره .
الثاني : قال ابن القيم في " زاد ا لمعاد " : قد أثبت أن التمتع أفضل من الإفراد لوجوه كثيرة :
منها : أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بفسخ الحج إليه ، ومحال أن ينقله من الفاضل إلى المفضول الذي هو دونه .
ومنها : أنه تأسف على كونه لم يفعله بقوله : < لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها متعة > .
ومنها : أنه أمر به كل من لم يسق الهدي .
ومنها : أن الحج الذي استقر عليه فعله وفعل أصحابه ، القران ممن ساق الهدي ، والتمتع لمن لم يسق الهدي . ولوجوه كثيرة غير هذه . . ! .
الثالث : قال الراغب لا يجب الدم أو بدله في التمتع إلا بأربع شرائط :
إيقاع العمرة في أشهر الحج والتحلل منها فيه .
والثاني : أن يثني الحج من سنته .
والثالث : أن لا يرجع إلى الميقات لإنشاء الحج .
الرابع : أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ } [ 197 ]
.
{ الْحَجُّ } أي : أوقات أعمال { أَشْهُرٌ } وهي : شوال وذو القعدة وذو الحجة . أي : عشره الأول . نزل منزلة الكل لغاية فضله .
قال الثعالبي : وقد جاء في تفسير أشهر الحج وعشر ذي الحجة - وفي بعضها تسع - فمن عبر بالتسع أراد الأيام ، ومن عبر بالعشر أراد الليالي ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : < الحج عرفة > . وقد تبينت أنه يفوت الوقوف بطلوع الفجر .
وقوله : { مَعْلُومَاتٌ } أي : قبل نزول الشرع عند الناس ، لا يشكلن عليهم . وآذن هذا أن الأمر بعد الشرع على ما كان عليه : { فَمَن فَرَضَ } أي : أوجب على نفسه : { فِيهِنَّ الْحَجَّ } بإحرامه : { فَلاَ رَفَثَ } أي : فمقتضى إحرامه أن لا يوجد جماع ولا مقدماته ولا فحش من القول : { وَلاَ فُسُوقَ } أي : خروج عن حدود الشريعة بارتكاب محظورات الإحرام ، وغيرها كالسباب والتنابز بالألقاب : { وَلاَ جِدَالَ } أي : مماراة أحد من الرفقة والخدم والمكارين : { فِي الْحَجِّ } أي : في أيامه ، بل ينبغي أن يوجد فيها كل خير من خيرات الحج ، والإظهار في مقام الإضمار لإظهار كمال الاعتناء بشأنه ، والإشعار بعلة عدم الحكم ؛ فإن زيارة البيت المعظم ، والتقرب بها إلى الله عز وجل ، من موجبات ترك الأمور المذكورة ، وإيثار النفي للمبالغة في النهي ؛ والدلالة على أن ذلك حقيق بأن لا يكون ، فإن ما كان منكراً مستقبحاً في نفسه ، ففي تضاعيف الحج أقبح : كلبس الحرير في الصلاة .
لطيفة :
قال بعضهم : النكتة في منع هذه الأشياء على أنها آداب لسانية : تعظيم شأن الحرم ، وتغليظ أمر الإثم فيه ، إذ الأعمال تختلف باختلاف الزمان والمكان ، فللملأ آداب غير آداب الخلوة مع الأهل . ويقال في مجلس الإخوان ما لا يقال في مجلس السلطان . ويجب أن يكون المرء في أوقات العبادة والحضور مع الله تعالى على أكمل الآداب ، وأفضل الأحوال ، وناهيك بالحضور في البيت الذي نسبه الله سبحانه إليه . . ! وأما السر فيها على أنها محرمات الإحرام ، فهو أن يتمثل الحاج أنه بزيارته لبيت الله تعالى مقبل على الله تعالى ، قاصدٌ له ، فيتجرد عن عاداته ونعيمه ، وينسلخ من مفاخره ومميزاته على غيره ، بحيث يساوي الغني الفقير ، ويماثل الصعلوك الأمير ، فيكون الناس من جميع الطبقات في زي كزي الأموات ، وفي ذلك - من تصفية النفس ، وتهذيبها ، وإشعارها بحقيقة العبودية لله ، والأخوة للناس - ما لا يقدر قدره ، وإن كان لا يخفى أمره...
{ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ } حث على الخير عقيب النهي عن الشر ، وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن ، ومكان الفسوق البر والتقوى ، ومكان الجدال الوفاق والأخلاق الجميلة . . ! وقد روي فيمن حج ولم يرفث ولم يفسق أنه يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ! وذلك ، لأن الإقبال على الله تعالى بتلك الهيئة ، والتقلب في تلك المناسك على الوجه المشروع ، يمحو من النفوس آثار الذنوب وظلمتها . ويدخلها في حياة جديدة : لها فيها ما كسبت ، وعليها ما اكتسبت . . ! : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } وروى البخاري عن عِكْرِمَة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون : نحن المتوكلون ! فإذا قدموا مكة سألوا الناس ، فأنزل الله تعالى : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } .
أي : وتزودوا ما تتبلغون به وتكفون به وجوهكم عن الناس ، واتقوا الاستطعام وإبرام الناس والتثقيل عليهم : { فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } : أي : الاتقاء عن الإبرام والتثقيل عليهم . . ! .
وقال ابن عمر : إن من كرم الرجل طيب زاده في السفر . وكان يشترط على من صحبه الجودة . . نقله ابن كثير .
ويقال : في معنى الآية : وتزودوا من التقوى للمعاد . فإن الإِنْسَاْن لا بد له من سفر في الدنيا ، ولا بد فيه من زاد ، ويحتاج فيه إلى الطعام والشراب والمركب ؛ وسفر من الدنيا إلى الآخرة ، ولا بد فيه من زاد أيضاً وهو تقوى الله ، والعمل بطاعته ، واتقاء المحظورات . . ! وهذا الزاد أفضل من الزاد الأولى ، فإن زاد الدنيا يوصل إلى مراد النفس وشهواتها ، وزاد الآخرة يوصل إلى النعيم المقيم في الآخرة . . ! وفي هذا المعنى قال الأعشى :
~إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت مَن قد تزودا
~ندمت على أن لا تكون كمثله وأنك لم تُرصِد لما كان أرصدا . . !
وثمة وجه آخر : وهو أن قوله تعالى : { وَتَزَوَّدُوا } أمر باتخاذ الزاد ، هو طعام السفر ، وقوله : { فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } إرشاد إلى زاد الآخرة ، وهو استصحاب التقوى إليها بعد الأمر بالزاد للسفر في الدنيا ، كما قال تعالى : { وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } [ الأعراف : 26 ] ، لما ذكر اللباس الحسي منه مرشداً إلى اللباس المعنوي وهو الخشوع والطاعة ، وذكر أنه خير من هذا وأنفع .
{ وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ } أي : اتقوا عقابي وعذابي في مخالفتي وعصياني يا ذوي العقول والأفهام ! فإن قضية اللب تقوى الله ، ومن لم يتقه من الألباء فكأنه لا لبّ له . . ! كما قال تعالى : { أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ } [ الأعراف : 179 ] .
وقد قرئ بإثبات الياء في : { اتَّقُونِ } على الأصل ، وبحذفها للتخفيف ودلالة الكسرة عليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ } [ 198 ]
.
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } قال الراغب : كانت العرب تتحاشى من التجارة في الحج ، حتى إنهم كانوا يتجنبون المبايعة إذا دخل العشر ، وحتى سموا من تولى متجراً في الحج : الداج دون الحاج ؛ فأباح الله ذلك ، وعلى إباحة ذلك ، دل قوله : { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ } - إلى قوله - : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } [ الحج : 27 ] ، وقوله : { وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } [ المزمل : 20 ] .
وقد روى البخاري عن ابن عباس قال : كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } في مواسم الحج .
ففي الآية الترخيص لمن حج في التجارة ونحوها من الأعمال التي يحصل بها شيء من الرزق - وهو المراد بالفضل هنا - ومنه قوله تعالى : { فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } [ الجمعة : 10 ] . أي : لا إثم عليكم في أن تبتغوا في مواسم الحج رزقاً ونفعاً وهو الربح في التجارة مع سفركم لتأدية ما افترضه عليكم من الحج . . ! : { فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ } - أي : دفعتم منها - : { فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } أي : بالتلبية ، والتهليل ، والتكبير ، والثناء والدعوات و " المشعر الحرام " : موضع بالمزدلفة . ميمه مفتوحة وقد تكسر ، وقد وهم من ظنه جبيلا بها . سمي به لأنه معلم للعبادة وموضع لها - كذا في القاموس وشرحه .
ونقل الفخر عن الواحدي في " البسيط " : إن المشعر الحرام هو المزدلفة . سماها الله تعالى بذلك ، لأن الصلاة والمقام والمبيت به ، والدعاء عنده . واستقر به الفخر قال : لأن الفاء في قوله : { فَاذْكُرُوا اللَّهَ } إلخ تدل على أن الذكر عند المشعر الحرام يحصل عقيب الإفاضة من عرفات ، وما ذاك إلا بالبيتوتة بالمزدلفة . انتهى .
قال البيضاوي : ويؤيد الأول ما روى جابر : أنه صلى الله عليه وسلم لما صلى الفجر - يعني بالمزدلفة بغلس - ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام . أي : فإنه يدل على تغاير المزدلفة ، والمشعر الحرام لمكان مسيره صلى الله عليه وسلم منها إلى المشعر الحرام ! وإنما قال : يؤيد لأنه يجوز أن يؤول المشعر الحرام في الحديث بالجبل ، إما بحذف المضاف ، أو بتسمية الجزء باسم الكل - أفاده السيلكوتي .
قال ابن القيم في " زاد المعاد " في سياق حجته صلى الله عليه وسلم : فلما غربت الشمس واستحكم غروبها أفاض من عرفة بالسكينة من طريق المأزمين ، ثم جعل يسير العنق - وهو ضرب من السير ليس بالسريع ولا البطيء - فإذا وجد فجوة - وهو المتسع - نص سيره - أي : رفعه فوق ذلك - وكان يلبي في مسيره ذلك لا يقطع التلبية ، حتى أتى المزدلفة فتوضأ ، ثم أمر المؤذن بالأذان فأذّن ، ثم أقام فصلى المغرب قبل حط الرحال وتبريك الجمال ؛ فلما حطوا رحالهم أمر فأقيمت الصلاة ، ثم صلى العشاء الآخرة بإقامة بلا أذان ، ولم يصلّ بينهما شيئاً ، فلما طلع الفجر صلاها في أول الوقت ، ثم ركب حتى أتى موقفه عند المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة وأخذ في الدعاء والتضرع والتكبير والتهليل والذكر حتى أسفر جداً ، وذلك قبل طلوع الشمس . انتهى المقصود منه .
قال بعض الأئمة : ما أحق الذكر عند المشعر الحرام بأن يكون واجباً أو نسكاً لأنه مع كونه مفعولاً له صلى الله عليه وسلم ، ومندرجاً تحت قوله : < خذوا عني مناسككم > فيه أيضاً النص القرآني بصيغة الأمر { فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } .
{ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ } بدلائل الكتاب ، أي : اذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة ! فمفاد التشبيه : التسوية في الحسن والكمال ، كما تقول : اخدمه كما أكرمك ، يعني : لا تتقاصر خدمتك عن إكرامه . وفيه تنبيه لهم على ما أنعم الله به عليهم من الهداية والبيان والإرشاد إلى مشاعر الحج ! : { وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ } أي : من قبل الهدى : { لَمِنَ الضَّآلِّينَ } الجاهلين بالإيمان والطاعة . و " إن " هي المخففة ، و " اللام " هي الفارقة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 199 ]
.
{ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } أي : من عرفة لا من المزدلفة . وفي الخطاب وجهان :
أحدهما : أنه لقريش . وذلك لما كانوا عليه من الترفع على الناس والتعالي عليهم ، وتعظمهم عن أن يساووهم في الموقف ، وقولهم : نحن أهل الله ، وقطّان حرمه ، فلا نخرج منه . فيقفون بجمع ، وسائر الناس بعرفات .
وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنه قالت : كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ، وكانوا يسمون الحمس ، وكان سائر العرب يقفون بعرفات ؛ فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات ، ثم يقف بها ، ثم يفيض منها فذلك قوله تعالى : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } .
وثانيهما : أنه أمر لجميع الناس أن يفيضوا من حيث أفاض الناس يعني : إبراهيم عليه السلام .
قال الراغب : وسماه الناس لأن " الناس " يستعمل على ضربين : أحدهما : للنوع من غير اعتبار مدح وذم ، والثاني : المدح اعتباراً بوجود تمام الصورة المختصة بالإِنْسَاْنية ، وليس ذلك في هذه اللفظة ، بل في اسم كل جنس ونوع - نحوه : هذه فرس ، وفلان رجل ، وليس هذا بفرس ولا فلان برجل - أي : ليس فيه معناه المختص بنوعه ، وبهذا النظر نفي السمع والبصر عن الكفار ! فعلى هذا سمي إبراهيم " الناس " على سبيل المدح - وهو أن الواحد يسمى باسم الجماعة تنبيهاً على أنه يقوم مقامهم في الحكم - وعلى هذا قول الشاعر :
~وليس على الله بمستنكرٍ أن يجمع العالم في واحد
وعلى هذا قال : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [ النحل : 120 ] .
فإن قيل : ما معنى كلمة ثم فإنها تستلزم تراخي الشيء عن نفسه ، سواء عطف على مجموع الشرط والجزاء أو الجزاء فقط . . ؟
فالجواب : إن كلمة ثم ليست للتراخي ، بل مستعارة للتفاوت بين الإفاضتين - أي : الإفاضة من عرفات والإفاضة من مزدلفة- والبعد بينهما بأن أحدهما صواب والآخر خطأ .
قال التفتازاني : لما كان المقصود من قوله تعالى : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } المعنى التعريضي ، كان معناه : ثم لا تفيضوا من مزدلفة ، والمقصود من إيراد كلمة ثم التفاوت بين الإفاضتين في الرتبة بأنّ أحدهما صواب والأخرى خطأ .
وأجاب بعضهم بأن ثم بمعنى الواو .
{ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ } عما سلف من المعاصي : { إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
قال ابن كثير عليه الرحمة : كثيراً ما يأمر الله بذكره بعد قضاء العبادات . ولهذا ثبت في " صحيح مسلم " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر الله ثلاثاً وثلاثين ، وفي الصحيحين : أنه ندب إلى التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثاً وثلاثين . وقد روى ابن جرير ههنا حديث عباس بن مرداس السلمي في استغفاره صلى الله عليه وسلم لأمته عشية عرفة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } [ 200 ]
.
{ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ } أي : فرغتم من أعمال الحج ونفرتم : { فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } أي : فأكثروا ذكر الله ، وابذلوا جهدكم ي الثناء عليه ، وشرح آلائه ونعمائه ، كما تفعلون في ذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم بعد قضاء مناسككم . وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم : كان أبي يطعم ويحمل الحمالات ويحمل الديات . . ! ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم ، فأنزل هذه الآية . وفيها إشعار بتحويل القوم عما اعتادوه ، وحثّ على إفراد ذكره جل شأنه .
ثم أرشد تعالى إلى دعائه - بعد كثرة ذكره - فإنه مظنة الإجابة ، وذم من لا يسأله إلا في أمر دنياه وهو معرض على أخراه ، فقال : { فَمِنَ النَّاسِ } أي : الذين نسوا قدر الآخرة وكانت الدنيا أكبر همّهم : { مَن يَقُولُ } أي : في ذكره : { رَبَّنَا آتِنَا } أي : مرغوباتنا : { فِي الدُّنْيَا } لا نطلب غيرها : { وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } أي : نصيب وحظ لأنه استوفى نصيبه في الدنيا بتخصيص دعائه به . فالجملة إخبار منه تعالى ببيان حاله في الآخرة ؛ أو المعنى : ما له في الآخرة من طلب خلاق . فهو بيان لحاله في الدنيا ، وتصريح بما علم ضمناً من قوله : { آتِنَا فِي الدُّنْيَا } ؛ أو تأكيد لكون همّه مقصوراً على الدنيا . وقوله : { فِي الآخِرَةِ } حينئذ متعلق بـ : { خَلاَقٍ } حال منه ، وتضمن هذا الذم والتنفير عن التشبه بمن هو كذلك .
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون : اللهم ! اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن . . ! لا يذكرون من أمر الآخرة شيئاً . فنزل فيهم ذلك .
وهؤلاء الذين حكى الله عنهم - أنهم يقتصرون في الدعاء على طلب الدنيا - قال قوم : هم مشركو العرب . وكونهم لا خلاق لهم في الآخرة ظاهر ؛ إذ لا نصيب لهم فيها من كرامةٍ ونعيم وثواب . وقال قوم : هؤلاء قد يكونون مؤمنين ولكنهم يسألون الله لدنياهم لا لأخراهم ، ويكون سؤالهم هذا من جملة الذنوب ، حيث سألوا الله تعالى - في أعظم المواقف وأشرف المشاهد - حطام الدنيا وعرضها الفاني ، معرضين عن سؤال النعيم الدائم في الآخرة . . ! ومعنى كونهم لا خلاق لهم في الآخرة ، أي : إلا أن يتوبوا ، أو إلا أن يعفو الله عنه ، أو لا خلاق له في الآخرة ، كخلاق من سأل المولى لآخرته ، والله أعلم . كذا يستفاد من الرازي .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [ 201 ]
.
{ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } جمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا والآخرة ، وصرفت كل شر ، فإن الحسنة في الدنيا . تشمل كل مطلوب دنيوي - من عافية ، ودار رحبة ، وزوجة حسنة ، ورزق واسع ، وعلمٍ نافع ، وعمل ٍ صالح ، ومركب هين ، وثناء جميل . . . إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين - ولا منافاة بينها - فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا . وأما الحسنة في الآخرة : فأعلى ذلك رضوان الله تعالى ودخول الجنة ، وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العَرَصَات ، وتيسير الحساب . . . وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة . وأما النجاة من النار : فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام ، وترك الشبهات والحرام .
وقد ورد في السنة الترغيب في هذا الدعاء ، فقد كان يقول صلى الله عليه وسلم كما رواه البخاري عن أنس .
وروى الإمام أحمد : يسأل قتادة أنساً : أي : دعوة كان يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم أكثر ؟ قال : كان أكثر دعوة يدعو بها يقول : < اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار > وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها ، وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه ! ورواه مسلم وهذا لفظه .
وروى الإمام الشافعي عن عبد الله بن السائب : أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين ركن بني جمح والركن الأسود : < : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } > الآية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ 202 ]
.
{ أُولَئِكَ } إشارة إلى الفريق الثاني باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت الجميلة ، وما فيه من معنى البعد ؛ لما مر مراراً من الإشارة إلى علو درجتهم ، وبعد منزلتهم في الفضل : { لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ } أي : من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة . أو من أجل ما كسبوا كقوله : { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا } [ نوح : 25 ] . أو لهم نصيب مما دعوا به نعطيهم منه في الدنيا والآخرة . وسمي الدعاء كسباً ؛ لأنه من الأعمال وهي موصوفة بالكسب : { وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } إما بمعنى سريع في الحساب كسريع في السير ، فالجملة تذييل لقوله : { أُولَئِكَ } إلخ يعني : أنه يجازيهم على قدر أعمالهم وكسبهم ولا يشغله شأن عن شأن لأنه سريع في المحاسبة ؛ أو بمعنى : سريع حسابه كحسن الوجه . فالجملة تذييل لقوله : { فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ } إلخ يعني : يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد . فبادروا إكثار الذكر وطلب الآخرة باكتساب الطاعات والحسنات .
وقال الراغب : لما كان الحساب يكشف عن جمل الشيء وتفصيله ، نبه بذلك على إحاطته بأفعال عباده ووقوفه على حقائقها . وذكر السريع تنبيهاً أن ذلك منه لا في زمان ولا بفكرة ، وذلك أبلغ ما يمكن أن يتصور به الكافة سرعة فعل الله .
تنبيه :
قال الرازي : اعلم أن الله تعالى بيّن أولاً تفصيل مناسك الحج ، ثم أمر بعدها بالذكر فقال : { فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } إلخ ، ثم بين أن الأولى أن يترك ذكر غيره وأن يقتصر على ذكره فقال : { فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ } إلخ ، ثم بين بعد ذلك الذكر كيفية الدعاء فقال : { فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ } إلخ ، وما أحسن هذا الترتيب ! فإنه لا بد من تقديم العبادة لكسر النفس وإزالة ظلماتها ، ثم بعد العبادة لا بد من الاشتغال بذكر الله تعالى لتنوير القلب وتجلي نور جلاله ، ثم بعد ذلك الذكر ، يشتغل الرجل بالدعاء ، إنما يكمل إذا كان مسبوقاً بالذكر... .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [ 203 ]
.
{ وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } هي أيام التشريق ، قاله ابن عباس رضي الله عنه . وروى الإمام مسلم عن نُبَيْشَة الهذلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله > . وقال عِكْرِمَة : معنى هذه الآية : التكبير في أيام التشريق بعد الصلوات المكتوبات : الله أكبر ! الله أكبر ! .
وروى البخاري عن ابن عمر : أنه كان يكبر بمنى تلك الأيام ، وخلف الصلوات ، وعلى فراشه ، وفي فسطاطه ، وفي مجلسه ، وفي ممشاه في تلك الأيام جميعاً . وفي رواية : أنه كان يكبر في قبته ، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتجّ منى . أخرجه البخاري تعليقاً .
ومن الذكر في هذه الأيام : التكبير مع كل حصاة من حصى الجمار كل يوم من أيام التشريق ، فقد ورد في الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم كبّر مع كل حصاة .
وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره : < إنما جعل الطواف بالبيت ، والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله عز وجل > .
وروى مالك في موطأه عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عُمَر بن الخطاب خرج الغد من يوم النحر حين ارتفاع النهار شيئاً ، فكبر ، فكبر الناس بتكبيره . ثم خرج الثانية من يومه ذلك بعد ارتفاع النهار فكبر ، فكبر الناس بتكبيره . ثم خرج الثالثة حين زاغت الشمس فكبّر ، فكبّر الناس بتكبيره حتى يتصل التكبير ويبلغ البيت فيُعلم أن عمر قد خرج يرمي .
ثم قال مالك : والتكبير في أيام التشريق على الرجال والنساء - من كان في جماعة أو وحده بمنى أو بالآفاق كلها واجب .
ثم قال : الأيام المعدودات : أيام التشريق .
وفي القاموس وشرحه : التشريق تقديد اللحم ، ومنه سميت أيام التشريق وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر ، لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها ، أي : تشرّر في الشمس - حكاه يعقوب ، وقيل : سميت بذلك لقولهم : أشرق ثبير كيما نغير ؛ أو لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس - قاله ابن الأعرابي . قال أبو عبيد : وكان أبو حنيفة يذهب بالتشريق إلى التكبير ، ولم يذهب إليه غيره .
{ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } أي : فمن تعجل النفر الأول من هذه الأيام الثلاثة ، فلم يمكث حتى يرمي في اليوم الثالث . واكتفى برمي الجمار في يومين من هذه الأيام الثلاثة ، فلا يأثم بهذا لتعجيل . وإيضاحه : أنه يجب على الحاج المبيت بمنى الليلة الأولى والثانية من ليالي أيام التشريق . ليرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرون حصاة . يرمي عند كل جمرة سبع حصيات . ثم من رمى في اليوم الثاني وأراد أن ينفر ويدع البيتوتة الليلة الثالثة ورمى يومها ، فذلك واسع له : { وَمَن تَأَخَّرَ } أي : حتى رمى في اليوم الثالث ، وهو النفر الثاني : { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } في تأخره . واعلم : السنة هو التأخر . فإنه صلى الله عليه وسلم لم يتعجل في يومين ، بل تأخر حتى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة . ولا يقال هذا الفظ - أعني : { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } إنما يقال في حق المقصر لا في حق من أتى بتمام العمل ، لأنا نقول : أتى به لمشاكلة اللفظ الأول كقوله : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ، وقوله : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 194 ] ، ونحن نعلم أن جزاء السيئة والعدوان ليس بسيئة ولا عدوان . فإذا حمل على موافقة اللفظ ما لا يصح في المعنى ؛ فلأن يحمل على موافقة اللفظ ما يصح في المعنى أولى ؛ لأن المبرور المأجور يصح في المعنى نفي الإثم عنه - قاله الواحدي .
وقال الراغب : رفع الإثم عن المتعجل والمتأخر على وجه الإباحة - أي : كناية عنها - وقيل : رفع الإثم : أنه حط ذنوبهما بإقامتهما الحج - تعجل أو تأخر - بشرط أن يكون مقياسهما الاعتبار بالتقوى ، وعلى ذلك دلّ حديث : < من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه > .
وقوله تعالى : { لِمَنِ اتَّقَى } خبر لمبتدأ محذوف ، أي : الذي ذكر - من التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر ، أو من الأحكام - لمن اتقى ، لأنه الحاج على الحقيقة والمنتفع به ، على حد : { ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ } [ الروم : 38 ] ، وقوله : { هُدىً لِلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] { وَاتَّقُواْ اللّهَ } في مجامع أموركم : { وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي : للجزاء على أعمالكم ، وهو تأكيد للأمر بالتقوى وبعثٌ على التشدد فيه ، لأن من تصور أنه لا بد من حشر ومحاسبة ومساءلة ، وأن بعد الموت لا دار إلا الجنة أو النار ؛ صار ذلك من أقوى الدواعي له إلى التقوى . والحشر : اسم يقع على ابتداء خروجهم من الأجداث إلى انتهاء الموقف .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } [ 204 ]
.
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : يعظم في نفسك حلاوة حديثه وفصاحته في أمر الحياة الدنيا التي هي مبلغ علمه : { وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } أي : يحلف بالله على الإيمان بك والمحبة لك ، وأن الذي في قلبه موافق للسانه لئلا يتفرس فيه الكفر والعداوة ، أو معناه : يظهر لك الإسلام ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق - على نحو ما وصف به أهل النفاق حيث قالوا : { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ } [ المنافقون : 1 ] وكقوله تعالى : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ } [ النساء : 108 ] الآية : { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } شديد الخصومة جدل بالباطل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ } [ 205 ]
{ وَإِذَا تَوَلَّى } : انصرف عمن خدعه بكلامه : { سَعَى } - مشى - : { فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا } بإدخال الشبه في قلوب المسلمين ، وباستخراج الحيل في تقوية الكفر ، وهذا المعنى يسمى فساداً ، كقوله تعالى حكاية عن قوم فرعون : { أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ } [ الأعراف : 127 ] . أي : يردوا قومك عن دينهم ويفسدوا عليهم شرعتهم . وسمي هذا المعنى فساداً لأنه يوقع الاختلاف بين الناس ، ويفرق كلمتهم ، ويؤدي إلى أن يتبرأ بعضهم من بعض ، فتنقطع الأرحام ، وتنسفك الدماء . وهذا كثير في القرآن المجيد { وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ } أي : الزرع : { وَالنَّسْلَ } أي : المواشي الناتجة .
قال بعض المحققين : وإن إهلاك الحرث والنسل كناية عن الإيذاء الشديد ، وإن التعبير به عن ذلك صار من قبيل المثل ؛ فالمعنى : يؤذي مسترسلاً في إفساده ولو أدى إلى إهلاك الحرث والنسل .
{ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } أي : لا يرضى فعله .
قال الراغب : إن قيل : كيف حكم تعالى بأنه لا يحب الفساد وهو مفسد للأشياء ؟ قيل : الإفساد في الحقيقة : إخراج الشيء عن حالة محمودة لا لغرض صحيح ، وذلك غير موجود في فعل الله تعالى ، ولا هو آمر به ، ولا محب له ، وما يُرى من فعله ، ويظهر بظاهره فساداً ، فهو بالإضافة إلينا واعتبارنا له كذلك . فأما بالنظر الإلهي فكله صلاح ، ولهذا قال بعض الحكماء : يا من إفساده إصلاح ! أي : ما نظنه إفساداً ؛ لقصور نظرنا ومعرفتنا - فهو في الحقيقة إصلاح . وجملة الأمر : إن الْإِنْسَاْن هو زبدة هذا العالم وما سواه مخلوق لأجله ، ولهذا قال تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ } [ البقرة : 29 ] . والمقصد من الْإِنْسَاْن سوقه إلى كماله الذي رسخ له . فإذن : إهلاك ما أمر بإهلاكه ، لإصلاح الْإِنْسَاْن وما منه أسباب حياته الأبدية . ولشرح هذه الجملة موضع آخر . . . .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } [ 206 ]
.
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ } على نهج العظة : { اتَّقِ اللّهَ } في النفاق ، واحذر سوء عاقبته . أو في الإفساد والإهلاك وفي اللجاج بالباطل : { أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ } أي : حملته الأنفة وحميّة الجاهلية على الفعل بالإثم وهو التكبر ؛ أو المعنى : أخذته الحمية للإثم الذي في قلبه فمنعته عن قبول قول الناصح : { فَحَسْبُهُ } أي : كافيه : { جَهَنَّمُ } إذا صار إليها واستقر فيها جزاء وعذاباً : { وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } أي : الفراش الذي يستقر عليه بدل فرش عزته .
قال الراغب : المهد معروف ، وتصور منه التوطئة ، فقيل لكل وطيء مهد . والمهاد يجعل تارة جمعاً للمهد ، وتارة للآلة نحو فراش . وجعل جهنم مهاداً لهم كما جعل العذاب مبشراً به في قوله : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عِمْرَان : 21 ] .
وقال الحاكم : هذه الآية تدل على أن من أكبر الذنوب عند الله أن يقال للعبد : اتق الله ! فيقول عليك نفسك... .
قال الزمخشري : ومنه ردّ قول الواعظ .
وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ الحج : 72 ] .
ولما أتم تعالى الإخبار عن هذا الفريق من الناس الضال ، أتبعه بقسيمه المهتدي . ليبعث العباد على تجنب صفات الفريق الأول ، والتخلق بنعوت الثاني فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ } [ 207 ]
.
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ } أي : يبيعها ببذلها في طاعة الله : { ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ } أي : طلب رضاه : { وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ } حيث أرشدهم لما فيه رضاه ، وأسبغ عليهم نعمة ظاهرة وباطنة ، مع كفرهم به ، وتقصيرهم في أمره .
لطيفة :
قال بعضهم : كان مقتضى المقابلة للفريق الأول أن يوصف هذا الفريق بالعمل الصالح مع عدم الدعوى والتبجح بالقول ، أو مع مطابقة قوله لعمله ، وموافقة لسانه لما في جنانه ! والآية تضمنت هذا الوصف وإن لم تنطق به . فإن من يبيع نفسه لله ، لا يبغي ثمناً لها غير مرضاته ، لا يتحرّى إلا العمل الصالح ، وقول الحق والإخلاص في القلب ، فلا يتكلم بلسانين ، ولا يقابل الناس بوجهين ، ولا يؤثر على ما عند الله عرض الحياة الدنيا . . . وهذا هو المؤمن الذي يعتد القرآن بإيمانه . . .
وقد أخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده ، وابن أبي حاتم ورزين عن سعيد بن المسيب قال : أقبل صهيب مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فاتبعه نفر من قريش ، فنزل عن راحلته ، وانتثل ما في كنانته ثم قال : يا معشر قريش ! لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً . وأيم الله ! لا تصلون إليَّ حتى أرمي كل سهم معي في كنانتي ، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ، ثم افعلوا ما شئتم ، وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخليتم سبيلي ؟ قالوا : نعم ! فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال : < ربح البيع ، أبا يحيى ! ربح ، أبا يحيى . . . ! > ونزلت : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ } الآية .
وأخرج الحاكم في " المستدرك " نحوه من طريق ابن المسيب عن صهيب موصولاً . وأخرجه أيضاً من طريق حماد بن سلمة ، عن ثابت عن أنس . وفيه التصريح بنزول الآية ، وقال : صحيح على شرط مسلم وروي أنها نزلت في صهيب وغيره ، كما روي في نزول الأولى روايات ساقها بعض المفسرين .
ولا تنافي في ذلك ، لأن قولهم : نزلت في كذا ، تارة يراد به أن حالاً ما كان سبباً لنزولها ، بمعنى أنها ما نزلت إلا لأجله ، وهذا يعلم إما من إشعار الآية بذلك ، أو من رواية صحّ سندها صحة لا مطعن فيه . وتارة يراد به أنها نزلت بعد وقوع شأن ما تشمله بعمومها . فيقول الراوي عقيب حدوث ذلك الشأن : نزلت في كذا ، والمراد : أنها تصدق عليه لا أن ذلك الشأن كان سبباً للنزول . . . وما روي في هذه الآية من هذا القبيل .
وإلى هذا النوع أشار الزركشي في " البرهان " بقوله : قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال : نزلت هذه الآية في كذا ، فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم ، لا أن هذا كان السبب في نزولها . فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية ، لا من جنس النقل لما وقع . . . .
وقد قدمنا أن سبب النزول مما يدخله الاجتهاد . وأن لا يعول منه إلا على ما صح سنده . وما نزل عنه وارتقى عن درجة الضعف يتفقّه فيه . . فاحرص على هذا التحقيق . وقد أسلفنا في المقدمة البحث فيه مستوفى . وبالله التوفيق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ 208 ]
.
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ } - بكسر السين وفتحها مع إسكان اللام ، فيهما قراءتان سبعيتان - أي : في الإسلام . قال امرؤ القيس بن عابس :
~فلست مبدلاً بالله رباً ولا مستبدلاً بالسلم ديناً
ومثله قول أخي كندة :
~دعوت عشيرتي للسلم لما رأيتهم تولوا مدبرينا
قال الرازي : أصل هذه الكلمة من الانقياد . قال الله تعالى : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ البقرة : 131 ] . والإسلام إنما سمي إسلاماً لهذا المعنى . وغلب اسلم السلم على الصلح وترك الحرب . وهذا أيضاً راجع إلى هذا المعنى ، لأن عند الصلح ينقاد كل واحد لصاحبه ولا ينازعه فيه .
ومعنى الآية : ادخلوا في الاستسلام والطاعة ، أي : استسلموا لله وأطيعوه ولا تخرجوا عن شيء من شرائعه : { كَآفَّةً } حال من الضمير في ادخلوا : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي : طرقه التي يأمركم بها فـ : { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 169 ] و : { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ فاطر : 6 ] وضم الطاء من خطوات وإسكانها لغتان : حجازية وتميمية . وقد قرئ بهما في السبع { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ظاهر العداوة أو مظهر لها . أي : بما أخبرناكم به في أمر أبيكم آدم عليه السلام وغيره ، مما شواهده ظاهرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ 209 ]
.
{ فَإِن زَلَلْتُمْ } أي : عن الدخول في السلم : { مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ } أي : الآيات الظاهرة على أنّ ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق : { فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ } غالب لا يعجزه الانتقام ممن زل ، ولا يفوته من ضل : { حَكِيمٌ } لا ينتقم إلا بحق . وقوله : { فَاعْلَمُواْ } إلخ نهاية في الوعيد ؛ لأنه يجمع من ضروب الخوف ما لا يجمعه الوعيد بذكر العقاب . وربما قال الوالد لولده : إن عصيتني فأنت عارف بي وأنت تعلم قدرتي عليك وشدة سطوتي . فيكون هذا الكلام - في الزجر - أبلغ من ذكر الضرب وغيره . فظهر تسبب الجزاء في الآية بما أشعر به من الزجر والتهديد على الشرط المشير إلى ذنبهم وجرمهم .
هذا ، ومن الوجوه المحتملة في الآية ، أن يكون السلم المذكور فيها معناه : الصلح والمسالمة وترك المنازعة والاختلاف . فمعنى : { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ } : كونوا متوافقين ومجتمعين في نصرة الدين ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان بأن يحملكم على طلب الدنيا والمنازعة مع الناس . فتكون الآية حينئذ كقوله تعالى : { وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } [ الأنفال : 46 ] ، وقوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاًوَلا تَفَرَّقُوا } [ آل عِمْرَان : 103 ] ، وقوله : { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [ الشورى : 13 ] . والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغمام وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الامُورُ } [ 210 ]
{ هَلْ يَنظُرُونَ } أي : ينتظرون ، فـ " نظر " ك " انتظر " ، يقال : نظرته وانتظرته إذا ارتقبت حضوره . وهذا الاستفهام إنكاري في معنى النفي ؛ أي : ما ينتظرون بما يفعلون من العناد والمخالفة - في الامتثال بما أمروا به ، والانتهاء عما نهوا عنه - بعد طول الحلم عنهم : { إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ } جمع ظلّة - كقلل في جمع قلة - أي : في ظلّة داخل ظلّة - وهي ما يستر من الشمس ، فهي في غاية الإظلام والهول والمهابة لما لها من الكثافة التي تغم على الرائي ما فيها : { وَالْمَلآئِكَةُ } عطف على الاسم الجليل ، أي : ويأتي جنده الذين لا يعلم كثرتهم إلا هو . هذا على قراءة الجماعة . وعلى قراءة أبي جعفر بالخفض . فهو عطف على ظلل أو الغمام : { وَقُضِيَ الأَمْرُ } أي : أتم أمر إهلاكهم وفرغ منه . قال الراغب : نبه به على أنه لا يمكن تلافي الفارط . . . وهو عطف على : { يَأْتِيَهُمُ } داخل في حيز الانتظار . وإنما عدل إلى صيغة الماضي دلالة على تحققه ، فكأنه قد كان . أو جملة مستأنفة جيء بها إنباء عن وقوع مضمونها { وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } . أي : فمن كانوا نافذي الملك والتصرف في الدنيا ، فإن ملكهم وتصرفهم مسترد منهم يوم القيامة وراجع إليه تعالى . يقال : رجع الأمر إلى الأمير ، أي : استرد ما كان فوضه إليهم . أو عنى بـ : { الأمُورُ } الأرواح والأنفس دون الأجسام ، وسماها أموراً من حيث إنها إبداعات مشار إليها بقوله : { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر } [ الأعراف : 54 ] . فهي من الإبداع الذي لا يمكن من البشر تصوره ؛ فنبه أن الأرواح كلها مرجوعه إليه وراجعة . وعلى نحو ذلك قال : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } [ الأعراف : 29 ] . ويكون رجوعها إما بربح وغبطة ، وإما بندامة وحسرة . قاله الإمام الراغب .
قال أبو مسلم : إنه تعالى قد ملّك كل أحد في دار الاختبار والبلوى أموراً ، امتحاناً ، فإذا انقضى أمر هذه الدار ووصلنا إلى دار الثواب والعقاب كان الأمر كله لله وحده . وإذا كان كذلك فهو أهل أن يُتقى ويطاع ويدخل في السلم - كما أمر - ويحترز عن خطوات الشيطان كما نهى .
وقد قرئ في السبع ترجع بضم التاء بمعنى تُرد ، وبفتحها بمعنى تصير ، كقوله تعالى : { أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ } [ الشورى : 53 ] .
قال القفال : والمعنى في القراءتين متقارب ، لأنها ترجع إليه تعالى ، وهو سبحانه يرجعها إلى نفسه بإفناء الدنيا وإقامة القيامة .
تنبيهان :
الأول : لهذه الآية أشباه ونظائر تدل على أن هذا الوعيد أخروي .
ولذا قال ابن كثير في معنى الآية : يقول تعالى مهدداً للكافرين بمحمد صلوات الله وسلامه عليه : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمام وَالْمَلائِكَةُ } يعني : يوم القيامة لفصل القضاء بين الأولين والآخرين ، فيجزى كل عامل بعمله : إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر . . . ! ولهذا قال تعالى : { وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ } .
كما قال تعالى : { كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى } [ الفجر : 21 - 23 ] .
وقال : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } [ الأنعام : 158 ] الآية .
الثاني : وصفه تعالى نفسه بالإتيان في ظلل من الغمام كوصفه بالمجيء في آيات آخر ونحوهما مما وصف به نفسه في كتابه ، أو صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والقول في جميع ذلك من جنس واحد .
وهو مذهب سلف الأمة وأئمتها : إنهم يصفونه سبحانه بما وصف به نفسه وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل . والقول في صفاته كالقول في ذاته . والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله . فلو سأل سائل : كيف يجيء سبحانه أو كيف يأتي . . ؟ فليقل له : كيف هو في نفسه ؟ فإذا قال : لا أعلم كيفية ذاته ! فليقل له : وكذلك لا تعلم كيفية صفاته . . ! فإن العلم بكيفية الصفة يتبع من العلم بكيفية الموصوف . وقد أطلق غير واحدٍ ، ممن حكى إجماع السلف ، منهم الخطابي : مذهب السلف أن صفاته تعالى تجري على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها . وبعض الناس يقول : مذهب السلف إن الظاهر غير مراد . ويقول : أجمعنا على أن الظاهر غير مراد . وهذه العبارة خطأ إمّا لفظاً ومعنى ، أو لفظاً لا معنى ؛ لأن لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك . فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائصهم ، فلا ريب أن هذا غير مراد ؛ ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها ؛ فهذا القائل أخطأ حيث ظن أن هذا المعنى الفاسد ظاهر اللفظ ، حتى جعله محتاجاً إلى تأويل ، وحيث حكى عن السلف ما لم يريدوه . وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها . والظاهر هو المراد في الجميع ، فإن الله لما أخبر أنه بكل شيء عليم ، وأنه على كل شيء قدير ، واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا على ظاهره ، أن ظاهر ذلك مراد - كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا وقدرته كقدرتنا .
وكذلك لما اتفقوا على أنه حي عالم حقيقة ، قادر حقيقة لم يكن مرادهم أنه مثل المخلوق الذي هو حي عليم قدير . فإن كان المستمع يظن أن ظاهر الصفات تماثل صفات المخلوقين لزمه أن لا يكون شيء من ظاهر ذلك مراداً . وإن كان يعتقد أن ظاهرها ما يليق بالخالق ويختص به لم يكن له نفي هذا الظاهر ، ونفي أن يكون مراداً إلا بدليل يدل على النفي . وليس في العقل ولا السمع ما ينفي هذا إلا من جنس ما ينفي به سائر الصفات ، فيكون الكلام في الجميع واحداً .
وحينئذ فلا يجوز أن يقال : إن الظاهر غير مراد بهذا التفسير . وبالجملة ، فمن قال : إن الظاهر غير مراد - بمعنى أن صفات المخلوقين غير مرادة - قلنا له : أصبت في المعنى ولكن أخطأت في اللفظ ، وأوهمت البدعة ، وجعلت للجهمية طريقا إلى غرضهم ، وكان يمكنك أن تقول : تمر كما جاءت على ظاهرها مع العلم بأن صفات الله ليست كصفات المخلوقين ، وأنه منزه مقدس عن كل ما يلزم منه حدوثه أو نقصه . ومن قال : الظاهر غير مراد بالتفسير الثاني : وهو مراد الجهمية ومن تبعهم ؛ فقد أخطأ . وإنما أتي من أخطأ من قبل أنه يتوهم - في بعض الصفات أو في كثير منها أو أكثرها أو كلها - أنها تماثل صفات المخلوقين ، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه ، فيقع في أربعة أنواع من المحاذير :
أحدها : كونه مثّل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين ، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل .
الثاني : أنه إذا جعل ذلك هو مفهومها وعطّله ، بقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله . فيبقى مع جنايته على النصوص وظنه السيء الذي ظنه بالله ورسوله - حيث ظن أن الذي يفهم من كلامهما هو التمثيل الباطل - قد عطل ما أودع الله ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله تعالى .
الثالث : أنه ينفي تلك الصفات عن الله عز وجل بغير علم ، فيكون معطلاً لما يستحقه الرب .
الرابع : أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات - من صفات الأموات والجمادات أو صفات المعدومات - فيكون قد عطل به صفات الكمال التي يستحقها الرب ، ومثّله بالمنقوصات والمعدومات ، وعطل النصوص عما دلت عليه من الصفات ، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات ، فيجمع في كلام الله وفي الله بين التعطيل والتمثيل ، فيكون ملحداً في أسماء الله وآياته .
وحاصل الكلام : أن هذه الصفات إنما هي صفات الله سبحانه على ما يليق بجلاله نسبتها إلى ذاته المقدسة كنسبة صفات كل شيء إلى ذاته .
هذا ملخص ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه في رسالتيه " التدمرية " و " المدنية " .
قال الحافظ ابن عبد البر : أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها ، وحملها على الحقيقة لا على المجاز ؛ إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك ، ولا يحدون فيه صفة محصورة . وأما الله البدع الجهمية والمعتزلة والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة ، ويزعم أن من أقرّ بها شبّه . وهم ، عند من أقرّ بها ، نافون للمعبود . والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله ، وهم أئمة الجماعة .
وقال القاضي أبو يعلى في كتاب " إبطال التأويل " : لا يجوز رد هذه الأخبار ، ولا التشاغل بتأويلها ؛ والواجب حملها على ظاهرها ، وأنها صفات الله لا تشبه بسائر الموصوفين بها من الخلق ، ولا يعتقد التشبيه فيها .
وقال عبد الله بن المبارك : إذا نطق الكتاب بشيء قلنا به ، وإذا جاءت الآثار بشيء جسرنا عليه . واعلم أنه ليس في العقل الصحيح ولا في النقل الصريح ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية . والمخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة ، من المتأولين لهذا الباب ، في أمر مريج ، وسبحان الله ! بأي عقل يوزن الكتاب والسنة .
ورضي الله عن الإمام مالك حيث قال : أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء بهم جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، لجدل هذا ؟ وكلٍّ من هؤلاء مخصوص بمثل ما خصم به الآخر . وهو من وجوه :
أحدها : بيان أن العقل لا يحيل ذلك .
والثاني : أن النصوص الواردة لا تحتمل التأويل .
الثالث : أن عامة هذه الأمور قد علم أنّ الرسول جاء بها بالاضطرار ، كما أنه جاء بالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان . فالتأويل الذي يحيلها عن هذا بمنزلة تأويلات القرامطة والباطنية في الحج والصوم والصلاة وسائر ما جاءت به النبوات ، على أن الأساطين من هؤلاء الفحول معترفون بأن العقل لا سبيل له إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية . فإذا كان هكذا ، فالواجب تلقي علم ذلك من النبوات على ما هو عليه ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .
قال البقاعي : وتجلي الملائكة في ظلل من الغمام أمر مألوف . منه ما في الصحيح عن البراء رضي الله عنه قال : كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين ، فتغشته سحابة فجعلت تدنو وتدنو ، وجعل فرسه ينفر ، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فقال : < تلك السكينة تنزلت بالقرآن > ! .
وعن أسد بن حضير قال : بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوط عنده إذ جالت الفرس . فسكت فسكتت . فقرأ فجالت الفرس ، فسكت وسكتت الفرس ، ثم قرأ فجالت الفرس . فانصرف . وكان ابنه يحيى قريباً منها ، فأشفق أن تصيبه . فلما اجترّه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها . فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم . فقال : < اقرأ يا ابن حضير ، اقرأ يا ابن حضير > . قال : فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريباً فرفعت رأسي فانصرفت إليه . فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها . قال : < وتدري ما ذاك ؟ > قال : لا . قال : < تلك الملائكة دنت لصوتك ، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها . لا تتوارى منهم > .
وقال البقاعي أيضاً : لما كان بنو إسرائيل أعلم الناس بظهور مجد الله في الغمام لما رأى أسلافهم منه عند خروجهم من مصر وفي جبل الطور وقبة الزمان وما في ذلك - على ما نقل إليهم - من وفور الهيئة وتعاظم الجلال ، قال تعالى جواباً لمن كان قال : كيف يكون هذا ؟(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ 211 ]
{ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ } المراد بهذا السؤال : تقريع بني إسرائيل وتوبيخهم على طغيانهم وجحودهم الحق بعد وضوح الآيات ، لا أن يجيبوا فيعلم من جوابهم أمر . كما إذا أراد واحد منا توبيخ أحد ، يقول لمن حضره : سله كم أنعمت عليه ؟ أي : كم شاهدوا المعجزات الظاهرة على أيدي أنبيائهم ، القاطعة بصدقهم عليهم السلام فيما جاءوهم به : كعصا موسى ، وفلقه البحر ، وضربه الحجر ، وما كان من تظليل الغمام عليهم في شدة الحر ، ومن إنزال المنّ والسلوى ، وغير ذلك من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى وصدق من جرت على يديه هذه الخوارق . ومع هذا أعرض كثير منهم عنها ، وبدلوا نعمة الله عليهم بها كفراً كما أشعر بذلك قوله تعالى : { وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } فالمراد بنعمة الله : آياته ، فهو من وضع الظاهر موضع المضمر بغير اللفظ السابق ، لتعظيم الآيات ؛ ولا يخفى أنها من أجل أقسام نعم الله تعالى ؛ لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة . وتبديلهم إياها : استبدالهم بالإيمان بها ، الكفر بها والإعراض عنها . كما قال تعالى إخباراً عن كفار قريش : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ } [ إبراهيم : 28 - 29 ] وقوله : { مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ } أي : وصلت إليه وتمكن من معرفتها أو عرفها ، والتصريح بذلك - مع أن التبديل لا يتصور قبل المجيء - للإشعار بأنهم قد بدلوها بعد ما وقفوا على تفاصيلها ، وفيه تقبيح عظيم بهم ، ونعي على شناعة حالهم ، واستدلال على استحقاقهم العذاب الشديد حيث بدلوا ، بعد المعرفة . . ! .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ 212 ]
.
{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } حتى بدلوا النعمة : { الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } لحضورها ، فألهتهم عن غائب الآخرة .
قال الحرالي : ففي ضمنه إشعار بأن استحسان بهجة الدنيا كفر ما ، من حيث إن نظر العقل والإيمان يبصِّر طيّتها ، ويشهد جيفتها ، فلا يغتر بزينتها ، وهي آفة الخلق في انقطاعهم عن الحق ؛ فأبهم تعالى المزين في هذه الآية ليشمل أدنى التزيين الواقع على لسان الشيطان ، وأخفى التزيين الذي يكون من استدراج الله كما في قوله تعالى : { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } [ الأنعام : 108 ] .
وفي كلامه إشعار بما يجاب عن ورود التزيين ، مسنداً إلى الله تعالى تارة وإلى غيره أخرى ، في عدة آيات من التنزيل الكريم .
وللراغب كلام بديع ينحل به مثل هذا الإشكال وهو قوله :
إن الفعل كما ينسب إلى المباشر له ، ينسب إلى ما هو سببه ومسهّله ، وعلى هذا يصح أن ينسب فعلٌ واحدٌ تارة إلى الله تعالى وتارة إلى غيره ، نحو قوله : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ } [ السجدة : 11 ] ، وفي موضع آخر : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُس } [ الزمر : 42 ] . فأسند الفعل في الأول إلى المباشر له ، وفي الثاني إلى الآمر به ؛ وهكذا ، يتصور ما ذكر ، تزول الشبهة فيما يرى من الأفعال منسوباً إلى الله تعالى ، منفياً عن الله تعالى ، نحو قوله : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ } [ الأنفال : 17 ] ، وقوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } [ الأنفال : 17 ] وقوله : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } [ النساء : 79 ] .
{ وَيَسْخَرُونَ } - أي : يهزأون - : { مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ } وهذا كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } [ المطففين : 29 - 30 ] [ في المطبوع : 29 - 36 ] الآيات : { وَالَّذِينَ اتَّقَواْ } وهم المؤمنون ، وإنما ذكروا بعنوان التقوى لحضهم عليها ، وإيذاناً بترتب الحكم عليها : { فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } لأنهم في عليين وهم في أسفل سافلين ، أو لأنهم يتطاولون عليهم في الآخرة فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا ، كما قال تعالى : { فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ } [ المطففين : 34 - 35 ] [ في المطبوع : 29 - 36 ] .
ولذا قال الراغب : يحتمل قوله تعالى : { فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وجهين :
أحدهما : أن حال المؤمنين في الآخرة أعلى من حال الكفار في الدنيا .
والثاني أن المؤمنين في الآخرة هم في الغرفات ، والكفار في الدرك الأسفل من النار . انتهى .
لطائف :
قال السيلكوتي : اعلم أن قوله تعالى : { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } الخ جملة معللة لما سبق من أحوال الكفار من المنافقين وأهل الكتاب ؛ يعني أن جميع ما ذكر من صفاتهم الذميمة ، لأجل تهالكهم في محبة الحياة الدنيا وإعراضهم عن غيرها ؛ وأورد التزيين بصيغة الماضي لكونه مفروغاً منه ، مركوزاً في طبيعتهم . وعطف عليه بالفعل المضارع - أعني : { يَسْخَرُونَ } - لإفادة الاستمرار ، وعطف قوله : { وَالَّذِينَ اتَّقَوْا } لتسلية المؤمنين .
وقوله تعالى : { وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } يعني : ما يعطي الله هؤلاء المتقين من الثواب بغير حساب أي : رزقاً واسعاً رغداً لا فناء له ولا انقطاع ، كقوله سبحانه : { فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ غافر : 40 ] ؛ فإن كل ما دخل تحت الحساب والحصر والتقدير فهو متناه ، فما لا يكون متناهياً كان لا محالة خارجاً عن الحساب .
وقد استقصى الراغب : ما تحتمله الآية من وجوهها - وتلك سعة - وعبارته : أعطاه بغير حساب : إذا أعطاه أكثر مما يستحق ، أو أقلّ مما يستحق ؛ والأول هو المقصود وهو المشار إليه بالإحسان ، وقد فسر ذلك على أوجه لإجمال اللفظ وإبهامه .
الأول : يعطيه عطاء لا يحويه حصر العباد ، كقول الشاعر :
~عطاياه يُحصى قبل إحصاءها القطرُ
الثاني : يعطيه أكثر مما يستحقه .
الثالث : يعطيه ولا منّة .
الرابع : يعطيه بلا مضايقة . من قوله : حاسبه .
الخامس يعطيه أكثر مما يحسبه أن يكفيه - وكل هذه الوجوه يحتمل أن يكون في الدنيا ، ويحتمل أن يكون في الآخرة .
السادس : أن ذلك إشارة إلى توسيعه على الكفار والفساق الذين قال فيهم : { وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } [ الزخرف : 33 ] ، وتنبيهاً أن لا فضيلة في المال لمن يوسع عليه ، ما لم يستعن عليه في الوصول إلى المطلوب منه ؛ ولهذا قال تعالى : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ } [ المؤمنون : 55 ] الآية .
السابع : يعطي أولياءه بلا تبعة ولا حساب عليهم فيما يعطون ، وذلك لأن المؤمن لا يأخذ من عرض الدنيا إلا ما يجب من حيث يجب على الوجه الذي يجب ، ولا ينفقه إلا على ذلك ، فهو يحاسب فلا يحاسب ، ولهذا روي : من حاسب نفسه في الدنيا أمن الحساب في الآخرة . وعلى هذا قال تعالى لسليمان : { وهَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ ص : 39 ] .
الثامن : أن الله عز وجل يعامل في القيامة المؤمنين لا بقدر استحقاقهم بل بأكثر منه ، كما قال : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] الآية .
التاسع : وهو يقارب ذلك : أن ذلك إشارة إلى ما روي أن أهل الجنة لا حظر عليهم, وعلى ذلك قوله تعالى : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ } [ الزخرف : 71 ] الآية ، وقوله : { و يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ } الآية .
وأما تعلقه بما تقدم ، فعلى بعض هذه التفاسير ، يتعلق بالذين كفروا ، وعلى بعضه يتعلق بالذين آمنوا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ 213 ] .
{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي : وجدوا أمة واحدة تتحد مقاصدها ومطالبها ووجهتها لتصلح ولا تفسد . وتحسن ولا تسيء ، وتعدل ولا تظلم ، أي : ما وجدوا إلا ليكونوا كذلك ، كما قال في الآية الأخرى : { وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا } [ يونس : 19 ] أي : انحرفوا عن الاتحاد والاتفاق ، الذي يثمر كل خير لهم وسعادة ، إلى الاختلاف والشقاق المستتبع الفساد وهلاك الحرث والنسل ، ولما كانوا لم يخلقوا سدىً منّ الله عليهم بما يبصّرهم سبيل الرشاد في الاتحاد على الحق من بعثة الأنبياء وما نزل معهم من الكتاب الفصل ، كما أشارت تتمة الآية : { فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ } الذين رفعهم على بقية خلقه فأنبأهم بما يريد من أمره ، وأرسلهم إلى خلقه : { مُبَشِّرِينَ } لمن آمن وأطاع : { وَمُنذِرِينَ } لمن كفر وعصى : { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ } أي : كلامه الجامع لما يحتاجون إليه في باب الدين على الاستقامة والهداية التامة ؛ لكونه متلبساً : { بِالْحَقِّ } من جميع الوجوه : { لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ } من الاعتقادات والأعمال التي كانوا عليها قبل ذلك أمة واحدة ، فسلكوا بهم ، بعد جهد ، السبيل الأقوم ، ثم ضلوا على علم بعد موت الرسل ، فاختلفوا في الدين لاختلافهم في الكتاب : { وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ } أي : الكتاب الهادي الذي لا لبس فيه ، المنزل لإزالة الاختلاف : { إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ } أي : علموه فبدّلوا نعمة الله بأن أوقعوا الخلاف فيما أنزل لرفع الخلاف . ولم يكن اختلافهم لالتباس عليهم من جهته بل : { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ } أي : الدلائل الواضحة - : { بَغْياً بَيْنَهُمْ } أي : حسداً وقع بينهم : { فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ } بالكتاب : { لِمَا اخْتَلَفُواْ } أي : أهل الضلالة : { فِيهِ مِنَ الْحَقِّ } أي : للحق الذي اختلفوا فيه . وفي إبهامه أولاً ، وتفسيره ثانياً ، ما لا يخفى من التفخيم : { بِإِذْنِهِ } أي : بتيسيره ولطفه { وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } . تقرير لما سبق . وفي " صحيح مسلم " عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان - إذا قام من الليل يصلي يقول : < اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ! فاطر السماوات والأرض ! عالم الغيب والشهادة ! أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم . . . ! > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ } [ 214 ]
.
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم } أي : من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين ، أي : والحال أنه لم يأتكم مثلهم بعد ، ولم تبتلوا بما ابتلوا به من الأحوال الهائلة التي هي مَثَلٌ في الفظاعة والشدة ، سنة الله التي لا تتبدل : { مَّسَّتْهُمُ } اسستئناف وقع جواباً عما ينساق إليه الذهن ، كأنه قيل : كيف كان مثلهم ؟ فقيل : مسّتهم : { الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء } أي : الشدائد والآلام : { وَزُلْزِلُواْ } أي : أزعجوا ، مما دهمهم من الأهوال والإفراغ ، إزعاجا ًشديداً شبيهاً بالزلزلة التي تكاد تهدّ الأرض وتدك الجبال : { حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ } أي : انتهى أمرهم من الشدة إلى حيث اضطرهم الضجر إلى أن يقول الرسول - وهو أعلم الناس بشؤون الله تعالى ، وأوثقهم بنصره ، وداعيهم إلى الصبر - : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } - وهم الأثبت بعده ، العازمون على الصبر ، الموقنون بوعد النصر - : { مَتَى نَصْرُ اللّهِ } - استبطاء له ، واستطالة لمدة الشدة والعناء - فيقال لهم : { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ } . كما قال تعالى : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً } [ الشرح : 5 - 6 ] أي : فاصبروا كما صبروا تظرفوا . . ! . وقد حصل من هذا الابتلاء جانب عظيم للصحابة رضي الله عنهم يوم الأحزاب ، كما قال الله تعالى : { إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُوراً } [ الأحزاب : 10 - 12 ] الآيات .
وروى البخاري عن خَبَّاب بن الأرتّ رضي الله عنه قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة ، فقلنا : ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال : < قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها . فيجاء بالمنشار ، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ، فما يصده ذلك عن دينه . والله ! ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون > . . ! .
وفي رواية : وهو متوسد بردة ، وقد لقينا من المشركين شدة . . .
ولما سأل هرقل أبا سفيان : هل قاتلتموه ؟ قال : نعم ! قال : فكيف كانت الحرب بينكم قال : سجالاً ، يدال علينا وندال عليه . قال : كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة ! .
وهذه الآية كآية : { الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت : 1 - 3 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [ 215 ]
.
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ } أي : شيء ينفقونه من أصناف الأموال ؟ : { قُلْ مَاأَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ } قبل غيرهما ليكون أداء لحق تربيتهما مع كونه صلة الوصل وصدقة : { وَالأَقْرَبِينَ } بعدهما ليكون صلة وصدقة : { وَالْيَتَامَى } بعدهم لأن فيهم الفقر مع العجز [ في المطبوع : العجر ] : { وَالْمَسَاكِينِ } بعدهم لاحتياجهم : { وَابْنِ السَّبِيلِ } بعدهم لأنه كالفقير لغيبة ماله . فإن قيل : كيف طابق الجواب السؤال ، فإنهم سألوا عن بيان ما ينفقون ، وأجيبوا ببيان المصرف ؟ فالجواب : أن قوله : { مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ } قد تضمن بيان ما ينفقونه - وهو كل مال عدّوه خيراً - وبني الكلام على ما هو أهم ، وهو بيان المصرف ، لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها . قال الشاعر :
~إن الصنيعة لا تكون صنيعةً حتى يصاب بها طريق المصنع
~فإذا صنعت صنيعةً فاعمد بها لله أو لذوي القرابة أو دَعِ
فيكون الكلام من الأسلوب الحكيم كقوله تعالى : { يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ } [ البقرة : 189 ] . فيما تقدم هذا .
وقال القفَّال : إنه وإن كان السؤال وارداً بلفظ ما إلا أن ا لمقصود السؤال عن الكيفية ، لأنهم كانوا عالمين أن الذي أمروا به إنفاق مال يخرج قربة إلى الله تعالى . وإذا كان هذا معلوماً لم ينصرف الوهم إلى أن ذلك المال أي : شيء هو ؟ وإذا خرج هذا عن أن يكون مراداً تعين أن المطلوب بالسؤال : أن مصرفه أي : شيء هو ؟ وحينئذ يكون الجواب مطابقاً للسؤال . ونظيره قوله تعالى : { قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ } [ البقرة : 70 - 71 ] وإنما كان هذا الجواب موافقاً لذلك السؤال ، لأنه كان من المعلوم أن البقرة هي البهيمة التي شأنها وصفتها كذا . فقوله : ما هي لا يمكن حمله على طلب الماهية ، فتعين أن يكون المراد منه طلب الصفة التي بها تتميز تلك البقرة عن غيرها ، فبهذا الطريق قلنا : إن ذلك الجواب مطابق لذلك السؤال . فكذا ههنا ، لما علمنا أنهم كانوا عالمين بأن الذي أمروا بإنفاقه ما هو - وجب أن يقطع بأن مرادهم من قولهم : { مَاذَا يُنفِقُونَ } ؟ ليس هو طلب الماهية ، بل طلب المصرف ، فلهذا حسن هذا الجواب... ! .
وأجاب الراغب بجوابين :
أحدهما : أنهم سألوا عنهما وقالوا : ما ننفق ؟ وعلى من ننفق ؟ ولكن حذف حكاية السؤال ، أحدهما : إيجازاً ودل عليه بالجواب بقوله : { مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ } كأنه قيل : المنفَق الخير ، والمنفق عليهم هؤلاء ؛ فلفف أحد الجوابين في الآخر ، وهذا طريق معروف في البلاغة .
الجواب الثاني : أن السؤال ضربان : سؤال جدل ، وحقه أن يطابقه جوابه . لا زائداً عليه ولا ناقصاً عنه . وسؤال تعلم ، وحق المعلم أن يكون كالطبيب يتحرى شفاء سقيم ، فيطلب ما يشفيه - طلبه المريض أو لم يطلب . فلما كان حاجتهم إلى من ينفق المال عليهم كحاجتهم إلى ما ينفق من المال ، بين لهم الأمرين جميعاً . إن قيل : كيف خص هؤلاء النفر دون غيرهم . . ؟ قيل : إنما ذكر من ذكر على سبيل المثال لمن ينفق عليهم ، لا على سبيل الحصر والاستيعاب ، إذ أصناف المنفق عليهم على ما قد ذكر في غير هذا الموضع .
ولما بين تعالى وجه المصرف وفصّله هذا التفصيل الحسن الكامل ، أردفه بالإجمال فقال : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } أي : وكل ما فعلتموه من خير - إما مع هؤلاء المذكورين وإما مع غيرهم - حسبة لله ، وطلباً لجزيل ثوابه ، وهرباً من أليم عقابه ، فإن الله به عليم ، والعليم مبالغة في كونه عالماً ، يعني : لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء فيجازيكم أحسن الجزاء عليه ، كما قال : { أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى } [ آل عِمْرَان : 195 ] وقال : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ 216 ]
.
{ كُتِبَ } أي : فرض : { عَلَيْكُمُ الْقِتَال } أي : قتال المتعرضين لقتالكم ، كما قال : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا } [ البقرة : 190 ] ، المراد بقتالهم الجهاد فيهم بما يبيدهم أو يقهرهم ويخذلهم ويضعف قوتهم .
قال بعض الحكماء : سيف الجهاد والقتال هو آية العز ، وبه مصّرت الأمصار ، ومدّنت المدن ، وانتشرت المبادئ والمذاهب ، وأيدت الشرائع والقوانين ؛ وبه حمي الإسلام من أن تعبث به أيدي العابثين في الغابر ، وهو الذي يحميه من طمع الطامعين في الحاضر ؛ وبه امتدت سيطرة الإسلام إلى ما وراء جبال الأورال شمالاً ، وخط الاستواء جنوباً ، وجدران الصين شرقاً ، وجبال البيرنه غرباً . . !
قال : فيجب على المسلمين أن لا يتملّصوا من قول بعض الأوربيين : إن الدين الإسلامي قد انتشر بالسيف ! فإن هذا القول لا يضر جوهر الدين شيئاً ؛ فإن المنصفين من الأوربيين يعلمون أنه قام بالدعوة والإقناع ، وأن السيف لم يجرد إلا لحماية الدعوة . وإنما التملص منه يضر المسلمين ؛ لأنه يقعدهم عن نصرة الدين بالسيف ، ويقودهم إلى التخاذل والتواكل ، ويحملهم على الاعتقاد بترك الوسائل ، فيستخذون إلى الضعف كما هي حالتهم اليوم ، وتبتلعهم الأمم القوية التي جعلت شعار تمدنها : السيف أو القوة . . !
قال : يجب على المسلمين أن يدرسوا آيات الجهاد صباح مساء ، ويطيلوا النظر في قوله تعالى : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } [ الأنفال : 60 ] ، لعلهم يتخفزون إلى مجاراة الأمم القوية المجاهدة في الأمم الضعيفة . . ! .
وقوله تعالى : { وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } من الكراهة ، فوضع المصدر موضع الصوف مبالغة ، كقول الخنساء :
~فإنما هي إقبالٌ وإدبارٌ
كأنه في نفسه كراهة لفرط كراهتهم له ، أو هو فعل بمعنى مفعول - كالخبز بمعنى المخبوز - أي : وهو مكروه لكم ، وهذا الكره إنما حصل من حيث نفور الطبع عن القتال - لما فيه من مؤنة المال ، ومشقة النفس ، وخطر الروح والخوف - فلا ينافي الإيمان ؛ لأن كراهة الطبع جبلية ، لا تنافي الرضاء بما كلف به ، كالمريض الشارب للدواء البشع .
وفي القاموس وشرحه : الكره بالفتح ويضم : لغتان جيدتان بمعنى الإباء والمشقة .
قال ثعلب : قرأ نافع, وأهل المدينة في سورة البقرة : { وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } بالضم في هذا الحرف خاصة ، وسائر القرآن بالفتح . وكان عاصم يضم هذا الحرف والذي في الأحقاف : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } [ الأحقاف : 15 ] ، ويقرأ سائرهن بالفتح . وكان الأعمش وحمزة والكسائي يضمون هذه الحروف الثلاثة والذي في النساء : { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كُرْهَاً } [ النساء : 19 ] ، ثم قرأوا كل شيء سواها بالفتح . قال الأزهري : ونختار ما عليه أهل الحجاز : أن جميع ما في القرآن بالفتح إلا الذي في البقرة خاصة ، فإن القراء أجمعوا عليه ! . قال ثعلب : ولا أعلم بين الأحرف التي ضمها هؤلاء وبين التي فتحوها فرقاً في العربية ، ولا في سنة تتبع ، ولا أرى الناس اتفقوا على الحرف الذي في سورة البقرة خاصة ، إلا أنه اسم وبقية القرآن مصادر .
قال الأزهري : وقد أجمع كثير من أهل اللغة : أن الكَره والكُره لغتان ، فبأي لغة وقع فجائز ، إلا الفراء فإنه فرق بينهما بأن الكره بالضم : ما أكرهت نفسك عليه ، وبالفتح : ما أكرهك غيرك عليه . تقول : جئتك كُرهاً ، وأدخلتني كَرهاً ، وقال ابن سيده : الكَره : الإباء والمشقة تتكلفها فتحتملها ، وبالضم : المشقة تحتملها من غير أن تكلفها . يقال : فعل ذلك كرهاً وعلى كره . قال ابن بري : ويدل لصحة قول الفراء قول الله عز وجل : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً } [ آل عِمْرَان : 83 ] ، ولم يقرأ أحد بضم الكاف . وقال سبحانه : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } ، ولم يقرأ أحد بفتح الكاف . فيصير الكَره بالفتح ، فعل المضطر ، والكُره بالضم : فعل المختار .
{ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً } - كالجهاد في سبيل الله تعالى - : { وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } إذ فيه إحدى الحسنين : إما الظفر والغنيمة ، وإما الشهادة والجنة : { وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً } - كالقعود عن الغزو - : { وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } لما فيه من الذل والفقر وحرمان الغنيمة والأجر : { وَاللّهُ يَعْلَمُ } ما هو خير لكم : { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ذلك ، فبادروا إلى ما يأمركم به وإن شقّ عليكم ، فهو رؤوف بالعباد لا يأمرهم إلا بخير .
قال الحرالي : فنفي العلم عنهم بكلمة لا أي : التي هي للاستقبال حتى تفيد دوام الاستصحاب . وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً . قال : من حيث رتبة هذا الصنف من الناس من الأعراب وغيرهم ، وأما المؤمنون - أي : الراسخون - فقد علّمهم الله من علمه ما علموا أن القتال خير لهم وأن التخلف شرٌّ لهم .
حتى إن علمهم ذلك أفاض على ألسنتهم ما يفيض الدموع وينير القلوب ، حتى شاورهم النبي صلى الله عليه وسلم في التوجه إلى غزوة بدر ، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال وأحسن ، ثم قام عمر رضي الله عنه فقال وأحسن ، ثم قام المقداد بن عَمْرو رضي الله عنه فقال : يا رسول الله امض لما أمرك الله ، فنحن معك ، والله ! لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ] ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ! فوالذي بعثك بالحق لو سرت إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه . . ! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أشيروا علي أيها الناس > ! فقال له سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه : والله ! لكأنك تريدنا يا رسول الله ! قال : < أجل > . قال : فقد آمنا بك وصدّقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك ، فوالذي بعثك بالحق ! لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصُبُر في الحرب ، صُدُق في اللقاء ، لعل الله يريك منا ما تقر به عينيك ، فسر بنا على بركة الله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 217 ]
.
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } قال الراغب : السائل عن ذلك ، قيل : أهل الشرك قصداً إلى تعيير المسلمين لما تجاوزوه من القتل في الشهر الحرام . وقيل : هم أهل الإسلام .
وقد أخرج الطبراني في " الكبير " والبيهقي في " سننه " ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن جُنْدب بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رهطاً ، وبعث عليهم عبد الله بن جحش ، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى . فقال المشركون للمسلمين : قتلتم في الشهر الحرام . فأنزل الله هذه الآية فقال بعضهم : إن لم يكونوا أصابوا وزراً فليس لهم أجر ، فأنزل الله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ البقرة : 218 ] . الآية .
وأخرجه ابن منده من الصحابة عن ابن عباس .
وملخص ما ذكره الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " وابن هشام في " السيرة " في الكلام على هذه السرية ونزول هذه الآية : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش الأسدي إلى نخلة في رجب على رأس سبعة عشر شهراً من الهجرة في اثني عشر رجلاً من المهاجرين ، كل اثنين يعتقبان على بعير ، فوصلوا [ في المطبوع : فوصولوا ] إلى بطن نخلة يرصدون عيراً لقريش ، وفي هذه السرية سمي عبد الله بن جحش أمير المؤمنين . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه . فلما سار يومين فتح الكتاب فوجد فيه : إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بنخلة - بين مكة والطائف - فترصد بها عيراً لقريش ، وتعلم لنا من أخبارهم ، فقال : سمعاً وطاعة ! وأخبر أصحابه بذلك وبأنه لا يستكرههم فمن أحب الشهادة فلينهض ، ومن كره الموت فليرجع ، فأما أنا فناهض ! فنهضوا كلهم ، فلما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يتعقبانه ، فتخلفا في طلبه . فبعد عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة ، فمرت به عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة فيها عَمْرو بن الحضرمي وعثمان ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة والحكم بن كَيْسان مولى بني المغيرة ، فتشاور المسلمون وقالوا : نحن في آخر يوم من رجب لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم به ، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام ! فتردد القوم وهابوا الإقدام عليهم ، ثم شجعوا أنفسهم عليهم ، وأجمعوا على مقاتلتهم ، فرمى أحدهم عَمْرو بن الحضرمي فقتله ، وأسروا عثمان والحكم ، وأفلت نوفل فأعجزهم ، ثم أقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله وقد عزلوا من ذلك الخمس - وهو أول خمس كان في الإسلام ، وأول قتيل في الإسلام ، وأول أسيرين في الإسلام - فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلوه واشتد تعييب قريش وإنكارهم ذلك ، وزعموا أنهم قد وجدوا مقالا فقالوا : قد أحل محمد الشهر الحرام ، واشتد ذلك على المسلمين حتى أنزل الله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } الآية .
وقوله تعالى : { قِتَالٍ فِيهِ } بدل من الشهر ، بدل الاشتمال ، لأن القتال يقع في الشهر .
وقال الكسائي : وهو مخفوض على التكرير ، يريد أن التقدير : عن قتالٍ فيه وهو معنى قول الفراء : مخفوض بـ " عن " مضمرة . وهذا ضعيف جدا لأن حرف الجر لا يبقى عمله بعد حذفه في الاختيار . . . ! وقال أبو عبيدة هو مجرور على الجوار . وهو أبعد من قولهما ، لأن الجوار من مواضع الضرورة والشذوذ ، ولا يحمل عليه ما وجدت عنه مندوحة . وفيه : يجوز أن يكون نعتاً لقتال ، ويجوز أن يكون متعلقاً به كما يتعلق بقاتل .
وقد قرئ بالرفع في الشاذ ، ووجهه على أن يكون خبر مبتدأ محذوف معه همزة الاستفهام ، تقديره : أجائز قتال فيه ؟ .
{ قُلْ } في جوابهم : { قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } أي : أمر كبير مستنكر ، وقد كانت العرب لا تسفك دماً ولا تغير على عدو في الأشهر الحرم وهي : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب . وسنذكر في تنبيه يأتي التحقيق في كون تحريم القتال فيها محكماً أو منسوخاً .
قال الراغب : إن قيل : لِمَ لَمْ يقل : القتال فيه كبير ، وشرط النكرة المذكورة إذا أعيد ذكرها أن يعاد معرفاً ، نحو : سألتني عن رجل والرجل كذا وكذا ؟ قيل : في ذكره منكراً تنبيه على أن ليس كل القتال في الشهر الحرام هذا حكمه ، فإن قتال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة لم يكن هذا حكمه ، فقد قال : < أحلت لي ساعة من نهار ولم تكن تحل لأحد قبلي > .
{ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ } أي : عن دينه الموصل إلى رضوانه ، أو عن البيت الحرام ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم : سمى الحج : سبيل الله .
قال الحرالي : والصد : صرف إلى ناحية بإعراض وتكرّه ، والسبيل : طريق الجادة السابلة عليه الظاهر لكل سالك منهجه . وصدّ مبتدأ .
{ وَكُفْرٌ بِهِ } أي : بالسبيل - أعني الدين - أو بالله ، عطف عليه { وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } عطف على : { سَبِيلِ اللّهِ } أي : وصدٌّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام . وزعم الفراء أنه معطوف على الهاء في : { بِهِ } أي : كفر به وبالمسجد الحرام { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ } أي : أهل المسجد الحرام - وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون الذين هم أولياؤه - وهو عطف على : { صَدٌّ } أيضاً : { مِنْهُ } من المسجد الحرام ؛ وخبر الأسماء الثلاثة : { أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ } جرماً مما فعلته السرية : من قتلهم إياهم في الشهر الحرام ؛ لأن الإخراج فتنة : { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } في الشهر الحرام ، أي : فقد فعلوا بكم في المسجد الحرام ما هو أكبر من القتل فيه ، وحرمة المسجد كحرمة الشهر . . ! هذا ، وقيل : خبر : { صدُّ } و : { كُفْرٌ } محذوف لدلالة ما تقدم عليه .
وأشار الرازي إلى إعراب آخر وهو : إن : { صدّ } و : { كفرٌ } معطوفان على : { كَبِيرٌ } أي : قتال فيه ، موصوف بهذه الصفات . وعليه فأكبر خبر إخراج فقط .
وقد جنح لهذا المهايمي حيث قال في " تفسيره " :
{ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } من المعاصي الكبائر ، كيف وهو : { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ } أي : عن التجارة التي جعلها الله سبيل الرزق لعباده ، ولو استبيح هذا القتل فهو : { وَكُفْرٌ بِهِ } وصد عن : { الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } إذا قتل الحجاج الخارجون في الشهر الحرام ، فهذا وجه تحريم القتال في هذا الشهر ، ولكن : { إِخْرَاجُ أَهْلِهِ } أي : إخراجهم أهل المسجد الحرام وهم : النبي والمؤمنون : { مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ } . . . إلى آخره ، وهذا الوجه من الإعراب بديع ، والأكثرون على الأول .
قال ابن القيم في " زاد المعاد " في تأويل هذه الآية : يقول الله سبحانه : هذا الذي أنكرتموه عليهم - وإن كان كبيراً - فما ارتكبتموه أنتم من الكفر بالله ، والصد عن سبيله وعن بيته ، وإخراج المسلمين - الذين هم أهله - منه ، والشرك الذي أنتم عليه ، والفتنة التي حصلت منكم به ؛ أكبر عند الله من قتالهم في الشهر الحرام . ومما نسب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه في هذا المعنى هذه الأبيات ، ويقال هي لعبد الله بن جحش :
~تعدّون قتلاً في الحرام عظيمةً وأعظمُ منه لوى الرشدَ راشدُ
~صدودُكم عما يقول محمَدٌ وكفرٌ به ، والله راءٍ وشاهدُ
~وإخراجُكم من مسجد الله أهلَه لئلا يُرى لله في البيت ساجدُ
~فإِنا وإِن عيَّرتمونا بقتله وأرجف بالإسلام باغٍ وحاسدُ
~سَقَينا من ابن الحضرميّ رماحنا بنخلَة لمّا أوقد الحربَ واقدُ
~دماً ، وابن عبد الله عثمان بيننا ينازعه غُلٌّ من القِدِّ عانِدُ
قال ابن القيم في " زاد المعاد " : وأكثر السلف فسروا الفتنة هنا بالشرك ، كقوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } [ الأنفال : 39 ] . ويدل عليه قوله : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] أي : لم يكن مآل شركهم وعاقبته وآخر أمرهم إلا أن تبرأوا منه وأنكروه . وحقيقتها : أنه الشرك الذي يدعو صاحبه إليه ، ويقاتل عليه ، ويعاقب من لم يفتتن به . ولهذا يقال لهم وقت عذابهم بالنار وفتنتهم بها : { ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ } [ الذاريات : 14 ] .
قال ابن عباس : تكذيبكم . وحقيقته : ذوقوا نهاية فتنتكم وغايتها ومصير أمرها ، كقوله : { ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ } [ الزمر : 24 ] . وكما فتنوا عباده عن الشرك ، فتنوا على النار وقيل لهم : { ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ } [ الذاريات : 14 ] . ومنه قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا } [ البروج : 10 ] ، فسرت الفتنة - هنا - بتعذيبهم المؤمنين وإحراقهم إياهم بالنار ، واللفظ أعمّ من ذلك . وحقيقته ، عذبوا المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم . فهذه الفتنة المضافة إلى المشركين . وأما الفتنة التي يضيفها الله سبحانه إلى نفسه ويضيفها رسوله إليه كقوله : { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } [ الأنعام : 53 ] ، وقول موسى : { إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاء } [ الأعراف : 155 ] فتلك بمعنى آخر ، وهي بمعنى الامتحان والاختبار والابتلاء من الله لعباده بالخير والشر, بالنعم والمصائب . فهذه لون ، وفتنة المشركين لون . وفتنة المؤمن في ماله وولده وجاره لون آخر . والفتنة التي يوقعها بين أهل الإسلام كالفتنة التي أوقعها بين أصحاب علي ومعاوية ، وبين أهل الجمل وصفين ، وبين المسلمين حتى يتقاتلوا ويتهاجروا - لون آخر - وهي الفتنة التي قال فيها محمد صلى الله عليه وسلم : < ستكون فتنة ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي . . . . > . وأحاديث الفتنة - التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها باعتزال الطائفتين - هي هذه الفتنة . وقد تأتي الفتنة مراداً بها المعصية ، كقوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي } [ التوبة : 49 ] . يقوله الجد بن قيس لما ندبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ، يقول : ائذن لي في القعود ولا تفتني بتعرضي لبنات الأصفر ، فإني لا أصبر عنهن . . !
قال تعالى : { أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } أي : وقعوا في فتنة النفاق وفروا إليها من فتنة بنات الأصفر .
والمقصود : أن الله سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف ، ولم يبرئ أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتل في الشهر الحرام ، بل أخبر الله أنه كبير ، وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبر وأعظم من مجرد القتال في الشهر الحرام ، فهم أحق بالذم ، والعيب والعقوبة ، لا سيما أولياؤه . كانوا متأولين في قتالهم ذلك ، أو مقصرين نوع تقصير يغفره الله لهم . في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات والهجرة مع رسوله وإيثار ما عند الله ، فهم كما قيل :
~وإذا الحبيب أتى بذنبٍ واحدٍ جاءت محاسنه بألف شفيع
فكيف يقاس ببغيضٍ عدوٍّ جاء بكل قبيح ولم يأت بشفيع واحدٍ من المحاسن ؟ ! .
تنبيه :
اتفق الجمهور على أن حكم هذه الآية : حرمة القتال في الشهر الحرام . ثم اختلفوا أن ذلك الحكم هل بقي أم نسخ ؟ ! .
قال ابن القيم في " زاد المعاد " في الفصل الذي عقده : لما كان في غزوة خبير من الأحكام الفقهية . ما نصه : منها محاربة الكفار ومقاتلتهم في الأشهر الحرم ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من الحديبية في ذي الحجة . فمكث بها ثم سار إلى خيبر في المحرم كذلك . قال الزهري عن عروة عن مروان والمسور ، وكذلك قال الواقدي : خرج في أول سنة سبع من الهجرة . ولكن في الاستدلال بذلك نظر . فإن خروجه كان في آواخر المحرم لا في أوله ، وفتحها إنما كان في صفر . وأقوى من هذا الاستدلال بيعة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه تحت الشجرة بيعة الرضوان على القتال وأن لا يفروا . وكانت في ذي القعدة . ولكن لا دليل في ذلك ؛ لأنه إنما بايعهم على ذلك لما بلغه أنهم قد قتلوا عثمان وهم يريدون قتاله ، فحينئذ بايع الصحابة . ولا خلاف في جواز القتال في الشهر الحرام دفعاً ، وإنما الخلاف أن يقاتل فيه ابتداء . فالجمهور جوَّزوه وقالوا : تحريم القتال فيه منسوخ ، وهو مذهب الأئمة الأربعة رحمهم الله . وذهب عطاء وغيره إلى أنه ثابت غير منسوخ ؛ وكان عطاء يحلف بالله ما يحل القتال في الشهر الحرام ولا نسخ من تحريمه شيء . . ! وأقوى من هذين الاستدلالين ، الاستدال بحصار النبي صلى الله عليه وسلم للطائف . فإنه خرج إليها في أواخر شوال فحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة ، فبعضها كان في ذي القعدة . فإنه فتح مكة لعشر بقين من رمضان ، وأقام بها بعد الفتح تسع عشرة يقصر الصلاة ، فخرج إلى هوازن وقد بقي من شوال عشرون يوماً ، ففتح الله عليه هوازن وقسم غنائمها . ثم ذهب منها إلى الطائف فحاصروه عشرين ليلة . وهذا يقتضي أن بعضها في ذي القعدة بلا شك . وقد قيل : إنما حاصرهم بضع عشرة ليلة . قال ابن حزم : وهو الصحيح بلا شك . وهذا عجيب منه . فمن أين له هذا التصحيح والجزم به . . ؟ وفي الصحيحين عن أنس بن مالك في قصة الطائف قال : فحاصرناهم أربعين يوماً فاستعصوا وتمنّعوا ، وذكر الحديث . فهذا الحصار وقع في ذي القعدة بلا ريب . ومع هذا ، فلا دليل في القصة لأن غزو الطائف كان في تمام غزوة هوازن . وهم بدأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال . ولما انهزموا دخل ملكهم - وهو مالك بن عوف النضري - مع ثقيف في حصن الطائف . فحاربت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فكان غزوهم من تمام الغزو التي شرع فيها ، والله أعلم .
وقال الله تعالى في سورة المائدة وهي من آخر القرآن نزولاً وليس فيها منسوخ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ } [ المائدة : 2 ] ، وقال في سورة البقرة : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ } . فهاتان آيتان مدنيتان . بينهما في النزول نحو ثمانية أعوام . وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ناسخ لحكمها . ولا اجتمعت الأمة على نسخه . و من استدل على النسخ بقوله تعالى : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } [ التوبة : 36 ] ، ونحوها من العمومات ، فقد استدل على النسخ بما لا يدل . ومن استدل عليه بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا عامر في سرية إلى أوطاس في ذي القعدة ، فقد استدل بغير دليل ، لأن ذلك كان من تمام الغزوة التي بدأ فيها المشركون بالقتال ولم يكن ابتداء منه لقتالهم في الشهر الحرام .
{ وَلاَ يَزَالُونَ } - يعني أهل مكة - : { يُقَاتِلُونَكُمْ } - أيها المؤمنون - : { حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ } أي : يرجعوكم عن دينكم الإسلام إلى الكفر : { إِنِ اسْتَطَاعُواْ } أي : قدروا على ردَّتكم . وفيه استبعاد لاستطاعتهم . فهو كقول الرجل لعدوه : إن ظفرت بي فلا تبق عليّ . وهو واثق أنه لا يظفر به . وجملة : { وَلاَ يَزَالُونَ } إما معطوفة على : { يَسْأَلُونَكَ } أو معترضة . والمقصود : تحذير المؤمنين منهم وعدم المبالاة بموافقتهم في بعض الأمور ، لاستحكام عداوتهم وإصرارهم على الفتنة في الدين .
وفي الآية إشعار بأنكم أحق بأن لا تزالوا تقاتلونهم ، لأنهم قاطعون بأنكم على الحق وأنكم منصورون ، وأنهم على الباطل وهم مخذولون ، ولا بد وإن طال المدى ؛ لاعتمادكم على الله واعتمادهم على قوتهم . ومن وُكِل إلى نفسه ضاع . فالأمر الذي بينكم وبينهم أشد من الكلام . فينبغي الاستعداد له بعدَّته ، والتأهب له بأهبته ، فضلاً عن أن يلتفت إلى التأثر بكلامهم الذي توحيه إليهم الشياطين طعناً في الدين ، وصداً عن السبيل . أشار لذلك البقاعي . ثم حذر تعالى عن الارتداد بقوله : { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } وهو الإسلام . وبناء صيغة الافتعال من الردة المؤذنة بالتكلف ، إشارة إلى أن من باشر دين الحق يبعد أن يرجع عنه ، فهو متكلف في ذلك : { فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } أي : بطلت جميع مساعيهم النافعة لهم ، ورُدّت : { فِي الدُّنْيَا } - إذ يرفع الأمان عن أموالهم وأهلهم - : { وَالآخِرَةِ } - إذ يسقط ثوابهم ، فلا يجزون ثمة بحسناتهم : { وَ } لا يقتصر عليه بل : { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ } أي : أهل النار : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } مقيمون لا يموتون ولا يخرجون كسائر الكفار .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 218 ]
.
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ } بحرمة الشهر في نفسه وجواز قتال المخرجين أهل المسجد الحرام منه : { وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ } فتركوا مكة وعشائرهم إذ أخرجوا من المسجد الحرام : { وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّه } ولو في الشهر الحرام للدفع عن أنفسهم : { أُوْلَئِكَ } وإن باشروا القتال في الشهر الحرام : { يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ } أي : جنته على إيمانهم وهجرتهم وجهادهم . وإنما ثبت لهم الرجاء دون الفوز بالمرجوّ للإيذان بأنهم عالمون بأن العمل غير موجب للأجر ، وإنما هو على طريق التفضل منه سبحانه ، لا لأن في فوزهم اشتباهاً : { وَاللّهُ غَفُورٌ } لهتكهم حرمة الشهر : { رَّحِيمٌ } بما تجاوز عن قتالهم ، مع قيام دليل الحرمة فلم يعاقبهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } [ 219 ]
.
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } هذه الآية أول آية نزلت في الخمر ، على ما قاله ابن عمر والشعبي ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم . ثم نزلت الآية التي في سورة النساء ثم نزلت الآية في المائدة .
وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن عمر أنه قال - لما نزل تحريم الخمر - : اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً ! فنزلت هذه الآية التي في البقرة : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } الآية . فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً . فنزلت الآية التي في النساء : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا أقام الصلاة - نادى أن : لا يقربن الصلاة سكران . فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً . فنزلت الآية التي في المائدة ، فدعي عمر فقرئت عليه ، فلما بلغ : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } قال عمر : انتهينا انتهينا .
وحقيقة الخمر : ما أسكر من كل شيء ، وروى الشيخان عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام ، ومن شرب الخمر في الدنيا ومات وهو يدمنها لم يتب منها ، لم يشربها في الآخرة > .
وأما الميسر : فهو القمار - بكسر القاف - مصدر من يَسَر - كالموعد والمرجع من فعلهما . يقال : يسرته إذا قمرته ، واشتقاقه من اليُسر لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير كدّ ولا تعب ، أو من اليسار لأنه سلب يساره .
وصفته : أنه كانت لهم عشرة أقداح يقال لها الأزلام والأقلام وهي :
الفذ ، والتوأم ، والرقيب ، والحلْس - بكسر الحاء المهملة وسكون اللام وككتف - والنافس ، والمُسبل - كُمحسن - والمعلَّى - كمعظّم ، والمنيح - كأمير ، والسفيح - بوزن ما قبله ، والوغد لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزئونها عشرة أجزاء كما قاله أبو عمر أو ثمانية وعشرين جزءاً كما قال الأصمعي وهو الأكثر ، إلا ثلاثة منها وهي المنيح والسفيح والوغد فلا أنصباء لها . وإنما يكثر بها القداح كراهة التهمة . ولبعضهم :
~لي في الدنيا سهام ليس فيهن ربيح
~وأساميهن : وغد وسفيح ومنيح
فللفذّ سهم - أي : فرض واحد - وللتوأم سهمان ، وللرقيب ثلاثة ، وللحلس أربعة وللنافس خمسة ، وللمسبل ستة ، وللمعلى سبعة ، يجعلونها في الربابة وهي خريطة ويضعونها على يدي عدل ، ثم يجلجلها ويدخل يده فيُخرج . باسم رجل رجل ، قدحاً منها . فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح ، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئاً وغرم ثمن الجزور كله . وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ، ويفتخرون بذلك ، ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه : البرم بفتحتين كذا في " الكشاف " بزيادة .
وفي " القاموس وشرحه " : الميسر : اللعب بالقداح ، أو هو الجزور التي كانوا يتقامرون عليها ، كانوا إذا أرادوا أن ييسروا اشتروا جزوراً نسيئة ونحروه وقسموه ثمانية وعشرين قسماً ، أو عشرة أقسام فإذا خرج واحد واحدٌ باسم رجلٍ رجل ، ظهر فوز من خرج لهم ذوات الأنصباء وغرم من خرج له الغفل . وإنما سمي الجزور ميسراً ، لأنه يجزأ أجزاء . وكل شيء جزأته فقد يسرته ؛ ويسرت الناقة جزأت لحمها ، ويسر القوم الجزور أي : اجتزروها واقتسموا أجزاءها . قال سُحَيم بن وثيل اليربوعي :
~أقول لهم بالشعب إذ يَيْسِرُونني ألم تعلموا أنّي ابنُ فارسِ زَهْدَمِ
كان وقع عليه سباء فضرب عليهم بالسهام . وقوله ييسرونني هو من الميسر ، أي : يجزونني ويقتسمونني . وقال لَبِيد :
~واعفف عن الجارات وامنحْ هُنّ مَيْسِرَك السَّمينا
فجعل الجزور نفسه ميسراً . ونقل الصاغاني ، أن الميسر : النرد . وقال مجاهد : كل شيء فيه قمار فهو من الميسر . حتى لعب الصبيان بالجوز .
{ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } أي : عظيم - وقرئ بالمثلثة - وذلك لما فيها من المساوي المنابذة لمحاسن الشرع . من الكذب والشتم وزوال العقل واستحلال مال الغير : { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } دنيوية من اللذة والطرب والتجارة في الخمر . وإصابة المال بلا كدّ في الميسر . وفي تقديم بيان إثمه ، ووصفه بالكب ، وتأخير ذكر منافعه مع تخصيصها بالناس ، من الدلائل على غلبة الأول - ما لا يخفى على ما نطق به قوله تعالى : { وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نفْعِهِمَا } أي : المفاسد المترتبة على تعاطيهما أعظم من الفوائد المترتبة عليه . أي : لا توازي مضرته ومفسدته الراجحة لتعلقها بالعقل والدين . وفي هذا من التنفير عنها ما لا يخفى . ولهذا كانت هذه الآية ممهّدة لتحريم الخمر على البتات ، ولم تكن مصرحة بل معرضة ؛ ولهذا ، قال عمر لما قرأت عليه : اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً ! حتى نزل التصريح بتحريمها في سورة المائدة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 90 - 91 ] .
تنبيه :
ألف كثير من أعلام الأطباء والفلاسفة مؤلفات خاصة في مضرات المسكرات .
ولم تزل تعقد في بعض ممالك النصارى مؤتمرات دولية ، تدعى إليه نواب من جميع دول العالم الكبيرة لمحاربة المسكرات ، وعيافها ، وإعلان تأثيرها في الأجساد والعقول والأرواح ، وما ينشأ عنها من الخسران المالي ، ومما قرره خمسون طبيباً منهم هذه الجمل :
1 - إن المسكرات لا تروي الظمأ بل تزيده .
2 - إنها لا تفيد شيئاً في قضاء الأعمال .
3 - إنها توقف النمو العقلي والجسدي في الأولاد .
4 - إنها تضعف قوة الإرادة فتفضي إلى ارتكاب الموبقات ، وتجر إلى الفقر والشقاء .
5 - هي من المسكنات كالبنج والإيثر .
6 - إنها تعد للأمراض المعدية .
7 - إنها تعد بنوع خاص للتدرن والسل .
8 - إنها تضر في ذات الرئة والحمى التيفودية أكثر مما تنفع .
9 - إنها تقرب النهاية المحزنة في الأمراض التي تنتهي بالموت ، وتطيل مدة الشفاء في الأمراض التي تنتهي بالصحة .
10 - إنها تعد لضربة الشمس والرعن في أيام الحر .
11 - إنها تسرع بإنفاق الحرارة في أيام البرد .
12 - إنها تغير مادة القلب والأوعية الدموية .
13 - إنها كثيراً ما تسبب التهاب الأعصاب ، والآلام المبرحة .
14 - إنها تسرع بحويصلات الجسم إلى الهدم .
15 - إن المقدار العظيم الذي يتناوله أصحاب الأعمال الجسدية من أشربتها هو سبب شقائهم وفقرهم وذهاب صحتهم .
16 - إن الامتناع عنها مما يقضي إلى صحة وسعادة الجنس البشري .
{ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ } أي : يتصدقون به من أموالهم : { قُلِ الْعَفْوَ } وهو ما يفضل عن النفقة ، أي : الفاضل الذي يمكن التجاوز عنه لعدم الاحتياج إليه .
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ، وأبدأ بمن تعول > .
وأخرج مسلم عن جابر : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < ابدأ بنفسك فتصدق عليها ، فإن فضل شيء فلأهلك ، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا > .
وروى أبو داود والنسائي عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : عندي دينار ، قال : < أنفقه على نفسك > . قال عندي آخر ، قال : < أنفقه على ولدك > . قال : عندي آخر ، قال : < أنفقه على أهلك > . قال : عندي آخر ، قال : < أنفقه على خادمك > . قال : عندي آخر ، قال : < أنت أعلم > .
{ كَذَلِكَ } - أي : كما بين لكم ما ذكر - : { يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ } أي : الأمر والنهي وهوان الدنيا : { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ 220 ]
.
{ فِي الدُّنْيَا } أنها فانية - والآخرة - أنها باقية ، وفي أمورهما لتصلحوها ولا تتحملوا مفسداتهما ، فلا تتركوا اللذائذ الباقية للذائذ الفانية .
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى } أخرج أبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم ، عن ابن عباس قال : لما نزل قوله تعالى : { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ الأنعام : 152 ] . وقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [ النساء : 10 ] انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل له الشيء من طعامه وشرابه ، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتدّ ذلك عليهم . فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى } الآية فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم . وقوله تعالى : { قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } أي : مداخلتهم على وجه الإصلاح لهم ولأموالهم خيرٌ من مجانبتهم . وإنما أقيم غاية المداخلة - أعني الإصلاح - مقامها ، تنبيهاً على أن المأمور به مداخلة يكون ترتب الإصلاح عليها ظاهراً ، كأنها عين الإصلاح : { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ } تعاشروهم ولم تجانبوهم : { فَإِخْوَانُكُمْ } فهم إخوانكم في الدين - الذي هو أقوى من العلاقة النسبية . ومن حقوق الأخوة : المخالطة بالإصلاح والنفع .
قال الأصبهاني : وإذا كان هذا في أموال اليتامى واسعاً ، كان في غيرهم أوسع . وهو أصل شاهد لما يفعله الرفاق في الأسفار . يخرجون النفقات بالسوية ، ويتباينون في قلة المطعم وكثرته .
{ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ } لأموالهم : { مِنَ الْمُصْلِحِ } لها ، فيجازيه على حسب مداخلته ، فاحذروه ولا تتحروا غير الإصلاح : { وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ } لحملكم على العنت - وهو المشقة - وأحرجكم ، فلم يطلق لكم مداخلتهم ، ولا يمنعه من ذلك شيء { إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ } أي : غالب على ما أراد : { حَكِيمٌ } أي : فاعل لأفعاله حسبما تقتضيه الحكمة الداعية إلى بناء التكليف على أساس الطاقة .
هذا ، وقد حمل القاضي قوله تعالى : { قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ } على جهات المصالح والخيرات العائدة إلى الولي واليتيم . قال رحمه الله : هذا الكلام يجمع النظر في صلاح مصالح اليتيم بالتقويم والتأديب وغيرهما لكي ينشأ على علم وأدب وفضل ، لأن هذا الصنع أعظم تأثيراً فيه من إصلاح حاله بالتجارة . ويدخل فيه أيضاً إصلاح ماله كي لا تأكله النفقة من جهة التجارة . ويدخل أيضاً معنى قوله تعالى : { وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّب } [ النساء : 2 ] . ومعنى قوله : { خَيْرٌ } يتناول حال المتكفل . أي : هذا العمل خير له من أن يكون مقصراً في حق اليتيم . ويتناول حال اليتيم أيضاً . أي : هذا العمل خير لليتيم من حيث إنه يتضمن صلاح نفسه وصلاح ماله . فهذه الكلمة جامعة لجميع مصالح اليتيم والولي .
وروى البخاري عنه سهل بن سعد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا > . وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما . وروى نحوه مسلم أيضاً في صحيحه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [ 221 ]
.
{ وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } أي : لا تتزوجوا الوثنيات حتى يؤمن بالله تعالى .
قال ابن كثير : هذا تحريم من الله عز وجل على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات من عَبْدة الأوثان ، ثم إن كان عمومها مراداً ، وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية ، فقد خص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } [ المائدة : 5 ] .
وقد بسط العلامة الرازي ههنا الكلام على أن لفظ المشرك هل يتناول الكفار من أهل الكتاب ؟ فانظره .
والتحقيق : أن المشرك لا يتناول الكتابي ، لأن آيات القرآن صريحة في التفرقة بينهما . وعطف أحدها على الآخر في مثل : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ } [ البينة : 6 ] . وسر ذلك أن المشرك هو من يتدين بالشرك . أي : يكون أصل دينه الإشراك ، والكتابي - وإن طرأ في دينه الشرك - فلم يكن من أصله وجوهره .
وقوله تعالى : { وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ } تعليل للنهي عن مواصلتهن ، وترغيب في مواصلة المؤمنات ؛ أي : ولأمة مؤمنة مع ما بها من خساسة الرق وقلة الخطر ؛ خيرٌ من مشركة مع ما لها من شرف الحرية ورفعة الشأن . فإن نقصان الرِّقِّيَّة فيها مجبور بالإيمان الذي هو أجلّ كمالات الْإِنْسَاْن : { وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } أي : المشركة بحسنها ونسبها وغيرهما . فإن نقصان الكفر لا يجبر بها : { وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ } بضم التاء - من الإنكاح ، وهو التزويج أي : لا تزوّجوا الكفار - بأيّ كفر كان - من المسلمات : { حَتَّى يُؤْمِنُواْ } ويتركوا ما هم فيه من الكفر : { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ } مع ما به من ذل الرِّقِّيَّة : { خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } بداعي الرغبة فيه الدنيوية ، فإن ذهاب الكفاءة بالكفر غير مجبور بشيء منها . وأفهم هذا خيرية الحرة والحر المؤمنين من باب الأولى ، مع التشريف العظيم لهما بترك ذكرهما ، إعلاماً بأن خيريتهما أمر مقطوع به وأن المفاضلة إنما هي بين من كلنوا يعدّونه دنيّاً فشرّفه الإيمان ، ومن يعدّونه شريفاً فحقّره الكفران . ولذلك ذكر الموصوف بالإيمان في الموضعين ليدلّ على أنه - وإن كان دنياً - موضع التفضيل لعلوّ وصفه . وأثبت الوصف بالشرك في الموضعين مقتصراً عليه ، لأنه موضع التحقير وإن علا في العرف موصوفه - أفاده البقاعي .
ثم أشار إلى وجه الحظر بقوله تعالى : { أُوْلَئِكَ } أي : المذكورون من المشركات والمشركين : { يَدْعُونَ } من يقارنهم ويعاشرهم : { إِلَى النَّارِ } أي : إلى ما يؤدي إليها من الكفر والفسوق ؛ فإن الزوجية مظنة الألفة والمحبة والمودة ، وكل ذلك يوجب الموافقة في المطالب والأغراض ، فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا . . ! : { وَاللّهُ يَدْعُوَ } أي بما يأمر به على ألسنة رسله : { إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ } أي : العمل المؤدي إليهما . وتقديم الجنة هنا على المغفرة مع سبقها عليها ، لرعاية مقابلة النار ابتداءً : { بِإِذْنِهِ } بأمره : { وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ } أمره ونهيه في التزويج : { لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } لكي يتعظوا وينتهوا عن تزويج الحرام ، ويوالوا أولياء الله - وهم المؤمنون - بالمعاشرة والمصاهرة فيفوزوا بما دُعوا إليه من الجنة والغفران .
هذا وقد قيل : معنى : { وَاللَّهُ يَدْعُو } وأولياء الله يدعون ، وهم المؤمنون ، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ؛ تشريفاً لهم ، وتفخيماً لشأنهم ، حيث جعل فعلهم فعل نفسه صورة ، وملحظة رعاية المقابلة ، كأنه قيل : أعداء الله يدعون إلى النار ، وأولياء الله يدعون إلى الجنة والمغفرة . إلا إن فيه فوات رعاية تناسب الضمائر ، فإن الضمير في المعطوف على الخبر أعني قوله تعالى : { وَيُبَيِّنُ } الله تعالى ، فيلزم التفكيك .
تنبيه :
قال الراغب : حقيقة التذكر ، الاستذكار عن نسيان أو غفلة لما اشتبه القلب . قال : إن قيل : إلى أي : شيء أشار بهذا التذكر ؟ قيل : إن الله عز وجل ركّب فينا بالفطرة معرفته ومعرفة آلائه . والْإِنْسَاْن - باستفادة العلم - يتذكّر ما ذُكر فيه ، فهذا معنى التذكر . ثم قال : وقد قيل : الرجاء من الله واجب ، بمعنى أنه إذا رجانا حقق رجانا . قال : وهذه مسألة لا يمكن تصورها إن لم نبلغها بتعاطي هذه الأفعال التي شرطها الله تعالى . فلذلك صعب إدراكها لنا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [ 222 ]
.
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ } ، وهو الدم الخارج من الرحم على وجه مخصوص في وقت مخصوص . ويسمى الحيض أيضاً . أي : هل يسبب ويقتضي مجانبة مس من رأته ؟ : { قُلْ هُوَ أَذىً } ، أي : الحيض شيء يستقذر ويؤذي من يقربه ، نفرة منه وكراهة له { فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ } ، أي : فاجتنبوا مجامعتهن في زمنه .
قال الراغب : في قوله تعالى : { هُوَ أَذىً } ، تنبيه على أن العقل يقتضي تجنبه ، كأن قيل : الحيض أذى وكل أذى متحاشى منه . ولما كان الْإِنْسَاْن قد يتحمل الأذى ولا يراه محرماً ، صرح بتحريمه بقوله : { فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء } .
روى الإمام أحمد ومسلم عن ثابت عن أنس رضي الله عنه : أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت . فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً } إلى آخر الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < اصنعوا كل شيء إلا النكاح > . فبلغ ذلك اليهود فقالوا : ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه ! فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا : يا رسول ! إن اليهود تقول كذا وكذا ، فلا نجامعهن ؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما . فخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل في آثارهما ، فسقاهما ، فعرفا أن لم يجد عليهما .
{ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ } ، تأكيد لحكم الاعتزال ، وتنبيه على أن المراد به عدم قربانهن ، لا عدم القرب منهن ، وكنى بقربانهن ، المنهي عنه ، عن مباضعتهن . فدل على جواز التمتع بهن حينئذ فيما دون الفرج .
ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أرجّل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض .
وفيهما عنها أيضاً قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض ، ثم يقرأ القرآن .
وروى مسلم عنها أيضاً قالت : كنت أشرب وأنا حائض ، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيّ فيشرب ، وأتعرق العرق وأنا حائض ، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيّ .
وفي الصحيحين - واللفظ لمسلم - عن ميمونة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر نسائه فوق الأزار وهن حيَّض .
وفي لفظ له : كان يضطجع معي وأنا حائض وبيني وبينه ثوب .
وقوله : { حَتَّىَ يَطْهُرْنَ } بيان لغاية الاعتزال . وقد قرئ في السبع : بفتح الطاء والهاء مع التشديد ، وبسكون الطاء وضم الهاء مخففة . والقراءة الأولى تدل صريحاً على أن غاية حرمة القربان هو الاغتسال ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } ، الخ . والقراءة الثانية وإن دلت على أن الغاية هو انقطاع الدم - بناء على ما قيل : إن الطهر انقطاع الدم ، والتطهر الاغتسال - إلا أنه لما ضم إليها قوله تعالى : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } ، صار المجموع هو الغاية ؛ وذلك بمنزلة أن يقول الرجل : لا تكلم فلاناً حتى يدخل الدار ، فإذا طابت نفسه بعد الدخول فكلمه ! فإنه يجب أن يتعلق إباحة كلامه بالأمرين جميعاً ، وكذلك الآية - لما دلت على وجوب الأمرين - وجب أن لا تنتهي هذه الحرمة إلا عند حصول الأمرين ، فمرجع القراءتين واحدٌ كما بيّناً .
وقد روى مسلم عن عائشة : إن أسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض ؟ فقال : < تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر ، فتحسن الطهور ، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً حتى تبلغ شؤون رأسها ، ثم تصب عليها الماء ، ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها - والفرصة بالكسر : قطعة من صوف أو قطن أو غيره - تتبع بها أثر الدم > .
ثم آذن تعالى أن التطهر شرط في إباحة قربانهن ، لا يصح بدونه ، بقوله سبحانه : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ } ، أي : فجامعوهن من المكان الذي أمركم الله بتجنبه في الحيض وهو القبل ، ولا تتعدّوه إلى غيره { إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } ، من الذنوب : { وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } أي : المتنزهين عن الفواحش والأقذار ، كمجامعة الحائض والإتيان فيغير المأتى . وفي ذكر التوبة إشعار بمساس الحاجة إليها - بارتكاب بعض الناس لما نهُوا عنه - وتكرير الفعل لمزيد العناية بأمر التطهر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [ 223 ]
.
{ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } . روى الشيخان عن جابر قال : كانت اليهود تقول : إذا أتيت المرأة من دبرها في قبلها ثم حملت كان ولدها أحول . قال : فأنزلت : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } .
وعند مسلم عن الزهري : إن شاء مجبِّية ، وإن شاء غير مجبِّية ، غير أن ذلك في صمام واحد .
قال الحافظ ابن حجر في الفتح : هذه الزيادة يشبه أن تكون من تفسير الزهري ، لخلوها من رواية غيره من أصحاب ابن المنكدر ، مع كثرتهم .
والمجبِّية كملبِّية : المنكبّة على وجهها ، والصمام الواحد : الفرج ، وقوله تعالى : { حَرْثٌ لَّكُمْ } ، الحرث : إلقاء البذر في الأرض ، هذا أصله ؛ والكلام إما بحذف المضاف ، أي : مواضع حرث ، أو المصدر بمعنى المفعول ، أي : محروثات . وإنما شُبِّهن لما بين ما يلقى في أرحامهن وبين البذور من المشابهة . من حيث إن كلاً منهما مادة لما يحصل منه . ولما عبّر تعالى عنهن بالحرث عبر عن مجامعتهن بالإتيان كما تقدم ، فقال : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } ، أي : فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي : جهة شئتم ، لا تخطر عليكم جهة دون جهة . والمعنى : جامعوهن من أي : جهة شئتم ولا تبالوا بقول اليهود . وفي تخصيص الحرث بالذكر تعميم جميع الكيفيات الموصلة إليه .
قال الزمخشري : وقوله تعالى : { هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء } - : { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ } - : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } . من الكنايات اللطيفة ، والتعريضات المستحسنة . وهذه وأشباهها في كلام الله آداب حسنة ، على المؤمنين أن يتعلموها ، ويتأدبوا بها ، ويتكلفوا مثلها في محاورتهم ومكاتبتهم .
وقد ورد - في سبب نزول هذه الآية - رواية أخرى أخرجها أبو داود والحاكم عن ابن عباس قال : كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب كانوا يرون لهم فضلاً عليهم في العلم ، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم . وكان من أمر أهل الكتاب أنهم لا يأتون النساء إلا على حرف ، وذلك أستر ما تكون المرأة . فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم . وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحاً منكراً ، ويتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات . فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار . فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه وقالت : إنما كنا نؤتى على حرف ، فاصنع ذلك ، وإلا فاجنبني ، حتى سرى أمرهما . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } ، أي : مقبلات ومدبرات ومستلقيات ، يعني بذلك موضع الولد .
تنبيه :
ما ذكرناه من الروايات هو المعول عليه عند المحققين .
وثمة روايات أخر تدل على أن هذه الآية إنما أنزلت رخصة في إتيان النساء في أدبارهن .
قال الطحاوي : روى أصبغ بن الفرج عن عبد الرحمن بن القاسم قال : ما أدركت أحداً أقتدي به في ديني يشك أنه حلال يعني وطء المرأة في دبرها, ثم قرأ : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } ، ثم قال : فأي شيء أبين من هذا ؟ قهذه حكاية الطحاوي نقلها ابن كثير .
وقال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي : قال ابن القاسم : ولم أدرك أحداً أقتدي به في ديني يشك فيه ، والمدنيون يروون فيه الرخصة عن النبي صلى الله عليه وسلم . يشير بذلك إلى ما روي عن ابن عمر وأبي سعيد .
أما حديث ابن عمر فله طرق . رواه عنه نافع ، وعبيد الله بن عبد الله بن عُمَر ، وزيد بن أسلم ، وسعيد بن يسار ، وغيرهم .
أما نافع فاشتهر عنه من طرق كثيرة جداً ، منها : رواية مالك ، وأيوب ، وعبيد الله بن عُمَر العمري ، وابن أبي ذئب ، وعبد الله بن عَوْن ، وهشام بن سعد ، وعمر بن محمد بن زيد ، وعبد الله بن نافع ، وأبان بن صالح ، وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة .
قال الدارقطني ، في أحاديث مالك التي رواها خارج الموطأ : حدثنا أبو جعفر الأسواني المالكي بمصر . حدثنا محمد بن أحمد بن حماد . حدثنا أبو الحارث أحمد بن سعيد الفهري . حدثنا أبو ثابت محمد بن عبيد الله . حدثنا الدراوردي عن عبيد الله بن عُمَر بن حفص عن نافع قال : قال لي ابن عمر : أمسك علَيَّ المصحف يا نافع . فقرأ حتى أتى على هذه الآية : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } ، فقال : تدري يا نافع فيمن أنزلت هذه الآية ؟ قال : قلت : لا ؟ قال ، فقال لي : في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها . فأعظم الناس ذلك ، فأنزل الله : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } الآية . قال نافع : فقلت لابن عمر : من دبرها في قبلها ؟ قال : لا . إلا في دبرها .
قال أبو ثابت : وحدثني به الدراوردي عن مالك وابن أبي ذئب . وفيهما عن نافع مثله .
وفي تفسير البقرة من صحيح البخاري : حدثنا إسحاق . حدثنا النضر . حدثنا ابن عون عن نافع قال : كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه . فأخذت عليه يوماً ، فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى مكان ، فقال : تدري فيم أنزلت ؟ فقلت : لا ! قال : نزلت في كذا وكذا . ثم مضى .
وعن عبد الصمد : حدثني أبي - يعني عبد الوارث - حدثني أيوب عن نافع عن ابن عمر في قوله تعالى : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } ، قال : يأتيها في . . . قال : ورواه محمد بن يحيى بن سعيد ، عن أبيه ، عن عبيد الله بن عُمَر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، هكذا وقع عنده .
والرواية الأولى - في تفسير إسحاق بن راهويه مثل ما ساق ، لكن عيّن الآية وهي : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } ، وعين قوله كذا وكذا . فقال : نزلت في إتيان النساء في أدبارهن . وكذا رواه الطبري من طريق ابن علية عن ابن عون . وأما رواية عبد الصمد فهي في تفسير إسحاق أيضاً عنه ، وقال فيه : يأتيها في الدبر .
وأما رواية محمد : فأخرجها الطبراني في " الأوسط " عن علي بن سعيد ، عن أبي بكر الأعين ، عن محمد بن يحيى بن سعيد بلفظ : إنما أنزلت : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } رخصة في إتيان الدبر . وأخرجها الحاكم في " تاريخه " من طريق عيسى بن مثرود عن عبد الرحمن بن القاسم ، ومن طريق سهل بن عمار عن عبد الله بن نافع . ورواه الدارقطني في " غرائب مالك " من طريق زكريا الساجي عن محمد بن الحارث المدني عن أبي مصعب . ورواه الخطيب في " الرواة " عن مالك من طريق أحمد بن الحكم العبدي . ورواه أبو إسحاق الثعلبي في " تفسيره " والدارقطني - أيضاً - من طريق إسحاق بن محمد الفروي . ورواه أبو نعيم في " تاريخ أصبهان " من طريق محمد بن صدقة الفدكي ، كلهم عن مالك . قال الدارقطني : هذا ثابت عن مالك .
وأما زيد بن أسلم : فروى النسائي والطبري من طريق أبي بكر بن أبي أويس ، عن سليمان بن بلال ، عنه ، عن ابن عمر : أن رجلاً أتى امرأته في دبرها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد من ذلك وجداً شديداً ، فانزل الله عز وجل : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } الآية . وأما عبيد الله بن عبد الله بن عُمَر فروى النسائي من طريق يزيد بن رومان عنه : أن ابن عمر كان لا يرى به بأساً . موقوف .
وأما سعيد بن يسار : فروى النسائي والطحاوي والطبري من طريق عبد الرحمن بن القاسم قال : قلت لمالك : إن عندنا بمصر الليث بن سعد يحدث عن الحارث بن يعقوب عن سعيد بن يسار قال : قلت لابن عمر : إنا نشتري الجواري فنحمض لهن, والتحميض : الإتيان في الدبر , فقال : أفّ ! أَوَيَفعل هذا مسلم ؟ قال ابن القاسم : فقال لي مالك : أشهد على ربيعة لحدثني عن سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر عنه فقال : لا بأس به .
وأما حديث أبي سعيد : فروى أبو يعلى وابن مردويه في " تفسيره " والطبري والطحاوي من طرق : عن عبد الله بن نافع ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري : أن رجلاً أصاب امرأة في دبرها ، فأنكر الناس ذلك عليه وقالوا : أثفرها ! فأنزل الله عز وجل : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } . ورواه أسامة بن أحمد التجيبي من طريق يحيى بن أيوب عن هشام بن سعد ، ولفظه : كنا نأتي النساء في أدبارهن ، ويسمى ذلك : الإثفار ، فأنزل الله الآية . ورواه من طريق معن بن عيسى عن هشام - ولم يسمّ أبا سعيد - قال : كان رجال من الأنصار . . .
هذا ، وقد روي في تحريم ذلك آثار كثيرة نقلها الحافظ ابن كثير في " تفسيره " ، وابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي . وكلها معلولة .
ولذا قال البزار : لا أعلم في هذا الباب حديثاً صحيحاً ، لا في الحظر ولا في الإطلاق وكل ما روي فيه عن خزيمة بن ثابت من طريق فيه ، فغير صحيح .
وكذا روى الحاكم عن الحافظ أبي علي النيسابوري ، ومثله عن النسائي ، وقاله قبلهما البخاري .
وحكى ابن عبد الحكم عن الشافعي أنه قال : لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريمه ولا في تحليله شيء . والقياس أنه حلال .
وروى أحمد بن أسامة التجيبي من طريق معن بن عيسى قال : سألت مالكاً عنه ، فقال : ما أعلم فيه تحريماً .
وقال ابن رشد في كتاب " البيان والتحصيل في شرح العتبية " روى العتبي عن ابن القاسم عن مالك أنه قال له - وقد سأله عن ذلك مخلياً به - فقال : حلال ليس به بأس .
وأخرج الحاكم عن محمد بن عبد الحكم قال : قال الشافعي كلاماً كلم به محمد بن الحسن في مسألة إتيان المرأة في دبرها ، قال : سألني محمد بن الحسن فقلت له : إن كنت تريد المكابرة وتصحيح الروايات - وإن لم تصح - فأنت أعلم ، وإن تكلمت بالمناصفة كلّمتك . قال : على المناصفة . قلت : فبأي شيء حرمته ؟ قال : بقول الله عز وجل : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ } ، وقال : { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } ، والحرث لا يكون إلا في الفرج . قلت : أفيكون محرماً لما سواه ؟ قال : نعم . قلت : فما تقول لو وطئها بين ساقيها ، أو في أعكانها ، أو تحت إبطها ، أو أخذت ذكره بيدها ، أوفي ذلك حرث . . . ؟ قال : لا ! قلت : أفيحرم ذلك ؟ قال : لا ! قلت : فلم تحتج بما لا حجة فيه ؟ قال : فإن الله قال : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } الآية .
قال : فقلت له : إن هذا مما يحتجون به للجواز أن الله أثنى على من حفظ فرجه من غير زوجته وما ملكت يمينه ، فقلت : أنت تتحفظ من زوجته وما ملكت يمينه . قال الحاكم : لعل الشافعي كان يقول بذلك في القديم . فأما في الجديد ، فالمشهور أنه حرّمه . فقد روى الأصم عن الربيع قال : قال الشافعي نص على تحريمه في ستة كتب من كتبه . . . وأخرج الحاكم عن الأصم عن الربيع قال : قال الشافعي قال الله : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } احتملت الآية معنيين : أحدهما : أن تؤتى المرأة من حيث شاء زوجها ، لأن : { أَنَّى شِئْتُمْ } ، يأتي بمعنى أين شئتم . ثانيهما : أن الحرث إنما يراد به النبات في موضعه دون ما سواه . فاختلف أصحابنا في ذلك . فأحسب كلاًّ من الفريقين تأولوا ما وصفت من احتمال الآية . قال : فطلبنا الدلالة من السنة ، فوجدنا حديثين مختلفين : أحدهما ثابت ؛ وهو حديث خزيمة في التحريم . قال : فأخذنا به .
وعليه ، فيكون الشافعي رجع عن القديم . وحديث خزيمة . رواه الشافعي وأحمد والنسائي وابن ماجة وابن حبان وأبو نعيم بالسند إلى خزيمة بن ثابت : أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن ، فقال : حلال . فلما ولى الرجل دعاه - أو أمر به فدعي - فقال : < كيف قلت ؟ في أي : الخرزتين ؟ أمن دبرها في قبلها ؟ فنعم ! أم من دبرها في دبرها فلا ؟ إن الله لا يستحيي من الحق . لا تأتوا النساء في أدبارهن > .
قال الحافظ ابن حجر في " التلخيص الحبير " : وفي إسناده عَمْرو بن أحيحة وهو مجهول الحال واختلف في إسناده اختلافاً كثيراً . ثم قال الحافظ : وقد قال الشافعي : غلط ابن عيينة في إسناد حديث خزيمة - يعني حيث رواه . وتقدم قول البزار : وكل ما روي فيه عن خزيمة بن ثابت ، من طريق فيه ، فغير صحيح .
وقال الرازي في تفسيره : ذهب أكثر العلماء إلى أن المراد من الآية : أن الرجل مخير بين أن يأتيها من قبلها في قبلها ، وبين أن يأتيها من دبرها في قبلها . فقوله : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } محمول على ذلك . ونقل نافع عن ابن عمر أنه كان يقول : المراد من الآية تجويز إتيان النساء في أدبارهن . وهذا قول مالك . واختيار السيد المرتضى من الشيعة . والمرتضى رواه عن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه .
وبالجملة : فهذا المقام من معارك الرجال ، ومجاول الأبطال . وقد استفيد مما أسلفناه : أن من جوز ذلك وقف مع لفظ الآية . فإنه تعالى جعل الحرث اسماً للمرأة .
قال بعض المفسرين : إن العرب تسمي النساء حرثاً قال الشاعر :
~إذا أكل الجراد حروث قومٍ فحرثي همّه أكل الجراد
يريد : امرأتي ، وقال آخر :
~إنما الأرحام أرضٌ ولنا محترثات
~فقلبنا الزرع فيها وعلى الله النبات
وحينئذ ففي قوله : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } ، إطلاق في إتيانهن على جميع الوجوه . فيدخل فيه محل النزاع . واعتمد أيضاً من سبب النزول ما رواه البخاري عن ابن عمر كما تقدم . وقال في رواية جابر المروية في " الصحيح " المتقدمة . إن ورود العام على سبب لا يقصره عليه . وأجاب عن توهيم ابن عباس لابن عمر ، رضي الله عنهم ، المروي في " سنن أبي داود " بأن سنده ليس على شرط البخاري فلا يعارضه . فيقدّم الأصح سنداً . ونظر إلى أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب حديث .
قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " : ذهب جماعة من أئمة الحديث - كالبخاري والذهلي والبزار والنسائي وأبي علي النيسابوري - إلى أنه لا يثبت فيه شيء .
وأما من منع ذلك : فتأوّل الآيات المتقدمة على صمام واحد . ونظر إلى أن الأحاديث المروية - من طرق متعددة - بالزجر عن تعاطيه وإن لم تكن على شرط الشيخين في الصحة ، إلا أن مجموعها صالح للاحتجاج به .
وقد استقصى الأحاديث الواردة في ذلك ، الحافظ الذهبي في جزء جمعه في ذلك . وساق جملة منها الحافظ ابن كثير في " تفسيره " وكذا الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " وقد هوّل - عليه الرحمة - في شأنه تهويلاً عظيماً . فقال في كتابه المذكور ، في الكلام على هديه صلى الله عليه وسلم في الجماع ، ما نصه :
وأما الدبر ، فلم يبح قط على لسان نبي من الأنبياء . ومن نسب إلى بعض السلف إباحة وطء الزوجة من دبرها فقد غلط عليه . ثم ساق أخبار النهي عنه - وقال بعد : وقد دلت الآية على تحريم الوطء في دبرها من وجهين : أحدهما : أنه إنما أباح إتيانها في الحرث وهو موضع الولد ، لا في الحشّ الذي هو موضع الأذى . وموضع الحرث هو المراد من قوله : { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } الآية { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } ، وإتيانها في قبلها من دبرها مستفاد من الآية أيضاً لأنه قال : { أنى شئتم } أي : من أين شئتم : من أمام أو من خلف : قال ابن عباس : { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ } . يعني الفرج ، وإذا كان الله حرم الوطء في الفرج لأجل الأذى العارض ، فما الظن بالحشذ الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل والذريعة القريبة جداً من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان .
وأيضاً ، فللمرأة حق على الرجل في الوطء ، ووطؤها في دبرها يفوت حقها ، ولا يقضي وطرها ، ولا يحصل مقصودها . وأيضاً فإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل ولم يخلق له ، وإنما الذي هيئ له الفرج ، فالعادلون عنه إلى الدبر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعاً . وأيضاً : فإن ذلك مضر بالرجل ، ولهذا ينهى عنه عقلاء الأطباء من الفلاسفة وغيرهم ، لأن للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن ، وراحة الرجل منه . والوطء في الدبر لا يعين على اجتذاب جميع الماء ولا يخرج كل المحتقن لمخالفته للأمر الطبيعي . . . وأيضاً يضر من وجه آخر ، وهو إحواجه إلى حركات متعبة جداً لمخالفته للطبيعة ، وأيضاً فإنه محل القذر والنّجُو ، فيستقبله الرجل بوجهه ويلابسه . وأيضاً : فإنه يضر بالمرأة جداً ، لأنه وارد غريب بعيد عن الطباع منافر لها غاية المنافرة . وأيضاً : فإنه يحدث الهم والغم والنفرة عن الفاعل والمفعول . وأيضاً : فإنه يسوّد الوجه ، ويظلم الصدر ، ويطمس نور القلب ، ويكسو الوجه وحشة تصير عليه كالسيماء ، يعرفها من له أدنى فراسة . وأيضاً : فإنه يوجب النفرة والتباغض الشديد والتقاطع بين الفاعل والمفعول ، ولا بد . وأيضاً : فإنه يفسد حال الفاعل والمفعول فساداً لا يكاد يرجى بعده صلاح ، إلا أن يشاء الله بالتوبة النصوح . وأيضاً : فإنه يذهب بالمحاسن منهما ويكسوهما ضدهما . كما يذهب بالمودة بينهما ويبدلهما بها تباغضاً وتلاعناً . وأيضاً : فإنه من أكبر أسباب زوال النعم وحلول النقم ، فإنه يوجب اللعنة والمقت من الله ، وإعراضه عن فاعله وعدم نظره إليه ، فأي خير يرجوه بعد هذا ؟ وأي شر يأمنه ؟ وكيف حياة عبد قد حلت عليه لعنة الله ومقته ، وأعرض عنه بوجهه ولم ينظر إليه .
أقول : أخذ هذا ابن القيم من أحاديث وردت في لعن فاعل ذلك ، وعدم نظر الحق إليه ، بيد أنها ضعيفة .
ثم قال ابن القيم : وأيضاً فإنه يذهب بالحياء جملة ، والحياء هو حياة القلوب ، فإذا فقدها القلب استحسن القبيح واستقبح الحسن ، وحينئذ فقد استحكم فساده . وأيضاً : فإنه يحيل الطباع عما ركبها الله ، ويخرج الْإِنْسَاْن عن طبعه إلى طبع لم يركب الله عليه شيئاً من الحيوان ، بل هو طبع منكوس ، وإذا نكس الطبع انتكس القلب والعمل والهدى ، فيستطيب حينئذ الخبيث من الأعمال والأفعال والهيئات ، ويفسد حاله وعمله وكلامه بغير اختياره . وأيضاً فإنه يورث من الوقاحة والجراءة ما لا يورثه سواه . وأيضاً : فإنه يورث من المهانة والسفال والحقارة ما لا يورثه غيره . وأيضاً : فإنه يكسو العبد من حلة المقت والبغضاء وازدراء الناس له ، واحتقارهم إياه ، واستصغارهم له ما هو مشاهد بالحس . فصلوات الله وسلامه على من سعادة الدنيا والآخرة في هديه واتباع ما جاء به ، وهلاكٌ الدنيا والآخرة في مخالفة هديه وما جاء به .
ولما اشتملت هذه الآية على الإذن في قضاء الشهوة ، نبه على أن لا يكون المرء في قيدها بل في قيد الطاعة ، فقال تعالى : { وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ } ، أي : ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة لتنالوا به الجنة والكرامة ، كقوله : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } : { وَاتَّقُواْ اللّهَ } فلا تجترئوا على المعاصي : { وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ } صائرون إليه فاستعدوا للقائه : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } بالثواب . وإنما حذف لكونه كالمعلوم ، فصار كقوله : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً } [ الأحزاب : 47 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 224 ]
{ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ، العرضة بضم العين ، فعلة بمعنى مفعول - كالقبضة والغرفة - وهي اسم ما تعرضه دون الشيء ، من عرض العود على الإناء . فيعترض دونه ويصير حاجزاً ومانعاً منه . تقول : فلان عرضة دون الخير . وكان الرجل يحلف على بعض الخيرات - من صلة رحم ، أو إصلاح ذات بين ، أو إحسان إلى أحد - ثم يقول : أخاف الله أن أحنث في يميني . فيترك البر إرادة البر في يمينه . فقيل لهم : { وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ } ، أي : حاجزاً لما حلفتم عليه . وسمي المحلف عليه يميناً لتلبسه باليمين كحديث : < من حلف على يمين > الآتي ذكره ، أي : على شيء مما يحلف عليه . وقوله : { أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ } ، عطف بيان لـ : { أَيْمَانِكُمْ } ، أي : للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى والإصلاح بين الناس . أفاده الزمخشري .
وعلى هذا التأويل : الآية : كقوله تعالى : { وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } [ النور : 22 ] . والمعنى المتقدم في الآية اتفق عليه جمهور السلف . ورواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : لا تجعلن الله عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ولكن كفّر عن يمينك واصنع الخير . وقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إني ، والله ! إن شاء الله ، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها > . وروى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها ، فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير > .
وفي الآية وجه آخر ذكره كثير من المفسرين . وهو النهي عن الجراءة على الله تعالى بكثرة الحلف به . وذلك لأن من أكثر ذكر شيء في معنى من المعاني فقد جعله عرضة له . يقول الرجل : قد جعلتني عرضة للومك . وقال الشاعر :
~ولا تجعليني عرضةً للوائم
وقد ذم الله تعالى من أكثر الحلف بقوله : { وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ } [ القلم : 10 ] . وقال تعالى : { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } [ المائدة : 89 ] . والعرب كانوا يمدحون المرء بالإقلال من الحلف كما قال كثيّر :
~قليلُ الألايا حافظٌ ليمينه وإن سبقت منه الألية برّتِ
والحكمة في الأمر بتقليل الأيمان : أن من حلف في كل قليل وكثير بالله ، انطلق لسانه بذلك . ولا يبقى لليمين في قلبه وقع . فلا يؤمن إقدامه على اليمين الكاذبة . فيختل ما هو الغرض الأصلي في اليمين . وأيضاً ، كلما كان الإِنْسَان أكثر تعظيماً لله تعالى كان أكمل في العبودية . ومن كمال التعظيم أن يكون ذكر الله تعالى أجلّ وأعلى عنده من أن يستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية . وأما قوله تعالى بعد ذلك : { أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا } ، فهو علة للنهي . أي : إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا ، لأن الحلاف مجترئ على الله ، غير معظم له ، فلا يكون براً متقياً ، ولا يثق به الناس ، فلا يدخلونه في وساطتهم وإصلاح ذات بينهم ، والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [ 225 ]
.
{ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ } أي : لا يعاقبكم ولا يلزمكم بما صدر منكم من الأيمان اللاغية - إذا لم تقصدوا هتك حرمته - وهي التي لا يقصدها الحالف ، بل تجري على لسانه عادة من غير تعقيد ولا قصد إليها . كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَان } وهو المعني بقوله عز وجل : { وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } ، أي : تعمدته قلوبكم فاجتمع فيه ، مع اللفظ ، النية . يعني : ربط القلب به لفوات تعظيم أمره ، ولهتك حرمته بنقض اليمين المقصودة .
روي عن عائشة أنها قالت : أنزلت هذه الآية في قول الرجل : لا والله ، وبلى والله ! أخرجه البخاري ومالك وأبو داود ، وهذا لفظ البخاري .
وقد نقل ابن المنذر نحو هذا عن ابن عمر ، وابن عباس ، وغيرهما من الصحابة والتابعين . ولفظ رواية ابن أبي حاتم عن عائشة قالت : إنما اللغو في المزاحة والهزل وهو قول الرجل : لا والله ! وبلى والله ! فذاك لا كفارة فيه . إنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله ثم لا يفعله .
ويروى في تفسير لغو اليمين : هو أن يحلف على الشيء يظنه ، ثم يظهر خلافه . ويروى : أن يحلف وهو غضبان : ويروى غير ذلك ، كما ساقها ابن كثير ، مسندة .
وقد ظهر - للفقير - أن لا تنافي بين هذه الروايات ، لأن كل ما لا عقد للقلب معه من الأيمان فهو لغو بأي صورة كانت وحالة وقعت . فكل ما روي في تفسير الآية فهو مما يشمله اللغو . والله أعلم .
والمراد من المؤاخذة : إيجاب الكفارة . كما بين ذلك في آية المائدة : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ } { وَاللّهُ غَفُورٌ } ، يعني : لعباده فيما لغو من أيمانهم فلم يؤاخذهم به : { حَلِيمٌ } ، يعني في ترك معاجلة أهل العصيان بالعقوبة تربصاً بالتوبة . والجملة تذييل للحكمين السابقين . فائدته الامتنان على المؤمنين ، وشمول مغفرته وإحسانه لهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 226 - 227 ]
.
{ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } : { وإنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ، اشتملت هذه الآية على حكم الإيلاء ، وهو لغة : الامتناع باليمين ، وخص في عرف الشرع : بالامتناع باليمين من وطء الزوجة . ولهذا عدى فعله بأداة من تضميناً له معنى ، يمتنعون من نسائهم : وهو أحسن من إقامة " من " مقام " على " . وجعل سبحانه للأزواج مدة أربعة أشهر يمتنعون فيها من نسائهم بالإيلاء ، فإذا مضت فإما أن يفيء وأما أن يطلق .
وقد اشتهر عن علي وابن عباس رضي الله عنهم : أن الإيلاء إنما يكون في حال الغضب دون الرضا ، كما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسائه وظاهر القرآن مع الجمهور . وقد تناظر في هذه المسألة محمد بن سيرين ورجل آخر . فاحتج على محمدٍ بقول علي كرم الله وجهه ، فاحتج عليه محمد بالآية فسكت . وقد اتفق الأئمة على أن المولى إذا فاء إلى المواصلة لزمته كفارة يمين ، وإنما ترك ذكرها هنا ؛ لأنها معلومة من موضع آخر في التنزيل العزيز . فعموم وجوب التكفير ثابت على حالف .
قال العلامة صديق خان في " تفسيره " : اعلم أن أهل كل مذهب قد فسروا هذه الآية بما يطابق مذهبهم ، وتكلفوا بما لا يدل عليه اللفظ ولا دليل آخر ، ومعناها ظاهر واضح ، وهو أن الله جعل الأجل لمن يولي أي : يحلف من امرأته أربعة أشهر ثم قال مخبراً لعباده بحكم هذا المولي بعد هذه المدة : { فَإِنْ فَآؤُوا } ، أي : رجعوا إلى بقاء الزوجية واستدامة النكاح : { فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، أي : لا يؤاخذهم بتلك اليمين ، بل يغفر لهم ويرحمهم ؛ : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
{ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ } ، أي : وقع العزم منهم عليه والقصد له : { فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ } ، لذلك منهم : { عَلِيمٌ } به . فهذا معنى الآية الذي لا شك فيه ولا شبهة . فمن حلف أن لا يطأ امرأته - ولم يقيد بمدة ، أو قيد بزيادة على أربعة أشهر - كان علينا إمهاله أربعة أشهر . فإذا مضت فهو بالخيار : إما رجع إلى نكاح امرأته ، وكانت زوجته بعد مضي المدة كما كانت زوجته قبلها ، أو طلقها ، وكان له حكم المطلق لامرأته ابتداء . وأما إذا وقّت بدون أربعة أشهر : فإن أراد أن يبر في يمينه اعتزل امرأته التي حلف منها حتى تنقضي المدة . كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين آلى من نسائه شهراً . فإنه اعتزلهن حتى مضى الشهر . وإن أراد أن يطأ امرأته قبل مضي تلك المدة التي هي دون أربعة أشهر حنث في يمينه ولزمته الكفارة . وكان ممتثلاً لما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله : < من حلف على يمين فرأى غيره خيراً منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه > .
قال الحرالي : وفي قوله تعالى : { فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ، تهديد بما يقع في الأنفس والبواطن من المضارة والمضاجرة بين الأزواج في أمور لا تأخذها الأحكام ، ولا يمكن أن يصل إلى علمها الحكام ، فجعلهم أمناء على أنفسهم فيما بطن وظهر . ولذلك رأى العلماء أن الطلاق أمانة في أيدي الرجال ، كما أن العدد والاستبراء أمانة في أيدي النساء . فلذلك انتظمت آية تربص المرأة في عدتها بآية تربص الزوج في إيلائه .
قال الإمام ابن كثير : وقد ذكر الفقهاء وغيرهم - في مناسبة تأجيل المولي بأربعة أشهر - الأثر الذي رواه مالك عن عبد الله بن دينار قال : خرج عُمَر بن الخطاب من الليل فسمع امرأة تقول :
~تطاول هذا الليل واسودّ جانبه وأرّقني ألا خَليلَ ألاعبُه
~فوالله ! لولا الله ، أني أراقبُه لحُرِّك من هذا السرير جوانبُه
فسأل عمر ابنته حفصة رضي الله عنهما : كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها ؟ فقالت ستة أشهر أو أربعة أشهر . فقال عمر : لا أحبس أحداً من الجيوش أكثر من ذلك . وقال محمد بن إسحاق عن السائب بن جبير مولى ابن عباس وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما زلت أسمع حديث عمر أنه خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة وكان يفعل ذلك كثيراً إذ مر بامرأة من نساء العرب مغلقة بابها تقول :
~تطاول هذا الليل وازورّ جَانِبُه وأرّقَني ألا ضجيعَ ألاعبُه
~ألاعبه طوراً وطوراً كأنما بدا قمراً في ظلمة الليل حاجبُه
~يُسَرُّ به من كان يلهو بقربه لطيف الحشا لا يحتويه أقاربُه
~فوالله ! لولا الله ، لا شيء غيره لنُقِّض من هذا السرير جوانبه
~ولكنني أخشى رقيباً موكَّلاً بأنفاسنا ، لا يفتر الدهرّ كاتبُه
~مخافة ربي ، والحياء يصدّني وإكرام بعلي ، أن تنال مراكبه
ثم ذكر بقية ذلك - كما تقدم أو نحوه - وقد روي هذا من طرق ، وهو من المشهورات .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ } [ 228 ]
.
{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ } ، هذا أمر للمطلقات بأن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، أي : بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء ، ثم تتزوج إن شاءت . وأريد بالمطلقات : المدخول بهن من ذوات الأقراء ، لما دلت الآيات والأخبار أن حكم غيرهن خلاف ما ذكر . أما غير المدخولة فلا عدة عليها لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ } [ الأحزاب : 49 ] ، وأما التي لم تحض فعدتها ثلاثة أشهر لقوله تعالى : { وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ } [ الطلاق : 4 ] ، وأما الحامل فعدتها وضع الحمل لقوله تعالى : { وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 4 ] .
فهذه الآية من العام المخصوص .
قال الزمخشري : فإن قلت : فما معنى الإخبار عنهن بالتربص ؟ قلت : هو خير في معنى الأمر ، وأصل الكلام وليتربص المطلقات ، وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله . فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص . فهو يخبر عنه موجوداً . ونحوه قولهم في الدعاء : " رحمك الله " أخرج في صورة الخبر ثقة بالاستجابة . كأنما وجدت الرحمة ، فهو يخبر عنها . وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضاً فضل توكيد . ولو قيل : ويتربص المطلقات لم يكن بتلك الوكادة . . فإن قلت : هلا قيل : يتربصن ثلاثة قروء ، كما قيل تربص أربعة أشهر ، وما معنى ذكر الأنفس ؟ قلت : في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث ، لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن . وذلك أن أنفس النساء طوامح إلى الرجال . فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربص .
و القرء : من الأضداد . يطلق على الحيض والطهر . نص عليه من أئمة اللغة : أبو عبيدة والزجاج وعمرو بن العلاء وغيرهم . والبحث في ترجيح أحدهما طويل الذيل ، استوفاه الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " فانظره . ولمن نظر إلى موضوعه اللغوي أن يقول : تنقضي العدة بثلاثة أطهار أو بثلاث حيض . فأيهما اعتبرته المعتدة خرجت عن عهدة التكليف به . والله أعلم { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ } ، - أي : المطلقات - : { أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } ، من الحيض أو الولد ، استعجالاً في العدة أو إبطالاً لحق الزوج في الرجعة : { إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ } ، أي : إن جرين على مقتضى الإيمان به ، المخوف من ذاته : { وَالْيَوْمِ الآخِرِ } ، المخوف من جزائه . ودل هذا على أن المرجع في هذا إليهن ، لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتهن ، ويتعذر إقامة البينة على ذلك . فرد الأمر إليهن ، وتوعدن فيه لئلا يخبرن بغير الحق . وهذه الآية دالة على أن كل من جعل أميناً في شيء فخان فيه ، فأمره عند الله شديد { وَبُعُولَتُهُنَّ } - أي : أزواجهن - : { أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } ، أي : يرجعتهن ، والكلام في الرجعية بدليل الآية التي بعدها : { فِي ذَلِكَ } ، أي : في زمان التربص ، وهي أيام الأقراء . أما إذا انقضت مدة التربص فهي أحق بنفسها ، ولا تحل له إلا بنكاح مستأنف بولي وشهود ومهر جديد . ولا خلاف في ذلك : { إِنْ أَرَادُواْ } ، أي : بالرجعة : { إِصْلاَحاً } ، لما بينهم وبينهن ، وإحساناً إليهن ، ولم يريدوا مضارتهن . وإلا فالرجعة محرمة لقوله تعالى : { وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا } [ البقرة : 231 ] ، { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } . أي ولهن على الرجال مثل ما للرجال عليهن . فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف . كما ثبت في " صحيح مسلم " : عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع : < فاتقوا الله في النساء . فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله . ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه . فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف > .
وعن معاوية بن حيدة قال : قلت : يا رسول الله ! ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال : < أن تطعمها إذا طعمتَ ، وتكسوها إذا اكتسيتَ ، ولا تضرب الوجه ، ولا تقبح ، ولا تهجر إلا في البيت > . رواه أبو داود وقال : معنى لا تقبح : لا تقل قبحك الله .
وعن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه > متفق عليه .
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته .
والأمير راع ، والرجل راع على أهل بيته ، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده . فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته > . متفق عليه .
وعن طَلْق بن علي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته ، وإن كانت على التنور > . رواه الترمذي والنسائي .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه ، فلم تأته ، فبات غضبان عليها ، لعنتها الملائكة حتى تصبح > . متفق عليه .
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إني لأحبُّ أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي ، لأن الله يقول : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } .
تنبيه :
المعروف : ما عرفته الطباع السليمة ولم تنكره ، مما قبله العقل ، ووافق كرم النفس ، وأقره الشرع . وقد قال بعض الفقهاء : لا يجب عليها خدمة زوجها في عجن وخبز وطبخ ونحوه ، لأن المعقود عليه منفعة البضع ، فلا يملك غيرها من منافعها . . ! ولكن مفاد الآية يرد هذا ويدل على وجوب المعروف من مثلها لمثله ؛ وبه أفتى الإمام ابن تيمية وفاقاً للمالكية . وإليه ذهب أبو بكر بن أبي شيبة وأبو إسحاق الجوزجاني ، واحتجا بما روي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى على ابنته فاطمة بخدمة البيت وعلى ما كان خارجاً من البيت من عمل . رواه الجوزجاني من طرق .
واستدل بالآية أيضاً على وجوب إخدامها ، إذا كان مثلها لا يخدم نفسها .
{ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } : أي : زيادة في الحق وفضيلة . كما قال تعالى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [ النساء : 34 ] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها > . رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح { وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ } أي : غالب في انتقامه ممن عصاه ، حكيم في أمره وشرعه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ 229 ]
.
{ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } ، الطلاق بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم ، وهو متبدأ بتقدير مضاف ، خبره ما بعده . أي : عدد الطلاق الذي يستحق الزوج فيه الرد والرجعة مرتان ، أي : اثنتان ، وإيثار ما ورد به النظم الكريم عليه للإيذان بأن حقهما أن يقعا مرة بعد مرة لا دفعة واحدة ، وإن كان حكم الرد ثابتاً حينئذ أيضاً .
قال ابن كثير : هذه الآية رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام : من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة مادامت في العدة ، فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات ، قصرهم الله تعالى على ثلاث طلقات ، وأباح الرجعة في المرة الثانية [ في المطبوع : وثنتين ] ، وأبانها بالكلية في الثالثة ، فقال : { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } الآية .
قال الإمام أبو داود في " سننه " : باب نسخ المراجعة بعد الطلقات الثلاث . ثم أسند عن ابن عباس في هذه الآية قال : إن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها ، وإن طلقها ثلاثاً . فنسخ ذلك ، فقال : { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } الآية . ورواه النسائي وغيره . وروى الترمذي عن عائشة قالت : كان الناس والرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة مرة أو أكثر ، حتى قال رجل لامرأته : والله لا أطلقك فتبينين مني ولا أؤويك أبداً . . ! قالت : وكيف ذاك ؟ قال : أطلقك . فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك . فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة فأخبرتها ، فسكتت عائشة حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل القرآن : { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } الآية . قالت عائشة فاستأنف الناس الطلاق مستقبلاً . من كان طلق ومن لم يكن طلق . ثم أسند عن عروة ولم يذكر عائشة ، وقال : هو أصح .
وقوله تعالى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } ، أي : فالحكم بعد تطليق الرجل امرأته تطليقتين : أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها ؛ أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئاً ، ولا يذكرها بعد المفارقة بسوء ، ولا ينفر الناس عنها .
قال الرازي : الحكمة في إثبات حق الرجعة : أن الْإِنْسَاْن ما دام يكون مع صاحبه لا يدري أنه هل تشق عليه مفارقته أو لا ؟ فإذا فارقه فعند ذلك يظهر . فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع لعظمت المشقة على الْإِنْسَاْن بتقدير أن تظهر المحبة بعد المفارقة ، ثم لما كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة ، فلا جرم أثبت تعالى حق المراجعة بعد المفارقة مرتين ؛ وعند ذلك قد جرب الْإِنْسَاْن نفسه في تلك المفارقة وعرف حال قلبه في ذلك الباب . فإن كان الأصلح إمساكها راجعها و [ في المطبوع : أو ] أمسكها بالمعروف . وإن كان الأصلح له تسريحها سرحها على أحسن الوجوه . وهذا التدريج والترتيب يدل على كمال رحمته ورأفته بعبده .
{ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ } ، - أي : أيها المطلقون : { أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً } - من المهر وغيره - : { إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ } أي : فيما يلزمها من حقوق الزوجية - : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } ، أي : نفسها عن ضرره ؛ أي : لا إثم على الزوج في أخذ ما افتدت به ، ولا عليها في إعطائه . وهذه الآية أصل في الخلع .
وقد ذكر ابن جرير : أن هذه الآية نزلت في شأن ثابت بن قيس وكانت زوجته لا تطيقه بغضاً . ففي " صحيح البخاري " عن ابن عباس : أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ! ما أعيب عليه في خلق ولا دين . ولكن أكره الكفر في الإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أتردين عليه حديقته ؟ > قالت : نعم ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < اقبل الحديقة وطلقها تطليقة > . وقد بسط طرق هذا الحديث مع أحكام الخلع الإمام ابن كثير في " تفسيره " ، وكذا شمس الدين ابن القيم في " زاد المعاد " فلتنظره ثمه .
{ تِلْكَ } - أي : الأحكام العظيمة المتقدمة للطلاق والرجعة والخلع وغيرها . . . - : { حُدُودُ اللّهِ } - شرائعه - : { فَلاَ تَعْتَدُوهَا } - بالمخالفة والرفض - : { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ، أي : لأنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعقابه . وتعقيب النهي بالوعيد للمبالغة في التهديد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ 230 ]
.
{ فَإِن طَلَّقَهَا } - أي : بعد التطليقتين - : { فَلاَ تَحِلُّ لَهُ } - برجعة ولا بنكاح جديد : { مِن بَعْدُ } - أي : - من بعد هذا الطلاق - : { حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } أي : حتى تذوق وطء زوج آخر ، وهي العسيلة التي صرح بها النبي صلى الله عليه وسلم في نكاح صحيح . وفي جعل هذا غاية للحل ، زجر لمن له غرض ما في امرأته عن طلاقها ثلاثاً ، لأن كل ذي مروءة يكره أن يفترش امرأته آخر .
فروع مهمة تتعلق بهذه الآية :
الأول : قال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " : حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المطلقة ثلاثاً لا تحل للأول حتى يطأها الزوج الثاني . ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها : أن امرأة رِفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ! إن رِفاعة طلقني فبتّ طلاقي . وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي ، وإن ما معه مثل الهدبة ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لعلك تريدين أن ترجعي إلى رِفاعة ؟ لا ، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك > . وفي " سنن النسائي " . عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < العسيلة الجماع ولو لم ينزل > . وفيها عن ابن عمر قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا ًفيتزوجها الرجل فيغلق الباب ويرخي الستر ثم يطلقها قبل أن يدخل بها ؟ قال : < لا تحل للأول حتى يجامعها الآخر > . فتضمن هذا الحكم أموراً :
أحدها : أنه لا يقبل قول المرأة على الرجل : أنه لا يقدر على جماعها .
الثاني : أن إصابة الزوج الثاني شرط في حلها للأول ، خلافاً لمن اكتفى بمجرد العقد ، فإن قوله مردود بالسنة التي لا مردّ لها .
الثالث : أنه لا يشترط الإنزال بل يكفي مجرد الجماع الذي هو ذوق العسيلة .
الرابع : أنه صلى الله عليه وسلم لم يجعل مجرد العقد المقصود - الذي هو نكاح رغبة - كافياً ، ولا اتصال الخلوة به وإغلاق الأبواب وإرخاء الستور حتى يتصل به الوطء... . وهذا يدل على أنه لا يكفي مجرد عقد التحليل الذي لا غرض للزوج والزوجة فيه سوى صورة العقد وإحلالها للأول بطريق الأَولى .
فإنه إذا كان عقد الرغبة المقصود للدوام غير كافٍ حتى يوجد فيه الوطء ، فكيف يكفي عقد تيس مستعار ليحلها ، لا رغبة له في إمساكها ، وإنما هو عارية كحمار الفرس المستعار للضراب ! .
وقال - عليه الرحمة - قبل ذلك : وأما نكاح المحلل ، ففي " الترمذي " و " المسند " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : < لعن الله المحلل والمحلل له > , قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وفي " المسند " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : < لعن الله المحلل المحلل له > ، وإسناده حسن . وفيه عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . وفي " سنن ابن ماجة " من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ألا أخبركم بالتيس المستعار ؟ > قالوا : بلى يا رسول الله ! قال : < هو المحلل ، لعن الله المحلل والمحلل له > . فهؤلاء الأربعة من سادات الصحابة رضي الله عنهم ، وقد شهدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلعنه أصحاب التحليل ، وهم المحلل والمحلل له . وهذا إما خبر عن الله فهو خبر صدق . وإما دعاء مستجاب قطعاً . وهذا يفيد أنه من الكبائر الملعون فاعلها . ولا فرق عند أهل المدينة وأهل الحديث وفقهائهم بين اشتراط ذلك بالقول أو بالتواطؤ والقصد . فإن المقصود [ في المطبوع : القصود ] في العقود عندهم معتبرة . والأعمال بالنيات . والشرط المتواطأ عليه الذي دخل عليه المتعاقدان كالملفوظ عندهم . والألفاظ لا تراد لعينها بل للدلالة على المعاني ، فإذا ظهرت المعاني والمقاصد فلا عبرة بالألفاظ ، لأنها وسائل قد تحققت غاياتها فترتب عليها أحكامها .
وقد ساق ابن كثير الأحاديث الواردة في ذلك : منها ما قدمناه ، ومنها ما رواه الحاكم في " مستدركه " : عن نافع قال : جاء رجل إلى ابن عمر . فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثاً فتزوجها أخ له ، من غير مؤامرة منه ، ليحلها لأخيه : هل تحل للأول ؟ فقال لا . إلا نكاح رغبة ، كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه . وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن عمر أنه قال : لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما . وروى البيهقي : أن عثمان بن عفان رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها ، ففرق بينهما . وكذا روي عن علي وابن عباس وغير واحدٍ من الصحابة رضي الله عنهم .
وبالجملة : فالتحليل غير جائز في الشرع . ولو كان جائزاً لم يلعن فاعله والراضي به . وإذا كان لعن الفاعل لا يدل على تحريم فعله لم تبق صيغة تدل على التحريم قط . وإذا كان هذا الفعل حراماً غير جائز في الشريعة فليس هو النكاح الذي ذكره الله تعالى في قوله : { حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } . كما أنه لو قال : لعن الله بائع الخمر لم يلزم من لفظ بائع أنه قد جاز بيعه وصار من البيع الذي أذن فيه بقوله : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } والأمر ظاهر .
فصل
قال الإمام ابن القيم في " أعلام الموقعين " :
إلزام الحالف بالطلاق والعتاق ، إذا حنث ، بطلاق زوجته وعتق عبده - مما حدث الإفتاء به بعد انقراض عصر الصحابة - فلا يحفظ عن صحابي في صيغة القسم إلزام الطلاق به أبداً . وإنما المحفوظ إلزام الطلاق بصيغة الشرط والجزاء - الذي قصد به الطلاق عند وجود الشرط - كما في " صحيح البخاري " عن نافع قال : طلق رجل امرأته البتة إن خرجت . فقال ابن عمر : إن خرجت فقد بانت منه ، وإن لم تخرج فليس بشيء . فهذا لا ينازع فيه إلا من يمنع وقوع الطلاق المعلق بالشرط مطلقاً . وأما من يفصل بين القسم المحض والتعليق الذي يقصد به الوقوع ، فإنه يقول بالآثار المروية عن الصحابة كلها في هذا الباب . فإنه صح عنهم الإفتاء بالوقوع في صور . وصح عنهم عدم الوقوع في صور . والصواب : ما أفتوا به في النوعين . ولا يؤخذ ببعض فتاويهم ويترك بعضها . فأما الوقوع : فالمحفوظ عنهم ما ذكره البخاري عن ابن عمر ، وما رواه الثوري عن ابن مسعود في رجل قال لامرأته : إن فعلت كذا وكذا فهي طالق ، ففعلته . قال : هي واحدة وهو أحق بها . على أنه منقطع . وكذلك ما ذكره البيهقي وغيره عن ابن عباس في رجل قال لامرأته : هي طالق إلى سنة . قال : يتمتع بها إلى سنة . ومن هذا قول أبي ذر لامرأته وقد ألحت عليه في سؤاله عن ليلة القدر فقال : إن عدت سألتيني فأنت طالق . فهذه جميع الآثار المحفوظة عن الصحابة في وقوع الطلاق المعلق . وأما الآثار عنهم في خلافه : فصح عن عائشة وابن عباس وحفصة وأم سلمة - رضي الله عنهم - فيمن حلفت بأن كل مملوك لها حر إن لم تفرق بين عبدها وبين امرأته أنها تكفّر عن يمينها ولا تفرق بينهما . رواه الأثرم في " سننه " والجوزجاني في " المترجم " والدارقطني والبيهقي .
وقاعدة الإمام أحمد : أن ما أفتى به الصحابة لا يخرج عنه ، إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه . فعلى أصله الذي بنى مذهبه عليه ، يلزمه القول بهذا الأثر لصحته وانتفاء علته . قال أبو محمد بن حزم : وصح عن ابن عمر وعائشة وأم سلمة - أمي المؤمنين - أنهم جعلوا في قول ليلى بنت العجماء : كل مملوك لها حر وكل مال لها هدي وهي يهودية ونصرانية إن لم تطلق امراتك ,كفارة يمين واحة . وإذا صح هذا عن الصحابة ولم يعلم لهم مخالف في قول الحالف : عبده حر إن فعل ، أنه يجزيه كفارة يمين ، ولم يلزموه بالعتق المحبوب إلى الله ، فأن لا يلزموه بالطلاق البغيض إلى الله أولى وأحرى . كيف وقد أفتى علي بين أبي طالب رضي الله عنه : الحالف بالطلاق ، أنه لا شيء عليه . . . ولم يعرف له في الصحابة مخالف ؟ . قال عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن علي التَّيمي المعروف بابن بريرة الأندلسي في شرحه لأحكام عبد الحق, الباب الثالث في حكم اليمين بالطلاق أو الشك منه : وقد قدمنا في كتاب الأيمان اختلاف العلماء في اليمين بالطلاق والعتق والمشي وغير ذلك ، هل يلزم أم لا ؟ فقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وشريح وطاوس : لا يلزم من ذلك شيء ، ولا يقضي بالطلاق على من حلف به فحنث . ولا يعرف في ذلك مخالف من الصحابة - هذا لفظه بعينه - فهذه فتوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلف بالعتق والطلاق .
وقد قدمنا فتاويهم في وقوع الطلاق المعلق بالشرط - ولا تعارض بين ذلك - فإن الحالف لم يقصد وقوع الطلاق وإنما قصد منع نفسه بالحلف بما لا يريد وقوعه . . إلى أن قال : وإذا دخلت اليمين بالطلاق في قول الحالف : أيمان البيعة تلزمني - وهي الأيمان التي رتبها الحجاج - فلم لا تكون أولى بالدخول في لفظ الأيمان في كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟ فإن كانت يمين الطلاق يميناً شرعية - بمعنى أن الشرع اعتبرها - وجب أن تعطى حكم الأيمان . وإن لم تكن يميناً شرعياً كانت باطلة في الشرع فلا يلزم الحالف بها شيء ، كما صح عن طاوس من رواية عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عنه : ليس الحلف بالطلاق شيئاً . وصح عن عكرمة من رواية سُنَيْد بن داود في " تفسيره " عنه : إنها من خطوات الشيطان لا يلزم بها شيء . وصح عن شريح - قاضي عليّ - وابن مسعود : إنها لا يلزم بها الطلاق . وهو مذهب داود بن علي وجميع أصحابه . فهذه أقوال أئمة المسمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم .
فصل
وقال الإمام ابن القيّم - أيضاً - في " أعلام الموقعين " :
إن المطلّق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وزمن أبي بكر ، وصدراً من خلافة عمر ، كان إذا جمع الطلقات الثلاث بفم واحد جعلت واحدة . كما ثبت ذلك في الصحيح عن ابن عباس . فروى مسلم في " صحيحه " عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس : كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر : طلاق الثلاث واحدة . فقال عُمَر بن الخطاب : إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم في أناة . فلو أمضيناه عليهم ؛ فأمضاه عليهم . وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : طلق رُكانة بن عبد يزيد أخو بني مطّلب امرأته ثلاثاً في مجلس واحد ، فحزن عليها حزناً شديداً . قال : فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف طلقها ؟ قال : طلقها ثلاثاً ، قال : فقال : في مجلس واحد ؟ قال نعم . قال : فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت ، قال : فرجعها . كان ابن عباس يرى : إنما الطلاق عند كل طهر . وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد وحسنه . ثم إن عُمَر بن الخطاب - رضي الله عنه - لم يَخفَ عليه . أن هذا هو السنة ، وأنه توسعة من الله لعباده إذ جعل الطلاق مرة بعد مرة . وما كان مرة بعد مرة لم يملك المكلف إيقاع كله جملة واحدة . كاللعان فإنه لو قال : أشهد بالله أربع شهادات إني لمن الصادقين ، كان مرة واحدة . ولو حلف في القسامة وقال : أقسم بالله خمسين يميناً إن هذا قاتله ، كان يميناً واحدة . ولو قال المقر بالزنا : أنا أقر أربع مرات أني زنيت ، كان مرة واحدة . فمن يعتبر الأربع لا يجعل ذلك الإقرار إلا واحداً . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : < من قال في يوم سبحان الله وبحمده مائة مرة حطّت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر > . فلو قال : سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يحصل له هذا الثواب حتى يقولها مرة بعد مرة . وكذلك قوله : < من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين وحمده ثلاثاً وثلاثين وكبّره ثلاثاً وثلاثين > . . الحديث ، لا يكون عاملاً به حتى يقول ذلك مرة بعد مرة ، لا يجمع الكل بلفظ واحد . . وكذلك قوله : < من قال في يوم لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة كانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي > . لا يحصل هذا إلا بقولها مرة بعد مرة . وهذا كما أنه في الأقوال والألفاظ فكذلك هو في الأفعال سواء . كقوله تعالى : { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ } [ التوبة : 101 ] ، إنما هو مرة بعد مرة . وكذا قول ابن عباس : رأى محمد ربه بفؤاده مرتين ، إنما هو مرة بعد مرة . وكذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : < لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين > . فهذا هو المعقول من اللغة والعرف . فالأحاديث المذكورة ، وهذه النصوص المذكورة وقوله تعالى : { } كلها من باب واحد ومشكاة واحدة . والأحاديث المذكورة تفسر المراد من قوله تعالى : { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } . فهذا كتاب الله ، وهذه سنة رسوله ، وهذه لغة العرب ، وهذا عرف التخاطب ، وهذا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والصحابة كلهم معه في عصره ، وثلاث سنين من عصر عمر رضي الله عنه ، على هذا المذهب ، فلو عدّهم العادّ لزادوا على الألف قطعاً . ولهذا ادّعى بعض أهل العلم أن هذا إجماع قديم ، ولم تجمع الأمة - ولله الحمد - على خلافه . بل لم يزل فيهم من يفتي به قرناً بعد قرن ، وإلى يومنا هذا . فأفتى به من الصحابة ابن عباس والزبير وابن عوف . وعن علي وابن مسعود روايتان ، ومن التابعين عِكْرِمَة وطاوس . ومن تابعيهم : محمد بن إسحاق وغيره . وممن بعدهم دواد إمام أهل الظاهر ، وبعض أصحاب مالك ، وبعض الحنفية ، وأفتى بعض أصحاب أحمد - حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية عنه - قال : وكان الجد يفتي به أحياناً .
والمقصود أن هذا القول قد دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم . ولم يأتي بعده إجماع يبطله . ولكن رأى أمير المؤمنين عمر ، رضي الله عنه ، أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق ، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة ، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم ، ليعلموا أن أحدهم ، إذا أوقعه جملة ، بانت منه المرأة وحرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره ، نكاح رغبة يراد للدوام لا نكاح تحليل ، فإنه كان من أشد الناس فيه ، فإذا علموا ذلك كفّوا عن الطلاق . فرأى عمر هذا مصلحة لهم في زمانه . ورأى أن ما كانوا عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصديق وصدراً من خلافته - كان اللائق بهم ، لأنهم لم يتتابعوا فيه . وكانوا يتقون الله في الطلاق . وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجاً . فلما تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله وطلقوا على غير ما شرعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم . فإن الله سبحانه إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة . ولم يشرعه كله مرة واحدة . فمن جمع الثلاث في مرة واحدة فقد تعدى حدود الله ، وظلم نفسه ، ولعب بكتاب الله . فهو حقيق أن يعاقب ويلزم بما التزمه ، ولا يقر على رخصة الله وسعته ، وقد ضيعها على نفسه . ولم يتق الله ويطلق كما أمره الله وشرعه له ، بل استعجل فيما جعل الله له الأناة فيه ، رحمة وإحساناً . واختار الأغلظ والأشد . فهذا ما تغيرت به البلوى لتغير الزمان ، وعلم الصحابة رضي الله عنهم حسن سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك ، فوافقوه على ما ألزم به ، ثم قال : فلما تغير الزمان ، وبعد العهد بالسنة وآثار القوم ، وقامت سوق التحليل ونفقت في الناس ، فالواجب أن يُردَّ الأمر إلى ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته من الإفتاء بما يعطل سوق التحليل ويقللها ويخفف شرها . وإذا عُرض إلى من وفقه الله وبصره بالهدى وفقهه في دينه . مسألة كون الثلاث واحدة ومسألة التحليل ، ووازن بينهما - تبين له التفاوت ، وعلم أي : المسألتين أولى بالدين وأصلح للمسلمين .
ثم قال عليه الرحمة : ويمتنع في هذه الأزمنة معاقبة الناس بما عاقبهم به عمر رضي الله عنه من وجهين :
أحدهما : أن أكثرهم لا يعلم أن جمع الثلاث حرام ، لا سيما وكثير من الفقهاء لا يرى تحريمه ، فكيف يعاقب من لم يرتكب محرماً عند نفسه ؟
الثاني : أن عقوبتهم بذلك تفتح عليهم باب التحليل الذي كان مسدوداً على عهد الصحابة رضي الله عنهم . والعقوبة - إذا تضمنت مفسدة أكثر من الفعل المعاقب عليه - كان تركها أحب إلى الله ورسوله . ولا يستريب أحد في أن الرجوع إلى ما كان عليه الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق وصدر من خلافة عمر أولى من الرجوع إلى التحليل ، والله الموفق .
فصل
وأما طلاق الغضبان ففي " أعلام الموقعين " ما نصه :
إن اللفظ إنما يوجب معناه لقصد المتكلم به . والله سبحانه رفع المؤاخذة عمن حدث نفسه بأمر بغير تلفظ أو عمل ، كما رفعها عمن تلفظ من غير قصد لمعناه ولا إرادة . ولهذا لم يكفر من جرى على لسانه لفظ الكفر سبقاً من غير قصد ، لفرح أو دهش أو غير ذلك ، كما في حديث الفرح الإلهي بتوبة العبد ، وضرب مثل ذلك : من فقد راحلته عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة فأيس منها ثم وجدها فقال : اللهم ! أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح ، ولم يؤاخذ بذلك وكذلك إذا أخطأ من شدة الغضب لم يؤاخذ . ومن هذا قوله تعالى : { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } [ يونس : 11 ] ، قال السلف : هو دعاء الْإِنْسَاْن على نفسه وولده وأهله في حال الغضب ، لو استجابه الله تعالى لأهلكه وأهلك من يدعو عليه ، ولكنه لا يستجيبه لعلمه أن الداعي لم يقصده . ومن هذا رفعه صلى الله عليه وسلم حكم الطلاق عمن طلق في إغلاق . قال الإمام أحمد رضي الله عنه في رواية حنبل : هو الغضب .
وبذلك فسره أبو داود . وهو قول القاضي إسماعيل بن إسحاق - أحد أئمة المالكية ومقدم فقهاء أهل العراق منهم - وهي عنده من لغو اليمين أيضاً . فأدخل يمين الغضبان في لغو اليمين وفي يمين الإغلاق . وحكاه شارح أحكام عبد الحق عنه - وهو ابن بريرة الأندلسي - قال : وهذا قول علي وابن عباس رضي الله عنهم وغيرهما من الصحابة : أن الإيمان المنعقدة كلها في حال الغضب لا تلزم . وفي " سنن الدارقطني " بإسناد فيه لين من حديث ابن عباس يرفعه : لا يمين في غضب ، ولا عتاق فيما لا يملك . وهو ، إن لم يثبت رفعه ، فهو قول ابن عباس . وقد فسر الشافعي لا طلاق في إغلاق بالغضب ، وفسره مسروق به . فهذا مسروق والشافعي وأحمد وأبو داود والقاضي إسماعيل كلهم فسروا الإغلاق بالغضب . وهو من أحسن التفسير . لأن الغضبان قد أغلق عليه باب القصد لشدة غضبه . وهو كالمكره . بل الغضبان أولى بالإغلاق من المكره ، لأن المكره قد قصد رفع الشر الكثير بالشر الذي هو دونه ، فهو قاصد حقيقة . ومن ههنا أوقع عليه الطلاق من أوقعه . وأما الغضبان فإن انغلاق باب القصد والعلم عنه كانغلاقه عن السكران والمجنون . فإن غول العقل يغتاله الخمر بل أشد . وهو شعبة من الجنون ، ولا يشك فقيه النفس في أن هذا لا يقع طلاقه . ولهذا قال حبر الأمة - الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم ، بالفقه في الدين : إنما يقع الطلاق من وطرٍ . ذكره البخاري في صحيحه ، أي : عن غرض من المطلق في وقوعه . وهذا من كمال فقهه رضي الله عنه ، وإجابة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له ؛ إذ الألفاظ إنما تترتب عليها موجباتها لقصد اللافظ بها . والله لم يؤاخذنا باللغو في أيماننا . ومن اللغو ما قالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وجمهور السلف : إنه قول الحالف : لا والله ، وبلى ، والله . في عرض كلامه من غير عقد لليمين ، كذلك لا يؤاخذ الله باللغو في أيمان الطلاق كقول الحالف في عرض كلامه : عليّ الطلاق لا أفعل و الطلاق يلزمني لا أفعل من غير قصد لعقد اليمين . بل إذا كان اسم الرب جل جلاله لا ينعقد به يمين اللغو ، فيمين الطلاق أولى أن لا ينعقد ، ولا تكون أعظم حرمة من الحلف بالله . وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وهو الصواب . فإياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعرفه ، فتجني عليه وعلى الشريعة ، وتنسب إليها ما هي بريئة منه ، وتلزم الحالف والمقر والناذر والعاقد ما لم يلزمه الله ورسوله به . فاللغو في الأقوال نظير الخطأ والنسيان في الأفعال . وقد رفع الله المؤاخذة بهذا . وهذا كما قال المؤمنون : { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [ البقرة : 286 ] ! فقال ربهم تبارك وتعالى : قد فعلت .
وفي [ زاد المعاد ] قال شيخنا : حقيقة الإغلاق : أن يغلق على الرجل قلبه فلا يقصد الكلام أو لا يعلم به كأنه انغلق عليه قصده وإرادته .
قال أبو العباس المبرد : الغلق ضيق الصدر وقلة الصبر حتى لا يجد له مخلصاً .
قال شيخنا : ويدخل في ذلك طلاق المكره والمجنون ومن زال عقله بسكر أو غضب وكل من لا قصد له ولا معرفة له بما قال .
والغضب على ثلاثة أقسام :
أحدها : ما يزيل العقل فلا يشعر صاحبه بما قال . وهذا لا يقع طلاقه بلا نزاع .
الثاني : ما يكون في مباديه ، بحيث لا يمنع صاحبه من تصوّر ما يقول وقصده ، فهذا يقع طلاقه .
الثالث : أن يستحكم ويشتد به ، فلا يزيل عقله بالكلية ، ولكن يحول بينه وبين نيته بحيث يندم على ما فرط منه إذا زال . فهذا محل نظر . وعدم الوقوع في هذه الحالة قوي متجه .
فصل
وأما طلاق الحائض والنفساء والموطوءة في طهرها ، ففي الصحيحين أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض - على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فسأل عُمَر بن الخطاب ، عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : < مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسكها بعد ذلك وإن شاء طلقها قبل أن يمس ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء > . ولمسلم : < مره فليراجعها ثم ليطلقها إذا طهرت أو وهي حامل > وفي لفظ : < إن شاء طلقها طاهراً قبل أن يمس ، فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله تعالى > . وفي لفظ للبخاري : < مره فليراجعها ثم ليطلقها في قُبُلِ عدتها > . وفي لفظ لأحمد وأبي داود والنسائي ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : طلق عبد الله بن عُمَر امرأته وهي حائض فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرها شيئاً وقال : < إذا طهرت فليطلق أو ليمسك > . وقال ابن عمر رضي الله عنه قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } في قبل عدتهن ، فتضمن هذا الحكم أن الطلاق على أربع أوجه : وجهان حلالان ووجهان حرامان .
فالحلال : أن يطلق امرأته طاهراً من جماع . أو يطلقها حاملاً مستبيناً حملها . والحرام : أن يطلقها وهي حائض . أو يطلقها في طهر جامعها فيه . هذا في طلاق المدخول بها . وأما من لم يدخل بها فيجوز طلاقها حائضاً وطاهراً .
ثم إن الخلاف في وقوع الطلاق المحرم لم يزل ثابتاً بين السلف والخلف . وقد وهم من ادعى الإجماع على وقوعه وقال بمبلغ علمه وخفي عليه من الخلاف ما اطلع عليه غيره . وقد قال الإمام أحمد : من ادعى الإجماع فهو كاذب . وما يدريه لعل الناس اختلفوا ؟ كيف والخلاف بين الناس في هذه المسألة معلوم الثبوت عن المتقدمين والمتأخرين . . ؟ ! .
وقال محمد بن عبد السلام الخُشَنِي : ثنا محمد بشار : ثنا عبد الوهاب بن عبد الحميد الثقفي . ثنا عبيد الله بن عُمَر عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال ، في رجل يطلق امرأته وهي حائض ، قال ابن عمر : لا يعتد بذلك . ذكره أبو محمد بن حزم في " المحلى " بإسناده إليه .
وقال عبد الرزاق في " مصنفه " عن ابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه : أنه كان لا يرى طلاق ما خالف وجه الطلاق ووجه العدة . وكان يقول : وجه الطلاق أن يطلقها طاهراً من غير جماع أو إذا استبان حملها .
قال أبو محمد بن حزم : العجب من جراءة من ادعى الإجماع على خلاف هذا وهو لا يجد فيما يوافق قوله - في إمضاء الطلاق في الحيض أو في الطهر الذي جامعها فيه - كلمة عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ، غير رواية عن ابن عمر . وقد عارضها ما هو أحسن منها عن ابن عمر .
وقال أبو محمد : بل نحن أسعد بدعوى الإجماع ههنا لو استجزنا ما يستجيزون - ونعوذ بالله من ذلك - وذلك أنه لا خلاف بين أحد من أهل العلم قاطبة ، ومن جملتهم جيع المخالفين . لنا في ذلك أن الطلاق في الحيض ِأو في طهر جامعها فيه بدعة . فإذاً لا شك في هذا عندهم ، فكيف يستجيزون الحكم بتجويز البدعة التي يقرون أنها بدعة وضلالة ؟ أليس بحكم المشاهدة ، مجيز البدعة مخالفاً لإجماع القائلين بأنها بدعة . . ؟ ! .
قال أبو محمد : وحتى لو لم يبلغنا الخلاف لكان القاطع على جميع أهل الإسلام بما لا يقين عنده ، ولا بلغه عن جميعهم كاذباً على جميعهم .
هذا ما أفاده الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " . ثم ذكر حجج المانعين من وقوعه ، وحجج من أوقعه ، والمناقشة فيها ، فراجعه إن شئت .
وذكر في خلال البحث : أنه لا دليل في قوله : < مره فليراجعها > على وقوع الطلاق ، لأن المراجعة قد وقعت في كلام الله ورسوله على ثلاثة معان : منها : ابتداء النكاح كقوله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } ، ولا خلاف بين أحد من أهل العلم بالقرآن أن المطلق - ههنا - هو الزوج الثاني . وأن التراجع بينها وبين الزوج الأول . وذلك نكاح مبتدأ . ومنها : الرد الحسي إلى الحالة التي كان عليها أولاً كقوله لأبي النعمان بن بشير لما نحل ابنه غلاماً خصه به دون ولده : ردّه . فهذا رد ما لم تصح فيه الهبة الجائرة التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جوراً ، وأخبر أنها لا تصح ، وأنها خلاف العدل . ومن هذا قوله لمن فرق بين جارية وولدها في البيع ، فنهاه عن ذلك ورد البيع . وليس هذا الرد مستلزماً لصحة البيع ، فإنه بيع باطل ، بل هو رد شيئين إلى حالة اجتماعهما كما كانا . وهكذا الأمر ، بمراجعة ابن عمر امرأته ، ارتجاع ورد إلى حالة الاجتماع كما كانا قبل الطلاق ، وليس في ذلك ما يقتضي وقوع الطلاق في الحيض البتة ، وثمة وجوه أخرى ، والله أعلم .
فصل
وأما الخلع : فالتحقيق أنه فسخ لا طلاق . وأن العدة فيه حيضة ، روى أبو داود في " سننه " عن ابن عباس ؛ أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس اختلعت من زوجها ، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد حيضة ، ففي ذلك دليل على حكمين : أحدهما : أنه لا يجب عليها ثلاث حيض بل تكفيها حيضة . وهذا كما أنه صريح السنة فهو مذهب أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، وعبد الله بن عُمَر بن الخطاب ، والربيع بنت معوذ وعمها رضي الله عنهم - وهو من كبار الصحابة - فهؤلاء الأربعة من الصحابة لا يعرف لهم مخالف منهم - وذهب إلى هذا المذهب إسحاق بن راهويه والإمام أحمد ، في رواية عنه اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية . قال : هذا القول هو مقتضى قواعد الشريعة . فإن العدة إنما جعلت ثلاث حيض ليطول زمن الرجعة ويتروى الزوج ويتمكن من الرجعة في مدة العدة . فإذا لم تكن عليها رجعة ، فالمقصود مجرد براءة رحمها من الحمل . وذلك يكفي فيه حيضة كالاستبراء . ولا ينتقض هذا بالمطلقة ثلاثاً . فإن باب الطلاق جعل حكم العدة فيه واحداً بائنة ورجعية . قالوا : وهذا دليل على أن الخلع فسخ ، وليس بطلاق . وهو مذهب ابن عباس وعثمان وابن عمر والربيع وعمها . ولا يصح عن صحابي أنه طلاق البتة . فروى الإمام أحمد عن يحيى بن سعيد عن سفيان عن عَمْرو ، عن طاوس عن ابن عباس - رضي الله عنهم - أنه قال : الخلع تفريق وليس بطلاق . وذكر عبد الرزاق عن سفيان عن عَمْرو ، عن طاوس : أن إبراهيم ابن سعد سأله عن رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه ، أينكحها ؟ قال ابن عباس رضي الله عنه : نعم ! ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها ، والخلع بين ذلك .
والذي يدل على أنه ليس بطلاق ، أن الله سبحانه وتعالى رتب على الطلاق بعد الدخول الذي لم يستوف عدده ، ثلاثة أحكام كلها منتفية عن الخلع :
أحدها : أن الزوج أحق بالرجعة فيه .
الثاني : أنه مسحوب من الثلاث فلا يحل بعد استيفاء العدد إلا بعد زوج وإصابة .
الثالث : أن العدة فيه ثلاثة قروء .
وقد ثبت بالنص والإجماع أنه لا رجعة في الخلع . وثبت بالسنة وأقوال الصحابة أن العدة فيه حيضة واحدة . وثبت بالنص جوازه بعد طلقتين ووقوع ثالثة بعده . وهذا ظاهر جداً في كونه ليس بطلاق ؛ فإنه سبحانه قال : { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } [ البقرة : 229 ] ، وهذا - وإن لم يختص بالمطلقة تطليقتين - فإنه يتناولها وغيرها . ولا يجوز أن يعود الضمير إلى من لم يذكر ، ويخلى عنه المذكور ، بل إما أن يختص بالسابق ، أو يتناوله وغيره . ثم قال : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ } ، وهذا يتناول من طلقت بعد فدية تطليقتين قطعاً ؛ لأنها هي المذكورة . فلا بد من دخولها تحت اللفظ . فهذا فهم ترجمان القرآن الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن يعلمه الله تأويل القرآن ، وهي دعوة مستجابة بلا شك . وإذا كانت أحكام الفدية غير أحكام الطلاق ، دلّ على أنها غير جنسه . فهذا مقتضى النص والقياس وأقوال الصحابة . انتهى .
هذه خلاصة الحجج في هذه الفروع المهمة معرفتها . ولا يعرف قدرها إلا من صغى فهمه عن التعصبات . ومن نظر إلى ما عمت به البلوى - من التفرقة بين المرء وزوجه بمجرد الانتحال للقيل والقال ، وترك ما حققه بالدلائل الأئمة الأبطال - قضى العجب ، وبالله التوفيق .
{ فَإِن طَلَّقَهَا } - أي : الزوج الثاني - : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } أي : على المرأة ومطلقها الأول : - : { أَن يَتَرَاجَعَا } أي : إلى ما كانا فيه من النكاح بعقد جديد بعد عدة طلاق الثاني - المعلومة مما تقدم من قوله : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ } الآية - : { إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ } ، أي : التي أوجب مراعاتها على الزوجين من الحقوق : { وَتِلْكَ } أي : الأحكام المذكورة : { حُدُودُ اللّهِ } ، أي : أحكامه المحمية من التغيير والمخالفة : { يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُون } ، أي : يكشف اللبس عنها لقوم فيهم نهضة وجد في الاجتهاد ، فيجددون النظر والتأمل بغاية الاجتهاد في كل وقت ، فبذلك يعطيهم الله ملكة يميزون بها ما يلبس على غيرهم : { إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانا } [ الأنفال : 29 ] ، { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } [ البقرة : 282 ] - أفاده البقاعي .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ 231 ]
.
{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء } ، أي : طلاقاً رجعياً : { فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } ، أي : قاربن انقضاء العدة : { فَأَمْسِكُوهُنَّ } أي : بالمراجعة إن أردتم : { بِمَعْرُوفٍ } ، من غير ضرار : { أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } ، أي : بأن تتركوهن حتى تنقضي العدة فيملكن أنفسهن : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ } ، أي : بالرجعة : { ضِرَاراً } ، أي : مضارة بإزالة الألفة وإيقاع الوحشة وموجبات النفرة : { لَّتَعْتَدُواْ } ، اللام للعاقبة ، أي : لتكون عاقبة أمركم الاعتداء ؛ أو للتعليل متعلقة بالضرار فيكون علة للعلة ، أي : لتظلموهن بالإلجاء إلى الافتداء : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } ، أي : بتعريضها لسخط الله عليه ونفرة الناس منه .
{ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ } ، أي : أوامره ونواهيه : { هُزُواً } أي : مهزواً بها بأن تعرضوا عنها وتتهاونوا في المحافظة عليها : { وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } ، أي : في إرساله الرسول بالهدى والبينات إليكم : { وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ } ، أي : السنة : { يَعِظُكُم بِهِ } أي : بما أنزل . أي : يأمركم وينهاكم ويتوعدكم على المخالفة : { وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } تأكيد وتهديد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ 232 ]
.
{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } ، أي : انقضت عدتهن . وقد دل سياق الكلامين على اختلاف البلوغين ، إذ الأول دل على المشارفة للأمر بالإمساك ، وهذا على الحقيقة للنهي عن العضل : { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } أي : لا تمنعوهن : { أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } ، الذين طلقوهن ، والآن يرغبن فيهم : { إِذَا تَرَاضَوْاْ } ، أي : النساء والأزواج : { بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ } ، أي : بما يحسن في الدين من الشرائط : { ذَلِكَ } ، أي : النهي عن العضل : { يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ } ، أي : الاتعاظ بترك العضل والضرار : { أَزْكَى لَكُمْ } ، أي : أصلح لكم : { وَأَطْهَرُ } ، لقلوبكم وقلوبهن من الريبة والعدواة : { وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ، أي : يعلم ما فيه صلاح أموركم فيما يأمر وينهى ومنه ما بيّنه هنا وأنتم لا تعلمونه ، فدعوا رأيكم وامتثلوا أمره تعالى ونهيه في كل ما تأتون وما تذرون . وقد روي : أن هذه الآية نزلت في مَعْقِل بن يسار المزني وأخته .
أخرج البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم عن مَعْقِل بن يسار : أنه زوج أخته رجلاً من المسلمين ، فكانت عنده ، ثم طلقها تطليقة ولم يراجعها ، حتى انقضت العدة فهويها وهويته . فخطبها مع الخطاب . فقال له : يا لكع ! أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ، والله لا ترجع إليك أبداً . فعلم رسول الله حاجته إليها وحاجتها إليه ، فأنزل الله الآية ، فلما سمعها مَعْقِل قال : سمعٌ لربي وطاعة ! ثم دعاه وقال : أزوجك وأكرمك . زاد ابن مردويه : وكفرت عن يميني .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ 233 ]
.
{ وَالْوَالِدَاتُ } ، أي : من المطلقات : { يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } ، أي : سنتين كاملتين : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } ، أي : هذا الحكم لمن أراد أن يتم رضاع الولد ، فأفهم أنه يجوز الفطام للمصلحة قبل ذلك ، وأنه لا رضاع بعد التمام .
قال الحرالي : وهو - أي : الذي يكتفي به دون التمام - هو ما جمعه قوله تعالى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] ، فإذا كان الحمل تسعاً كان الرضاع أحداً وعشرين شهراً . وإذا كان حولين كان المجموع ثلاثاً وثلاثين شهراً ، فيكون ثلاثة آحاد وثلاثة عقود ، فيكون ذلك تمام الحمل والرضاع .
{ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ } - أي : الأب - وعبّر عنه بهذه العبارة إشارة إلى جهة وجوب المؤن عليه ، لأن الوالدات إنما ولدن للآباء ، ولذلك ينسب الولد للأب دون الأم . قال بعضهم :
~وإنما أمهات الناس أوعيةٌ مستودَعَاتٌ وللآباء أبناء
{ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } ، أي : على والد الطفل نفقة أمه المطلقة مدة الإرضاع ، أي : طعامهن ولباسهن : { بِالْمَعْرُوفِ } ، وهو قدر الميسرة كما فسره قوله تعالى : { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } ، يعني طاقتها . والمعنى : أن أبا الولد لا يكلف في الإنفاق عليه وعلى أمه إلا قدر ما تتسع به مقدرته ، ولا يبلغ إسراف القدرة : { لا تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } ، أي : يأخذ ولدها منها بعد رضاها بإرضاعه ورغبتها في إمساكه وشدة محبتها له : { وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ } ، يعني الأب : { بِوَلَدِهِ } ، بطرح الولد عليه . يعني : لا تلقي المرأة الولد إلى أبيه وقد ألفها ، تضاره بذلك . وهذا التأويل على تقدير كون تضار مبنياً للمفعول ، وأما على بنائه للفاعل ، فالمفعول محذوف والتقدير . لا تضارِر - بكسر الراء الأولى - والدة زوجها بسبب ولدها ، وهو أن تعنف به وتطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة ، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد ، وأن تقول بعد أن ألفها الصبي : اطلب له ظئراً ، وما أشبه ذلك ، ولا يضارر مولود له امرأته بسبب ولده ، بأن يمنعها شيئاً مما وجب عليه من رزقها وكسوتها ، أو يأخذه منها وهي تريد إرضاعه . والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد : وهو أن يغيظ أحدهما صاحبه : { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } ، أي : على وارث الأب أو وارث الصبي مثل ما على الأب من النفقة وترك الضرار إذا لم يكن الأب : { فَإِنْ أَرَادَا } ، يعني الزوج والمرأة : { فِصَالاً } ، أي : فصال الصبي عن اللبن قبل الحولين - يعني : فطاماً : { عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا } ، بتراضي الأب والأم : { وَتَشَاوُرٍ } بمشاورتهما : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } ، أي : على الأب والأم إن لم يرضعا ولدهما سنتين : { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ } . يعني غير الأم عند إبائها أو عجزها أو إرادتها أن تتزوج : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم } - يعني إلى المراضع - : { مَّا آتَيْتُم } أي : ما أردتم إيتاءه إليهن من الأجر : { بِالْمَعْرُوفِ } متعلق بسلمتم أي : سلمتم الأجرة إلى المراضع بطيب نفس وسرور . والمقصود : ندبهم أن يكونوا عند تسليم الأجرة مستبشري الوجوه ، ناطقين بالقول الجميل ، مطيبين لأنفس المراضع ، حتى يؤمن من تفريطهن بمصالح الرضيع : { وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ، فيه من الوعيد والتحذير عن مخالفة أحكامه ما لا يخفى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ 234 ]
.
{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } ، أي : يموتون من رجالكم : { وَيَذَرُونَ } ، أي : يتركون : { أَزْوَاجاً } بعد الموت : { يَتَرَبَّصْنَ } ، أي : ينتظرن : { بِأَنفُسِهِنَّ } في العدة : { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } يعني عشرة أيام : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } ، أي : انقضت عدتهن : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } ، أي : على الأولياء في تركهن : { فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ } من التعرض للخطاب والتزين : { بِالْمَعْرُوفِ } ، أي : بوجه لا ينكره الشرع . وفيه إشارة إلى أنهن لو فعلن ما ينكره الشرع ، فعليهم أن يكفوهن عن ذلك . وإلا فعليهم الجناح : { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
اعلم أن في هذه الآية مسائل :
الأولى : خص من عموم الآية الحامل المتوفى عنها زوجها ، فإن عدتها بوضع الحمل لقوله تعالى : { وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 4 ] ولما في الصحيحين عن سبيعة الأسلمية : أنها كانت تحت سعد بن خولة - وهو من بني عامر بن لؤي ، وكان ممن شهد بدراً - فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل . فلم تلبث أن وضعت حملها بعد وفاته ، فلما تعلت من نفاسها تجمّلت للخطّاب . فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك - رجل من بني عبد الدار - فقال : ما لي أراك تجمّلت للخطّاب ، لعلك ترجين النكاح ؟ وإنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشرا . قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حتى أمسيت وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك ؟ فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي . وأمرني بالتزويج إن بدا لي . وفيه قال ابن شهاب : ولا أرى بأساً بأن تتزوج حين وضعت ، وإن كانت دمها ، غير أنه لا يقربها حتى تطهر .
الثانية : المراد من تربصها بنفسها : الامتناع عن النكاح ، والامتناع عن التزين ، والامتناع عن الخروج من المنزل الذي توفي زوجها فيه . فالأول مجمع عليه .
والثاني : روي فيه عن أم حبيبة وزينب بنت جحش وعائشة - أمهات المؤمنين - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوج أربعة وأشهر وعشراً > . متفق عليه . وعن أم سلمة أن امرأة قالت : يا رسول الله ! إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها ؟ قال : لا . كل ذلك يقول : لا . مرتين أو ثلاثاً - ثم قال : < إنما هي أربعة أشهر وعشر ، وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة > . متفق عليه .
وعن نافع : أن صفية بنت عبد الله اشتكت عينها - وهي حادّ على زوجها ابن عمر ، فلم تكتحل حتى كادت عيناها ترمصان ، أخرجه مالك في " الموطأ " .
وعن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا تلبس المتوفى عنها زوجها ، المعصفرة من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل ولا تطيب > أخرجه أبو داود والممشقة : المصبوغة بالمشق وهي : المغرة .
وقد استنبط بعضهم وجوب الإحداد من قوله تعالى : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ } ، أي : من زينة وتطيب - كما قدمنا - فيفيد تحريم ذلك في العدة وهو الإحداد .
وأما الامتناع عن الخروج من المنزل الذي توفي فيه زوجها : فروى فيه أحمد وأهل السنن حديث فريعة بنت مالك قالت : خرج زوجي في طلب أعلاج له فأدركهم في طريق القدوم فقتلوه ، فأتى نعيه وأنا في دار شاسعة عن دار أهلي ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقلت : إن نعي زوجي أتاني في دار شاسعة عن أهلي ، ولم يدع نفقة ولا مالاً ورثته وليس المسكن له ، فلو تحولت إلى أهلي وإخوتي لكان أرفق بي في بعض شأني ؟ قال : تحولي ، فلما خرجتُ إلى المسجد أو إلى الحجرة دعاني - أو أمر بي فدعيت - فقال : امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله . قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً . وفي بعض ألفاظه : أنه أرسل إليها عثمان بعد ذلك فأخبرته ، فأخذ به . وقد أُعِلّ هذا الحديث بما لا يقدح في الاحتجاج به .
الثالثة : أكثر الفقهاء على أن هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداء بالحول وإن كانت متقدمة في التلاوة ، فإن ترتيب المصحف ليس على ترتيب النزول ، بل هو توفيقي . وذهب مجاهد إلى أنهما محكمتان . كما سيأتي بيانه .
الرابعة : أبدى المهايمي الحكمة في تحديد عدة المتوفى عنها بهذا القدر ، فقال : لئلا يتعارض في قلبها حب المتوفى وحب الجديد ، فأخذت مدة صبرها - وهو أربعة أشهر - وزيد عليه العشر ، إذ بذلك ينقطع صبرها فتميل إلى الجديد ميلاً كلياً ، فينقطع عن قلبها حب المتوفى ، على أنه يظهر في حق المدخول بها حركة الحمل إذ تكون بعد أربعة أشهر ، لكنها تبتدئ ضعيفة وتتقوى بمضي عشر أخر . ثم قال : ولم يكتف بالأقراء الدالة على عدمه ههنا ، بخلاف الفراق حال الحياة ، لأن الفراق الاختياري شاهد عدمه مع شهادة الأقراء ، فثمة شاهدان ، وههنا واحد ، وعدم الحركة بعد هذه المدة يقوي شهادة الأول فيكون كالشاهد مع اليمين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [ 235 ]
.
{ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء } ، أي : لا حرج عليكم أيها الخاطبون ، في التعريض بخطبتكم النساء المتوفى عنهن أزواجهن قبل انقضاء العدة لتتزوجوهن بعد انقضائها . والتعريض : إفهام المقصود بمالم يوضع له حقيقة ولا مجازاً . كأن يقال لها : إنك جميلة أو صالحة ، أو ربَّ راغب فيك ، أو من يجد مثلك . والخطبة - بالكسر - : طلب المرأة { أَوْ } - فيما : { أَكْنَنتُمْ } ، أي : أضمرتم من نكاحهن : { فِي أَنفُسِكُمْ } أي : قلوبكم ، وإن كان حقه التحريم فضلاً عن التعريض باللسان ، لكن أباحه الله لكم ، إذ : { عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } ، أي : لا تصبرون عن النطق برغبتكم فيهن ، فرخص لكم في التعريض دون التصريح ، وفيه طرف من التوبيخ على قلة التثبت ، كقوله تعالى : { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 187 ] { وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } هذا الاستدراك من قوله : { فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ } . و : { سِرّاً } مفعول به ، لأنه بمعنى النكاح . أي : لا تواعدوهن نكاحاً . أو هو بمعنى ضد الجهر والإعلان ، فيكون مصدراً في موضع الحال تقديره : مستخفين بذلك والمفعول محذوف تقديره : لا تواعدوهن النكاح سراً . أو صفة لمصدر محذوف ، أي : مواعدة سراً ، أو التقدير في سر فيكون ظرفاً . وإنما نهى عن ذلك ؛ لأن المواعدة بذكر الجماع والرفث بين الأجنبي والأجنبية غير جائز إجماعاً ، كالمواعدة بينهما على وجه السر إذ لا تنفك ظاهراً عن أن تكون مواعدة بشيء من المنكرات .
قال ابن عطية : أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو رفث من ذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز . وقال أيضاً : أجمعت الأمة على كراهة المواعدة في العدة للمرأة في نفسها ، وللأب في ابنته البكر ، وللسيد في أمته .
وقوله تعالى : { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } ، أي : لا يستحيي منه عند أحدٍ من الناس . فآل الأمر إلى أن المعنى : لا تواعدوهن إلا ما لا يستحيى من ذكره فيسر ، وهو التعريض ؛ فنصت هذه الآية على تحريم التصريح . بعد إفهام الآية الأولى لذلك ، اهتماماً به لما للنفس من الداعية إليه - أفاده البقاعي .
وقال الرازي : لما أذن تعالى في أول الآية بالتعريض ثم نهى عن المسارة معها دفعاً للريبة والغيبة ، استثنى عنه أن يساررها بالقول المعروف . وذلك أن يعدها في السر بالإحسان إليها ، والاهتمام بشأنها ، والتكفل بمصالحها ، حتى يصير ذكر هذه الأشياء الجميلة مؤكداً لذلك التعريض . والله أعلم .
تنبيه :
ما قدمناه من أن قوله تعالى : { وَلَكِن } إلخ ، استدراك من قوله : { فِيمَا عَرَّضْتُم } قاله أبو البقاء .
وجعل الزمخشري المستدرك محذوفاً دل عليه : { سَتَذْكُرُونَهُنَّ } ، أي : فاذكروهن ولكن لا تواعدوهن سراً .
قال الناصر : وقويت دلالة هذا المذكور على ما حذف ؛ لأن المعتاد في مثل هذه الصيغة ورود الإباحة عقيبها . ونظير هذا النظم قوله تعالى : { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ } [ البقرة : 187 ] الآية ، ولهذا الحذف سر - والله أعلم - وهو أنه اجتنب ؛ لأن الإباحة لم تنسحب على الذكر مطلقاً . بل اختصت بوجه واحد من وجوهه . وذلك الوجه المباح عسر التميز عما لم يبح . فذكرت مستثناة بقوله : { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } تنبيهاً على أن المحل ضيق والأمر فيه عسر ، والأصل فيه الحظر . ولا كذلك الوطء في زمن ليل الصوم . فإنه أبيح مطلقاً غير مقيد ؛ فلذلك صدر الكلام بالإباحة والتوسعة . وجاء النهي عن مباشرة المعتكفة في المسجد تلواً للإباحة وتبعاً في الذكر ؛ لأنها حالة فاذّة . والمنع فيها لم يكن لأجل الصوم ولكن الأمر يتعلق به من حيث المصاحب ، وهو الاعتكاف . فتفطن لهذا السر فإنه من غرائب النكت .
{ وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } ، العقدة بالضم من النكاح وكل شيء من البيع ونحوه ، وجوبه . قال الفارسي : هو من الشد والربط ، وقال الرازي : أصل العقد الشد . وسميت العهود والأنكحة عقوداً ؛ لأنها تعقد كما يعقد الحبل . وذكر العزم مبالغة في النهي عن عقد النكاح ؛ لأن العزم على الفعل يتقدمه . فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى . ومعناه : ولا تعزموا وجوب النكاح لأن القصد إليه حال العدة يفيد مزيد تحريك من الجانبين ، بحيث لا يطاق معه الصبر إلى انقضاء العدة .
وقوله : { حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } ، أي : العدة المكتوبة المفروضة آخرها { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ } من الميل إليهن قبل الأجل : { فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ } يغفر ذلك الميل إذ لم يتعد العزم عقدة النكاح : { حَلِيمٌ } لا يعاجل بالعقوبة ، فلا تستدلوا بتأخيرها على أن ما نهيتم عنه من العزم ليس مما يستتبع المؤاخذة . . . .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ } [ 236 ]
.
{ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } { ما } شرطية ، أي : إن لم تسموهن ولم تفرضوا لهن فريضة . يعني : ولم تعينوا لهنَّ صداقاً . فـ : { أو } بمعنى الواو - وحينئذ فلا مهر لهن ، ولكن المتعة بالمعروف كما قال تعالى : { وَمَتِّعُوهُنَّ } أي : من مالكم جبراً لوحشة الفراق : { عَلَى الْمُوسِعِ } أي : الغني الذي يكون في سعة من غناه : { قَدَرُهُ } - بسكون الدال وبفتحها قراءتان سبعيتان - أي : يجب على الموسر قدر ما يليق بيساره : { وَعَلَى الْمُقْتِرِ } أي : المعسر الذي في ضيق من فقره ، وهو المقل الفقير ، يقال : اقتر إذا افتقر : { قَدْرُهُ } أي : قدر ما يليق بإعساره : { مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ } تأكيد لـ : { متعوهنَّ } يعني : متعوهنّ تمتيعاً بالمعروف - أي : بالوجه المستحسن ، فلا يزاد إلى نصف مهر المثل ولا ينقص إلى ما لا يعتد به - : { حَقّاً } ، أي : ثبت ذلك ثبوتاً مستقراً : { عَلَى الْمُحْسِنِينَ } ، أي : المؤمنين لأنه بدل المهر ؛ وذكرهم بهذا العنوان ترغيب وتحريض لهم على الإحسان إليهن بالمتعة . وإنما كانت إحساناً لأن ملاك القصد فيها ما تطيب به نفس المرأة ويبقى باطنها وباطن أهلها سلماً ذا مودة ، لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً . أفاده الحرالي .
وروى الثوري عن ابن عباس قال : متعة الطلاق أعلاها الخادم ، ودون ذلك الورق . ودون ذلك الكسوة . وعنه : إن كان موسراً متعها بخادم ونحوه ، وإن كان معسراً متعها بثلاثة أثواب .
وروى عبد الرزاق أن الحسن بن علي - عليهما السلام - متع بعشرة آلاف . فقالت المرأة : متاع قليل من حبيب مفارق .
تنبيه :
أخذ بعض المفسرين يحاول البحث بأن عنوان نفي الجناح - عما ذكر هنا - يفيد ثبوته فيما عداه ، مع أنه لا جناح أيضاً فيه . وتكلف للجواب - سامحه الله - ولا يخفاك أن مثل هذا العنوان كثيراً ما يراد به في التنزيل الترخيص والتسهيل ، كما تكلف بعضٌ بجعل أو بمعنى إلا أو حتى ؛ وجعل الحرج بمعنى المهر ، مع أن الآية بينة بنفسها لا حاجة إلى أن تتجاذبها أطراف هذه الأبحاث . وعدولهم عن أقرب مما سلكوه - أعني : كون أو بمعنى الواو - مع شيوعها في آيات كثيرة - عجيب . وأعجب منه تخطئة من جنح لهذا الأقرب ، مع أن مما يرشحه مساق الآية بعدها .
وما روي في سبب نزول هذه الآية : قال الخازن : نزلت في رجلٍ من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسم لها صداقاً ثم طلقها قبل أن يمسها ، فنزلت : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } الآية . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أمتعها ولو بقلنسوتك > . وهذه الرواية - إن ثبتت - كانت شاهدة لما اعتمدناه ، والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ 237 ]
.
{ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ } ، - أي : الزوجات : { مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } ، أي : تجامعوهن . قال أبو مسلم : وإنما كنى تعالى بقوله : { تَمَسُّوهُنَّ } عن المجامعة ، تأديباً للعباد في اختيار أحسن الألفاظ فيما يتخاطبون به { وَقَدْ فَرَضْتُمْ } ، أي : سميتم : { لَهُنَّ فَرِيضَةً } ، أي : مهراٌ مقدراً : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } ، أي : فلهن نصف ما سميتم لهن من المهر ، أو فالواجب عليكم ذلك : { إَلاَّ أَن يَعْفُونَ } ، أي : المطلقات عن أزواجهن ، فلا يطالبنهم بنصف المهر . وتقول المرأة : ما رآني ولا خدمته ولا أستمتع بي فكيف آخذ منه شيئاً . . ؟ : { أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } وهو الزوج ، فيسوق إليها المهر كاملاً ، أو الولي ، يعني : إذا كانت صغيرة - أو غير جائزة التصرف - فيدرك نصيبها للزوج .
قال مالك في " موطأه " في هذه الآية : هو الأب في ابنته البكر ، والسيد في أمته . وكلا التأويلين مرويّ عن عدة من الصحابة والتابعين .
قال الحرالي : إذا قرن هذا الإيراد بقوله : { وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ } خطاباً للأزواج قوي . فسر من جعل : { الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } وهو الزوج معادلة للزوجات . ومن خص عفوهن بالمالكات - أي : الرشيدات - خص هذا بالأولياء .
ونقل ابن جرير : أن الشعبي رجع إلى أنه الزوج ، وكان يباهل عليه .
وقال الزمخشري : القول بأنه الولي ظاهر الصحة .
وقال الناصر في " حواشيه " : وصدق الزمخشري أنه قول ظاهر الصحة ، عليه رونق الحق وطلاوة الصواب لوجوه ستة . ساقها بألطف بيان ، فانظرها ، والله أعلم .
{ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } ، هذا خطاب للرجال والنساء جميعاً ، وغلب التذكير نظراً للأشرف . وروى ابن جرير عن ابن عباس قال : أقربهما للتقوى الذي يعفو ، وذلك لأن من سمح بترك حقه كان محسناً ، وذلك عنوان التقوى : { وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } ، أي : التفضل بالإحسان لما فيه من الألفة وطيب الخاطر . فهو حث على العفو ، فمن عفا منهما فله الفضل على الآخر . ومعلوم أن النسيان ليس في الوسع حتى ينهى عنه . فالمراد منه الترك ، أي : لا تتركوه ترك المنسي . فالتعبير بالنسيان آكد في النهي . والخطاب هنا أيضاً للقبيلين بالتغليب ، كالذي قبله . وخصه الحرالي بالرجال ، قال :
فمن حق الزوج - الذي له فضل الرجولة - أن يكون هو العافي . وأن لا يؤخذ النساء بالعفو ، ولذلك لم يأت في الخطاب أمر لهن ولا تحريض . فمن أقبح ما يكون حمل الرجل على المرأة في استرجاع ما آتاها بما يصرح به قوله : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً } [ النساء : 20 ] . فينبغي أن لا تنسوا ذلك الفضل فتجرون عليه حيث لم تلزموا به .
وقد حكى الزمخشري عن جبير بن مطعم ، أنه تزوج امرأة وطلقها قبل أن يدخل بها ، فأكمل لها الصداق وقال : أنا أحق بالعفو . . ! وعنه : أنه دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه بنتاً له فتزوجها . فلما خرج طلقها وبعث إليها بالصداق كاملاً ، فقيل له : لم تزوجتها ؟ فقال : عرضها عليّ فكرهت رده . قيل : فلم بعثت بالصداق ؟ قال : فأين الفضل .
وقوله تعالى : { إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ، أي : فلا يضيع تفضلكم وإحسانكم . ولما كانت الحقوق المشروعة قبل ، مما قد يشق القيام بها على بعض الناس ؛ أمروا بما يخفف عنهم عبئها ويحبب إليهم أداءها . وذلك بالمحافظة على الصلوات فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ولذا أمر بها تعالى - إثر ما تقدم - بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } [ 238 ]
.
{ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ } ، أي : داوموا على أدائها لأوقاتها مع رعاية فرائضها وسننها من غير إخلال بشيء منها : { والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } أي : الوسطى بين الصلوات بمعنى المتوسطة أو الفضلى منها ، من قولهم للأفضل : الأوسط . فعلى الأول : يكون الأمر لصلاة متوسطة بين صلاتين . وهل هي الصبح أو الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء ؟ ! أقوال مأثورة عن الصحابة والتابعين . وعلى الثاني : فهي صلاة الفطر أو الأضحى أو الجماعة أو صلاة الخوف أو الجمعة أو المتوسطة بين الطول والقصر . أقوال أيضاً عن كثير من الأعلام . والقول الأخير جيد جداً كما لو قيل بأنها ذات الخشوع لآية : { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } .
وأما علماء الأثر : فقد ذهبوا إلى أن المعنيّ بالآية صلاة العصر لما في الصحيحين عن علي رضي الله عنه ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب وفي رواية ، يوم الخندق : < ملأ الله قلوبهم وبيوتهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس > . وفي رواية : < شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر > . وذكر نحوه وزاد في أخرى : ثم صلاها بين المغرب والعشاء . أخرجاه في الصحيحين ورواه أصحاب السنن والمسانيد والصحاح من طرق يطول ذكرها...
وأجاب عن هذا الاستدلال من ذهب إلى غيره بأنه لم يرد الحديث مورد تفسير الآية حتى يعينها . وإنما فيه الإخبار عن كونها وسطى ، وهو كذلك لأنها متوسطة وفضلى من الصلوات .
وما رواه مسلم عن أبي يونس - مولى عائشة - قال : أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً وقالت : إذا بلغت هذه الآية فآذني : { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } قال : فلما بلغتها آذنتها ؛ فأملت عليّ : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين . قالت عائشة : سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وروى ابن جرير عن حفصة نحو ذلك . قال نافع : فقرأت ذلك المصحف فوجدت فيه الواو . وكذا روى ابن جرير عن ابن عباس وعبيد بن عمير ، أنهما قرآ كذلك .
فهذا من عائشة رضي الله عنها إعلام بالمراد من الوسطى عندها . ضمت التأويل إلى أصل التنزيل لأمن اللبس فيه ، لأن القرآن متواتر مأمون أن يزاد فيه أو ينقص . وكان في أول العهد بنسخه ربما ضم بعض الصحابة تفسيراً إليه ، أو حرفاً يقرؤه . ولذا لما خشي عثمان رضي الله عنه أن يرتاب في كونه من التنزيل - مع أنه ليس منه - أمر بأن تجرد المصاحف في عهده مما زيد فيها من التأويل وحروف القراءات التي انفرد بعض الصحب ، وأن يقتصر على المتواتر تنزيله وتلقيه من النبي صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو بكر في " الانتصار " : لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين ، وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإلغاء ما ليس كذلك ، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير ولا تأويل أثبت مع تنزيل ، ولا منسوخ تلاوته ، كتب مع مثبت رسمه ومفروض قراءته وحفظه ؛ خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد . . . .
هذا وقد أيد علماء الأثر ما ذهبوا إليه من أنها صلاة العصر ، بأنها خصت بمزيد من التأكيد والأمر بالمحافظة عليها ، والتغليظ لمن ضيعها . فقد قال أبو المليح : كنا مع بريدة في غزوة ، فقال في يوم ذي غيم : بكروا بصلاة العصر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله > . أخرجه البخاري . وقوله : < كروا بصلاة العصر > ، أي : قدموها في أول وقتها .
وروى الشيخان عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله . . ! > أي : نقص وسلب أهله وماله فبقي فرداً فاقدهما . والمعنى : ليكن حذره من فوت صلاة العصر كحذره من ذهاب أهله وماله .
وقد ساق الحافظ عبد المؤمن الدمياطي في كتابه " كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى " ما امتازت به صلاة العصر من الخصائص والفضائل ، قال عليه الرحمة :
فمنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غلّظ المصيبة في فواتها بذهاب الأهل والمال في الحديث المتقدم .
ومنها : حبوط عمل تاركها المضيّع لها في الحديث السالف أيضاً .
ومنها : أنها كانت أحب إليهم من أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وأهليهم وأموالهم .
ومنها : قوله صلى الله عليه وسلم : < من حافظ عليها كان له أجرها مرتين > . رواه مسلم .
ومنها : أن انتظارها بعد الجمعة كعمرة - رواه أبو يعلى . وروى الحاكم : كمن أتى بحجة وعمرة .
ومنها : قوله صلى الله عليه وسلم : < ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم . . - إلى أن قال - ورجل أقام سلعة بعد العصر فحلف بالله أنه أخذها بكذا وكذا ، فجاء رجل فصدقه فاشتراها > . متفق عليه . ثم قال : قلت وقد عظم الله الأيمان التي يحلف بها العباد فيما شجر بينهم بعدها فقال : { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ } [ المائدة : 106 ] .
قال عامة المفسرين : بعد صلاة العصر ، ولذلك غلّظ العلماء اللعان وسائر الأيمان المغلظة بوقت صلاة العصر لشرفه ومزيته .
ومنها : أن سليمان - عليه السلام - أتلف مالاً عظيماً من الخيل لما شغله عرضها عن صلاة العصر إلى أن غابت الشمس . فمدحه الله تعالى بذلك وأثنى عليه قوله تعالى : { نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ } [ ص : 30 - 31 ] . الآيات .
ومنها : أن الساعة التي في يوم الجمعة قد قيل : إنها بعد العصر .
ومنها : أن وقتها وقت ارتفاع الأعمال .
ومنها : الحديث المرفوع : إن الله تعالى يوحي إلى الملكين : لا تكتبا على عبدي الصائم بعد العصر سيئة .
ومنها : ما جاء في قوله تعالى : { وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَاْن لَفِي خُسْرٍ } [ العصر : 1 - 2 ] .
قال مقاتل : العصر : هي الصلاة الوسطى ، أقسم بها - حكاه ابن عطية .
ومنها : ما روي في الحديث ، أن الملائكة تصفّ كل يوم بعد العصر يكتبها في السماء الدنيا فينادى الملك : ألق تلك الصحيفة . فيقول : وعزتك ما كتبت إلا ما عمل . فيقول الله عز وجل : لم يرد به وجهي . وينادي الملك الآخر : اكتب لفلان كذا وكذا ، فيقول الملك : وعزتك إنه لم يعمل ذلك . فيقول الله عز وجل : إنه نواه .
ومنها : أن وقتها وقت اشتغال الناس بتجاراتهم ومعايشهم في الغالب .
وقد أفرد الكلام على تفسير هذه الآية بمؤلفات . وذكر العلامة الفاسي - شارح " القاموس " - فيما نقله عنه الزبيدي ، أن الأقوال فيها أنافت على الأربعين ، فرضي الله عن العلماء المجتهدين وأرضاهم .
سنح لي وقوي بعد تمعّن - في آوخر رمضان سنة 1323 - احتمال قوله تعالى [ في المطبوع : تعال ] : { والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } بعد قوله : { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ } لأن يكون إرشاداً وأمراً بالمحافظة على أداء الصلاة أداءً متوسطاً : لا طويلاً مملاً ولا قصيراً مخلاً . أي : والصلاة المتوسطة بين الطول والقصر . ويؤيده الأحاديث المروية عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك ، قولاً وفعلاً .
ثم مر بي في " القاموس " - في 23 ربيع الأول سنة 1324 - حكاية هذا قولاً . حيث ساق في مادة " و س ط " الأقوال في الآية ، ومنها قوله أو المتوسطة بين الطول والقصر قال شارحه الزبيدي : وهذا القول رده أبو حيان في " البحر " .
ثم سنح لي احتمال وجه آخر : وهو أن يكون قوله : { والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } أريد به توصيف الصلاة المأمور بالمحافظة عليها بأنه فضلى ، أي : ذات فضل عظيم عند الله . فالوسطى بمعنى الفضلى ، من قولهم للأفضل : الأوسط . وتوسيط الواو بين الصفة والموصوف مما حققه الزمخشري واستدل له بكثير من الآيات . وفي سوق الصفة بهذا الأسلوب ، من الاعتناء بالموصوف ما لا يخفى . وأسلوب القرآن أسلوب خاص انفرد به في باب البلاغة ، لم ينفتح من أبواب عجائبه إلا قطرة من بحر . ولعل هذا الوجه هو ملحظ من قال : هي الصلوات الخمس ، وهو معاذ بن جبل رضي الله عنه ، فكأنه أشار إلى أن المعطوف عين المعطوف عليه . إلا أنه أتى بجملة تفيد التوصيف .
وقوله تعالى : { وَقُومُواْ لِلّهِ } - في الصلاة : { قَانِتِينَ } خاشعين ساكتين . روى الشيخان عن زيد بن أرقم : إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يكلم أحدنا صاحبه بحاجته . حتى نزلت : { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } فأمرنا بالسكوت . هذا لفظ البخاري . ولفظ مسلم : عن زيد بن أرقم قال : كنا نتكلم في الصلاة ، يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة ، حتى نزلت : { وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام .
وروى أبو يعلى عن ابن مسعود قال : كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة ، فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه ، فلم يرد علي ، فوقع في نفسي إنه نزل فيّ شيء ، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته قال : < وعليك السلام - أيها المسلم - ورحمة الله ، إن الله يحدث في أمره ما يشاء ، فإذا كنتم في الصلاة فاقنتوا ولا تتكلّموا > .
وروى الطبراني في " الأوسط " والإمام أحمد وأبو يعلى الموصلي في " مسنديهما " وابن حبان في " صحيحه " عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < كل حرفٍ ذكر من القنوت في القرآن فهو الطاعة > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } [ 239 ]
{ فَإنْ خِفْتُمْ } أي : فإن كان بكم خوف من عدو أو غيره : { فَرِجَالاً } ، أي : فصلُّوا راجلين ، أي : ماشين على الأقدام - يقال : رَجِلَ - كَفَرِح - فهو راجل ، ورَجُل - بضم الجيم - ورَجِل - بكسرها - ورَجَل - بفتحها - ورَجيل ورَجْلان إذا لم يكن له ظهر في سفر يركبه فمشى على قدميه . والجمع رجال ورجَّالة ورُجَّال - كرمان - : { أَوْ رُكْبَاناً } ، أي : راكبين ، فيعفى عن كثرة الأفعال وإتمام الركوع والسجود واستقبال القبلة . وهذا من رخص الله تعالى التي رخص لعباده ، ووضعه الآصار والأغلال عنهم . وقد رويت صلاة الخوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفات مختلفة مفصلة في كتب السنة ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتحرى في كل موطن ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة .
قال الرازي : صلاة الخوف قسمان :
أحدهما : أن تكون في حال القتال - وهو المراد بهذه الآية .
والثاني : في غير حال القتال ، وهو المذكور في سورة النساء في قوله تعالى : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ } [ النساء : 102 ] .
وقد روى مالك عن نافع : أن ابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف ، وصفها ثم قال : فإن كان خوف أشد من ذلك صلّوا رجالاً على أقدامهم أو ركباناً مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها .
قال نافع : لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم . ورواه الشيخان .
ولمسلم أيضاً عن ابن عمر قال : فإن كان خوف أشد من ذلك فصل راكباً أو قائماً تومئ إيماءً .
وأخرج الإمام أحمد وأبو داود ، بإسناد جيد ، عن عبد الله بن أنيس الجُهَنِي قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان الهذلي - وكان نحو عرنة وعرفات - فقال : < اذهب فاقتله > . قال ، فرأيته - وحضرت صلاة العصر - فقلت : إني لا أخاف أن يكون بيني وبينه ما إن أؤخر الصلاة ، فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومئ إيماء نحوه ، فلما دنوت منه قال لي : من أنت ؟ قلت : رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل ، فجئتك في ذلك ، قال : إني لفي ذلك ، فمشيت معه ساعة ، حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد . وهذا نص أبي داود .
وأخرج الطيالسي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والنسائي وأبو يعلى والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ، فشغلنا عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء حتى كفينا ذلك . وذلك قوله : { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَال } [ الأحزاب : 25 ] . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأقام لكل صلاة إقامة ، وذلك قبل أن ينزل عليه : { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } .
تنبيه :
هذه الآية قد أطلقت الخوف . فيدخل فيه أي : مخافة من عدو أو سبع أو جمل صائل ، وهذا قول الأكثر . وشذ قول الوافي وبعض الظاهرية : إن الخوف مختص بأن يكون من آدمي . وقد أفادت هذه الآية أن فعلها بالإيماء هو فرضهم ، فلا قضاء بعد الأمن . قال في التهذيب خلاف ما يقوله بعضهم : ولكن هذا إذا أتوا بما يسمى صلاة ، وإن لم يمكنهم شيء من الأفعال ، وإنما أتوا بالذكر فقط . فقال الناصر زيد وابن أبي الفوارس وأبو جعفر : هذا لا يسمى صلاة فيجب القضاء . وقال الراضي بالله والأمير الحسين : هو بعض الصلاة ، فلا قضاء ، لقوله صلى الله عليه وسلم : < إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم > . وإذا ثبت الترخيص في هذه الصلاة - يترك كمال الفروض - رخص فيها بفعل ما تحتاج إليه ، وبلباس ما فيه نجس إذا احتيج إليه - كذا في تفسير بعض علماء الزيدية .
{ فَإِذَا أَمِنتُمْ } أي : زال خوفكم : { فَاذْكُرُواْ اللّهَ } ، أي : فصلوا صلاة الأمن . عبّر عنها بالذكر ؛ لأنه معظم أركانها . وقوله : { كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } ، أي : مثل ما علمكم من صلاة الأمن ، أو لأجل إنعامه عليكم ، فالكاف للتعليل . وهذه الآية كقوله تعالى : { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً } [ النساء : 103 ] . والفائدة في ذكر المفعول فيه ، وإن كان الْإِنْسَاْن لا يعلم إلا ما لم يعلم : التصريح بذكر حالة الجهل التي انتقلوا عنها ، فإنه أوضح في الامتنان .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ 240 ]
{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } ، أي : يقبضون من رجالكم : { وَيَذَرُونَ } ، أي : يتركون : { أَزْوَاجاً } بعد الموت : { وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم } خبر الذين أي : يوصون ، أو ليوصوا ، أو كتب الله عليهم وصية . وفي قراءة بالرفع ، أي : عليهم وصية لأزواجهم في أموالهم : { مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ } بدل من وصية ، على قراءة من نصبها . وعلى قراءة الرفع فمنصوب بوصية أو بفعله : { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } حال من أزواجهم ، أي : غير مخرجات . والمعنى : يجب على الذي يتوفون أن يوصوا قبل الاحتضار لأزواجهم بأن يمتعن بعدهم حولاً بالنفقة والسكنى من غير أن يخرجن من مسكن زوجهن : { فَإِنْ خَرَجْنَ } عن منزل الأزواج من قبل أنفسهن : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } على أولياء الميت : { فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ } لا ينكره الشرع - كالتزين والتطيب وترك الحداد والتعرّض للخطّاب - وفيه دلالة على أن المحظور إخراجها عند إرادتها القرار ، وملازمة مسكن الزوج ، والحداد من غير أن يجب عليها ذلك ، وأنها مخيرة بين الملازمة مع أخذ النفقة ، وبين الخروج مع تركها : { وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } . ثم ليعلم أن اختيار جمهور المفسرين أن هذه الآية منسوخة بالتي قبلها وهو قوله تعالى : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } [ البقرة : 234 ] . قالوا : كان الحكم في ابتداء الإسلام أنه إذا مات الرجل اعتدت زوجته حولاً ، وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول ، وكانت نفقتها وسكناها واجبتين في مال زوجها تلك السنة ، وليس لها من الميراث شيء ، ولكنها تكون مخيرة . فإن شاءت اعتدت في بيت زوجها ولها النفقة والسكنى ، وإن شاءت خرجت قبل تمام الحول وليس لها نفقة ولا سكنى ؛ وكان يجب على الرجل أن يوصي بذلك . فدلت هذه الآية على مجموع أمرين ، أحدهما : أن لها النفقة والسكنى من مال زوجها سنة . والثاني : أن عليها عدة سنة ، ثم نسخ هذان الحكمان .
أما الوصية بالنفقة والسكنى فنسخت بآية الميراث . فجعل لها الربع أو الثمن عوضاً عن النفقة والسكنى . ونسخ عدة الحول بأربعة أشهر وعشر .
وقد روى البخاري عن ابن الزبير قال : قلت لعثمان بن عفان : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً } قد نسختها الآية الأخرى ، فلم تكتبها أو تدعها . . ؟ قال : يا ابن أخي ! لا أغير شيئاً منه من مكانه .
وأخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : نسخت بآية الميراث بما فرض الله لهن من الربع والثمن ، ونسخ أجل الحول بأن جعل أجلها أربعة أشهر وعشراً .
هذا ، وقد ذهب مجاهد إلى أن هذه الآية محكمة كالأولى . أخرجه عنه البخاري . قال مجاهد : دلت الآية الأولى وهي : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } على أن هذه عدتها المفروضة تعتدها عند أهل زوجها . ودلت هذه الآية ، بزيادة سبعة أشهر وعشرين ليلة على العدة السابقة تمام الحول ، أن ذلك من باب الوصية بالزوجات أن يمكَّن من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولاً كاملاً ، ولا يمنعن من ذلك ، لقوله : { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } فإذا نقضت عدتهن بالأربعة أشهر والعشر - أو بوضع الحمل - واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل ، فإنهن لا يمنعن من ذلك لقوله : { فَإِنْ خَرَجْنَ } إلخ . الإمام ابن كثير : وهذا القول له اتجاه ، وفي اللفظ مساعدة له . وقد اختاره جماعة منهم الإمام أبو العباس ابن تيمية .
ومنهم أبو مسلم الأصفهاني قال : معنى الآية : من يتوفى منكم ويذرون أزواجاً وقد وصوا وصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكنى الحول ، فإن خرجن قبل ذلك وخالفن وصية الزوج بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله تعالى لهن فلا حرج : { فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ } ، أي : نكاح صحيح ، لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة . قال : والسبب أنهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولاً كاملاً . وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول . فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن ذلك غير واجب . واحتج على قوله بوجوه ساقها الفخر الرازي عنه - إلى أن قال : فكان المصير إلى قول مجاهد أولى من التزام النسخ من غير دليل . ثم قال : وإذا عرفت هذا فنقول : هذه الآية من أولها إلى آخرها تكون جملة واحدة شرطية ، فالشرط هو قوله : : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ } فهذا كله شرط ، والجزاء هو قوله { فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } الخ ، هذا تقرير قول أبي مسلم .
قال الرازي : وهو في غاية الصحة ، والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } [ 241 ]
.
{ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } ، أي : للمطلقات متعة من جهة الزوج بقدر الإمكان ، جبراً لوحشة الفراق ، وأما المهر فوق حق البضع .
قال ابن كثير : وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى وجوب المتعة لكل مطلقة ، سواء كانت مفوضة ، أو مفروضاً لها ، أو مطلقة قبل المسيس ، أو مدخولاً بها .
وإليه ذهب سعيد بن جبير وغيره من السلف ، واختاره ابن جرير .
وقد أخرج ابن المنذر عن علي بن أبي طالب قال : لكل مؤمنة طلقت ، حرة أو أمة ، متعة . وقرأ الآية .
وأخرج البيهقي عن جابر بن عبد الله قال : لما طلق حفص بن المغيرة امرأته فاطمة . أتت النبي صلى الله عليه وسلم . فقال لزوجها : < متعها > . قال : لا أجد ما أمتعها قال : < فإنه لا بد من المتاع ، متعها ولو نصف صاع من التمر > .
وأخرج البيهقي عن قتادة قال : طلق رجل امرأته عند شريح . فقال له شريح : متعها ! ! فقالت المرأة : إنه ليس لي عليه متعة . إنما قال الله تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ } . وليس من أولئك ! ! .
وأخرج البيهقي عن شريح أنه قال لرجل فارق امرأته : لا تأبى أن تكون من المتقين . لا تأبى أن تكون من المحسنين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ 242 ]
.
{ كَذَلِكَ } ، أي : مثل ذلك البيان الشافي : { يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ } ، في جميع المواضع : { آيَاتِهِ } الدالة على أحكامه : { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } لكي تفهموا ما فيها وتعملوا بموجبها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } [ 243 ]
.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ } أي : ممن تقدمكم من الأمم : { مِن دِيَارِهِمْ } أي : التي ألفوها لما وقع فيها مما لا طاقة لهم به من الموت . ولفظة : { أَلَمْ تَرَ } قد تذكر لمن تقدم علمه ، فتكون للتعجيب والتقرير والتذكير - كالأحبار وأهل التاريخ - وقد تذكر لمن لا يكون كذلك . فتكون لتعريفه وتعجيبه .
قال الراغب : " رأيت " يتعدى بنفسه دون الجار . لكن لما استعير " ألم تر " لمعنى " ألم تنظر " عدى تعديته بـ " إلى " وفائدة استعارته : أن النظر قد يتعدى عن الرؤية ، فإذا أريد الحث على نظر ناتج لا محالة للرؤية استعيرت له ، وقلما استعمل ذلك في غير التقرير فلا يقال : رأيت إلى كذا .
{ وَهُمْ أُلُوفٌ } أي : في العدد جمع ألف ، أو وهم مؤتلفون ومجتمعون مع آلف ، بالمد - كشاهد وشهود - أي : إن خروجهم لم يكن عن افتراق كان منهم ولا تباغض ، ولكن : { حَذَرَ الْمَوْتِ } مفعول له - أي : قرار منه . وقوله : { فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ } ، معناه : فأماتهم ، وإنما جيء به على هذه العبارة ؛ للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته ، وتلك مشيته خارجة عن العادة كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالاً من غير إباء ولا توقف ، كقوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] .
{ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } عطف . إما على مقدر يستدعيه المقام ، أي : فماتوا ثم أحياهم - وإنما حذف للدلالة على الاستغناء عن ذكره لاستحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته ، وإما على " قال " لما أنه عبارة عن الإماتة : { إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } قاطبة . أما أولئك فقد أحياهم ليعتبروا بما جرى عليهم فيفوزوا بالسعادة ، وأما الذين سمعوا قصتهم فقد هداهم إلى مسلك الاعتبار والاستبصار ، فقد تفضل على الجميع ليشكروه : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } ، أي : فضله كما ينبغي .
تنبيه :
روي عن ابن عباس : أن الآية عُني بها قوم كثيرو العدد ، خرجوا من ديارهم فراراً من الجهاد في سبيل الله فأماتهم الله ثم أحياهم وأمرهم أن يجاهدوا عدوهم . فكأنها كرت ممهدة للأمر بالقتال بعدها في قوله تعالى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
ومعلوم أن سورة البقرة مما نزل في المدينة إثر الهجرة قبل فتح مكة . وكان العدو في مكة وما حولها في كثرة وقوة ومنعة ، فأمر المسلمون المهاجرون ومن آواهم أن يقاتلوا في سبيل الله . وقص لهم من الأنباء ما فيه بعث لهم على الجهاد وتبشير لهم بالفوز والعاقبة . وأن يكونوا في قلة وضعف ، ما داموا مستمسكين بحبل الوفاق والصبر والمصابرة . وقد ذهب بعض الرواة إلى أن هذه الآية عني بها ما قص في التوراة عن حزقيل - أحد أنبياء بني إسرائيل - أنه أوحى إليه أن يخرج إلى فلاة واسعة قد ملئت عظاماً يابسة من موتى بني إسرائيل . وأن يناديها باسمه تعالى . فجعلت تتقارب ثم كسيت لحماً . ثم نادى أرواحها فعادت إلى أجسامها واستووا أحياء على أقدامهم بأمره تعالى . وهم جيش كثير جداً . وأوحى إلى حزقيل أنهم سيعودون إلى وطنهم بعد أن أجلوا عنه . وهذه القصة مبسوطة في توراتهم في الفصل السابع والثلاثين من نبوة حزقيل .
وممن روي عنه أنه عني بهذه الآية نبأ حزقيل ، وهب بن منبه وأشعث بن أسلم البصري والحجاج بن أرطاة والسدي وهلال بن يساف وغيرهم . أخرجه عنهم ابن جرير . فإن صحت هذه الرواية يكون ذلك من معجزات حزقيل في إحياء الموتى له ، كما أحيي لعيسى عليه السلام . فيرى قومه ما لا ييأسون معه من جهاد عدوهم ليسترجعوا وطنهم الذي أجلاهم عنه عدوهم ، لأن حزقيل كان فيمن أجلي إلى بابل . قالوا ونبوته تتضمن القضاء المنزل على بني إسرائيل وبشرى السلام الذي يعقب ذلك القضاء . وقد نقل ابن كثير عن عطاء أنه قال في هذه الآية : إنها مَثَلٌ . ولعل مراده : أنها مثل في تكوينه تعالى أمة قوية تقهر وتغلب وتسوس غيرها بعد بلوغها غاية الضعف والخمول . فكان حياتها وموتها تمثيلاً لحالتيها قبل وبعد . فيكون إشعاراً بما ستصير إليه العرب من القوة العظيمة والمدنية الفخيمة ، وتنبيهاً على أن الوصول إلى ذلك إنما يكون بجهاد الظالمين واتفاق المتقين على دحر المتغلبين الباغين والله أعلم .
ثم إنه لا خفاء في أن ما قص من حوادث الإسرائيليين كان معروفاً في الجملة لمخالطة اليهود للعرب في قرون كثيرة .
قال ولي الله الدهلوي في " الفوز الكبير " : واختار سبحانه في تنزيله من أيام الله ، يعني : الوقائع التي أحدثها الله سبحانه وتعالى : كإنعام المطيعين وتعذيب العصاة ، ما قرع سمعهم . وذكر لهم إجمالاً مثل قصص قوم نوح وعاد وثمود . وكانت العرب تتلقاها أباً عن جد ، ومثل قصص سيدنا إبراهيم وأنبياء بني إسرائيل فإنها كانت مألوفة لأسماعهم لمخالطة اليهود العرب في قرون كثيرة ، وانتزع من القصص المشهورة جملاً تنفع في تذكيرهم . ولم يسرد القصص بتمامها مع جميع خصوصياتها . والحكمة في ذلك أن العوام إذا سمعوا القصص النادرة غاية الندرة ، أو استقصى بين أيديهم ذكر الخصوصيات ، يميلون إلى القصص نفسها ويفوتهم التذكر الذي هو الغرض الأصلي فيها . ونظير هذا الكلام ما قاله بعض العارفين : إن الناس لما حفظوا قواعد التجويد شغلوا عن الخشوع في التلاوة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 244 ]
.
{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
قال المفسرون : في إتباع القصة المتقدمة الأمر بالقتال ، دليل على أنها سيقت بعثاً على الجهاد . فحرض على الجهاد بعد الإعلام بأن الفرار من الموت لا يغني ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ آل عِمْرَان : 168 ] ، وأصل السبيل هو الطريق . وسميت المجاهدة سبيلاً إلى الله تعالى من حيث إن الْإِنْسَاْن يسلكها ويتوصل إلى الله بها ليتمكن من إظهار عبادته تعالى ، ونشر الدعوة إلى توحيده وحماية أهلها والمدافعة عن الحق وأهله . فالقتال : دفاع في سبيل الله لإزالة الضرر العام . وهو منع الحق وتأييد الشرك . وذلك بتربية الذين يفتنون الناس عن دينهم وينكثون عهودهم لا لحظوظ النفس وأهوائها ، والضراوة بحب التسافك وإزهاق الأرواح ، ولا لأجل الطمع في الكسب . وفي قوله تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } بعث على صدق النية والإخلاص . كما في الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء ، أي : ذلك في سبيل الله ؟ فقال : < من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ 245 ]
.
{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } - هذا حث من الله تعالى لعباده على الصدقة ، وقد كرر تعالى هذه الآية في كتابه العزيز في غير موضع .
قال القرطبي : طلب القرض في هذه الآية لما هو تأنيب وتقريب للناس بما يفهمون . والله هو الغني الحميد . لكنه تعالى شبه إعطاءه المؤمنين ، وإنفاقهم في الدنيا الذي يرجون ثوابه في الآخرة ، بالقرض . كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة ، بالبيع والشراء . حسبما يأتي بيانه في سورة براءة ، وكنى الله سبحانه وتعالى عن الفقير بنفسه العلية المنزهة عن الحاجات ترغيباً في الصدقة ، كما كنى عن المرض والجائع والعطشان بنفسه المقدسة ، ففي صحيح الحديث إخباراً عن الله تعالى : < يا ابن آدم ! مرضت فلم تعدني . استطعمتك فلم تطعمني ، استسقيتك فلم تسقني . . قال : يا رب ! كيف أسقيك وأنت رب العالمين ؟ قال : استسقاك عبدي فلان فلم تسقه . أما أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي > وكذا فيما قبله . أخرجه الشيخان . وهذا كله خرج مخرج التشريف لمن كنى عنه ترغيباً لمن خوطب به . وقد أخرج سعيد بن منصور والبزار والطبراني وغيرهم عن ابن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية ، قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله ! وإن الله ليريد منا القرض ؟ قال : < نعم يا أبا الدحداح > قال : أرني يدك ، يا رسول الله ! فناوله يه . قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي وحائط له ، فيه ستمائة نخلة ، وأم الدحداح فيها وعيالها فجاء أبو الدحداح فناداها ! قالت : لبيك ، قال : اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < قد قبله منك > . فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم اليتامى الذين في حجره . فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : < رب عذق لأبي الدحداح مدلى في الجنة > وفي رواية : < كم من عذق > الخ . وقوله تعالى : { حَسَناً } أي : طيبة به نفسه من دون منٍّ ولا أذى . وقوله سبحانه : { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } كما قال سبحانه : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 261 ] . ولما رغب سبحانه في إقراضه أتبعه جملة مرهبة مرغبة فقال : { وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } أي : يضيّق على من يشاء من عباده في الرزق ويوسعه على آخرين . أي : فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم ، لئلا يبدِّل السعة الحاصلة لكم بالضيق .
{ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي : يوم القيامة فيجازيكم .
قال المهايمي : وكيف ينكر بسط الله وقبضه ، وهو الذي يعطي الفقير الملك ويسلبه من أهله ، ويقوي الضعفاء من الجمع القليل ويضعف الأقوياء من الجمع الكثير ؟ ! يعني كما قصه تعالى في قوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } [ 246 ]
.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ } ، وهم القوم ذو الشارة والتجمع : { مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ } إنما نكر لعدم مقتض لتعريفه ، وزعم الكتابيون أنه صموئيل : { ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً } ، أي : أقم لنا أميراً : { نُّقَاتِلْ } ، أي : معه عن أمره : { فِي سَبِيلِ اللّهِ } وذلك حين ظهرت العمالقة ، قوم جالوت على كثير من أرضهم : { قَالَ } لهم نبيهم : { هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ } .
قال الزمخشري : خبر عسيتم ألا تقاتلوا . والشرط فاصل بينهما . والمعنى : هل قاربتم ألا تقاتلوا : يعني هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون ؟ . أراد أن يقول عسيتم ألا تقاتلوا بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال ، فأدخل هل مستفهماً عما هو متوقع عنده ومظنون ، وأراد بالاستفهام التقدير وتثبيت أن المتوقع كائن وأنه صائب في توقعه كقوله تعالى : { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَاْن } [ الإنسان : 1 ] ، معناه التقرير . وقرئ عسيتم بكسر السين ، وهي ضعيفة .
{ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ } ، أي : وأي سبب لنا في ترك قتال عدونا : { فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا } ، أي : والحال أنه قد عرض ما يوجب القتال إيجاباً قوياً من أخذ بلادنا وسبي أولادنا : { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ } بعد إلحاحهم في طلبه : { تَوَلَّوْاْ } ، أي : أعرضوا عن قتال عدوهم جبناً : { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } وعيدٌ لهم على ظلمهم بالتولي علن القتال وترك الجهاد وعصياناً لأمره تعالى .
قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة هذه الآية الكريمة أنها دلت على أحكام :
الأول : وجوب الجهاد ، لأن الله تعالى إنما ذكر هذه القصة المشهورة في بني إسرائيل وما نالهم تحذيراً من سلوك طريقهم . وأيضاً : شرائع من قبلنا تلزمنا .
الثاني : أن الأمير يحتاج إليه في أمر الجهاد لتدبير أمورهم ، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية أمر عليها أميراً . قال في " الكشاف " : وروي أنه أمر الناس إذا سافروا أن يجعلوا أحدهم أميراً عليهم .
الثالث : وجوب طاعة الأمير في أمر السياسة وتدبير الحرب ، لأن سياق الآية يقضي بذلك ، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : < أطيعوا الأمير ولو كان عبداً حبشياً > . وقد ذكر أهل علم المعاملة : أنه ينبغي في الأسفار أن يجعل أهل السفر لهم أميراً ودليلاً وإماماً ، وهذا محمود ؛ إذ بذلك ينقطع الجدال وتنتظم [ في المطبوع : وينتظم ] أمورهم . ويلزم مثل هذا في كل أمر يحتاج فيه إلى ترداد في الآراء ، نحو أمور الأوقاف والمساجد والإمامة لكل مسجد ونحو هذا .
قال الحاكم : وفيه دلالة على أن للأنبياء تشديد العهود والمواثيق فيما يلزمهم ووجه ذلك أنه قال : هل عسيتم وهذا نوع من التأكيد عليهم . وكذا يأتي في الإمام قياس ما ذكر الحاكم في النبي .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ 247 ]
.
{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً } هذا شروع في تفصيل ما جرى بينه عليه السلام وبينهم من الأقوال والأفعال ، إثر الإشارة الإجمالية إلى مصير حالهم . أي : قال لهم بعد ما أوحى إليه ما أوحى إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً أي : ملّكه عليكم ، فانتهوا في تدبير الحرب إلى أمره ، وكان طالوت من سبط لم يكن الملك فيهم . وطالوت اسم أعجمي كجالوت وداود ، ولذلك لم ينصرف . وزعم قوم أنه عربي من الطول لما وصف به من البسطة في الجسم . ولكنه ليس من أبنية العرب ، فمنع صفه للعلمية وشبه العجمة . وقد زعم الكتابيون أن طالوت هو المعروف عندهم بشاول { قَالُوَاْ } معترضين على نبيهم بل على الله تعالى : { أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا } أي : من أين يكون أو كيف يكون ذلك : { وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ } أي : لأن فينا من هو سبط الملوك دونه .
قال الحرالي : فثنوا اعتراضهم بما هو أشد وهو الفخر بما ادعوه من استحقاق الملك على من ملكه الله عليهم . فكان فيه حظّ من فخر إبليس ، حيث قال حين أمر بالسجود لآدم : { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ } [ الأعراف : 12 ] .
{ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ } ، أي : فصار له مانعان :
أحدهما : أنه ليس من بيت الملك .
والثاني : أنه مملق . والملك لا بد له من مال يعتضد به .
قال الحرالي : فكان في هذه الثالثة فتنة استصنام المال ، وأنه مما يقام به ملك . وإنما الملك بإيتاء الله . فكان في هذه الفتنة الثالثة جهل وشرك ، فتزايدت صنوف فتنتهم فيما انبعثوا إلى طلبه من أنفسهم .
{ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } ، لما استبعدوا تملكه بسقوط نسبه وبفقره . رد عليهم ذلك أولاً : بأن ملاك الأمر هو اصطفاء الله تعالى وقد اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم . وثانياً : بأن العمدة فيه وفور العلم ليتمكن به من معرفة أمور السياسة . وجسامة البدن ليعظم خطره في القلوب ويقدر على مقاومة الأعداء ومكابدة الحروب . وقد خصه الله تعالى منهما بحظ وافر . قاله أبو السعود .
{ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء } ، في الدنيا من غير إرث أو مال ؛ إذ لا يشترط في حقه تعالى شيء ، فهو الفعال لما يريد : { وَاللّهُ وَاسِعٌ } يوسع على الفقير ويغنيه : { عَلِيمٌ } بمن يليق بالملك ممن لا يليق به . وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة .
قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية أن النبوة والإمامة لا تستحق بالإرث وأن الغنى والصيانة من الحرف الدنيئة ، لا تشترط في أمير ولا إمام ولا قاض . أي : لما روي أن طالوت كان دباغاً أو سقاء مع فقره . قال الحاكم : فيبطل قول الإمامية أنها وراثة ، والمعروف من قولهم : أن الإمامة طريقها النص ، وتدل الآية أيضاً على أنه يشترط في الأمير ونحوه القوة على ما تولاه . فيكون سليماً من الآفات عالماً بما يحتاج إليه ، لأن الله تعالى ذكر البسطة في العلم والجسم رداً على ما اعتبروا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ 248 ]
.
{ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ } ، أي : علامة : { مُلْكِهِ } أنه من الله تعالى : { أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ } أي : يرد الله إليكم التابوت الذي أخذ منكم وهو صندوق التوراة ، على ما سنذكره : { فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } ، أي : وقار وجلال وهيبة . أو فيه سكون نفوس بني إسرائيل يتقوون به على الحرب : { وَبَقِيَّةٌ } ، أي : فضلة جملة ، ذهب جلُّها : { مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ } ، أي : من آثارهم الفاضلة : { تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ } ، أي : في رد التابوت إليكم : { لآيَةً لَّكُمْ } أن ملكه من الله تعالى : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } بآيات الله وأنبيائه .
قال العلامة البقاعي عليه الرحمة : التابوت والله أعلم الصندوق الذي وضع فيه اللوحان اللذان كتب فيهما العشر الآيات ، ويسمى تابوت الشهادة ، وكانوا إذا حاربوا حمله جماعة منهم ، موظفون لحمله ، ويتقدمون به أمام الجيش فيكون ذلك سبب نصرهم . وكان العمالقة أصحاب جالوت لما ظهروا عليهم أخذوه في جملة ما أخذوا من نفائسهم . وكان عهدهم به قد طال . فذكرهم بمآثره ترغيباً فيه وحملاً على الانقياد لطالوت . فقال : { فِيهِ سَكِينَةٌ } الآية .
وفي الأصحاح الخامس والعشرين من سفر الخروج ما نصه :
( 1 ) وكلم الرب موسى قائلاً .
( 2 ) كلم بني إسرائيل أن يأخذوا لي تقدمة من كل من يحثه قلبه تأخذون تقدمتي .
( 3 ) وهذه هي التقدمة التي تأخذونها منهم : ذهب وفضة ونحاس .
( 4 ) وأسما نجوني وأرجوان وقرمز وبوص وشعر معزى .
( 5 ) وجلود كباش محمرة وجلود نخس وخشب سنط .
( 6 ) وزيت للمنارة وأطياب لدهن المسحة وللبخور العطر .
( 7 ) وحجارة جزع ، وحجارة ترصيع للرداء والصدرة .
( 8 ) فيصنعون لي مقدساً لأسكن في وسطهم .
( 9 ) بحسب جميع ما أنا أريك من مثال المسكن ومثال جميع آنيته ، هكذا تصنعون .
( 10 ) فتصنعون تابوتاً من خشب السنط طوله ذراعان نصف ذراع وعرض ذراع ونصف ، وارتفاعه ذراع ونصف .
( 11 ) وتغشيه بذهب نقي من داخل ومن خارج تغشيه . وتصنع عليه إكليلاً من ذهب حواليه .
( 12 ) وتسبك له أربع حلقات من ذهب وتجعلها على قوائمه الأربع . على جانبه الواحد حلقتان . وعلى جانبه الثاني حلقتان .
( 13 ) وتصنع عصوين من خشب السنط وتغشيهما بذهب .
( 14 ) وتدخل العضوين في الحلقات على جانب التابوت ليحمل التابوت بهما .
( 15 ) تبقي العصوان في حلقات التابوت ، لا تنزعان منها .
( 16 ) وتضع في التابوت الشهادة التي أعطيك .
وفي الأصحاح الحادي والثلاثين من سفر الخروج :
( 18 ) ثم أعطي موسى عند فراغه من الكلام معه من جبل سيناء لوحي الشهادة : لوحي حجر مكتوبين بأصبع الله .
وفي الأصحاح الرابع والثلاثين منه : أن موسى لما كسر اللوحين أمره الله أن ينحت لوحين مثل الأولين ، وأمره أن يكتب عليهما كلمات العهد الكلمات العشر . ونصه :
( 1 ) ثم قال الرب لموسى : انحت لك لوحين من حجر مثل الأولين . فأكتب أنا على اللوحين الكلمات التي كانت على اللوحين الأولين اللذين كسرتهما .
وفي حواشي التوراة : أن تابوت الشهادة هو التابوت الذي كان فيه لوحا الشريعة الإلهية المسماة : شهادة .
وزعموا أن السكينة معربة عن شكينا في اللغة العبرانية . وفي سفر صموئيل من سفر الملوك الأول في الأصحاح الرابع وما بعده نبأ انكسار الإسرائيليين أمام الفلسطينيين ، وأخذ التابوت من الإسرائيليين ، وأنه بقي التابوت في بلاد الفلسطينيين سبعة أشهر ، في قصص مسهبة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ 249 ]
.
وقوله تعالى :
{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ } ، أي : خرج بالجيش ، لما رد إليهم التابوت وقبلوا ملكه ، وخرجوا معه ، وكان طالوت أخذ بهم في أرض قفرة ، فأصابهم حر وعطش شديد : { قَالَ } لهم طالوت : { إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } ، أي : من أشياعي الذين يقاتلون معي عدوي ، ولا يجاوزه : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي } ، أي : لم يذقه . من : طعم ، كعَلِمَ الشيء ، إذا ذاقه مأكولاً كان أو مشروباً وفي إيثاره على لم يشربه إشعار بأنه محظور تناوله ولو مع الطعام . ذكره الراغب : { إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } الواحدة فإنه لا يخرج بذلك عن كونه مني ، لأنه في معنى من لم يذقه .
قال الحرالي في قراءة فتح الغين إعراب عن معنى إفرادها ، آخذة ما أخذت من قليل أو كثير ، وفي الضم ، إعلام بمثلها .
{ فَشَرِبُواْ مِنْهُ } ، أي : إلى حد الارتواء : { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } لم يشربوا إلا كما أذن الله تعالى : { فَلَمَّا جَاوَزَهُ } ، أي : النهر : { هُوَ } أي : طالوت : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ } ، أي : المفرطون في الشراب : { لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } لأنه سلبت شجاعتهم
وجاء في التوراة تسميته بجُليات . على ما سنذكره : { قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ } ، أي : يعلمون : { أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ } يرجعون إليه بعد الموت : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [ 250 ]
.
{ وَلَمَّا بَرَزُواْ } ظهروا : { لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ } إذ دنوا منه : { قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً } ، أي : أفضه علينا وأكرمنا به لقتالهم فلا نجزع للجراحات ، وإنما طلبوه أولاً لأنه ملاك الأمر : { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } في ميدان الحرب فلا نهرب منه : { وَانصُرْنَا } لأنا مؤمنون بك : { عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } بك . وهم : جالوت وجنوده ، وهذا الآية تدل على أن من حزبه أمر ، فإنه ينبغي له سؤال المعونة من الله ، والتوفيق ، والانقطاع إليه تعالى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ 251 ]
.
{ فَهَزَمُوهُم } ، أي : هؤلاء القليلون ، أولئك الكثيرون : { بِإِذْنِ اللّهِ } بنصره إذ شجع القليلين وجبَّن الكثيرين : { وَقَتَلَ دَاوُدُ } وكان في جيش طالوت : { جَالُوتَ } ، الذي هو رأس الأقوياء : { وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ } أي : أعطى الله داود ملك بني إسرائيل : { وَالْحِكْمَةَ } ، أي : الفهم والنبوة : { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء } من صنعة الدروع وغيرها : { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ } من أهل الشر : { بِبَعْضٍ } من أهل الخير : { لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ } ، أي : بغلبة الكفار وظهور الشرك والمعاصي ، كما قال تعالى : { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً } [ الحج : 40 ] الآية .
{ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } ، أي : منّ عليهم بالدفع . ولذلك قوّى سبحانه هؤلاء الضعفاء وأعطى بعضهم الملك والحكمة ومن سائر العلوم ، ليدفع فساد الأقوياء بالسيف .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } [ 252 ]
.
{ تِلْكَ } ، أي : المذكورات من إماتة الألوف وإحيائهم وتمليك طالوت وإتيان التابوت وانهزام جالوت وقتل داود إياه وتملكه : { آيَاتُ اللّهِ } إذ هي أخبار غيوب تدل على كمال قدرته سبحانه وحكمته ولطفه : { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ } ، أي : ننزل عليك جبريل بها : { بِالْحَقِّ } ، أي : اليقين الذي لا يرتاب فيه : { وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } بما دلت عليه هذه الآيات من علمك بها من غير معلم من البشر ، ثم بإعجازها الباقي على مدى الدهر . وفي هذه القصص معتبر لهذه الأمة في احتمال الشدائد في الجهاد كما احتملها المؤمنون في الأمم المتقدمة . كما أن فيها تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم من الكفار والمنافقين . فكأنه قيل : قد عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء عليهم السلام في بني إسرائيل من الخلاف عليهم والرد لقولهم . فلا يعظمن عليك كفر من كفر بك ، وخلاف من خالف عليك لأنك مثلهم . وإنما بعث الكل لتأدية الرسالة ولامتثال الأمر على سبيل الاختيار والطوع ، لا على سبيل الإكراه . فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم . والوبال في ذلك يرجع عليهم . وقوله : { وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } كالتنبيه على ذلك . أشار له الرازي .
قال البقاعي : ولعل ختام قصص بني إسرائيل بهذه القصة ، لما فيها للنبي صلى الله عليه وسلم من واضح الدلالة على صحة رسالته ، لأنه مما لا يعلمه إلا القليل من حذاق علماء بني إسرائيل .
قلت : يرحم الله البقاعي ، فإنه لم يطلع على هذه القصة من التوراة ، مع أنها مسوقة في الأصحاح السابع عشر من سفر صموئيل الأول ونصه :
( 1 ) وجمع الفلسطينيون جيوشهم للحرب فاجتمعوا في سوكوه التي ليهوذا ونزلوا بين سوكوه وعريقة في أفس دميم .
( 2 ) واجتمع شاول ورجال إسرائيل ونزلوا في وادي البطم واصطفوا للحرب للقاء الفلسطينيين .
( 3 ) وكان الفلسطينيون وقوفاً على جبل من هنا وإسرائيل وقوفاً على جبل من هناك والوادي بينهم .
( 4 ) فخرج رجل مبارز من جيوش الفلسطينيين اسمه جُليات من جَتَّ طوله ست أذرع وشبر .
( 5 ) وعلى رأسه خوذة من نحاس ، وكان لابساً درعاً حرشفياً ووزن الدرع خمسة آلاف شاقل نحاس .
( 6 ) وجرموقاً نحاساً على رجليه ، ومزراق نحاس بين كتفيه .
( 7 ) وقناة رمحه كنول النساجين ، وسنان رمحه ست مائة شاقل حديد ، وحامل الترس كان يمشي قدامه .
( 8 ) فوقف ونادى صفوف إسرائيل وقال لهم : لماذا تخرجون لتصطفوا للحرب . أما أنا الفلسطيني وأنتم عبيد لشاول . اختاروا لأنفسكم رجلاً ولينزل إليّ .
( 9 ) فإن قدر أن يحاربني ويقتلني نُصَيْر لكم عبيداً . وإن قدرت أنا عليه وقتلته تصيرون أنتم عبيداً وتخدموننا .
( 10 ) وقال الفلسطيني : أنا عيّرت صفوف إسرائيل هذا اليوم . أعطوني رجلاً فنتحارب معاً .
( 11 ) ولما سمع شاول وجميع إسرائيل كلام الفلسطيني هذا ارتاعوا وخافوا جداً .
( 12 ) وداود هو ابن ذلك الرجل الأفراتي من بيت لحم يهوذا الذي اسمه : يسَّى وله ثمانية بنين . وكان الرجل في أيام شاول قد شاخ وكبر بين الناس .
( 13 ) وذهب بنو يسّى الثلاثة الكبار وتبعوا شاول إلى الحرب . وأسماء بنيه الثلاثة الذين ذهبوا إلى الحرب أليآب البكر ، وأبينادابُ ثانيه ، وشمَّة ثالثهما .
( 14 ) وداود هو الصغير ، والثلاثة الكبار ذهبوا وراء شاول .
( 15 ) وأما داود فكان يذهب ويرجع من عند شاول ليرعى غنم أبيه في بيت لحم .
( 16 ) وكان الفلسطيني يتقدم ويقف صباحاً ومساء أربعين يوماً .
( 17 ) فقال يسَّى لداود ابنه خذ لإخوتك إيفة من هذا الفريك ، وهذه العشر الخبرات واركض إلى المحلة إلى أخوتك .
( 18 ) وهذه العشر القطعات من الجبن قدمها لرئيس الألف ، وافتقد سلامة إخوتك وخذ منهم عربوناً .
( 19 ) وكان شاول وهم وجميع رجال إسرائيل في وادي البطم يحاربون الفلسطينيين .
( 20 ) فبكَّر داود صباحاً وترك الغنم مع حارس وحمّل ، وذهب كما أمره يسَّى وأتى إلى المتراس والجيش خارج إلى الاصطياف وهتفوا للحرب .
( 21 ) واصطف إسرائيل والفلسطينيون صفاً مقابل صف .
( 22 ) فترك داود الأمتعة التي معه بيد حافظ الأمتعة وركض إلى الصف وأتى وسأل عن سلامة إخوته .
( 23 ) وفيما هو يكلمهم إذا برجل مبارز اسمه جليات الفسطيني من جت صاعد من صفوف الفلسطينيين ، وتكلم بمثل هذا الكلام فسمع داود .
( 24 ) وجميع رجال إسرائيل لما رأوا الرجل هربوا منه وخافوا جداً .
( 25 ) فقال رجال إسرائيل : أرأيتم هذا الرجل الصاعد . ليُعيِّر إسرائيل هو صاعد . فيكون أن الرجل الذي يقتله يغنيه الملك غنى جزيلاً ، ويعطيه بنته ويجعل بيت أبيه حراً في إسرائيل .
( 26 ) فكلم داود الرجال الواقفين معه قائلاً : ماذا يفعل للرجل الذي يقتل ذلك الفلسطيني ويزيل العار عن إسرائيل ، لأنه من هو هذا الفلسطيني الأغلف حتى يعيّر صفوف الله الحي .
( 27 ) فكلمه الشعب بمثل هذا الكلام قائلين : كذا يُفعل بالرجل الذي يقتله .
( 28 ) وسمع أخوه الأكبر أليآب كلامه مع الرجال ، فحمي غضب أليآب على داود وقال : لماذا نزلت وعلى من تركت تلك الغنيمات القليلة في البرية . أنا علمت كبريائك وشر قلبك ، لأنك نزلت لكي ترى الحرب .
( 29 ) فقال داود : ماذا عملت الآن . أما هو كلام .
( 30 ) وتحول من عنده نحو آخر وتكلم بمثل هذا الكلام ، فرد له الشعب جواباً كالجواب الأول .
( 31 ) وسمع الكلام الذي تكلم به داود وأخبروا به أمام شاول ، فاستحضره .
( 32 ) فقال داود لشاول : لا يسقط قلب أحد بسببه . عبدك يذهب ويحارب هذا الفلسطيني .
( 33 ) فقال شاول لداود : لا تستطيع أن تذهب إلى هذا الفلسطيني لتحاربه لأنك غلام وهو رجل حرب منذ صباه .
( 34 ) فقال داود لشاول : كان عبدك يرعى لأبيه غنماً فجاء أسد مع دبّ وأخذ شاة من القطيع .
( 35 ) فخرجت وراءه وقتلته وأنقذتها من فيه ، ولما قام علي أمسكته من ذقنه وضربته فقتلته .
( 36 ) قتل عبدك الأسد والدب جميعاً . وهذا الفلسطيني الأغلف يكون كواحد منهما لأنه قد عيّر صفوف الله الحي .
( 37 ) وقال داود : الرب الذي أنقذني من يد الأسد ومن يد الدب هو ينقذني من يد هذا الفلسطيني . فقال شاول لداود : اذهب وليكن الرب معك .
( 38 ) وألبس شاول داود ثيابه ، وجعل خوذة من نحاس على رأسه وألبسه درعاً .
( 39 ) فتقلد داود بسيفه فوق ثيابه ، وعزم أن يمشي لأنه لم يكن قد جرّب . فقال داود لشاول : لا أقدر أن أمشي بهذه لأني لم أجربها . ونزعها داود عنه .
( 40 ) وأخذ عصاه بيده ، وانتخب له خمسة حجارة ملس من الوادي وجعلها في كنف الرعاة الذي له أي : في الجراب ومقلاعه بيده وتقدم نحو الفلسطيني .
( 41 ) وذهب الفلسطيني ذاهباً واقترب إلى داود والرجل حامل الترس أمامه .
( 42 ) ولما نظر الفلسطيني ورأى داود استحقره لأنه كان غلاماً وأشقر جميل المنظر .
( 43 ) فقال الفلسطيني لداود : ألعلِّي ، أنا كلب حتى أنك تأتي إليّ بعصيّ ، ولعن الفلسطيني داود بآلهته .
( 44 ) وقال الفلسطيني لداود تعال إليّ فأعطي لحمك لطيور السماء ووحوش البرية .
( 45 ) فقال داود للفلسطيني : أنت تأتي إليّ بسيف وبرمح وبترس . وأنا آتي إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذي عيرتهم .
( 46 ) هذا اليوم يحبسك الرب في يدي ، فأقتلك وأقطع رأسك ، وأعطي جثث جيش الفلسطينيين هذا اليوم لطيور السماء وحيوانات الأرض ، فتعلم كل الأرض أنه يوجد إله لإسرائيل .
( 47 ) وتعلم هذه الجماعة كلها أنه ليس بسيف ولا برمح يُخَلِّص الرب لأن الحرب الرب وهو يدفعكم ليدنا .
( 48 ) وكان لما قام الفلسطيني وذهب وتقدم للقاء داود أن داود أسرع وركض نحو الصف للقاء الفلسطيني .
( 49 ) ومد داود يده إلى الكنف وأخذ منه حجراً ورماه بالمقلاع ، وضرب الفلسطيني في جبهته ، فارتزّ الحجر في جبهته وسقط على وجهه إلى الأرض .
( 50 ) فتمكن داود من الفلسطيني بالمقلاع والحجر وضرب الفلسطيني وقتله . ولم يكن سيف بيد داود .
( 51 ) فركض داود ووقف على الفلسطيني وأخذ سيفه واخترطه من غمده وقتله وقطع به رأسه . فلما رأى الفلسطينيون أن جبارهم قد مات هربوا .
( 52 ) فقام رجال إسرائيل ويهوذا وهتفوا ولحقوا الفلسطينيين حتى مجيئك إلى الوادي وحتى أبواب عقرون . . . إلخ .
وتتمة شأن داود بعد ذلك إلى أن آتاه الله الملك ، مذكور في الفصول بعد هذا الفصل من التوراة . فانظره إن شئت .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } [ 253 ]
.
{ تِلْكَ الرُّسُلُ } إشارة إلى من ذكر منهم في هذه السورة أو المعلومة للنبي صلى الله عليه وسلم : { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } بأن خص بمنقبة ليست لغيره : { مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ } تفصيل التفضيل أي : منهم من فضله الله ، بأن كلمه من غير سفير ، وهو موسى عليه السلام : { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } كإبراهيم اتخذه الله خليلاً . وداود آتاه الله النبوة والخلافة والملك .
قال الزمخشري : أي : ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء ، فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم بدرجات كثيرة .
والظاهر : أنه أراد محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه هو المفضل عليهم حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف آية أو أكثر . ولو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلاً منيفاً على سائر ما أوتي الأنبياء ، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائرة المعجزات . وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى ، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشبّه والمتميز الذي لا يلتبس ؛ يقال للرجل : من فعل هذا ؟ فيقول : أحدكم أو بعضكم . تريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعال . فيكون أفخم من التصريح به وأنوه بصاحبه . وسئل الحطيئة عن أشعر الناس ؟ فذكر زهيراً والنابغة ثم قال : ولو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه . ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي ، لم يخفم أمره .
ثم قال : ويجوز أن يريد إبراهيم ومحمداً وغيرهما من أولي العزم .
{ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ } كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى : { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } سبق الكلام فيه .
قال الزمخشري : فإن قلت : فلِمَ خص موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر ؟ قلت : لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة . ولقد بين الله وجه التفضيل ، حيث جعل التكليم من الفضل وهو آية من الآيات . فلما كان هذان النبيان قد أوتيا ما أوتيا من عظام الآيات ، خُصَّا بالذكر في باب التفضيل . وهذا دليل بيّن أن من زيد تفضيلاً بالآيات منهم فقد فضل على غيره . ولما كان نبينا صلى الله عليه وسلم هو الذي أوتي منها ما لم يؤت أحد في كثرتها وعظمها ، كان هو المشهود له بإحراز قصبات الفضل غير مدافع .
{ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم } ، أي : من بعد الرسل لاختلافهم في الدين وتشعب مذاهبهم وتكفير بعضهم بعضاً : { مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } .
قال الزمخشري : كرره للتأكيد . قال الناصر في حواشيه : ووراء التأكيد سر أخص منه . وهو أن العرب متى ثبت أول كلامهم على مقصد ثم اعترضها مقصد آخر وأرادت الرجوع إلى الأول ، قصدت ذكره : إما بتلك العبارة أو بقريب منها . وذلك عندهم مهيع من الفصاحة مسلوك . وفي كتاب الله تعالى مواضع في هذا المعنى . منها قوله تعالى : { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً } [ النحل : 106 ] ، ومنها قوله تعالى : { وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْم } إلى قوله : { لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ } [ الفتح : 25 ] . وهذه الآية من هذا النمط . لما صدر الكلام بأن اقتتالهم كان على وفق المشيئة ، ثم طال الكلام وأريد بيان أن مشيئة الله تعالى كما نفذت في هذا الأمر الخاص ، وهو اقتتال هؤلاء ، فهي نافذة في كل فعل واقع وهو المعنى المعبر عنه في قوله : { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } طرأ ذكر تعلق المشيئة بالاقتتال لتلوه عموم تعلق المشيئة لتناسب الكلام ، ويعرف كل بشكله . فهذا سر ينشرح له الصدر ، ويرتاح له السر . والله الموفق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ 254 ]
.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم } ، هذا أمر بالإنفاق لبعض من المال . قيل : هو أمر إيجاب وأنه أراد بذلك : الإنفاق الواجب وهو الزكاة ، لأنه تعالى عقبه بالوعيد بقوله : { وَالْكَافِرُونَ } الخ . حيث عنى بهم مانعوها كما يأتي . وقال الأصم وأبو علي : أراد النفقة في الجهاد . وقال أبو مسلم وابن جريج : أراد الفرض والنفل . وهو المتجه . وقوله تعالى : { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ } هو يوم القيامة : { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ } ، أي : فتحصلون ما تنفقونه أو تفتدون به من العذاب : { وَلاَ خُلَّةٌ } حتى يعينكم الأخلاء { الأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } [ الزخرف : 67 ] { وَلاَ شَفَاعَةٌ } حتى تتكلوا على شفعاء : { إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } [ طه : 109 ] : { وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } أراد : والتاركون الزكاة هم الظالمون وإيثاره عليه للتغليظ والتهديد . كما في قوله تعالى في آخر آية الحج : { وَمَنْ كَفَرَ } [ آل عِمْرَان : 97 ] ، مكان ومن لم يحج وللإيذان بأن ترك الزكاة من صفات الكفار . قال تعالى : { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [ فصلت : 6 - 7 ] . ذكره الزمخشري .
ويحتمل أن يكون المعنى : والكافرون هم الظالمون لأنفسهم ، بوضع الأموال في غير مواضعها . فلا تكونوا أيها المؤمنون مثلهم ، في أن لا تنفقوا فتضعوا أموالكم في غير مواضعها . وفي هذه الآية دلالة على حسن المسارعة إلى الخيرات قبل فواتها بهجوم ما يخشى معه الفوت : من موت أو غيره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [ 255 ]
.
{ اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ } أي : الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء : { الْقَيُّومُ } الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه ، وقرئ : القيام والقيم .
{ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } تأكيد للقيوم . أي : لا يغفل عن تدبير أمر الخلق تعالى وتقدس . والسنة كعِدة والوسَن محركة ، وبهاء والوسنة : شدة النوم أو أوله ، أو النعاس . كذا في القاموس .
قال المهايمي : السنة : فتور يتقدم النوم . والنوم : حال تعرض للحيوان من استرخاء دماغه من رطوبات أبخرة متصاعدة تمنع الحواس الظاهرة عن الإحساس . فهما منقصان للحياة منافيان للقيومية ، لأنهما من التغيرات المنافية لوجوب الوجود الذي للقيوم . ونفي النوم أولاً التزاماً ، ثم تصريحاً ، ليدل كمال نفيه على ثبوت كمال ما ينافيه . ومن كمال قيوميته : اختصاصه بملك العلويات والسفليات المشار إليه بقوله : { لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ } من الملائكة والشمس والقمر والكواكب : { وَمَا فِي الأَرْضِ } من العوالم المشاهدات . وهذا إخبار بأن الجميع في ملكه وتحت قهره وسلطانه . كقوله : { إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً } [ مريم : 93 - 94 ] { مَن ذَا } من الأنبياء والملائكة ، فضلاً عما ادعى الكفار شفاعته من الأصنام : { الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ } فضلاً عن أن يقاومه أو يناصبه : { إِلاَّ بِإِذْنِهِ } أي : بتمكينه تحقيقاً للعبودية ، كما قال تعالى : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } [ االنجم : 26 ] . وكقوله : { وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } [ الأنبياء : 28 ] . وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز وجل ، أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بأذنه له في الشفاعة ، كما في حديث الشفاعة : < آتي تحت العرش فأخر ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني . ثم يقال : ارفع رأسك وقل يسمع ، واشفع تشفع ، قال : فيحدّ لي حدّاً فأدخلهم الجنة > .
قال أبو العباس بن تيمية : نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون . فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه أو يكون عوناً لله ، ولم يبق إلا الشفاعة . فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب . فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن . وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده ، لا يبدأ بالشفاعة أولاً . ثم قال له : ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعط واشفع تشفع . وقال له أبو هريرة : من أسعد الناس بشفاعتك ؟ قال : < من قال : لا إله إلا الله خالصاً من قلبه > . فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله . ولا تكون لمن أشرك بالله . وحقيقته : أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ، ليكرمه وينال المقام المحمود . فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك . ولهذا أثبتت الشفاعة بإذنه في مواضع . وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } أي : ما أتاهم علمه من أمر أنفسهم وغيرهم ، لأن ما بين يدي المرء يحيط به حسّه ، وما علمه أيضاً . فكأنه بين يدي قلبه يحيط به علمه : { وَمَا خَلْفَهُمْ } وهو ما لم ينله علمهم ، لأن الخلف هو ما لا يناله الحس . فأنبأ أن علمه من وراء علمهم محيط بعلمهم فيما علموا وما لم يعلموا . أفاده الحرالي . فهذه الجملة كقوله تعالى : { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة } [ الأنعام : 73 ] ، { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء } أي : لا يعلمون شيئاً من معلوماته إلا بما أراد أن يعلمهم به منها على ألسنة الرسل . كما قال تعالى : { فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ } [ الجن : 26 - 27 ] . أي : ليكون ما يطلعه عليه من علم غيبه دليلاً على نبوته { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ } روى ابن جرير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن المعنيّ بالكرسي : العلم . وذلك لدلالة قوله تعالى : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } أي : لا يؤوده حفظ ما علم وأحاط به مما في السموات والأرض . وكما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا في دعائهم : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً } [ غافر : 7 ] ، فأخبر أن علمه وسع كل شيء ، فكذلك قوله : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ } قال ابن جرير : وقول ابن عباس هذا يدل على صحة ظاهر القرآن لما ذكر . ولأن أصل الكرسي العلم . ومنه قيل للصحيفة يكون فهيا علم مكتوب : كراسة . ومنه قول الراجز في صفة قانص :
~حتى إذا ما احْتَازها تكرّساً
يعني : علم ، ومنه يقال للعلماء : الكراسي ، لأنهم المعتد عليهم . كما يقال : أوتاد الأرض ، يعني أنهم الذي تصلح بهم الأرض . ومنه قول الشاعر :
~يحف بهم بيض الوجوه وعصبة كراسيّ بالأحداث حين تنوب
يعني بذلك : علمه بحوادث الأمور ونوازلها . وروى ابن جرير أيضاً عن الحسن أن الكرسي في الآية : هو العرش . وأيده بعضهم بأن لفظ عرش المملكة وكرسيها مترادفان ، ولذلك قال تعالى على لسان سليمان : { أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } [ النمل : 38 ] ، فالعرش والكرسي هما شيء واحد ، وإنما سماه هنا كرسياً ، إعلاماً باسم له آخر { وَلاَ يَؤُودُهُ } أي : لا يثقله ولا يشق عليه . يقال : آده الأمر أوداً وأُوُوداً كقعود بلغ منه المجهود والمشقة { حِفْظُهُمَا } أي : السموات والأرض فلا يفتقر إلى شريك ولا ولد . وكيف يشق عليه : { وَهُوَ الْعَلِيُّ } قال ابن جرير قال بعضهم : يعني بذلك : علوّه عن النظير والأشباه . وقال آخرون : معناه العلي على خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه ، لأنه تعالى ذكره فوق جميع خلقه ، وخلقه دونه . كما وصف به نفسه أنه على العرش ، فهو عالٍ بذلك عليهم { الْعَظِيمُ } أي : أعظم كل شيء بالجلال والكبرياء والقهر والقدرة والسلطان .
تنبيه :
آية الكرسي هذه لها شأن عظيم وفضل كبير . وقد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها أعظم آية في كتاب الله ، وأنها مشتملة على اسم الله الأعظم ، وقد ساق ما ورد في فضلها الإمام ابن كثير في " تفسيره " والجلال السيوطي في " الدر المنثور " فانظرهما .
قال الزمخشري : فإن قلت : لم فضلت هذه الآية حتى ورد في فضلها ما ورد ؟ ! . قلت : لما فضلت له سورة الإخلاص من اشتمالها على توحيد الله تعالى وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى ولا مذكور أعظم من رب العزة . فما كان ذكراً له كان أفضل من سائر الأذكار .
وقد حكى السيوطي في " الإتقان " عن الأشعري والباقلاني وابن حبان المنع من أن يقال في القرآن فاضل وأفضل . قالوا : وما ورد مما يفيد ذلك محمول على الأعظمية في الأجر ، لا أن بعض القرآن أفضل من بعض . وقد ردّ ذلك غير واحد ، حتى قال ابن الحصار : العجب ممن يذكر الاختلاف في ذلك مع النصوص الواردة في التفضيل . وقال الغزالي في " جواهر القرآن " : لعلك أن تقول : قد أشرت إلى تفضيل بعض آيات القرآن على بعض ، والكلام كلام الله . فكيف يتفاوت بعضها بعضاً . وكيف يكون بعضها أشرف من بعض ؟ فاعلم أن نور البصيرة إن كان لا يرشدك إلى الفرق بين آية الكرسي وآية المداينات ، وبين سورة الإخلاص وسورة تبت ، وترتاع على اعتقاد نفسك الخوارة المستغرقة بالتقليد ، فقلد صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم ، فهو الذي أنزل عليه القرآن وقال : < يس قلب القرآن ، وفاتحة الكتاب أفضل سور القرآن > .
وآية الكرسي سيدة آي القرآن . وقل هو الله أحد ، تعدل ثلث القرآن . والأخبار الواردة في فضائل القرآن وتخصيص بعض السور والآيات بالفضل وكثرة الثواب في تلاوتها لا تحصى . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 256 ]
.
{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } قال ابن كثير : أي : لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام ، فإنه بيّن واضح جلي دلائله وبراهينه . لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه . بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونوّر بصيرته دخل فيه على بينة . ومن عمي قلبه فإنه لا يفيده الدخول فيه مكرهاً مقسوراً ، فالنفي بمعنى النهي .
وهو ما ذهب إليه في تأويل الآية كثير . وذهب آخرون إلى أنه خبر محض . أي : أنه تعالى ما بنى أمر الإيمان على الإجبار والقسر ، وإنما بناه على التمكين والاختيار . قال القفال - موضحاً له - لما بيّن تعالى دلائل التوحيد بياناً شافياً قاطعاً للعذر ، أخبر بعد ذلك أنه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر . إلا أن يُقسر على الإيمان ويجبر عليه . وذلك مما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الابتلاء ؛ إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والامتحان . ونظير هذه الآية قوله تعالى : { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] . وقوله تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [ يونس : 99 ] . وقوله تعالى : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 3 - 4 ] .
تنبيه :
علم من هذه الآية أن سيف الجهاد المشروع في الإسلام والذي لا يبطله عدل عادل ولا جور جائر لم يستعمل للإكراه على الدخول في الدين . ولكن لحماية الدعوة إلى الدين والإذعان لسلطانه وحكمه العدل .
{ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ } أي : بالشيطان . أي : بما يدعو إليه من عبادة الأوثان : { وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا } أي : فقد تمسك من الدين بأقوى سبب . وشبه ذلك بالعروة القوية التي لا تنفصم . هي في نفسها محكمة مبرمة قوية ، وربطها قوي شديد . وجملة : لا انفصام لها إما استئناف مقرر لما قبلها ، وإما حال من العروة, والعامل استمسك أو من الضمير المستتر في الوثقى وإما صلة لموصول محذوف أي : التي . نقله الرازي .
وقد روى الشيخان عن عبد الله بن سلام قال : رأيت رؤيا على عهد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . رأيت كأني في روضة خضراء وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء . في أعلاه عروة . فقيل لي : اصعد عليه . فقلت : لا أستطيع ، فجاءني منصف أي : وصيف فرفع ثيابي من خلفي ، فقال : اصعد فصعدت حتى أخذت بالعروة . فقال : استمسك بالعروة ، فاستيقظت وإنها لفي يدي . فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه . فقال : < أما الروضة : فروضة الإسلام ، وأما العمود : فعمود الإسلام . وأما العروة : فهي العروة الوثقى . أنت على الإسلام حتى تموت > { وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } اعتراض تذييلي حامل على الإيمان ، رادع عن الكفر والنفاق ، بما فيه من الوعد والوعيد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 257 ]
.
{ اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ } أي : حافظهم وناصرهم : { يُخْرِجُهُم } تفسير للولاية أو خبر ثان : { مِّنَ الظُّلُمَاتِ } أي : ظلمات الكفر والمعاصي : { إِلَى النُّوُرِ } أي : نور الإيمان الحق الواضح . وإفراد النور لوحدة الحق . كما أن جمع الظلمات لتعدد فنون الضلال ، كما قال تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأنعام : 153 ] ، { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ } أي : الشياطين وسائر المضلين عن طريق الحق : { يُخْرِجُونَهُم } بالوساوس وغيرها من طرق الإضلال والإغواء : { مِّنَ النُّورِ } أي : الإيمان الفطري الذي جبل عليه الناس كافة . أو من نور البينات التي يشاهدونها من جهة النبي صلى الله عليه وسلم : { إِلَى الظُّلُمَاتِ } أي : ظلمات الكفر والغي : { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
ثم استشهد تعالى على ما ذكره من أن الكفرة أولياؤهم الطاغوت بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ 258 ]
.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ } أي : جادل : { إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ } أي : كيف أخرجه الطاغوت من نور نسبة الإحياء والإماتة إلى ربه ، إلى ظلمات نسبتهما إلى نفسه : { أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ } أي : لأن آتاه الله . يعني : أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر . فحاج لذلك ، أو حاجه لأجله . وضعاً للمحاجة التي هي أقبح وجوه الكفر موضع ما يجب عليه الشكر ، كما يقال : عاداني فلان لأني أحسنت إليه . تريد : أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان . ونحوه قوله تعالى : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 82 ] .
قال الحرالي : وفي إشعاره أن الملك بلاء وفتنة على من أوتيه .
{ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ } حين سأله من ربك الذي تدعونا إليه { رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي : بنفخ الروح في الجسم وإخراجها منها : { قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } أي : بالقتل والعفو عنه . ولما سلك الطاغية مسلك التلبيس والتمويه على الرعاع ، كان بطلان جوابه من الجلاء والظهور بحيث لا يخفى على أحد ، والتصدي لإبطاله من قبيل السعي في تحصيل الحاصل ، انتقل إبراهيم عليه السلام ، إرسالاً لعنان المناظرة معه إلى حجة أخرى لا تجري فيها المغالطة ولا يتيسر للطاغية أن يخرج عنها بمخرج مكابرة أو مشاغبة أو تلبيس على العوام . وهو ما قصه تعالى بقوله : { قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ } أي : إذا كنت كما تدعي من أنك تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود ، في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته . فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق ، فإن كنت إلهاً كما ادعيت فأت بها من المغرب : { فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ } تحير ودهش وغلب بالحجة ، لما علم عجزه وانقطاعه ، وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام .
{ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أي : لا يلهمهم حجة ولا برهاناً { حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } [ الشورى : 16 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 259 ]
.
{ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ } استشهاد على ما ذكر تعالى من ولايته للمؤمنين وتقرير له ، معطوف على الموصول السابق ، وإيثار أو الفارقة على الواو الجامعة للاحتراز عن توهم اتحاد المستشهد عليه من أول الأمر . والكاف : إما اسمية جيء بها للتنبيه على تعدد الشواهد وعدم انحصارها فيما ذكر ، وإما زائدة . والمعنى : أو لم تر إلى مثل الذي . أو إلى الذي مرّ على قرية ، كيف هداه الله تعالى وأخرجه من ظلمة الاشتباه إلى نور العيان والشهود : { وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } خالية ساقطة حيطانها على سقوفها : { قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } أي : كيف يعمر الله هذه القرية بعد خرابها . فكان منه كالوقوف في الظلمات . فأراه الدليل على الإحياء الحقيقي في نفسه مبالغة في قلع الشبهة ، إخراجاً له منها إلى النور : { فَأَمَاتَهُ اللّهُ ماِئَةَ عَامٍ } ليندرس بالكلية : { ثُمَّ بَعَثَهُ } أي : أحياه ببعث روحه إلى بدنه وبعض أجزائه إلى بعض بعد تفرقها : { قَالَ } الله له : { كَمْ لَبِثْتَ } أي : مكثت ميتاً : { قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } قاله بناء على التقريب والتخمين ، أو استقصاراً لمدة لبثه : { قَالَ } الله : { بَل لَّبِثْتَ ماِئَةَ عَامٍ } وإنما سأله تعالى ليظهر له عجزه عن الإحاطة بشؤونه . وأن إحياه ليس بعد مدة يسيرة ، ربما يتوهم أنه هين في الجملة ، بل بعد مدة طويلة . وينحسم به مادة استبعاده بالمرة . ويطلع في تضاعيفه على أمر آخر من بدائع آثار قدرته تعالى ، وهو إبقاء الغذاء المتسارع إلى الفساد بالطبع ، على ما كان عليه دهراً طويلاً ، من غير تغير ما ، كما قال سبحانه : { فَانظُرْ } لتعاين أمراً آخر من دلائل قدرتنا : { إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } أي : لم يتغير في هذه المدة المتطاولة مع تداعيه إلى الفساد . والهاء يجوز أن تكون هاء سكت زيدت في الوقف . وأصل الفعل على هذا فيه وجهان :
أحدهما : يتسنن من قوله : { حَمَإٍ مَسْنُونٍ } . فلما اجتمعت ثلاث نونات قلبت الأخيرة ياء كما قلبت في تظنيت ثم أبدلت الياء ألفاً ثم حذفت للجزم . والثاني : أن يكون أصل الألف واواً من قولهم : أسنى يسني إذا مضت عليه السنون . واصل سنة سنوة ، لقولهم : سنوات ، أي : لم تمر عليه السنون . والمعنى على التشبيه . أي : كأنه لم تمر عليه المائة سنة لبقائه على حاله وعدم تغيره . ويجوز أن تكون الهاء أصلاً ويكون اشتقاقه من السنة ، بناء على أن لام السنة هاء وأصلها سنهة . لقولهم : سنهاء وعاملته مسانهة . فعلى هذا تثبت الهاء وصلاً ووقفاً . إذ الفعل مجزوم بسكونها . وعلى الأول تثبت في الوقف دون الوصل . ومن أثبتها في الوصل أجراه مجرى الوقف . وقد قرأ حمزة والكسائي بحذف الهاء وصلاً وإثباتها وقفاً والباقون بإثباتها وصلاً ووقفاً . فإن قيل : ما فاعل يتسنى ؟ قيل : يحتمل أن يكون ضمير الطعام والشراب ؛ لاحتياج كل واحد منهما إلى الآخر ، فكانا بمنزلة شيء واحد . فلذلك أفرد الضمير في الفعل . ويحتمل أن يكون جعل الضمير لـ " ذلك " و " ذلك " يكنى به عن الواحد والاثنين والجمع بلفظ واحد . ويحتمل أن يكون الضمير للشراب فقط ، لأنه أقرب . وثم جملة أخرى حذفت لدلالة هذه عليها . والتقدير : وانظر إلى طعامك لم يتسنه ، وإلى شرابك لم يتسنه . ويجوز أن يكون أفرد في موضع التثنية كما قال الشاعر :
~فَكَأَنَّ في العينين حبَّ قَرَنْفُلٍِ أو سنبلاً كُحِلَت به فَانْهَلَّتِ
أشار لذلك أبو البقاء : { وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ } كيف هو ، فرآه صار عظاماً نخرة : { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ } عطف على مقدر متعلق بفعل مقدر قبله بطريق الاستئناف مقرر لمضمون ما سبق . أي : فعلنا ما فعلنا ، من إحيائك بعد ما ذكر ، لتعاين ما استبعدته من الإحياء بعد دهر طويل . ولنجعلك آية للناس على البعث . أو متعلق بفعل مقدر بعده . أي : ولنجعلك آية للناس ، فعلنا ما فعلنا : { وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ } أي : عظام الحمار لتشاهد كيفية الإحياء : { كَيْفَ نُنشِزُهَا } قرأ بالزاي ، أي : نرفع بعضها على بعض ونركبه عليه . من النشز وهو المرتفع من الأرض . وفيها على هذا وجهان : ضم النون وكسر الشين من أنشزته وفتح النون وضم الشين من نشزته وهما لغتان . وقرأ بالراء . وفيها وجهان :
الأول : فتح النون وضم الشين وماضيه نشر فيكون إما مطاوع أنشر الله الميت فنشر ، وحينئذ نشر بمعنى أنشر . فاللازم والمتعدي بلفظ واحد . وإما من النشر الذي هو ضد الطي ، أي : يبسطها بالإحياء . والثاني : ضم النون وكسر الشين ، أي : نحييها ، كقوله : { ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ } [ عبس : 22 ] . قاله أبو البقاء { ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً } أي : نسترها به : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ } أي : اتضح له إعادته مع طعامه وشرابه وحماره ، بعد التلف الكلي ، وظهر له كيفية الإحياء : { قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فخرج من الظلمات إلى النور .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ 260 ]
.
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ } قال المهايمي : واذكر لتمثيل قصة المارّ على القرية ، في الإخراج من الظلمات إلى النور ، بالإحياء ، قصة إبراهيم .
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى } إنما سأل ذلك ليصير علمه عياناً .
{ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } أي : بلى آمنت ولكن سألت لأزداد بصيرة وسكون قلب برؤية الإحياء ، فوق سكونه بالوحي . فإن تظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة واليقين . وقد ذهب الجمهور إلى أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يكن شاكّاً في إحياء الموتى قط . وإنما طلب المعاينة لما جبلت عليه النفوس البشرية من رؤية ما أخبرت عنه . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : < ليس الخبر كالمعاينة > . وحكى ابن جرير عن طائفة من أهل العلم أنه سأل ذلك ، لأنه شك في قدرة الله . واستدلوا بما صح عنه صلى الله عليه وسلم . وفي الصحيحين وغيرهما من قوله : < نحن أحق بالشك من إبراهيم > . وبما روي عن ابن عباس أنه قال : ما في القرآن عندي آية أرجى منها ؛ إذ رضي الله من إبراهيم قوله : { بَلَى } . قال فهذا لما يعترض في النفوس ويوسوس به الشيطان . أخرجه عنه الحاكم في المستدرك وصححه . ورجح هذا ابن جرير بعد حكايته له .
قال ابن عطية : وهو عندي مردود . يعني قول هذه الطائفة . ثم قال : وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم : < نحن أحق بالشك من إبراهيم > فمعناه : أنه لو كان شاكاً لكنا نحن أحق به ، ونحن لا نشك ، فإبراهيم أحرى أن لا يشك ، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم . وأطال ابن عطية البحث في هذا . وأطاب .
قال القرطبي : ولا يجوز على الأنبياء عليهم السلام مثل هذا الشك . وقد أخبر الله سبحانه أن أصفياءه ليس للشيطان عليهم سبيل ، فقال : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الإسراء : 65 ] . وقال اللعين : { إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } [ ص : 83 ] وإذا لم تكن له عليهم سلطنة فكيف يشككهم ؟ وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفرقها ، وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزقها . فأراد أن يرقى من علم اليقين إلى عين اليقين .
وقال الناصر في " الانتصاف " : الأولى في هذه الآية أن يذكر فيها المختار في تفسيرها ، من المباحث الممتحنة بالفكر المحرر ، والنكت المفصحة بالرأي المخمر ، فنقول : أما سؤال الخليل عليه السلام بقوله له : { كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى } فليس عن شك ، والعياذ بالله ، في قدرة الله على الإحياء . ولكنه سؤال عن كيفية الإحياء . ولا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورتها . فإنما هي طلب علم ما لا يتوقف الإيمان على علمه . ويدل على ذلك ورود السؤال بصيغة كيف وموضوعها السؤال عن الحال . ونظير هذا السؤال أن يقول القائل : كيف يحكم زيد في الناس ؟ فهو لا يشك أنه يحكم فيهم ، ولكنه سأل عن كيفية حكمه ، لا ثبوته . ولو كان الوهم قد يتلاعب ببعض الخاطر فيطرِّق إلى إبراهيم شكاً من هذه الآية . وقد قطع النبي عليه السلام دابر هذا الوهم بقوله : < نحن أحق بالشك من إبراهيم > أي : ونحن لم نشك ، فلأن لا يشك إبراهيم أحرى وأولى . فإن قلت : إذا كان السؤال مصروفاً إلى الكيفية التي لا يضر عدم تصورها ومشاهدتها بالإيمان ولا تخلّ به ، فما موقع قوله تعالى : { أَوَلَمْ تُؤْمِنْ } ؟ قلت : قد وقعتُ لبعض الحذاق فيه على لطيفة ، وهي أن هذه الصيغة تستعمل ظاهراً في السؤال عن الكيفية كما مر . وقد تستعمل في الاستعجاز . مثاله : أن يدعي مدعٍ أنه يحمل ثقلاً من الأثقال ، وأنت جازم بعجزه عن حمله فتقول له : أرني كيف تحمل هذا ؟ فلما كانت هذه الصيغة قد يعرض لها هذا الاستعمال الذي أحاط علم الله تعالى بأن إبراهيم مبرأ منه - أراد بقوله : { أَوَلَمْ تُؤْمِنْ } أن ينطق إبراهيم بقوله : { بَلَى } آمنت . ليدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الأولى .
ليكون إيمانه مخلصاً ، نصّ عليه بعبارة يفهمها كل من يسمعها فهماً لا يلحقه فيه شك . فإن قلت : قد تبين لي وجه الربط بين الكلام على التقدير المبين . فما موقع قول إبراهيم : { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } ؟ وذلك يشعر ظاهراً بأنه كان عند السؤال فاقداً للطمأنينة . قلت : معناه : ولكن ليزول عن قلبي الفكر في كيفية الحياة ، لأني إذا شاهدتها سكن قلبي عن الجولان في كيفياتها المتخيلة ، وتعينت عندي بالتصوير المشاهد . فهذا أحسن ما يجري لي في تفسير هذه الآية . وربك الفتاح العليم . انتهى .
{ قَالَ } أي : إذا أردت الطمأنينة : { فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } بضم الصاد وكسرها ، بمعنى : فأملهن واضممهن إليك . يقال : صاره يصوره ويصيره ، إذا أماله ، لغتان .
قال الزمخشري : وقرأ ابن عباس رضي الله عنه : فصرهن ، بضم الصاد وكسرها وتشديد الراء من : صرّه يصرّه ويصُرّه إذا جمعه ، وعنه : فصرهن من التصرية وهي الجمع أيضاً : وقال اللحياني : قال بعضهم : معنى صرهن : وجِّههُنَّ . ومعنى صِرهن : قطعهن وشققهن . والمعروف أنهما لغتان بمعنى واحد . وكلهم فسروا فصرهن : أملهن ، والكسر فُسّر بمعنى قطعهن . وقال الفيروزابادي في " البصائر " : قال بعضهم : صرهن بضم الصاد وتشديد الراء وفتحها ، من الصر أي : الشد . قال : وقرئ فصرهن بكسر الصاد وفتح الراء المشددة من الصرير أي : الصوت ، أي : صح بهن . وقال أبو البقاء : ويقرأ بضم الصاد وتشديد الراء ، ثم منهم من يضمها اتباعاً ومنهم من يفتحها تخفيفاً ومنهم من يكسرها على أصل التقاء الساكنين .
أقول : قد تقرر في العربية أن المضاعف إذا لحقته هاء الضمير يلزم وجه واحد في المؤنث ، وهو فتح ما قبلها ، نحو ردها مراعاة للألف اتفاقاً ، وفي المذكر ثلاثة أوجه :
أفصحها الضم ، ويليه الكسر وهو ضعيف ، ويليه الفتح وهو أضعفها .
وممن ذكره ثعلب في " الفصيح " لكن غلطوه لكونه أوهم فصاحته ولم ينبه على ضعفه { ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً } أي : ثم اذبحهن وجزئهن وضع على كل جبل منهن بعضاً : { ثُمَّ ادْعُهُنَّ } أي : بأسمائهن : { يَأْتِينَكَ سَعْياً } أي : مسرعات : { وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى أمره بضمها إلى نفسه بعد أن يأخذها ؟ قلت : ليتأملها ويعرف أشكالها وهيآتها وحلاها ؛ لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك . ولذلك قال : { يَأْتِينَكَ سَعْياً } أي : ولم يقل طيراناً ، لأنه إذا كانت ساعية كانت أثبت لنظره عليها من أن تكون طائرة . والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مّاِئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ 261 ]
.
{ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أي : في طاعته : { كَمَثَلِ حَبَّةٍ } أي : مثل نفقتهم كمثل حبة ، أو مثلهم كمثل باذر حبة . فالحذف إما من جانب المشبه أو المشبه به لتحصيل المناسبة ، أي : وتلك الحية ألقيت في الأرض ثم : { أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ ماِّئَةُ حَبَّةٍ } أي : أنبتت ساقاً انشعب سبع شعب ، خرج من كل شعبة سنبلة فيها مائة حبة ، فصارت الحبة سبعمائة حبة بمضاعفة الله لها . قال ابن كثير : وهذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة . فإن هذا فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عز وجل لأصحابها ، كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة . انتهى .
أقول : مصداق هذا فما في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب ، فإن الله يتقبلها بيمينه ، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوّه ، حتى تكون مثل الجبل > .
{ وَاللّهُ يُضَاعِفُ } أي : هذا التضعيف أو أكثر منه : { لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف . ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال الله عز وجل : إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به > وأخرج أحمد ومسلم والنسائي والحاكم عن ابن مسعود قال : جاء رجل بناقة مخطومة فقال : هذه في سبيل الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة > . وأخرج أحمد والطبراني والبيهقي عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله . الدرهم بسبعمائة ضعف > . وثمة آثار أخرى في ابن كثير و الدر المنثور . ثم مدح تعالى من حفظ نفسه من المن والأذى فيما أنفق بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ 262 ]
.
{ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ } أي : لا يعقبون : { مَاأَنفَقُواُ مَنّاً } وهو ذكره لمن أنفق عليه ليريه أنه أوجب بذلك عليه حقاً : { وَلاَ أَذًى } وهو ذكره لغيره ، فيؤذيه بذلك أو التطاول عليه بسببه : { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } الموعود به قبل : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي : فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة : { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } على فائت من زهرة الدنيا ، لصيرورتهم إلى ما هو خير من ذلك .
لطائف :
الأولى : قال الزمخشري : معنى ثم : إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى وفي حواشيه للناصر ما نصه : ثم في أصل وضعها تشعر بتراخي المعطوف بها عن المعطوف عليه في الزمان وبعد ما بينهما ، والزمخشري يحملها على التفاوت في المراتب والتباعد بينهما ، حيث لا يمكنه حملها على التراخي في الزمان لسياق يأبى ذلك ، كهذه الآية . وحاصله : أنها استعيرت من تباعد الأزمنة لتباعد المرتبة . وعندي فيها وجه آخر محتمل في هذه الآية ونحوها : وهو الدلالة على دوام الفعل المعطوف بها وإرخاء الطول في استصحابه . فهي على هذا لم تخرج عن الإشعار ببعد الزمن . ولكن معناها الأصلي : تراخي زممن وقوع الفعل وحدوثه . ومعناها المستعارة إليه : دوام وجود الفعل وتراخي زمن بقائه . وعليه حمل قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَقَامُوا } [ فصلت : 30 ] ، أي : داوموا على الاستقامة دواماً متراخياً ممتد الأمد ، وتلك الاستقامة هي المعتبرة ، لا ما هو منقطع إلى ضده من الحيد إلى الهوى والشهوات ، وكذلك قوله : { ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى } أي : يدومون على تناسي الإحسان وعلى ترك الاعتداد به والامتنان ، ليسوا بتاركيه في أزمنة إلى الأذية ، وتقليد المنن بسببه ، ثم يتوبون . والله أعلم . وقريب من هذا أو مثله ، أن السين يصحب الفعل لتنفيس زمان وقوعه وتراخيه . ثم ورد قوله تعالى حكاية على الخليل عليه السلام : { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الصافات : 99 ] . وقد حكى الله تعالى في مثل هذه الآية : { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] . فليس إلى حمل السين على تراخي زمان وقوع الهداية له من سبيل . فيتعين المصير إلى حملها على الدلالة على تنفس دوام الهداية الحاصلة له وتراخي بقائها وتمادي أمدها . انتهى .
الثانية : قال الزمخشري : فإن قلت : أي : فرق بين قوله : { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ } وقوله فيما بعد : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } ؟ ! قلت : الموصول لم يضمن ههنا معنى الشرط ، وضمنه ثمّه . والفرق بينهما من جهة المعنى : أن الفاء فيها دلالة على أن الإنفاق به استحق الأجر ، وطرحها عار عن تلك الدلالة .
وقال أبو السعود : وتخلية الخبر عن الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها ، للإيذان بأن ترتيب الأجر على ما ذكر من الإنفاق وترك اتباع المنّ والأذى - أمر بيّن لا يحتاج إلى التصريح بالسببية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ } [ 263 ]
.
{ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } أي : من كلمة طيبة ودعاء لمسلم : { وَمَغْفِرَةٌ } أي : غفر عن ظلم قولي أو فعلي : { خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى } إذ لا يحصل للصدقة ثواب ويحصل إثم الأذى ، وقد دخل في قوله قول معروف الرد الجميل للسائل . و مغفرة العفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول { وَاللّهُ غَنِيٌّ } عن طلب صدقة لعبيده مع الأذى لهم أو المن عليهم : { حَلِيمٌ } عن معالجة من يمنّ ويؤذي بالعقوبة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } [ 264 ]
.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى } أي : لا تحبطوا أجرها بكل واحد منهما . فإنهما إساءتان ينافيان الإحسان المعتبر في الصدقة . والمنافي مبطل كالرياء .
فيصير المانّ والمؤذي : { كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } في بطلان صدقته . و رئاء إما مفعول له أو حال . أي : مرائياً . والهمزة الأولى في رئاء عين الكلمة لأنه من : راءى . والأخيرة بدل من الياء ؛ لوقوعها طرفاً بعد ألف زائدة كالقضاء . ويجوز تخفيف الهمزة الأولى بأن تقلب ياء فراراً من ثقل الهمزة بعد الكسرة . وقد قرئ به . قاله أبو البقاء .
{ فَمَثَلُهُ } أي : هذا المنفق رياء ، في إنفاقه مقارناً لما يفسده . ومثل نفقته : { كَمَثَلِ صَفْوَانٍ } وهو حجر أملس : { عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ } أي : مطر كثير : { فَتَرَكَهُ صَلْداً } أي : أجرد لا شيء عليه : { لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ } أي : المرائي والمانّ والمؤذي ، لا يقدرون على تحصيل شيء من ثواب ما عملوا لبطلانه . كقوله : { فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً } [ الفرقان : 23 ] .
فلا يجدون ثواب صدقاتهم كما لا يوجد على الصفا التراب بعد ما أصابه الوابل : { وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } إلى الخير والرشاد . وفيه تعريض بأن الرياء والمن والأذى على الإنفاق من صفات الكفار . ولا بد للمؤمن أن يتجنب عنها . وقد ورد في وعيد المن بالصدقة أحاديث متواترة . ففي صحيح مسلم عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : المنان بما أعطى ، والمسبل إزاره ، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب > . وفي سنن النسائي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا عاق لوالديه ولا منان > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ 265 ]
.
{ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ } مفعول له : { وَتَثْبِيتاً } معطوف عليه . ويجوز أن يكونا حالين . أي : مبتغين ومتثبتين : { مِّنْ أَنفُسِهِمْ } قال أبو البقاء : يجوز أن يكون من بمعنى اللام أي : تثبيتاً لأنفسهم ، كما تقول : فعلت ذلك كسراً من شهوتي ، ويجوز أن تكون على أصلها أي : تثبيتاً صادراً من أنفسهم . والتثبيت مصدر فعل متعد . فعلى الوجه الأول : يكون : { مِنْ أَنْفُسِهِمْ } مفعول المصدر . وعلى
الثاني : يكون المفعول محذوفاً . تقديره : ويثبتون أعمالهم بإخلاص النية ، ويجوز أن يكون تثبيتاً بمعنى تثبت فيكون لازماً . والمصادر قد تختلف ويقع بعضها موقع بعض . ومثله قوله تعالى : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [ المزمل : 8 ] . أي : تبتلاً . انتهى . وعن الشعبي : تثبيتاً تصديقاً ويقيناً : { كَمَثَلِ جَنَّةٍ } أي : بستان : { بِرَبْوَةٍ } أي : موضع مرتفع : { أَصَابَهَا وَابِلٌ } مطر كثير : { فَآتَتْ أُكُلَهَا } أي : أخرجت ثمرها : { ضِعْفَيْنِ } أي : بالنسبة إلى غيرها من الجنان : { فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ } وهو المطر الضعيف ، أو أخف المطر ، أو أضعفه أو الندى . ولا بد من تقدير مضاف هنا كما تقدم : إما من جانب المشبه أو المشبه به . أي : ومثل نفقة الذين ... الخ . أو كمثل غارس جنة الخ . رعاية للتناسب .
قال الشهاب : وفي التشبيه وجهان :
أحدهما : أنه مركب ، والتشبيه لحال النفقة بحال الجنة بالربوة في كونها زاكية متكثرة المنافع عند الله ، كيفما كانت الحال .
والثاني : أن تشبيه حالهم بحال الجنة على الربوة في أن نفقتهم ، كثرت أو قلت ، زاكية زائدة في حسن حالهم . كما أن الجنة يضعِّف أكلها قويُّ المطر وضعيفه . وهذا أيضاً تشبيه مركب . إلا أنه لوحظ الشبه فيما بين المفردات . وحاصله : أن حالهم في اتباع القلة والكثرة تضعيف الأجر ، كحال الجنة في إنتاج الوابل والطل تضعيف ثمارها . ويحتمل وجهاً ثالثاً : وهو أن يكون من تشبيه المفرد بالمفرد ، بأن تشبه حالهم بجنة مرتفعة في الحسن والبهجة . والنفقة الكثيرة والقليلة : بالطل والوابل ، والأجر والثواب : بالثمرات . والربوة مثلثة الراء . وأُكل بضمتين ، وتسكن للتخفيف . وبه قرئ : { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } تحذير عن الرياء وترغيب في الإخلاص .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } [ 266 ]
.
{ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ } أي : كبر السن . فإن الفاقة والعالة في الشيخوخة أصعب : { وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء } صغار لا قدرة لهم على الكسب : { فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ } أي : ريح شديدة : { فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ } تلك الجنة ، وبقي صاحبها بمضيعة مع ضعفه وثقل ظهره بالعيال وقلة المال . والمعنى : تمثيل حال من يفعل الأفعال الحسنة ، ويضم إليها ما يحبطها ، كرياء وإيذاء ، في الحسرة والأسف إذا كان يوم القيامة ، واشتدت حاجته إليها وجدها محبطة بحال من هذا شأنه : { كذَلِكَ } أي : مثل هذا البيان : { يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } أي : فيها . فتعتبرون بها . وروى البخاري في التفسير عن عبيد بن عمير قال : قال عمر رضي الله تعالى عنه يوماً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فيم ترون هذه الآية نزلت : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ } قالوا : الله أعلم ، فغضب عمر فقال : قولوا : نعلم أو لا نعلم . فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين . قال عمر : يا ابن أخي ، قل ولا تحقر نفسك . قال ابن عباس : ضربت مثلاً لعملٍ . قال عمر : أي : عملٍ ؟ قال ابن عباس : لعملٍ . قال عمر : لرجل غني يعمل بطاعة الله عز وجل . ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي ، حتى أغرق أعماله . قال ابن كثير وهو من أفراد البخاري ولابن جرير من طريق عطاء عن ابن عباس معناه : أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل الخير ، حتى إذا كان حين فني عمره ختم ذلك بعمل أهل الشقاء ، فأفسد ذلك فأحرقه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ 267 ]
.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } هذا بيان الحال ما ينفق منه ، إثر بيان أصل الإنفاق وكيفيته . أي : أنفقوا من جياد ما كسبتم ، لقوله تعالى : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عِمْرَان : 92 ] . فمقتضى الإيمان : الإنفاق من الجيد . لا سيما ما يطلب به رضا الله وتثبيت النفس . وفي الأمر إشعار بأنه إنما يمثل بالزرع المنبت سبع سنابل ، أو بالجنة بربوة ، ما أنفق من الجيد : { وَمِمَّا } أي : ومن طيبات ما : { أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ } من الحبوب والثمار : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ } أي : لا تقصدوا : { الْخَبِيثَ } أي : الرديء من أموالكم { مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ } أي : بقابليه يعني الرديء إذا أهدي إليكم : { إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } أي : إلا بأن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه . من قولك : أغمض فلان عن بعض حقه إذا غض بصره ، ويقال للبائع : أغمض ، أي : لا تستقص ، كأنك لا تبصر . كذا في " الكشاف " .
قال الرازي : الإغماض في اللغة : غض البصر وإطباق جفن على جفن . والمراد ههنا : المساهلة ، وذلك لأن الْإِنْسَاْن إذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يرى ذلك . ثم كثر ذلك حتى جعل كل تجاوز ومساهلة في البيع وغيره إغماضاً . فقوله : { وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } يعني : لو أهدي إليكم مثل هذه الأشياء ، لما أخذتموها إلا على استحياء وإغماض . فكيف ترضون لي ما لا ترضونه لأنفسكم ؟ ! : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ } عن إنفاقكم ، وإنما يأمركم به لمنفعتكم : { حَمِيدٌ } يجازي المحسن أفضل الجزاء . وفي الأمر بأن يعلموا ذلك ، مع ظهور علمهم به ، توبيخ على إعطاء الخبيث وإيذان بأن ذلك من آثار الجهل بشأنه تعالى . ولما رغب تعالى في إنفاق الجيد حذر من وسوسة الشيطان في ذلك فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ 268 ]
.
{ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ } في الإنفاق : { وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء } أي : يغريكم على البخل ومنع الصدقات ، إغراء الآمر للمأمور . والفاحش عند العرب : البخيل . قال طرفة :
~أَرَى المَوتَ يَعتَامُ الكرامَ وَيَصطَفي عَقِيلَةَ مَالِ الفَاحش المتشدِّد
قال الحرالي : الفحشاء : كل ما اجتمعت عليه استقباحات الشرع . وأعظم مراد بها هنا البخل الذي هو أدوأ داء . لمناسبة ذكر الفقر . وعليه ينبني شر الدنيا والآخرة . ويلازمه الحرص ويتابعه الحسد ويتلاحق به الشر كله .
{ وَاللّهُ يَعِدُكُم } بالإنفاق لا سيما من الجيد : { مَّغْفِرَةً مِّنْهُ } للذنوب : { وَفَضْلاً } خلفا ًوثواباً في الآخرة : { وَاللّهُ وَاسِعٌ } قدرة وفضلاً فيحقق ما وعدكم به من المغفرة وإخلاف ما تنفقونه : { عَلِيمٌ } بصدقاتكم ، فلا يضيع أجركم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } [ 269 ]
.
{ يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء } قال كثيرون : الحكمة إتقان العلم والعمل . وبعبارة أخرى : معرفة الحق والعمل به . قال أبو مسلم : الحكمة : فعلة من الحكم وهي كالنحلة من النحل ، ورجل حكيم إذا كان ذا حجاً ولبّ وإصابة رأي . وهي في هذا الموضع في معنى الفاعل . ويقال : أمر حكيم ، أي : محكم ، وهو فعيل بمعنى مفعول . قال تعالى : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } [ الدخان : 4 ] .
{ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } إذ بها انتظام أمر الدارين . والإظهار في مقام الإضمار لإظهار الاعتناء بشأنها . وفي إيلاء هذه الآية لما قبلها إشعار بأن الذي لا يغتر بوعد الشيطان ويوقن بوعد الله ؛ هو من آتاه الله الحكمة : { وَمَا يَذَّكَّرُ } أي : يتعظ بأمثال القرآن والحكمة : { إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } أي : ذوو العقول من الناس ، الخالصة من شوائب الهوى ، وهم : الحكماء . والمراد به : الحث على العمل بما تضمنت الآي في معنى الإنفاق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } [ 270 ]
.
{ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ } أي : يؤول إلى الإنفاق : { فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ } لا يخفى عليه وهو مجازيكم عليه : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ } أي : الذين ينفقون رئاء الناس ، أو يضعون الإنفاق في غير موضعه . أو بضم المنّ والأذى إليه ، أو بالإنفاق من الخبيث ، أو يمنعون الصدقات ، أو ينفقون أموالهم في المعاصي ، أو لا يفون بالنذور : { مِنْ أَنصَارٍ } أي : من أعوان ينصرونهم من عقاب الله .
قال الحرالي : ففي إفهامه أن الله آخذ بيد السخي وبيد الكريم كلما عثر ، فيجد له نصيراً ، ولا يجد الظالم ، بوضع القهر موضع البر ، ناصراً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ 271 ]
.
{ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ } نوع تفصيل لبعض ما أجمل في الشرطية . وبيان له . ولذلك ترك العطف بينهما . أي : إن تظهروا الصدقات فنعم شيئاً إبداؤها ، لأنه يرفع التهمة ويدعو له كل من يسمع : من محتاج وغيره ، ويفيد اتباع الناس إياه : { وَإِن تُخْفُوهَا } أي : تسروها مخافة الرياء ، وستراً لعار الفقراء : { وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ } أي : من العلانية ، لأنه أبعد عن الرياء وأقرب إلى الإخلاص الذي هو روح العبادات : { وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ } ذنوبكم بقدر صدقاتكم : { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } ترغيب في الإسرار . وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : الإمام العادل . وشاب نشأ في عبادة ربه . ورجل قلبه معلق في المساجد . ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه . ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله رب العالمين . ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه . ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه > . وروى الإمام أحمد وابن أبي حاتم عن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله أي : الصدقة أفضل ؟ قال : < سرّ إلى فقير ، أو جهد من مقل > .
لطائف :
قال أبو البقاء في قوله تعالى : فنعما هي : نِعْمَ فعل جامد لا يكون فيه مستقبل ، وأصله نَعِمَ ، كعلم . وقد جاء على ذلك في الشعر . إلا أنهم سكنوا العين ونقلوا حركتها إلى النون ، ليكون دليلاً على الأصل . ومنهم من يترك النون مفتوحة على الأصل . ومنهم من يكسر النون والعين إتباعاً . وبكل قد قرئ . وفاعل نعم مضمر و ما بمعنى شيء . ثم قال : ونكفر عنكم يقرأ بالنون على إسناد الفعل إلى الله عز وجل ، ويقرأ بالياء على هذا التقدير أيضاً ، وعلى تقدير آخر وهو أن يكون الفاعل ضمير الإخفاء . ويقرأ وتكفر بالتاء على أن الفعل مسند إلى ضمير الصدقة . ويقرأ بجزم الراء عطفاً على موضع : { فَهُوَ خَيْرٌ } بالرفع على إضمار مبتدأ أي : ونحن أو هي ، و من هنا زائدة عند الأخفش ، فيكون سيئاتكم المفعول . وعن سيبويه : المفعول محذوف ، أي : شيئاً من سيئاتكم . والسيئة فيعلة ، وعينها واو لأنها من : ساء يسوء ، فأصلها سيوئة ، فأبدلت الواو ياء وأدغمت الأولى فيها . انتهى .
وفي " غيث النفع " : قرأ فنعما الشامي والإخوان بفتح النون . والباقون بالكسر . وقرأ قالون والبصري وشعبة بإسكان العين ، واختار كثير لهم إخفاء كسرة العين ، يريدون الاختلاس فراراً من الجمع بين الساكنين ، والباقون بكسر العين ، واتفقوا على تشديد الميم . ثم ناقش الشاطبي في كونه لم يذكر لقالون ومن عطف عليه إلا الإخفاء ، مع أنه روي عنهم الإسكان المحض أيضاً . ثم قال : وقد صرح المحقق في نشره أن الداني روى الوجهين جميعاً . ثم قال : والإسكان آثر والإخفاء أقيس وهو قراءة أبي جعفر والحسن . وغاية ما فيه الجمع بين الساكنين وليس أولهما حرف مد ولين ، وهو جائز قراءة ولغة . ولا عبرة بمن أنكره ولو كان إمام البصرة . والمنكر له هنا يقرأ به لحمزة في قوله تعالى : { فَمَا اسْطَاعُوا } [ الكهف : 97 ] . بالكهف إذ فيه الجمع بين الساكنين وصلاً بلا شك ؛ إذ السين ساكن والطاء مشدد وهذا مثله . والله أعلم . وبه يعلم ردّ ما قيل إن راوي التسكين لم يضبط القراءة لأن القارئ اختلس كسرة العين فظنه إسكاناً ، فإنه غفلة عن جوازه لغة ، كما حكاه أبو عبيد . وعن القراءة بنظيره في استطاعوا وبالله التوفيق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } [ 272 ]
{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } أي : لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الإتيان بما أمروا به من المحاسن والانتهاء عما نهوا عنه من المساوئ المعدودة كالمن والأذى والإنفاق من الخبيث والبخل : { وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء } بخلق الهداية في قلبه عقيب بيانك لجريان سنته بخلق الأشياء عقيب أسبابها ، لا على سبيل الوجوب . بل على سبيل الاختيار ، أفاده المهايمي .
قال أبو السعود : والجملة معترضة جيء بها على طريق تلوين الخطاب وتوجيهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع الالتفات إلى الغيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بالمكلفين ، مبالغة في حملهم على الامتثال . فإن الإخبار بعدم وجوب تدارك أمرهم على النبي صلى الله عليه وسلم مؤذن بوجوبه عليهم حسبما ينطق به ما بعده من الشرطية : { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ } أي : بالحقيقة ، لأن المنفَق عليه إنما يقضي بها حاجته الفانية ويحصل لكم بها الثواب الأبدي ، فلم تمنون به على الناس وتؤذونهم ؟ ونظائر هذا في القرآن كثير ، كقوله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِه } [ فصلت : 46 ] ، { وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ } نفي في معنى النهي . أي : فلا تستطيلوا به على الناس ولا تراؤوا به { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } ثوابه أضعافاً مضاعفة : { وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } أي : لا تنقصون من حسناتكم ، كما لا يزاد على سيئاتكم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [ 273 ]
.
{ لِلْفُقَرَاء } متعلق بمحذوف ينساق إليه الكلام . أي : اجعلوا ما تنفقونه للفقراء . أو صدقاتكم للفقراء . أي : المحتاجين إلى النفقة : { الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أي : حبسوا أنفسهم في طاعته تعالى من جهاد أو غيره : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً } أي : ذهاباً : { فِي الأَرْضِ } لاكتساب أو تجارة : { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ } بحالهم : { أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ } أي : من أجل تعففهم عن السؤال . والتلويح به قناعة بما أعطاهم مولاهم ، ورضاً عنه ، وشرف نفس : { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ } بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم كما قال تعالى : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ } [ الفتح : 29 ] ، وقال : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } [ محمد : 30 ] . وفي الحديث الذي في السنن : < اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله > ثم قرأ : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } [ الحجر : 75 ] قاله ابن كثير .
قال الغزالي : ينبغي أن يطلب بالفحص عن أهل الدين في كل محلة ، ويستكشف عن بواطن أحوال أهل الخير والتجمل ، ممن يكون مستتراً مخفياً حاجته لا يكثر البث والشكوى . أو يكون من أهل المروءة ممن ذهبت نعمته وبقيت عادته . فهو يتعيش في جلباب التجمل . فثواب صرف المعروف إليهم أضعاف ما يصرف إلى المجاهرين بالسؤال . كما ينبغي أن يطلب بصدقته من تزكو به الصدقة ، كأن يكون أهل علم . فإن ذلك إعانة له على العلم . والعلم أشرف العبادات مهما صحت فيه النية . وكان ابن المبارك يخصص بمعروفه أهل العلم . فقيل له : لو عممت ! فقال : إني لا أعرف بعد مقام النبوة أفضل من مقام العلماء . فإذا اشتغل قلب أحدهم بحاجته لم يتفرغ للعلم ولم يقبل على التعلم . فتفريغهم للعلم أفضل .
لطيفة :
السيما مقصور ، كالسيمة . والسيماء والسيمياء ممدودين بكسرهن . والسومة بالضم : العلامة . قال أبو بكر بن دريد : قولهم : عليه سيما حسنة ، معناه علامة وهي مأخوذة من وسمت أَسِمُ . والأصل في سيما وسمي . فحولت الواو من موضع الفاء فوضعت في موضع العين ، كما قالوا : ما أطيبه وأيطبه ، فصار سومي . وجعلت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ، قال السمين : فوزن سيما عفلاً . وإذا مدت فالهمزة فيها منقلبة عن حرف زائد للإلحاق . إما واو أو ياء . فهي كعلباء ، ملحقة بسرداح . فالهمزة للإلحاق ، لا للتأنيث وهي منصرفة لذلك . انتهى .
{ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً } مصدر في موضع الحال . أي : ملحفين . يقال : ألحف عليه الخ . قال الزمخشري : الإلحاف الإلحاح وهو اللزوم . وأن لا يفارق إلا بشيء يعطاه ، من قولهم : لحفني من فضل لحافه . أي : أعطاني من فضل ما عنده . قيل : معنى الآية : إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحوا . فيكون النفي متوجهاً إلى القيد وحده . والصحيح أنه نفي للسؤال والإلحاف جميعاً . فمرجع النفي إلى القيد ومقيده ، كقوله : { وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ } [ غافر : 18 ] ، وفيه تنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافاً ، واستيجاب المدح والتعظيم للمتعفف عن ذلك . وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ولا اللقمة واللقمتان إنما المسكين الذي يتعفف ، اقرؤا إن شئتم : { لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً } > . وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والنسائي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم > . وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي وصححه ، والنسائي وابن حبان عن سَمُرة بن جُنْدب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إن المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه . فمن شاء أبقى ومن شاء ترك . إلا أن يسأل ذا سلطان ، أو في أمر لا يجد منه بداً > . وأخرج أحمد عن ابن عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < المسألة كدوح في وجه صاحبها يوم القيامة . فمن شاء استبقى على وجهه > . وأخرج ابن أبي شيبة ومسلم وابن ماجة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر > . وأخرج أحمد وأبو داود ، وابن خزيمة عن سهل بن الحنظلية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من سال شيئاً وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم > . قالوا : يا رسول الله وما يغنيه ؟ قال : < ما يغديه أو يعشيه > . وأخرج مسلم والترمذي والنسائي عن عوف بن مالك الأشجعي قال : كنا تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال : ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقلنا علام نبايعك ؟ قال : أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، والصلوات الخمس ، وتطيعوا ولا تسألوا الناس . فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فلا يسأل أحداً يناوله إياه .
وأخرج مالك وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه > . وأخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < الله يحب المؤمن المحترف > . وأخرج أحمد والطبراني وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < من استغنى أغناه الله . ومن استعف أعفه الله . ومن استكفى كفاه الله . ومن سأل وله قيمة أوقيةٍ فقد ألحف > . وأخرج البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عمر أن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول : أعطه من هو أفقر إليه مني . فقال : < خذه ، إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه فتموله . فإن شئت كله وإن شئت تصدق به . وما لا فلا تتبعه نفسك > .
قال سالم بن عبد الله : فلأجل ذلك كان عبد الله لا يسأل أحداً شيئاً ، ولا يرد شيئاً أعطيه : { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ } أي : ولو على الملحين وعلى من لم يتحقق فقرهم أو لم تشتد حاجتهم : { فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } أي : بأن ذلك الإنفاق له أو لغيره ، فيجازي بحسبه . ثم أشار تعالى إلى أنه لا يختص الإنفاق بوقتٍ أو حالٍ بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ 274 ]
.
{ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } وفي تقديم الليل على النهار والسر على العلانية إيذان بمزية الإخفاء على الإظهار .
قال الحرالي : فأفضلهم المنفق ليلاً سراً . وأنزلهم المنفق نهاراً علانية . فهم بذلك أربع أصناف .
لطائف :
لا يخفى أن في حضه تعالى على الإنفاق في هذه الآية الوافرة ، وضربه الأمثال في الإحسان إلى خلقه ترغيباً وترهيباً ، ما يدعو كل مؤمن إلى أن يتزكى بفضل ماله .
قال الإمام الغزالي عليه الرحمة في " الإحياء " ما نصه : في وجه الامتحان بالصدقات ثلاثة معاني : الأول : أن التلفظ بكلمتي الشهادة التزام للتوحيد ، وشهادة بإفراد المعبود . وشرط تمام الوفاء به ، أن لا يبقى للموحد محبوب سوى الواحد الفرد . فإن المحبة لا تقبل الشركة ، والتوحيد باللسان قليل الجدوى . وإنما يمتحن به درجة الحب بمفارقة المحبوب . والأموال محبوبة عند الخلائق لأنها آلة تمتعهم بالدنيا . وبسببها يأنسون بهذا العلام وينفرون عن الموت ، مع أن فيه لقاء المحبوب . فامتحنوا بتصديق دعواهم في المحبوب ، واستنزلوا عن المال الذي هو مرموقهم ومعشوقهم . ولذلك قال الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } [ التوبة : 111 ] . وذلك بالجهاد . وهو مسامحة بالمهجة شوقاً إلى لقاء الله عز وجل . والمسامحة بالمال أهون . ولما فهم هذا المعنى في بذل الأموال انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام : قسم صدقوا التوحيد ووفوا بعهدهم ونزلوا عن جميع أموالهم . فلم يدّخروا ديناراً ولا درهماً . وقسم درجتهم دون من قبلهم ، وهم الممسكون أموالهم ، المراقبون لمواقيت الحاجات ومواسم الخيرات . فيكون قصدهم في الادخار الإنفاق على قدر الحاجة دون التنعم . وصرف الفاضل عن الحاجة إلى وجوه البر مهما ظهر وجوهها . وهؤلاء لا يقتصرون على مقدار الزكاة . وقد ذهب جماعة من التابعين إلى أن في المال حقوقاً سوى الزكاة . كالنخعي والشعبي وعطاء ومجاهد . قال الشعبي بعد أن قيل له : هل في المال حق سوى الزكاة ؟ قال : نعم . أما سمعت قوله عز وجل : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى } ... الآية [ البقرة : 177 ] ، واستدلوا بقوله عز وجل : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] . وبقوله تعالى : { وأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم } [ المنافقون : 10 ] . وزعموا أن ذلك غير منسوخ بآية الزكاة ، بل هو داخل في حق المسلم على المسلم . ومعناه أنه يجب على الموسر ، مهما وجد محتاجاً ، أن يزيل حاجته فضلاً عن مال الزكاة . وقسم يقتصرون على أداء الوجوب فلا يزيدون عليه ولا ينقصون منه . وهي أقل الرتب . وقد اقتصر جميع العوام عليه . لبخلهم بالمال وميلهم إليه ، وضعف حبهم للآخرة . قال الله تعالى : { إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } [ محمد : 37 ] . يحفكم أي : يستقصي [ في المطبوع : يستقص ] عليكم . فكم بين عبد اشترى منه ماله ونفسه بأن له الجنة ، وبين عبد لا يستقصي عليه لبخله . فهذا أحد معاني أمر الله سبحانه عباده ببذل الأموال .
المعنى الثاني : التطهير من صفة البخل ، فإنه من المهلكات . قال صلى الله عليه وسلم : < ثلاث مهلكات : شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه > . وقال تعالى : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ الحشر : 9 ] . وإنما تزول صفة البخل بأن تتعود بذل المال . فحب الشيء لا ينقطع إلا بقهر النفس على مفارقته حتى يصير اعتياداً . والزكاة ، بهذا المعنى : طهرة . أي : تطهر صاحبها عن خبث البخل المهلك . وإنما طهارته بقدر بذله ، وبقدر فرحه بإخراجه واستبشاره بصرفه لله تعالى .
المعنى الثالث : شكر النعمة . فإن لله عز وجل على عبده نعمة في نفسه وفي ماله . فالعبادات البدنية شكر لنعمة البدن . والمالية شكر لنعمة المال ، وما أخس من ينظر إلى الفقير ، وقد ضيّق عليه الرزق ، وأحوج إليه ، ثم لا تسمح نفسه بأن يؤدي شكر الله تعالى على إغنائه عن السؤال وإحواج غيره إليه .
فصل
وللغزالي رحمه الله أيضاً بحث في المنّ والأذى المتقدم ذكرهما . يجدر ذكره هنا ، لما فيه من الفوائد لطالب الآخرة .
قال رحمه الله : الوظيفة الخامسة يعني من وظائف مرد طريق الآخرة بصدقته : أن لا يفسد صدقته بالمنّ والأذى ، قال الله تعالى : { لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } [ التغابن : 16 ] . واختلفوا في حقيقة المنّ والأذى . فقيل : المن أن يذكرها . والأذى أن يظهرها . وقال : سفيان : من منّ فسدت صدقته . فقيل له : كيف المنّ ؟ فقال : أن يذكره ويتحدث به . وقيل : المنّ أن يستخدمه بالعطاء . والأذى أن يعيره بالفقر . وقيل : المنّ أن يتكبر عليه لأجل عطائه . والأذى : أن ينتهره أو يوبخه بالمسألة . وقد قال صلى الله عليه وسلم : < لا يقبل الله صدقة منان > . وعندي أن المن له أصل ومغرس . وهو من أحوال القلب وصفاته . ثم يتفرع عليه أحوال ظاهرة على اللسان والجوارح . فأصله : أن يرى نفسه محسناً إليه ومنعماً عليه . وحقه أن يرى الفقير محسناً إليه بقبول حق الله عز وجل منه ، الذي هو طهرته ونجاته من النار . وأنه لو لم يقبله لبقي مرتهناً به . فحقه أن يتقلد منة الفقير ؛ إذ جعل كفه نائباً عن الله عز وجل في قبض حق الله عز وجل . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن الصدقة تقع بيد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل > . فليتحقق أنه مسلَّم إلى الله عز وجل حقه . والفقير آخذ من الله تعالى رزقه بعد صيرورته إلى الله عز وجل . ولو كان عليه دين لإنسان فأحال به عبده أو خادمه الذي هو متكفل برزقه ، لكان اعتقاد مؤدي الدين كون القابض تحت منته سفهاً وجهلاً . فإن المحسن إليه هو المتكفل برزقه . أما هو فإنما يقضي الذي لزمه بشراء ما أحبه . فهو ساع في حق نفسه ، فلم يمنّ به على غيره ؟ ومهما عرف المعاني الثلاثة التي ذكرناها قبل ، أو أحدها ، لم ير نفسه محسناً إلا إلى نفسه . إما ببذل ماله إظهاراً لحب الله ، أو تطهيراً لنفسه عن رذيلة البخل ، أو شكراً على نعمة المال طلباً للمزيد . وكيفما كان فلا معاملة بينه وبين الفقير حتى يرى نفسه محسنا إليه . ومهما حصل هذا الجهل بأن رأى نفسه محسناً إليه تفرع منه على ظاهره . ما ذكر في معنى المنّ ، وهو التحدث به وإظهاره وطلب المكافأة منه بالشكر والدعاء ، والخدمة والتوقير والتعظيم ، والقيام بالحقوق والتقديم في المجالس ، والمتابعة في الأمور . فهذه كلها ثمرات المنة . ومعنى المنة في الباطن ما ذكرناه . وأما الأذى فظاهره التوبيخ والتعبير وتخشين الكلام وتقطيب الوجه وهتك الستر بالإظهار ، وفنون الاستخفاف وباطنه ، وهو منبعه أمران : أحدهما : كراهيته لرفع اليد عن المال وشدة ذلك على نفسه ، فإن ذلك يضيق الخلق لا محالة ، والثاني : رؤيته أنه خير من الفقير وأن الفقير لسبب حاجته أخس منه ، وكلاهما منشؤه الجهل . أما كراهيته تسليم المال فهو حمق ، لأن من كره بذل درهم في مقابلة ما يسوي ألفاً فهو شديد الحمق ، ومعلوم أنه يبذل المال لطلب رضا الله عز وجل ، والثواب في الدار الآخرة ، وذلك أشرف مما بذله أو يبذله لتطهير نفسه عن رذيلة البخل ، أو شكره لطلب المزيد . وكيفما فرض فالكراهة لا وجه لها . وأما الثاني : فهو أيضاً جهل ، لأنه لو عرف فضل الفقر على الغنى وعرف خطر الأغنياء لما استحقر الفقير بل تبرك به وتمنى درجته ، فصلحاء الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام .
وقد أطال الغزالي رحمه الله من هذا النفس العالي . فليراجع .
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في الزكاة والصدقة
قال شمس الدين ابن القيم الدمشقي في " زاد المعاد " : هديه صلى الله عليه وسلم في الزكاة أكمل هديٍ في وقتها ، وقدرها ونصابها ، ومن تجب عليه ، ومصرفها . ويراعى فيها مصلحة أرباب الأموال ومصلحة المساكين ، وجعلها الله سبحانه وتعالى طهرة للمال ولصاحبه . وقيد النعمة به على الأغنياء . فما أزال النعمة بالمال على من أدى زكاته . بل يحفظه عليه وينميه له ويدفع عنه بها الآفات ، ويجعلها سوراً عليه وحصناً له وحارساً له .
ثم قال في هديه صلى الله عليه وسلم في صدقة التطوع : كان صلى الله عليه وسلم أعظم الناس صدقة مما ملكت يده . وكان لا يستكثر شيئاً أعطاه لله تعالى ولا يستقله . ولا يسأله أحدٌ شيئاً عنده إلا أعطاه ، قليلاً أو كثيراً . وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر . وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه . وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه . وكان أجود الناس بالخير . يمينه كالريح المرسلة . وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه ، تارة بطعامه وتارة بلباسه . وكان يتنوع في أصناف عطائه وصدقته . فتارة بالهبة وتارة بالصدقة وتارة بالهدية وتارة بشراء شيء ، ثم يعطي البائع الثمن والسلعة جميعاً كما فعل بجابر . وتارة كان يقترض الشيء فيرد أكثر منه ، وأفضل وأكبر ، ويشتري الشيء فيعطي أكثر من ثمنه . ويقبل الهدية ويكافئ عليها بأكثر منها أو بأضعافها تلطفاً وتنوعاً في ضروب الصدقة والإحسان بكل ممكن . وكانت صدقته وإحسانه بما يملكه وبحاله وبقوله ، فيخرج ما عنده ويأمر بالصدقة ويحض عليها ويدعو إليها وبحاله وقوله . فإذا رآه البخيل الشحيح دعاه حاله إلى البذل والعطاء . وكان من خالطه وصحبه ورأى هديه لا يملك نفسه من السماحة والندى . وكان هديه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإحسان والصدقة والمعروف ، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم أشرح الخلق صدراً وأطيبهم نفساً وأنعمهم قلباً . فإن للصدقة وفعل المعروف تأثيراً عجيباً في شرح الصدور ، وانضاف ذلك إلى ما خصه الله به من شرح صدره للنبوة والرسالة وخصائصها وتوابعها . وشرح صدره حسّاً وإخراج حظ الشيطان منه .
ولما ذكر تعالى الأبرار المؤدين النفقات من الزكوات والصدقات في جميع الأحوال والأوقات ، شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات . فأخبر عن حالهم يوم خروجهم من قبورهم ، وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم ، فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 275 ]
.
{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا } وهو فضل مال خال عن العوض في معارضة مال بمال . وكتب الربا بالواو على لغة من يفخم . كما كتبت الصلوة والزكوة . وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع : { لاَ يَقُومُونَ } أي : يوم القيامة كما قاله بعض الصحابة والتابعين : { إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } في القاموس خبطه : ضربه شديداً ، كتخبطه واختبطه . وفي " العباب " : كل من ضربه بيده فصرعه فقد خبطه وتخبطه . وأصله [ في المطبوع : وأصل ] : المس باليد ، ثم استعير للجنون ، لأن الشيطان يمس الْإِنْسَاْن فيجنه . والجار يتعلق إما بلا يقومون أي : لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم المصروع من جنونه أو بيتخبطه أي : من جهة الجنون . والمعنى : أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين . تلك سيماهم يعرفون بها عند الموقف هتكاً لهم وفضيحة .
قال الحرالي : في إطلاقه إشعار بحالهم في الدنيا والبرزخ والآخرة . ففي إعلامه إيدان بأن آكله يسلب عقله ويكون بقاؤه في الدنيا بخُرق لا بعقل . يقبل في محل الإدبار ، ويدبر في محل الإقبال .
قال البقاعي : وهو مؤيد بالمشاهدة . فإنا لم نرَ ولم نسمع قط بآكل ربا ينطلق بالحكمة ولا يشهر بفضيلة ، بل هم أدنى الناس وأدنسهم .
تنبيه :
قال في الكشاف : وتخبط الشيطان من زعمات العرب ، يزعمون أن الشيطان يخبط الْإِنْسَاْن فيصرع . والمس : الجنون ، ورجل ممسوس . وهذا أيضاً من زعماتهم . وأن الجني يمسه فيختلط عقله . وكذلك : جُنّ الرجل ، معناه : ضربته الجن .
وتبعه البيضاوي في قوله وهو : أي : التخبط والمس ، وارد على ما يزعمون الخ .
قال الناصر في " الانتصار " : معنى قول الكشاف من زعمات العرب أي : كذباتهم وزخارفهم التي لا حقيقة لها . وهذا القول على الحقيقة من تخبط الشيطان بالقدرية ، من زعماتهم المردودة بقواطع الشرع . ثم ساق ما ورد في ذلك من الأحاديث والآثار : وقال بعده : واعتقاد السلف وأهل السنة أن هذه أمور على حقائقها واقعة كما أخبر الشرع عنها . وإنما القدرية خصماء العلانية . فلا جرم أنهم ينكرون كثيراً مما يزعمونه مخالفاً لقواعدهم . من ذلك : السحر ، وخبطة الشيطان ، ومعظم أحوال الجن . وإن اعترفوا بشيء من ذلك فعلى غير الوجه الذي يعترف به أهل السنة ، وينبئ عنه ظاهر الشرع ، في خبط طويل لهم .
وقال الشيخ سعد الدين التفتازاني في " شرح المقاصد " : وبالجملة فالقول بوجود الملائكة والجن والشيطان مما انعقد عليه إجماع الآراء . ونطق به كلام الله وكلام الأنبياء .
وقال : الجن أجسام لطيفة هوائية تتشكل بأشكال مختلفة ويظهر منها أحوال عجيبة والشياطين أجسام نارية شأنها إلقاء الناس في الفساد والغواية . ولكون الهواء والنار في غاية اللطافة والتشفيف ، كانت الملائكة والجن والشياطين يدخلون المنافذ الضيقة حتى أجواف الْإِنْسَاْن ، ولا يرون بحسن البصر إلا إذا اكتسبوا من الممتزجات .
قال العلامة البقاعي ، بعد نقله ما ذكرنا : وقد ورد في كثير من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : < إن الشيطان يجري من الْإِنْسَاْن مجرى الدم > . وورد أنه صلى الله عليه وسلم أخرج الصارع من الجن من جوف المصروع في صورة كلب . ونحو ذلك . وفي كتب الله سبحانه وتعالى المتقدمة ما لا يحصى من مثل ذلك . وأما مشاهدة المصروع ، يخبر المغيبات وهو مصروع غائب الحس ، وربما كان ملقى في النار وهو لا يحترق ، وربما ارتفع في الهواء من غير رافع - فكثير جداً . لا يحصى مشاهدوه . إلى غير ذلك من الأمور الموجب للقطع أن ذلك من الجن أو الشياطيين . وها أنا أذكر لك في ذلك من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه مقنع لمن تدبره والله الموفق .
روى الدارمي في أوائل مسنده بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن امرأة جاءت بابن لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله : إن ابني به جنون ، وأنه يأخذه عند غدائنا وعشائنا ، فيخبِّث علينا . فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ودعا . فثعّ ثعّةً . وخرج من صدره مثل الجرو الأسود فسعى . وقوله : ثعّ ، بمثلثة ومهملة ، أي : قاء .
وللدارمي أيضاً وعبد بن حميد بسند حسن أيضاً عن جابر رضي الله عنه قال : خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر . فركبنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا كأنما على رؤوسنا الطير ، تظلنا . فعرضت له امرأة معها صبي لها . فقالت : يا رسول الله ! إن ابني هذا يأخذه الشيطان كل يوم ثلاث مرار . فتناول الصبي فجعله بينه وبين مقدم الرحل . ثم قال : اخسأ ، عدو الله ! أنا رسول الله ثلاثاً ثم دفعه إليها .
وأخرجه الطبراني من وجه آخر . وبيَّن أن السفر غزوة ذات الرقاع ، وأن ذلك كان في حرَّة واقم . قال جابر : فلما قضينا سفرنا مررنا بذلك المكان . فعرضت لنا المرأة ومعها صبيها ومعها كبشان تسوقهما . فقالت : يا رسول الله ! اقبل مني هديتي . فوالذي بعثك بالحق ! ما عاد إليه بعد . فقال : خذوا منها واحداً ، وردوا عليها الآخر .
ورواه البغوي في " شرح السنة " عن يعلى بن مرة رضي الله عنه .
ثم ساق البقاعي ما جاء في الإنجيل . قال : وذلك كثير جداً . يعني ما وقع للمسيح عليه السلام من إخراج الشياطين والأرواح الخبيثة من المبتلين بذلك . وبعد أن ساق ذلك قال : وإنما كتبت هذا مع كون ما نقل عن نبينا صلى الله عليه وسلم كافياً ، لأنه لا يدفع أن يكون فيه إيناس له ومصادقة تزيد في الإيمان .
وقد أجاد بيان تسلط الأرواح الخبيثة الإمام شمس الدين ابن القيم في " زاد المعاد " وذكر علاج دفعها فقال عليه الرحمة :
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الصرع
أخرجا في الصحيحين من حديث عطاء بن أبي رَبَاح قال : قال لي ابن عباس : ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ قلت : بلى ، قال : هذه المرأة السوداء . أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني أصرع . وإني أتكشف . فادع الله لي . فقال : < إن شئت صبرت ولك الجنة ، وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك > . فقالت : أصبر . قالت : إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف . فدعا لها .
قلت : الصرع صرعان :
صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية . وصرع من الأخلاط الردية .
والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء ، في سببه وعلاجه . وأما صرع الأرواح ، فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه . ويعترفون بأنه علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة . فتدافع آثارها وتعارض أفعالها وتبطلها . وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه . فذكر بعض علاج الصرع وقال : هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة . أما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج . وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ومن يعتقد بالزندقة فضيلة ، فأولئك ينكرون صرع الأرواح ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع . وليس معهم إلا الجهل . وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك . والحس والوجود شاهدٌ به . وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط هو صادق في بعض أقسامه لا في كلها . وقدماء الأطباء كانوا يسمون هذا الصرع : المرض الإلهي . وقالوا : إنه من الأرواح . وأما جالينوس وغيره . فتأولوا عليهم هذه التسمية وقالوا : إنما سموها بالمرض الإلهي لكون هذه العلة تحدث في الرأس فتضر بالجزء الإلهي الطاهر الذي مسكنه الدماغ . وهذا التأويل نشأ لهم من جهلهم بهذه الأرواح وأحكامها وتأثيراتها . وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده . ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء الأطباء وضعف عقولهم . وعلاج هذا النوع يكون بأمرين : أمر من جهة المصروع وأمر من جهة المعالج . فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وباريها . والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان . فإن هذا نوع محاربة ، والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين : أن يكون السلاح صحيحاً في نفسه جيداً ، وأن يكون الساعد قوياً . فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير طائل ، فكيف إذا عدم الأمران جميعاً ، بكون القلب خراباً من التوحيد والتوكل والتقوى والتوجه ، ولا سلاح له .
والثاني : من جهة المعالج بأن يكونوا فيه هذان الأمران أيضاً . حتى إن من المعالجين من يكتفي بقوله : اخرج منه . أبو بقول : بسم الله ، أو بقول : لا حول ولا قوة إلا بالله . والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : < اخرج عدو الله ! أنا رسول الله > . وشاهدت شيخنا يعني الإمام ابن تيمية رضي الله عنه يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه ويقول : قال لك الشيخ اخرجي . فإن هذا لا يحل لك . فيفيق المصروع . وربما خاطبها بنفسه . وربما كانت الروح ماردة ، فيخرجها بالضرب فيفيق المصروع . ولا يحس بألم . وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مراراً . وكان كثيراً ما يقرأ في أذن المصروع : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ } [ المؤمنون : 115 ] . وحدثني أنه قرأها مرة في أذن المصروع ، فقالت الروح : نعم . ومد بها صوته . قال : فأخذت له عصا وضربته بها في عروق عنقه حتى مجلت يداي من الضرب . ولم يشكّ الحاضرون بأنه يموت لذلك الضرب . ففي أثناء الضرب قالت : أنا أحبّه . فقلت لها : هو لا يحبك . قالت : أنا أريد أن أحج به . فقلت لها : هو لا يريد أن يحج معك . فقالت : أنا أدعه كرامة لك . قال قلت : لا . ولكن طاعة لله ولرسوله . قالت : فأنا أخرج منه .
قال : فقعد المصروع يلتفت يميناً وشمالاً . وقال : ما جاء بي إلى حضرة الشيخ ؟ قالوا له : وهذا الضرب كله ؟ فقال : وعلى أي : شيء يضربني الشيخ ولم أذنب ؟ ولم يشعر بأنه وقع ضربٌ البتة . وكان يعالج بآية الكرسي . وكان يأمر بكثرة قراءة المصروع ومن يعالجه بها . وبقراءة المعوذتين . وبالجملة ، فهذا النوع من الصرع ، وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة . وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله يكون من جهة قلة دينهم وخراب قلوبهم وألسنتهم ، من حقائق الذكر والتعاويذ والتحصنات النبوية والإيمانية . فتلقى الروح الخبيثة الرجل أعزل لا سلاح معه . وربما كان عرياناً فيؤثر فيه هذا . ولو كشف الغطاء لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى مع هذه الأرواح الخبيثة ، وهي في أسرها وقبضتها تسوقها حيث شاءت ، ولا يمكنها الامتناع عنها ولا مخالفتها . وبها الصرع الأعظم الذي لا يفيق صاحبه إلا عند المفارقة والمعاينة . فهناك يتحقق أنه كان هو المصروع حقيقة . وبالله المستعان .
وعلاج هذا الصرع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءت به الرسل . وأن تكون الجنة والنار نصب عينه وقبلة قلبه . ويستحضر أهل الدنيا وحلول المثلات [ في المطبوع : المثلاث ] والآفات بهم . ووقوعها خلال ديارهم ، كمواقع القطر . وهم صرعى لا يفيقون . وما أشد أعداء هذا الصرع ! ولكن لما عمت البلية بحيث لا يرى إلا مصروعاً لم يصر مستغرباً ولا مستنكراً . بل صار ، لكثرة المصروعين ، عين المستنكر المستغرب خلافه . فإذا أراد الله بعبد خيراً أفاق من هذه الصرعة ، ونظر إلى أبناء الدنيا مصروعين حوله يميناً وشمالاً على اختلاف طبقاتهم . فمنهم من أطبق به الجنون . ومنهم من يفيق أحياناً قليلة ويعود إلى جنونه . ومنهم من يفيق مرة ويجن أخرى . فإذا أفاق عمل عمل أهل الإفاقة والعقل . ثم يعاوده الصرع فيقع التخبط .
ثم قال : وأما صرع الأخلاط فهو علة تمنع الأعضاء النفسية عن الأفعال والحركة والانتصاب منعاً غير تام . وسببه : خلط غليظ لزج يسد منافذ بطون الدماغ ، سدة غير تامة . فيمتنع نفوذ الحس والحركة فيه وفي الأعضاء نفوذاً ما ، من غير انقطاع بالكلية . وقد يكون لأسباب أخر : كريح غليظ يحتبس في منافذ الروح . أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء . أو كيفية لاذعة فينقبض الدماغ لدفع المؤذي فيتبعه تشنج في جميع الأعضاء . ولا يمكن أن يبقى الْإِنْسَاْن معه منتصباً بل يسقط ويظهر في فيه الزبد غالباً . وهذه العلة تعد من جملة الأمراض الحادة باعتبار وقت وجود المؤلم خاصة . وقد تعد من جملة الأمراض المزمنة باعتبار طول مكثها وعسر برئها لا سيما إن جاوز في السن خمساً وعشرين سنة . وهذه العلة في دماغه وخاصة في جوهره . فإن صرع هؤلاء يكون لازماً ، قال بقراط : إن الصرع يبقى في هؤلاء حتى يموتوا . إذا عرف هذا ، فهذه المرأة التي جاء الحديث أنها كانت تصرع وتنكشف ، يجوز أن يكون صرعها من هذا النوع . فوعدها النبي صلى الله عليه وسلم الجنة بصبرها على هذا المرض ، ودعا لها أن لا تنكشف . وخيّرها بين الصبر والجنة ، وبين الدعاء لها بالشفاء من غير ضمان . فاختارت الصبر والجنة . وفي ذلك دليل على جواز ترك المعالجة والتداوي . وإن علاج الأرواح بالدعوات والتوجه إلى الله يفعل ما لا يناله علاج الأطباء . وإن تأثيره وفعله وتأثير الطبيعة عنه وانفعالها أعظم من تأثير الأدوية البدنية وانفعال الطبيعة عنها . وقد جربنا هذا مراراً نحن وغيرنا . وعقلاء الأطباء معترفون بأن في فعل القوى النفسية وانفعالاتها في شفاء الأمراض عجائب . وما على الصناعة الطبية أضر من زنادقة القوم وسفلتهم وجهالهم . والظاهر : أن صرع هذه المرأة كان من هذا النوع . ويجوز أن يكون من جهة الأرواح . ويكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خيَّرها بين الصبر على ذلك مع الجنة ، وبين الدعاء لها بالشفاء . فاختارت الصبر والستر . والله أعلم .
{ ذَلِكَ } أي : القيام المخبط : { بِأَنَّهُمْ قَالُواْ } أي : بسبب قولهم : { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } أي : نظيره في أن كلاً منهما معاوضة . فإن قلت : هلا قيل : إنما الربا مثل البيع لأن الكلام في الربا لا في البيع . وحل البيع متفق عليه . فيقاس عليه الربا . وحق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق ؟ أجيب : بأنه جيء به على طريق المبالغة . وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلاً وقانونا ً في الحل . حتى شبهوا به البيع . كذا أجاب الزمخشري .
قال الناصر في " حواشيه " : وعندي وجه في الجواب غير ما ذكر : وهو أنه متى كان المطلوب التسوية بين المحلين في ثبوت الحكم ، فللقائل أن يسوي بينهما طرداً . فيقول مثلاً : الربا مثل البيع . وغرضه من ذلك أن يقول : والبيع حلال ، فالربا حلال . وله أن يسوي بينهما في العكس فيقول : البيع مثل الربا . فلو كان الربا حراماً كان البيع حراماً ، ضرورة المماثلة . ونتيجته التي دلت قوة الكلام عليها أن يقول : ولما كان البيع حلالاً اتفاقاً غير حرام ، وجب أن يكون الربا مثله . والأول : على طريقة قياس الطرد . والثاني : على طريقة العكس . ومآلهما إلى مقصد واحد . فلا حاجة ، على هذا التقرير ، إلى خروج عن الظاهر لعذر المبالغة أو غيره . وليس الغرض من هذا كله إلا بيان هذا الذي تخيلوه على أنموذج النظم الصحيح . وإن كان قياساً فاسد الوضع ، لاستعماله على مناقضة المعلوم من حكم الله أيضاً في تحريم الربا وتحليل البيع وقطع القياس بينهما . ولكن إذا استعمل الطريقتين المذكورتين استعمالاً صحيحاً فقل في الأولى : النبيذ مثل الخمر في علة التحريم . وهو الإسكار . والخمر حرام . فالنبيذ حرام . وقل في الثانية : إنما الخمر مثل النبيذ . فلو كان النبيذ حلالاً لكان الخمر حلالاً . وليست حلالاً اتفاقاً . فالنبيذ كذلك . ضرورة المماثلة المذكورة . فهذا الوجيه أولى أن تحمل الآية عليه . والله أعلم . وقوله : { وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } إنكار لتسويتهم بينهما . إذ الحل مع الحرمة ضدان . فأنى يتماثلان ؟ ودلالة على أن القياس يهدمه النص ، لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم إحلال الله وتحريمه .
قال الرازي : إن نفاة القياس يتمسكون بهذا الحرف . قالوا : لو كان الدين بالقياس لكانت هذه الشبهة لازمة . فلما كانت مدفوعة علمنا أن الدين بالنص لا بالقياس . وذكر القفال رحمه الله الفرق بين البابين فقال : من باع ثوباً يساوي عشرة بعشرين ، فقد جعل ذات الثوب مقابلاً بالعشرين . فلما حصل التراضي على هذا التقابل ، صار كل واحد منهما مقابلاً للآخر في المالية عندهما . فلم يكن أخذ من صاحبه شيئاً بغير عوض . أما إذا باع العشرة بالعشرين فقد أخذ العشرة الزائدة من غير عوض ، ولا يمكن أن يقال : إن عوضه هو الإمهال في مدة الأجل ، لأن الإمهال ليس مالاً أو شيئاً يشار إليه حتى يجعله عوضاً عن العشرة الزائدة . فظهر الفرق بين الصورتين . وقد أخرج أبو نعيم في " الحلية " عن جعفر بن محمد أنه سئل : لم حرم الله الربا ؟ قال : لئلا يتمانع الناس المعروف . أي : الإحسان الذي في القرض ؛ إذ لو حل درهم بدرهمين ما سمح أحد بإعطاء درهم بمثله .
{ فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ } أي : بلغه وعظ وزجر ، كالنهي عن الربا : { مِّن رَّبِّهِ } متعلق بجاءه أو بمحذوف وقع صفة لموعظة . والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة للإشعار بكون مجيء الموعظة للتربية : { فَانتَهَىَ } عطف على جاءه أي : فاتعظ بلا تراخ ، وتبع النهي : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } أي : ما تقدم أخذه قبل التحريم ولا يسترد منه : { وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ } إن شاء أخذه لظهور الفرق وإن شاء عفا عنه ، لأن الفرق ، وإن ظهر لأرباب النظر ، يجوز أن يخفى على العوام : { وَمَنْ عَادَ } أي : إلى تحليل الربا بعد النص : { فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } لكفرهم بالنص ، وردهم إياه بقياسهم الفاسد ، بعد ظهور فساده . ومن أحل ما حرم الله عز وجل فهو كافر . فلذا استحق الخلود . وبهذا تبين أن لا تعلق للمعتزلة بهذه الآية في تخليد الفساق . حيث بنوا على أن المتوعد عليه بالخلود العود إلى فعل الربا خاصة . ولا يخفى أنه لا يساعدهم على ذلك الظاهر الذي استدلوا به . فإن الذي وقع العود إليه محمول على ما تقدم ، كأنه قال : ومن عاد إلى ما سلف ذكره ، وهو فعل الربا واعتقاد جوازه والاحتجاج عليه بقياسه على البيع . ولا شك أن من تعاطى معاملة الربا مستحلاً لها مكابراً في تحريمها ، مسنداً إحلالها إلى معارضة آيات الله البينات ، بما يتوهمه من الخيالات - فقد كفر ثم ازداد كفراً . وإذ ذاك يكون الموعود بالخلود في الآية من يقال إنه كافر مكذب غير مؤمن . وهذا لا خلاف فيه ، وفلا دليل إذاً للمعتزلة على اعتزالهم في هذه الآية . والله الموفق . أشار لذلك في " الانتصاف " .
قال في فتح البيان : والمصير إلى هذا التأويل واجب ، للأحاديث المتواترة القاضية بخروج الموحدين من النار .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } [ 276 ]
.
{ يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا } أي : يذهب ريعه ويمحو خيره ، وإن كان زيادة في الظاهر فلا ينتفع به في الآخرة كما قال تعالى : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّه } [ الروم : 39 ] ، وقال تعالى : { وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ } [ الأنفال : 37 ] : { وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } أي : يكثرها وينميها ,إن كانت نقصاناً في الشاهد .
فوائد :
الأولى : قال القاشاني : لأن الزيادة والنقصان إنما يكونان باعتبار العاقبة والنفع في الدارين . والمال الحاصل من الربا لا بركة له ؛ لأنه حصل من مخالفة الحق . فتكون عاقبته وخيمة وصاحبه يرتكب سائر المعاصي ؛ إذ كل طعام يولّد في آكله دواعي وأفعالاً من جنسه . فإن كان حراماً يدعوه إلى أفعال محرمة ، وإن كان مكروهاً فإلى أفعال مكروهة . وإن كان مباحاً فإلى مباحة . وإن كان من طعام فضل فإلى مندوبات ، وكان في أفعاله متبرعا ًمتفضلاً . وإن كان بقدر الواجب من الحقوق فأفعاله تكون واجبة ضرورية . وإن كان من الفضول والحظوظ فأفعاله تكون كذلك . فعليه إثم الربا وآثار أفعاله المحرمة المتولدة من أكله . فتزداد عقوباته وآثامه أبداً . ويتلف الله ما له في الدنيا ، فلا ينتفع به أعقابه وأولاده . فيكون ممن خسر الدنيا والآخرة ، وذلك هو المحق الكلي . وأما المتصدق فلكون ماله مزكّى يبارك الله في تثميره مع حفظ الأصل . وآكله لا يكون إلا مطيعاً في أفعاله . ويبقى ماله في أعقابه وأولاده منتفعاً به . وذلك هو الزيادة في الحقيقة . ولو لم تكن زيادته إلا ما صرف في طاعة الله لكفى به زيادة . وأي زيادة أفضل مما تبقّى عند الله ؟ ! ولو لم يكن نقصان الربا إلا حصوله من مخالفة الله وارتكاب نهيه لكفى به نقصاناً . وأي نقصان أفحش مما يكون سبب حجاب صاحبه وعذابه ونقصان حظه عند الله ؟ !
الثانية : قال القاشاني عليه الرحمة قبل ذلك : آكل الربا أسوأ حالاً من جميع مرتكبي الكبائر . فإن كل مكتسب له توكل ما فيه كسبه ، قليلاً كان أو كثيراً . كالتاجر والزارع والمحترف . إذ لم يعينوا أرزاقهم بعقولهم ولن تتعين لهم قبل الاكتساب . فهم على غير معلوم في الحقيقة . كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أبى الله أن يرزق المؤمن إلا من حيث لا يعلم > . وأما آكل الربا فقد عين على آخذه مكسبه ورزقه . سواء ربح الآخذ أو خسر . فهو محجوب عن ربه بنفسه ، وعن رزقه بتعيينه . لا توكل له أصلاً . فوكله الله تعالى إلى نفسه وعقله . وأخرجه من حفظه وكلاءته . فاختطفه الجن وخبلته . فيقوم يوم القيامة ولا رابطة بينه وبين الله كسائر الناس المرتبطين به بالتوكل ، فيكون كالمصروع الذي مسّه الشيطان فتخبطه ، لا يهتدي إلى مقصد .
الثالثة : قال بعض العلماء العمرانيين : يشترط لجواز التموّل أن يكون من وجه مشروع كما في مقابلة عمل أو معاوضة . وأن لا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير . ولذا حرمت الشرائع السماوية كلها . وكذلك الحكمة السياسية والأخلاقية والعمرانية أكل الربا ، قصداً لحفظ التساوي والتقارب بين الناس في القوة المالية ، لأن الربا هو كسب بدون مقابل ماديّ ؛ ففيه معنى الغصب . وبدون عمل ، ففيه الألفة على البطالة المفسدة للأخلاق . وبدون تعرض لخسائر طبيعية ، كالتجارة والزراعة والأملاك . ومن المشاهد : أن بالربا تربو الثروات فيختل التساوي بين الناس .
ثم قال : وقد نظر الماليون والاقتصاديون في أمر الربا فقالوا : إن المعتدل منه نافع بل لا بد منه . أولاً : لأجل قيام المعاملات الكبيرة . وثانياً : لأجل أن النقود الموجودة لا تفي للتداول ، فكيف إذا أمسك المكتنزون قسماً منها أيضاً ؟ ! وثالثاً : لأجل أن الكثيرين من المتمولين لا يعرفون طرائق الاسترباح ، أو لا يقدرون عليها . كما أن كثيراً من العارفين بها لا يجدون رؤوس أموال ولا شركاء عنان .
فهذا النظر صحيح من وجه إنماء ثروات الأفراد والأمم . أما السياسيون والأخلاقيون : فينظرون إلى أن ضرر ذلك في جمهور الأمم أكبر من نفعها ، لأن هذه الثروات الإفرادية تمكن الاستبداد الداخلي . فتجعل الناس صنفين : عبيداً وأسياداً . وتقوي الاستبداد الخارجي فتسهل التعدي على حرية واستقلال الأمم الضعيفة مالاً وعدة . وهذه مقاصد فاسدة في نظر الحكمة والعدالة . ولذلك حرمت الأديان الربا تحريماً مغلظاً . انتهى .
الرابعة : قال الرازي : لما بالغ تعالى في الزجر عن الربا ، وكان قد بالغ في الآيات المتقدمة في الأمر بالصدقات ، ذكر ههنا ما يجري مجرى الداعي إلى ترك الصدقات وفعل الربا ، وكشف عن فساده . وذلك لأن الداعي إلى فعل الربا تحصيل المزيد في الخيرات . والصارف عن الصدقات : الاحتراز عن نقصان الخيرات . فبين تعالى أن الربا وإن كان زيادة في المال إلا أنه نقصان في الحقيقة . وإن الصدقة وإن كانت نقصاناً في الصورة إلا أنها زيادة في المعنى . ولما كان الأمر كذلك كان اللائق بالعاقل أن لا يلتفت إلى ما يقضي به الطبع والحس من الدواعي والصوارف . بل يعول على ما ندبه الشرع إليه منهما .
وقال القفال : ونظير قوله : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا } ، المثل الذي ضربه فيما تقدم بصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً . ونظير قوله : { وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } ، المثل الذي ضربه بحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة .
{ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } صيغتا مبالغة من الكفر والإثم ، لاستمرار مستحل الربا وآكله عليهما وتماديه في ذلك . وفي الآية تغليظ في أمر الربا وإيذان بأنه من فعل الكفار ، لا من فعل المسلمين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ 277 ]
.
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ } بالله ورسوله وكتبه وبتحريم الربا ، ورجح إيمانهم أمر الله بالإنفاق ، على جمعهم للمال : { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } فيما بينهم وبين ربهم التي من جملتها الجود وترك الربا : { وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ } التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، كالشح والربا : { وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ } أعطوا زكاة أموالهم التي هي أجل أسباب فضيلة الجود : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } ثوابهم الكامل : { عِندَ رَبِّهِمْ } في الجنة : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } يوم الفزع الأكبر
{ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } لأنهم فرحون بما آتاهم ربهم ووقاهم عذاب الجحيم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ 278 ]
.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ } أي : اخشوا الله في الربا ، لأن فيه إبطال حكمته تعالى في خلق الأموال : { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } أي : اتركوا ما بقي لكم من الربا على الغرماء : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } على الحقيقة . فإن ذلك مستلزم لما أمرتم به البتة .
قال الحرالي : فبين أن الربا والإيمان لا يجتمعان .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } [ 279 ]
.
{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } أي : لم تتركوا ما بقي : { فَأْذَنُواْ } أي : اعلموا : { بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ } قال المهايمي : أي : إن لم تفعلوا ترك ما بقي كنتم متهاونين بأمره . ومن تهاون بأمر ملك حاربه .
والحرب نقيض السلم . ومن حاربه الله ورسوله لا يفلح أبداً . وفيه إيماء إلى سوء الخاتمة إن دام على أكله { وَإِن تُبْتُمْ } من الربا : { فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ } أي : أصولها : { لاَ تَظْلِمُونَ } بطلب الزيادة : { وَلاَ تُظْلَمُونَ } بالنقص والمطل . بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص فيه . ثم أمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء ، فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ 280 ]
.
{ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } أي : بالكل أو البعض : { فَنَظِرَةٌ } أي : فالواجب إمهال بقدر ما أعسر : { إِلَى مَيْسَرَةٍ } أي : بذلك القدر . لا كما كان أهل الجاهلية ، يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الذين : إما أن تقضي وإما أن تربي . ثم ندب تعالى إلى الوضع من المعسر ووعد عليه الخير والثواب الجزيل فقال : { وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي وأن تتركوا للمعسر قدر ما أعسر بإبرائه منه ، لأنه ربما لا يحصل البدل في الحال ، فيأخذ ما يساويه في الآخرة . والصدقة تتضاعف الأضعاف المذكورة .
وقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < كان رجل يداين الناس ، فكان يقول لفتاه : إذا أتيت معسراً فتجاوز عنه ، لعل الله أن يتجاوز عنا ، فلقي الله فتجاوز عنه > . وأخرج مسلم والترمذي نحوه عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه .
وعن أبي قتادة الحارث بن رِبْعيالأنصاري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < من نفَّس عن غريمه أو محا عنه ، كان في ظل العرش يوم القيامة > . رواه الإمام أحمد ومسلم . وعن بريدة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < من أنظر معسراً فله بكل يوم مثله صدقة . قال : ثم سمعته يقول : من أنظر معسراً فله لكل يوم مثلاه صدقة > . فسألته عن ذلك فقال صلى الله عليه وسلم : < له بكل يوم صدقة قبل أن يحل الدين . فإذا حل الدين فأنظره ، فله بكل يوم مثلاه صدقة > . وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : < من أنظر معسراً أو وضع عنه ، وقاه الله من فيح جهنم > . رواهما الإمام أحمد ، ثم قال تعالى يعظ عباده ويذكرهم زوال الدنيا وفناء ما فيها من الأموال وغيرها ، وإتيان الآخرة والرجوع إليه تعالى ، ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا ، ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر ، ويحذرهم عقوبته ، فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ 281 ]
.
{ وَاتَّقُواْ يَوْماً } أي : اخشوا عذاب يوم : { تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } ما عملت من خير أو شر .
قال المهايمي : فإن استوفى الدائن حقه بالتضييق على المديون استوفى الله منه حقوقه بالتضييق . وإن سامحه فالله أولى بالمسامحة . والمديون ، إن لم يوف حق الدائن مع قدرته على الأداء استوفى الله منه حقه . وأما من لا يقدر ، فيرجى أن يعفوا الله عنه ، ويرضى خصمه بعوض من عنده : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم .
تنبيه :
من تأمل هذه الآيات وما اشتملت عليه من عقوبة أهل الربا ومستحليه ، أكبر جرمه وإثمه . فقد ترتب عليه قيامهم في المحشر مخبلين وتخليدهم في النار ونبزهم بالكفر . والحرب من الله ورسوله واللعنة . وكذا الذم والبغض وسقوط العدالة وزوال الأمانة ، وحصول اسم الفسق والقسوة والغلظة ودعاء من ظلم بأخذ ماله على ظالمه . وذلك سبب لزوال الخير والبركة . فما أقبح هذه المعصية وأزيد فحشها . وأعظم ما يترتب من العقوبات عليها ! وقد شرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ما طوى التصريح به في تلك الآيات من العقوبات والقبائح الحاصلة لأهل الربا في أحاديث كثيرة . فمنها : ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < اجتنبوا السبع الموبقات أي : المهلكات قالوا : يا رسول الله ! وما هن ؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات > . وأخرج البخاري عن سَمُرة بن جُنْدب عن النبي صلى الله عليه وسلم : < رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة . فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم . فيه رجل قائم . وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة . فأقبل الرجل الذي في النهر . فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان . فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان . فقلت : ما هذا الذي رأيته في النهر ؟ قال : آكل الربا > . وأخرج مسلم عن جابر بن عبد الله قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه . وقال : < هم سواء > . وأخرج البخاري وأبو داود عن أبي جحيفة قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله . وثمة آثار وافرة ، ساقها السيوطي في الدر المنثور :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ 282 ]
.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين ، إذا تعاملوا معادلات مؤجلة ، أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها . وقد نبه على هذا في آخر الآية حيث قال : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ } وفي قوله : { تَدَايَنتُم } دليل على جواز السلم ، لأن المداينة فعل اثنين وهو السلم نفسه ، لأنه دين من الجانبين جميعاً . وعلى ذلك روي عن ابن عباس قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى ، أن الله تعالى أحلّه وأذِنَ فيه ثم قرأ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم } الآية . رواه البخاري .
وقال آخرون : قوله : { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } هو بيع كل دين إلى أجل مسمى . فهو يسمى التداين . كما يسمى البائع والمشتري المتبايعين ، لأن كل واحد منهما بائع في وجه . فعلى ذلك, المداينة : التداين . وإنما لم نؤمر بالكتابة في بيع الأعيان ، لأنه في المداينات ، وصل أحدهما إلى حاجته يقبض راس المال والآخر لم يصل . فلعل ذلك يحمله على إنكار الحق والجحود . فإذا تذكر أنه كتب وأشهد عليه ارتدع عن الإنكار والجحود . لما يخاف ظهور كذبه وفضيحته على الناس ، ولا كذلك مع العين بالعين ، لأن كل واحد منهما لا يصل إلى حاجته إلا بما يصل به الآخر . فليس هنالك للإنكار معنى ، وثمة وجه آخر : وهو أنه يجوز أن ينسى فينكر ذلك . أو ينسى بعضه ويذكر بعضاً ، فأمر بالكتابة لئلا يبطل حق الآخر بترك الكتابة . ولا كذلك في بيع العين بالعين . فافترقا . كذا في التأويلات للماتريدي : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ } أي : الدين المذكور : { كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ } الجار متعلق إما بالفعل أي : وليكتب بالحق . أو بمحذوف صفة لكاتب ، أي : وليكن المتصدي للكتابة من شأنه أن يكتب بالسوية من غير ميل إلى أحد الجانبين . لا يزيد ولا ينقص . وهو أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه ديّن ، حتى يجيء كتابه موثوقاً به معدلاً بالشرع : { وَلاَ يَأْبَ } أي : ولا يمتنع : { كَاتِبٌ } من : { أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ } أي : كما بينه بقوله تعالى : { بِالْعَدْلِ } . أو لا يأبى أن ينفع الناس بكتابته ، كما نفعه الله بتعليم الكتاب ، كقوله تعالى : { وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْك } [ القصص : 77 ] . وفي الحديث : < إن من الصدقة أن تعين صانعاً أو تصنع لأخرق > . وفي الحديث الآخر : < من كتم علماً يعلمه ، ألجم بلجام من نار > .
قال الرازي : ظاهر هذا الكلام نهيٌ لكل كاتب عن الامتناع من الكتابة . وإيجابها على كل من كان كاتباً : { فَلْيَكْتُبْ } أي : تلك الكتابة المعلمة . أمر بها بعد النهي عن إبائها تأكيداً لها : { وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ } الإملال : الإملاء . وهما لغتان نطق القرآن بهما . قال تعالى : { فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ } [ الفرقان : 5 ] . أي : وليكن المملي على الكاتب المدين وهو الذي عليه الحق ، لأنه المقر المشهود عليه : { وَلْيَتَّقِ } أي : وليخش المملي : { اللّهَ رَبَّهُ } جمع ما بين الاسم الجليل والنعت الجميل ، للمبالغة في التحذير : { وَلاَ يَبْخَسْ } أي : لا ينقص : { مِنْهُ } أي : مما عليه : { شَيْئاً } مما عليه من الدين : { فَإن كَانَ } المدين وهو : { الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً } أي : خفيف الحلم أو جاهلاً بالإملاء لا يحسنه : { أَوْ ضَعِيفاً } صبياً أو شيخاً هرماً : { أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ } أي : أو غير مستطيع للإملاء بنفسه - لعيّ به أو خرس أو عجمة . ولفظ هو هنا توكيد للفاعل المضمر - والجمهور على ضم الهاء لأنها كلمة منفصلة عما قبلها ، فهي مبدوء بها . وقرأ بإسكانها على أن يكون أجري المنفصل مجرى المتصل بالواو أو الفاء أو اللام . نحو : وهو ، فهو ، لهو . قاله أبو البقاء , : { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ } يعني الذي يلي امره من قيّم أو وكيل أو ترجمان : { بِالْعَدْلِ } من غير نقص ولا زيادة : { وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ } أي : اطلبوهما ليتحملا الشهادة على المداينة : { فَإِن لَّمْ يَكُونَا } أي : الشاهدان : { رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ } أي : في العدالة : { مِنَ الشُّهَدَاء } ولما شرط في القيام مقام الواحد من الرجال ، العدد من النساء ، علله بما يشير إلى نقص الضبط فيهن ، فقال : { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا } أي : تغيب عنها الشهادة : { فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى } الضالة : { وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } أي : لأداء الشهادة التي تحملوها أو لتحملها . وتسميتهم شهداء قبل التحميل من تنزيل المشارف منزلة الواقع : { وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ } أي : الدين : { صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ } أي : المذكور من الكتابة : { أَقْسَطُ } أي : أعدل : { عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ } أي : أعون لإقامتها ؛ إذ بها يتم الاعتماد على الحفظ : { وَأَدْنَى } أي : أقرب : { أَلاَّ تَرْتَابُواْ } أي : لا تشكو في جنس الدين وقدره وأجله بتشكيك أحد المتداينين : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً } أي : حالة : { تُدِيرُونَهَا } أي : تكثرون إدارتها : { بَيْنَكُمْ } فتصعب عليكم كتابتها مع قلة الحاجة إليها : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا } لأنها مناجزة فيبعد فيها التنازع والنسيان . قال أبو البقاء : تجارة يقرأ بالرفع على أن تكون التامة وحاضرة صفتها . ويجوز أن تكون الناقصة ، واسمها تجارة ، وحاضرة صفتها ، وتديرونها الخبر . وقرأ بالنصب على أن يكون اسم الفاعل مضمراً فيه ، تقديره إلا أن تكون المبايعة تجارة : { وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } أمر بالإشهاد على التبايع مطلقاً ناجزاً أو كالئاً ، لأنه أحوط وأبعد مما عسى يقع من الاختلاف . ويجوز أن يراد : وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع . يعني التجارة الحاضرة ، على أن الإشهاد كافٍ فيه دون الكتابة . وعن الضحاك . هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل . كذا في الكشاف . وأخرج ابن المنذر عن جابر بن زيد أنه اشترى سوطاً فأشهد وقال : قال الله : { وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } .
قال أبو القاسم بن سلامة في كتابه الناسخ والمنسوخ : قد كان جماعة من التابعين يرون أنهم يشهدون في كل بيع وابتياع . فمنهم الشعبي وإبراهيم النَّخَعِي .
كانوا يقولون : إنا نرى أن نشهد ولو في جرزة بقل .
{ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } يحتمل البناء للفاعل والمفعول . ويدل عليه أنه قرئ : ولا يضارر بالكسر والفتح والمعنى نهي الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما ، وعن التحريف والزيادة والنقصان ، أو النهي عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم . قال الحرالي : في الإحنة تعريض بالإحسان منه للشهيد والكاتب ليجيبه لمراده ، ويعينه على الائتمار لأمر بما يدفع من ضرر ، عطلته واستعماله في أمر من أمور دنياه . ففي تعريضه إجازة لما يأخذه الكاتب ومن يدعي لإقامة معونة في نحوه ممن يعرض له فيما يضره التخلي عنه .
{ وَإِن تَفْعَلُواْ } أي : ما نهيتم عنه من الضرار : { فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } أي : خروج بكم عن الشرع الذي نهجه الله لكم . قال الحرالي : وفي صيغة فعول تأكيد فيه وتشديد في النذارة .
{ وَاتَّقُواْ اللّهَ } أن يعذبكم بالخروج عن طاعته : { وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ } أحكامه المتضمنة لمصالحكم : { وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ولما كان التقدير : هذا إذا كنتم حضوراً يسهل عليكم إحضار الكاتب والشاهد ، عطف عليه قوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ 283 ]
.
{ وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ } أي : مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى : { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } أي : فالذي يستوثق به رهان مقبوضة يقبضها صاحب الحق ، وثيقة لدينه . هذا إذا لم يأمن البعضُ البعضَ بلا وثيقة : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً } لحسن ظنه به واستغنى بأمانته عن الارتهان : { فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ } وهو المدين . وإنما عبر عنه بذلك العنوان لتعينه طريقاً للإعلام ، ولحمله على الأداء : { أَمَانَتَهُ } أي : دينه . وإنما سمي أمانة : لائتمانه عليه بترك الارتهان به : { وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ } في رعاية حقوق الأمانة . وفي الجمع بين عنوان الألوهية وصفة الربوبية من التأكيد والتحذير مالا يخفى : { وَلاَ تَكْتُمُواْ } أيها الشهود : { الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } .
قال الزمخشري : فإن قلت هلا اقتصر على قوله فإنه آثم . وما فائدة ذكر القلب والجملة هي الآثمة لا القلب وحده ؟ قلت : كتمان الشهادة هو أن يضمرها ولا يتلكم بها . فلما كان إثماً مقترفاً بالقلب أسند إليه ، لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ . ألا تراك تقول ، إذا أردت التوكيد : هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي . ولأن القلب هو رئيس الأعضاء ، والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله . فكأنه قيل : فقد تمكن الإثم في أصل نفسه ، وملك أشرف مكان فيه . ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط . وليعلم أن القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه ، واللسان ترجمان عنه . ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح . وهي لها كالأصول التي تتشعب منها . ألا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر ، وهما من أفعال القلوب . فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معظم الذنوب . وقرأ قلبه بالنصب . كقوله : سفه نفسه . وقرأ ابن أبي عبلة : أثم قلبه . أي : جعله آثماً : { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي : بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم : { عَلِيمٌ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِّلَّهِ ما فِي السَّمَواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 284 ]
.
{ لِّلَّهِ ما فِي السَّمَواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ } أي : تظهروا : { مَا فِي أَنفُسِكُمْ } من الأفعال الاختيارية باللسان أو الجوارح : { أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ } قال أبو مسلم الأصفهاني : إنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة : { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } . ذكر عقيبه ما يجري مجرى الدليل العقلي فقال : { لِّلَّهِ ما فِي السَّمَواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } ومعنى هذا الملك ، أن هذه الأشياء لما كانت محدثة فقد وجدت بتخليقه وتكوينه وإبداعه . ومن كان فاعلاً لهذه الأفعال المحكمة المتقنة العجيبة الغريبة المشتملة على الحكم المتكاثرة والمنافع العظيمة لا بد أن يكون عالماً بها . إذ من المحال صدور الفعل المحكم المتقن عن الجاهل به . فكأن الله تعالى احتج بخلقه السماوات والأرض ، مع ما فيها من وجوه الإحكام والإتقان ، على كونه تعالى عالماً بها محيطاً بأجزائها وجزئياتها .
قال الشعبي : إنه تعالى لما نهى عن كتمان الشهادة وأوعد عليه ، بيّن أن له ملك السماوات والأرض ، فيجازي على الكتمان والإظهار . وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله تعالى : { وَإِنْ تُبْدُوا } الخ نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها .
وروى الإمام أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت هذه الآية : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } قال دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا > . قال : فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قال : قد فعلت : { رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } قال : قد فعلت : { وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا } قال : قد فعلت . وفي مسند عبد الله بن حميد والطبراني : قال ابن عباس : فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها . وصار الأمر إلى أن قضى الله تعالى أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت من القول والعمل . أقول إن ما جاء من أن الآية هالت من هالت من الصحابة ، فإنما جاءه من عمومها ومن قوله : { يُحَاسِبْكُمْ } إذ حمله على حساب المؤاخذة ، فأما عمومها فنظمها ظاهر فيه . إلا أنها تتناول الشهادة وكتمانها أولاً وبالذات . وغيرها ثانياً وبالعرض . وأما حمل الحساب على المؤاخذة والانتقام فإن كان عرفياً أو لغوياً فالإخفاء حينئذ مراد به إخفاء متفق على حظره . كنفاق وريب في الدين . ولا إشكال في الآية . وقد يؤيده ذكر الإيمان بعده . ويكون ختام السورة بالإبداء والإخفاء بمثابة رد العجز على الصدر . لافتتاح السورة بالمؤمنين والكافرين وما لكل منهما . وإن لم يكن الحساب حقيقة فيما ذكر بل كان معناه إيقافه تعالى العبد على عمله خيراً أو شراً وإراءته عاقبته الحسنى أو السوءى ، وهو الذي يظهر ، فلا إشكال أيضاً . فما روي عن بعض الصحب عليهم الرضوان منشؤه قوة اليقين وشدة الخوف من هول المطلع مع ورود الحساب في كثير من الآيات في معرض أخطار القيامة مما يحق أن يخفق له فؤاد كل مؤمن . ولا تنس ما أسلفنا في المقدمة وفي غير موضع ، أن قولهم : نزلت في كذا ، قد يراد أن كذا مما يشمله لفظ الآية لعمومها له ولغيره . وهكذا هنا . فالآية وإن كان سياقها في الشهادة وكتمانها ، إلا أنها تتناول غيرها بعمومها . ولذلك دخل فيها الوسوسة وتوهم ما توهم . وقوله في الرواية : فأنزل الله تعالى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا } لا يتوهم التراخي بين ما دخل قلوبهم وبين نزولها ، بل المراد ، كما أسلفنا في سبب النزول ، أن لفظ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ } الخ الذي نزل معها مبين أن لا حرج في مثل الوسوسة ونحوها . فافهم فإنه نفيس جداً . وبه يزاح عنك ما يبحث فيه الكثيرون في هذه الآية ويرونه من المعضلات . وبالله التوفيق .
هذا وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي ما وسوست بها صدورها ، ما لم تعمل أو تكلم > . وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < قال الله عز وجل : إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه . فإن عملها فاكتبوها سيئة وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة ، فإن علمها فكاتبوها عشراً > { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء } وقرئ برفع الفعلين على الاستئناف أي : فهو يغفر الخ . وبجزمهما عطفاً على جواب الشرط . وفي تقديم المغفرة على التعذيب إشعار بسبق رحمته تعالى على غضبه : { وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . قال الرازي : قد بين بقوله : { لِّلَّهِ ما فِي السَّمَواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } أنه كامل الملك والملكوت . وبين بقوله : { وَإِنْ تُبْدُوا } الخ . أنه كامل العلم والإحاطة . ثم بين بقوله : { وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أنه كامل القدرة مستول على كل الممكنات بالقهر والقدرة والتكوين والإعدام . ولا كمال أعلى وأعظم من حصول الكمال في هذه الصفات . والموصوف بهذه الكمالات يجب على كل عاقل أن يكون عبداً منقاداً له ، خاضعاً لأوامره ، ونواهيه ، متحرزاً عن سخطه . وبالله التوفيق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [ 285 ]
.
{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ } أي : صدقه بقبوله والتخلق به كما قالت عائشة : " كان خلقه القرآن " والترقي بمعانيه والتحقق : { وَالْمُؤْمِنُونَ } أي : كذلك آمنوا .
قال الزجاج رحمه الله : لما ذكر الله عز وجل في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة والصيام والحج والطلاق والحيض والإيلاء والجهاد وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والربا والدين ، ختمها بقوله : { آمَنَ الرَّسُولُ } لتعظيمه وتصديق نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لجميع ذلك المذكور قبله ، وغيره ليكون تأكيداً له وفذلكة .
لطيفة :
قوله : والمؤمنون إما مبتدأ والجملة بعده خبر . أعني : كلٌّ آمن . والعائد إلى المبتدأ التنوين القائم مقام الضمير في " كل " ، لأن من جملة العائد إلى المبتدأ التنوين النائب مناب الضمير . وإما معطوف على الرسول ، فيكون التنوين راجعاً إلى الرسول والمؤمنين . وقد اختار كثيرون الأول . ومنهم العلامة أبو السعود ، وأطال في توجيهه . وعندي أن الوجه هو الثاني ، لأن المقام لتعداد المؤمن به . وذلك يشترط فيه الرسول وأتباعه . وإن كان كنه إيمان الرسول لا يشاركه فيه غيره . فالمقام ليس مقام الخصوصية . والله أعلم .
{ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ } أي : يقولون : لا نفرق : { بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } أي : برد بعض وقبول بعض ، ولا نشك في كونهم على الحق وبالحق : { وَقَالُواْ سَمِعْنَا } أي : قولك وفهمناه : { وَأَطَعْنَا } أي : امتثلنا أمرك وقمنا به واستقمنا عليه . ولما علموا أنهم لا يخلون من تقصير ، وأن الرب يغفر لمن يشاء قالوا : { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } أي اغفر لنا غفرانك . أو نسألك غفرانك ذنوبنا . وتقديم ذكر السمع والطاعة على طلب الغفران لما أن تقديم الوسيلة على المسؤول أدعى إلى الإجابة والقبول : { وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } أي : الرجوع بالموت والبعث لا إلى غيرك ، وهو تذييل لما قبله مقرر للحاجة إلى لمغفرة . لما أن الرجوع للحساب والجزاء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [ 286 ]
.
{ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } أي : لا يحملها إلا ما تسعه وتطيقه ولا تعجز عنه .
قال الرازي : يحتمل أن يكون هذا ابتداء خبر من الله . ويحتمل أن يكون حكاية عن الرسول والمؤمنين بأنهم قالوا : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } على نسق الكلام في قوله : { وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } . وقالوا : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } .
ويؤيد ذلك ما أردفه من قوله : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا } فكأنه تعالى حكى عنهم طريقتهم في التمسك بالإيمان والعمل الصالح . وحكى عنهم في جملة ذلك أنهم وصفوا ربهم بأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها .
ثم قال الرازي : في كيفية النظم : إن قلنا : إن هذا من كلام المؤمنين ، فوجه النظم أنهم لما قالوا : { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } فكأنهم قالوا : كيف لا نسمع ولا نطيع وأنه تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا وطاقتنا . فإذا كان هو تعالى ، بحكم الرحمة الإلهية لا يطالبنا إلا بالشيء السهل الهين ، فكذلك نحن بحكم العبودية وجب أن نكون سامعين مطيعين . وإن قلنا : إن هذا من كلام الله تعالى ، فوجه النظم أنهم لما قالوا : { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } ثم قالوا بعده : { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } ، دل ذلك على أن قولهم : { غُفْرَانَكَ } ، طلب للمغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التقصير منهم على سبيل العمد . فملا كان قولهم غفرانك ، طلب للمغفرة في ذلك التقصير ، لا جرم خفف الله تعالى ذلك عنهم . وقال : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } . والمعنى : أنكم إذا سمعتم وأطعتم ، وما تعمدتم التقصير ، فعند ذلك لو وقع منكم نوع تقصير على سبيل السهو والغفلة فلا تكونوا خائفين منه ، فإن الله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } . وبالجملة فهذا إجابة لهم في دعائهم في قولهم : غفرانك ربنا .
قال زين العابدين بير محمد درة في " المدحة الكبرى " : وعلى احتمال أن يكون قوله : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ } الخ حكاية ، فهو من قبيل العطف بلا عاطف . أو الكلام على تقدير قالوا . قال بعضهم : ولك أن تجعل : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ } الخ في حيز القول . وأن يكون حكاية للأقوال المتفرقة غير المعطوفة بعضها على بعض للمؤمنين ، يكون مدحاً لهم بأنهم شاكرون لله تعالى في تكليفه . حيث يرونه بأنه لم يخرج عن وسعهم . وبأنهم يرون أن الله تعالى لا ينتفع بعملهم الخير ، بل هو لهم ، ولا يتضرر بعملهم الشر ، بل هو عليهم .
وقال البقاعي : وهذا الكلام من جملة دعائهم على وجه الثناء طلباً للوفاء بما أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم عنه سبحانه من ذلك ، خوفاً من أن يكلفوا بما لله تعالى ، أن يكلف به من المؤاخذة بالوساوس ، لأنه مما تخفيه النفوس ولا طاقة على دفعه .
ولعل العدول عن الخطاب إلى الغيبة بذكر الاسم الأعظم من باب التملق بأن له من صفات العظمة ما يقتضي العفو عن ضعفهم . ومن صفات الحلم والرحمة ما يرفه عنهم . ويحتمل أن يكون ذلك من قول الله تعالى جزاء لهم على قولهم : { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } ، الآية . فأفادهم بذلك أنه لا يحاسبهم بحديث النفس . فانتفى ما شق عليهم من قوله : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ } ، الآية . بخلاف ما أفاد بني إسرائيل قولهم : سمعنا وعصينا ؛ من الآصار في الدنيا والآخرة . فيكون حينئذ استئنافاً جواباً لمن ، كأنه قال : هل أجاب دعائهم ؟ ! . ويؤيد هذا الاحتمال اتباعه لحكم ما في الوسع على طريق الاستئناف أو الاستنتاج بقوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } قال العلامة أبو السعود : قوله تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } الخ . للترغيب في المحافظة على مواجب التكليف والتحذير عن الإخلال بها ، ببيان أن تكليف كل نفس مع مقارنته لنعمة التخفيف والتيسير تتضمن مراعاته منفعة زائدة ، وأنها تعود إليها لا إلى غيرها . ويستتبع الإخلال به مضرة تحيق بها لا بغيرها . فإن اختصاص المنفعة الفعل بفاعله من أقوى الدواعي إلى تحصيله . واقتصار مضرته عليه من أشد الزواجر عن مباشرته . أي : لها ثواب ما كسبت من الخير الذي كلفت فعله ، لا لغيرها . وعليها لا على غيرها عقاب ما اكتسبت من الشر الذي كلفت تركه . وإيراد الاكتساب في جانب الشر لما فيه من اعتمال ناشئ من اعتناء النفس بتحصيل الشر وسعيها في طلبه .
قال الحرالي : وصيغة فَعَلَ مجردة ، تعرب عن أدنى الكسب ، فلذلك من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة .
لطيفة :
وقال الجاربردي في " شرح الشافية " : معنى الكسب تحصيل الشيء على أي : وجه كان . والاكتساب : المبالغة والاعتمال فيه . ومن ذلك قوله تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } . وفيه تنبيه على لطف الله تعالى بخلقه ، إذ أثبت لهم ثواب الفعل على أي : وجه كان . ولم يثبت عليهم عقاب الفعل إلا على وجه مبالغة واعتمال فيه .
قال الزمخشري : لما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمارة به كانت في تحصيله أعمل وأجد ، فجعلت لذلك مكتسبة فيه . ولما لم تكن في باب الخير كذلك لفتورها في تحصيله ، وصفت بما لا دلالة له على الاعتمال والتصرف . انتهى .
قال العلامة ابن جماعة في " حواشيه " : تفرقته بين الكسب والاكتساب هو ما قال الزمخشري وغيره ، ونص عليه سيبويه . قال الحلبي : وهو الأظهر . وقال قوم : لا فرق . قالوا : وقد جاء القرآن بالكسب والاكتساب في مورد واحد . قال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [ المدثر : 38 ] { وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا } [ الأنعام : 164 ] { بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَة } [ البقرة : 81 ] .
وقال تعالى : { بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا } [ الأحزاب : 58 ] . فقد استعمل الكسب والاكتساب في الشر . وقال الواحدي : الصحيح عند أهل اللغة أن الكسب والاكتساب واحد . وفي القاموس : كسبه يكسبه كسباً ، وتكسب واكتسب : طلب الرزق . أو كسب أصاب ، واكتسب تصرف واجتهد . ثم قال ابن جماعة : ما ذكره من تنبيه الآية على لطف الله بخلقه إلى آخره ، قاله ابن الحاجب في شرح المفصل . وبمعناه قول بعضهم : في الآية إيذان أن أدنى فعل من أفعال الخير يكون للإنسان تكرماً من الله على عبده ، بخلاف العقوبة ، فإنه لا يؤاخذ بها إلا من جدّ فيها واجتهد ، وقريب منه قول آخر : للنفس ما حصل من الثواب بأي وجه اتفق حصوله ، سواء كان بإصابة مجردة أو بتحصيل ، وعليها ما حصلته وسعت فيه لا ما حصل من غير اختيار وسعي . نبّه تعالى أن الثواب حاصل لها سواء كان بسعيها واختيارها أو لم يكن كذلك . وأما العقاب فلا يكون عليها إلا بقصدها وتحصيلها .
وما قالوه من الفرق يحتاج إلى ثبت . وقد قال تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 - 8 ] أي : يرى جزاءه . وقال : : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ النساء : 48 ] . على أن ترتب الثواب على ما حصل من غير سعي واختيار ، إن كان لمباشرة سببه مع الغفلة عنه ، فالعقاب أيضاً كذلك . فمن عمل سيئة فعليه إثمها وإثم من عمل بها ، وإن صوّر بالإصابة عند أول الالتفات فلا مانع أن يكون العقاب مثله . ومدعي خلافه وعليه البيان . نعم الإصرار شرط ، لأن الرجوع يمحوه لكنه قدر زائد على الفعل . وبالجملة فما قاله جار الله حسن ، وقد ذكره البيضاوي أيضا . وفي الإعراب الحلبي : الذي يظهر في هذا ، أن الحسنات مما تكسب دون تكلف ؛ إذ كاسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه ، والسيئات تكتسب بتكلف ؛ إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى ، ويتجاوز إليها . فحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازاً لهذا المعنى والله اعلم . ثم قال ابن جماعة : والمبالغة : من بالغ مبالغة اجتهد ولم يقصر . والاعتمال : من اعتمل أي : عمل بنفسه وأعمل رأيه وآلته . انتهى .
قال البقاعي ولما بشرهم بذلك عرفهم مواقع نعمه من دعاء رتبه على الأخف فالأخف على سبيل التعلي ، إعلاماً بأنه لم يؤاخذهم بما اجترحوه نسياناً ، ولا بما قارفوه خطأ ، ولا حمل عليهم ثقلاً ، بل جعل شريعتهم حنيفية سمحاء . ولا حملهم فوق طاقتهم . مع أن له جميع ذلك . وأنه عفا عن عقابهم ثم سترهم فلم يخجلهم بذكر سيئاتهم . ثم رحمهم بأن أحلّهم محل القرب فجعلهم أهلاً للخلافة . فلاح بذلك أنه يعلي أمرهم على كل أمر . ويظهر دينهم على كل دين . وإذ كان سبحانه هو الداعي عنهم . وليكون الدعاء كله محمولاً على الإصابة ومشمولاً بالإجابة فقال تعالى : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا } أي : لا تعاقبنا : { إِن نَّسِينَا } أمرك ونهيك : { أَوْ أَخْطَأْنَا } أي : ففعلنا خلاف الصواب ، تفريطاً ونحوه .
وقد ولع كثير من المفسرين ههنا بالبحث في أن النسيان الخطأ معفو عنهما ، فما فائدة طلب العفو عنهما ؟ وأجابوا عن ذلك بوجوه . وأرق جواب رأيته قول العلامة بير محمد في " المدحة الكبرى " : لما كان طالب العفو الرسول والأنصار والمهاجرون ، ومن كان على شاكلتهم ، فكأنهم يعدّون النسيان من العصيان ، والخطأ من الخطيئة . كقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } [ المؤمنون : 60 ] .
وقيل في معنى الآية : لا تعاقبنا إن تركنا أمرك أو اكتسبنا خطيئة . على أن يكون النسيان بمعنى الترك . والخطأ من الخطيئة . وعليه فلا إيراد ، والله أعلم .
{ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً } أي : عهداً يثقل علينا .
قال الحرالي : الإصر : العهد الثقيل الذي في تحمله أشد المشقة : { كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } وهو ما كلَّفه بنو إسرائيل مما يهدّ الأركان . ولا بأس بالإشارة إلى جمل مما حملوه من الآصار . ننقله عن أسفارهم تأكيداً لما يحمل على الشكر على تخفيف ذلك عنا ، وتعظيماً لمنته تعالى ، فلله الحمد فنقول : في سفر الخروج في الأصحاح الثاني عشر :
( 15 ) سبعة أيام تأكلون فطيراً . اليوم الأول تعزلون الخمير في بيوتكم . فإن كل من أكل خميراً من اليوم الأول إلى اليوم السابع تقطع تلك النفس من إسرائيل .
وكل هذا الأصحاح آصار شاقة .
وفي السفر المذكور ، في الأصحاح الحادي والعشرين .
( 15 ) ومن ضرب أباه أو أمه يقتل قتلاً .
( 16 ) ومن سرق إنساناً وباعه أو وجد في يده يقتل قتلاً .
( 17 ) ومن شتم أباه أو أمه يقتل قتلاً .
( 27 ) وإن أسقط سن عبده أو سن أمته يطلقه حراً عوضاً عن سنه .
( 28 ) وإذا نطح ثور رجلاً أو امرأة فمات يرجم الثور ولا يؤكل لحمه ، وأما صاحب الثور فيكون بريئاً .
( 29 ) ولكن إن كان ثوراً نطاحاً من قبل وقد أشهد على صاحبه ولم يضبطه فقتل رجلاً أو امرأة ، فالثور يرجم وصاحبه أيضاً يقتل .
وفي السفر المذكور ، في الأصحاح الثالث والعشرين .
( 10 ) وست سنين تزرع أرضك وتجمع غلتها .
( 11 ) وأما في السابعة فتريحها وتتركها ليأكل فقراء شعبك . وفضلتهم تأكلها وحوش البرية ، كذلك تفعل بكرمك وزيتونك .
( 12 ) ستة أيام تعمل عملك . وأما اليوم السابع ففيه تستريح لكي يستريح ثورك وحمارك ويتنفس ابن أمتك والغريب .
( 19 ) أول أبكار أرضك تحضره إلى بيت الرب إلهك .
وفي سفر العدد ، في الصحاح الخامس عشر .
( 37 ) وكلم الرب موسى قائلاً .
( 38 ) كلم بني إسرائيل وقل لهم : أن يصنعوا لهم أهداباً في أذيال ثيابهم في أجيالهم ويجعلوا على هدب الذيل عصابة من أسمانجوني .
( 39 ) فتكون لكم هدباً فترونها وتذكرون كل وصايا الرب وتعملونها .
وفي السفر المذكور ، في الأصحاح التاسع عشر :
( 11 ) من مس ميتاً ميتة إنسان ما يكون نجساً سبعة أيام .
( 12 ) يتطهر به في اليوم الثالث ، وفي السابع يكون طاهراً . وإن لم يتطهر في اليوم الثالث ففي اليوم السابع لا يكون طاهراً .
( 13 ) كل من مس ميتاً ميتة إنسان قد مات ولم يتطهر ينجّس مسكن الرب . فتقطع تلك النفس من إسرائيل ، لأن ماء النجاسة لم يرش عليها تكون نجسة . نجاستها لم تزل فيها .
( 14 ) هذه هي الشريعة . إذا مات إنسان في خيمة فكل من دخل الخيمة وكل من كان في الخيمة يكون نجساً سبعة أيام .
( 15 ) وكل إناء مفتوح ليس عليه سداد بعصابة فإنه نجس .
( 16 ) وكل من مسّ على وجه الصحراء قتيلاً بالسيف أو ميتاً أو عظم إنسان أو قبراً يكون نجساً سبعة أيام . وتمام الفصل المذكور كيفية الطهارة من هذه النجاسة الشاقة جداً .
وفي السفر المذكور في الأصحاح الخامس والثلاثين :
( 31 ) ولا تأخذوا فدية عن نفس القاتل المذنب للموت بل إنه يقتل .
وفي سفر التثنية ، في الأصحاح الخامس عشر .
( 19 ) كل بكر ذكر يولد من بقرك ومن غنمك تقدسه للرب إلهك . لا تشتغل على بكر بقرك ولا تجزَّ بكر غنمك .
وفي سفر الخروج ، في الأصحاح الرابع والثلاثين :
( 20 ) وأما بكر الحمار فتفديه بشاة . وإن لم تفده تكسر عنقه . كل بكر من بنيك تفديه .
وفي سفر اللاويين ، في الأصحاح الرابع :
( 1 ) وكلم الرب موسى قائلاً .
( 2 ) كلم بني إسرائيل قائلاً : إذا أخطأت نفس سهواً في شيء من جميع مناهي الرب التي لا ينبغي عملها وعملت واحدة منها .
( 3 ) إن كان الكاهن الممسوح يخطئ لإثم الشعب يقرّب عن خطيئته التي أخطأ ثورا ابن بقر صحيحاً للرب . ذبيحة خطية .
وكيفية ذلك حرجة جداً . انظرها .
وفيه ، في الأصحاح الخامس :
( 1 ) أو إذا مس أحد شيئا ًنجساً جثة وحش نجس أو جثة بهيمة نجسة أو جثة ديبٍ نجس وأخفى عنه فهو نجس ومذنب .
( 5 ) فإن كان يذنب في شيء من هذه يقرّ بما قد أخطأ به .
( 6 ) ويأتي إلى الرب بذبيحة لإثمه عن خطيئته التي أخطأ بها أنثى من الأغنام نعجة أو عنزاً من المعز ذبيحة خطية فيكفر عنه الكاهن من خطيئته .
والأصحاح المذكور كله آصار .
وكذا الأصحاح السادس بعده كله آصار .
وفي الأصحاح الحادي عشر تحريم بعض الطيور وفي آصار كثيرة ، منها :
( 33 ) وكل متاع خزف وقع فيه منها فكل ما فيه يتنجس ، وأما هو فتكسرونه .
وفي الأصحاح الثاني عشر أحكام النفساء عندهم والفرق بين ولادتها ذكراً وأنثى . وإنها في الأول تكون نجسة أسبوعاً ، ثم ثلاثاً وثلاثين يوماً . وفي الثاني أسبوعين ثم ستة وستين يوماً .
وعن تمام أيام طهرها تأتي بكيس كفارة عنها .
وفي الأصحاح الخامس عشر تشريعات لذوي الجراحات .
وفي ذلك آصار كبرى . انظرها .
وفيه أيضاً أحكام الحائض والآصار في شأنها . ومنها :
( 19 ) وكل من مسها يكون نجساً إلى المساء .
( 20 ) وكل ما تضطجع عليه في طمثها يكون نجساً ، وكل ما تجلس عليه يكون نجساً .
( 21 ) وكل من مس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجساً إلى المساء .
وفي الأصحاح السابع عشر :
( 15 ) وكل إنسان يأكل ميتة أو فريسة وطنياً كان أو غريباً يغسل ثيابه ويستحم بماء ويبقى نجساً إلى المساء .
وفي الأصحاح التاسع عشر :
( 23 ) ومتى دخلتم الأرض وغرستم كل شجرة للطعام تحسبون ثمرها غلتها . ثلاث سنين تكون لكم غلفاء ، لا يؤكل منها .
( 24 ) وفي السنة الرابعة يكون كل ثمرها قدساً لتمجيد الرب .
( 25 ) وفي السنة الخامسة تأكلون ثمرها ، لتزيد بكم غلتها . أنا الرب إلهكم .
( 27 ) لا تقصروا رؤوسكم مستديراً ولا تفسد عارضيك .
وفي الأصحاح الخامس والعشرين :
( 3 ) ست سنين تزرع حقلك وست سنين تقضب كرمك وتجمع غلتهما .
( 4 ) وأما السنة السابعة ففيها يكون للأرض سبت عطلة سبتاً للرب . لا تزرع حقلك ولا تقضب كرمك .
( 5 ) زريع حصيدك لا تحصد وعنب كرمك المحول لا تقطف . سنة عطلة تكون للأرض .
( 6 ) ويكون سبت الأرض لكم طعاماً . لك ولعبدك ولأمتك ولأجيرك ولمستوطنك النازلين عندك .
( 7 ) ولبهائمك وللحيوان الذي في أرضك تكون كل غلتها طعاماً .
وفي سفر التثنية ، في الأصحاح الحادي والعشرين .
( 18 ) وإذا كان لرجل ابنٌ معاندٌ وماردٌ ولا يسمع لقول أبيه ولا لقول أمه ويؤدبانه فلا يسمع لهما .
( 19 ) يمسكه أبوه وأمه ويأتيان به إلى شيوخ مدينته وإلى باب مكانه .
( 20 ) ويقولون لشيوخ مدينته : ابننا هذا معاند ومارد لا يسمع لقولنا وهو مسرف وسكّير .
( 21 ) فيرجمه جميع رجال مدينته بحجارة حتى يموت .
وفيه ، في الأصحاح الثاني والعشرين :
( 10 ) لا تحرث على ثور وحمار معاً .
( 11 ) لا تلبس ثوباً مختلطاً صوفاً وكتاناً معاً .
وفيه ، في الأصحاح الرابع والعشرين :
( 1 ) إذا أخذ رجل امرأة ، وتزوج بها فإن لم تجد نعمة في عينيه ؛ لأنه وجد فيها عيب شيء وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته .
( 2 ) ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر .
( 3 ) فإذا أبغضها الرجل الأخير ، وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته ، أو إذا مات الرجل الأخير الذي اتخذها له زوجة .
( 4 ) لا يقدر زوجها الأول الذي طلقها أن يعود بأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجست ؛ لأن ذلك رجس لدى الرب .
وهذه نبذة يسيرة من الآصار التي كانت على الإسرائيليين ولم يشرعها لنا مولانا بفضله وكرمه له الحمد ، إنه أرحم الراحمين .
{ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } أي : من بليات الدنيا والآخرة . فالدعاء الأول في رفع شدائد التكليف ، وهذا في رفع شدائد البليات . ويقال : هو تكرير للأول وتصوير للإصر بصورة ما لا يستطاع مبالغة { وَاعْفُ عَنَّا } أي : تجاوز عن ذنوبنا ولا تعاقبا : { وَاغْفِرْ لَنَا } أي : غطّ على ذنوبنا واعف عنها : { وَارْحَمْنَآ } أي : تفضل علينا بالرحمة مع كوننا مقصرين مذنبين : { أَنتَ مَوْلاَنَا } أي : ولينا وناصرنا : { فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } فإن من حق المولى أن ينصر عبده ومن يتولى أمره على الأعداء .
وفيه إشارة إلى أن إعلاء كلمة الله والجهاد في سبيله تعالى ، حسبما أمر في تضاعيف السورة الكريمة ، غاية مطلبهم .
قال البقاعي : فتضمن ذلك وجوب قتال الكافرين . وأنهم أعدى الأعداء . وأن قوله : { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ليس ناهياً عن ذلك ، وإنما هو إشارة إلى أن الدين صار في الوضوح إلى حد لا يتصور فيه إكراه . بل ينبغي لكل عاقل أن يدخل فيه بغاية الرغبة فضلاً عن الإحواج إلى إرهاب . فمن نصح نفسه دخل فيه بما دل عليه عقله ، ومن أبى دخل فيه قهراً بنصيحة الله التي هي الضرب بالحسام ونافذ السهام .
وقد ورد في " صحيح مسلم " عن النبي صلى الله عليه وسلم : < إن الله تعالى قال عقب كل دعوة من هذه الدعوات : قد فعلت > .
وقد روى البخاري والجماعة عن أي : مسعود رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : < من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة ، في ليلة ، كفتاه > .
وروى الإمام أحمد عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أعطيت خواتيم سورة البقرة من بيت كنز من تحت العرش ، لم يعطهن نبي قبلي > .
وأخرج مسلم عن ابن مسعود قال : لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم : انتهى به إلى سدرة المنتهى ، وهي في السماء السادسة . إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض ، فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها ، فيقبض منها . قال : { إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } [ االنجم : 16 ] ، قال : فراش من ذهب قال ، فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً : أعطي الصلوات الخمس ، وأعطي خواتيم سورة البقرة ، وغُفِر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً ، المقحمات .
وعن ابن عباس قال : بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه ، فرفع رأسه فقال : < هذا باب من السماء فتح اليوم ، لم يفتح قط إلا اليوم ، فنزل منه ملك فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض . لم ينزل قط إلا اليوم . فسلّم وقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة . لن تقرأ حرفاً منهما إلا أعطيته > . رواه مسلم والنسائي . وهذا لفظ مسلم .
وأخرج الترمذي والنسائي والدرامي والحاكم وصححه ، عن النعمان بن بشير : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات الأرض بألفي عام . أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة . ولا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان > .
وأخرج عبد بن حميد في " مسنده " عن الحسن : أنه كان إذا قرأ آخر البقرة قال : يا لك نعمة . . ! يا لك نعمة .
هذا ، وقد روي في فضل سورة البقرة أحاديث كثيرة . . . منها ما أخرجه مسلم والترمذي من حديث النواس بن سمعان قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : < يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به ، تقدمه سورة البقرة وآل عِمْرَان > وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال : < كأنهما عمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق . أو كأنهما حزقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما > .
وأخرج أحمد والحاكم والدارمي عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < تعلموا سورة البقرة . فإن أخذها بركة . وتركها حسرة . ولا تستطيعها البطلة . تعلموا البقرة وآل عِمْرَان فإنهما هما الزهراوان يجيئان يوم القيامة كأنهما غماماتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تجادلان عن صاحبهما > .
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < لا تجعلوا بيوتكم مقابر . إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة > . ولفظ الترمذي : < وإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان > .
وأخرج سعيد بن منصور والترمذي والحاكم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لكل شيء سنام وإن سنام القرآن سورة البقرة . وفيها آية هي سيدة آي القرآن . آية الكرسي > .
فائدة :
قال ابن القيم : تأمل خطاب القرآن تجد ملكاً له الملك كله ، وله الحمد كله ، أزمّة الأمور كلها بيده ، ومصدرها منه ، وموردها إليه ، مستوياً على العرش ، لا تخفى عليه خافية من أقطار مملكته ، عالماً بما في نفوس عبيده ، مطلعاً على أسرارهم وعلانيتهم ، منفرداً بتدبير المملكة ، يسمع ويرى ويعطي ويمنع ، ويثيب ويعاقب ، ويكرم ويهين ، ويخلق ويرزق ، ويميت ويحيي ، ويقدر ويقضي ويدبر ، الأمور نازلة من عنده ، دقيقها وجليلها ، وصاعدة إليه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه ، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه . فتأمل كيف تجده يثني على نفسه ، ويمجد نفسه ، ويحمد نفسه ، وينصح عباده ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم ويرغبهم فيه ، ويحذرهم مما فيه هلاكهم ، ويتعرف إليهم بأسمائهم وصفاته ، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه ! يذكرهم بنعمه عليهم ، ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها . ويحذّرهم من نقمه ، ويذكرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه ، وما أعد لهم من العقوبة إن عصوه ، ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه ، وكيف كانت عاقبة هؤلاء وهؤلاء ، ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم وأحسن أوصافهم ، ويذم أعداءه بسيء أعمالهم وقبيح صفاتهم ، ويضرب الأمثال ، وينوّع الأدلة والبراهين ، ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة ، ويصدق الصادق ، ويكذب الكاذب ، ويقول الحق ، ويهدي السبيل ، ويدعو إلى دار السلام ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها ، ويحذر من دار البوار ، ويذكر عذابها وقبحها وآلامها . ويذكر عباده فقرهم إليه وشدة حاجتهم إليه من كل وجه . وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين ، ويذكرهم غناءه عنهم وعن جميع الموجدات . وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه . وكل ما سواه فقير إليه . وأنه لا ينال أحدٌ ذرة من الخير فما فوقها إلا بفضله ورحمته . ولا ذرة من الشر فما فوقها إلا بعدله وحكمته . وتشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب .
وأنه مع ذلك مقيل عثراتهم ، وغافر زلاتهم ، ومقيم أعذارهم ، ومصلح فسادهم ، والدافع عنهم ، والحامي عنهم ، والناصر لهم ، والكفيل بمصالحهم والمنجي لهم من كل كرب ، والموفي لهم بوعده .
وأنه وليهم الذي لا ولي لهم سواه ، فهو مولاهم الحق ، وينصرهم على عدوهم ، فنعم المولى ونعم النصير .
وإذا شهدت القلوب من القرآن ملكاً عظيماً جواداً رحيماً جميلاً هذا شأنه ، فكيف لا تحبه ، وتنافس في القرب منه ، وتنفق أنفاسها في التودد إليه ، ويكون أحب إليها من كل ما سواه ، ورضاه آثر عندها من رضى كل من سواه ؟ وكيف لا تلهج بذكره وتصير حبه والشوق إليه والأنس به هو غذاؤها وقوتها ودواؤها ، بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت ولم تنتفع بحياتها ؟ ! .
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا ، ونور صدورنا ، وجلاء حزننا ، وأعنِّا على إكمال ما قصدناه بفضلك . يا أرحم الراحمين .(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الم اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ } [ 1 - 3 ]
{ الم } سلف الكلام على ذلك أول البقرة
{ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } سبق تأويله في آية الكرسي .
{ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } أي : القرآن . عبر عنه باسم الجنس إيذاناً بكمال تفوقه على بقية الأفراد في حيازة كمالات الجنس ، كأنه هو الحقيق بأن يطلق عليه اسم الكتاب دون ما عداه ، كما يلوح به التصريح باسمي التوراة والإنجيل : { بِالْحَقِّ } أي : الصدق الذي لا ريب فيه : { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : من الكتب المنزلة قبله .
قال المهايمي : أي : معرفاً صدق الكتب السالفة . وقال أبو مسلم : المراد منه أنه تعالى لم يبعث نبياً قط إلا بالدعاء إلى توحيده والإيمان به ، وتنزيهه عما لا يليق به ، والأمر بالعدل والإحسان ، وبالشرائع التي هي صلاح كل زمان . فالقرآن مصدق لتلك الكتب في كل ذلك : { وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ } تعيين لما بين يديه وتبين لرفعة محله . تأكيداً لما قبله ، وتمهيداً لما بعده . إذ بذلك يترقى شأن ما يصدقه رفعة ونباهة ، ويزداد في القلوب قبولاً ومهابة ، ويتفاحش حال من كفر بهما في الشناعة ، واستتباع ما سيذكر من العذاب الشديد والانتقام . قاله أبو السعود .
والتوراة اسم عبراني معناه : الشريعة . والإنجيل لفظة يونانية معناها : البشرى أي : الخبر الحسن . هذا هو الصواب كما نص عليه علماء الكتابين في مصنفاتهم . وقد حاول بعض الأدباء تطبيقهما على أوزان لغة العرب واشتقاقهما منها . وهو خبط ، بغير ضبط .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ } [ 4 ]
.
{ مِن قَبْلُ } متعلق بـ : { أَنزَلَ } ، أي : أنزلهما من قبل تنزيل الكتاب ، والتصريح به مع ظهور الأمر ، للمبالغة في البيان : { هُدًى لِّلنَّاسِ } أي : لقوم موسى وعيسى . أو ما هو أعم ، لأن هذه الأمة متعبدة بما لم ينسخ من الشرائع : { وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ } وهو الكتب السماوية التي ذكرها ، لأن كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل . أو هو القرآن . وإنما كرر ذكره بما هو نعت له ، ومدح له ، من كونه فارقاً بين الحق والباطل ، بعد ما ذكره باسم الجنس ، تعظيماً لشأنه ، وإظهاراً لفضله ، قال الرازي : أو يقال : إنه تعالى أعاد ذكره ليبين أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل ، ليجعله فرقاً بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل . وعلى هذا التقدير فلا تكرار . ثم استظهر حمل الفرقان على المعجزات التي قرنها الله تعالى بإنزال هذه الكتب الفارقة بين دعواهم ودعوى الكذابين . قال : فالفرقان هو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها ، ويفيد الفرق بينهما وبين سائر الكتب المختلفة . انتهى .
ويجوز أن يكون المراد بالفرقان : الميزان المشار إليه في قوله تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } [ الحديد : 25 ] . والميزان : هو العدل في الأمور كلها ؛ واللفظ مما يشمل ذلك كله لتلاقيها في المعنى .
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ } أي : جحدوا بها : { لَهُمْ } بسبب كفرهم بها : { عَذَابٌ شَدِيدٌ } وهذا الوعيد ، جيء به إثر ما تقدم حملاً على الإذعان ، وزجراً عن العصيان : { وَاللّهُ عَزِيزٌ } لا يغالب يفعل ما يشاء : { ذُو انتِقَامٍ } أي : معاقبة ، يقال : انتقم الله منه : عاقبه . والنقمة : المكافأة بالعقوبة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء } [ 5 ]
.
{ إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء } أي : هو مطلع على كفر من كفر وإيمان من آمن ، وهو مجازيهم عليه . .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 6 ]
{ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء } أي : يخلقكم في الأرحام كما يشاء من ذكر وأنثى ، وحسن وقبيح ، وشقي وسعيد { لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ }[ 7 ] .
{ هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } واضحات الدلالة : { هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } أي : أصله المعتمد عليه في الأحكام : { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } وهي ما استأثر الله بعلمها لعدم اتضاح حقيقتها التي أخبر عنها ، أو ما احتملت أوجهاً . وجعله كله محكماً في قوله : { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } [ هود : 1 ] ، بمعنى أنه ليس فيه عيب ، وأنه كلام حق فصيح الألفاظ ، صحيح المعاني .
ومتشابها في قوله : { كِتَاباً مُتَشَابِهاً } [ الزمر : 23 ] ، بمعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن ، ويصدق بعضه بعضاً : { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } أي : ميل عن استقامة إلى كفر وأهواء وابتداع : { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ } أي : طلب الإيقاع في الشبهات واللبس : { وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ } وحده : { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } أي : الثابتون المتمكنون مبتدأ ، خبره : { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } أي : بالمتشابه على ما أراد الله تعالى : { كُلٌّ } من المحكم والمتشابه : { مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ } أي : العقول الخالصة من الركون إلى الأهواء الزائغة . وهو تذييل سيق منه تعالى مدحاً للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر .
تنبيه :
للعلماء في المحكم والمتشابه أقوال كثيرة ، ومباحث واسعة ، وأبدع ما رأيته في تحرير هذا المقام مقالة سابغة الذيل لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية عليه الرحمة والرضوان . يقول في خلالها :
المحكم في قرآن ، تارة يقابل بالمتشابه والجميع من آيات الله ، وتارة يقابل بما نسخه الله ، مما ألقاه الشيطان .
ومن الناس من يجعله مقابلاً لما نسخه الله مطلقاً حتى يقول : هذه الآية محكمة ليست منسوخة ، ويجعل المنسوخ ليس محكماً ، وإن كان الله أنزله أولاً إتباعاً للظاهر من قوله : { فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ } .
فهذه ثلاثة معان تقابل المحكم ، ينبغي التفطن لها .
وجماع ذلك أن الإحكام تارة يكون في التنزيل . فيكون في مقابلته ما يلقيه الشيطان . فالمحكم المنزل من عند الله أحكمه الله ، أي : فصله من الاشتباه بغيره ، وفصل منه ما ليس منه ، فإن الإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه ، ولهذا دخل فيه معنى المنع ، كما دخل في الحد بالمنع جزء معناه ، لا جميع معناه ، وتارة يكون في إبقاء التنزيل عند من قابله بالنسخ الذي هو رفع ما شرع ، وهو اصطلاحي . أو يقال : وهو أشبه : السلف كانوا يسمون كل رفع نسخاً ، سواء كان رفع حكم ، أو رفع دلالة ظاهرة ، فكل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح كتخصيص العام وتقييد المطلق ، فهو منسوخ في اصطلاح السلف ، وإلقاء الشيطان في أمنيته قد يكون في نفس لفظ المبلِّغ ، وقد يكون في مسمع المبلِّغ ، وقد يكون في فهمه ، كما قال : { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } [ الرعد : 17 ] . ومعلوم أن من سمع ، سمع النص الذي قد رفع حكمه ، أو دلالة له ، فإنه يلقى الشيطان في تلك التلاوة اتباع ذلك المنسوخ ، فيحكم الله آياته بالناسخ الذي به رفع الحكم ، وبان المراد . وعلى هذا التقدير ، فيصح أن يقال : المتشابه والمنسوخ ، بهذا الاعتبار . والله أعلم .
وتارة يكون الإحكام في التأويل والمعنى ، وهو تمييز الحقيقة المقصودة من غيرها ، حتى لا تشتبه بغيرها . وفي مقابلة المحكمات الآيات المتشابهات التي تشبه هذا وتشبه هذا . فتكون محتملة للمعنيين ، ولم يقل في المتشابه : ولا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله ، وإنما قال : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } وهذا هو فصل الخطاب بين المتنازعين في هذا الموضع . فإن الله أخبر أنه لا يعلم تأويله إلا هو . والوقف هنا ، على ما دل عليه أدلة كثيرة ، وعليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجمهور التابعين ، وجماهير الأمة . ولكن لم ينفِ علمهم بمعناه وتفسيره ، بل قال : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ } [ ص : 29 ] . وهذا يعم الآيات المحكمات والآيات المتشابهات . وما لا يعقل له معنى لا يتدبر ، وقال : { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } [ النساء : 82 ] .
ولم يستثن شيئاً منه نهى عن تدبره . والله ورسوله إنما ذم من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، فأما من تدبر المحكم والمتشابه كما أمره الله وطلب فهمه ومعرفة معناه ، فلم يذمه الله ، بل أمر بذلك ومدح عليه .
يبين ذلك أن التأويل ، قد روي أن اليهود الذين كانوا بالمدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كحيي بن أحطب ، وغيره من طلب من حروف الهجاء التي في أوائل السور بقاء هذه الأمة ، كما سلك ذلك طائفة من المتأخرين موافقة للصابئة المنجمين ، وزعموا أنه ستمائة وثلاثة وتسعون عاماً ، لأن ذلك هو عدد ما للحروف في حساب الجمل ، بعد إسقاط المكرر . وهذا من نوع تأويل الحوادث التي أخبر بها القرآن في اليوم الآخر . وروي أن من النصارى الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد نجران من تأول " أنا ونحن " على أن الآلهة ثلاثة ، لأن هذا الضمير جمع . وهذا تأويل في الإيمان بالله . فأولئك تأولوا في اليوم الآخر . وهؤلاء تأولوا في الله . ومعلوم أن " أنا ونحن " من المتشابه . فإنه يراد بها الواحد الذي معه غيره من جنسه ، ويراد بها الواحد الذي معه أعوانه وإن لم يكونوا من جنسه ، ويراد الواحد المعظم نفسه ، الذي يقوم مقامه من معه غيره لتنوع أسمائه التي كل اسم منها يقوم مقام مسمى .
فصار هذا متشابهاً لأن اللفظ واحد ، والمعنى متنوع ، والأسماء المشتركة في اللفظ هي من المتشابه ، وبعض المتواطئ أيضاً من المتشابه . ويسميها أهل التفسير : " الوجوه والنظائر " وصنفوا كتب الوجوه والنظائر . فالوجوه في الأسماء المشتركة ، والنظائر في الأسماء المتواطئة . وقد ظن بعض أصحابنا المصنفين في ذلك أن الوجوه والنظائر جميعاً في الأسماء المشتركة ، فهي نظائر باعتبار اللفظ ، ووجوه باعتبار المعنى ، وليس الأمر على ما قاله ، بل كلامهم صريح فيما قلناه لمن تأمله ، والذين في قلوبهم زيغ يدعون المحكم الذي لا اشتباه فيه مثل : { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد } [ البقرة : 163 ] { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } [ طه : 14 ] { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ } [ المؤمنون : 91 ] : { وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } [ الفرقان : 2 ] { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 3 - 4 ] . ويتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة ليفتنوا به الناس إذا وضعوه على غير مواضعه ، وحرفوا الكلم عن مواضعه . وابتغاء تأويله وهو الحقيقة التي أخبر عنها . وذلك أن الكلام نوعان : إنشاء في الأمر ، وإخبار .
فتأويل الأمر هو نفس الفعل المأمور به ، كما قال من قال من السلف : إن السنة هي تأويل الأمر . قالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك الله وبحمدك ، اللهم اغفر لي . يتأول القرآن ، تعني قوله : : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } [ النصر : 3 ] . وأما الإخبار فتأويله عين الأمر المخبر به إذا وقع ، ليس تأويله فهم معناه ، وقد جاء اسم التأويل في القرآن في غير موضع . وهذا معناه . قال الله تعالى : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } [ الأعراف : 52 - 53 ] فقد أخبر أنه فصل الكتاب ، وتفصيله بيانه وتمييزه بحيث لا يشتبه ، ثم قال : { هَلْ يَنظُرُونَ } ، أي : ينتظرون { إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } . إلى آخر الآية . وإنما ذلك مجيء ما أخبر به القرآن بوقوعه من القيامة وأشراطها ، كالدابة ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ومجيء ربك والملك صفاً صفاً ، وما في الآخرة من الصحف والموازين والجنة والنار وأنواع النعيم والعذاب وغير ذلك . فحينئذ يقولون : { قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } . وهذا القدر الذي أخبر به القرآن من هذه الأمور لا يعلم وقته وقدره وصفته إلا الله ، فإن الله يقول : { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [ السجدة : 17 ] . ويقول : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . وقال ابن عباس : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء ، فإن الله قد أخبر أن في الجنة خمراً ولبناً وماء وحريراً وذهباً وفضة وغير ذلك . ونحن نعلم قطعاً أن تلك الحقيقة ليست مماثلة لهذه ، بل بينهما تباين عظيم مع التشابه . كما في قوله : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً } [ البقرة : 25 ] ، على أحد القولين ، أي : يشبه ما في الدنيا ، وليس مثله ، فأشبه اسم تلك الحقائق أسماء هذه الحقائق ، كما أشبهت الحقائقُ الحقائقَ من بعض الوجوه ، فنحن نعلمها إذا خوطبنا بتلك الأسماء من القدر المشترك بينهما ، ولكن لتلك الحقائق خاصية لا ندركها في الدنيا ، ولا سبيل إلى إدراكنا لها لعدم إدراك عينها أو نظيرها من كل وجه ، وتلك الحقائق على ما هي تأويل ما أخبر الله به ، وهذا فيه رد على اليهود والنصارى والصابئين من المتفلسفة وغيرهم . فإنهم ينكرون أن يكون في الجنة أكل وشرب ولباس ونكاح ، ويمنعون وجود ما أخبر به القرآن . ومن دخل في الإسلام ونافق المؤمنين , تأول ذلك على أن هذه أمثال مضروبة لتفهيم النعيم الروحاني ، إن كان من المتفلسفة الصابئة المنكرة لحشر الأجساد . وإن كان من منافقة الملّتين المقرين بحشر الأجساد ، تأول ذلك على تفهيم النعيم الذي في الجنة من الروحاني والسماع الطيب والروائح العطرة ، كل ضال يحرف الكلم عن مواضعه إلى ما اعتقد ثبوته . وكان في هذا أيضاً متبعاً للمتشابه ، إذ الأسماء تشبه الأسماء ، والمسميات تشبه المسميات ، ولكن تخالفها أكثر مما تشابهها . فهؤلاء يتبعون هذا المتشابه ابتغاء الفتنة بما يوردونه من الشبهات على امتناع أن يكون في الجنة هذه الحقائق ، وابتغاء تأويله ليردوه إلى المعهود الذي يعلمونه في الدنيا ، قال الله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } ، فإن تلك الحقائق قال الله فيها : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [ السجدة : 7 ] ، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل .
وقوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ } : إما أن يكون الضمير عائداً على الكتاب أو على المتشابه . فإن كان عائداً على الكتاب لقوله : منه ، ومنه : { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } ، فهذا يصح ، فإن جميع آيات الكتاب المحكمة والمتشابهة التي فيها إخبار عن الغيب الذي أمرنا أن نؤمن به ، لا يعلم حقيقة ذلك الغيب ومتى يقع إلا الله ، وقد يستدل لهذا أن الله جعل التأويل للكتاب كله مع أخباره أنه مفصل بقوله : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } . فجعل التأويل الجائي الكتاب المفصل ، وقد بينا أن ذلك التأويل لا يعلمه وقتاً وقدراً ونوعاً وحقيقة إلا الله ، وإنما نعلم نحن بعض صفاته بمبلغ علمنا لعدم نظيره عندنا ، وكذلك قوله : { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُه } وإذا كان التأويل الكتاب كله والمراد به ذلك ، ارتفعت الشبهة ، وصار هذا بمنزلة قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } - إلى قوله : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ } [ الأعراف : 187 ] . وكذلك قوله : { يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً } [ الأحزاب : 63 ] . فأخبر أنه ليس علمها إلا عند الله ، وإنما هو علم وقتها المعين وحقيقتها ، وإلا فنحن قد علمنا من صفاتها ما أخبرنا به ، فعلم تأويله كعلم الساعة والساعة من تأويله . وهذا واضح بيّن ، ولا ينافي كون علم الساعة عند الله أن نعلم من صفاتها وأحوالها ما علمناه ، وأن نفسر النصوص المبينة لأحوالها . فهذا هذا .
وإن كان الضمير عائداً إلى ما تشابه كما يقوله كثير من الناس ، فلأن المخبر به من الوعد والوعيد متشابه ، بخلاف الأمر والنهي . ولهذا في الآثار : العمل بمحكمه [ في المطبوع : بمحكمة ] ، والإيمان بمتشابه ، لأن المقصود في الخبر الإيمان . وذلك لأن المخبر به من الوعد والوعيد فيه من التشابه ما ذكرناه . بخلاف الأمر والنهي ، فإنه متميز غير مشتبه بغيره ، فإنه أمور نفعلها قد علمناها بالوقوع ، وأمور نتركها لا بد أن نتصورها .
ومما جاء من لفظ التأويل في القرآن قوله تعالى : { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } [ يونس : 39 ] . والكتابة عائدة على القرآن ، أو على ما لم يحيطوا بعلمه ، وهو يعود إلى القرآن . قال تعالى : { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسورة مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ } [ يونس : 37 - 40 ] .
فأخبر سبحانه أن هذا القرآن ما كان ليفترى من دون الله وهذه الصيغة تدل على امتناع المنفي كقوله : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } [ هود : 117 ] لأن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثله . كما تحداهم وطالبهم لما قال : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ يونس : 38 ] ، فهذا تعجيز لجميع المخلوقين . قال تعالى : { وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } [ يونس : 37 ] ، أي : مصدق الذي بين يديه ، وتفصيل الكتاب ، أي : مفصل الكتاب ، فأخبر أنه مصدق الذي بين يديه ومفصل الكتاب . والكتاب اسم جنس . ولما تحدى القائلين : افتراه ، ودل على أنهم هم المفترون ، قال : { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } . ففرق بين الإحاطة بعلمه ، وبين إتيان تأويله .
فتبين أنه يمكن أن يحيط أهل العلم والإيمان بعلمه ، ولما يأتهم تأويله ، وأن الإحاطة بعلم القرآن ليست إتيان تأويله ، فإن الإحاطة بعمله معرفة معاني الكلام على التمام ، وإتيان التأويل نفس وقوع المخبر به . وفرق بين معرفة الخبر وبين المخبر به . فعمرفة الخبر هي معرفة تفسير القرآن , ومعرفة المخبر به هي معرفة تأويله . وهذا هو الذي بيناه فيما تقدم .
إن الله إنما أنزل القرآن ليعلم ويفهم ويفقه ويتدبر ويتفكر به محكمه ومتشابه ، وإن لم يعلم تأويله ، ويبين ذلك أن الله يقول عن الكفار : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً } [ الإسراء : 45 - 46 ] . فقد أخبر فقد أخبر ، ذماً للمشركين ، أنه إذا قرئ عليهم القرآن حجب بين أبصارهم وبين الرسول بحجاب مستور ، وجعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً . فلو كان أهل العلم والإيمان على قلوبهم أكنة أن يفقهوا بعضه لشاركوهم في ذلك . وقوله : { أَن يَفْقَهُوهُ } يعود إلى القرآن كله . فعلم أن الله يحب أن يفقه ، ولهذا قال الحسن البصري : ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا أنزلت وماذا عنى بها . وما استثنى من ذلك لا متشابهاً ولا غيره . وقال مجاهد : عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره مرات ، أقفه عند كل آية وأسأله عنها . فهذا ابن عباس حبر الأمة ، وهو أحد من كان يقول : لا يعلم تأويله إلا الله ، يجيب مجاهداً عن كل آية في القرآن ، وهذا هو الذي جعل مجاهداً ومن وافقه كابن قتيبة على أن جعلوا الوقف عن قوله : { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } فجعلوا الراسخين يعلمون التأويل ، لأن مجاهد تعلم من ابن عباس تفسير القرآن كله وبيان معانيه . فظن أن هذا هو التأويل المنفي عن غير الله . وأصل ذلك أن لفظ التأويل ، وبه أشير إلى بين ما عناه الله في القرآن وبين ما كان يطلقه طوائف من السلف ، وبين اصطلاح طوائف من المتأخرين ، فبسبب الاشتراك في لفظ التأويل اعتقد كل من فهم منه معنى بلغته أن ذلك هو المذكور في القرآن .
ومجاهد إمام التفسير ، قال الثوري : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به .
وأما التأويل فشأن آخر . ويبين ذلك أن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله وقال : هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه ، ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين : إن في القرآن آيات لا يعلم معناها ولا يفهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أهل العلم والإيمان جميعهم . وإنما قد ينفون علم بعض ذلك على بعض الناس ، وهذا لا ريب فيه ، وإنما وضع هذه المسألة المتأخرون من الطوائف بسبب الكلام في آيات الصفات وآيات القدر وغير ذلك ، فلقبوها ، هل يجوز أن يشتمل القرآن على ما لا يعلم معناه ، وما تعبدنا بتلاوة حروفه بلا فهم ؟ فجوّز ذلك طوائف متمسكين بظاهر من هذه الآية ، وبأن الله يمتحن عباده بما شاء ، ومنعها طوائف يتوصلوا بذلك إلى تأويلاتهم الفاسدة التي هي تحريف الكلم عن مواضعه . والغالب على كلتا الطائفتين الخطأ . أولئك يقصرون في فهمهم القرآن بمنزلة من قيل فيه : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } [ البقرة : 78 ] . وهؤلاء معتدون ، بمنزلة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه . ومن المتأخرين من وضع المسألة بلقب شنيع فقال : لا يجوز أن يتكلم الله بكلام ولا يعني به شيئاً ، خلافاً للحشوية ، وهذا لم يقله مسلم إن الله يتكلم بما لا معنى له ، وإنما النزاع هل يتكلم بما لا يفهم معناه . وبين نفي المعنى عند المتكلم ، ونفي الفهم عن المخاطب ، بون عظيم . ثم احتج بما يجري على أصله ، فقال : هذا عبث ، والعبث على الله محال ، وعنده أن الله لا يقبح منه شيء أصلاً ، بل يجوز أن يفعل كل شيء ، وليس له أن يقول العبث صفة نقص ، فهو منتف عنه ، لأن النزاع في الحروف ، وهي عنده مخلوقة من جملة الأفعال ، ويجوز أن يشتمل الفعل عنده على كل صفة ، فلا نقل صريح ، ولا عقل صحيح .
ومثال الفتن بين الطائفتين ومحار عقولهم أن مدعي التأويل أخطأوا في زعمهم أن العلماء يعلمون التأويل ، وفي دعواهم أن التأويل هو تأويلهم الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه . فإن الأولين ، لعلمهم بالقرآن والسنن ، وصحة عقولهم ، وعلمهم بكلام السلف ، وكلام العرب ، علموا يقيناً أن التأويل الذي يدعيه هؤلاء ليس هو معنى القرآن . فإنهم حرفوا الكلم عن مواضعه ، وصاروا مراتب ما بين قرامطة وباطنية يتأولون للأخبار والأوامر . وما بين صابئة فلاسفة يتأولون عامة الأخبار عن الله وعن اليوم الآخر ، حتى عن أكثر أحوال الأنبياء . وما بين جهمية ومعتزلة يتأولون بعض ما جاء في اليوم الآخر وفي آيات القدر ، ويتأولون آيات الصفات . وقد وافقهم بعض متأخري الأشعرية على ما جاء في بعض الصفات ، وبعضهم في بعض ما جاء في اليوم الآخر . وآخرون من أصناف الأمة ، وإن كان يغلب عليهم السنة ، فقد يتأولون أيضاً مواضع يكون تأويلهم من تحريم الكلم عن مواضعه .
والذين ادعوا العلم بالتأويل مثل طائفة من السلف وأهل السنة ، وأكثر أهل الكلام والبدع ، رأوا أيضاً أن النصوص دلت على معرفة معاني القرآن . ورأوا عجزاً وعيباً وقبيحاً أن يخاطب الله عباده بكلام يقرؤونه ويتلونه وهم لا يفهمونه . وهم مصيبون فيما استدلوا به من سمع وعقل ، لكن أخطأوا في معنى التأويل الذي نفاه الله ، وفي التأويل الذي أثبتوه وتسلق بذلك مبتدعتهم إلى تحريف الكلم عن مواضعه ، وصار الأولون أقرب إلى السكوت والسلامة بنوع من الجهل ، وصار الآخرون أكثر كلاماً وجدالاً ، ولكن بفرية على الله ، وقولٍ عليه ما لا يعلمونه ، وإلحاد في أسمائه وآياته ، فهذا هذا .
ومنشأ الشبهة الاشتراك في لفظ التأويل ، فإن التأويل في عرف المتأخرين من المتفقهة والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة ونحوهم هو صرف اللفظ عن المعنى الراجع إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به ، وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف . فإذا قال أحد منهم : هذا الحديث أو هذا النص مؤول ، أو هو محمول على كذا ، قال الآخر : هذا نوع تأويل ، والتأويل يحتاج إلى دليل . والمتأول عليه وظيفتان : بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي ادعاه ، وبيان الدليل الموجب للصرف إليه عن المعنى الظاهر ، وهذا هو التأويل الذي يتنازعون فيه في مسائل الصفات ، إذا صنف بعضهم في إبطال التأويل ، أو ذم التأويل ، أو قال بعضهم : آيات الصفات لا تؤول ، وقال الآخر : بل يجب تأويلها ، وقال الثالث : بل التأويل جائز يفعل عند المصلحة ، يترك عند المصلحة ، أو يصح للعلماء دون غيرهم ، إلى غير ذلك من المقالات والتنازع .
وأما لفظ التأويل في لفظ السلف فله معنيان :
أحدهما : تفسير الكلام وبيان معناه ، سواء وافق ظاهره أو خالفه ، فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء متقارباً أو مترادفاً ، وهذا - والله أعلم - هو الذي عناه مجاهد أن العلماء يعلمون تأويله . ومحمد بن جرير الطبري يقول في تفسيره : القول في تأويل قوله كذا وكذا . واختلف أهل التأويل في هذه الآية . ونحو ذلك ، ومراده التفسير .
والمعنى الثاني : في لفظ السلف وهو الثالث من مسمى التأويل مطلقاً هو نفس المراد بالكلام . فإن الكلام إن كان طلباً كان تأويله نفس الفعل المطلوب . وإن كان خبراً أن تأويله نفس الشيء المخبر به . وبين هذا المعنى والذي قبله بون . فإن الذي قبله يكون التأويل فيه من باب العلم ، والكلام كالتفسير والشرح والإيضاح ، ويكون وجود التأويل في القلب واللسان ، له الوجود الذهني واللفظي والرسمي . وأما هذا ، فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج ، سواء كانت ماضية أو مستقبلة .
فإذا قيل : طلعت الشمس ، فتأويل هذا نفس طلوعها . وهذا الوضع والعرف .
الثالث : هو لغة القرآن التي نزل بها وقد قدمنا التبيين في ذلك . ومن ذلك قول يعقوب عليه السلام ليوسف : { وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } [ يوسف : 6 ] . وقوله : { وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ } [ يوسف : 36 - 37 ] . وقول الملأ : { أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعَالِمِينَ } [ يوسف : 44 ] { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } [ يوسف : 45 ] . وقول يوسف لما دخلوا عليه مصر وآوى إليه أبويه وقال : { ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } [ يوسف : 99 ] { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً } [ يوسف : 100 ] .
فتأويل الأحاديث التي هي رؤيا المنام هي نفس مدلولها التي تؤول إليه ، كما قال يوسف : { هَذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ } [ يوسف : 100 ] . والعالم بتأويلها الذي يخبر به . كما قال يوسف : { لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } أي : في المنام { إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا } . أي : قبل أن يأتيكما التأويل . وقال الله تعالى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ النساء : 59 ] . قالوا : أحسن عاقبة ومصيراً . فالتأويل هنا تأويل فعلهم الذي هو الرد إلى الكتاب والسنة ، والتأويل في سورة يوسف تأويل أحاديث الرؤيا ، والتأويل في الأعراف ويونس تأويل القرآن ، وكذلك في سورة آل عِمْرَان . وقال تعالى في قصة موسى والعالم : { قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً } [ الكهف : 78 ] . إلى قوله : { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً } [ الكهف : 82 ] .
فالتأويل هنا تأويل الأفعال التي فعلها العالم من خرق السفينة بغير إذن صاحبها . ومن قتل الغلام ، ومن إقامة الجدار . فهو تأويل عمل ، لا تأويل قول ، وإنما كان كذلك لأن التأويل مصدر أوّله يؤوله تأويلاً ، مثل حول تحويلاً ، وعول تعويلاً . و أول يؤول تعدية آل يؤول أولاً ، مثل حال يحول حولاً وقولهم آل يؤول أي : عاد إلى كذا ورجع إليه ، ومنه المأل [ في المطبوع : المال ] ، وهو ما يؤول إليه الشيء . ويشاركه في الاشتقاق الموئل ، فإنه وَأَلَ ، وهذا من أول ، والموئل المرجع ، قال تعالى : { لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً } [ الكهف : من الآية 58 ] .
ومما يوافقه في اشتقاقه الأصغر الآل ، فإن آل الشخص من يؤول إليه ، ولهذا لا يستعمل إلا في عظيم ، بحيث يكون المضاف إليه يصلح أن يؤول إليه الآل . كآل إبراهيم وآل لوط وآل فرعون . بخلاف الأهل . والأول أفعل ، لأنهم قالوا في تأنيثه أولى ، كما قالوا جمادى ، وفي القصص : { لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ } . ومن الناس من يقول فوعل ويقول أوّله إلا أن هذا يحتاج إلى شاهد من كلام العرب ، بل عدم صرفه يدل على أنه أفعل لا فوعل . فإن فوعل مثل كوثر وجوهر مصروف . سمي المتقدم أول - والله أعلم - لأن ما بعده يؤول إليه ويبنى عليه ، فهو أس لما بعده وقاعدة له . والصيغة صيغة تفضيل مثل أكبر وكبرى وأصغر وصغرى لا من أحمر وحمراء ، ولهذا يقولون : جئته أول من أمس وقال : { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } [ التوبة : 108 ] { وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [ الأنعام : 163 ] { وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } [ البقرة : 41 ] . ومثل هذا أول هؤلاء . .
فهذا الذي فضل عليهم في الأول ، لأن كل واحد يرجع إلى ما قبله ، فيعتمد عليه ، وهذا السابق ؛ كلهم يؤول إليه . فإن من تقدم من فعل ، فاستبق به من بعده ، كان السابق الذي يؤول الكل إليه . فالأول له وصف السؤدد والاتباع . ولفظ الأول مشعر بالرجوع والعود . والأول مشعر بالابتداء . والمبتدي خلاف العائد ، لأنه إنما كان أولاً لما بعده ، فإنه يقال : أول المسلمين ، وأول يوم ، فما فيه من معنى الرجوع والعود , هو للمضاف إليه لا للمضاف . وإذا قلنا : آل فلان فالعود في المضاف ، لأن ذلك صيغة تفضيل في كونه مآلاً ومرجعاً لغيره ، لأنه كونه مفضلاً دل عليه أنه مآل ومرجع ، لا آيل راجع ، إذ لا فضل في كون الشيء راجعاً إلى غيره . آيلاً إليه ، وإنما الفضل في كونه هو الذي يُرجع إليه ويُؤال . فلما كانت الصيغة صيغة تفضيل أشعرت بأنه مفضل في كونه مآلاً ومرجعاً ، والتفضيل المطلق في ذلك يقتضي أن يكون هو السابق المبتدئ . والله أعلم .
فتأويل الكلام ما أوّله إليه المتكلم أو ما يؤول إليه الكلام أو ما تأوله المتكلم . فإن التفضيل يجري على غير فعّل كقوله : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [ المزمل : 8 ] ، فيجوز أن يقال تأول الكلام إلى هذا المعنى تأويلاً ، والمصدر واقع موقع الصفة ، إذ قد يحصل المصدر صفة بمعنى الفاعل ، كعدل وصوم وفطر ، وبمعنى المفعول كدرهم ضرب الأمير ، وهذا خلق الله . فالتأويل هو ما أول إليه الكلام أو يؤول إليه ، أو تأول هو إليه . والكلام إنما يرجع ويعود ويستقر ويَؤُول ويُؤوَّل إلى حقيقته التي هي عين المقصود به ، كما قال بعض السلف في قوله : { لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ الأنعام : 67 ] . قال : حقيقة . فإن كان خبراً فإلى الحقيقة الخبر بها يؤول ويرجع ، وإلا لم تكن له حقيقة ولا مآل ولا مرجع ، بل كان كذباً ، وإن كان طلباً فإلى الحقيقة المطلوبة يؤول ويرجع ، وإلا لم يكن مقصوده موجوداً ولا حاصلاً ، ومتى كان الخبر وعداً أو وعيداً فإلى الحقيقة المطلوبة المنتظرة يؤول . كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } [ الأنعام : 65 ] . قال : إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد .
فصل
وأما إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله ، أو اعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله كما يقول كل واحد من القولين طوائف من أصحابنا وغيرهم ، فإنهم وإن أصابوا في كثير مما يقولونه ونجوا من بدع وقع فيها غيرهم ، فالكلام على هذا من وجهين :
الأول : من قال إن هذا من المتشابه وأنه لا يفهم معناه ، ما الدليل على ذلك ؟ فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ، ولا من الأئمة ، لا أحمد بن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية ، ونفى أن يعلم أحد معناه ، وجعلوا أسماء الله وصفاتهم بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم . ولا قالوا إن الله ينزل كلاماً لا يفهم أحد معناه . وإنما قالوا : كلمات لها معان صحيحة . قالوا في أحاديث الصفات : تمر كما جاءت ، ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها . التي مضمونها تعطيل النصوص على ما دلت عليه . ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية ، ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها ، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه ، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك . وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات : تمر كما جاءت في أحاديث الوعد . مثل : < من غشنا فليس منا > . وأحاديث الفضائل . ومقصوده بذلك أن الحديث لا يحرف كله عن مواضعه كما يفعله من يحرفه ويسمى تحريفه تأويلاً ، بالعرف المتأخر .
فتأويل هؤلاء المتأخرين عند الأئمة تحريف باطل . وكذلك نص أحمد في كتاب الرد على الزنادقة الجهمية أنهم تمسكوا بمتشابه القرآن . وتكلم أحمد على ذلك المتشابه ، وبين معناه وتفسيره بما يخالف تأويل الجهمية . وجرى في ذلك على سنن الأئمة قبله ، فهذا اتفاق من الأئمة على أنه يعلمون معنى هذا المتشابه وأنه لا يسكت عن بيانه وتفسيره . بل يبين ويفسر . فاتفاق الأئمة من غير تحريف له على مواضعه أو إلحاد في أسماء الله وآياته .
ومما يوضح لك ما وقع هنا من الاضطراب ، أن أهل السنة متفقون على إبطال تأويلات الجهمية ونحوهم من المنحرفين الملحدين ، والتأويل المردود هو صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره . فلو قيل : إن هذا هو التأويل المذكور في الآية ، وأنه لا يعلمه إلا الله ، لكان في هذا تسليم للجهمية أن للآية تأويلاً يخالف دلالتها ، لكن ذلك لا يعلمه إلا الله . وليس هذا مذهب السلف والأئمة ، وإنما مذهبهم نفي هذه التأويلات وردها ، لا التوقف عنها . وعندهم قراءة الآية والحديث تفسيرها وتمر كما جاءت دالة على المعاني . لا تحرف ولا يلحد فيها .
والدليل على أن هذا ليس بمتشابه لا يعلم معناه ، أن تقول : لا ريب أن الله سمى نفسه في القرآن بأسماء مثل الرحمن والودود والعزيز والجبار والقدير والرؤوف ونحو ذلك ، ووصف نفسه بصفات ، مثل سورة الإخلاص وآية الكرسي وأول الحديد وآخر الحشر ، وقوله : { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ، و : { عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، و : { فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [ آل عِمْرَان : من الآية 76 ] و : { الْمُقْسِطِينَ } ، و : { الْمُحْسِنِينَ } [ البقرة : من الآية 58 ] ، وأنه يرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، و : { لَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الزخرف : 55 ] { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ } [ محمد : 28 ] { وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ } [ التوبة : 46 ] { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [ الأعراف : 54 ] { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } [ الحديد : 4 ] : { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ } [ الزخرف : 84 ] { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] { ا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [ طه : 46 ] { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ } [ الأنعام : 3 ] { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ } [ ص : 75 ] { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } [ المائدة : 64 ] { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } [ الرحمن : 27 ] { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [ الكهف : 28 ] { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } [ طه : 39 ] . إلى أمثال ذلك . فيقال لمن ادعى في هذا أنه متشابه لا يعلم معناه : أتقول هذا في جمع ما سمى الله ووصف به نفس أم في البعض ؟ فإن قلت : هذا في الجميع كان هذا عناداً ظاهراً ، وجحد لما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام ، بل كفر صريح . فإنا نفهم من قوله : { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } . معنى . ونفهم من قوله : { أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } معنى ليس هو الأول . ونفهم من قوله : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأعراف : 156 ] . معنى ، ونفهم من قوله : { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } [ إبراهيم : 47 ] ، معنى . وصبيان المسلمين ، بل وكل عاقل يفهم هذا .
وقد رأيت بعض من ابتدع وجحد من أهل المغرب مع انتسابه إلى الحديث ، لكن أثرت فيه الفلسفة الفاسدة ، من يقول : إنا نسمي الله الرحمن الرحيم العليم القدير علماً محضاً من غير أن نفهم منه معنى يدل على شيء قط ، وكذلك في قوله : { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ } . يطلق هذا اللفظ من غير أن نقول له علم ، وهذا الغلو في الظاهر ، من جنس غلو القرامطة في الباطن . لكن هذا أيبس وذاك أكفر .
ثم يقال لهذا المعاند : فهل هذه الأسماء دالة على الإله المعبود ، أو على حق موجود . أم لا ؟ فإن قال : لا ، كان معطلاً محضاً . وما أعلم مسلماً يقول هذا . وإن قال : نعم قيل له : فهل فهمت منها دلالتها على نفس الرب ، ولم تفهم دلالتها على ما فيها من المعاني من الرحمة والعلم ، وكلاهما في الدلالة سواء ؟ فلا بد أن يقول : لأن ثبوت الصفات محال في العقل ، لأنه يلزم منه التركيب أو الحدوث ، بخلاف الذات .
فيخاطب حينئذ بما يخاطب به الفريق الثاني كما سنذكره . وهو من أقر بفهم بعض معنى هذه الأسماء والصفات دون بعض . فيقال له : ما الفرق بين ما أثبته وبين ما نفيته أو سكت عن إثباته ونفيه ؟ فإن الفرق إما أن يكون من جهة السمع ، لأن أحد النصين دال دلالة قطعية أو ظاهرة ، بخلاف الآخر . أو من جهة العقل بأن أحد المعنيين يجوز أو يجب إثباته دون الآخر ، وكلا الوجهين باطل في أكثر المواضع ، أما الأول فدلالة القرآن على أنه رحمن رحيم ودود سميع بصير عليٌّ عظيم ، كدلالته على أنه عليم قدير ، ليس بينهما فرق من جهة النص . وكذلك ذكره لرحمته ومحبته وعلوه مثل ذكره لمشيئته وإرادته .
وأما الثاني فيقال لمن أثبت شيئاً ونفى آخر : لم نفيت ، مثلاً ، حقيقة رحمته ومحبته وأعدت ذلك إلى أرادته ؟
فإن قال : لأن المعنى المفهوم من الرحمة في حقنا هي رقة تمتنع على الله ، قيل له : والمعنى المفهوم من الإرادة في حقنا هي ميل يمتنع على الله . فإن قال : إرادته ليست من جنس إرادة خلقه . قيل له : ورحمته ليست من جنس رحمة خلقه . وكذلك محبته . وإن قال وهو حقيقة قوله : لم أثبت الإرادة وغيرها بالسمع ، وإنما أثبت العلم والقدرة والإرادة بالعقل . وكذلك السمع والبصر والكلام على إحدى الطريقتين ، لأن افعل دل على القدرة ، والإحكام دل على العلم ، والتخصيص دل على الإرادة . قيل له : الجواب من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الإنعام والإحسان وكشف الضر دل أيضاً على الرحمة كدلالة التخصيص على الإرادة والتقريب والإدناء . وأنواع التخصيص التي لا تكون إلا من المحب تدل على المحبة ، أو مطلق التخصيص يدل على الإرادة . وأما التخصيص بالإنعام فتخصيص خاص ، والتخصيص بالتقريب والاصطفاء تقريب خاص ، وما سلكه في مسلك الإرادة يسلك في مثل هذا .
الثاني : يقال له : هب أن العقل لا يدل على هذا ، فإنه لا ينفيه إلا بمثل ما ينفي به الإرادة ، والسمع دليل مستقل بنفسه ، بل الطمأنينة إليه في هذه المضايق أعظم ودلالته أتم ، فلأي شيء نفيت مدلوله أو توقفت وأعدت هذه الصفات كلها إلى الإرادة ؟ مع أن النصوص تفرق . فلا يذكر حجة إلا عورض بمثلها في إثباته الإرادة زيادة على الفعل .
الثالث : يقال له : إذا قال لك الجهمي : الإرادة لا معنى لها إلا عدم الإكراه ، أو نفس الفعل والأمر به ، وزعم أن إثبات إرادة تقتضي محذوراً إن قال بقدمها ، ومحذوراً إن قال بحدوثها .
وهنا اضطربت المعتزلة . فإنهم لا يقولون بإرادة قديمة لامتناع صفة قديمة عندهم . ولا يقولون بتجدد صفة له ، لامتناع حلول الحوادث عن أكثرهم مع تناقضهم .
فصاروا حزبين :
البغداديون : وهم أشد غلواً في البدعة في الصفات وفي القدر ، نفوا حقيقة الإرادة . وقال الحافظ : لا معنى لها إلا عدم الإكراه . وقال الكعبي : لا معنى لها إلا نفس الفعل ، إذا تعلقت بفعله ، ونفس الأمر إذا تعلقت بطاعة عباده .
والبصريون : كأبي علي وأبي هاشم . قالوا : تحدث إرادة لا في محل ، فلا إرادة . فالتزموا حدوث حادث غير مراد وقيام صفة بغير محل ، وكلاهما عند العقل معلوم الفساد بالبديهة . كان جوابه : أن ما ادعى إحالته من ثبوت الصفات ليس بمحال ، والنص قد دل عليها ، والفعل أيضاً . فإذا أخذ الخصم ينازع في دلالة النص أو العقل ، جعل مسفسطاً أو مقرمطاً ، وهذا بعينه موجود في الرحمة والمحبة ، فإن خصومه ينازعونه في دلالة السمع والعقل عليها على الوجه القطعي .
ثم يقال لخصومه : بم أثبتم أنه عليم قدير ؟ فما أثبتوه به من سمع وعقل فبعينه تثبت الإرادة ، وما عارضوا به من الشبه عورضوا بمثله في العليم والقدير ، وإذا انتهى الأمر إلى ثبوت المعاني ، وأنها تستلزم الحدوث أو التركيب والافتقار ، كان الجواب ما قررناه في غير هذا الموضع ، فإن ذلك لا يستلزم حدوثاً ولا تركيباً مقتضياً حاجة إلى غيره .
ويعارضون أيضاً بما ينفي به أهل التعطيل الذات من الشبه الفاسدة ، ويلزمون بوجود الرب الخالق المعلوم بالفطرة الخلقية ، والضرورة العقلية ، والقواطع العقلية ، واتفاق الأمم ، وغير ذلك من الدلائل . ثم يطالبون بوجود من جنس ما نعهده ، أو بوجود يعلمون كيفيته ، فلا بد أن يفروا إلى إثبات ما تشبه حقيقته الحقائق . فالقول في سائر ما سمي ووصف به نفسه كالقول في نفسه سبحانه وتعالى .
ونكتة هذا الكلام أن غالب من نفى وأثبت شيئاً مما دل عليه الكتاب والسنة ، لا بد أن يثبت الشيء لقيام المقتضى ، وانتفاء المانع . وينفي الشيء لوجود المانع أو لعدم المقتضى ، أو يتوقف إذا لم يكن عنده مقتضٍ ولا مانع ، فيبين له أن المقتضى فيما نفاه قائم ، كما أنه فيما أثبته قائم . إما من كل وجه ، أو من وجه يجبب به الإثبات . فإن كان المقتضى هناك حقاً ، فكذلك هنا . وإلا فدرء ذاك المقتضى من جنس درء هذا . وأما المانع فيبين أن المانع الذي تخيله فيما نفاه من جنس المانع الذي تخيله فيما أثبته ، فإذا كان ذلك المانع المستحيل موجوداً على التقديرين لم ينج من محذروه بإثبات أحدهما ونفي الآخر ، فإنه إن كان حقاً نفاهما ، وإن كان باطلاً لم ينف واحداً منهما ، فعليه أن يسوي بين الأمرين في الإثبات والنفي ، ولا سبيل إلى النفي ، فتعين الإثبات . فهذه نكتة الإلزام لمن أثبت شيئاً . وما من أحد إلا ولا بد أن يثبت شيئاً أو يجب عليه إثباته ، فهذا يعطيك من حيث الجملة أن اللوازم التي يدعي أنها موجبة النفي خيالات غير صحيحة, وإن لم يعرف فسادها على التفضيل, وأما من حيث التفصيل ، فيبين فساد المانع وقيام المقتضى كما قرر هذا غير مرة .
فإن قال : من أثبت هذه الصفات التي هي فينا أعراض كالحياة والعلم والقدرة ، ولم يثبت ما هو فيها أبعاض كاليد والقدم : هذه أجزاء وأبعاض تستلزم التركيب والتجسيم . قيل له : وتلك أعراض تستلزم التجسيم والتركيب العقلي كما استلزمت هذه عندك التركيب الحسي . فإن أثبت تلك على وجه لا تكون أعراضاً أو تسميتها أعراضاً لا يمنع ثبوتها ، قيل له : وأثبت هذه على وجه لا تكون تركيباً وأبعاضاً أو تسميتها تركيباً وأبعاضاً لا يمنع ثبوتها .
فإن قال : هذه لا يعقل منها إلا الأجزاء ، قيل له : وتلك لا يعقل منها إلا الأعراض .
فإن قال : العرض ما لا يبقى وصفات الرب باقية . قيل : والبعض ما جاز انفصاله عن الجملة ، وذلك في حق الله محال ، فمفارقة الصفات القديمة مستحيلة في حق الله تعالى مطلقاً ، والمخلوق يجوز أن تفارقه أعراضه وأبعاضه .
فإن قال : ذلك تجسيم والتجسيم منتف ، قيل : وهذا تجسيم والتجسيم منتف .
فإن قال : أنا أعقل صفة ليست عرضاً بغير متحيز ، وإن لم يكن له في الشاهد نظير . قيل له : فاعقل صفة هي لنا بعض لغير متحيز وإن لم يكن له في الشاهد نظير .
فإن نفى عقل هذا نفى عقل ذاك ، وإن كان بينهما نوع فرق ، لكنه فرق غير مؤثر في موضع النزاع . ولهذا كانت المعطلة الجهمية تنفي الجميع لكن ذاك أيضاً مستلزم لنفي الذات ، ومن أثبت هذه الصفات الخبرية من نظير هؤلاء ، صرح بأنها صفة قائمة به كالعلم والقدرة ، وهذا أيضاً ليس هو معقول النص ، ولا مدلول العقل ، وإنما الضرورة ألجأتهم إلى هذه المضايق .
وأصل ذلك أنهم أتوا بألفاظ ليست في الكتاب ولا في السنة ، وهي ألفاظ مجملة . مثل متحيز ومحدد وجسم ومركب ، ونحو ذلك ، ونفوا مدلولها ، وجعلوا ذلك مقدمة بينهم مسلّمة ، ومدلولاً عليها بنوع قياس ، وذلك القياس أوقعهم فيه مسلك سلكوه في إثبات حدوث العالم بحدوث الأعراض ، أو إثبات إمكان الجسم بالتركيب من الأجزاء ، فوجب طرد الدليل بالحدوث والإمكان لكل ما شمله هذا الدليل ، إذ الدليل القطعي لا يقبل الترك لمعارض راجح ، فرأوا ذلك يعكر عليهم من جهة النصوص ومن جهة العقل من ناحية أخرى فصاروا أحزاباً ، تارة يغلّبون القياس الأول ويدفعون ما عارضه وهم المعتزلة ، وتارة يغلبون القياس الثاني ويدفعون الأول كهشام بن الحكم الرافضي ، فإنه قد قيل : أول ما تكلم في الجسم نفياً وإثباتاً من زمن هشام بن الحكم وأبي الهذيل العلاف . فإن أبا الهذيل ونحوه من قدماء المعتزلة نفوا الجسم لما سلكوا من القياس . وعارضهم هشام وأثبت الجسم لما سلكوه من القياس ، واعتقد الأولون إحالة ثبوته ، واعتقد هذا إحالة نفيه ، وتارة يجمعون بين النصوص والقياس بجمع يظهر فيه الإحالة والتناقض .
فما أعلم أحداً من الخارجين عن الكتاب والسنة من جميع فرسان الكلام والفلسفة إلا ولا بد أن يتناقض فيحيل ما أوجب نظيره ، ويوجب ما أحال نظيره ، إذ كلامهم من عند غير الله ، وقد قال الله تعالى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] .
والصواب ما عليه أئمة الهدى ، وهو أن يوصف الله بما وصف به نفسه ، أو وصفه به رسوله ، لا يتجاوز القرآن والحديث ، ويتبع في ذلك سبل السلف الماضين ، أهل العلم والإيمان . والمعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات فتكون من باب تحريف الكلم عن مواضعه . ولا يعرض عنها ، فيكون من باب الذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً . ولا يترك تدبر القرآن ، فيكون من باب الذين لا يعلمون الكتاب إلى أماني . فهذا أحد الوجهين . وهو منع أن تكون من المتشابه .
الوجه الثاني : أنه إذا قيل هذه من المتشابه ، أو كان فيها ما هو من المتشابه ، كما نقل عن بعض الأئمة أنه سمى بعض ما استدل به الجهمية متشابهاً ، ، فيقال : الذي في القرآن أنه لا يعلم تأويله إلا الله ، إما المتشابه ، وإما الكتاب كله كما تقدم . ونفي علم تأويله ليس نفي علم معناه كما قدمناه في القيامة وأمور القيامة . وهذا الوجه قوي إن ثبت حديث ابن إسحاق في وفد نجران ، أنهم احتجوا على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " إنا ونحن " ونحو ذلك ، ويؤيده أيضاً أنه قد ثبت أن في القرآن متشابهاً ، وهو ما يحتمل معنيين ، وفي سائر الصفات ما هو من هذا الباب ، كما أن ذلك في مسائل المعاد وأولى ، فإن نفي المتشابه بين الله وبين خلقه أعظم من نفي المتشابه بين موعود الجنة وموجود الدنيا ، وإنما نكتة الجواب هو ما قدمناه أولاً أن نفي علم التأويل ليس نفياً لعلم المعنى ، ونزيده تقريراً أن الله سبحانه يقول : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } [ الزمر : 27 - 28 ] ، وقال تعالى : { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ يوسف : 1 - 2 ] ، فأخبر أنه أنزله ليعقلوه ، وأنه طلب تذكرهم . وقال أيضاً : { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الحشر : 21 ] ، فحض على تدبره وفقهه وعقله والتذكر به والتفكير فيه ، ولم يستثن من ذلك شيئاً . بل نصوص متعددة تصرح بالعموم فيه ، مثل قوله : { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [ محمد : 24 ] ، وقوله : { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] ، ومعلوم أن نفي الاختلاف عنه لا يكون إلا بتدبره كله ، وإلا فتدبر بعضه لا يوجب الحكم بنفي مخالفة ما لم يتدبر لما تدبر . وقال علي عليه السلام لما قيل له : هل ترك عندكم رسول لله صلى الله عليه وسلم شيئاً ؟ فقال : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه وما في هذه الصحيفة . فأخبر أن الفهم فيه مختلف في الأمة ، والفهم أخص من العلم والحكم ، قال الله تعالى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } [ الأنبياء : 79 ] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : < رب مبلغ أوعى من سامع > ، وقال : < بلغوا عني ولو آية > . وأيضاً فالسلف من الصحابة والتابعين وسائر الأمة قد تكلموا في جميع نصوص القرآن ، آيات الصفات وغيرها ، وفسروها بما يوافق دلالتها ، ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة توافق القرآن . وأئمة الصحابة في هذا أعظم من غيرهم . مثل عبد الله بن مسعود الذي كان يقول : لو أعلمُ أعلمَ بكتاب الله مني تبلغه آباط الإبل لأتيته . وعبد الله بن عباس الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو حبر الأمة وترجمان القرآن ، كانا هما وأصحابهما من أعظم الصحابة والتابعين إثباتاً للصفات ورواية لها عن النبي صلى الله عليه وسلم . ومن له خبرة بالحديث والتفسير يعرف هذا ، وما في التابعين أجل من أصحاب هذين السيدين ، بل وثالثهما في علية التابعين من جنسهم أو قريب منهم جلالة ، أصحاب زيد بن ثابت ، لكن أصحابه مع جلالتهم ليسوا مختصين به ، بل أخذوا عن غيره مثل عمر ، وابن عمر ، وابن عباس . ولو كان معاني هذه الآيات منفياً أو مسكوتاً عنه ، لم يكن ربانيّو الصحابة أهل العلم بالكتاب والسنة أكثر كلاماً فيه ، ثم إن الصحابة نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة ، ولم يذكر أحدٌ منهم عنه قط أنه امتنع من تفسير آية .
قال أبو عبد الرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا : عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيه من العلم والعمل ، قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل . وكذلك الأئمة كانوا إذا سئلوا شيئاً من ذلك لم ينفوا معناه ، بل يثبتون المعنى وينفون الكيفية . كقول مالك بن أنس لما سئل عن قوله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } كيف استوى ؟ فقال : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب, والسؤال عنه بدعة . وكذلك ربيعة قبله . وقد تلقى الناس هذا الكلام بالقبول .
فليس في أهل السنة من ينكره . وقد بين أن الاستواء معلوم ، كما أن سائر ما أخبر به معلوم ، ولكن الكيفية لا تعلم ، ولا يجوز السؤال عنها ، لا يقال : كيف استوى ؟ ولم يقل مالك : الكيف معدوم ، وإنما قال : الكيف مجهول . وهذا فيه نزاع بين أصحابنا وغيرهم من أهل السنة ، غير أن أكثرهم يقولون : لا تخطر كيفيته ببال ، ولا تجري ماهيته في مقال . ومنهم من يقول : ليس له كيفية ولا ماهية . فإن قيل : معنى قوله الاستواء معلوم أن ورود هذا اللفظ في القرآن معلوم كما قاله بعض أصحابنا الذين يجعلون معرفة معانيها من التأويل الذي استأثر الله بعلمه ، قيل : هذا ضعيف ، فإن هذا من باب تحصيل الحاصل ، فإن السائل قد علم أن هذا موجود في القرآن ، وقد تلا الآية ، وأيضاً فلم يقل ذكر الاستواء في القرآن ، ولا إخبار الله بالاستواء ، وإنما قال : الاستواء معلوم ، فأخبر عن الاسم المفرد أنه معلوم ، لم يخبر عن الجملة ، وأيضاً فإنه قال : والكيف مجهول ، ولو أراد ذلك لقال : معنى الاستواء مجهول ، أو تفسير الاستواء مجهول ، أو بيان الاستواء غير معلوم ، فلم ينف إلا العلم بكيفية الاستواء ، لا العلم بنفس الاستواء ، وهذا شأن جميع ما وصف الله به نفسه . لو قال في قوله : { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [ طه : 46 ] ، كيف يسمع وكيف يرى ؟ لقلنا : السمع والرؤية معلوم والكيف مجهول . ولو قال : كيف كلم موسى تكليماً ؟ لقلنا : التكليم معلوم والكيف غير معلوم . وأيضاً فإن من قال هذا من أصحابنا وغيرهم من أهل السنة يقرون بأن الله فوق العرش حقيقة ، وأن ذاته فوق ذات العرش ، لا ينكرون معنى الاستواء ، ولا يرون هذا من المتشابه الذي لا يعلم معناه بالكلية . ثم السلف متفقون على تفسيره بما هو مذهب أهل السنة . قال بعضهم : ارتفع على العرش : علا على العرش . وقال بعضهم عبارات أخرى . وهذه ثابتة عن السلف . وقد ذكر البخاري في صحيحه بعضها في آخره ، في كتاب الرد على الجهمية .
وأما التأويلات المحرفة مثل استولى وغير ذلك ، فهي من التأويلات المبتدعة لما ظهرت الجهمية . وأيضاً قد ثبت أن اتباع المتشابه ليس في خصوص الصفات ، بل في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : < يا عائشة ! إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه ؛ فأولئك الذي سمى الله ، فاحذريهم > ، وهذا عام . وقصة صبيغ بن عسل مع عُمَر بن الخطاب من أشهر القضايا ، فإنه بلغه أنه يسأل عن متشابه القرآن حتى رآه عمر ، فسأل عمر عن : { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً } [ الذاريات : 1 ] ، فقال : ما اسمك ؟ قال : عبد الله صبيغ ، فقال : وأنا عبد الله عمر ، وضربه الضرب الشديد . وكان ابن عباس إذا ألح عليه رجل في مسألة من هذا الجنس يقول : ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع عمر بصبيغ . وهذا لأنهم رأوا أن غرض السائل ابتغاء الفتنة لا الاسترشاد والاستفهام ، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : < إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه ... > . وكما قال تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ } فعاقبوهم على هذا القصد الفاسد ، كالذي يعارض بين آيات القرآن . وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال : لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض فإن ذلك يوقع الشك في قلوبهم ومع ابتغاء الفتنة ابتغاء تأويله الذي لا يعلمه إلا الله ، فكان مقصودهم مذموماً ، ومطلوبهم متعذراً ، مثل أغلوطات المسائل التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها . ومما يبين الفرق بين المعنى والتأويل أن صبيغاً سأل عن الذاريات وليست من الصفات . وقد تكلم الصحابة في تفسيرها مثل علي بن أبي طالب مع ابن الكواء لما سأله عنها ، كره سؤاله ، لما رآه من قصده ، لكن عليّ كان رعيته ملتوية عليه ، لم يكن مطاعاً فيهم طاعة عمر حتى يؤدبه ، والذاريات والحاملات والجاريات والمقسمات فيها اشتباه ، لأن اللفظ يحتمل الرياح والسحاب والنجوم والملائكة ويحتمل غير ذلك ، إذ ليس في اللفظ ذكر الموصوف . والتأويل الذي لا يعلمه إلا الله هو أعيان الرياح ومقاديرها وصفاتها وأعيان السحاب وما تحمله من الأمطار ومتى ينزل المطر . وكذلك في الجاريات والمقسمات ، فهذا لا يعمله إلا الله تعالى . وكذلك في قوله : " أنا ونحن " ونحوهما من أسماء الله التي فيها معنى الجمع كما اتبعته النصارى ، فإن معناه معلوم وهو الله سبحانه ، لكن اسم الجمع يدل على تعدد المعاني بمنزلة الأسماء المتعددة ، مثل العليم والقدير والسميع والبصير ، فإن المسمى واحد ، ومعاني الأسماء متعددة ، فهكذا الاسم الذي لفظه الجمع . وأما التأويل الذي اختص الله به ، فحقيقة ذاته وصفاته ، كما قال مالك : والكيف مجهول فإذا قالوا : ما حقيقة علمه وقدرته وسمعه وبصره ؟ قيل : هذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله . وما أحسن ما يعاد التأويل إلى القرآن كله . فإن قيل : فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس : < اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل > . قيل : أما تأويل الأمر والنهي فذاك يعلمه ، واللام هنا للتأويل المعهود ، لم يقل تأويل كل القرآن . فالتأويل المنفي هو تأويل الأخبار التي لا يعلم حقيقة مخبرها إلا الله ، والتأويل المعلوم هو الأمر الذي يعلم العباد تأويله . وهذا كقوله : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } [ الأعراف : 53 ] ، وقوله : { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } [ يونس : 39 ] ، فإن المراد تأويل الخبر الذي فيه عن المستقبل ، فإنه هو الذي ينتظر ويأتي ، ولما يأتهم . وأما تأويل الأمر والنهي فذاك في الأمر ، وتأويل الخبر عن الله وعمن مضى إن أدخل في التأويل لا ينتظر ، والله سبحانه أعلم وبه التوفيق . انتهى كلام الشيخ تقي الدين . وإنما سقته بطوله لما أن هذا البحث من المعارك المهمة التي قل من حررها ونهج فيها منهج الحق كالشيخ قدس سره . ومع ما في خلال البحث من القواعد الجليلة في فن التفسير . فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين . والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .
وقال الإمام الجليل أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليماني في كتاب " إيثار الحق على الخلق " في بحث سبب الاختلاف الشديد بين الفرق ما نصه :
وأما الأصل الثاني وهو السمع فهو اختلافهم في أمرين :
أحدهما : في معرفة المحكم والمتشابه أنفسهما والتمييز بينهما حتى يرد المتشابه إلى المحكم .
وثانيهما : اختلافهم هل يعلمون تأويل المتشابه ، ثم اختلافهم في تأويله على تسليم أنهم قد عرفوا المتشابه .
ولنذكر سبب وقوع المتشابه على العقول من حيث الحكمة والدقة في كتب الله تعالى أولاً ، والمشهور أن سببه الابتلاء بالزيادة في مشقة التكليف لتعظيم الثواب ، وهذا أنسب بالمتشابه من حيث اللفظ . وأما أنا فوقع لي أن سببه زيادة علم الله على علم الخلق ، فإن العوائد التجربية, والأدلة السمعية, دلت على امتناع الإتفاق في تفلصيل الحكم, وتفاصيل التحسين والتقبيح ، ولذلك وقع الاختلاف بين أهل العصمة من الملائكة والأنبياء ، كما قال تعالى حاكياً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله : { مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ ص : 69 ] ، وحكى الله تعالى اختلاف سليمان وداود ، وموسى وهارون ، وموسى والخضر . وصح في الحديث اختلاف موسى وآدم ، واختلاف الملائكة في حكم قاتل المائة نفس ، إلى أمثال لذلك قد أفردتها لبيان امتناع الاتفاق في نحو ذلك ، وإن علة الاختلاف التفاصيل في العلم ، فوجب من ذلك أن يكون في أحكام الله تعالى وحكمه ما تستقبحه عقول البشر ، لأن الله تعالى لو ماثلنا في جميع الأحكام والحكم دل على مماثلته لنا في العلم المتعلق بذلك وفي مؤداه ولطائفه وأصوله وفروعه ولذلك تجد الأمثال والنظراء في العلوم أقل اختلافاً . خصوصاً من المقلدين . وإنما عظم الاختلاف بين الخضر وموسى لما خص به الخضر عليه [ في المطبوع : عليهما ] السلام . وهذه فائدة نفيسة جداً ، وبها يكون ورود المتشابه أدل على الله تعالى وعلى صدق أنبيائه ، لأن الكذابين إنما يأتون بما يوافق الطباع ، كما هو دين القرامطة والزنادقة . وقد أشار السمع إلى ذلك بقوله تعالى : { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ } [ المؤمنون : 71 ] . وقال في رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } [ الحجرات : 7 ] . وكيف يستنكر اختلاف الْإِنْسَاْن الظلوم الجهول وعلام الغيوب الذي جمع معارف العارفين في علمه مثل ما أخذه العصفور في منقاره من البحر الأعظم ؟ بل كيف لا يختص هذا الرب الأعظم بمعرفة ما لا نعرفه من الحكم اللطيفة التي يستلزم تفرده بمعرفته : أن يتفرد بمعرفة حسن ما تعلقت به وتأويله ، وبهذا ينشرح صدر العارف للإيمان بالمتشابه ، والإيمان بالغيب في تأويله . ولنذكر بعد هذا كل واحد من الأمرين المقدم ذكرهما على الإيجاز .
أما الأمر الأول : وهو اختلافهم في ماهيتهما . فمنهم من قال : المحكم ما لا يحتمل إلا معنى واحداً ، والمتشابه ما احتمل أكثر من معنى . فهؤلاء رجعوا بالمحكم إلى النص الجلي ، وما عداه متشابه ، وعزاه الإمام يحيى إلى أكثر المتكلمين وطوائف من الحشوية . ومنهم من قال : المحكم ما كان إلى معرفته سبيل ، والمتشابه ما لا سبيل إلى معرفته بحال ، نحو قيام الساعة ، والحكمة في العدد المخصوص في حملة العرش ، وخزنة النار . ومنهم من قصر المتشابه على آيات مخصوصة . ثم اختلفوا فمنهم من قال : هي الحروف المقطعة في أوائل السور ، ومنهم من قال آيات الشقاوة والسعادة ، ومنهم من قال : المنسوخ . ومنهم من قال : القصص والأمثال . ومنهم من عكس فقال : المحكم آيات مخصوصة ، وهي آيات الحلال والحرام وما عداها متشابه ، إلى غير ذلك - حكى الجميع الإمام يحيى في " الحاوي " - واختار أن المحكم ما علم المراد بظاهره بدليل عقلي أو نقلي ، والمتشابه به : ما لم يعلم المراد منه لا على قرب ولا على بعد ، مثل قيام الساعة والأعداد للمبهمة . وقد ترك الإمام والشيخ ابن تيمية وجهاً آخر من المتشابه الذي يحتاج إلى التأويل مما لا يعلمه إلا الله على الصحيح ، وذلك وجه الحكم المعينة فيما لا تعرف العقول وجه حسنه ، مثل خلق أهل النار ، وترجيح عذابهم على العفو ، مع سبق العلم وسعة الرحمة وكمال القدرة على كل شيء . والدليل على أن الحكمة الخفية فيه تسمى تأويلاً له ، ما ذكره الله تعالى في قصة موسى والخضر ، فإن قوله : { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً } [ الكهف : 78 ] ، صريح في ذلك ، وهذا مراد في الآية ، لأن الله وصف الذين في قلوبهم زيغ بابتغائهم تأويله وذمهم بذلك ، وهم لا يبتغون علم العاقبة ، عاقبة الخبر عن الوعد والوعيد ، وما يؤول إليه ، على ما فسره الشيخ . فهم لا يبتغون الجنة والنار والقيامة وذات الرب سبحانه كما يبغيها طالب العيان ، إنما يستقبحون شيئاً من الظواهر بعقولهم ، فيتكلفون لها معاني كثيرة يختلفون فيها ، وكل منهم يتفرد بمعنى من غير حجة صحيحة إلا مجرد الاحتمال ، وربما خالف ذلك التأويل المعلوم من الشرع فتأولوه ، وربما استلزم الوقوع في أعظم مما فروا منه ، والذي وضح لي في هذا وضوحاً لا ريب فيه بحسن توفيق الله أمور :
أحدها : أن الكلام في ذات الله تعالى على جهة التصوير والتفصيل ، أو على جهة الإحاطة على حد علم الله ، كلاهما باطل ، بل من المتشابه الممنوع الذي لا يعلمه إلا الله تعالى لقوله تعالى : { وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [ طه : 110 ] ، ولقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] ، وإنما تتصور المخلوقات وما هو نحوها . ولما روي من النهي عن التفكير في ذات الله ، والأمر في التفكير في آلاء الله ، ولما اشتهر عن أمير المؤمنين عليه السلام أن ذلك مذهبه ، حتى رواه عنه الخصوم . ومن أشهر ما حفظ عنه عليه السلام في ذلك قوله في امتناع معرفة الله عز وجل على العقول : امتنع منها بها ، وإليها حاكمها . ومن التفكير في الله والتحكم فيه والدعوى الباطلة على العقول والتكلف لتعريفها ما لا تعرفه ، حدثت هنا البدع المتعلقة بذات الله وصفاته وأسمائه . ومن البدع في هذا الموضع بدع المشبهة على اختلاف أنواعهم ، وبدع المعطلة على اختلافهم أيضاً ، فغلاتهم يعطلون الذات والصفات والأسماء ، الجميع ، ومهم الباطنية ، ودونهم الجهمية . ومن الناس من يوافقهم في بعض ذلك دون بعض . فالفريقان المشبهة والمعطلة إنما أُتوا من تعاطي علم ما لا يعلمون . ولو أنهم سلكوا مسالك السلف في الإيمان بما ورد من غير تشبيه لسلموا . فقد أجمعوا على أن طريقة السلف أسلم ، ولكنهم ادعوا أن طريقة الخلف أعلم ، فطلبوا العلم من غير مظانه ، بل طلبوا علم ما لا يعلم ، فتعارضت أنظارهم العقلية ، وعارض بعضهم بعضاً في الأدلة السمعية . فالمشبهة ينسبون خصومهم إلى رد آيات الصفات ، ويدعون فيها ما ليس من التشبيه . والمعطلة ينسبون خصومهم وسائر أئمة الإسلام جميعاً إلى التشبيه ، ويدعون في تفسيره ما لا تقوم عليه حجة . والكل حرموا طريق الجمع بين الآيات والآثار ، والاقتداء بالسلف الأخيار ، والاقتصار على جليات الأبصار ، وصحاح الآثار . وقد روى الإمام أبو طالب عليه السلام في أماليه بإسناده من حديث زيد بن أسلم : أن رجلاً سأل أمير المؤمنين عليه السلام في مسجد الكوفة فقال : يا أمير المؤمنين ! هل تصف لنا ربنا فنزداد له حباً ؟ فغضب عليه السلام ونادى : " الصلاة جامعة " فحمد الله وأثنى عليه إلى قوله : فكيف يوصف الذي عجزت الملائكة مع قربهم من كرسي كرامته ، وطول ولههم إليه ، وتعظيم جلال عزته ، وقربهم من غيب ملكوت قدرته ، أن يعلموا من علمه إلا ما علمهم ، وهم من ملكوت القدس كلهم . ومن معرفته على ما فطرهم عليه فقالوا : { سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [ البقرة : 32 ] . فعليك أيها السائل بما دل عليه القرآن من صفته ، وتقدمك فيه الرسل بينك وبين معرفته . فأتم به واستضئ بنور هدايته ، فإنما هي نعمة وحكمة أوتيتها . فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين ، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه ولا في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا عن أئمة الهدى أثره ، فكل علمه إلى الله سبحانه ، فإنه منتهى حق الله عليك . وقد روى السيد في " الأمالي " أيضاً الحديث المشهور في كتاب الترمذي عن علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : < ستكون فتنة > ! قلت : فما المخرج منها ؟ قال : < كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وفصل ما بينكم ,فهو الفاصل بين الحق والباطل ، من ابتغى الهدى من غيره أضله الله > إلى قوله : < من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم > . ورواه في أماليه بسند آخر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه .
ورواه ابن الأثير في " الجامع " عن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه ، فهو مع شهرته في شرط أهل الحديث ، متلقى بالقبول عند علماء الأصول ، ولكن المبتدعة يرون تصانيفهم أهدى منه ، لبيانهم فيها ، على زعمهم ، المحكم من المتشابه . فمنهم من صرح بذلك وقال : إن كلامه أنفع من كلام الله تعالى ، وكتبه أهدى من كتب الله ، وهم الحسينية أصحاب الحسين بن القاسم العناني ، وقد حمله الإمام المطهر بن يحيى على الجنون ، وقيل : لم يصح عنه . ومنهم من يلزمه ذلك وإن لم يصرح به . فهذا الأمر الأول من المتشابه ، وهو التحكم بالنظر في ذات الله تعالى ، وما يؤدي إليه .
الأمر الثاني : من المتشابه الواضح تشابهه والمنع منه ، هو النظر في سر القدر السابق في الشرور مع عظيم رحمة الله تعالى وقدرته على ما يشاء . وقد ثبت في كتاب الله تعالى تحير الملائكة الكرام عليهم السلام في ذلك وسؤالهم عنه بقولهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ] . ثم ساق خبر آدم وتعليمه الأسماء وتفضيله في ذلك عليهم إلى قوله : { أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [ البقرة : 33 ] ، وفي ذلك إشارة واضحة إلى ما سيأتي بيانه ، من أن مراد الله بالخلق هم أهل الخير ، فالخلق كلهم كالشجرة ، وأهل الخير ثمرة تلك الشجرة ، وإليه الإشارة بقوله : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، وفي حديث الخليل عليه السلام حين دعا على العصاة ، قال الله : كفّ عن عبادي ، إن مصير عبدي مني إحدى ثلاث : إما أن يتوب فأتوب عليه ، أو يستغفرني فأغفر له ، أو أخرج من صلبه من يعبدني - رواه الطبراني - .
وقال الإمام الغزالي في كتاب العلم في " الإحياء " في أقسام العلوم الباطنة : ولا يبعد أن يكون ذكر بعض الحقائق مضراً ببعض الخلق ، كما يضر نور الشمس أبصار الخفافيش ، وكما يضر ريح الورد بالجعل . وكيف يبعد هذا ، وقولنا : إن كل شيء بقضاء من الله وقدر - حق في نفسه ، وقد أضر سماعه بقوم حيث أوهم ذلك عندهم دلالة على السفه ، ونقيض الحكمة ، والرضا بالقبيح والظلم . وألحد ابن الراوندي وطائفة من المخذولين بمثل ذلك . وكذلك سر القدر لو أفشي أوهم عند أكثر الخلق عجزاً ، إذ تقصر أفهامهم عن إدراك ما يزيل هذا الوهم عنهم .
وقال في شرح أسماء الله الحسنى في شرح الرحمن الرحيم : والآن إن خطر لك نوع من الشر لا ترى فيه خيراً ، أو إن تحصيل ذلك الخير من غير شر أولى ، فاتهم عقلك القاصر في كلا الطرفين ، فإنك مثل أم الصبي التي ترى الحجامة شراً محضاً . والغبي الذي يرى القصاص شراً محضاً ، لأنه ينظر إلى خصوص شخص المقتول ، وأنه في حقه شر محض ، ويذهل عن الخير العام الحاصل للناس كافة ، ولا يدري أن التوصل بالشر الخاص إلى الخير العام خير محض ، ولا ينبغي لحكيم أن يهمله . هذا أو قريب من هذا .
وفي بعض كلامه نظر قد أوضحته في " العواصم " والسر في ذلك : أن الله تعالى لا يريد الشر لكونه شراً قطعاً ، وإنما يريده وسيلة إلى الخير الراجح كما قال : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 179 ] وكما صح في الحدود والمصائب أنها كفارات ، فهذا هو سر القدرة في الجملة . وإنما الذي خفي تفصيله ومعرفته في عذاب الآخرة وشقاوة الأشقياء ، فمن الناس من كبر ذلك عليه وأداه إلى الحكم بنفي التحسين والتقبيح ، فصرحوا بنفي حكمة الله تعالى ، وهم غلاة الأشعرية ، إلا بمعنى إحكام المصنوعات في تصويرها لا سواه ، ومن الناس من أداه ذلك إلى القول بالجبر ، ونفي قدرة العباد واختيارهم ، ومنهم من جمع بينهما . ومن الناس من جعل الوجه في تحسين ذلك من الله عدم قدرته سبحانه على هدايتهم ، وهم جمهور المعتزلة ، لكنهم يعتذرون عن تسميته عجزاً ، ويسمونه غير مقدور . ومنهم من جعل العذر في ذلك أن الله لا يعلم الغيب ، وهم غلاة القدرية ، نفاة الأقدار . وقد تقصيتُ الردود الواضحة عليهم ، والبراهين الفاضحة لهم في " العواصم " ، وجمعت في ذلك ما لم أسبق إليه ولا إلى قريب منه ، في علمي . فتمت هذه المسألة في مجلد ضخم ، وبلغت أحاديث وجوب الإيمان بالقدر اثنين وسبعين ، وأحاديث صحته مائة وخمسة وخمسين ، الجملة مائتان وسبعة وعشرون حديثاً ، من غير الآيات القرآنية ، والأدلة البرهانية . وصنف ابن تيمية في بيان الحكمة في العذاب الأخرويّ ، وتبعه تلميذه ابن قيّم الجوزية ، وبسط ذلك في كتابه " حادي الأرواح إلى ديار الأفراح " ، فأفردت ذلك في جزء لطيف وزدت عليه . ومضمون كلامهم : أنه لا يجوز اعتقاد أن الله لا يريد الشر لكونه شراً ، بل لا بد من خير راجح يكون ذلك الشر وسيلة إليه ، وذلك الخير هو تأويل ذلك الشر السابق له على نحو تأول الخضر لموسى . وطردوا ذلك في شرور الدارين معاً . ونصر ذلك الغزالي في شرح " الرحمن الرحيم " . ولنورد في ذلك حديثاً واحداً ، مما يدل على المنع من الخوض في تعيين الحكمة في ذلك فنقول : قال البيهقي في كتابه " الأسماء والصفات " عن عَمْرو بن ميمون ، عن ابن عباس : لما بعث الله موسى وكلمه قال : اللهم ! أنت رب عظيم ، ولو شئت أن تطاع لأطعت ، ولو شئت أن لا تعصى لما عصيت ، وأنت تحب أن تطاع ، وأنت في ذلك تُعصى ، فكيف هذا يا رب ؟ فأوحى الله إليه أني لا أسأل عما افعل ، وهم يسألون . فانتهى موسى .
ورواه الهيثمي في " مجمع الزوائد " ، وعزاه إلى الطبراني ، وزاد فيه : فلما بعث الله عزيراً سأل الله مثل ما سأل موسى ، ثلاث مرات ، فقال الله تعالى له : أتستطيع أن تصرّ صرة من الشمس ؟ قال : لا . قال : أفتستطيع أن تجيء بمكيال من الريح ؟ قال : لا . قال : أفتستطيع أن تجيء بمثقال أو بقيراط من نور ؟ قال : لا . قال : فهكذا لا تقدر على الذي سألت عنه ، أما أني لا أجعل عقوبتك إلا أني أمحو اسمك من الأنبياء ، فلا تذكر فيهم . فلما بعث الله عيسى ورأى منزلته سأل عن ذلك ، كموسى ، وأجيب عليه بمثل ذلك ، وقال الله تعالى : لئن لم تنته لأفعلن بك كما فعلت بصاحبك بين يديك ، فجمع عيسى من معه فقال : القدر سر الله تعالى فلا تكلفوه .
وروى الطبراني عن وهب عن ابن عباس أنه سئل عن القدر ؟ فقال : وجدت أطول الناس فيه حديثاً أجهلهم به . وأضعفهم فيه حديثاً أعلمهم به ، ووجدت الناظر فيه كالناظر في شعاع الشمس ، كلما ازداد فيه نظراً ازداد تحيراً . قلت : ويشهد لهذه الآيات ما جاء في كتاب الله من قول الملائكة : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا } [ البقرة : 30 ] . والجواب الجملي عليهم كما مر .
وأما أحاديث النهي عن الخوض في القدر فعشرة أحاديث ، رجال بعضهم ثقات ، وبعضها شواهد لبعض ، كما أوضحته في " العواصم " وأقل من هذا مع شهادة القرآن والبرهان لذلك ، يكفي المنصف . وما حدث بسبب الخوض من الضلالات زيادة عبرة وحيرة .
الأمر الثالث : من المتشابه : الحروف المقطعة أوائل السور ، فإن الجهل بالمراد بها معلوم ، كالألم والصحة ، والفرق بينها وبين أقيموا الصلاة ، ونحو ذلك ضروري ، ودعوى التمكن من معرفة معانيها تستلزم جواز أن ينزل الله سورة كلها كذلك أو كتاباً من كتبه الكريمة ، ويستلزم جواز أن يتخاطب العقلاء بمثل ذلك ، ويلوموا من طلب منهم بيان مقاصدهم ، ونحو ذلك ، وهذا هو اختيار زيد بن علي عليه السلام ، والقاسم والهادي عليهما السلام ، وهو نص في تفسيرهما المجموع . وكذلك الإمام يحيى عليه السلام ، ذكره في " الحاوي " . وقولهم : إنا مخاطبون بها فيجب أن نفهمها ؛ مقلوب .
وصوابه : أن لا نفهمها ، فيجب أن لا نكون مخاطبين بفهمها . وقد ذكرت في الحجة على أنها غير معلومة أكثر من عشرين حجة في تكميلة ترجيح أساليب القرآن .
الأمر الرابع من المتشابه : المجمل الذي لا يظهر معناه بعلم ولا ظن ، سواء كان بسبب الاشتراك في معناه ، أو لغرابته ، أو عدم صحة تفسيره في اللغة والشرع ، أو غير ذلك . فقد وقع الوهم في المجمل لنوح عليه السلام ، كيف لغيره ؟ وذلك قوله : : { إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [ هود : 45 - 46 ] .
وأما المحكوم فهو ما عدا المتشابه ، وغالبه النص الجلي ، والظاهر الذي لم يعارض والمفهوم والصحيح الذي لم يعارض ، والخاص والمقيد وإن عارضهما العام والمطلق . ويلحق بهذا فوائد :
الأولى : الصحيح في قوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } الوقف على الله ، بدليل ذم مبتغي تأويل المتشابه في الآية . وهو اختيار الإمام يحيى في " الحاوي " واحتج بأن " أمّا " للتفصيل على بابها ، والتقدير : و " أما الراسخون " بدليل قوله تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } كما تقول : أما زيد فعالم وعمرو جاهل ، أي : وأما عَمْرو جاهل ، يوضحه أن المخالف مسلم أن هذا هو الظاهر منها ، لكنه يقول : إنه يجب تأويلها على أن المراد ذمهم بابتغاء تأويله الباطل ، فيقيد إطلاق الآية بغير حجة ، ويجعلها من المتشابه ، مع أنها الفارقة بين المحكم والمتشابه ، وهذا خلف .
وقد روى الحاكم عن ابن عباس أنه قرأ : " ويقول الراسخون " وقال : صحيح . ورواه الزمخشري في كشافه قراءة عن أبيّ وغيره ، ورواه الإمام أبو طالب في أماليه عن علي عليه السلام ، ولم يتأوله ولم يطعن فيه . وهو في " النهج " أيضاً ، وهو نص لا يمكن تأويله . فإن لفظه عليه السلام : اعلم أيها السائل أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب ، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً ، وسمى تركهم التعمق ، فيما لم يكلفهم البحث عنه ؛ رسوخاً . فاقتصر على ذلك . انتهى بحروفه .
وأيضاً فلا يجب علم جميع المكلفين بذلك عند الخصوم ، إذ في المتكلفين الأمي والعجمي ونحوهم . وإذا كان علم البعض يكفي ويخرج الخطاب بذلك عن العبث ؛ جاز أن يكون ذلك البعض هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن شاء الله من ملائكته وخواص عباده . والله سبحانه أعلم .
الفائدة الثانية : إذا تعارض العام والخاص ، فالمحكم هو الخاص والبناء عليه واجب ، وفيه الجمع بينهما ، وفي العكس طرح الخاص مع رجحانه بالنصوصية ، وهي قاعدة كبيرة فاحفظها . ولا خلاف فيها في الاعتقاد ، لعدم القاعدة في التاريخ فيه ، ولذلك أجمعوا على إثبات الخلة للمتقين ، وتأويل نفي الخلة المطلق ، فتأمل ذلك .
الفائدة الثالثة : إذا كان التحسين العقلي مع بعض السمع فهو المحكم ، والمتشابه مخالفه ، لما وضح من تأويل الخضر بموافقة العقل ، وفي مخالفة هذه القاعدة عناد بيّن وضلال كبير ، فاعرفها واعتبر مواضعها ترشد - إن شاء الله تعالى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ } [ 8 ]
.
{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } من مقال الراسخين ، أي : لا تمل قلوبنا عن الهدى بعد إذا أقمتها عليه ، ولا تجعلها كالذين في قلوبهم زيغ . الذين يتبعون ما تشابه من القرآن ، ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم : { وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } تثبت بها قلوبنا : { إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ } كثير النعم والإفضال ، جزيل العطايا والنوال . وفيه دلالة على أن الهدى والضلال من قبله تعالى . وعن عائشة رضي الله عنها : قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو : < يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك > قلت : يا رسول الله ! ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء ! فقال : < ليس من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن ، إذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه > . وهو في الصحيح والسنن .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [ 9 ]
.
{ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } وهذا من تتمة كلام الراسخين في العلم ، وذلك لأنهم لما طلبوا من الله تعالى أن يصونهم عن الزيغ ، وأن يخصهم بالهداية والرحمة ، فكأنهم قالوا : ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا ، فإنها منقضية منقرضة . وإنما الغرض الأعظم منه : ما يتعلق بالآخرة فإنها القصد والمآل . فإنا نعلم أنك يا إلهنا جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ، ونعلم أن وعدك لا يكون خلفاً ، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبداً ، ومن منحته الرحمة والهداية بقي هناك في السعادة والكرامة أبداً . فالغرض الأعظم من ذلك الدعاء ؛ ما يتعلق بالآخرة - أفاده الرازي - ثم قال : احتج الجبائي بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق . قال : وذلك لأن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد بدليل قوله تعالى : { أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً } [ الأعراف : 44 ] . والوعد والموعد والميعاد واحد . وقد أخبر في هذه الآية أنه لا يخلف الميعاد . فكان هذا دليلاً على أنه لا يخلف في الوعيد . والجواب : لا نسلّم أنه تعالى يوعد الفساق مطلقاً ، بل ذلك الوعيد عندنا مشروط بشرط عدم العفو ، كما أنه بالاتفاق مشروط بشرط عدم التوبة ، فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل ، فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل ، سلمنا أنه يوعدهم ، ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد . أما قوله تعالى : { فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً } ، قلنا لم لا يجوز أن يكون ذلك ، كما في قوله : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عِمْرَان : 21 ] وقوله : { ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } [ الدخان : 49 ] . وأيضاً لِمَ لا يجوز أن يكون المراد منه أنهم كانوا يتوقعون من أوثانهم أنها تشفع لهم عند الله ، فكان المراد من الوعد تلك المنافع .
وذكر الواحدي في " البسيط " طريقة أخرى فقال : لم لا يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء ، دون وعيد الأعداء ؛ لأن خلف الوعيد كرم عند العرب . قال : والدليل عليه أنهم يمدحون بذلك ، قال الشعر :
~إذا وعد السرّاءَ أَنجز وعده وإن أوعد الضراءَ فالعفو مانعه
وروى المناظرة التي دارت بين أبي عَمْرو بن العلاء ، وبين عَمْرو بن عبيد . قال أبو عَمْرو بن العلاء لعمرو بن عبيد : ما تقول في أصحاب الكبائر ؟ قال : أقول إن الله وعد وعداً وأوعد إيعاداً ، فهو منجز إيعاده ما هو منجز وعده ، فقال أبو عَمْرو بن العلاء : إنك رجل أعجم ، لا أقول أعجم اللسان ، ولكن أعجم القلب . إن العرب تعدّ الرجوع عن الوعد لؤماً . وعن الإيعاد كرماً ، وأنشد :
~وإني وإن أوعدته أو وعدته لمكذب إيعادي ومنجز موعدي
واعلم أني المعتزلة حكوا أن أبا عَمْرو بن العلاء لما قال هذا الكلام ، قال له عَمْرو بن عبيد : يا أبا عَمْرو ؟ فهل يسمى الله مكذب نفسه ؟ فقال : لا ، فقال عمرو ابن عبيد فقد سقطت حجتك . قالوا : فانقطع عَمْرو بن العلاء .
وعندي أنه كان لأبي عَمْرو بن العلاء أن يجيب عن هذا السؤال فيقول : إنك قست الوعيد على الوعد ، وأنا إنما ذكرت هذا لبيان الفرق بين البابين ، وذلك لأن الوعد حق عليه ، والوعيد حق له ، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم ، ومن أسقط حق غيره فذلك هو اللؤم . فظهر الفرق بين الوعد والوعيد ، وبطل قياسك . وإنما ذكرت هذا الشعر لإيضاح هذا الفرق . فأما قولك : لو لم يفعل لصار كاذباً ومكذباً نفسه ، فجوابه : أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيد ثابتاً جزماً من غير شرط . وعندي جميع الوعيدات مشروطة بعدم العفو ، فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى . فهذا ما يتعلق بهذه الحكاية . والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } [ 10 ]
.
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ } التي يبذلونها في جلب المنافع ودفع المضار : { وَلاَ أَوْلاَدُهُم } الذي بهم يتناصرون في الأمور المهمة : { مِّنَ اللّهِ } أي : من عذابه تعالى : { شَيْئاً } من الإغناء ، أي : لن تدفع عنهم شيئاً من عذابه . يقال : ما أغنى فلان شيئاً ، أي : لم ينفع في مهم ، ولم يكف مؤنة . ورجل مغن ، أي : مجزئ كاف - قاله الأزهري . ونظير هذه الآية قوله تعالى : { يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء : 88 - 89 ] ، { وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } بفتح الواو أي : حطبها ، وقرئ بالضم بمعنى أهل وقودها ، وأكثر اللغويين على أن الضم للمصدر ، أي : التوقد ، والفتح للحطب . وقال الزجاج : المصدر مضموم ، ويجوز فيه الفتح ، وهذا كقوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [ الأنبياء : 98 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ 11 ]
.
{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } خبر مبتدأ محذوف ، أي : دأب هؤلاء في الكفر كدأب آل فرعون . والدأب بالسكون ، ويحرك مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه ، فوضع موضع ما عليه الْإِنْسَاْن من شأنه وحاله ، مجازاً ، يقال : هذا دأبك أي : شأنك وعملك . قال الأزهري : عن الزجاج في هذه الآية : أي : كأمر آل فرعون ، كذا قال أهل اللغة ، قال الأزهري : والقول عندي فيه - والله أعلم - أن دأبهم هنا اجتهادهم في كفرهم وتظاهرهم على النبي صلى الله عليه وسلم ، كتظاهر آل فرعون على موسى عليه الصلاة والسلام . يقال : دأبت أدأب دأباً ودؤوباً إذا اجتهدت في الشيء - انتهى - قال أبو البقاء : وفي ذلك تخويف لهم لعلمهم بما حل بآل فرعون : { وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي : من قبل آل فرعون من الأمم الكافرة ، فالموصول في محل جر عطف على ما قبله : { كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } بيان وتفسير لدأبهم الذي فعلوا على طريقة الاستئناف المبني على السؤال المقدر : { فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ } أي : عاقبهم وأهلكهم بسببها { وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي : الأخذ بالذنب . فيه تهويل للمؤاخذة وزيادة تخويف للكفرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } [ 12 ]
{ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } بهذا الدين وهم اليهود " للزاوية الآتية " أو نصارى نجران ، لأن السورة نزلت لإحقاق الحق معهم ، أو أعم : { سَتُغْلَبُونَ } أي : في الدنيا : { وَتُحْشَرُونَ } أي : يوم القيامة : { إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } الفراش ، أي : فكفركم ككفر آل فرعون بموسى ، وقد فعل بقريش لكفرهم ما رأيتم ، فسيفعل بكم ما فعل بهم ، وهو أنكم تغلبون كما غلبوا . وقد صدق الله وعده بقتل قريظة ، وإجلاء بني النضير ، وفتح خيبر ، وضرب الجزية على من عداهم ، وهو من أوضح شواهد النبوة . وقد روى أبو داود في سننه والبيهقي في الدلائل من طريق ابن إسحاق ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصاب من أهل بدر ما أصاب ، ورجع إلى المدينة ، جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال : < يا معشر يهود ! أسلموا قبل يصيبكم الله بما أصاب قريشاً > فقالوا : يا محمد ! لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفراً من قريش ، كانوا أغماراً لا يعرفون القتال ، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس ، وأنك لم تلق مثلنا . فأنزل الله : { قُل لِّلَّذِينَ } إلى قوله : { لِأُولِي الْأَبْصَارِ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ } [ 13 ]
.
{ قَدْ كَانَ لَكُمْ } أيها الكافرون المتقدم ذكرهم : { آيَةٌ } عبرة ودلالة على أنكم ستغلبون ، وعلى أن الله معز دينه ، وناصر رسوله ، ومعلٍ أمره : { فِي فِئَتَيْنِ } أي : فرقتين : { الْتَقَتَا } يوم بدر للقتال : { الْتَقَتَا } يوم بدر للقتال : { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أي : طاعته ، وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، معهم فرسان وست أذرع وثمانية سيوف وأكثرهم رجالة : { وَأُخْرَى كَافِرَةٌ } وهم مشركو قريش ، وكانوا قريباً من ألف : { يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ } أي : يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين قريباً من ألفين ، أراهم الله إياهم ، مع قلتهم ، أضعافهم ليهابوهم ، ويجبنوا عن قتالهم ، وكان ذلك مدداً لهم من الله تعالى ، كما أمدهم بالملائكة . فإن قلت : فهذا مناقض لقوله في سورة الأنفال : { وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ } [ الأنفال : 44 ] ، قلت : قللوا أولاً في أعينهم حتى اجترؤوا عليهم ، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا ، فكان التقليل والتكثير في حالين مختلفين . ونظيره في المحمول على اختلاف الأحوال قوله تعالى : { فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ } [ الرحمن : 39 ] ، وقوله تعالى : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ } [ الصافات : 24 ] ، وتقليلهم تارة وتكثيرهم أخرى في أعينهم ، أبلغ في القدرة وإظهار الآية - كذا في " الكشاف " - قلت : أو يجاب بأنهم كثروا أولاً في أعينهم ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع ، ثم لما حصل التصافُّ والتقى الفريقان قلل الله هؤلاء في أَعْيَن هؤلاء ليقدم كل منهما على الآخر ليقضي الله أمراً كان مفعولاً : { رَأْيَ الْعَيْنِ } يعني : رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها ، معاينة كسائر المعاينات كذا في " الكشاف " : { وَاللّهُ يُؤَيِّدُ } أي : يقوي : { بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : التكثير والتقليل ، وغلبة القليل ، مع عدم العدة ، على التكثير الشاكي السلاح : { لَعِبْرَةً } أي : لاعتباراً وآية وموعظة : { لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ } لذوي العقول والبصائر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } [ 14 ]
.
{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ } كلام مستأنف سيق لبيان حقارة شأن الحظوظ الدنيوية بأصنافها ، وتزهيد الناس فيها ، وتوجيه رغباتهم إلى ما عنده تعالى ، إثر بيان عدم نفعها للكفرة الذي كانوا يتعززون بها . والمراد بالناس : الجنس - قاله أبو السعود : { حُبُّ الشَّهَوَاتِ } أي : المشتهيات ، وعبر عنها بذلك مبالغة في كونها مشتهاة مرغوباً فيها ، أو تخسيساً لها ، لأن الشهوة مسترذلة عند الحكماء ، مذموم من اتبعها ، شاهد على نفسه بالبهيمية { مِنَ النِّسَاء } في تقديمهن إشعار بعراقتهن في معنى الشهوة ؛ إذ يحصل منهن أتم اللذات : { وَالْبَنِينَ } للتكثر بهم ، وأمل قيامهم مقامهم من بعدهم ، والتفاخر والزينة : { وَالْقَنَاطِيرِ } أي : الأول الكثيرة ، وقوله : { الْمُقَنطَرَةِ } مأخوذة منها للتوكيد كقولهم ألف مؤلفة ، وبدرة مبدرة ، وإبل مؤبلة ، ودراهم مدرهمة : { مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ } قال الرازي : وإنما كانا محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء ، فمالكها كالمالك لجميع الأشياء ، وصفة المالكية هي القدرة ، والقدرة صفة كمال ، والكمال محبوب لذاته ، فلما كان الذهب والفضة أكمل الوسائل إلى تحصيل هذا الكمال الذي هو محبوب لذاته وما لا يوجد المحبوب إلا به فهو محبوب لا جرم كانا محبوبين : { وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ } أي : المرسلة إلى المرعى ترعى حيث شاءت ، أو التي عليها السيمياء - أي : العلامة - قال أبو مسلم : المراد من هذه العلامات الأوضاح والغرر التي تكون في الخيل ، وهي أن تكون الأفراس غراً محجلة : { وَالأَنْعَامِ } جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم لتحصيل الأموال النامية : { وَالْحَرْثِ } أي : الأرض المتخذة للغراس والزراعة : { ذَلِكَ } أي : المذكور : { مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } يتمتع به فيها ثم يفنى : { وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } أي : المرجع وهو الجنة ، فينبغي الرغبة فيه دون غيره . وفي إشعاره ذم من يستعظم تلك الشهوات ويتهالك عليها ، ويرجح طلبها على طلب ما عند الله ، وتزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة .
تنبيه :
في تزيين هذه الأمور المذكورات للناس إشارة لما تضمنته من الفتنة :
فأما النساء ، ففي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال : < ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء > .
وأما البنون ، ففي مسند أبي يعلى عن أبي سعيد مرفوعاً : الولد ثمرة القلب ، وإنه مجبنة مبخلة محزنة . أي : يجبن أبوه عن الجهاد خوف ضيعته ، ويمتنع أبوه من الإنفاق في الطاعة خوف فقره ، ويحزن أبوه لمرضه خوف موته ، وقد قال تعالى : { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ } [ التغابن : 14 ] ، وقيل لبعض النساك : ما بالك لا تبتغي ما كتب الله لك ؟ قال : سمعاً لأمر الله ، ولا مرحباً بمن عاش فتنني ، وإن مات أحزنني . يريد قوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ التغابن : 15 ] .
وأما القناطير المقنطرة : ففيها الآية قبل وقوله تعالى : { كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى } [ العلق : 6 - 7 ] وقال تعالى : { وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ } [ الإسراء : 83 ] ، فما يورث البطر مثل الغنى . وبه تستجمع أسباب السؤدد والرئاسة والمجد والتفاخر .
وأما الخيل فقد تكون على صاحبها وزراً : إذا ربطها فخراً ورياء ونواء لأهل الإسلام ، كما في الصحيح وفي مسند أحمد عن ابن مسعود مرفوعاً : الخيل ثلاثة : ففرس للرحمن ، وفرس للإنسان ، وفرس للشيطان . فأما فرس الرحمن فالذي يربط في سبيل الله ، فعلفه وروثه وبوله وذكر ما شاء الله . وأما فرس الشيطان : فالذي يقامر أو يراهن عليه . وأما فرس الْإِنْسَاْن فالفرس يرتبطها الْإِنْسَاْن يلتمس بطنها فهي تستر من فقر .
وأما الفتنة بالأنعام والحرث ففي معنى ما تقدم . والله أعلم .
ولما ذكر تعالى ما عنده من حسن المآب إجمالاً ، أشار إلى تفصيله مبالغة في الترغيب فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [ 15 ]
{ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ } أي : الشهوات المزينة لكم : { لِلَّذِينَ اتَّقَوْا } الله ولم ينهمكوا في شهواتهم : { عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } من أنواع الأشربة من العسل واللبن والخمر والماء وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، و : { لِلَّذِينَ اتَّقَوْا } خبر المبتدأ الذي هو : { جَنَّاتٌ } و : { تَجْرِي } صفة لها ، و : { عِندَ } إما متعلق بما تعلق به الجار من معنى الاستقرار ، وإما صفة للجنات في الأصل ، قدّم فانتصب على الحال . والعندية مفيدة لكمال علو رتبة الجنات وسمو طبقتها : { خَالِدِينَ فِيهَا } أي : ماكثين فيها أبد الآباد لا يبغون عنها حولاً : { وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } أي : من الأرجاس والأدناس البدنية والطبيعية مما لا يخلو عنه نساء الدنيا غالباً : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ } التنوين للتفخيم أي : رضوان لا يقدر قدره . وهذه اللذة الروحانية تتمة ما حصل لهم من اللذات الجسمانية وأكبرها ، كما قال تعالى في آية براءة : { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] ، أي : أعظم ما أعطاهم من النعيم المقيم . روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ! فيقولون : لبيك ربنا وسعديك . فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ؟ فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ قالوا : يا ربنا وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً > { وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } أي : عالم بمصالحهم فيجب أن يرضوا لأنفسهم ما اختاره لهم من نعيم الآخرة ، وأن يزهدوا فيما زهدهم فيه من أمور الدنيا . ثم وصف سبحانه الذين اتقوا ففازوا بتلك الكرامات بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [ 16 ]
{ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } قال الحاكم : في الآية دلالة على أنه يجوز للداعي أن يذكر طاعاته وما تقرب به إلى الله ، ثم يدعو . ويؤيده ما في الصحيحين من حديث أصحاب الغار ، وتوسل كل منهم بصالح عمله ، ثم تفريج الباري تعالى عنهم ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } [ 17 ]
.
{ الصَّابِرِينَ } أي : على البأساء والضراء وحين البأس : { وَالصَّادِقِينَ } في إيمانهم وأقوالهم ونياتهم : { وَالْقَانِتِينَ } المطيعين لله الخاضعين له : { وَالْمُنفِقِينَ } أموالهم في سبيل الله تعالى من الأرحام ، والقرابات ، وسد الخلات ، ومواساة ذوي الحاجات : { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } جمع سحر بفتحتين وفتح وسكون وهو الوقت الذي قبيل طلوع الفجر آخر الليل . وتسحر إذا أكل في ذلك الوقت . قال الحرالي : وفي إفهامه تهجدهم في الليل كما قال تعالى : { كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الذاريات : 17 - 18 ] .
وقال الرازي : واعلم أن المراد منه من يصلي بالليل ثم يتبعه بالاستغفار والدعاء ، لأن الْإِنْسَاْن لا يشتغل بالدعاء والاستغفار إلا أن يكون قد صلى قبل ذلك . فقوله : { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } يدل على أنهم كانوا قد صلوا بالليل - انتهى -
وقد روى ابن أبي حاتم أن عبد الله بن عُمَر كان يصلي من الليل ، ثم يقول : يا نافع ! هل جاء السحر ؟ فإذا قال : نعم ، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح . وروى ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أن نستغفر في آخر السحر سبعين مرة . وروى ابن جرير عن حاطب قال : سمعت رجلاً في السحر في ناحية المسجد وهو يقول : يا رب أمرتني فأطعتك ، وهذا السحر ، فاغفر لي . فنظرت فإذا هو ابن مسعود . وثبت في الصحيحين وغيرهما من المسانيد والسنن من غير وجه عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < ينزل ربنا ، تبارك وتعالى ، كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر . يقول : من يدعوني فاستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ > وفي رواية لمسلم : < ثم يبسط يديه تبارك وتعالى ويقول : من يقرض غير عدوم ولا ظلوم > . وفي رواية : < حتى ينفجر الفجر > .
قال الحافظ ابن كثير : وقد أفرد الحافظ أبو الحسن الدارقطني في ذلك جزءاً على حدة ، فرواه من طرق متعددة . ويروى أن بعض الصالحين قال لابنه : يا بني ! لا يكن الديك أحسن منك ، ينادي بالأسحار وأنت نائم ، والحكمة في تخصيص الأسحار كونه وقت غفلة الناس عن التعرض للنفحات الرحمانية ، والألطاف السبحانية ، وعند ذلك تكون العبادة أشق ، والنية خالصة ، والرغبة وافرة ، مع قربه ، تعالى وتقدس ، من عباده . قال السيوطي : في الآية فضيلة الاستغفار في السحر ، وأن هذا الوقت أفضل الأوقات . وقال الرازي : واعلم أن الاستغفار بالسحر له مزيد أثر في قوة الإيمان ، وفي كمال العبودية .
الأول : أن وقت السحر يطلع نور الصبح بعد أن كانت الظلمة شاملة للكل ، وبسبب طلوع نور الصبح كان الأموات يصيرون أحياء ، فهناك وقت الجود العام ، والفيض التام ، فلا يبعد أن يكون عند طلوع صبح العالم الكبير ، يطلع صبح العالم الصغير ، وهو ظهور نور جلال الله تعالى في القلب .
والثاني : أن وقت السحر أطيب أوقات النوّام ، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة وأقبل على العبودية ، كانت الطاعة أكمل .
والثالث : نقل عن ابن عباس : { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } يريد المصلين صلاة الصبح ، انتهى .
وهذا الثالث : أخرجه ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم ، وعليه ، فإنما سميت الصلاة استغفاراً لأنهم طلبوا بفعلها المغفرة .
لطيفة :
قال الزمخشري : الواو المتوسطة بين الصفات ، للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 18 ]
.
{ شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } أي : علم ، وأخبر ، أو قال أو بين أنه لا معبود حقيقي سوى ذاته العلية . وشهد بذلك : { وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ } بالإقرار ، وهذه مرتبة جليلة للعلماء ، لقرنهم في التوحيد بالملائكة المشرفين ، بعطفهم على اسم الله عز وجل : { قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ } أي : بالعدل في أحكامه : { لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } كرره تأكيداً ، وليبني عليه قوله : { الْعَزِيزُ } فلا يرام جنابه عظمة : { الْحَكِيمُ } فلا يصدر عنه شيء إلا على وفق الاستقامة - كذا في " جامع البيان " - .
وقال في " الانتصاف " : هذا التكرار لما قدمته في نظيره مما صدر الكلام به إذا طال عهده ، وذلك أن الكلام مصدر بالتوحيد ، ثم أعقب التوحيد تعداد الشاهدين به ، ثم قوله : { قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ } وهو التنزيه . فطال الكلام بذلك ، فجدد التوحيد تلو التنزيه ، ليلي قوله : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ } . ولولا هذا التجديد لكان التوحيد المتقدم ، كالمنقطع في الفهم مما أريد إيصاله به . والله أعلم .
لطيفة :
قال الرازي : فإن قيل : المدعي للوحدانية هو الله ، فكيف يكون المدعي شاهداً ؟
الجواب : من وجوه :
الأول : وهو أن الشاهد الحقيقي ليس إلا الله ، وذلك لأنه تعالى هو الذي خلق الأشياء وجعلها دلائل على توحيده ، ولولا تلك الدلائل لما صحت الشهادة . ثم بعد نصب تلك الدلائل ، هو الذي وفق العلماء لمعرفة تلك الدلائل ، ولولا تلك الدلائل التي نصبها الله تعالى وهدى لعجزوا عن التوصل بها إلى معرفة الوحدانية . ثم بعد حصول العلم بالوحدانية ، فهو تعالى وفقهم حتى أرشدوا غيرهم إلى معرفة التوحيد . وإذا كان الأمر كذلك ، كان الشاهد على الوحدانية ليس إلا الله وحده ، ولهذا قال : { قُلْ أي : شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ } [ الأنعام : 19 ] . ثم ساق بقية الوجوه فانظره .
وقال العارف الشعراني ، قدس سره ، في كتاب " الجواهر والدرر " : سألت أخي أفضل الدين : لم شهد الحق تعالى لنفسه بأنه لا إله إلا هو ؟ فقال رضي الله عنه : لينبه عباده على غناه عن توحيدهم له ، وأنه هو الموحد نفسه بنفسه . فقلت له : فلم عطف الملائكة على نفسه دون غيرهم ؟ فقال : لأن علمهم بالتوحيد لم يكن حاصلاً من النظر في الأدلة كالبشر ، وإنما كان علمهم بذلك حاصلاً من التجلي الإلهي ، وذلك أقوى العلوم وأصدقها ، فلذلك قدموا في الذكر على أولي العلم . وأيضاً فإن الملائكة واسطة بين الحق وبين رسله ، فناسب ذكرهم في الوسط . فاعلم ذلك ، انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ 19 ]
{ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ } جملة مستأنفة مؤكدة للأولى ، أي : لا دين مرضياً لله تعالى سوى الإسلام الذي هو التوحيد والتدرع بالشريعة الشريفة - قاله أبو السعود - وفي الأخرى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ آل عِمْرَان : 85 ] { وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ } مطلقاً أو اليهود ، في دين الإسلام : { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ } أي : إلا بعد أن علموا بأنه الحق الذي لا محيد عنه . ولم يكن اختلافهم لشبهة عندهم ، بل : { بَغْياً بَيْنَهُمْ } أي : حسداً كائناً بينهم ، وطلباً للرئاسة . وهذا تشنيع عليهم إثر تشنيع : { وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ } المنزلة : { فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ } قائم مقام جواب الشرط ، علة له . أي : فإنه تعالى يجازيه ويعاقبه على كفره عن قريب . فإنه سريع الحساب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [ 20 ]
.
{ فَإنْ حَآجُّوكَ } في الدين وجادلوك فيه بعد إقامة تلك الآيات : { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ } أي : انقدت لآياته المنزلة ، وأخلصت نفسي وعبادتي له ، لا أشرك فيها غيره . قال أبو السعود : وإنما عبر عن النفس بالوجه ؛ لأنه أشرف الأعضاء الظاهرة ومظهر القوى والمشاعر ، ومجمع معظم ما يقع به العبادة من السجود والقراءة ، وبه يحصل التوجه إلى كل شيء : { وَمَنِ اتَّبَعَنِ } عطف على الضمير المتصل .
لطيفة :
هل قوله تعالى : { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ } ، إعراض على المحاجة أو هو محاجة وإظهار للدليل ؟ فمن قائل بالأول ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم كان قد أظهر لهم الحجة على صدقه قبل نزول هذه الآية مراراً وأطواراً ، فإن هذه السورة مدنية ، وكان قد أظهر لهم المعجزات الجمّة بالقرآن وغيره . فبعد هذا قال : { فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ } الخ . يعني إنا بالغنا في تقرير الدلائل وإيضاح البينات ، فإن تركتم الأنف والحسد وتمسكتم بها كنتم مهتدين . وإن أعرضتم ، فإن الله تعالى من وراء مجازاتكم . وهذا التأويل طريق معتاد في الكلام . فإن المحق إذا ابتلي بالمبطل اللجوج ، وأورد عليه الحجة حالاً بعد حال ، فقد يقول في آخر الأمر : أما أنا ومن اتبعني فمنقادون للحق مستسلمون له ، مقبلون على عبودية الله تعالى ، فإن وافقتم واتبعتم الحق الذي أنا عليه بعد هذه الدلائل التي ذكرتها فقد اهتديتم ، وإن أعرضتم فإن الله بالمرصاد .
فهذا طريق قد يذكره المحتج المحق مع المبطل المصر في آخر كلامه . ومن قائل بالثاني ، أعني : أنه محاجة . وفي كيفية الاستدلال منها ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني ، وهو أن اليهود والنصارى وعبدة الأوثان كانوا مقرين بتعظيم إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ، والإقرار بأنه كان محقاً في قوله ، صادقاً في دينه . فأمر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يتبع ملته فقال : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ النحل : 123 ] ، ثم إنه تعالى أمر محمداً صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع أن يقول كقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم حيث قال : { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 79 ] ، فقول محمد صلى الله عليه وسلم : { أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ } كقول إبراهيم عليه السلام : { وَجَّهْتُ وَجْهِيَ } أي : أعرضت عن كل معبود سوى الله تعالى ، وقصدته بالعبادة ، وأخلصت له . فتقدير الآية كأنه تعالى قال : فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل : أنا مستمسك بطريقة إبراهيم وأنتم معترفون بأن طريقته حقة ، بعيدة عن كل شبهة وتهمة . فكان هذا من باب التمسك بالالتزامات ، وداخلاً تحت قوله : { وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] - نقله الرازي - : { وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ } أي : الذين لا كتاب لهم ، كمشركي العرب : { أَأَسْلَمْتُمْ } لهذه الآيات كما أسلمت ، أم أنتم بعد على الكفر . قال الزمخشري : يعني أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ، ويقتضي حصوله لا محالة ، فهل أسلمتم ، أم أنتم بعد على كفركم ؟ وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة ، ولم تبق من طرق البيان والكشف طريقاً إلا سلكته : هل فهمتها ؟ ومنه قوله عز وعلا : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] . بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر . وفي هذا الاستفهام استقصار وتعيير بالمعاندة وقلة الإنصاف ، لأن المنصف إذا تجلت له الحجة لم يتوقف إذعانه للحق ، وللمعاند بعد تجلي الحجة ما يضرب أسداداً بينه وبين الإذعان . وكذلك في : " هل فهمتها " توبيخ بالبلادة وكلّة القريحة . وفي : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } بالتقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطي المنهي عنه . انتهى { فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ } أي : خرجوا من الضلال فنفعوا أنفسهم : { وَّإِن تَوَلَّوْاْ } عن هداك وهديك : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ } أي : تبليغ آيات الله ، لا الإكراه إذا عاندوك ، إذ ليس عليك هداهم : { وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } وعد ووعيد .
قال ابن كثير : وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق ، كما هو معلوم من دينه ضرورة ، وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث . فمن ذلك قوله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [ الأعراف : 158 ] ، وقال تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] . وفي الصحيحين وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه صلى الله عليه وسلم بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق ، وطوائف بني آدم ، من عربهم وعجمهم ، كتابيّهم وأمّيهم ، امتثالاً لأمر الله له بذلك . وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن هَمَّام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < والذي نفسي بيده ! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، يهودي ولا نصراني ، ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به ، إلا كان من أهل النار > . رواه مسلم . وقال صلى الله عليه وسلم : < بعثت إلى الأحمر والأسود > . وقال : < كان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة > . إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ 21 ]
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ } وهم اليهود . قتلوا زكريا وابنه يحيى عليهما السلام ، وقتلوا حزقيال عليه السلام ، قتله قاضٍ يهودي لما نهاه عن منكر فعله ، وزعموا أنهم قتلوا عيسى ابن مريم عليهما السلام . ولما كان المخاطبون راضين بصنيع أسلافهم صحت هذه الإضافة إليهم . وقوله تعالى : { بِغَيْرِ حَقٍّ } إشارة إلى أن قتلهم للأنبياء كان بغير حق ، في اعتقادهم أيضاً ، فهو أبلغ في التشنيع عليهم : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ } [ 22 ]
.
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } أي : بطلت أعمالهم التي عملوها من البر والحسنات في الدارين . أما الدنيا فإبدال المدح بالذم ، والثناء باللعن والخزي ، ويدخل فيه ما ينزل بهم من القتل والسبي وأخذ الأموال منهم غنيمة ، والاسترقاق لهم ، إلى غير ذلك من الذل والصغار الظاهر فيهم . وأما حبوطها في الآخرة ، فإبدال الثواب بالعذاب الأليم { وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ } ينصرونهم من عذاب الله . وقد دلت الآية على عظم حال من يأمر بالمعروف ، وعظم ذنب قاتله ، لأنه قرن ذلك بالكفر بالله تعالى ، وقتل الأنبياء .
قال الحاكم : وتدل على صحة ما قيل : إنه يأمر بالمعروف وإن خاف على نفسه . وأن ذلك يكون أولى لما فيه من إعزاز الدين . ففي الحديث : < أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ } [ 23 ]
.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ } التوراة . والمراد بهم أحبار اليهود : { يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ } وهو القرآن : { لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } استبعاد لتوليهم بعد علمهم أن الرجوع إلى كتاب الله واجب ، إذ قامت عليهم الحجج الدالة على تنزيله : { وَهُم مُّعْرِضُونَ } حال من فريق ، أي : معرضون عن قبول حكمه . أو اعتراض ، أي : وهم قوم ديدنهم الإعراض عن الحق ، والإصرار على الباطل . ومن المفسرين من حمل قوله : { يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ } على التوراة ، وأن الآية إشارة إلى قصة تحاكم اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما زنى منهم اثنان ، فحكم عليهما بالرجم ، فأبوا وقالوا : لا نجد في كتابنا إلا التحميم ، فجيء بالتوراة فوجد فيها الرجم ، فرجما ، فغضبوا ، فشنع عليهم بهذه الآية . والله أعلم .
قال بعض المفسرين : وللآية ثمرتان :
الأولى : أن من دعي إلى كتاب الله وإلى ما فيه من شرع وجب عليه الإجابة . وقد قال العلماء رضي الله عنهم : يستحب أن يقول سمعاً وطاعة ، لقوله تعالى : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ النور : 51 ] .
الثمرة الثانية : أن الإسلام ليس بشرط في الإحصان ، لأنه صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين ، ونزلت الآية مقررة له . انتهى . أي : على القول بذلك ، والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [ 24 ]
.
{ ذَلِكَ } إشارة إلى التولي والإعراض : { بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } أي : بسبب تسهيلهم أمر العقاب على أنفسهم : { وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من قولهم ذلك ، وفي التعبير بالغرور والافتراء إعلام بأن ما حدثوا به أنفسهم وسهلوه عليها تعلل بباطل وتطمع بما لا يكون . ثم رد قولهم المذكور ، وأبطل ما غرهم باستعظام ما أعد لهم ، وتهويله ، وأنهم يقعون فيما لا حيلة لهم في دفعه بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ 25 ]
.
{ فَكَيْفَ } يصنعون ، وكيف تكون حالتهم : { إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ } أي : في يوم : { لاَّ رَيْبَ فِيهِ } أي : لا شك ، وهو يوم القيامة : { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } أي : جزاء ما عملت من خير أو شر : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } الضمير لكل نفس على المعنى ، لأنه في معنى كل إنسان . أي : لا يظلمون بزيادة عذاب ، أو بنقص ثواب ، ثم علم تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم كيف يدعوه ويمجده بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 26 ]
.
{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ } أي : مالك جنس الملك على الإطلاق ملكاً حقيقياً بحيث تتصرف فيه كيفما تشاء : إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة وتعذيباً وإثابة ، من غير مشارك ولا ممانع : { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء } بيان لبعض وجوه التصرف الذي تستدعيه مالكية الملك ، وتحقيق لاختصاصها به تعالى حقيقة ، وكون مالكية غيره بطريق المجاز ، كما ينبئ عنه إيثار الإيتاء الذي هو مجرد الإعطاء على التمليك المؤذن بثبوت المالكية حقيقة - أفاده أبو السعود - . وفي التعبير بـ " من " العامة للعقلاء إشعار بمنال الملك من لم يكن من أهله ، وأخص الناس بالبعد منه العرب ، ففيه إشعار بأن الله ينول ملك فارس والروم العرب ، كما وقع منه ما وقع ، وينتهي منه ما بقي ، إلى من نال الملك بسببها ، وعن الاستناد إليها ، من سائر الأمم الذين دخلوا في هذه الأمة من قبائل الأعاجم ، وصنوف أهل الأقطار ، حتى ينتهي الأمر إلى أن يسلب الله الملك جميع أهل الأرض بظهور ملك يوم الدين - كذا في البقاعي - : { وَتَنزِع الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ 27 ]
.
{ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } أي : تدخل أحدهما في الآخر ، إما بالتعقيب أو بالزيادة والنقص : { وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ } كالحيوان من النطف والنطف منه ، والبيض من الطير وعكسه . وقيل : إخراج المؤمن من الكافر وبالعكس . قال القفال : والكلمة محتملة للكل ، أما الكفر والإيمان فقال تعالى : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } [ الأنعام : 122 ] . يريد : كان كافراً فهديناه ، فجعل الموت كفراً والحياة إيماناً ، وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء ، وجعلها قبل ذلك ميتة ، فقال : { يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [ الروم : 50 ] وقال : { فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [ فاطر : 9 ] . وقال : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ البقرة : 28 ] { وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : رزقاً واسعاً غير محدود .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ } [ 28 ]
{ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء } جمع ولي ، ومعانيه كثيرة ، منه المحب والصديق والنصير . قال الزمخشري : نهوا أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو صداقة قبل الإسلام ، أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق بها ويتعاشر . وقد كرر ذلك في القرآن : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [ المائدة : 51 ] : { لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ } [ المائدة : 51 ] : { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [ المجادلة : 22 ] الآية ، والمحبة في الله ، والبغض في الله باب عظيم وأصل من أصول الإيمان . وقوله تعالى : { مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ } حال . أي : متجاوزين المؤمنين إليهم استقلالاً أو اشتراكاً ، وفيه إشارة إلى أنهم الأحقاء بالموالاة ، وأن في موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفرة : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ } أي : ومن يوال الكفرة فليس من ولاية الله في شيء يقع عليه اسم الولاية ، يعني : أنه منسلخ من ولاية الله رأساً . وهذا أمر معقول ، فإن موالالة الولي وموالاة عدوه متنافيان ، قال :
~تود عدوّي ثم تزعم أنني صديقك . ليس النوك عنك بعازب
أفاده الزمخشري { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } أي : تخافوا منهم محذوراً . فأظهروا معهم الموالاة باللسان دون القلب لدفعه ، كما قال البخاري عن أبي الدرداء أنه قال : إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم . وأصل : تقاة وقية ، ثم أبدلت الواو تاء ، كتخمة وتهمة ، وقلبت الياء ألفاً . وفي المحكم : تقاة : يجوز أن يكون مصدراً وأن يكون جمعاً ، والمصدر أجود ، لأن في القراءة الأخرى : تقية .
تنبيه :
قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية الكريمة تحريم موالاة الكفار ، لأن الله تعالى نهى عنها بقوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ } ، ثم استثنى تعالى التقية فرخص في موالاتهم لأجلها ، فتجوز معاشرة ظاهرة ، والقلب مطمئن بالعداوة لهم والبغضاء وانتظار زوال المانع . وقد قال الحاكم : في الآية دلالة على جواز إظهار تعظيم الظلمة اتقاء لشرهم . قال : وإنما يحسن بالمعاريض التي ليست بكذب ، وقال الصادق : التقية واجبة ، وإني لأسمع الرجل في المسجد يشتمني فأستتر عنه بالسارية لئلا يراني . وعن الحسن : تقية باللسان ، والقلب مطمئن بالإيمان .
واعلم أن الموالاة ، التي هي المباطنة والمشاورة وإفضاء الأسرار للكفار ، لا تجوز . فإن قيل : قد جوز كثير من العلماء نكاح الكافرة ، وفي ذلك من الخلطة والمباطنة بالمرأة ما ليس بخاف ، فجواب ذلك : أن المراد موالاتهم في أمر الدين ، وفيما فيه تعظيم لهم . فإن قيل . في سبب نزول الآية أنه صلى الله عليه وسلم منع عُبَاْدَة بن الصامت عن الاستعانة باليهود على قريش ! وقد حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود على حرب قريش ، وفي هذا دلالة على جواز الاستعانة بهم . وقد ذكر الراضي بالله أنه يجوز الاستعانة بالفساق على حرب المبطلين . قال : وقد حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود على حرب قريش وغيرها ، إلى أن نقضوه يوم الأحزاب . وحدَّ صلى الله عليه وسلم الحلف بينه وبين خزاعة . قال الراضي بالله : وهو ظاهر عن آبائنا عليهم السلام ، وقد استعان علي عليه السلام بقتلة عثمان . ولعل الجواب - والله اعلم - أن الاستعانة جائزة مع الحاجة إليها . ويحمل على هذا استعانة الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود . وممنوعة مع عدم الحاجة ، أو خشية مضرة منهم . وعليه يحمل حديث عُبَاْدَة بن الصامت . فصارت الموالاة المحظورة تكون بالمعاداة بالقلب للمؤمنين ، والمودة للكفار على كفرهم ، ولا لبس في تحريم ذلك ، ولا يدخله استثناء والموالاة بإظهار التعظيم وحسن المخاللة والمصادقة بإظهار الأسرار ونحو ذلك ، فلا لبس في تحريم ذلك ولا يدخله استثناء ، والموالاة بإظهار التعظيم وحسن المخاللة والمشاورة فيما لا يضر المسلمين ، فظاهر كلام الزمخشري أنه لا يجوز إلا للتقية . فحصل من هذا أن الموالي للكافر والفاسق عاصٍ ، ولكن أين تبلغ معصيته ؟ يحتاج إلى تفصيل : إن كانت الموالاة بمعنى الموادة ، وهي أن يوده لمعصيته كان ذلك كالرضا بالمعصية . وإن كانت الموالاة كفراً ، كفر . وإن كانت فسقاً ، فسق . وإن كانت لا توجب كفراً ولا فسقاً ، لم يكفر ولم يفسق ، وإن كانت المولاة بمعنى المحالفة والمناصرة ، فإن كانت محالفة على أمر مباح أو واجب ، كأن يدفع المؤمنون عن أهل الذمة من يتعرض لهم ، ويخالفونهم على ذلك ، فهذا لا حرج فيه ، بل هو واجب . وإن كانت على أمر محظور كأن يحالفوهم على أخذ أموال المسلمين والتحكم عليهم ، فهذه معصية بلا إشكال ، وكذلك إذا كانت بمعنى أنه يظهر سر المسلمين ويحبّ سلامة الكافرين لا لكفرهم ، بل ليدٍ لهم عليه أو لقرابة أو نحو ذلك ، فهذا معصية بلا إشكال . لكن لا تبلغ حدها الكفر ، لأنه لم يُروَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بكفر حاطب بن أبي بلتعة .
وقال الراضي بالله : إن مناصرة الكفار على المسلمين توجب الكفر ، لأنه صلى الله عليه وسلم قال للعباس : < ظاهرك علينا > . وقد اعتذر بأنه خرج مكرهاً . وأما مجرد الإحسان إلى الكافر فجائز لا ليستعين به على المسلمين ، ولا لإيناسه . وكذلك أن يضيق لضيقه في قضية معينة لأمر مباح فجائز ، كما كان من ضيق المسلمين من غلب فارس الروم ، فصار تحقيق المذهب أن الذي يوجب الكفر من الموالاة أن يحصل من الموالي الرضا بالكفر . والذي يوجب الفسق أن يحصل الرضا بالفسق . إن قيل : فما حكم من يجند مع الظلمة ليستعينوا به على الجبايات وأنواع الظلم ؟ قلنا : عاص بلا إشكال ، وفاسق بلا إشكال ، لأنه صار من جملتهم . وفسقهم معلوم . فإن قيل : فإن تجند معهم لحرب إمام المسلمين ؟ قلنا : صار باغياً ، وحصل فسقه من جهة البغي والظلم . فإن قيل : حكي عن المهدي علي بن محمد عليه السلام أنه كفّر من تجند مع سلطان اليمن وقضى بردته, قلنا : هذا يحتاج إلى بيان وجه التكفير بدليل قطعي . وإن ساغ أن نقول ذلك اصطلاح لأمر الإمام كما رد الهادي عليه السلام شهادة من امتنع من بيعة الإمام كان ذلك محتملاً - انتهى كلامه رحمه الله .
ومن هذه الآية استنبط الأئمة مشروعية التقية عند الخوف . وقد نقل الإجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني في كتابه : " إيثار الحق على الخلق " فقال ما نصه :
وزاد الحق غموضاً وخفاءً أمران :
أحدهما : خوف العارفين ، مع قلتهم ، من علماء السوء وسلاطين الجور ، وشياطين الخلق ، مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن وإجماع أهل الإسلام . وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق ، ولا برح المحق عدوّاً لأكثر الخلق . وقد صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في ذلك العصر الأول : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين ، فأما أحدهما : فبثثته في الناس ، وأما الآخر : فلو بثثته لقطع هذا البلعوم . وما زال الأمر في ذلك يتفاحش . وقد صرح الغزالي بذلك في خطبة " المقصد الأسنى " ولوّح بمخالفته أصحابه فيها كما صرح بذلك في شرح " الرحمن الرحيم " فأثبت حكمة الله ورحمته ، وجود الكلام في ذلك ، وظن أنهم لا يفهمون المخالفة ، لأن شرح هذين الاسمين ليس هو موضع هذه المسألة ، ولذلك طوى ذلك ، وأضرب عنه في موضعه ، وهو اسم الضار كما يعرف ذلك أذكياء النظار .
وأشار إلى التقية الجويني في مقدمات " البرهان " في مسألة قدم القرآن . والرازي في كتابه المسمى بـ " الأربعين في أصول الدين " إلى آخر ما ساقه المرتضي فانظره .
{ وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ } أي : ذاته المقدسة ، فلا تتعرضوا لسخطه بمخالفة أحكامه ، وموالاة أعدائه . وهو تهديد عظيم مشعر بتناهي المنهي في القبح ، وذكر النفس ، ليعلم أن المحذر منه عقاب يصدر منه تعالى ، فلا يؤبه دونه بما يحذر من الكفرة : { وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ } أي : المنقلب والمرجع ليجازي كل عامل بعمله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 29 ]
{ قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } هذا توعد . وأراد إخفاء مودة الكفار وموالاتهم وإظهارها . أو تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم . أو الكفر . وفي هذه الآية تنبيه منه تعالى لعباده على خوفه وخشيته لئلا يرتكبوا ما نهى عنه ، فإنه عالم بجميع أمورهم وقادر على معاجلتهم بالعقوبة ، وإن أنظر من أنظر منهم فإنه يمهل ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر ، ولهذا قال بعد هذا :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ } [ 30 ]
.
{ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً } بصور تناسبه ، أو في صحف الملائكة ، أو المعنى : جزاء ما عملت : { وَ } تجد : { مَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ } أي : عملها السوء : { أَمَداً بَعِيداً } أي : غاية بعيدة لا يصل أحدهما إلى الآخر ، وتود في موضع الحال . والتقدير : وتجد ما عملت من سوء محضراً ، وادّة ذلك { وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ } كرره ليكون على بالٍ منهم لا يغفلون عنه كذا في " الكشاف " .
وقال أبو السعود : تكرير لما سبق وإعادة له ، لكن لا للتأكيد فقط ، بل لإفادة ما يفيده قوله عز وجل : { وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ } من أن تحذيره تعالى من رأفته بهم ، ورحمته الواسعة ، أو أن رأفته بهم لا تمنع تحقيق ما حذرهموه من عقابه ، وأن تحذيره ليس مبنياً على تناسي صفة الرأفة ، بل هو متحقق مع تحققها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 31 ]
.
{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قال ابن كثير : هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله ، وليس هو على الطريقة المحمدية ، فإنه كاذب في دعواه تلك ، حتى يتبع الشرع المحمدي في جميع أقواله وأفعاله ، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } [ 32 ]
.
{ قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ } أعرضوا عن الطاعة : { فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ 33 ]
.
{ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى } أي : اختار بالنبوة : { آدَمَ } فخلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وعلمه أسماء كل شيء وأسكنه الجنة ، ثم أهبطه منها عما له في ذلك من الحكمة : { وَ } واصطفى : { نُوحاً } فجعله أول رسول إلى أهل الأرض ، لما عبد الناس الأوثان وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً ، ونجى من اتبعه في السفينة وأغرق من عصاه : { وَ } اصطفى : { آلَ إِبْرَاهِيمَ } أي : عشيرته وذوي قرباه ، وهم إسماعيل وإسحاق والأنبياء من أولادهما الذين من جملتهم النبي صلى الله عليه وسلم . وأما اصطفاء نفسه عليه الصلاة والسلام فمفهوم من اصطفائهم بطريق الأولوية . وعدم التصريح به للإيذان بالغنى عنه لكمال شهرة أمره في الخلة ، وكونه إمام الأنبياء وقدوة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وكون اصطفاء آله بدعوته بقوله : { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ } [ البقرة : 129 ] ، الآية . ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : < أنا دعوة أبي إبراهيم > { وَ } اصطفى : { آلَ عِمْرَانَ } إذ جعل فيهم عيسى عليه الصلاة والسلام الذي أوتي البينات ، وأيد برح القدس ، والمراد بعمران هذا : والد مريم أم عيسى عليهما السلام : { عَلَى الْعَالَمِينَ } أي : عالمي زمانهم . أي : اصطفى كل واحد منهم على عالمي زمانه . قال السيوطي في " الإكليل " : يستدل بهذه الآية على تفضيل الأنبياء على الملائكة لدخولهم في العالمين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 34 ]
.
{ ذُرِّيَّةً } أي : نسلاً . نصب على البدلية من الآلين ، أو على الحالية منهما .
لطيفة :
الذرية مثلثة ، ولم تسمع إلا غير مهموزة . اسم لنسل الثقلين . وقد تطلق على الآباء والأصول أيضاً . قال الله تعالى : { وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } [ يس : 41 ] .
قال الصاغاني : وفي اشتقاقها وجهان : أحدهما : أنها من الذرء ووزنها فعولة أو فعيلة . والثاني : أنها من الذر بمعنى التفريق ، لأن الله ذرهم في الأرض . ووزنها فعيلة أو فعولة أيضاً . وأصلها : ذرورة ، فقلبت الراء الثالثة ياء كما في : تقضت العقاب . كذا في القاموس وشرحه .
{ بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } في محل النصب على أنه صفة لذرية . أي : اصطفى الآلين ، حال كونهم ذرية متسلسلة البعض من البعض في وراثة الاصطفاء { وَاللّهُ سَمِيعٌ } لأقوال العباد : { عَلِيمٌ } بضمائرهم وأفعالهم . وإنما يصطفي من خلقه من يعلم استقامته قولاً وفعلاً . ونظيره قوله تعالى : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] . وقوله : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } [ الأنبياء : 90 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ 35 ]
.
{ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ } في حيز النصب على المفعولية ، بفعل مقدر على طريقة الاستئناف لتقرير اصطفاء آل عِمْرَان ، وبيان كيفيته . أي : اذكر لهم وقت قولها ، . . . الخ . وامرأة عِمْرَان هذه هي أم مريم عليها السلام .
فائدة :
قال العلامة النوري في " غيث النفع " : { امْرَأَةُ عِمْرَانَ } رسمت بالتاء ، وكل ما في كتاب الله جل ذكره من لفظ امرأة فبالهاء . سبعة مواضع ، هذا الأول ، والثاني والثالث بيوسف " امرأت العزيز تراود " " امرأت العزيز الآن " والرابع بالقصص " امرأت فرعون " والخامس والسادس والسابع بالتحريم " امرأت نوح " " وامرأت لوط " " وامرأت فرعون " فلو وقف عليها ، فالمكي والنحويان يقفون بالهاء ، والباقون بالتاء . انتهى .
{ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً } أي : مخلصاً للعبادة عن الشعبي . أو خادماً يخدم في متعبداتك ، حرره جعله نذيراً في خدمة المعبد ما عاش ، لا يسعه تركه في دينه عن الزجاج . وفي الآية دلالة على صحة نذر الأم بولدها ، وأن للأم الانتفاع بالولد الصغير لمنافع نفسها ، لذلك جعلته للغير . والمعنى : نذرته وقفاً على طاعتك ، لا أشغله بشيء من أموري . قال أبو منصور في " التأويلات " : جعلت ما في بطنها لله خالصاً ، لم تطلب منه الاستئناس به ، ولا ما يطمع الناس من أولادهم ، وذلك من الصفوة التي ذكر عز وجل ، وهكذا الواجب على كل أحد إذا طلب ولداً أن يطلب للوحه الذي طلبت امرأة عِمْرَان وزكريا حيث قال : { رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } [ آل عِمْرَان : 38 ] . وما سأل إبراهيم : { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ } [ الصافات : 100 ] ، وكقوله : { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } [ الفرقان : 74 ] ، هكذا الواجب أن يطلب الولد ، لا ما يطلبون من الاستئناس والاستنصار والاستعانة بأمر المعاش بهم . انتهى { فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } أي : تقبل مني قرباني وما جعلت لك خالصاً ، والتقبل أخذ الشيء على وجه الرضا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } [ 36 ]
.
{ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا } الضمير لما في بطني ، وإنما أنث على المعنى ، لأن ما في بطنها كان أنثى في علم الله ، أو على تأويل النفس أو النسمة : { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى } أي : وكنت رجوت أن يكون ذكراً ، وإنما تحسرت أو اعتذرت إذ جهلت قدرها : { وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } قرئ في السبع بسكون التاء وضمها ، فعلى القراءة الأولى تكون الجملة المعترضة من كلامه تعالى ، إما لدفع ما يتراءى من أن قولها : { رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى } قصدت بها إعلام الله تعالى عن أن يحتاج إلى إعلامها ، فأزيلت الشبهة بقوله : { وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } هذا ما يتراءى لي . وإما لما ذكروه من أن الاعتراض تعظيم من جهته تعالى لموضوعها ، وتفخيم لشأنه ، وتجهيل لها بقدره ، أي : والله أعلم بالنفس التي وضعتها ، وما علق بها من عظائم الأمور ، وجعلها وابنها آية للعالمين ، وهي غافلة عن ذلك . وعلى القراءة الثانية أعني : ضم التاء ، فالاعتراض من كلامها ، إما للوجه الأول من الوجهين السابقين كما استظهرته ، أو لما ذكروه من قصد الاعتذار إلى الله تعالى حيث أتت بمولود لا يصلح لما نذرته ، أو تسلية نفسها على معنى : لعل لله تعالى فيه سراً وحكمة ، ولعل هذا الأنثى خير من الذكر : { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى } جملة معترضة أيضاً ، إما من كلامه تعالى قصد به معذرتها في التحسر والتحزن ببيان فضل الذكر على الأنثى ، ولذا جبلت النفوس على الرغبة فيه دونها لا سيما في هذا المقام ، أعني : مقام قصد إخلاص النذير للعبادة . فإن الذكر يفضلها من وجوه : منها : أن الذكر يصح أن يستمر على خدمة موضع العبادة ولا يصح ذلك في الأنثى لمكان الحيض فيه وسائر عوارض النسوان .
ومنها : أن الذكر يصلح لقوته وشدته للخدمة دون الأنثى ، فإنها ضعيفة ، لا تقوى على الخدمة . ومنها : أن الذكر لا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس ، وليس كذلك الأنثى . ومنها : أن الذكر لا يلحقه من التهمة عند الاختلاط ما يحلق الأنثى . فهذه الوجوه تقتضي فضل الذكر على الأنثى في هذا المقام . واللام في الذكر والأنثى على هذا الملحظ ، للجنس - كذا ظهر لي - وعلى قولهم : اللام للعهد فيهما ، أي : ليس الذكر الذي طلبته وتخيلت فيه كمالاً ، قصاراه أن يكون كواحد من الأحبار ، كالأنثى التي وهبت لها . فإن دائرة علمها وأمنيتها لا تكاد تحيط بما فيها من جلائل الأمور . هذا ، وإما أن تكون هذه الجملة من كلامها ، والقصد حينئذ تأكيد الاعتذار ببيان أن الذكر ليس كالأنثى في الفضيلة والمزية ، وصلاحية خدمة المتعبدات ، فإنهن بمعزل عن ذلك ، فاللام للجنس .
لطيفة :
قيل : قياس كونه من قولها أن يكون وليست الأنثى كالذكر فإن مقصودها تنقيص الأنثى بالنسبة إلى الذكر . والعادة في مثله أن ينفي عن الناقص شبهة بالكامل ، لا العكس . قال الناصر في " الانتصاف " : وقد وجد الأمر في ذلك مختلفاً ، فلم يثبت عين ما قيل . ألا ترى إلى قوله تعالى : { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ } [ الأحزاب : 32 ] ، فنفى عن الكامل شبه الناقص ، مع أن الكمال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ثابت بالنسبة إلى عموم النساء ، وعلى ذلك جاءت عبارة امرأة عِمْرَان ، والله أعلم . ومنه أيضاً : { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [ النحل : 17 ] . انتهى .
{ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } قال المفسرون : هي في لغتهم بمعني العابدة ، سمتها بذلك رجاءً وتفاؤلاً أن يكون فعلها مطابقاً لاسمها . لكن رأيت في تأويل الأسماء الموجودة في التوراة والإنجيل أن مريم معناه : مرارة أو مر البحر ، فلينظر . قال السيوطي في " الإكليل " : في الآية دليل على جواز تسمية الأطفال يوم الولادة وأنه لا يتعين يوم السابع ، لأنه إنما قالت هذا بأثر الوضع ، كما فيها مشروعية التسمية للأم ، وأنها لا تختص بالأب . ثم طلبت عصمتها فقالت : { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ } أي : أجيرها بحفظك : { وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } أي : المطرود لمخالفتك ، فلا تجعل عليها وعلى ذريتها له سلطاناً يكون سبباً لطردهما .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ 37 ]
.
{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ } أي : قبلها أو تكفل بها . ولم يقل بتقبل ، للجمع بين الأمرين : التقبل الذي هو الترقي في القبول ، والقبول الذي يقتضي الرضا والإثابة ، قال المهايمي : بقبول حسن يجعلها فوق كثير من الأولياء { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } بجعل ذريتها من كبار الأنبياء - انتهى - وقال الزمخشري : نباتها مجاز عن التربية الحسنة العائدة عليها بما يصلحها في جميع أحوالها ، أي : كالصلاح والسداد والعفة والطاعة : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } أي : ضمها إليه ، وقرئ بالتشديد . ونصب زكريا ممدوداً أو مقصوراً ، والفاعل الله . أي : جعله كافلاً لها وضامناً لمصالحها ، وقائماً بتدبير أمروها . وقد روي أن أمها أخذتها وحملتها إلى المسجد ، ووضعتها عند الأحبار وقالت : دونكم هذه النذيرة ، فتنافسوا فيها إذ كانت بنت إمامهم ، وصاحب قربانهم ، وأحب كل أن يحظى بتربيتها ، فقال لهم زكريا : أنا أحق بها ، عندي خالتها ، فأبوا إلى القرعة ، وانطلقوا إلى نهر فألقوا فيها أقلامهم ، على أن من ثبت قلمه في الماء وصعد فهو أولى بها ، فطفا قلم زكريا ، ورسبت أقلامهم ، وإليه الإشارة بقوله تعالى في آية أخرى : { إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } [ آل عِمْرَان : 44 ] . فأخذها زكريا ورباها في حجر خالتها ، حتى إذا نشأت وبلغت مبالغ النساء ، انزوت في محرابها تتعبد فيه ، وصارت بحيث : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
في الآية مسائل :
الأولى : في معنى المحراب : في القاموس وشرحه ما نصه : والمحراب : الغرفة والموضع العالي ، نقله الهروي في غريبه عن الأصمعي ، قال وضاح اليمن :
~ربة محراب إذا جئتها لم ألقها أو أرتقي سلماً .
وقال أبو عبيدة : المحراب سيد المجالس ومقدمها وأشرفها . قال : وكذلك هو من المساجد ، وعن الأصمعي : العرب تسمي القصر محراباً لشرفه . وقال الأزهري : المحراب عند العامة الذي يفهمه الناس مقام الإمام من المسجد . قال ابن الأنباري : سمي محراب المسجد لانفراد الإمام فيه ، وبعده من القوم . ومنه يقال : فلان حرب لفلان ، إذا كان بينهما بُعدٌ وتباغض . وفي المصباح : ويقال هو مأخوذ من المحاربة ؛ لأن المصلي يحارب الشيطان ويحارب نفسه بإحضار قلبه ، ثم قال : ومحاريب بني إسرائيل هي مساجدهم التي كانوا يجلسون فيها . انتهى .
الثانية : في الآية دليل على وقوع الكرامة لأولياء الله تعالى ، كما وجد ، عند خُبَيْب بن عدي الأنصاري رضي الله عنه المستشهد بمكة ، قطف عنب ، كما في البخاري . وفي الكتاب والسنة لهذا نظائر كثيرة ، ومن اللطائف هنا ما نقله الإمام الشعراني في " اليواقيت " عن العارف أبي الحسن الشاذلي قدس سره أنه قال : إن مريم عليها السلام كان يتعرف إليها في بداياتها بخرق العوائد بغير سبب تقوية لإيمانها وتكميلهاً ليقينها ، فكانت كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً . فلما قوي إيمانها ويقينها ردت إلى السبب لعدم وقوفها معه ، فقيل لها : { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّا } ، انتهى .
الثالثة : قوله تعالى : { إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ } الخ تعليل لكونه من عند الله . إما من تمام كلامها فيكون في محل نصب ، وإما من كلامه عز وجل فهو مستأنف ، ومعنى : { بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : بغير تقدير لكثرته . وإما بغير استحقاق تفضلاً منه تعالى .
الرابعة : زكريا المنوه به هنا هو والد يحيى عليهما السلام ، ومعنى زكريا : تذكار الرب كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء } [ 38 ]
.
{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء } كلام مستأنف ، وقصة مستقلة ، سيقت في تضاعيف حكاية مريم ، لما بينهما من قوة الارتباط ، وشدة الاشتباك ، مع ما في إيرادها من تقرير ما سيقت له حكايتها من بيان اصطفاء آل عِمْرَان . فإن فضائل بعض الأقرباء أدلة على فضائل الآخرين ، و : { هُنَا } ظرف مكان ، أي : في ذلك المكان ، حيث هو عند مريم في المحراب ، أو ظرف زمان أي : في ذلك الوقت ، إذ يستعار هنا وثمت وحيث للزمان ، دعا زكريا ربه لما رأى كرامة مريم على الله ومنزلتها منه تعالى ، رغب في أن يكون له من زوجته ولد مثل ولد أختها في النجابة والكرامة على الله تعالى . وإن كانت عاقراً عجوزاً كذا في أبي السعود والذرية هنا الولد . قال الزمخشري : تقع على الواحد والجمع ، وقد سبق الكلام عليها قريباً عند قوله تعالى : { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ } [ آل عِمْرَان : من الآية 34 ] قوله : { طَيِّبَةً } بمعنى : مطيعة لك ، لأن ذلك طلبة أهل الخصوص كما سبق إيضاحه في آية : { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ } الخ . وقوله تعالى : { إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ } أي : مجيبه ، وقد أجابه الحق تعالى ، فأرسل إليه الملائكة مبشرة كما قال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ } [ 39 ]
.
{ فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ } أي : على ألسنتنا : { بِيَحْيَى } وقد قرئ في السبع بكسر : { إنَّ } وفتحها ، ولفظ يحيى معرب عن يوحنا اسمه في العبرانية . ومعنى يوحنا : نعمة الرب ، كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل : { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ } أي : بنبي خلق بكلمة كن من غير أب . يرسله الله إلى عباده فيصدقه هو . وذلك عيسى عليه السلام : { وَسَيِّداً } أي : يسود قومه ويفوقهم : { وَحَصُوراً } أي : لا يقرب النساء حصراً لنفسه ، أي : منعاً لها عن الشهوات عفة وزهداً واجتهاداً في الطاعة : { وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ } أي : ناشئاً منهم ؛ لأنه من أصلابهم . أو كائناً من جملتهم ، كقوله : { وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } [ البقرة : 130 ] . ولما تحقق زكريا عليه السلام هذه البشارة أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء } [ 40 ]
.
{ قَالَ رَبِّ أَنَّىَ } أي : كيف ، أو من أين : { يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ } أي : أدركني الكبر الكامل المانع من الولادة فأضعفني : { وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ } أي : ذات عقر ، فهو على النسب ، وهو في المعنى مفعول أي : معقورة ، ولذلك لم يلحق تاء التأنيث : { قَالَ كَذَلِكَ } يكون لك الولد على الحال التي أنت وزوجتك عليها ؛ لأن الله تعالى لا يحتاج إلى سبب ، بل : { اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء } لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر . وفي إعراب : { كَذَلِكَ } أوجه . منها : أنه أخبر لمحذوف أي : الأمر كذلك . وقوله تعالى : { اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } بيان له . ومنها أن الكاف في محل النصب على أنها في الأصل نعت لمصدر محذوف . أي : الله يفعل ما يشاء فعلاً من ذلك الصنع العجيب الذي هو خلق الولد من شيخ فانٍ وعجوز عاقر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ } [ 41 ]
.
{ قَالَ } زكريا : { رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً } أي : علامة أعرف بها حصول الحمل . وإنما سألها لكون العلوق أمراً خفياً لا يوقف عليه ، فأراد أن يعلمه الله به من أوله ليتلقى تلك النعمة بالشكر من أولها ، ولا يؤخره إلى أن يظهر ظهوراً معتاداً : { قال } الله تعالى : { قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ } أي : أن لا تقدر على تكليمهم : { ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً } أي : إشارة بيد أو رأس . وإنما جعلت آيته ذلك لتخليص المدة لذكره تعالى شكراً على ما أنعم به عليه . وقيل : كان ذلك عقوبة منه تعالى بسبب سؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه - حكاه القرطبي عن أكثر المفسرين - : { وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً } أي : ذكراً كثيراً : { وَسَبِّحْ } أي : وسبِّحه : { بِالْعَشِيِّ } وهو آخر النهار . ويقع العشي أيضاً على ما بين الزوال والغروب : { وَالإِبْكَارِ } وهو الغدوة ، أو من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس . قال السيوطي في " الإكليل " : في الآية الحث على ذكر الله تعالى وهو من شعب الإيمان . قال محمد بن كعب : لو رخص الله لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا ؛ لأنه منعه من الكلام وأمره بالذكر - أخرجه ابن أبي حاتم - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ } [ 42 ]
.
{ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ } شروع في تتمة فضائل آل عِمْرَان . قال المهايمي : فيه إشارة إلى جواز تكليم الملائكة الولي ، ويفارق النبي في دعوى النبوة : { إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ } بالتقريب والمحبة : { وَطَهَّرَكِ } عن الرذائل ليدوم انجذابك إليه : { وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ } بالتفضيل وبما أظهره من قدرته العظيمة حيث خلق منك ولداً من غير أب ، ولم يكن ذلك لأحد من النساء . وفي " الإكليل " : استدل بهذه الآية من قال بنبوة مريم . كما استدل بها من فضّلها على بنات النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه . وجوابه : أن المراد عالمي زمانها قاله السدي - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } [ 43 ]
.
{ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ } أي : اعبديه شكراً على اصطفائه : { وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } أي : لتزدادي بكثرة السجود والصلاة قرباً . قال البقاعي : الظاهر أن المراد بالسجود هنا ظاهره ، وبالركوع الصلاة نفسها ، فكأنه قيل : واسجدي مصلية ، ولتكن صلاتك مع المصلين ، أي : في جماعة ، فإنك في عداد الرجال لما خصصت به من الكمال . ثم قال : وإنما قلت هذا لأني تتبعت التوراة ، فلم أره ذكر فيها الركوع في صلاة إبراهيم ولا من بعده من الأنبياء عليهم السلام ، ولا أتباعهم إلا في موضع واحد ، لا يحسن جعله فيه على ظاهره . ورأيته ذكر الصلاة فيها على ثلاثة أنحاء :
الأول : إطلاق لفظها من غير بيان كيفية .
والثاني : إطلاق لفظ السجود مجرداً .
والثالث : إطلاقه مقروناً بركوع أو حبو أو خرور على الوجه ، ونحو ذلك .
ثم ساق البقاعي ما وقع من النصوص في ذلك ، وقال بعد : فالذي فهمته من هذه الأماكن وغيرها : أن الصلاة عندهم تطلق على الدعاء وعلى فعل هو مجرد السجود ، فإن ذكر معه ما يدل على وضع الوجه على الأرض فذاك ، وحينئذ يسمى صلاة . وإلا كان المراد به مطلق الانحناء للتعظيم . وذلك موافق للغة ، قال في القاموس : سجد : خضع ، والخضوع : التطامن ، وأما المكان الذي ذكر فيه الركوع ، فالظاهر أن معناه : فعل الشعب كله ساجداً لله ، لأن الركوع يطلق في اللغة على معان ، منها الصلاة . يقال : ركع أي : صلى ، وركع إذا انحنى كثيراً ، ولا يصح حمل الركوع على ظاهره ، لأنه لا يمكن في حال السجود ، وإن ارتكب فيه تأويل لم يكن تأويل مما ذكرته في الركوع - والله أعلم - واحتججت باللغة لأن مترجم نسخة التوراة ، التي وقعت لي ، في عداد البلغاء ، يعرف ذلك من تأمل واقع ترجمته لها . على أن سألت عن صلاة اليهود الآن ، فأخبرت أنه ليس فيها ركوع ، ثم رأيت البغوي صرح في قوله تعالى : { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } [ البقرة : 43 ] . بأن صلاتهم لا ركوع فيها ، وكذا ابن عطية وغيرهما . انتهى كلام البقاعي .
لطيفة :
قال السيوطي في " الإكليل " : في الآية دليل على أن الجماعة مطلوبة في الصلاة ، وعلى أن المرأة تندب لها الجماعة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ 44 ]
.
{ ذَلِكَ } إشارة إلى ما سبق : { مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ } أي : الأنباء المغيبة عنك : { نُوحِيهِ إِلَيكَ } مطابقاً لما في كتابهم . وتذكير الضمير في : { نُوحِيهِ } بجعل مرجعه ذلك : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } أي : وما كنت معايناً لفعلهم ، وما جرى من أمرهم في شأن مريم إذ يلقون أقلامهم ، أي : سهامهم التي جعلوا عليها علامات يعرف بها من يكفل مريم على جهة القرعة : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } بسببها تنافساً في كفالتها . وقد روي عن قتادة وغيره : أنهم ذهبوا إلى نهر الأردن واقترعوا هنالك على أن يلقوا أقلامهم ، فأيهم ثبت في جرية الماء فهو كافلها . فألقوا أقلامهم ، فاحتملها الماء إلا قلم زكريا ، فإنه ثبت . ويقال إنه ذهب صاعداً يشق جرية الماء والله أعلم .
قال أبو مسلم : معنى يلقون أقلامهم ، مما كانت الأمم تفعله من المساهمة عند التنازع فيطرحون منها ما يكتبون عليها أسماءهم ، فمن خرج له السهم سلم له الأمر ، وقد قال الله تعالى : { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } [ الصافات : 141 ] ، وهو شبيه بأمر القداح التي تتقاسم بها العرب لحم الجزور . وإنما سميت هذه السهام أقلاماً لأنها تقلم وتبرى ، وكل ما قطعت منه شيئاً بعد شيء فقد قلمته ، ولهذا السبب يسمى ما يكتب به قلماً . وقال السيوطي في " الإكليل " : هذه الآية أصل في استعمال القرعة عند التنازع . وقال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية أنه يجوز التخاصم لطلب الفضل حتى يتميز واحد بمزية ، ودلت على أن التمييز يحصل بالقرعة في الأمر الملبس .
لطيفة :
قال الزمخشري : فإن قلت : لم نفيت المشاهدة ، وانتفاؤها معلوم بغير شبهة ، وترك نفي استماع الأنباء من حفاظها ، وهو موهوم ؟ قلت : كان معلوماً عندهم علماً يقيناً أنه ليس من أهل السماع والقراءة ، وكانوا منكرين للوحي ، فلم يبق إلا المشاهدة ، وهي في غاية الاستبعاد والاستحالة ، فنفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي ، مع علمهم بأنه لا سماع له ولا قراءة . ونحوه : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيّ } [ القصص : 44 ] ، { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ } [ القصص : 46 ] ، { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ } [ يوسف : 102 ] ، - انتهى - وبالجملة : فالنفي تقرير وتحقيق لكون تلك الأنباء وحياً على طريقة التهكم بمنكريه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } [ 45 ]
.
{ إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ } شروع في قصة عيسى عليه السلام : { يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } أي : بمولود يحصل بكلمة منه بلا واسطة أب : { اسْمُهُ } ذكر الضمير الراجح إلى الكلمة لكونها عبارة عن مذكر . أي : اسمه الذي يميزه لقباً : { الْمَسِيحُ } وعلماً : { عِيسَى } معرب يسوع بالسين المهملة ، كلمة يونانية معناها مخلِّص ويرادفها يشوع بالمعجمة ، إلا أنها عبرانية كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل ، وفيها أن المسيح بمعنى : الممسوح أو المدهون . قال البقاعي : وأصل هذا الوصف أنه كان في شريعتهم : من مسحه الإمام بدهن القدس كان طاهراً متأهلاً للملك والعلم والولايات الفاضلة مباركاً ، فدل سبحانه على أن عيسى عليه السلام ملازم للبركة الناشئة عن المسح ، وإن لم يمسح . انتهى . وإنما قال : { ابْنُ مَرْيَمَ } مع كون الخطاب لها ، تنبيهاً على أنه يولد من غير أب ، فلا ينسب إلا إلى أمه ، وبذلك فضلت على نساء العالمين : { وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } أي : سيداً ومعظماً فيهما : { وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } أي : من الله عز وجل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ } [ 46 ]
.
{ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ } في محل النصب على الحال : { وَكَهْلاً } عطف عليه بمعنى ويكلم الناس ، حال كونه طفلا وكهلاً ، كلام الأنبياء من غير تفاوت بين الحالتين ، وذلك لا شك أنه غاية في المعجز . وفي ذلك بشارة ببقائه إلى أن يصير كهلاً . والمهد : الموضع الذي يهيأ للصبي ويوطأ لينام فيه . والكهل : من وخطه الشيب ، أو من جاوز الثلاثين إلى الأربعين أو الخمسين . قال ابن الأعرابي : يقال للغلام مراهق ، ثم محتلم ، ثم يقال : تخرج وجهه ، ثم اتصلت لحيته ، ثم مجتمع ، ثم كهل ، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة . قال الأزهري : وقيل له كهل حينئذ : لانتهاء شبابه وكمال قوته . وقوله تعالى : { وَمِنَ الصَّالِحِينَ } قال ابن جرير : يعني من عدادهم وأوليائهم ؛ لأن أهل الصلاح بعضهم من بعض في الدين والفضل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ 47 ]
.
{ قَالَتْ } مخاطبة لله الذي بعث إليها الملائكة : { رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } أي : لست بذات زوج : { قَالَ كَذَلِكِ } أي : على الحالة التي أنت عليها من عدم مس البشر : { اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء } ولا يحتاج إلى سبب ، ولا يعجزه شيء ، وصرح ههنا بقوله : { يَخْلُقُ مَا يَشَاء } ولم يقل : { يَفْعَلُ } كما في قصة زكريا ، لما أن الخلق المنبئ عن الإحداث للمكون أنسب بهذا المقام ؛ لئلا يبقى لمبطل شبهة ، وأكد ذلك بقوله :
{ إِذَا قَضَى أَمْراً } من الأمور أي : أراد شيئاً كما في قوله تعالى : { إِذَا أَرَادَ شَيْئاً } [ يس : 82 ] : { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ، من غير تأخر ولا حاجة إلى سبب كقوله : { وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [ القمر : 50 ] . أي : إنما نأمر مرة واحدة لا تثنية فيكون ذلك الشيء سريعاً كلمح البصر . وتقدم الكلام على هذه الآية في سورة البقرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ } [ 48 ]
.
{ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ } أي : الكتابة أو جنس الكتب الإلهية : { وَالْحِكْمَةَ } أي : تهذيب الأخلاق : { وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ } إفرادهما بالذكر على تقدير كون المراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة ، لزيادة فضلهما وإنافتهما على غيرهما .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِنْ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ 49 ]
.
{ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } منصوب بمضمر يقود إليه المعنى ، معطوف على يعلّمه أي : ويجعله رسولاً إلى جميع الإسرائيليين . وقيل : معطوف على الأحوال السابقة : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم } معمول لـ " رسولاً " لما فيه من معنى النطق . أي : رسولاً ناطقاً بأني قد جئتكم : { بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } التنوين للتفخيم دون الوحدة لظهور تعددها ، والجار متعلق بمحذوف وقع حالاً أي : متلبساً ومحتجاً بآية : { أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ } الضمير للكاف ، أي : في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير : { فَيَكُونُ طَيْراً } حقيقياً ذا حياة : { بِإِذْنِ اللّهِ } أي : أمره ، لا باستقلال مني : { وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ } الذي ولد أعمى : { والأَبْرَصَ } المبتلى بالبرص ، وهو بياض يظهر في البشرة لفساد مزاج . وفي " الإكليل " : هذه الآية أصل لما يقوله الأطباء : إن الأكمه الذي ولد أعمى ، والأبرص لا يمكن برؤهما ، كإحياء الموتى : { وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ } لا باستقلال مني . نفياً لتوهم الألوهية ، فهذه معجزات قاهرة فعلية : { وَأُنَبِّئُكُم } أي : أخبركم : { بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } مما لم أعاينه : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } أي : دلالة : { لَّكُمْ } على صدقي في دعوى الرسالة : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } مصدقين بآيات الله . وقد ذكر في الإنجيل أنه عليه السلام رد بصر أعميين في كفر ناحوم ، وأعمى في بيت صيدا ، ورجل ولد أعمى في أورشليم ، وشفى عشرة مصابين بالبرص في السامرة ، وأبرأ أبرص في كفر ناحوم ، وأقام ابن الأرملة من الموت في بلدة نايين ، وأحيا ابنة جيروس في كفر ناحوم ، والعازر في بيت عينا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ } [ 50 ]
.
{ وَمُصَدِّقاً } حال معطوفة على قوله " بآية " أي : جئتكم بآية وصدقاً : { لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ } أي : مقرراً لهما ومثبتاً : { وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } قال ابن كثير : فيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة ، وهو الصحيح من القولين . ومن العلماء من قال : لم ينسخ منها شيئاً ، وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه خطأ ، وانكشف لهم عن الغطاء في ذلك ، كما قال في الآية الأخرى : { وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } [ الزخرف : 63 ] . والله أعلم . انتهى .
أقول : من البعض الذي أحله عيسى عليه السلام لهم : فعل الخير في السبوت ، وقد كانوا يعتقدون تحريم مطلق عمل يوم السبت ، ولذا لما اجتاز عليه السلام بالإسرائيليين مرة ، أبصر مريضاً فسألوه : هل يحل أن يشفي في السبت ؟ فقال لهم عليه السلام : أي : إنسان منكم يكون له خروف ، فيسقط في حفرة يوم السبت ولا يمسكه ويرفعه ؟ والْإِنْسَاْن كم يفضل الخروف ؟ فإذن يحل فعل الخير في السبوت ، ثم أبرأ ذلك المريض - كذا في الأصحاح الثاني عشر ، من الفقرة التاسعة إلى الثالثة عشرة من إنجيل متى - وفيه في الأصحاح الخامس الفقرة السابعة عشرة قول المسيح عله السلام : لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ، ما جئت لأنقض بل لأكمل - انتهى - .
وقد اتفقوا على أن المسيح عليه السلام أقام شرائع التوراة كلها ، ثم جاء بولس ومن بعده من الرهبان ، فادعوا أن المسيح عليه السلام فعل ذلك كله ورفعه عنهم ، إذ أكمله وأتمه بفعله إياه . وكفاهم مؤونة العمل بشيء منه ، وأغناهم بشريعته الروحانية ، فنقضوا االناموس الذي جاء لإكماله المسيح . فمما نقضوه إباحة كثير من الحيوانات المحرمة في الناموس الموسويّ ، فنسخت حرمتها في الشريعة العيسوية ، وثبتت الإباحة العامة بفتوى بولس ، إذ قال لهم : لا شيء نجس العين ، كما في رسالته إلى أهل رومية . ومما نقضوه تعظيم السبت ، فقد كان حكماً أبدياً في الشريعة الموسوية ، وما كان لأحد أن يعمل فيه أدنى عمل ، وكان من عمل فيه عملاً واجب القتل . ومنه أحكام الأعياد المشروعة في التوراة . ومنه حكم الختان الذي كان أبدياً في شريعة إبراهيم عليه السلام وأولاده إلى شريعة موسى ، وقد ختن عيسى عليه السلام ، فنسخ حكمه الرهبان بعده ، كما نسخوا جميع الأحكام العملية للتوراة ، إلا الزنى ، كما بين في " إظهار الحق " ، في الباب الثالث في إثبات النسخ ، وقد أسلفنا جملة جليلة في هذا الشأن في سورة البقرة عند قوله تعالى : { وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا } [ البقرة : 135 ] . فانظرها { وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } كرره تأكيداً ، وليبنى عليه قوله : { فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [ 51 ]
.
{ إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا } أي : ما آمركم به : { صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ 52 ]
.
{ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ } أي : من بني إسرائيل : { الْكُفْرَ } أي : علمه ووجده منهم : { قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ } جمع نُصَيْر . والجار متعلق بمحذوف وقع حالاً ، أي : من أنصاري متوجهاً إلى الله ملتجئاً إليه : { قَالَ الْحَوَارِيُّونَ } وهم طائفة من بني إسرائيل انتدبت للإيمان بالمسيح عليه السلام فوازروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه - جمع حواريّ - وهو الناصر أو المبالغ في النصرة ، والوزير والخليل والخالص كما في " التوشيح " : { نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ } أي : أنصار دينه ورسوله { آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي : منقادون لرسالتك . ولما أشهدوه عليه السلام أشهدوا الله تعالى الآمر بما أنزل من الإيمان به وبأوامره فقالوا :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } [ 53 ]
.
{ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ } فأشهدناك على ما نحن عليه من تصديقنا دعواه : { فَاكْتُبْنَا } أي : جزاء على إشهادنا إياك : { مَعَ الشَّاهِدِينَ } أي : مع الذين يشهدون بوحدانيتك . وهم المتقدمون في آية : { شهد الله } أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم .
لطيفة :
جاء في إنجيل متى في الأصحاح العاشر ما يأتي :
1 - ثم دعا تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم سلطاناً على أرواح نجسة حتى يخرجوها ويشفوا كل مرض وكل ضعف .
2 - وأما أسماء الاثني عشر رسولاً فهي هذه : الأول : سمعان ، الذي يقال له بطرس واندراوس أخوه ، يعقوب بن زبدي ويوحنا أخوه .
3 - فيلُبُّس وبرثو لماوس ، توما ومتّى العشّار ، يعقوب بن حلفى ، ولبّاوس الملقب تدّاوس .
4 - سمعان القانوي ويهوذا الإسخريوطي الذي أسلمه .
وكانوا يسمون رسل عيسى عليه السلام ، لأنه بعثهم إلى الإسرائيليين الضالين يدعونهم إلى الحق الذي جاء به ، فبذلوا الجهد في بثه وانتشاره وإقامته ، إلى أن جاء بولس فسلبهم بخداعه ، دين المسيح الصحيح ، فلم يسمعوا له بعد من خبر ، ولا وقفوا له على أثر ، وطمس لهم رسوم التوراة ، وحلل لهم كل محرم ، كما بين ذلك في غير هذا الموضع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ 54 ]
.
{ وَمَكَرُواْ } أي : الذين أحس عيسى عليه السلام منهم الكفر ، بأن هموا بالفتك به وإرادته بالسوء ، حيث تمالؤوا عليه ووشوا به إلى ملكهم : { وَمَكَرَ اللّهُ } أي : بهم بعد ذلك فانتقم منهم ، وأورثهم ذلة مستمرة وأباد ملكهم : { وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } أي : أقواهم مكراً ، وأنفذهم كيداً ، وأقدرهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب . وقال البقاعي كغيره في قوله تعالى : { وَمَكَرَ اللّهُ } أي : بأن رفعه إليه ، وشبه ذلك عليهم حتى ظنوا أنهم صلبوه ، وإنما صلبوا أحدهم ، ويقال : إنه الذي دلّهم . وأما هو عليه السلام ، فصانه عنده بعد رفعه إلى محل أوليائه وموطن قدسه ، لينزله في آخر الزمان لاستئصالهم بعد أن ضربت عليهم الذلة بعد قصدهم له بالأذى الذي طلبوا به العز إلى آخر الدهر ، فكان تدميرهم في تدبيرهم . ثم أخبر تعالى ببشارته بالعصمة من مكرهم بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [ 55 ]
.
{ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } أي : مستوفي مدة إقامتك بين قومك . والتوفي ، كما يطلق على الإماتة ، كذلك يطلق على استيفاء الشيء . كما في كتب اللغة . ولو ادعي أن التوفي حقيقة في الأول ، والأصل في الإطلاق الحقيقة فنقول : لا مانع من تشبيه سلب تصرفه عليه السلام بأتباعه وانتهاء مدته المقدرة بينهم بسلب الحياة . وهذا الوجه ظاهر جداً ، وله نظائر في الكتاب العزيز ، قال تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } [ الزمر : 42 ] . قال الزمخشري : يريد : ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها ، أي : يتوفاها حين تنام ، تشبيهاً للنائمين بالموتى ، ومنه قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ } [ الأنعام : 60 ] حيث لا يميزون ولا يتصرفون ، كما أن الموتى كذلك - انتهى كلامه - . ثم بين سبحانه في بشارته بالرفعة إلى محل كرامته وموطن ملائكته ومعدن النزاهة عن الأدناس فقال : { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : من مكرهم وخبث صحبتهم . وقد دلت هذه الآية بظاهرها على أن الله تعالى فوق سمواته ، كقوله تعالى : { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيما } [ النساء : 158 ] وقوله تعالى : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ النحل : 50 ] ، وقوله تعالى : { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } [ السجدة : 5 ] . وقوله تعالى : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } [ الملك : 16 ] . وهو مذهب السلف قاطبة ، كما نقله الإمام الذهبي في كتاب " العلو " .
قال أبو الوليد بن رشد في " مناهج الأدلة " : لم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتون لله سبحانه وتعالى جهة الفوق حتى نفتها المعتزلة ، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشاعرة كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله - إلى أن قال : والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء ، وأن منه تتنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين ، وأن من السموات نزلت الكتب ، وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم . وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء ، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك بالمعقول . وبين بطلان الشبهة التي لأجلها نفتها الجهمية ومن وافقهم - إلى أن قال : فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل . وأن أبطاله إبطال الشرائع . قال الدارمي : وقد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله فوق عرشه فوق سمواته . وقد بسط نصوص السلف الحافظ الذهبي في كتاب " العلو " فانظره ، هذا ، ولما كان لذوي الهمم العوال ، أشد التفات إلى ما يكون عليهم خلفاؤهم من بعدهم من الأحوال ، بشره تعالى في ذلك بما بشره فقال : { وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وكذا كان لم يزل من انتحل النصرانية فوق اليهود ، ولا يزالون كذلك إلى أن يعدموا ، فلا يبقى منهم أحد : { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } ثم فسر الحكم الواقع بين الفريقين بقوله : { فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ }(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ } [ 56 ](/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } [ 57 ]
.
{ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } أي : يبغضهم ، فإن هذه الكناية فاشية في جميع اللغات ، جارية مجرى الحقيقة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ } [ 58 ]
.
{ ذَلِكَ } إشارة إلى ما سبق من نبأ عيسى عليه السلام وهو مبتدأ و خبره : { نَتْلُوهُ عَلَيْكَ } أي : من غير أن يكون لك اطلاع سابق عليه . وقوله تعالى : { مِنَ الآيَاتِ } حال من الضمير المنصوب أو خبر بعد خبر : { وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ } أي : المشتمل على الحكم ، أو المحكم المعصوم من تطرق الخلل إليه ، والمراد به : القرآن .
تنبيه :
في قوله : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } . وجوه في التأويل كثيرة ، إلا أن الذي فتح المولى به مما أسلفناه هو أرجح التأويلات والله أعلم ، وبه يسقط زعم النصارى أن هذه الآية حجة علينا ، لإفادتها وفاته عليه السلام ، أي : بالصلب ، ثم رفعه إلى السماء ، أعني : قيامه حياً بعد وفاته على زعمهم من أنه مات بجسده ، وأقام على الصليب إلى وقت الغروب من يوم الجمعة ، ثم أنزل ودفن في أول ساعة من ليلة السبت ، وأقام في القبر إلى صبيحة الأحد ، ثم انبعث حياً ، وتراءى للنسوة اللائي جئن إلى قبره زائرات ، وقد استندوا في هذا الزعم إلى شهادة أناجيلهم الأربع ، وشهادة تلاميذه الشفاهية في العالم ، ثم أتباعهم ، وكذا شهادة اليهود بوقوع الصلب على المسيح ذاتياً . ووجه سقوط زعمهم الفاسد المذكور ما بيناه في معنى الآية مما لا يبقى معه أدنى ارتياب . وقد بين علماؤنا بطلان معتقدهم هذا في تآليف وتحارير فانظره في " حواشي تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب " تأليف الشيخ : عبد الله بك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ 59 ]
.
{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى } أي : شأنه العجيب في إنشائه بالقدرة من غير أب : { عِندَ اللّهِ } أي : في تقديره وحكمه : { كَمَثَلِ آدَمَ } أي : كحاله العجيبة التي لا يرتاب فيها مرتاب : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } جملة مفسرة للتمثيل ببيان وجه الشبه بينهما . وحسم لمادة به الخصوم ، فإن إنكار خلق عيسى عليه السلام بلا أب ممن اعترف بخلق آدم عليه السلام بغير أب وأم ، مما لا يكاد يصح - قاله أبو السعود - وقوله : { خَلَقَهُ } أي : صور جسد آدم من تراب ثم قال له : { كن } أي : بشراً كاملاً روحاً وجسداً ، فإن أمره تعالى يفيد قوة التكون . قال البقاعي : وعبر بصيغة المضارع المقترن بالفاء في : { فَيَكُونُ } دون الماضي ، وإن كان المتبادر إلى الذهن أن المعنى عليه حكاية للحال وتصويراً لها ؛ إشارة إلى أنه كان الأمر من غير تخلف ، وتنبيهاً إلى أن هذا هو الشأن دائماً بتجدد مع كل مراد ، لا يتخلف عن مراد الآمر أصلاً ، كما تقدم التصريح به في آية { إِذَا قَضَى أَمْراً } .
لطيفة :
قال الرازي : الحكماء قالوا : إنما خلق آدم عليه السلام من تراب لوجوه :
الأول : ليكون متواضعاً .
الثاني : ليكون ستاراً .
الثالث : ليكون أشد التصاقاً بالأرض . وذلك لأنه إنما خلق لخلافة أهل الأرض . قال تعالى : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] .
الرابع : أراد الحق إظهار القدرة ، فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الإجرام ، وابتلاهم بظلمات الضلالة ، وخلق آدم من التراب الذي هو أكثف الأجرام ، ثم أعطاه المحبة والمعرفة والنور والهداية .
الخامس : خلق الْإِنْسَاْن من تراب ليكون مطفئاً لنار الشهوة والغضب . انتهى ملخصاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ } [ 60 ]
.
{ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } خبر مبتدأ محذوف ، أي : الذي قصصنا عليك من نبأ عيسى الحق ، وقيل : الحق مبتدأ ، والظرف خبر ، أي : الحق المذكور . وقيل : الحق فاعل لمضمر ، أي : جاءك الحق . وفي الحق تأويلان :
الأول : قال أبو مسلم : المراد أن هذا الذي أنزلت عليك هو الحق من خبر عيسى عليه السلام ، لا ما قالت النصارى واليهود ، فالنصارى قالوا إن مريم ولدت إلهاً ، واليهود رموا مريم عليها السلام بالإفك ، ونسبوها إلى يوسف النجار ، فالله تعالى بين أن هذا الذي أنزل في القرآن هو الحق ، ثم نهى عن الشك فيه .
والقول الثاني : أن المراد أن الحق في بيان هذه المسألة ما ذكرناه من المثل ، وهو قصة آدم عليه السلام ، فإنه لا بيان أقوى منها . والله أعلم .
{ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ } خطاب إما للنبي صلى الله عليه وسلم على طريقة التهييج لزيادة الثبات ، أو لكل سامع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } [ 61 ]
.
{ فَمَنْ حَآجَّكَ } أي : جادلك من النصارى بإيراد حجة : { فِيهِ } أي : في شأن عيسى ، زعماً منهم أنه ليس على الشأن المتلو : { مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ } أي : الذي أنزلناه إليك ، وقصصناه عليك في أمره . وللفاضل المهايمي في هذه الآية أسلوب لطيف في التأويل حيث قال : { الْحَقُّ } أي : الثابت الذي لا يقبل التأويل جاء : { مِن رَّبِّكَ } الذي رباك بالإطلاع على الحقائق : { فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ } بما ورد في الإنجيل من إطلاق لفظ الأب على الله ، فإنه إطلاق مجازي ؛ لأنه لما حدث منه كان كأبيه . وإذا ظهر لك الحق من ربك بالبيان التام : { فَمَنْ حَآجَّكَ } أي : جادلك : { فِيهِ } لإثبات أبنيته بظواهر الإنجيل : { مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ } القطعي الموجب لتأويله { فَقُلْ } لم يبق بيننا وبينكم مناظرة ، ولكن نرفع عنادكم بطريق المباهلة : { تَعَالَوْاْ } أي : أقبلوا أيها المجادلون إلى أمر يعرف فيه علو الحق وسفول الباطل : { نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ } أي يدع كل منا ومنكم نفسه ، وأعزة أهله ، وألصقهم بقلبه ، ممن يخاطر الرجل بنفسه لهم ، ويحارب دونهم ، ويحملهم على المباهلة : { ثُمَّ نَبْتَهِلْ } أي : نتضرع إلى الله تعالى ونجتهد في دعاء اللعنة : { فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ } أي : إبعاده وطرده : { عَلَى الْكَاذِبِينَ } منا ومنكم ليهلكهم الله وينجي الصادقين ، فلا يبقى العناد الباقي عليكم بعد اتفاق الدلائل العقلية والنقلية .
تنبيهات :
الأول - قال القاشاني : إن لمباهلة الأنبياء تأثيراً عظيماً ، سببه : اتصال نفوسهم بروح القدس ، وتأييد الله إياهم به ، وهو المؤثر بإذن الله في العالم العنصري ، فيكون انفعال العالم العنصري منه كانفعال بدننا من روحنا بالهيئات الواردة عليه ، كالغضب والحزن والفكر في أحوال المعشوق ، وغير ذلك من تحرك الأعضاء عند حدوث الإرادات والعزائم ، وانفعال النفوس البشرية منه ، كانفعال حواسنا وسائر قوانا من هيئات أرواحنا ، فإذا اتصل نفس قدسي به كان تأثيرها في العالم عند التوجه الاتصالي بتأثير ما يتصل به ، فتنفعل أجرام العناصر والنفوس الناقصة الْإِنْسَاْنية منه بما أراد ، ألم تر كيف انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليه السلام بالخوف ، وأحجمت عن المباهلة ، وطلبت الموادعة بقبول الجزية ! .
الثاني : قال ابن كثير : وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نصارى نجران لما قدموا المدينة ، فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية ، فأنزل الله صدر هذه السورة رداً عليهم كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق وغيره ، وكانوا ستين راكباً ، منهم ثلاثة نفر ، إليهم يؤول أمرهم : العاقب أمير القوم واسمه : عبد المسيح ، والسيد ثِمَاُلُهم ، وصاحب رحلهم واسمه : الأيهم ، وأبو حارث بن علقمة أسقفهم وحبرهم . وفي القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه الخبر من الله عز وجل ، والفصل من القضاء بينه وبينهم ، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم ، إن ردوا ذلك عليه ، دعاهم إلى المباهلة ، فقالوا : يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك بما نريد [ في المطبوع : نزيد ] أن نفعل فيما دعوتنا إليه ، فانصرفوا عنه ، ثم خلوا بالعاقب فقالوا : يا عبد المسيح ماذا ترى ؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرفتم إن محمداً لنبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم ما لاعَنَ قوم نبياً قط ، فبقي كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم ، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم ، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم ، فوادعوا الرجل ثم انصرفوا إلى بلادكم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم ! قد رأينا أن لا نلاعنك ، وأن نتركك على دينك ، ونرجع على ديننا . فلم يلاعنهم صلى الله عليه وسلم ، وأقرهم على خراج يؤدونه إليه .
وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه عن الشعبي عن جابر قال : قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب ، فدعاهما إلى الملاعنة ، فواعداه على أن يلاعناه الغداة ، قال : فغدا رسول الله ، فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ، ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا ، وأقرا له بالخراج ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < والذي بعثني بالحق ، لو قالا : لا ، لأمطر عليهم الوادي ناراً > . قال جابر : وفيهم نزلت : { نَدْعُ أَبْنَاءنَا } الآية . قال جابر : أنفسنا وأنفسكم : رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب ، وأبناؤنا الحسن والحسين ، ونساؤنا : فاطمة ، وهكذا - رواه الحاكم في مستدركه بمعناه ، ثم قال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه . هكذا قال .
وقد رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن المغيرة عن الشعبي مرسلاً ، وهذا أصح .
وقد روي عن ابن عباس والبراء نحو ذلك .
وروى البخاري عن حذيفة رضي الله عنه قال : جاء العاقب والسيد ، صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه ، قال : فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل ، فوالله لئن كان نبياً فلاعنّا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا ، قالا : إنا نعطيك ما سألتنا ، وابعث معنا رجلاً أميناً ، ولا تبعث معنا إلا أميناً . فقال : < لأبعثن معكم رجلاً أميناً ، حق أمين > . فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : قم يا أبا عبيدة بن الجراح ، فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < هذا أمين هذه الأمة > . ورواه مسلم والنسائي أيضاً وغيرهم .
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : قال أبو جهل قبحه الله - : إن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على رقبته ، قال : فقال : لو فعل لأخذته الملائكة عياناً ، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ، ولرأوا مقاعدهم من النار ، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لرجعوا لا يجدون مالاً ولا أهلاً .
قال ابن الكثير : وقد رواه البخاري والترمذي والنسائي . وقد ساق قصة وفد نجران الإمام ابن القيم عليه الرحمة في " زاد المعاد " وأعقبها بفصل مهم في فقهها ، فليراجع .
الثالث : قال الزمخشري : فإذا قلت : ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلى ليتبين الكاذب منه ومن خصمه ، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه . فما معنى ضم الأبناء والنساء ؟ قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله ، واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك . ولم يقتصر على تعريض نفسه له ، وعلم ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة ، وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب ، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل ، ومن ثمت كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب . ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق . وقدَّمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدّون بها . وفيه دليل ، لا شيء أقوى منه ، على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام . وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك .
الرابع : استنبط من الآية جواز المحاجة في أمر الدين ، وأن من جادل وأنكر شيئاً من الشريعة جازت مباهلته اقتداء بما أمر به صلى الله عليه وسلم . والمباهلة : الملاعنة .
قال الكازروني في تفسيره : وقع البحث عند شيخنا العلامة الدواني قدس الله سره في جواز المباهلة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، فكتب رسالة في شروطها المستنبطة من الكتاب والسنة والآثار ، وكلام الأئمة ، وحاصل كلامه فيها : أنها لا تجوز إلا في أمر مهم شرعاً ، وقع فيه اشتباه وعناد لا يتيسر دفعه إلا بالمباهلة ، فيشترط كونها بعد إقامة الحجة والسعي في إزالة الشبهة وتقديم النصح والإنذار وعدم نفع ذلك ، ومساس الضرورة إليها .
قال الإمام صديق خان في تفسيره : وقد دعا الحافظ ابن القيم ، رحمه الله ، من خالفه في مسألة صفات الرب تعالى شأنه وإجرائها على ظواهرها من غير تأويل ولا تحريف ولا تعطيل ، إلى المباهلة بين الركن والمقام ، فلم يجبه إلى [ في المطبوع : يحبه إلا ] ذلك ، وخاف سوء العاقبة . وتمام هذه القصة مذكور في أول كتابه المعروف بـ " النونية " - انتهى - وقد ذكر في " زاد المعاد " في فصل فقه قصة وفد نجران ما نصه : ومنها أن السنة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله ولم يرجعوا ، بل أصروا على العناد أن يدعوهم إلى المباهلة ، وقد أمر الله سبحانه بذلك رسوله ، ولم يقل : إن ذلك ليس لأمتك من بعدك . ودعا إليه ابن عمه عبد الله بن عباس لمن أنكر عليه بعض مسائل الفروع ، ولم ينكر عليه الصحابة ، ودعا إليه الأوزاعي سفيان الثوري في مسألة رفع اليدين ، ولم ينكر عليه ذلك ، وهذا من تمام الحجة - انتهى - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 62 ]
.
{ إِنَّ هَذَا } أي : المتقدم من شأن عيسى عليه السلام : { لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ } الذي لا معدل عنه ، دون أقاصيص النصارى . والقصص تتبع الوقائع بالإخبار عنها شيئاً بعد شيء على ترتيبها ، في معنى قص الأثر ، وهو اتباعه ، حتى ينتهي إلى محل ذي الأثر - أفاده الحرالي - .
قال البقاعي : ولما بدأ سبحانه القصة أول السورة بالإخبار بوحدانيته مستدلاً على ذلك بأنه الحي القيوم صريحاً ، ختم ذلك إشارة وتلويحاً فقال ، عاطفاً على ما أنتجه ما تقدم من أن عيسى عبد الله ورسوله ، معمماً للحكم : { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ } فصرح فيه بـ : { مِنْ } الاستغراقية ، تأكيداً للرد على النصارى في تثليثهم : { وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فلا يشاركه أحد في العزة والحكمة ، ليشاركه في الألوهية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ } [ 63 ]
.
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي : أعرضوا عن قبول الحق الذي قص عليه بعدما عاينوا تلك الحجج النيرة : { فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ } أي : بهم ، فيجازيهم على إفسادهم . والتعبير عنهم بذلك إشارة إلى أنهم بتوليهم ، مفسدون اعتقادهم واعتقاد غيرهم في الله تعالى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ 64 ]
.
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } أي : إلى قول معتدل لا يميل إلى التعطيل ولا إلى الشرك ، متفق عليها لا يختلف فيها الرسل والكتب ، وهي : { أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } أي : لا نرى غيره مستحقاً للعبادة فنشركه معه ، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له . وهذه دعوة جميع الرسل . قال الله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] . وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] { وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً } أي : كعزير والمسيح والأحبار والرهبان الذين كانوا يحلون لهم ويحرمون . كما روى الترمذي عن عدي بن حاتم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } [ التوبة : 31 ] . قال : < إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكنهم كانوا إذا أحلّوا لهم شيئاً استحلوه ، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه > .
قال الكيا الهراسي : فيه رد على من قال بالاستحسان المجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعي ، وعلى من قال : يجب قبول قول الإمام في التحليل والتحريم ولو دون إبانة مستند شرعي .
قال البقاعي : ولما كان الرب قد يطلق على المعلم والمربي بنوع تربية ، نبه على أن المحذور إنما هو اعتقاد الاستبداد والاجتراء على ما يختص به الله فقال : { مِّن دُونِ اللّهِ } الذي اختص بالكمال : { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي : عن هذه الكلمة السواء المتفق عليها : { فَقُولُواْ } أي : تبعاً لأبيكم إبراهيم عليه السلام إذ قال : أسلمت لرب العالمين . وامتثالاً لوصيته إذ قال : { وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } { اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي : لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا بأنَّا مسلمون دونكم ، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع أو غيرهما : اعترف بأني أنا الغالب ، وسلم لي الغلبة . ويجوز أن يكون من باب التعريض ، ومعناه : اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره . كذا قال " الكشاف " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ 65 ]
.
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ } أي : تجادلون فيه فيدعيه كل من فريقكم : { وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ } أي : المقرر كل منهما لأصل دين منتحله منكم : { إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدل المحال .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ 66 ]
{ هَاأَنتُمْ هَؤُلاء } أي : الأشخاص الحمقى : { حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ؛ إذ له ذكر في كتابكم ، فأمكنكم تغييره لفظاً ومعنى ، أو من أمر موسى وعيسى عليهما السلام ، أو مما نطق به التوراة والإنجيل : { فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ } من أمر إبراهيم لكونه لم يذكر في كتابكم بما حاججتم ، فلا يمكنكم فيه التغيير : { وَاللّهُ يَعْلَمُ } فيبينه لنبيه : { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ 67 ]
.
{ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً } أي : كما ادعى اليهود : { وَلاَ نَصْرَانِيّاً } كما ادعى النصارى : { وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً } سبق معنى الحنيف عند قوله تعالى : { بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } في البقرة : { وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } تعريض بأنهم مشركون بقولهم : عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، ورد لادعاء المشركين أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } [ 68 ]
.
{ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ } أي : أخصهم به وأقربهم منه ، من " الولي " وهو القرب : { لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ } أي : في دينه من أمته وغيرهم : { وَهَذَا النَّبِيُّ } يعني خاتم الأنبياء محمداً صلى الله عليه وسلم : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ } به فعملوا بشريعته الموافقة لشريعة إبراهيم : { وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } بالنصر والمعونة والمحبة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } [ 69 ]
.
{ وَدَّت } أي : تمنت : { طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ } بالرجوع إلى دينهم حسداً وبغياً : { وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ } أي : وما يتخطاهم الإضلال ، ولا يعود وباله إلا عليهم ، إذ يضاعف به عذابهم : { وَمَا يَشْعُرُونَ } أي : أن وزره خاص بهم . ونظير هذه الآية قوله تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } [ البقرة : 109 ] وقوله : { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً } [ النساء : 89 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } [ 70 ]
.
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ } أي : المنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم : { وَأَنتُمْ تَشْهَدُون } أي : تعلمون حقيقتها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ 71 ]
.
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } أي : تسترون الحق المنزل بتمويهاتكم الباطلة : { وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ } أي : الذي لا يقبل تمويهاً ولا تحريفاً : { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : عالمين بما تكتمونه من حقّيته وقد كانوا يعلمون ما في التوراة والإنجيل من البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم ونبوته ، ويلبسون على الناس في ذلك ، كدأبهم في غيره . وفي الآية دلالة على قبح كتمان الحق ، فيدخل في ذلك أصول الدين وفروعه والفتيا والشهادة . وعلى قبح التلبيس . فيجب حل الشبهة وإبطالها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ 72 ]
.
{ وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ } أي : أوله : { وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } هذه الآية حكاية لنوع آخر من تلبيساتهم . وهي مكيدة أرادوها ليلبسوا على الضعفاء من المؤمنين أمر دينهم ، وهو أنهم اشتوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار ويصلّوا مع المسلمين ، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم . فيظن الضعفاء أنه لا غرض لهم إلا الحق ، وأنه ما ردهم عن الدين بعد اتباعهم له وترك العناد ، وهم أولو علم وأهل كتاب ، إلا ظهور بطلانه لهم ، ولهذا قال : { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي : عن الإسلام كما رجعتم .
لطيفة :
قال الرازي : الفائدة في إخبار الله تعالى عن تواطئهم على هذه الحيلة من وجوه :
الأول : أن هذه الحيلة كانت مخيفة فيما بينهم وما أطلعوا عليها أحداً من الأجانب ، فلما أخبر الرسول عنها كان ذلك إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً .
الثاني : أنه تعالى لما أطلع المؤمنين على تواطئهم على هذه الحيلة لم يحصل لها أثر في قلوب المؤمنين ، ولولا هذا الإعلام لكان ربما أثرت في قلب بعض من في إيمانه ضعف .
الثالث : أن القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة صار ذلك رادعاً لهم عن الإقدام على أمثالها من الحيل والتلبيس .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ 73 ]
.
{ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } من تتمة كلامهم ، أي : ولا تصدقوا إلا نبياً تابعاً لشريعتكم ، لا من جاء بغيرها ، أو ولا تؤمنوا ذلك الإيمان المتقدم ، وهو إيمانهم وجه النهار ، إلا لأجل حفظ أتباعكم وأشياعكم وبقائهم على دينكم : { قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ } أي : الذي هو الإسلام وقد جئتكم به ، وما عداه ضلال ، فلا ينفعكم في دفعه هذا الكيد الضعيف ولا تقدرون على إضلال أحد منا بعد أن هدانا الله . ثم وصل به تقريعهم فقال : { أَنْ } بمد الألف على الاستفهام ، في قراءة ابن كثير . وتقديرها في قراءة غيره ، أي : دعاكم الحسد والبغي حتى قلتم ما قلتم ودبرتموه الآن : { يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ } من الشرائع والعلم والكتاب : { أَوْ } كراهة أن : { يُحَآجُّوكُمْ } أي : الذين أوتوا مثل ما أوتيتم : { عِندَ رَبِّكُمْ } أي : بالشهادة عليكم يوم القيامة أنهم آمنوا وكفرتم بعد البيان الواضح فيفضحكم : { قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ } أي : بإنزال الآيات وغيرها : { بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } فلا يمكنكم منعه : { وَاللّهُ وَاسِعٌ } كثير العطاء : { عَلِيمٌ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [ 74 ]
.
{ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء } فيزيده فضلاً عليكم : { وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ 75 ]
.
{ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } بالمطالبة والترافع وإقامة البينة ، فلا يبعد منه الخيانة مع الله بكتمان ما أمره بإظهاره طمعاً في إبقاء الرئاسة والرشا عليه . ثم استأنف علة الخيانة بقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } أي : ذلك الاستحلال والخيانة هو بسبب أنهم يقولون : ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب عقاب ومؤاخذة فهم يخونون الخلق : { وَيَقُولُونَ } أي : في الاعتذار عنه : { عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ } بادعائهم ذلك وغيره ، فيخونونه أيضاً : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنه كذب محض وافتراء لتحريم الغدر عليهم . كما هو في التوراة . وقد مضى نقله في البقرة في آية : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا } [ البقرة : 62 ] . فارجع إليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [ 76 ]
.
{ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } اعلم أن بلى إما لإثبات ما نفوه من السبيل عليهم في الأميين ، أي : بلى عليهم سبيل ، فالوقف حينئذ على بلى وقف التمام ، وقوله : { مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ } جملة مقررة للجملة التي سدت بلى مسدها . وإما لابتداء جملة بلا ملاحظة كونها جواباً للنفي السابق ، فإن كلمة بلى قد تذكر ابتداء لكلام آخر يذكر بعدها - كما نقله الرازي - وهذا هو الذي أرتضيه . وإن اقتصر " الكشاف " ومقلدوه على الأول . وقد ذكروا في نعم أنها تأتي لتوكيد إذا وقعت صدراً . نحو : نعم هذه أطلالهم ، فلتكن بلى كذلك ، فإنهما أخوان ، وإن تخالفا في صور ، وعلى هذا فلا يحسن الوقف على بلى . والضمير في : { بِعَهْدِهِ } إما لاسم الله في قوله : { وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } على معنى : إن كل من أوفى بعهد الله واتقاه في ترك الخيانة والغدر فإن الله يحبه . وإما لـ : { مَنْ أَوْفَى } على أن كل من أوفى بما عاهد عليه واتقاه فإنه يحبه .
قال الزمخشري : فإن قلت فهذا عام ، يخيل أنه ولو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانة لكسبوا محبة الله . قلت : أجل لأنهم إذا وفوا بالعهود ، وفوا أول شيء بالعهد الأعظم وهو ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان برسول مصدق لما معهم ، ولو اتقوا الله في ترك الخيانة لاتقوه في ترك الكذب على الله وتحريف كلمه . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 77 ]
.
{ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ } أي : يستبدلون : { بِعَهْدِ اللّهِ } أي : بما أخذهم عليه في كتابه ، أو بما عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول المصدق لما معهم : { وَأَيْمَانِهِمْ } أي : التي عقدوها بالتزام متابعة الحق على ألسنة الرسل : { ثَمَناً قَلِيلاً } من الدنيا الزائلة الحقيرة التي لا نسبة لجميعها إلى أدنى ما فوتوه : { أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ } أي : لا نصيب ثواب : { لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وذلك لحجبهم عن مقامات قربه كما قال تعالى : { كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } { وَلاَ يُزَكِّيهِمْ } أي : ولا يثني عليهم كما يثني على أوليائه ، أو لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : بالنار . واعلم أن في هذه الآية مسائل :
الأولى : قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية أن من نقض عهداً لله لغرض دنيوي ، أو حلف كاذباً ، فإنه قد ارتكب كبيرة .
الثانية : في الجمع بين قوله تعالى هنا : { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ } . وقوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] . قال القفال : المقصود من هذه الآية بيان شدة سخط الله عليهم ، لأن من منع غيره كلامه فإنما ذلك بسخطٍ عليه ، وإذا سخط إنسان على آخر قال له : لا أكلمك . وقد يأمر بحجبه عنه ، ويقول : لا أرى وجه فلان ، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل ، فثبت أن الآية كناية عن شدة الغضب ، نعوذ بالله منه . ومنهم من قال : لا يبعد أن يكون إسماع الله جل جلاله أولياءه كلامه بغير سفير تشريفاً عالياً يختص به أولياءه . ولا يكلم هؤلاء الكفرة والفساق ، وتكون المحاسبة معهم بكلام الملائكة . ومنهم من قال : معنى الآية لا يكلمهم بكلام يسرهم وينفعهم ، والكل حسن .
الثالثة : روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي الله وهو عليه غضبان > . قال عبد الله : ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } إلى آخر الآية . وفي رواية قال : < من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان > فأنزل الله تصديق ذلك : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } الآية . فدخل الأشعث بن قيس الكندي فقال : ما يحدثكم أبو عبد الرحمن ؟ قلنا : كذا وكذا ، فقال : صدق ، فيّ نزلت ، كان بيني وبين رجل خصومة في بئر ، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < شاهداك أو يمينه > . قلت : إنه إذاً يحلف ولا يبالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان > ونزلت : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } إلى آخر الآية .
وأخرجه الترمذي وأبو داود وقالا : إن الحكومة كانت بين الأشعث وبين رجل يهودي .
وروى البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى أن رجلاً أقام سلعة وهو في السوق ، فحلف بالله : لقد أعطى بها ما لم يعطه ، ليوقع فيها رجلاً من المسلمين ، فنزلت : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } إلى آخر الآية . وقدمنا في مقدمة التفسير ، في بحث سبب النزول ، وفي سورة البقرة أيضاً عند آية : { مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ } [ البقرة : 97 ] ، ما يعلم به الجمع بين مثل هذه الروايات ، وأنه لا تنافي . فتذكّر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ 78 ]
.
{ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } قال الإمام ابن كثير : يخبر تعالى عن اليهود ، عليهم لعائن الله ، أن منهم فريقاً يحرفون الكلم عن مواضعه ، ويبدلون كلام الله ، ويزيلونه عن المراد به ، ليوهموا الجهلة أنه في كتاب الله كذلك ، وينسبونه إلى الله ، وهو كذب على الله ، وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا في ذلك كله ، ولهذا قال تعالى : { وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } قال مجاهد والشعبي والحسن وقتادة والربيع بن أنس : يلوون ألسنتهم بالكتاب ، ويحرفونه . وهكذا روى البخاري عن ابن عباس أنهم يحرفون ويزيلون . وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله عز وجل ، ولكنهم يحرفونه : يتأولونه على غير تأويله .
وقال وهب بن منبه : إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منهما حرف ، ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل ، وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم ويقولون : هو من عند الله وما هو من عند الله . فأما كتب الله فإنها محفوظة لا تحول . رواه ابن أبي حاتم . قال ابن كثير : فإن عنى وهب ما بأيديهم من ذلك ، فلا شك أنه قد دخلها التبديل والتحريف والزيادة والنقص . وأما تعريب ذلك المشاهد بالعربية ، ففيه خطأ كبير وزيادات كثيرة ونقصان ووهم فاحش . وهو من باب تفسير المعرب المعبر ، وفهم كثير منهم فاسد . وأما إن عنى كتب الله التي هي كتبه من عنده ، فتلك كما قال ، محفوظة لم يدخلها شيء - انتهى - وقد قدمنا الكلام على ذلك في مقدمة التفسير عند الكلام على الإسرائيليات ، وفي سورة البقرة أيضاً عند قوله تعالى : { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } [ البقرة : 75 ] .
ولما بين تعالى كذبهم عليه - جل ذكره - بين افتراءهم على رسله إذ زعموا أن عيسى عليه السلام أمرهم أن يتخذوه رباً ، فرد سبحانه عليهم بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ } [ 79 ]
.
{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ } أي : ما صح ولا استقام . وفي التعبير ببشر إشعار بعلة الحكم ، فإن البشرية منافية لما افتروه عليه : { أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ } أي : الفهم والعلم أو الحكمة : { وَالنُّبُوَّةَ } وهي الخبر منه تعالى ليدعو الناس إلى الله بترك الأنداد : { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ } أي : الذين بعثه الله إليهم ليدعوهم إلى عبادته وحده : { كُونُواْ عِبَاداً لِّي } أي : اتخذوني رباً : { مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن } يقول لهم : { كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ } أي : منسوبين إلى الرب لاستيلاء الربوبية عليهم وطمس البشرية ، بسبب كونهم عالمين عاملين معلمين تالين لكتب الله . أي : كونوا عابدين مرتاضين بالعلم والعمل والمواظبة على الطاعات ، حتى تصيروا ربانيين بغلبة النور على الظلمة - أفاده القاشاني - : { بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ } أي : بسبب مثابرتكم على تعليم الناس الكتاب ودراسته ، أي : قراءته . فإن ذلك يجركم إلى الله تعالى بالإخلاص في عبادته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ 80 ]
.
{ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ } أي : بالعود إليه وقد بعث لمحو الشرك : { بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } أي : بعد استقراركم على الإسلام .
تنبيهات :
الأول : إذا كان ما ذكر في الآية لا يصلح لنبي ولا لمرسل ، فلأن لا يصلح لأحد من الناس غيرهم ، بطريق الأولى والأحرى .
ولهذا قال الحسن البصري : لا ينبغي هذا لمؤمن ، أن يأمر الناس بعبادته ، قال : وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضاً - يعني أهل الكتاب - كانوا يعبدون أحبارهم ورهبانهم ، كما قال الله تعالى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } [ التوبة : 31 ] الآية وفي جامع الترمذي - كما سيأتي - أن عدي بن حاتم قال : يا رسول الله ما عبدوهم . قال : بلى ، إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال ، فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم . فالجهلة من الأحبار والرهبان ومشايخ الضلال يدخلون في هذا الذم والتوبيخ ، بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين ، فإنهم إنما يأمرون بما يأمر الله به وبلغتهم إياه الرسل الكرام ، وإنما ينهونهم عما نهاهم الله عنه وبلغتهم إياه رسله الكرام - قاله ابن كثير - .
الثاني : في هذه الآية أعظم باعث لمن علم على أن يعمل ، وأن من أعظم العمل بالعلم تعليمه والإخلاص لله سبحانه . والدراسة : مذاكرة العلم والفقه . فدلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الْإِنْسَاْن ربانياً ، فمن اشتغل بها ، لا لهذا المقصود ، فقد ضاع سعيه وخاب عمله ، وكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها ، ولا منفعة بثمرها ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : < نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع > كذا في فتح البيان والرازي .
الثالث : قرئ في السبع : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } بالرفع على الاستئناف أي : ولا يأمركم الله أو النبي ، وبالنصب عطفاً على ثم يقول ، ولا مزيدة لتأكيد معنى النفي .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ } [ 81 ]
[ لم يفسر العلَّامة رحمه الله هذه الآية ](/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ 82 ]
.
{ فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } اعلم أن المقصود من هذه الآيات تعديد تقرير الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . قطعاً لعذرهم وإظهاراً لعنادهم . ومن جملتها ما ذكره الله تعالى في هذه الآية : وهو أنه تعالى أخذ الميثاق من الأنبياء الذين آتاهم الكتاب والحكمة بأنهم كلما جاءهم رسول مصدق لما معهم ، وإن كان ناسخاً لبعض أحكامهم بما دلت الحكمة على اقتضاء الزمان ذلك ، آمنوا به ونصروه أيضاً ، مبالغة في تشهير أمره . ولا يمنعهم ما هم فيه من العلم والنبوة واتباع شرعه ونصره . وأخبر أنهم قبلوا ذلك ، وحكم بأن من رجع عن ذلك كان من الفاسقين . وقد قرئ في السبع بفتح اللام من : { لَمَا آَتَيْتُكُمْ } . وكسرها ، فعلى الأول هي موطئة للقسم ، لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف ، وما حينئذ تحتمل الشرطية ، و : { لَتُؤْمِنُنَّ } سادٍّ مسد جواب القسم والشرط . وتحتمل الموصولة بمعنى " للذي آتيتكموه لتؤمنن به " وعلى الثاني ، أعني كسر اللام فـ : { ما } إما مصدرية أي : لأجل إيتائي إياكم الكتاب ، ثم لمجيء رسول مصدق لكم غير مخالف ، أخذ الله الميثاق لتؤمنن به ولتنصرنه . وإما موصولة والمعنى : أخذه للذي آتيتمكموه ، وجاءكم رسول مصدق له ، وقوله تعالى : { فَاشْهَدُواْ } . أي : يا أنبياء ، بعضكم على بعض ، بالإقرار . وفي قوله تعالى : { وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ } توكيد عليهم ومن أمعن في نهج الآية علم أن هذا الميثاق قد بولغ في شأنه غاية المبالغة ، وإذا كان هذا الإيجاب مع الأنبياء ، فمع أممهم أولى . وقد روي عن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما : ما بعث الله نبياُ من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق ، لئن بعث الله محمداً ، وهو حي ، ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته ، لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه . قال ابن كثير : وهذا لا يضاد ما قاله طاوس والحسن وقتادة : أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً ، بل يستلزمه ويقتضيه ، ولهذا روى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه مثل قولي علي وابن عباس انتهى - .
ومن أثر عليّ عليه السلام هذا ، فهم بعض العلماء اختصاص هذا الميثاق بنينا صلى الله عليه وسلم كما نقل القاضي عياض في " الشفاء " عن أبي الحسن القابسي قال : في استخص الله تعالى محمداً بفضل لم يؤته غيره أبانه به ، وهو ما ذكره في هذه الآية . انتهى . وقد علمت المراد .
بقي أن الإمام أبا مسلم الأصفهاني ذهب إلى أن في قوله تعالى : { مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ } حذف مضاف ، أي : أممهم ، وعبارته : ظاهر الآية يدل على أن الذين أخذ الله الميثاق منهم يجب عليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مبعثه ، وكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكونون عند مبعث محمد صلى الله عليه وسلم من زمرة الأموات ، والميت لا يكون مكلفاً ، فلما كان الذين أخذ عليهم الميثاق يجب عليهم الإيمان بمحمد عليه السلام عند مبعثه ، ولا يمكن إيجاب الإيمان على الأنبياء عند مبعث محمد عليه السلام ، علمنا أن الذين أخذ الميثاق عليهم ليسوا هم النبيين ، بل هم أمم النبيين . قال : ومما يؤكد هذا أنه تعالى حكم على الذين أخذ عليهم الميثاق ، أنهم لو تولوا لكانوا فاسقين ، وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء عليهم السلام ، وإنما يليق بالأمم ، أجاب القفال رحمه الله فقال : لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية : أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام ؟ ! ونظيره قوله تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] . وقد علم الله تعالى أنه لا يشرك قط ، ولكن خرج هذا الكلام على سبيل التقدير والفرض ، فكذا هنا . وقال : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } [ الحاقة : 44 - 46 ] وقال في صفة الملائكة : { وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 29 ] ، مع أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم : { لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 27 ] ، وبأنهم : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ النحل : 50 ] . فكل ذلك خرج على سبيل الفرض والتقدير ، فكذا ههنا .
ونقول إنه سماهم فاسقين على تقدير التولي ، فإن اسم الفسق ليس أقبح من اسم الشرك ، وقد ذكر تعالى على سبيل الفرض والتقدير في قوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } فكذا ههنا - نقله الرازي .
ولما بين تعالى أن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم شرعٌ شرعه وأوجبه على جميع من مضى من الأنبياء والأمم ، لزم أن كل من كره ذلك فإنه يكون طالباً ديناً غير دين الله ، فلهذا قال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [ 83 ]
.
{ أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً } أي : استسلم له من فيهما بالخضوع والانقياد لمراده ، والجري تحت قضائه ، كما قال تعالى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } [ الرعد : 15 ] { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ } [ النحل : 48 ] { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } [ النحل : 49 ] .
فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله ، والكافر مستسلم له كرهاً ، فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع . أفاده ابن كثير : { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } يوم القيامة فيجزي كلاً بعمله ، والجملة سيقت للتهديد والوعيد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ 84 ]
.
{ قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ } أي : أولاد يعقوب : { وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } بالإيمان بالبعض والكفر بالبعض ، كدأب اليهود والنصارى : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي : منقادون فلا نتخذ أرباباً من دونه .
لطيفة :
نكتة الجمع في قوله : { آمَنَّا } بعد الإفراد في : { قُلْ } كون الأمر عاماً ، والإفراد لتشريفه عليه الصلاة والسلام ، والإيذان بأنه أصل في ذلك . أو الأمر خاص بالإخبار عن نفسه الزكية خاصة . والجمع لإظهار جلالة قدره ورفعة محله بأمره ، بأن يتكلم عن نفسه على ديدن الملوك .
ثانية :
عدى أنزل هنا بحرف الاستعلاء ، وفي البقرة بحرف الانتهاء لوجود المعنيين ، إذ الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسول ، فجاء تارة بأحد المعنيين ، وأخرى بالآخر ، وقال صاحب " اللباب " : الخطاب في البقرة للأمة لقوله : { قولوا } . فلم يصح إلا " إلى " لأن الكتب منتهية إلى الأنبياء وإلى أمتهم جميعاً . وهنا قال " قل " ، وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم دون أمته ، فكان اللائق به " على " لأن الكتب منزلة عليه لا شركة للأمة فيها .
وفيه نظر ، لقوله تعالى : { آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا } [ آل عِمْرَان : 72 ] - أفاده النسفي - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ 85 ]
.
{ وَمَن يَبْتَغِ } أي : يطلب : { غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً } أي : غير التوحيد والانقياد لحكم الله تعالى . كدأب المشركين صريحاً . والمدعين للتوحيد مع إشراكهم كأهل الكتابين : { فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } لأنه لم ينقد لأمر الله . وفي الحديث الصحيح : < من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ > : { وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } لضلاله وجوه الهداية في الدنيا .
قال العلامة أبو السعود : والمعنى : أن المعرض عن الإسلام والطالب لغيره فاقد للنفع ، واقع في الخسران ، بإبطال الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها . وفي ترتيب الرد والخسران على مجرد الطلب دلالة على أنه حال من تدين بغير الإسلام ، واطمأن بذلك أفظع وأقبح - انتهى - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ 86 ]
.
{ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } استبعاد لأن يرشدهم الله للصواب ويوفقهم . فإن الحائد عن الحق ، بعد ما وضح له ، منهمك في الضلال ، بعيد عن الرشاد . وقيل : نفي وإنكار له ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ } . والمعني بهذه الآية إما أهل الكتاب ، والمراد كفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم حين جاءهم ، بعد إيمانهم به قبل مجيئه ، إذ رأوه في كتبهم ، وكانوا يستفتحون به على المشركين وبعد شهادتهم بحقية رسالته لكونهم عرفوه كما يعرفون أبناءهم ، وجاءهم البينات على صدقه التي آمنوا لمثلها ولما دونها بموسى وعيسى عليهما السلام . فظلموا بحقه الثابت ببيناته وتصديقه الكتب السماوية ، وإما المعنيُّ بالآية من ارتد بعد إيمانه ، على ما روي في ذلك كما سنذكره . ثم بين تعالى الوعيد على كل بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ 87 ]
.
{ أُوْلَئِكَ } أي : الموصوفون بما تقدم : { جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ } أي : طرده وغضبه : { وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } المراد بالناس إما المؤمنين أو العموم ، فإن الكافر أيضاً يلعن منكر الحق والمرتد عنه ، فقد لعن نفسه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } [ 88 ]
.
{ خَالِدِينَ فِيهَا } أي : في اللعنة أو العقوبة أو النار ، وإن لم يجر ذكرهما لدلالة الكلام عليهما . والتخليد في اللعنة على الأول بمعنى أنهم يوم القيامة لا يزال تلعنهم الملائكة والمؤمنون ومن معهم في النار ، فلا يخلو شيء من أحوالهم من أن يلعنهم لاعنٌ من هؤلاء ، أو بمعنى الخلود في أثر اللعن ، لأن اللعن يوجب العقاب ، فعبر عن خلود أثر اللعن بخلود اللعن ، ونظيره قوله تعالى : { مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ } [ طه : 100 - 101 ] ، - أفاده الرازي - : { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } أي : لا يمهلون ، أو لا ينتظرون ليعتذروا ، أولا ينظر نظر رحمة إليهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 89 ]
.
{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ } أي : الكفر بعد الإيمان : { وَأَصْلَحُواْ } أي : وضموا إلى التوبة الأعمال الصالحة . وفيه أن التوبة وحدها لا تكفي حتى يضاف إليها العمل الصالح : { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فيقبل توبتهم ويتفضل عليهم . وهذا من لطفه وبره ورأفته وعائدته على خلقه : أن من تاب إليه تاب عليه . وقد روى ابن جرير عن عِكْرِمَة عن ابن عباس قال : كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ، ولحق بالشرك ثم ندم ، فأرسل إلى قومه : أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة ؟ فنزلت : { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } إلى قوله : { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . فأرسل إليه قومه فأسلم . وهكذا رواه النسائي والحاكم وابن حبان . وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه . وروى عبد الرزاق عن مجاهد قال : جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه فأنزل الله فيه : { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } إلى قوله : { غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . قال : فحملها إليه رجل من قومه ، فقرأها عليه ، فقال الحارث : إنك والله ، ما علمت ، لصدوق ، وإن رسول الله لأصدق منك ، وإن الله لأصدق الثلاثة ، فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه .
قال ابن سلامة : فصارت فيه توبة ، وفي كل نادم إلى يوم القيامة .
تنبيه :
قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية جواز لعن الكفار ، وسواء كان الكافر معيناً أو غير معين ، على ظاهر الأدلة . وقد قال النووي : ظاهر الأحاديث أنه ليس بحرام . وأشار الغزالي إلى تحريمه إلا في حق من أعلمنا الله أنه مات على الكفر . كأبي لهب وأبي جهل وفرعون وهامان وأشباههم . قال : لأنه يدري بما يختم له . وأما الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعيانهم يجوز أنه صلى الله عليه وسلم علم موتهم على الكفر . وأما ما ورد في الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم : < ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيّ > . فقيل : اللعان مثل الضراب للمبالغة . والمعنى : لا يعتاد اللعن حتى يكثر منه . ومن ثمرات الآية صحة التوبة من الكافر والعاصي بالردة وغيرها ، وذلك إجماع ، إلا توبة المرتد ، ففيها خلاف شاذ ، فعند أكثر العلماء أن توبته مقبولة لهذه [ في المطبوع : لهذا ] الآية وغيرها ، وعند ابن حنبل لا تقبل توبته - رواه عنه في " شرح الإبانة " قيل : وهو غلط . ولهذه الآية ، ولقوله تعالى في سورة النساء : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا } [ النساء : 137 ] . فأثبت إيماناً بعد كفر تقدمه إيمان . ولو تكررت منه الردة صحت توبته أيضاً عند جمهور العلماء ، لقوله تعالى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] . وقال إسحاق بن راهويه : إذا ارتد في الدفعة الثالثة لم تقبل توبته بعد ذلك . أي : لظاهر آية النساء - انتهى - قلت : وفي " زاد المستقنع " و " شرحه " : من فقه الحنابلة ما نصه : ولا تقبل توبة من تكررت ردته بل يقتل ؛ لأن ذلك يدل على فساد عقيدته وقلة مبالاته بالإسلام - انتهى - وهو قريب من مذهب إسحاق ، وحكى في " فتح الباري " مثله عن الليث وعن أبي إسحاق المروزي من أئمة الشافعية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ } [ 90 ]
.
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ } أي : الذي ضلوا سبيل الحق وأخطأوا منهاجه ، وقد أشكل على كثير قوله تعالى : { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } مع أن التوبة عند الجمهور مقبولة كما في الآية قبلها ، وقوله سبحانه : { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } [ الشورى : 25 ] . وغير ذلك ، فأجابوا : بأن المراد عند حضور الموت . قال الواحدي في " الوجيز " : لن تقبل توبتهم لأنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت ، وتلك التوبة لا تقبل انتهى - . أي : كما قال تعالى : { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ } [ النساء : 18 ] ، الآية . وقيل : عدم قبول توبتهم كناية عن عدم توبتهم ، أي : لا يتوبون . كقوله : { أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] . وإنما كنى بذلك تغليظاً في شأنهم وإبرازاً لحالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة ، وقيل : لأن توبتهم لا تكون إلا نفاقاً لارتدادهم وازديادهم كفراً . وبقي للمفسرين وجوه أخرى ، هي في التأويل أبعد مما ذكر . ولا أرى هذه الآية إلا كآية النساء : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا } الخ . وكلاهما مما يدل صراحة على أن من تكررت ردته لا تقبل توبته ، وإلى هذا ذهب إسحاق وأحمد كما قدمنا ، وذلك لرسوخه في الكفر . وقد أشار القاشاني إلى أن هذه الآية مع التي قبلها يستفاد منها أن الكفرة قسمان في باب العناد ، وعبارته عند قوله تعالى : { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً } أنكر تعالى هدايته لقوم قد هداهم أولاً بالنور الاستعدادي إلى الإيمان ، ثم بالنور الإيماني إلى أن عاينوا حقية الرسول وأيقنوا بحيث لم يبق لهم " كذا " . وانضم إليه الاستدلال العقلي بالبينات ، ثم ظهرت نفسهم بعد هذه الشواهد كلها بالعناد واللجاج وحجبت أنوار قلوبهم وعقولهم وأرواحهم الشاهدة ثلاثتها بالحق للحق ، لشؤم ظلمهم وقوة استيلاء نفوسهم الأمارة عليهم الذي هو غاية الظلم فقال : { وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ، لغلظ حجابهم وتعمقهم في البعد عن الحق وقبول النور . وهم قسمان :
قسم رسخت هيئة استيلاء النفوس الأمارة على قلوبهم فيهم وتمكنت ، وتناهوا في الغي والاستشراء ، وتمادوا في البعد والعناد ، حتى صار ذلك ملكة لا تزول . وقسم لم يرسخ ذلك فيهم بعد ، ولم يصر على قلوبهم ريناً ، ويبقى من وراء حجاب النفس مسكة من نور استعدادهم ، عسى أن تتداركهم رحمة من الله وتوفيق فيندموا ويستجيبوا بحكم غريزة [ في المطبوع : غريز ] العقول . فأشار إلى القسم الأول بقوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } . . إلى آخره ، وإلى الثاني بقوله : { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا } ، بالمواظبة على الأعمال والرياضات ، ما أفسدوا - انتهى - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ } [ 91 ]
.
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ } هذه الآية نظير قوله تعالى في سورة المائدة : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ المائدة : 36 ] . وقد روى الإمام أحمد والشيخان عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به ؟ قال : فيقول نعم ، فيقول الله : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك > ! وفي رواية للإمام أحمد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول له : يا ابن آدم ! كيف وجدت منزلك ؟ فيقول : أي : رب ! خير منزل ، فيقول : سل وتمنّ ، فيقول : ما أسأل ولا أتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات - لما يرى من فضل الشهادة - ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له : يا ابن آدم ! كيف وجدت منزلك ؟ فيقول : أي : رب ! شر منزل ، فيقول له : أتفتدي منه بطلاع الأرض ذهباً ؟ فيقول : أي : رب ! نعم . فيقول : كذبت ! قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل ، فيرد إلى النار > . ولهذا قال : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ } أي : من منقذ من عذاب الله ولا مجير من أليم عقابه .
لطيفة :
في قوله تعالى : { وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } قال صاحب " الانتصاف " : إن هذه الواو المصاحبة للشرط تستدعي شرطاً آخر ، يعطف عليه الشروط المقترنة به ضرورة . والعادة في مثل ذلك أن يكون المنطوق به منبهاً على المسكوت عنه بطريق الأولى . مثاله : قولك : أكرم زيداً ولو أساء ، فهذه الواو عطفت المذكور على محذوف تقديره : أكرم زيداً ولو أساء ، إلا أنك نبهت بإيجاب إكرامه وإن أساء ، على أن إكرامه أن أحسن بطريق الأولى . ومنه : { كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } [ النساء : 135 ] . معناه والله أعلم : لو كان الحق على غيركم ولو كان عليكم ، ولكنه ذكر ما هو أعسر عليهم ، فأوجبه تنبيهاً على ما هو أسهل وأولى بالوجوب ، فإذا تبين مقتضى الواو في مثل هذه المواضع وجدت آية آل عِمْرَان هذه مخالفة لهذا النمط ظاهراً ، لأن قوله : { وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } . يقتضي شرطاً آخر محذوفاً ، يكون هذا المذكور منبهاً عليه بطريق الأولى . وهذه الحال المذكورة ، وهي حالة افتدائهم بملء الأرض ذهباً ، هي حالة أجدر الحالات بقبول الفدية ، وليس وراءها حالة أخرى تكون أولى بالقبول منها ، فلذلك قدر الزمخشري الكلام بمعنى : لن يقبل من أحد منهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً . حتى تبين حالة أخرى يكون الافتداء الخاص بملء الأرض ذهباً هو أولى بالقبول منها ، فإذا انتفى حيث كان أولى فلأن ينتفي فيما عدا هذه الحالة أولى ؛ فهذا كله بيان للباعث له على التقدير المذكور . وأما تنزيل الآية عليه فعسر جداً ، فالأولى ذكر وجه يمكن تطبيق الآية عليه على أسهل وجه وأقرب مأخذ إن شاء الله . فنقول : قبول الفدية التي هي ملء الأرض ذهباً يكون على أحوال :
منها : أن يؤخذ منه على وجه القهر فدية عن نفسه كما تؤخذ الدية قهراً من مال القاتل على قول .
ومنها : أن يقول المفتدي في التقدير : أفدى نفسي بكذا - وقد لا يفعل - .
ومنها : أن يقول هذا القول وينجز المقدار الذي يفدي به نفسه ويجعله حاضراً عتيداً ، وقد يسلمه مثلاً لمن يأمن منه قبول فديته .
وإذا تعددت الأحوال فالمراد في الآية أبلغ الأحوال وأجدرها بالقبول ، وهو أن يفتدي بملء الأرض ذهباً افتداء محققاً ، بأن يقدر على هذا الأمر العظيم ويسلمه وينجزه اختياراً ، ومع ذلك لا يقبل منه . فمجرد قوله : أبذل المال وأقدر عليه ، أو ما يجري هذا المجرى بطريق الأولى ، فيكون دخول الواو والحالة هذه على بابها تنبيهاً على أن ثم أحوالاً آخر لا ينفع فيها القبول بطريق الأولى بالنسبة إلى الحالة المذكورة . وقد ورد هذا المعنى مكشوفاً في قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ المائدة : 36 ] - والله أعلم - وهذا كله تسجيل بأنه لا محيص ولا مخلص لهم من الوعيد ، وإلا فمن المعلوم أنهم أعجز عن الفلس في ذلك اليوم . ونظير هذا التقدير من الأمثلة أن يقول القائل : لا أبيعك هذا الثوب بألف دينار ولو سلمتها إليّ في يدي هذه . فتأمل هذا النظر فإنه من السهل الممتنع والله ولي التوفيق - انتهى - .
وثمة وجه ثان وهو أن المراد : ولو افتدى بمثله معه كما صرح به في تلك الآية ، فالمعنى لا يقبل ملء الأرض فدية ، ولو زيد عليه مثله ، والمثل يحذف كثيراً في كلامهم ، كقولك : ضربته ضرب زيد ، تريد مثل ضربه . وأبو يوسف أبو حنيفة [ ؟ ؟ ] ، تريد مثله . وقضية ولا أبا حسن لها ، أي : ولا مثل أبي حسن . كما أنه يراد في نحو قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، تريد : أنت . وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر ، فكانا في حكم شيء واحد ، وعلى هذا الوجه يجري الكلام على التأويل المتقدم لأنه نبه بعدم قبول مثلي ملء الأرض ذهباً على عدم قبول ملئها مرة واحدة بطريق الأولى .
ووجه ثالث : وهو أن لا يحمل " ملء الأرض " أولاً على الافتداء بل على التصدق ، ولا يكون الشرط المذكور من قبيل ما يقصد به تأكيد الحكم السابق ، بل يكون شرطاً محذوف الجواب ، ويكون المعنى : لا يقبل منه ملء الأرض ذهباً تصدق به ، ولو افتدى به أيضاً لم يقبل منه . وضمير به للمال من غير اعتبار وصف التصدق .
ووجه رابع : وهو أن الواو زيدت لتأكيد النفي . فتبصر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [ 92 ]
.
{ لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } استئناف خطاب للمؤمنين سيق لبيان ما ينفعهم ويقبل منهم ، إثر بيان ما لا ينفع الكفرة ولا يقبل منهم ، أي : لن تبلغوا حقيقة البر ، وتلحقوا بزمرة الأبرار . بناء على أن تعريف البر للجنس . أو لن تنالوا بر الله سبحانه وتعالى وهو ثوابه وجنته , إذا كان للعهد, حتى تنفقوا في سبيل الله تعالى مما تحبون ، أي : تهوونه ويعجبكم من كرائم أموالكم ، كما في قوله تعالى : { أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } [ البقرة : 267 ] . وقد روى الشيخان عن أنس بن مالك قال : كان أبو طلحة أكثر أنصار المدينة مالاً من نخل ، وكان أحب أمواله إلى بيرحاء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب . قال أنس : فلما أنزلت هذه الآية : { لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه : { لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } وإن أحب أموالي إلي بيرحاء ، وإنها صدقة لله عز وجل أرجو برها وذخرها عند الله . فضعها يا رسول الله حيث أراك الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < بخ بخ ، ذلك مال رابح ، ذلك مال رابح ، وقد سمعت ما قلت ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين > قال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله . فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه - وبيرحا يروى بكسر الباء وفتحها وفتح الراء وضمها والمد والقصر ، وهو اسم حديقة بالمدينة - وفي الفائق : إنها فيعلى من البراح ، وهو الأرض الظاهرة . وبخ بخ : كلمة استحسان ومدح كررت للتأكيد ، ورابح بالموحدة : أي : ذو ربح ، وبالمثناة التحتية أي : يروح عليك نفعه وثوابه .
وفي الصحيحين أن عمر قال : يا رسول الله ! لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر ، فما تأمرني به ؟ قال : < حبس الأصل وسبل الثمرة > .
وروى الحافظ أبو بكر البزار أن عبد الله بن عُمَر قال : حضرتني هذه الآية : { لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } فذكرت ما أعطاني الله ، فلم أجد شيئاً أحب إلي من جارية لي رومية ، فقلت : هي حرة لوجه الله ، فلو أني أعود في شيء جعلته لله ، لنكحتها . يعني : تزوجتها .
تنبيه :
قال القاشاني : في هذه الآية : كل فعل يقرب صاحبه من الله فهو بر ، ولا يمكن التقرب إليه إلا بالتبرؤ عما سواه ، فمن أحب شيئاً فقد حجب عن الله تعالى به ، وأشرك شركاً خفياً ، لتعلق محبته بغير الله ، كما قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } [ البقرة : 165 ] ، وآثر نفسه به على الله ، فقد بعد من الله بثلاثة أوجه : وهي محبة غير الحق ، والشرك ، وإيثار النفس على الحق ؛ فإن آثر الله به على نفسه وتصدق به وأخرجه من يده فقد زال البعد ، وحصل القرب ، وإلا بقي محجوباً ، وإن أنفق من غيره أضعافه ، فما نال براً لعلمه تعالى بما ينفق وباحتجابه بغيره .
{ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } أي : فمجازيكم عليه ، قليلاً كان أو كثيراً ، جيداً أو غيره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 93 ]
.
{ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ } قال الزمخشري : المعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلالاً لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة ، وتحريم ما حرم عليهم منها لظلمهم وبغيهم ، لم يحرم منها شيء قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه ، فتبعوه على تحريمه .
تنبيهات :
الأول : روي ، فيما حرمه إسرائيل على نفسه ، أنه لحوم الإبل وألبانها ، رواه الإمام أحمد في قصة ، والترمذي وقال : حسن غريب . وروي عن ابن عباس والضحاك والسدي وغيرهم موقوفاً عليهم أنه العروق . قالوا : كان يعتريه عرق النسا بالليل فيزعجه ، فنذر لئن عوفي لا يأكل عرقاً ، ولا يأكل ولد ماله عرق ، فاتبعه بنوه في إخراج العروق من اللحم استناناً به ، واقتداء بطريقه ، قال الرازي : ونقل القفال رحمه الله عن ترجمة التوراة أن يعقوب لما خرج من حران إلى كنعان ، بعث بُرُداً إلى أخيه عيسو إلى أرض ساعير ، فانصرف الرسول إليه وقال : إن عيسو هو ذا يتلقاك ومعه أربعمائة رجل ، فذعر يعقوب وحزن جداً ، فصلى ودعا ، وقدم هدايا لأخيه ، وذكر القصة ، إلى أن ذكر الملك الذي لقيه في صورة رجل ، فدنا ذلك الرجل ، ووضع إصبعه على موضع عرق النسا ، فخدرت تلك العصبة وجفت ، فمن أجل هذا لا يأكل بنو إسرائيل العروق - انتهى - قلت : والقصة مسوقة في سفر التكوين من التوراة في الأصحاح الثاني والثلاثين .
الثاني : التحريم المذكور ، على الرواية الأولى ، أعني لحوم الإبل وألبانها ، فكان تبرراً وتعبداً وتزهداً وقهراً للنفس ، طلباً لمرضاة الحق تعالى . وعلى الثانية : فإما وفاء بالنذر وإما تداوياً ,وإما لكونه يجد نفسه تعافه - والله أعلم - فالتحريم بمعنى الامتناع .
الثالث : قال الزمخشري : الآية رد على اليهود وتكذيب لهم حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نعى عليهم في قوله تعالى : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا } [ في المطبوع : فبظلم الَّذِينَ هَادُواْ ] إلى قوله : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ } [ الأنعام : 146 ] . وجحود ما غاظهم واشمأزوا منه ، وامتعضوا مما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم لبغيهم وظلمهم . فقالوا : لسنا بأول من حرمت عليه ، وما هو إلا تحريم قديم ، كانت محرمة على نوح وعلى إبراهيم ومن بعده من بني إسرائيل وهلم جراً . إلى أن انتهى التحريم إلينا فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا . وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصد عن سبيل الله وأكل الربا وأخذ أموال الناس بالباطل وما عدد من مساوئهم - انتهى - .
{ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي : في دعواكم أنه تحريم قديم - وفي أمره صلى الله عليه وسلم بأن يحاجهم بكتابهم ويبكتهم بما هو ناطق به ، من أن تحريم ما حرم عليهم حادث لا قديم ، كما يدعونه - أعظم برهان على صدقه وكذبهم إذ لم يجسروا على إخراج التوراة . فبهتوا وانقلبوا صاغرين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ 94 ]
.
{ فَمَنِ افْتَرَىَ } أي : تعمد : { عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ } أي : في أمر المطاعم وغيرها : { مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } لتعرضهم إلى أن يهتكهم تعالى ويعذبهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ 95 ]
.
{ قُلْ صَدَقَ اللّهُ } تعريض بكذبهم ، أي : ثبت أن الله صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون : { فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } أي : ملة الإسلام التي عليها محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن آمن معه ، والتي هي في الأصل ملة إبراهيم عليه السلام ، حتى تتخلصوا من اليهودية التي ورطتكم في فساد دينكم ودنياكم حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب الله لتسوية أغراضكم ، وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها الله لإبراهيم ولمن تبعه : { حَنِيفاً } أي : مائلاً عن الأديان الزائفة : { وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } تعريض بما في اليهودية والنصرانية من شرك إثبات الولد أو إلهية عيسى ، فكيف يزعمون أنهم على ملته ، وما كان يدعو إلا إلى التوحيد والبراءة عن كل معبود سوى الله تعالى وهو الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم ؟ ! .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } [ 96 ]
.
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } أي : لنسكهم وعباداتهم : { لَلَّذِي بِبَكَّةَ } أي : للبيت الذي ببكة ، أي : فيها . وفي ترك الموصوف من التفخيم ما لا يخفى . وبكة لغة في مكة ، فإن العرب تعاقب بين الباء والميم كما في قولهم : ضربة لازب ولازم ، والنميط والنبيط في اسم موضع بالدهناء ، وقولهم أمر راتب وراتم وأغبطت الحمى وأغمطت . وقيل : مكة البلد ، وبكة موضع المسجد ، سميت بذلك : لدقها أعناق الجبابرة [ في المطبوع : الجباربة ] ، فلم يقصدها جبار إلا قصمه الله تعالى ، أو لازدحام الناس بها من بكَّهُ إذا فرقه ووضعه وإذا زاحمه ، كما أن مكة من مكّهُ : أهلكه ونقصه ؛
لأنها تهلك من ظلم فيها وألحد ، وتنقص الذنوب أو تنفيها كما في القاموس - وقد ذهب بعضهم إلى أن مكة هي ميشا أو ماسا المذكورة في التوراة ، وآخر إلى أنه مأخوذ من اسم واحد من أولاد إسماعيل وهو مسّا { مُبَارَكاً } أي : كثير الخير ، لما يحصل لمن حجه واعتمره واعتكف عنده وطاف حوله ، من الثواب وتكفير الذنوب : { وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } لأنه قبلتهم ومتعبدهم .
تنبيه :
ذكر بعض المفسرين أن المراد بالأولية كونه أولاً في الوضع والبناء ، ورووا في ذلك آثاراً ، منها أنه تعالى خلق هذا البيت قبل أن يخلق شيئاً من الأرضين ، ومنها : أنه تعالى بعث ملائكة لبناء بيت في الأرض على مثال البيت المعمور ، وذلك قبل خلق آدم ، ومنها : أنه أول بيت وضع على وجه الماء عند خلق السماء والأرض ، وأنه خلق قبل الأرض بألفي عام . وليس في هذه الآثار خبر صحيح يعول عليه . والمتعين أن المراد : أول بيت وضع مسجداً ، كما بينته رواية ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه في هذه الآية قال : كانت البيوت قبله ، ولكنه أول بيت وضع لعبادة الله تعالى . وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله : أي : مسجد وضع في الأرض أول ؟ قال : < المسجد الحرام > قلت : ثم أي : ؟ قال : < المسجد الأقصى > قلت : كم كان بينهما ؟ قال : < أربعون سنة ، ثم أينما أدركتك الصلاة بعدُ فصلّه ، فإن الفضل فيه > .
قال ابن القيم في " زاد المعاد " : وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد به ، فقال : معلوم أن سليمان بن داود الذي بنى المسجد الأقصى . وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف عام . وهذا من جهل القائل ، فإن سليمان إنما كان له من المسجد الأقصى تجديده لا تأسيسه ، والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق صلى الله عليهما وسلم ، بعد بناء إبراهيم عليه السلام بهذا المقدار . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } [ 97 ]
.
{ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } وهو الحجر الذي قام عليه عند رفعه قواعد البيت . قال ابن كثير : وقد كان ملتصقاً بجدار البيت ، حتى أخره عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه في إمارته إلى ناحية الشرق ، بحيث يتمكن الطواف منه ، ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف ، لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده ، حيث قال : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً } [ البقرة : 125 ] ، وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة . قال المفسرين : ثمرة الآية : الترغيب في زيارة البعض الحرم وفعل الطاعات فيه ، لأنه تعالى وصفة بالبركة والهدى وجعل فيه آيات بينات .
لطيفة :
مقام إبراهيم مبتدأ حذف خبره ، أي : منها مقام إبراهيم ، أو بدل من آيات ، بدل البعض من الكل ، أو عطف بيان ، إما وحده باعتبار كونه بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى ، وعلى نبوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، كقوله تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً } أو باعتبار اشتماله على آيات كثيرة . قالوا : فإن كل واحد من أثر قدميه في صخرة صماء ، وغوصه فيها إلى الكعبين ، وإلانة بعض الصخور دون بعض ، وإبقاءه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام ، وحفظه ، مع كثرة الأعداء ، ألوف السنين [ في المطبوع : سنة ] ، آية مستقلة . ويؤيده قراءة آية بينة على التوحيد ، وإما بما يفهم من قوله عز وجل :
{ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } فإنه وإن كان جملة مستأنفة ابتدائية أو شرطية ، لكنها في قوة أن يقال : وأمن من دخله فتكون بحسب المعنى والمآل ، معطوفة على مقام إبراهيم ، ولا يخفى أن الاثنين نوع من الجمع فيكتفى بذلك ، أو يحمل على أنه ذكر من تلك الآيات اثنتان ، وطوى ذكر ما عداهما دلالة على كثرتها - أفاده أبو السعود - . قال المهايمي : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } رمي الطير أصحاب الفيل بحجارة من سجيل ، وتعجيل عقوبة من عتا فيه ، وإجابة دعاء من دعاء تحت ميزابه ، وإذعان النفوس لتوقيره من غير زاجر ، ومن أعظمها : النازل منزلة الكل ، مقام إبراهيم ، الحجر الذي قام عليه عند رفعه قواعد البيت ، كلما علا الجدار ارتفع الحجر في الهواء ، ثم لين ، فغرقت فيه قدماه ، كأنهما في طين ، فبقي أثره إلى يوم القيامة . ومن آياته : أن من دخله كان آمناً من نهب العرب وقتالهم ، وقد أمن صيده وأشجاره . قال أبو السعود : ومعنى أمن داخله : أمنه من التعرض له كما في قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] ، وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام : { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً } [ إبراهيم : 35 ] ، وكان الرجل لو جرَّ كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يُطلب . وعن عمر رضي الله عنه : لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى خرج عنه .
تنبيه :
ما أفادته الآية من إثبات الأمان لداخله إنما هو بتحريمه الشرعيّ الذي وردت به الآيات ، وأوضحته الأحاديث والآثار . ففي الصحيحين ، واللفظ لمسلم ، عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : < لا هجرة ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا > . وقال يوم فتح مكة : < إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا يلتقط لقطته ، إلا من عرفها ، ولا يختلى خلاها > . فقال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر ، فإنه لقينهم ولبيوتهم ، فقال : < إلا الإذخر > . ولهما عن أبي هريرة مثله أو نحوه ؛ ولهما ، واللفظ مسلم أيضاً ، عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد ، وهو يبعث البعوث إلى مكة : ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولاً قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح ، سمعته أذناي ، ووعاه قلبي ، وأبصرته عيناي ، حين تكلم به ، إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال : < إن مكة حرمها الله ، ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً أو يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له : إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد الغائب > . فقيل لأبي شريح : ما قال لك ؟ قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح . إن الحرم لا يعيذ عاصياً ، ولا فارّاً بدمٍ ، ولا فاراً بخربةٍ .
قال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " : قوله فلا يحل لأحد أن يسفك بها دماً ، هذا التحريم لسفك الدم المختص بها ، وهو الذي يباح في غيرها ، ويحرم فيها ، لكونها حرماً ، كما أن تحريم عضد الشجرة بها واختلاء خلائها والتقاط لقطتها ، هو أمر مختص بها ، وهو مباح في غيرها ، إذ الجميع في كلام واحد ، ونظام واحد ، وإلا بطلت فائدة التخصيص ، وهذا أنواع :
أحدها : وهو الذي ساقه أبو شريح العدوي لأجله : أن الطائفة الممتنعة بها من مبايعة الإمام لا تقاتل ، لا سيما إن كان لها تأويل . كما امتنع أهل مكة من مبايعة يزيد ، وبايعوا ابن الزبير . فلم يكن قتالهم ونصب المنجنيق عليهم وإحلال حرم الله جائزاً بالنص والإجماع ، وإنما خالف في ذلك عَمْرو بن سعيد الفاسق وشيعته ، وعارض نص رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه وهواه فقال : إن الحرم لا يعيذ عاصياً . فيقال له : هو لا يعيذ عاصياً من عذاب الله ، ولو لم يُعذّه من سفك دمه لم يكن حرماً بالنسبة إلى الآدميين ، وكان حرماً بالنسبة إلى الطير والحيوان البهيم ، وهو لم يزل يعيذ العصاة من عهد إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه ، وقام الإسلام على ذلك ، وإنما لم يعد مقيس بن صُبابة وابن خطل ومن سمي معهما ؛ لأنه في تلك الساعة لم يكن حرماً بل حلاً ، فلما انقضت ساعة الحرب عاد إلى ما وضع عليه يوم خلق الله السموات والأرض . وكانت العرب في جاهليتها ، يرى الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم فلا يهيجه ، وكان ذلك بينهم خاصة الحرم الذي صار بها حرماً . ثم جاء الإسلام فأكد ذلك وقواه ، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن من الأمة من يتأسى به في إحلاله بالقتال والقتل ، فقطع الإلحاق وقال لأصحابه : < فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لك > ، وعلى هذا فمن أتى حداً أو قصاصاً خارج الحرم يوجب القتل ، ثم لجأ إليه ، لم يجز إقامته عليه فيه . وذكر الإمام أحمد عن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه . وذكر عن عبد الله بن عُمَر أنه قال : لو وجدت فيه قاتل عمر ما بدهته . وعن ابن عباس أنه قال : لو لقيت قاتل أبي في الحرم ما هجته حتى يخرج منه ، وهذا قول جمهور التابعين ومن بعدهم ، بل لا يحفظ عن تابعيّ ولا صحابيّ خلافه . وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله ومن وافقه من أهل العراق ، والإمام أحمد ومن وافقه من أهل الحديث . وذهب مالك والشافعي إلى أنه يستوفي منه في الحرم كما يستوفي منه في الحل ، وهو اختيار ابن المنذر ، واحتج لهذا القول بعموم النصوص الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل مكان وزمان ، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ، وبما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فارّاً بدم ولا بخربة > . وبأنه لو كان الحدود والقصاص فيما دون النفس لم يعذه الحرم ، ولم يمنعه من إقامته عليه ، وبأنه لو أتى فيه بما يوجب حداً أو قصاصاً لم يعذه الحرم ولم يمنع من إقامته ، فكذلك إذا أتاه خارجه ثم لجأ إليه ، إذ كونه حرماً بالنسبة إلى عصمته لا يختلف بين الأمرين ، وبأنه حيوان أبيح قتله لفساده ، فلم يفترق الحال بين قتله لاجئاً إلى الحرم وبين كونه قد أوجب ما أبيح قتله فيه ، كالحية والحدأة والكلب العقور ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم > . فنبه بقتلهن في الحل والحرم على العلة - وهي فسقهن - ولم يجعل التجاءهن إلى الحرم مانعاً من قتلهن ، وكذلك فاسق بني آدم الذي قد استوجب القتل . قال الأولون : ليس في هذا ما يعارض ما ذكرنا من الأدلة ، ولا سيما قوله تعالى : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } وهذا إما خبر بمعنى الأمر لاستحالة الخلف في خبره تعالى ، وإما خبر عن شرعه ودينه الذي شرعه في حرمه ، وإما إخبار عن الأمر المعهود المستمر في حرمه في الجاهلية والإسلام كما قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] . وقوله تعالى : { وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ } [ القصص : 57 ] .
وما عدا هذا من الأقوال الباطلة فلا يلتفت إليه كقول بعضهم : من دخله كان آمناً من النار ، وقول بعضهم : كان آمناً من الموت على غير الإسلام ، ونحو ذلك ، فكم ممن دخله وهو في قعر الجحيم . وأما العمومات الدالة على استيفاء الحدود القصاص في كل زمان ومكان فيقال أولاً : لا تعرض في تلك العمومات لزمان الاستيفاء ولا مكانه ، كما لا تعرض فيها لشروطه وعدم موانعه ، فإن اللفظ لا يدل عليها بوضعه ، ولا بتضمنه فهو مطلق بالنسبة إليها ، ولهذا إذا كان للحكم شرط أو مانع لم يقل إن توقف الحكم عليه تخصيص لذلك العام ، فلا يقول محصِّلٌ إن قوله تعالى : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [ النساء : 24 ] . مخصوص بالمنكوحة في عدتها أو بغير إذن وليها ، أو بغير شهود ، فهكذا النصوص العامة في استيفاء الحدود والقصاص لا تعرض فيها لزمنه ولا مكانه ولا شرطه ولا مانعه ، ولو قدر تناول اللفظ لذلك لوجب تخصيصه بالأدلة الدالة على المنع ، لئلا يبطل موجبها ، ووجب حمل اللفظ العام على ما عداها كسائر نظائره ، وإذا خصصتم تلك العمومات بالحامل والمرضع والمريض الذي يرجى برؤه ، والحال المحرّمة للاستيفاء كشدة المرض أو البرد أوالحر ، فما المانع من تخصيصها بهذه الأدلة ؟ وإن قلتم : ليس ذلك تخصيصاً بل تقييداً لمطلقها كلنا لكم هذا الصاع سواء بسواء . وأما قتل ابن خطل فقد تقدم أنه كان في وقت الحل ، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قطع الإلحاق ، ونص على أن ذلك من خصائصه ، وقوله صلى الله عليه وسلم : < وإنما أحلت لي ساعة من نهار > ، صريح في أنه إنما أحل له سفك دم حلال في غير الحرم في تلك الساعة خاصة ، إذ لو كان حلالاً في كل وقت ، لم يختص بتلك الساعة ، وهذا صريح في أن الدم الحلال في غيرها حرام فيها ، فيما عدا تلك الساعة . وأما قوله : الحرم لا يعيذ عاصياً ، فهو من كلام الفاسق عَمْرو بن سعيد الأشدق ، يرد به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين روى له أبو شريح الكعبي هذا الحديث ، كما جاء مبيناً في الصحيح ، فكيف يقدم على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وأما قولكم : لو كان الحد والقصاص فيما دون النفس لم يعذه الحرم منه ، فهذه المسألة فيها قولان للعلماء : وهما روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد رحمه الله ، فمن منع الاستيفاء نظر إلى عموم الأدلة العاصمة بالنسبة إلى النفس وما دونها ، ومن فرق قال : سفك الدم إما ينصرف إلى القتل ولا يلزم من تحريمه في الحرم تحريمه ما دونه ، لأن حرمة النفس أعظم ، والانتهاك بالقتل أشد ، قالوا : ولأن الحد بالجلد أو القطع يجري مجرى التأديب ، فلم يمنع منه ، كتأديب السيد عبده . وظاهر هذا المذهب أنه لا فرق بين النفس ما دونها في ذلك . قال أبو بكر : هذه مسألة وجدتها لحنبل عن عمه : أن الحدود كلها تقام في الحرم إلا القتل ، قال : والعمل على أن كل جانٍ دخل الحرم لم يقم عليه الحد حتى يخرج منه ، قالوا : وحينئذ فنجيبكم بالجواب المركب ، وهو أنه إن كان بين النفس وما دونها في ذلك فرق مؤثر بطل الإلزام ، وإن لم يكن بينهما فرق مؤثر سوينا بينهما في الحكم وبطل الاعتراض ، فتحقق بطلانه على التقديرين . قالوا : وأما قولكم إن الحرم لا يعيذ من هتك فيه الحرمة إذ أتى بما يوجب الحد ، فكذلك اللاجئ إليه ، فهو جمع بين ما فرق الله ورسوله والصحابة بينهما . فروى الإمام أحمد ، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : من سرق أو قتل في الحد ثم دخل الحرم فإنه لا يجالس ولا يكلم ولا يؤوى ، حتى يخرج فيؤخذ فيقام عليه الحد . وإن سرق أو قتل في الحرم أقيم عليه في الحرم . وذكر الأثرم عن ابن عباس أيضاً : من أحدث حدثاً في الحرم ، أقيم عليه ما أحدث فيه من شيء ، وقد أمر الله سبحانه بقتل من قاتل في الحرم فقال : { وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } . والفرق بين اللاجئ والمتهتك فيه من وجوه :
أحدها : أن الجاني فيه هاتك لحرمته بإقدامه على الجناية فيه ، بخلاف من جنى خارجه ثم لجأ إليه فإنه معظّم لحرمته مستشعر بها بالتجائه إليه ، فقياس أحدهما على الآخر باطل .
الثاني : أن الجاني فيه بمنزلة المفسد الجاني على بساط الملك في داره وحرمه ، ومن جنى خارجه ثم لجأ إليه فإنه بمنزلة من جنى خارج بساط الملك وحرمه ثم دخل إلى حرمه مستجيراً .
الثالث : أن الجاني في الحرم قد هتك حرمة الله سبحانه وحرمة بيته وحرمه ، فهو هاتك لحرمتين بخلاف غيره .
الرابع : أنه لو لم يقم الحد على الجناة في الحرم لعم الفساد وعظم الشر في حرم الله ، فإن أهل الحرم كغيرهم في الحاجة إلى نفوسهم وأموالهم وأعراضهم ، ولو لم يشرع الحد في حق من ارتكب الجرائم في الحرم لتعطلت حدود الله وعم الضرر للحرم وأهله .
والخامس : أن اللاجئ إلى الحرم بمنزلة التائب المتنصل اللاجئ إلى بيت الرب تعالى المتعلق بأستاره ، فلا يناسب حاله ولا حال بيته وحرمه أن يهاج ، بخلاف المقدم على انتهاك حرمته .
فظهر سر الفرق ، وتبين أن ما قاله ابن عباس هو محض الفقه . وأما قولكم : إنه حيوان مفسد فأبيح قتله في الحل والحرم كالكلب العقور فلا يصح القياس ، فإن الكلب العقور طبعه الأذى ، فلم يحرمه الحرم ليدفع أذاه عن أهله . وأما الآدمي فالأصل فيه الحرمة وحرمته عظيمة ، فإنما أبيح لعارض فأشبه الصائل من الحيوانات المباحة من المأكولات ، فإن الحرم يعصمها ، وأيضاً فإن حاجة أهل الحرم إلى قتل الكلب العقور والحية والحدأة كحاجة أهل الحل سواء ، فلو أعاذها الحرم لعظم عليهم الضرر بها . انتهى . " من الجزء الثاني من صفحة 177 إلى صفحة 180 " .
ولما ذكر تعالى فضائل البيت ومناقبه ، أردفه بذكر إيجاب الحج فقال : { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } اللام في البيت للعهد . وحجه : قصده للزيارة بالنسك المعروف . وكسر الحاء وفتحها لغتان ، وهما قراءتان سبعيتان ، وفي الآية مباحث :
الأول : في إعرابها قال أبو السعود في صدر الآية : جملة من مبتدأ هو : { حِجُّ الْبَيْتِ } وخبر هو : { لِلّهِ } وقوله تعالى : { عَلَى النَّاسِ } متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار ، أو بمحذوف هو حال من الضمير المستكن في الجار ، والعامل فيه ذلك الاستقرار ، ويجوز أن يكون : { عَلَى النَّاسِ } هو الخبر ، و : { لله } متعلق بما تعلق به الخبر . ثم قال في قوله تعالى : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } في محل الخبر على أنه بدل من : { النَّاسِ } بدل البعض من الكل مخصص لعمومه ، فالضمير العائد إلى المبدل منه محذوف ، أي : من استطاع منهم ، وقيل : بدل الكل ، على أن المراد بالناس هو البعض المستطيع ، فلا حاجة إلى الضمير . وقيل : في محل الرفع ، على أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هم من استطاع . وقيل : في حيز النصب بتقدير أعني .
الثاني : هذه الآية هي آية وجوب الحج عند الجمهور . وقيل : بل هي قوله : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [ البقرة : 196 ] ، والأول أظهر . وفي " فتح البيان " : اللام في قوله : { لله } هي التي يقال لها لام الإيجاب والإلزام ، ثم زاد هذا المعنى تأكيداً حرف : { عَلَى } فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب . كما إذا قال القائل : لفلان عليّ كذا ، فذكره الله سبحانه بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيداً لحقه ، وتعظيماً لحرمته . وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده ، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعاً ضرورياً .
الثالث : يجب الحج على المكلف في العمر مرة واحدة ، بالنص والإجماع ، روى الإمام أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < أيها الناس إنه فرض الله عليكم الحج فحجوا > . فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت . حتى قالها ثلاثاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم > . ثم قال : < ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه > . وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن عباس قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < يا أيها الناس ! إن الله كتب عليكم الحج > ، فقام الأقرع بن حابس فقال : يا رسول الله أفي كل عام ؟ فقال : < لو قلتها لوجبت ، ولو وجبت لم تعملوا بها ولن تستطيعوا أن تعملوا بها . الحج مرة . فمن زاد فهو تطوع > .
الرابع : استطاعة السبيل عبارة عن إمكان الوصول إليه . قال ابن المنذر : اختلف العلماء في قوله تعالى : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } فقالت طائفة : الآية على العموم ، إذ لا نعلم خبراً ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا إجماعاً لأهل العلم يوجب أن نستثني من ظاهر الآية بعضاً ، فعلى كل مستطيع للحج يجد إليه السبيل بأي وجه كانت الاستطاعة الحج ، على ظاهر الآية . قال : وروينا عن عِكْرِمَة أنه قال : الاستطاعة : الصحة . وقال الضحاك : إذا كان شاباً صحيحاً ليس له مال فليؤجر نفسه بأكله وعقبه حتى يقضي نسكه . فقال له قائل : أكلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت ؟ فقال : لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه ؟ قال : لا ، بل ينطلق إليه ولو حبواً ، قال : فكذلك يجب عليه حج البيت . وقال مالك : الاستطاعة على إطاقة الناس ، الرجل يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على المشي ، وآخر يقدر على المشي على رجليه . وقالت طائفة : الاستطاعة : الزاد والراحلة ، كذلك قال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وأحمد بن حنبل ، واحتجوا بحديث ابن عمر أن رجلاً قال : يا رسول الله ما يوجب الحج ؟ قال : < الزاد والراحلة > - رواه الترمذي - وفي إسناده الخوزي فيه مقال . قال ابن كثير : لكن قد تابعه غيره . وقد اعتنى الحافظ أبو بكر بن مردويه بجمع طرق هذا الحديث . ورواه الحاكم من حديث قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله عز وجل : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } . فقيل : ما السبيل ؟ قال : < الزاد والراحلة > ، ثم قال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه .
الخامس : قال الإمام ابن القيم الدمشقي رضي الله عنه في " زاد المعاد " في سياق هديه صلى الله عليه وسلم في حجته : لا خلاف أنه لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة ، وهي حجة الوداع ، ولا خلاف أنها كانت سنة عشر ، واختلف هل حج قبل الهجرة ؟ .
وروى الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : حج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث حجج : حجتين قبل أن يهاجر ، وحجة بعد ما هاجر ، معها عَمْرة . قال الترمذي : هذا حديث غريب من حديث سفيان . قال : وسألت محمداً - يعني البخاري - عن هذا فلم يعرفه من حديث الثوري . وفي رواية : لا يعد هذا الحديث محفوظاً . ولما نزل فرض الحج بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج من غير تأخير ، فإن فرض الحج تأخر إلى سنة تسع أو عشر . وأما قوله تعالى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } ، فإنها ، وإن نزلت سنة ست عام الحديبية ، فليس فيها فريضة الحج ، وإنما فيها الأمر بإتمامه وإتمام العمرة بعد الشروع فيهما ، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء . فإن قيل : فمن أين لكم تأخر نزول فرضه إلى التاسعة أو العاشرة ؟ قيل : لأن صدر سورة آل عِمْرَان نزل عام الوفود ، وفيه قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصالحهم على أداء الجزية والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع ، وفيها نزل صدر سورة آل عِمْرَان ، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد والمباهلة . ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا في نفوسهم لما فاتهم من التجارة من المشركين لما أنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } ، فأعاضهم الله تعالى من ذلك بالجزية . ونزول هذه الآيات والمناداة بها إنما كان في سنة تسع . وبعث الصديق يؤذن بذلك في مكة في مواسم الحج ، وأردفه بعلي رضي الله عنه ، وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السلف والله أعلم . وقوله تعالى :
{ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } إما مستأنف لوعيد من كفر به تعالى ، لا تعلق له بما قبله ، وإما أنه متعلق به ومنتظم معه ، وهو أظهر وأبلغ . والكفر ، على هذا ، إما بمعنى جحد فريضة الحج ، أو بمعنى ترك ما تقدم الأمر به . ونظيره في السنة ما رواه النسائي والترمذي عن بريدة مرفوعاً : < العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر > . وعن عبد الله بن شقيق قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة - أخرجه الترمذي - ولأبي داود عن جابر مرفوعاً : < بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة > ولفظ مسلم : < بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة > . وروى الترمذي عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . < من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج ، فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً ، وذلك أن الله تعالى يقول : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } > . قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وفي إسناده مقال . وقد روى الحافظ أبو بكر الإسماعيلي عن عُمَر بن الخطاب قال : من أطاق الحج فلم يحج ، فسواء عليه مات يهودياً أو نصرانيا . قال ابن كثير : إسناده صحيح إلى عمر رضي الله عنه : وروى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري قال : قال عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه : لقد هممت أن أبعث رجلاً إلى هذه الأمصار ، فينظروا إلى كل من كان عنده جدة فلم يحج ، فيضربوا عليهم الجزية ، ما هم بمسلمين ، ما هم بمسلمين . قال السيوطي في " الإكليل " : وقد استدل بظاهر الآية ابن حبيب على أن من ترك الحج ، وإن لم ينكره ، كفر . ثم قال : وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر : من كان يجد وهو موسر صحيح ولم يحج ، كان سيماه بين عينيه كافر ، ثم تلا هذه الآية .
تنبيه :
هذه الآية الكريمة حازت من فنون الاعتبارات المعربة عن كمال الاعتناء بأمر الحج والتشديد على تاركه ما لا مزيد عليه ، فمنها الإتيان باللام وعلى في قوله : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } . يعني : أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته ، ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل عنه : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } ، وفيه ضربان من التأكيد :
أحدهما : أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له .
والثاني : أن الإيضاح بعد الإبهام ، والتفصل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين .
ومنها : قوله : { وَمَن كَفَرَ } مكان من لم يحج تغليظاً على تارك الحج .
ومنها : ذكر الاستغناء عنه . وذلك مما يد على المقت والسخط والخذلان .
ومنها : قوله : { عَنِ الْعَالَمِينَ } ، ولم يقل : عنه . وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان ، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ، ولأنه يدل على الاستغناء الكامل ، فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه - أشار لذلك الزمخشري - ثم عنف تعالى كفرة أهل الكتاب على عنادهم للحق بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } [ 98 ]
.
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ } أي : الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقوله : { وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } حال مفيدة لتشديد التوبيخ . وإظهار الجلالة في موضع الإضمار لتربية المهانة وتهويل الخطب . وصيغة المبالغة في شهيد لتأكيد الوعيد ، وكل ذلك موجب لعدم الاجتراء على ما يأتونه . ثم عقب تعالى الإنكار عليهم في ضلالهم توبيخهم في إضلالهم فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ 99 ]
.
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ } أي : عن دينه . وكانوا يحتالون لصدهم عن الإسلام : { مَنْ آمَنَ } مفعول تصدون قدم عليه الجار والمجرور للاهتمام به : { تَبْغُونَهَا } على الحذف والإيصال ، أي : تبغون لها ، أي : لسبيل الله التي هي أقوم السبل : { عِوَجاً } أي : اعوجاجاً وزيغاً وتحريفاً . قال ابن الأنباري : البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام ، كقولك : بغيت المال والأجر والثواب ، وأريد ههنا : تبغون لها عوجاً ، ثم أسقطت اللام . كما قالوا : وهبتك درهماً ، أي : وهبت لك درهماً ومثله : صدتك ظبياً ، أي : صدت لك ظبياً ، وأنشد :
~فتولى غلامهم ثم نادى أظليماً أصيدكم أم حمارا
أراد : أصيد لكم .
قال الرازي : وفي الآية وجه آخر ، وهو أن يكون عوجاً في موضع الحال . والمعنى : تبغونها ضالين ، وذلك أنهم كانوا يدعون أنهم على دين الله وسبيله ، فقال تعالى : إنكم تبغون سبيل الله ضالين ، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الحذف والإيصال .
وذكر ناصر الدين في " الانتصاف " وجها آخر قال : هو أتم معنى ، وهو أن تجعل الهاء هي المفعول به ، وعوجاً حال وقع فيها المصدر الذي هو عوجاً موقع الاسم ، وفي هذا الإعراب من المبالغة أنهم يطلبون أن تكون الطريقة المستقيمة نفس العوج ، على طريقة المبالغة في مثل رجل صوم ، ويكون ذلك أبلغ في ذمهم وتوبيخهم - والله أعلم - .
{ وَأَنتُمْ شُهَدَاء } بأنها سبيل الله والصد عنها ضلال وإضلال : { وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } تهديد ووعيد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ } [ 100 ]
.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } أي : بحسن اعتقادكم فيهم لكونهم أهل الكتاب : { يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } أي : بالتوحيد والنبوة : { كَافِرِينَ } لأنهم يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله ، كما قال تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } [ البقرة : 109 ] الآية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ 101 ]
.
{ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ } معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجيب . والمعنى : من أين يتطرق لكم الكفر ؟ : { وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ } وهي القرآن المعجز الذي هو أجلّ من الآيات المتلوّة عليهم : { وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم ، وقد هداكم من الضلالة ، وأنقذكم من الجهالة : { وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي : من يتمسك بدينه الحق الذي بيّنه بآياته على لسان رسوله ، وهو الإسلام ، والتوحيد ، المعبر عنه بسبيل الله ، فهو على هدى لا يضل متبعه . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون حثاً لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار ومكايدهم - انتهى - فالجملة حينئذ تذييل لقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا } الخ ، لأن مضمونه أنكم إن تطيعوهم لخوف شرورهم ومكايدهم ، فلا تخافوهم والتجئوا إلى الله في دفع ذلك ، لأن من التجأ إليه كفاه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ 102 ]
.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } أي : حق تقواه ، وذلك بدوام خشيته ظاهراً وباطناً والعمل بموجبها . وروى الحافظ ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود أنه قال في معنى الآية : هو أن يطاع فلا يعصى ، وأن يذكر فلا ينسى ، وأن يشكر فلا يكفر . ورواه ابن مردويه والحاكم مرفوعاً ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
قال ابن كثير : والأظهر أنه موقوف - والله أعلم - .
وروي عن أنس أنه قال : لا يتقي العبد الله حق تقاته حتى يخزن لسانه . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية : أن يجاهدوا في سبيل الله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم ، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم .
أقول : كل ما روي ، مما تشمله الآية بعمومها ، فلا تنافي .
تنبيه :
زعم بعضهم أن هذه الجملة من الآية منسوخة بآية : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] ، متأولاً حق تقاته بأن يأتي العبد بكل ما يجب لله ويستحقه . قال : فهذا يعجز العبد عن الوفاء ، فتحصيله ممتنع . وهذا الزعم لم يصب المحزّ ، فإن كلاً من الآيتين سيق في معنى خاص به ، فلا يتصور أن يكون في هذه الجملة طلب ما لا يستطاع من التقوى ، بل المراد منها دوام الإنابة له تعالى وخشيته وعرفان جلاله وعظمته قلباً وقالباً ، كما بينا . وهذا من المستطاع لكل منيب . وقوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . أمر بعبادته قدر الاستطاعة بلا تكليف لما لا يطاق ، إذ : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] . وظاهر أن من أتى بما يستطيعه من عبادته تعالى وأناب لجلاله ، وأخلص في أعماله ، وكان مشفقاً في طاعاته ، فقد اتقى الله حق تقاته { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } أي : مخلصون نفوسكم لله تعالى ، لا تجعلون فيها شركة لما سواه أصلاً ، كما في قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } [ النساء : 125 ] . وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، أي : لا تموتن على حال من الأحوال ، إلا حال تحقق إسلامكم وثباتكم عليه ، كما ينبئ عنه الجملة الإسمية . ولو قيل إلا مسلمين لم يفد فائدتها .
والعامل في الحال ما قبل إلا بعد النقض . وظاهر النظم الكريم ، وإن كان نهياً عن الموت المقيد بقيد ، هو الكون على أي : حال غير حال الإسلام ، لكن المقصود هو النهي عن ذلك القيد عند الموت المستلزم للأمر بضده الذي هو الكون على حال الإسلام حينئذ . وحيث كان الخطاب للمؤمنين ، كان المراد إيجاب الثبات على الإسلام إلى الموت . وتوجيه النهي إلى الموت للمبالغة في النهي عن قيده المذكور . فإن النهي عن المقيد في أمثاله ، نهي عن القيد ورفع له من أصله بالكلية ، مفيد لما لا يفيده النهي عن نفس القيد . فإن قولك : لا تصلِّ إلا وأنت خاشع ، يفيد من المبالغة في إيجاب الخشوع في الصلاة ما لا يفيده قولك : لا تترك الخشوع في الصلاة ؛ لما أن هذا نهي عن ترك الخشوع فقط ، وذاك نهي عنه وعما يقارنه ، ومفيد لكون الخشوع هو العمدة في الصلاة ، وأن الصلاة بدونه حقها أن لا تفعل . وفيه نوع تحذير عما وراء الموت - أفاده أبو السعود - .
وقد مضى في سورة البقرة الكلام على لون آخر من سر البلاغة في هذه الجملة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [ 103 ]
.
{ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } الحبل : إما بمعنى العهد ، كما قال تعالى في الآية بعدها : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ } [ آل عِمْرَان : 112 ] . أي : بعهد وذمة ، وإما بمعنى القرآن ، كما في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < ألا وإني تارك فيكم ثقلين : أحدهما كتاب الله هو حبل الله ، من اتبعه كان على الهدى ، ومن تركه كان على ضلالة . . . > الحديث ، والوجهان متقاربان ، فإن عهده أي : شرعه ودينه كتابه حرز للمتمسك به من الضلالة ، كالحبل الذي يتمسك به خشية السقوط . وقوله : { وَلاَ تَفَرَّقُواْ } أي : لا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم . كما اختلف اليهود والنصارى ، أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية ، متدابرين ، يعادي بعضكم بعضاً ، ويحاربه . أو ولا تحدثوا ما يكون عنه التفرق ، ويزول معه الاجتماع والألفة التي أنتم عليها مما يأباه جامعكم والمؤلف بينكم ، وهو اتباع الحق والتمسك بالإسلام - أفاده الزمخشري - : { وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } .
قال الزمخشري : كانوا في الجاهلية بينهم الإحن والعداوات والحروب المتواصلة ، فألف الله بين قلوبهم بالإسلام ، وقذف فيها المحبة ، فتحابوا وتوافقوا وصاروا إخواناً متراحمين متناصحين مجتمعين على أمر واحد ، قد نظم بينهم وأزال الاختلاف ، وهو الأخوة في الله : { وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا } أي : طرف : { حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ } بما كنتم فيه من الجاهلية : { فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا } أي : بالإسلام . قال ابن كثير : وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج ، فإنه كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية وعداوة شديدة وضغائن وإحن طال بسببها قتالهم ، والوقائع بينهم . فلما جاء الله بالإسلام ، فدخل فيه من دخل منهم ، صاروا إخواناً متحابين بجلال الله ، متواصلين في ذات الله ، متعاونين على البر والتقوى . قال الله تعالى : { هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } [ الأنفال : 62 - 63 ] الآية . وكانوا على شفا حفرة من النار ، بسبب كفرهم ، فأنقذهم الله منها ، إذ هداهم للإيمان . وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يوم قسم غنائم حنين ، فعتب من عتب منهم ، بما فضل عليهم في القسمة ، بما أراه الله ، فخطبهم فقال : < يا معشر الأنصار ! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ، وعالة فأغناكم الله بي ؟ > فكلما قال شيئاً قالوا : الله ورسوله أمنّ - انتهى - .
لطيفة :
قال الزمخشري : الضمير في : منها للحفرة أو للنار أو للشفا ، وإنما أنث لإضافته إلى الحفرة ، وهو منها كما قال :
~كما شرقت صدر القناة من الدم
انتهى .
وقال أبو حيان : لا يحسن عوده إلا إلى الشفا ؛ لأنه المحدَّث عنه . انتهى .
وفي " الانتصاف " : يجوز عود الضمير إلى الحفرة ، فلا يحتاج إلى تأويله المذكور ، كما تقول : أكرمت غلام هند ، وأحسنت إليها ، والمعنى على عوده إلى الحفرة أتم ، لأنها التي يمتن بالإنقاذ منها حقيقة ، وأما الامتنان بالإنقاذ من الشفا ، فلما يستلزمه الكون على الشفا غالباً من الهويّ إلى الحفرة ، فيكون الإنقاذ من الشفا إنقاذاً من الحفرة التي يتوقع الهويّ فيها . فإضافة المنة إلى الإنقاذ من الحفرة تكون أبلغ وأوقع . مع أن اكتساب التأنيث من المضاف إليه قد عده أبو علي في التعاليق من ضرورة الشعر ، خلاف رأيه في " الإيضاح " - نقله ابن يسعون - .
وما حمل الزمخشري على إعادة الضمير إلى الشفا إلا أنه هو الذي كانوا عليه ، ولم يكونوا في الحفرة حتى يمتن عليهم بالإنقاذ منها ، وقد بينا في أدراج هذا الكلام ما يسوغ الامتنان عليهم بالإنقاذ من الحفرة ، لأنهم كانوا صائرين إليها غالباً ، لولا الإنقاذ الرباني . ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم : < الراتع حول الحمى يوشك أن يواقعه > وإلى قوله تعالى : { أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } [ التوبة : 109 ] . وانظر كيف جعل تعالى كون البنيان على الشفا سبباً مؤدياً إلى انهياره في نار جهنم ، مع تأكيد ذلك بقوله : { هَارٍ } . والله أعلم - انتهى - .
ثم قال الزمخشري : وشفا الحفرة وشفتها : حرفها ، بالتذكير والتأنيث ، ولامها واو إلا أنها في المذكر مقلوبة ، وفي المؤنث محذوفة ، ونحو الشفا والشفة ، الجانب والجانبة . انتهى .
وحكى الزجاج في تثنية شفا : شفوان . قال الأخفش لما لم تجز فيه الإمالة عرف أنه من الواو ، لأنه الإمالة من الياء . كذا في الصحاح .
ثم قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جعلوا على حرف حفرة من النار ؟ قلت : لو ماتوا على ما كانوا عليه وقعوا في النار ، فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار ، بالقعود على حرفها مشفين على الوقوع فيها .
قال الرازي : وهذا فيه تنبيه على تحقير مدة الحياة ، فإنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة ، إلا ما بين طرف الشيء وبين ذلك الشيء .
{ كَذَلِكَ } أي : مثل ذلك البيان : { يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ } في كل مكان لإنقاذكم عن الضلال فيه : { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } لرشدكم الديني والدنيوي فيه . ثم أشار إلى أنه كما أنقذكم من النار والضلال بإرسال الرسل وإنزال الآيات ، فليكن فيكم من ينقذ إخوانه ، فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ 104 ]
.
{ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ } أي : جماعة ، سميت بذلك لأنها يؤمها فرق الناس ، أي يقصدونها ويقتدون بها : { يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ } وهو ما فيه صلاح ديني ودنيوي : { وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ } أي : بكل معروف ، من واجب ومندوب يقربهم إلى الجنة ويبعدهم عن النار : { وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر } أي : عن كل منكر ، من حرام ومكروه يقربهم إلى النار ويبعدهم من الجنة : { وَأُوْلَئِكَ } الداعون الآمرون الناهون : { هُمُ الْمُفْلِحُونَ } الفائزون بأجور أعمالهم وأعمال من تبعهم .
قال بعضهم : الفلاح : هو الظفر وإدراك البغية . فالدنيوي هو إدراك السعادة التي تطيب بها لحياة ، والأخروي أربعة أشياء : بقاء بلا فناء ، وعزّ بلا ذل ، وغنى بلا فقر ، وعلم بلا جهل .
لطيفة :
قيل : عطف : { وَيَأْمُرُونَ } على ما قبله ، من عطف الخاص على العام . كذا قاله الزمخشري . وناقشه في " الانتصاف " . وعبارته : عطف الخاص على العام يؤذن بمزيد اعتناء بالخاص لا محالة إذا اقتصر على بعض متناولات العام ، كقوله : { مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] . وكقوله : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } [ الرحمن : 68 ] . وكقوله : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى } [ البقرة : 238 ] . وشبه ذلك ، لأن الاقتصار على تخصيص ما يفرد بالذكر يفيده تمييزاً عن غيره من بقية المتناولات . وأما هذه الآية فقد ذكر ، بعد العام فيها ، جميع ما يتناوله ، إذ الخير المدعوّ إليه إما فعل مأمور ، أو ترك منهي ، لا يعدو واحداً من هذين حتى يكون تخصيصها يميزها عن بقية المتناولات ، فالأولى في ذلك أن يقال : فائدة هذا التخصيص ذكر الدعاء [ في المطبوع : الدعاد ] إلى الخير عامّاً ثم مفصلاً . وفيه تنبيه : أن الذكر على وجهين ما لا يخفى من العناية - والله أعلم - إلا أن يثبت عرف يخص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببعض أنواع الخير ، فإن ذاك يتم مراد الزمخشري ، وما أرى هذا العرف ثابتاً - والله أعلم - انتهى .
تنبيه :
وفي الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة ، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة ، وأصل عظيم من أصولها ، وركن مشيد من أركانها ، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها - كذا في " فتح البيان " .
قال الغزالي رضي الله عنه : في هذه الآية بيان الإيجاب . فإن قوله تعالى : { وَلْتَكُن } أمر . وظاهر الأمر الإيجاب ، وفيها بيان أن الفلاح منوط به ، إذ حَصَرَ وقال : { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . وفيها بيان أنه فرض كفاية لا فرض عين ، وأنه إذا قام به أمة سقط الفرض عن الآخرين ؛ إذ لم يقل : كونوا كلكم آمرين بالمعروف . بل قال : { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ } . فإذاً ، مهما قام به واحد أو جماعة سقط الحرج عن الآخرين ، واختص الفلاح بالقائمين به المباشرين . وإن تقاعد عنه الخلق أجمعون ، عم الحرج كافة القادرين عليه لا محالة . انتهى .
فإن قلت : فمن يباشره ؟ فالجواب : كل مسلم تمكن منه ولم يغلب على ظنه أنه إن أنكر لحقته مضرة عظيمة ، أو إن نهيه لا يأثر ، لأنه عبث ، إلا أنه يستحب لإظهار شعار الإسلام ، وتذكير الناس بأمر الدين . فإن قلت : فمن يؤمر وينهى ؟ قلت : كل مكلف ، وغير المكلف ، إذا همّ بضرر غير منع ، كالصبيان والمجانين ، وينهى الصبيان عن المحرمات حتى لا يتعودوها ، كما يؤخذون بالصلاة ليمرنوا عليها - ذكره الزمخشري - .
وتفصيل هذا البحث في " الإحياء " للغزالي قدس سره ، وقد قال ، قدس سره ، في طليعة ذلك البحث ما نصه : إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، هو القطب الأعظم في الدين ، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين ، ولو طوي بساطه وأهمل عمله لتعطلت النبوة ، واضمحلت الديانة ، وعمّت الفترة ، وفشت الضلالة ، وشاعت الجهالة ، واستشرى الفساد ، واتسع الخرق ، وخربت البلاد ، وهلك العباد ، وإن لم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد ، وقد كان الذي خفنا أن يكون ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه ، وانمحى بالكلية حقيقته ورسمه ، واستولت على القلوب مداهنة الخلق ، وانمحت عنها مراقبة الخالق ، واسترسل الناس في اتباع الهوى والشهوات استرسال البهائم ، وعزّ على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم ، فمن سعى في تلافي هذه الفترة ، وسد هذه الثلمة ، إما متكفلاً بعملها ، أو متقلداً لتنفيذها ، مجدداً لهذه السنة الداثرة ، ناهضاً بأعبائها ، ومتشمراً في إحيائها ، كان مستأثراً من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها ، ومستبداً بقربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها - انتهى - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ 105 ]
.
{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ينهى تعالى عباده أن يكونوا كاليهود في افتراقهم مذاهب ، واختلافهم عن الحق بسبب اتباع الهوى ، وطاعة النفس ، والحسد ، حتى صار كل فريق منهم يصدق من الأنبياء بعضاً دون بعض ، ويدعو إلى ما ابتدعه في دينه ، فصاروا إلى العداوة والفرقة من بعد ما جاءتهم الآيات الواضحة ، المبينة للحق ، الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة ، وهي كلمة الحق ، فالنهي متوجه إلى المتصدين للدعوة أصالة ، وإلى أعقابهم تبعاً . وفي قوله تعالى : { وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } من التأكيد والمبالغة في وعيد المتفرقين ، والتشديد في تهديد المشبهين بهم ، ما لا يخفى .
تنبيهات :
الأول : ذكر الفخر الرازي من وجوه قوله تعالى : { اخْتَلَفُواْ } أي : بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق ، وأن صاحبه على الباطل . ثم قال : وأقول إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة . فنسأل الله العفو والرحمة - انتهى كلامه - وقوله هذا الزمان إشارة إلى أن هذا الحال لم يكن في علماء السلف ، وما زالوا يختلفون في الفروع وفي الفتاوى بحسب ما قام لديهم من الدليل ، ما أداه إليه اجتهادهم ، ولم يضلل بعضهم بعضاً ، ولم يدّع أحدهم أنه على الصواب الذي لا يحتمل الخطأ وأن مخالفه على خطأ لا يحتمل الصواب ، وإنما نشأ هذا من جمود المقلدة المتأخرين وتعصبهم وظنهم عصمة مذهبهم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . وقد تفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاد ، وصار عند كل قوم علم غير ما عند الآخرين ، وهم على وحدتهم وتناصرهم .
الثاني : قال القاشاني : يعني بالآيات : الحجج العقلية والشرعية الموجبة لاتحاد الوجهة ، واتفاق الكلمة ، فإن للناس طبائع وغرائز مختلفة ، وأهواء متفرقة ، وعادات وسيراً متفاوتة ، مستفادة من أمزجتهم وأهويتهم ، ويترتب على ذلك فهوم متباينة ، وأخلاق متعادية ، فإن لم يكن لهم مقتدى وإمام ، تتحد عقائدهم وسرهم وآراؤهم بمتابعته ، وتتفق كلماتهم وعاداتهم وأهوائهم بمحبته وطاعته ، كانوا مهملين متفرقين ، فرائس للشيطان ، كشريدة الغنم ، تكون للذئب . ولهذا قال أمير المؤمنين عليه السلام : لا بد للناس من إمام بر أو فاجر ، ولم يرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم رجلين فصاعداً لشأن ، إلا وأمّر أحدهما على الآخر ، وأمَرَ الآخر بطاعته ومتابعته ، ليتحد الأمر وينتظم ، وإلا وقع الهرج والمرج ، واضطرب أمر الدين والدنيا ، واختل نظام المعاش والمعاد . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من فارق الجماعة قيد شبر لم ير بحبوحة الجنة > . وقال : < الله مع الجماعة > . ألا ترى أن الجمعية الْإِنْسَاْنية إذا لم تنضبط برئاسة القلب ، وطاعة العقل ، كيف اختل نظامها ، وآلت إلى الفساد والتفرق ، الموجب لخسار الدنيا والآخرة ، ولما نزل قوله تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } ، خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً فقال : < هذا سبيل الرشد ، ثم خطّ عن يمينه وشماله خطوطاً فقال : هذه سبل ، على كل سبيل شيطان يدعو إليه > .
الثالث : قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية ، قدس سره ، في أول كتابه " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " . وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولاً عاماً يعتقد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته ، دقيق ولا جليل ، فإنهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول ، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك ، إلا الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن إذا وجد الواحد منهم قول ، قد جاء حديث صحيح بخلافه ، فلا بد له من عذر في تركه . وجماع الأعذار ثلاثة أصناف :
أحدها : عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله .
الثاني : عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول .
الثالث : اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ .
وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة . ثم أوسع المقال في ذلك .
وذكر قدس سره ، في بعض فتاويه ، أن السلف والأئمة الأربعة والجمهور يقولون : الأدلة بعضها أقوى من بعض في نفس الأمر . وعلى الْإِنْسَاْن أن يجتهد ويطلب الأقوى . فإذا رأى دليلاً أقوى من غيره ، ولم ير ما يعارضه ، عمل به ، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها . وإذا كان في الباطن ما هو أرجح منه كان مخطئاً معذوراً ، وله أجر على اجتهاده وعمله بما بين له رجحانه ، وخطؤه مغفور له ، وذلك الباطن هو الحكم ، لكن بشرط القدرة على معرفته ، فمن عجز عن معرفته لم يؤاخذ بتركه ، فإذا أريد بالخطأ الإثم ، فليس المجتهد بمخطئ ، بل كان مجتهد مصيب ، مطيع لله ، فاعل ما أمره الله به ، وإذا أريد له عدم العلم بالحق في نفس الأمر ، فالمصيب واحد ، وله أجران . كما في المجتهدين في جهة الكعبة ، إذا صلوا إلى أربع جهات ، فالذي أصاب الكعبة واحد ، وله أجران لاجتهاده وعمله ، كان أكمل من غيره ، والمؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، ومن زاده الله علماً وعملاً زاده الله أجراً بما زاده من العلم والعمل ، قال تعالى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [ الأنعام : 83 ] قال مالك عن زيد بن أسلم : بالعلم ، وكذلك قال في قصة يوسف : { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ يوسف : 76 ] . وقد تبين بذلك أن جميع المجتهدين إنما قالوا بعلم ، واتبعوا العلم ، وأن الفقه من أجلّ العلوم ، وأنهم ليسوا من الذين لا يتبعون إلا الظن ، لكن بعضهم قد يكون عنده علم ليس عند الآخر ، إما بأن سمع ما لم يسمع الآخر ، وإما بأن فهم ما لم يفهم الآخر ، كما قال تعالى : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } [ الأنبياء : 78 - 79 ] . وهذه حال أهل الاجتهاد والنظر والاستدلال ، في الأصول والفروع .
ثم قال : وإذا تدبر الْإِنْسَاْن تنازع الناس وجد عند كل طائفة من العلم ما ليس عند الأخرى ، كما في مسائل الأحكام . ولم يستوعب الحق إلا من اتبع المهاجرين والأنصار ، وآمن بما جاء به الرسول كله على وجهه ، وهؤلاء هم أهل المرحمة الذين لا يختلفون . انتهى .
فعلم أن اختلاف الصحابة والتابعين والمجتهدين في الفروع ليس مما تشمله الآية ، فإن المراد منها الاختلاف عن الحق ، بعد وضوحه ، يرفضه ، وشتان ما بين الاختلافين . ثم على طالب الحق أن يستعمل نظره فيما يؤثر من هذه الخلافيات ، فما وجده أقوى دليلاً أخذ به ، وإلا تركه . وحينئذ يكون ممن قال الله تعالى فيه : { فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [ الزمر : 17 - 18 ] . وإذا اشتبه عليه مما قد اختلف فيه ، فليدعُ بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول - إذا قام يصلي من الليل - < اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم > . فإن الله تعالى قال فيما رواه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : < يا عبادي كلكم ضال إلا من هديت ، فاستهدوني أهدكم > . انتهى .
الرابع : ذكر بعض المفسرين ، هنا ، ما روي من حديث < اختلاف أمتي رحمة > ، ولا يعرف له سند صحيح ، ورواه الطبراني والبيهقي في " المدخل " بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعاً . قال بعض المحققين : هو مخالف لنصوص الآيات والأحاديث ، كقوله تعالى : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } [ هود : 118 - 119 ] .
ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم : < لا تختلفوا فتختلف قلوبكم > وغيره من الأحاديث لكثيرة ، والذي يقطع به أن الاتفاق خير من الخلاف - انتهى - .
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود بسندهما عن أبي عامر عبد الله بن يحيى قال : حججنا مع معاوية بن أبي سفيان ، فلما قدمنا مكة قام حين صلى صلاة الظهر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء - كلها في النار إلا واحدة ، وهي الجماعة ، وأنه سيخرج في أمتي أقوام تَجَارَى بهم تلك الأهواء ، كما يتجارى الكلب بصاحبه ، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله ؛ والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء نبيكم صلى الله عليه وسلم ، لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به > . قال ابن كثير : وقد روي هذا الحديث من طرق . انتهى .
نبذة في مبدأ الاختلاف في هذه الأمة من أهل الأهواء :
ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتاب " الفرقان بين الحق والباطل " أن المسلمين كانوا في خلافة أبي بكر وعمر ، وصدراً من خلافة عثمان في السنة الأولى من ولايته متفقين لا تنازع بينهم ، ثم حدث في أواخر خلافة عثمان أمور أوجبت نوعاً من التفرق ، وقام قوم من أهل الفتنة والظلم ، فقتلوا عثمان فتفرق المسلمون بعد مقتل عثمان . ولما اقتتل المسلمون بصفَِّين واتفقوا على تحكيم حكمين خرجت الخوارج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وفارقوه وفارقوا جماعة المسلمين . وحدث في أيامه الشيعة أيضاً ، لكن كانوا مختفين بقولهم لا يظهرونه لعلي وشيعته ، بل كانوا ثلاث طوائف .
طائفة : تقول إنه إله ، وهؤلاء ، لما ظهر عليهم ، أحرقهم بالنار .
والثانية : السابة وكان قد بلغه عن أبي السودا أنه كان يسب أبا بكر وعمر ، فطلبه قيل : إنه طلبه ليقتله فهرب منه .
والثالثة : المفضِّلة الذي يفضلونه على الشيخين ، وقد تواتر عنه أنه قال : خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر . وروى ذلك البخاري في صحيحه .
ثم في آخر عصر الصحابة حدثت القدرية ، ثم حدثت المرجئة ، ثم قال : وإن الناس في ترتيب أهل الأهواء على أقسام : منهم من يرتبهم على زمان حدوثهم ، فيبدأ بالخوارج ، ومنهم من يرتبهم بحسب خفة أمرهم وغلظه فيبدأ بالمرجئة ويختم بالجهمية ، كما فعله كثير من أصحاب أحمد رضي الله عنه ، كعبد الله ابنه ، ونحوه ، وكالخلاّل ، وأبي عبد الله بن بطة وأمثالهما ، وكأبي الفرج المقدسي . وكلا الطائفتين تختم بالجهمية ، لأنهم أغلظوا البدع . وكالبخاري في صحيحه . فإنه بدأ بكتاب الإيمان والرد على المرجئة ، وختمه بكتاب التوحيد والرد على الزنادقة والجهمية .
ثم قال قدس سره : إن السلف كان اعتصامهم بالقرآن والإيمان ، فلما حدث في الأمة ما حدث من التفرق والاختلاف ، صار أهل التفرق والاختلاف شيعاً ، وعمدتهم في الباطن ليست على القرآن والإيمان ، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم ، عليها يعتمدون في التوحيد والصفات والقدرية والإيمان بالرسول وغير ذلك . وثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به ، وما خالفهما تأولوه ، فلهذا تجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما ، ولم يستقصوا ما في القرآن من ذلك المعنى ، إذ كان اعتمادهم في نفس الأمر إلى غير ذلك . والآيات التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيف أمكن . ليس مقصوده أن يفهم مراد الرسول ، بل أن يدفع منازعه من الاحتجاج بها . ثم قال قدس سره : فعلى كل مؤمن أن لا يتكلم في شيء من الدين إلا تبعاً لما جاء به الرسول ، ولا يتقدم بين يديه ، بل ينظر ما قال ، فيكون قوله تبعاً لقوله ، وعلمه تبعاً لأمره ، كما كان الصحابة ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان ، وأئمة المسلمين . فلهذا لم يكن أحد منهم يعارض النصوص بمعقوله ولا يوسوس ديناً غير ما جاء به الرسول . وإذا أراد معرفة شيء من الدين والكلام فيه ، نظر فيما قاله الله والرسول ، فمنه يتعلم وبه يتكلم ، وفيه ينظر ويتفكر ، وبه يستدل ، فهذا أصل أهل السنة .
وقال قدس سره في رسالته إلى جماعة الشيخ عدي بن مسافر ما نصه : وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها ، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله ، كما قال تعالى : { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } [ المائدة : 14 ] ، فمتى ترك الناس بعضهم ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء ، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا ، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا ، فإن الجماعة رحمة ، والفرقة عذاب ، وجماع ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } إلى قوله : { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ آل عِمْرَان : 102 - 104 ] . فمن الأمر بالمعروف الأمر بالائتلاف والاجتماع والنهي عن الاختلاف والفرقة ، ومن النهي عن المنكر : إقامة الحدود على من خرج من شريعة الله تعالى . ثم قال : ويجب على أولي الأمر ، وهم علماء كل طائفة وأمراؤها ومشايخها أن يقوّموا عامتهم ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر ، فيأمرونهم بما أمر الله به ورسوله ، وينهونهم عما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } [ 106 ] .
{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } أي : تبيض وجوه كثيرة وهي وجوه المؤمنين لاتباعها الدين الحق الذي هو النور الساطع . وتسود وجوه كثيرة ، وهي وجوه الكافرين من أهل الكتاب والمشركين ؛ لاتباعها الضلالات المظلمة ، وليستدل بذلك على إيمانهم وكفرهم ، فيجازي كلٍّ بمقتضى حاله ، وهذه الآية لها نظائر ، منها قوله تعالى : { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ } [ الزمر : 60 ] ومنها قوله تعالى : { وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ } [ يونس : 26 ] . ومنها قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } [ عبس : 38 - 41 ] . ومنها قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } [ القيامة : 22 - 25 ] . ومنها : { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ } [ المطففين : 24 ] . إلى غير ذلك . والمفسرين في هذا البياض والنضرة والغبرة والقترة وجهان :
أحدهما : أن البياض مجاز عن الفرح والسرور ، والسواد عن الغم . وهذا مجاز مستعمل ، قال تعالى : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } [ النحل : 58 ] . ويقال : لفلان عندي يد بيضاء ، أي : جلية سارة .
وتقول العرب لمن نال بغيته وفاز بمطلوبه : ابيض وجهه ، ومعناه الاستبشار والتهلل ، وعند التهنئة بالسرور يقولون : الحمد لله الذي بيض وجهك . ويقال لمن وصل إليه مكروه : اربدّ وجهه واغبرّ لونه ، وتبدلت صورته . فعلى هذا معنى الآية : إن المؤمن يرد يوم القيامة على ما قدمت يداه ، فإن كان لك من الحسنات ابيض وجهه بمعنى استبشر بنعم الله وفضله ، وعلى ضد ذلك ، إذا رأى الكافر أعماله القبيحة محصاة اسودّ وجهه بمعنى شدة الحزن والغم ، وهذا قول أبي مسلم الأصفهاني .
والوجه الثاني : أن هذا البياض والسواد يحصلان في وجوه المؤمنين والكافرين ، وذلك لأن اللفظ حقيقة فيهما ، ولا دليل يوجب ترك الحقيقة ، فوجب المصير إليه . ولأبي مسلم أن يقول : الدليل دل على ما قلناه ، وذلك لأنه تعالى قال :
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } [ عبس : 38 - 41 ] . فجعل الغبرة والقترة في مقابلة الضحك والاستبشار ، فلو لم يكن المراد بالغبرة والقترة ما ذكرنا من المجاز لما صح جعله مقابلاً له ، فعلمنا أن المراد من هذه الغبرة والقترة والغم والحزن حتى صح هذا التقابل - أفاده الرازي - .
لطيفة :
يوم منصوب إما مفعول لمضمر خوطب به المؤمنون تحذيراً لهم عن عاقبة التفرق بعد مجيء البينات ، وترغيباً في الاتفاق على التمسك بالدين . أي : اذكروا يوم . . الخ أو ظرف للاستقرار في " لهم " أو لـ " عظيم " أو لـ " عذاب " .
{ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } هذا تفصيل لأحوال الفريقين بعد الإشارة إليها إجمالاً ، وتقديم بيان هؤلاء لما أن المقام مقام التحذير عن التشبه بهم مع ما فيه من الجمع بين الإجمال والتفصيل والإفضاء إلى ختم الكلام بحسن حال المؤمنين كما بدئ بذلك عند الإجمال ، وقوله تعالى : { أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } على إرادة القول ، أي : فيقال لهم ذلك ، والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم - أفاده أبو السعود - والمعنى : أكفرتم بعد ما ظهر لكم ما يوجب الإيمان ، وهو الدلائل التي نصبها الله تعالى على التوحيد والنبوة ، وما يناجيكم به وجدانكم من صدق هذه الدعوى وحقيتها وشهادته بصحتها ، كما قال تعالى فيما قبل هذه الآية : { يا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } [ آل عِمْرَان : 70 ] : فذمهم على الكفر بعد وضوح الآيات ، وقال للمؤمنين { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ آل عِمْرَان : 105 ] .
فقوله تعالى هنا : { أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } ، محمول على ما ذكر ، حتى تصير هذه الآية مقررة لما قبلها ، وهي عامة في حق كل الكفار .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 107 ]
.
{ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } المراد برحمة الله : الجنة ، عبر عنها بالرحمة تنبيهاً على أن المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى فإنه لا يدخل الجنة إلا برحمته تعالى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } [ 108 ]
.
{ تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ } الإشارة إلى ما تقدم من الوعد والوعيد : { وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } أي : لا يشاء أن يظلم عباده ، فيأخذ أحداً بغير جرم ، أو يزيد في عقاب مجرم ، أو ينقص من ثواب محسن . قال الرازي : إنما حسن ذكر الظلم ههنا ، لأنه تقدم ذكر العقوبة الشديدة ، وهو سبحانه وتعالى أكرم الأكرمين فكأنه تعالى يعتذر عن ذلك ، وقال : إنهم ما وقعوا فيه إلا لسبب أفعالهم المنكرة ، وكل ذلك مما يشعر بأن جانب الرحمة مغلب . وقال أبو السعود : وفي سبك الجملة نوع إيماء إلى التعريض بأن الكفرة هم الظالمون ، ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد ، كما في قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ يونس : 44 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ } [ 109 ]
.
{ وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } أي : له تعالى وحده ، من غير شركة ما فيهما من المخلوقات ملكاً وخلقاً ، وإحياء وإماتة ، وإثابة وتعذيباً : { وَإِلَى اللّهِ } أي : إلى حكمه وقضائه : { تُرْجَعُ الأُمُورُ } أي : أمورهم فيجازي كلاً منهم بما وعده وأوعده ، فلا داعي له إلى الظلم ؟ لأنه غني عن كل شيء ، وقادر على كل شيء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } [ 110 ]
.
{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } كلام مستأنف سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الإتفاق على الحق ، والدعوة إلى الخير ، و : { كُنتُمْ } من كان التامة ، والمعنى : وجدتم وخلقتم خير أمة ، أو الناقصة والمعنى كنتم في علم الله خير أمة ، أو في الأمم الذين كانوا قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة و : { أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } صفة لأمة ، واللام متعلقة بـ : { أُخْرِجَتْ } أي : أظهرت لهم حتى تميزت وعرفت ، وفصل بينها وبين غيرها . ثم بين وجه الخيرية بما لم يحصل مجموعه لغيرهم بقوله : { تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } فبهذه الصفات فضلوا على غيرهم ممن قال تعالى فيهم : { كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [ المائدة : 79 ] { وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ } [ النساء : 150 ] قال أبو السعود : { وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } أي : إيماناً متعلقاً بكل ما يجب أن يؤمن به من رسول وكتاب ، وحساب وجزاء . وإنما لم يصرح به تفصيلاً لظهور أنه الذي يؤمن به المؤمنون ، وللإيذان بأنه هو الإيمان بالله تعالى حقيقة ، وأن ما خلا عن شيء من ذلك كإيمان أهل الكتاب ليس من الإيمان به تعالى من شيء . قال تعالى : { وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً } [ النساء : 150 - 151 ] وإنما أخر ذلك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مع تقدمه عليهما وجوداً ورتبة ، لأن دلالتهما على خيريتهم للناس أظهر من دلالته عليها وليقترن به ما بعده - انتهى - .
روى ابن جرير أن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه رأى من الناس رِعَةً ، فقرأ هذه الآية : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } ثم قال : من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤدّ شرط الله فيها . ونظير هذه الآية قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } أي : خياراً : { لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ } [ البقرة : 143 ] ، أي : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وقد روي في معنى الآية عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث وافرة ، منها ما أخرجه الإمام أحمد والترمذي والحاكم عن معاوية بن حيدة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ألا إنكم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل > . قال ابن كثير : وهو حديث مشهور ، وقد حسنه الترمذي ، ويروى من حديث معاذ بن جبل وأبي سعيد ونحوه . وإنما حازت هذه الأمة قصب السبق إلى الخيرات بنبيها محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه أشرف خلق الله ، وأكرم الرسل على الله ، وبعثه الله بشرع كامل عظيم ، لم يعطه نبي قبله ، ولا رسول من الرسل ، فالعمل على منهاجه وسبيله ، يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه . وقد ذكر الحافظ ابن كثير ههنا حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، وساق طرقه ومخرجيه فأجاد رحمه الله تعالى .
{ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ } أي : بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم : { لَكَانَ خَيْراً لَّهُم } أي : مما هم عليه ، إشارة إلى تسفيه أحلامهم في وقوفهم مع ما منعهم عن الإيمان من العوض القليل الفاني والرياسة التافهة ، وتركهم الغنى الدائم ، والعز الباهر . ولما كان هذا ربما أوهم أنه لم يؤمن منهم أحد قال مستأنفاً : { مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ } أي : بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم ولكنهم قليل : { وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } ولما كانت مخالفة الأكثر قاصمة ، خفف سبحانه عن أوليائه بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } [ 111 ]
.
{ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } أي : بألسنتهم لا يبالي به من طعن وتهديد : { وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ } أي : يوماً من الأيام : { يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ } يعني منهزمين مخذولين : { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } يعني لا يكون لهم النصر عليكم ، بل تنصرون عليهم . وقد صدق الله ، ومن أصدق من الله قيلاً ؟ لم يقاتلوا في موطن إلا كانوا كذلك . قال ابن كثير : فإنهم يوم خيبر أذلهم الله ، وأرغم أنوفهم ، وكذلك من قبلهم من يهود المدينة : بني قيقناع ، وبني النضير ، وبني قريظة ، كلهم أذلّهم الله . وكذلك النصارى بالشام ، كسرهم الصحابة في غير ما موطن وسلبوهم ملك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين . ولا تزال عصابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى ابن مريم ، وهم كذلك ، ويحكم بملة الإسلام ، وشرع محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ولا يقبل إلا الإسلام .
لطائف :
قال الزمخشري : فإن قلت : هلا جزم المعطوف في قوله : { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } ؟
قلت : عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء ، كأنه قيل : ثم أخبركم أنهم لا ينصرون .
فإن قلت : فأي فرق بين رفعه وجزمه في المعنى ؟
قلت : لو جزم لكان نفي النصر مقيداً بمقاتلتهم ، كتولية الأدبار ، وحين رفع كان نفي النصر وعداً مطلقاً كأنه قال : ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون منتفٍ عنهم النصر والقوة لا ينهضون بعدها بجناح ، ولا يستقيم لهم أمر ، وكان كما أخبر من حال بني قريظة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر .
فإن قلت : فما الذي عطف عليه هذا الخبر ؟
قلت : جملة الشرط والجزاء . كأنه قيل : أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ، ثم أخبركم أنهم لا ينصرون .
فإن قلت : فما معنى التراخي في ثم ؟
قلت : التراخي في المرتبة ، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار .
قال الناصر بن المنير : وهذا من الترقي في الوعد عما هو أدنى إلى ما هو أعلى ، لأنهم وعدوا بتولية عدوهم الأدبار عند المقابلة ، ثم ترقى الوعد إلى ما هو أتم في النجاح من أن هؤلاء لا ينصرون مطلقاً ، ويزيد هذا الترقي بدخول ثم دون الواو . فإنها تستعار ههنا للتراخي في الرتبة لا في الوجود ، كأنه قال : ثم ههنا ما هو أعلى في الامتنان ، وأسمح في رتب الإحسان ، وهو أن هؤلاء قوم لا ينصرون البتة - والله أعلم - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } [ 112 ]
.
{ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ } أي : أحيط بهم الهوان والصغار كما يحيط البيت المضروب بساكنه أينما وجدوا ، وقوله : { إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ } في محل النصب على الحال بتقدير : إلا معتصمين أو متمسكين أو ملتبسين بحبل من الله ، وهو استثناء من أعم عام الأحوال ، والمعنى : ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال ، إلا في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس ، يعني : ذمة الله وذمة المسلمين ، أي : لا عز لهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوه من الجزية . كذا في " الكشاف " { وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ } أي : استوجبوه : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ } أي : الفقر ، ليكونوا بهذه الأوصاف أعرق شيء في الذل : { ذَلِكَ } أي : ضربت المسكنة والذلة والغضب : { بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ } أي : استكباراً وعتواً : { وَيَقْتُلُونَ الأنبياء } أي : الآتين من عند الله حقاً . ولما كانوا معصومين ديناً ودنياً قال : { بِغَيْرِ حَقٍّ } أي : يبيح القتل : { ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } أي : ضرب الذلة والمسكنة في الدنيا واستيجاب الغضب في الآخرة ، كما هو معلل بكفرهم وقتلهم الأنبياء ، فهو مسبب عن عصيانهم واعتدائهم حدود الله تعالى . وقيل : ذلك إشارة إلى علة العلة ، وهو الكفر والقتل ، أي : حصلا منهم بسبب عصيانهم واعتدائهم ، فإن الإقدام على المعاصي ، والاستهانة بمجاوزة الحدود يهوّن الكفر . قال الأصفهاني : قال أرباب المعاملات : من ابتلي بترك الآداب ، وقع في ترك السنن . ومن ابتلي بترك السنن ، وقع في ترك الفرائض ، ومن ابتلي بترك الفرائض ، وقع في استحقار الشرعية ، ومن ابتلي بذلك ، وقع في الكفر .
قال برهان الدين البقاعي رحمه الله تعالى : والآية دليل على مؤاخذة الابن الراضي بذنب الأب وإن علا . وذلك طبق ما رأيته في ترجمة التوراة التي بين أيديهم ، لأنه قال في السفر الثاني : وقال الله جميع هذه الآيات كلها أنا الرب إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق ولا يكون لك آلهة ، لا تعلمن شيئاً من الأصنام والتماثيل التي مما في السماء فوق ، وفي الأرض من تحت ، ومما في الماء أسفل الأرض ، لا تسجدن لها ولا تعبدنها ؛ لأني أنا الرب إلهك غيور آخذ الأبناء بذنوب الآباء إلى ثلاثة أحقاب وأربعة خلوف وأثبت النعمة إلى ألف حقب لأحباري وحافظي وصاياي - انتهى - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } [ 113 ]
.
{ لَيْسُواْ سَوَاء } جملة مستأنفة سيقت تمهيداً للثناء على من أقبل على الحق من أهل الكتاب ، وخلع الباطل ولم يراع سلفاً ولا خلفاً ، وتذكيراً لقوله تعالى : { مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ } أي : ليس أهل الكتاب متساوين ومتشاركين في المساوئ ، ثم استأنف قوله بياناً لعدم استوائهم : { مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } .
في قوله تعالى : { قَآئِمَةٌ } وجوه :
الأول : أنها قائمة في الصلاة ، وعبّر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل كقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } [ الفرقان : 64 ] . وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ } [ المزمل : 20 ] . وقوله : { قُمِ اللَّيْلَ } [ المزمل : 2 ] . وقوله : { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } [ البقرة : 238 ] .
والثاني : أنها ثابتة على التمسك بالدين الحق ، ملازمة له ، غير مضطربة في التمسك به ، كقوله : { إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً } [ آل عِمْرَان : 75 ] أي : ملازماً للاقتضاء ، ثابتاً على المطالبة . ومنه قوله تعالى : { قَائِماً بِالْقِسْطِ } [ آل عِمْرَان : 18 ] .
الثالث : أنها مستقيمة عادلة من قولك : أقمت العود فقام ، بمعنى استقام ، والآناء : الأوقات ، واحدها إنا مثل معى وأمعاء وإني مثل نِحْي وأنحاء وقوله تعالى : { وَهُمْ يَسْجُدُونَ } جملة مستقلة مستأنفة ، ولست حالاً من فاعل : { يَتْلُونَ } لما صح في السنة من النهي عن التلاوة في السجود ، وذلك فيما رواه الإمام أحمد ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إلا إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً ، فأما الركوع فعظموا فيه الرب ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم > . فمعنى الآية أنهم يقومون تارة ويسجدون أخرى ، يبتغون الفضل والرحمة كقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } [ الفرقان : 64 ] . وقوله : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } [ الزمر : 7 ] . ويحتمل أن يكون المعنى : وهم يصلون ، والصلاة تسمى سجوداً وسجدة كما تسمى ركوعاً وركعة وتسبيحاً وتسبيحة . وعليه فالجملة يجوز فيها الوجهان ، وتكرير الإسناد لتقوية الحكم وتأكيده . ثم وصفهم تعالى بصفات أخر ، مبينة لمباينتهم اليهود من جهة أخرى ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ } [ 114 ]
.
{ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : على الوجه الذي نطق به الشرع . وظاهر أن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورسله . والإيمان باليوم الآخر يستلزم الحذر من المعاصي ، وهؤلاء اليهود ينكرون أنبياء الله ، ولا يحترزون عن معاصي الله ، فلم يحصل لهم الإيمان بالمبدأ والمعاد : { وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ } تعريض بمداهنة اليهود في الاحتساب ، بل بتعكيسهم في الأمر بإضلال الناس وصدهم عن سبيل الله ، فإنه أمر بالمنكر ونهي عن المعروف ، وقوله تعالى : { وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } صفة أخرى جامعة لفنون المحاسن المتعلقة بالنفس وبالغير . والمسارعة في الخير فرط الرغبة فيه . وفيه تعريض بتباطؤ اليهود فيها ، بل بمبادرتهم إلى الشرور : { وَأُوْلَئِكَ } أي : المنعوتون بتلك الصفات الفاضلة : { مِنَ الصَّالِحِينَ } أي : من عداد من صلحت أحوالهم عند الله تعالى واستحقوا رضاه ، والوصف بالصلاح دال على أكمل الدرجات . فهو غاية المدح ، ولذا وصفت به الأنبياء في التنزيل :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } [ 115 ]
.
{ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ } أي : لن يعدموا ثوابه . وإيثار صيغة المجهول للجري على سنن الكبرياء . وقرئ الفعلان بالخطاب : { وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } فيوفيهم أجورهم وهؤلاء الموصوفون هم المذكورون في آخر السورة { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ } [ آل عِمْرَان : 199 ] الآية .
تنبيه :
قال البقاعي : أرشد السياق إلى أن التقدير : وأكثرهم ليسوا بهذه الصفات . وقال الرازي : لما قال تعالى : { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ } . كان تمام الكلام أن يقال : ومنهم أمة مذمومة إلا أنه أضمر ذكر الأمة المذمومة على مذهب العرب من أن ذكر أحد الضدين يغني عن ذكر الضد الآخر . وتحقيقه : أن الضدين يعلمان معاً . فذكر أحدهما يستقل بإفادة العلم بهما ، فلا جرم يحسن إهمال الضد الآخر ، قال أبو ذُؤَيب :
~دعاني إلهيا القلب إني لأمره مطيع فما أدرى أرشدٌ طِلاَبُها
أراد : أم غيّ ، فاكتفى بذكر الرشد عن الغي ، وهذا قول الفراء وابن الأنباري . وقال الزجاج : لا حاجة إلى إضمار الأمة المذمومة لأن ذكرها قد جرى قبل ، ولأنا قد ذكرنا أن العلم بالضدين معاً ، فذكر أحدهما مغن عن ذكر الآخر . كما يقال زيد وعمرو لا يستويان ، زيد عاقل ديّن ذكي ، فيغني هذا عن أن يقال : وعمرو ليس كذلك . فكذا ههنا . لما تقدم قوله : ليسوا سواء . أغنى عن ذلك الإضمار - انتهى ملخصاً - أقول : لا مانع من كون الآية الآتية هي الشق الثاني المقابل للأول . فإن عنوان الذين كفروا مقابل بمفهومه لما قبله كمالا يخفى . والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 116 ]
.
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ } أي : لن تدفع عنهم : { أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً } أي : من عذاب الله ، وإن كان التصدق بالأموال يطفئ غضب الرب في حق المؤمنين ، ويغفر لهم بموت أولادهم ، أو استغفارهم : { وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ولما بين تعالى أن أموال الكفار لا تغني عنهم شيئاً ، ثم إنهم ربما أنفقوها في وجوه الخيرات ، فيخطر في البال أنهم ينتفعون بها ، فأزال تلك الشبهة ، وضرب لها مثلاً بذهابها هباءً منثوراً بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ 117 ]
.
{ مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } من المكارم ويواسون فيه من المغارم : { كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ } أي : برد شديد كالصرصر : { أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } بالكفر والمعاصي فباؤوا بغضب من الله : { فَأَهْلَكَتْهُ } فكذا ريح الكفر إذا أصابت حرث إنفاق قومه تهلكه . فصار الظلم ريحاً لحصوله من هوى النفس ذات برودة شديدة لكونه ظلم الكفر الذي هو الموت المعنوي فأهلكته - قاله المهايمي - .
{ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ } بإهلاك حرثهم بإرسال ريح من عنده : { وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بإرسال ريح الظلم الكفريّ على حرثهم الأخروي .
لطائف :
إن قيل : الغرض تشبيه ما أنفقوا في ضياعه ، بالحرث الذي ضربته الصرّ ، وقد جعل ما ينفقون ممثلاً بالريح ، فما وجه المطابقة للغرض ؟ أجيب : بأن هذا من التشبيه المركب وهو ما حصلت فيه المشابهة بين ما هو المقصود من الجملتين ، وإن لم تحصل المشابهة بين أجزائيها ، والمقصود : تشبيه الحال بالحال ؛ ويجوز أن يراد : مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح ، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح فتحصل المشابهة .
قال ناصر الدين في " الانتصاف " : والأقرب أن يقال أصل الكلام - والله أعلم - مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم فأصابته ريح فيها صر فأهلكته ، ولكن خولف هذا النظم في المثل المذكور لفائدة جليلة ، وهو تقديم ما هو أهم ، لأن الريح التي هي مثل العذاب ، ذكرها في سياق الوعيد والتهديد أهم من ذكر الحرث . فقدمت عنايةً بذكرها ، واعتماداً على أن الأفهام الصحيحة تستخرج المطابقة برد الكلام إلى أصله على أيسر وجه . ومثل هذا ، في تحويل النظم لمثل هذه الفائدة ، قوله تعالى : { فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا } [ البقرة : 282 ] الآية . ومثله أيضاً : أعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه ، والأصل : أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت . وأن أدعم بها الحائط إذا مال ، وأمثال ذلك كثيرة والله الموفق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } [ 118 ]
.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } أي : أصحاباً يستبطنون أمركم من دون أبناء جنسكم وهم المسلمون .
قال الزمخشري : بطانة الرجل ووليجته : خصيصه وصفيّه الذي يفضي إليه بشُقُوره ثقة به . شبه ببطانة الثوب ، كما يقال : فلان شعاري - انتهى - ومن أمثال العرب في سرار الرجل إلى أخيه ما يستره عن غيره : أفضيت إلي بشقوري - بضم الشين وقد تفتح - أي : أخبرته بأمري ، وأطلعته على ما أسره من غيره . وفي القاموس وشرحه : البطانة : الصاحب للسر الذي يشاور في الأحوال ، والوليجة : وهو الذي يختص بالولوج والاطلاع على باطن الأمر . وقال الزجاج : البطانة الدخلاء الذين ينبسط إليهم ويستبطنون ، يقال : فلان بطانة لفلان ، أي : مداخل له موانس ، وهؤلاء المنهي عنهم ، إما أهل الكتاب ، كما رواه ابن جرير وابن إسحاق عن ابن عباس : أنهم اليهود . وذلك لأن السياق في السورة ، والسباق معهم . وقد كان بين الأنصار وبين مجاوريهم من اليهود ما هو معروف من سابق الرضاع والحلف . وإما المنافقون لقوله بعد : { وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا } [ آل عِمْرَان : 119 ] . . . الخ ، وهذه صفة المنافقين ، كقوله تعالى في سورة البقرة : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ } [ البقرة : 14 ] . . . الخ . وربما كان يغتر بعض المؤمنين بظاهر أقوال المنافقين ويظنون أنهم صادقون فيفشون إليهم الأسرار . وإما جميع أصناف الكفار وقوفاً مع عموم قوله تعالى : { مِنْ دُونِكُمْ } كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } [ الممتحنة : 1 ] . ومما يؤكد ذلك ما رواه ابن أبي حاتم أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : إن ههنا غلاماً من أهل الحيرة نصرانياً ، حافظ كاتب ، فلو اتخذته كاتباً ؟ فقال : قد اتخذت إذن بطانة من دون المؤمنين .
قال الرازي : فقد جعل عمر رضي الله عنه هذه الآية دليلاً على النهي من اتخاذ النصراني بطانة .
وقال الحافظ ابن كثير : ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين ، وإطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب .
وقال السيوطي في " الإكليل " : قال الكيا الهراسي : في الآية دلالة على أنه لا يجوز الاستعانة بأهل الذمة في شيء من أمور المسلمين - انتهى - .
ووجه ذلك ، كما قال القاشاني : أن بطانة الرجل صفيه وخليصه الذي يبطنه ويطلع على أسراره ، ولا يمكن وجود مثل هذا الصديق إلا إذا اتحدا في المقصد واتفقا في الدين والصفة ، متحابين في الله لغرض . كما قيل في الأصدقاء : نفس واحدة في أبدان متفرقة . فإذا كان من غير أهل الإيمان ، فبأن يكون كاشحاً أحرى . ثم بين نفاقهم واستبطانهم العداوة بقوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } أي : لا يقصرون بكم في الفساد .
قال القاشاني : لأن المحبة الحقيقية الخالصة لا تكون إلا بين الموحدين لكونها ظل الوحدة . فلا تكون في غيرها لكونهم في عالم التضاد . بل ربما تتألفهم الجنسية العامة الْإِنْسَاْنية لاشتراكهم في النوع والمنافع ، والملاذ واحتياجهم إلى التعاون فيها . والمنافع الدنيوية واللذات النفسانية سريعة الانقضاء فلا تدوم المحبة عليها ، بخلاف المحبة الأولى فإنها مستندة إلى أمر لا تغير فيه أصلاً .
قال الزمخشري : يقال : ألا في الأمر ، يألوا : إذا قصر فيه . ثم استعمل معدّى إلى مفعولين . في قولهم : لا آلوك نصحاً ، ولا آلوك جهداً ، على التضمين . والمعنى : لا أمنعك نصحاً ولا أنقصكه . والخبال : الفساد : { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } أي : عنتكم ، على أن ما مصدرية ، والعنت : شدة الضرر والمشقة ، أي : تمنوا ما يهلككم : { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } أي : ظهر البغض الباطن حتى خرج من أفواههم ، لأنهم لا يتمالكون ، مع ضبطهم أنفسهم وتحاملهم عليها ، أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين . وقد قيل : كوامن النفوس تظهر على صفحات الوجوه وفلتات اللسان : { وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } مما ظهر ؛ لأن ظهوره ليس عن روية واختيار بل فلتة . ومثله يكون قليلاً : { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ } الدالة على سوء اتخاذكم إياهم بطانة لتمتنعوا منها ، فتخلصوا في الدين ، وتوالوا المؤمنين ، وتعادوا الكافرين : { إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } أي : من أهل العقل . أو تعقلون ما بيّن لكم فعملتم به . قال الزمخشري : فإن قلت : كيف موقع هذه الجمل ؟ قلت : يجوز أن يكون لا يألونكم صفة للبطالة . وكذلك قد بدت البغضاء . كأنه قيل : بطانة غير آليكم خبالاً ، بادية بغضاؤهم . وأما قد بينا فكلام مبتدأ . وأحسن منه وأبلغ أن تكون مستأنفات كلها على وجه التعليل للنهي عن اتخاذهم بطانة . ثم بين تعالى خطأهم في موالاتهم حيث يبذلونها لأهل البغضاء بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ 119 ]
.
{ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } أي : تخالطونهم وتفشون إليهم أسراركم ولا يفعلون مثل ذلك بكم ، وقوله : { وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ } الواو للحال وهي منتصبة من ضمير المفعول في لا يحبونكم والمعنى : لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم فلا تنكرون منه شيئاً ، فليس فيكم ما يوجب بغضهم لك . فما بالكم تحبونهم وهم يكفرون بكتابكم كله ؟ .
ولم تجعل الواو للعطف على ولا يحبونكم أو تحبونهم كما ارتضاه أبو حيان لأنه في معرض التخطئة . ولا كذلك الإيمان بالكتاب فإنه محض الصواب . واعتذر له بأن المعنى : يجمعون بين محبة الكفار والإيمان وهما لا يجتمعان ، لبعده ، والحالية مقررة للخطأ فتأمل ، نقله الخفاجي .
قال الزمخشري : فيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم . ونحوه : { فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ } [ النساء : 104 ] { وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا } نفاقاً وتغريراً : { وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ } أي : من أجله ، تأسفاً وتحسراً . حيث لم يجدوا إلى التشفي سبيلاً . وعض الأنامل عادة النادم العاجز ، والمغتاظ إذا عظم حزنه على فوات مطلوبه . ولما كثر هذا الفعل من الغضبان صار ذلك كناية عن الغضب . حتى يقال في الغضبان : إنه يعض يده غيظاً ، وإن لم يكن هناك عض : { قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ } دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به . والمراد بزيادة الغيظ : زيادة ما يغيظهم من قوة الإسلام وعز أهله . وما لهم في ذلك من الذل والخزي والتبار . كذا في " الكشاف " : { إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } فيعلم ما في صدورهم من البغضاء والحنق . وهو يحتمل أن يكون من " المقول " أي : وقل لهم : إن الله عليم بما هو أخفى مما تخفونه من عض الأنامل غيظاً . وأن يكون خارجاً عنه بمعنى : قل لهم ذلك لا تتعجب من إطْلاعي إياك على أسرارهم ، فإني عليم بالأخفى من ضمائرهم . وقيل : هو أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطيب النفس ، وقوة الرجاء ، والاستبشار بوعد الله تعالى أن يهلكوا غيظاً بإعزاز الإسلام وإذلالهم به من غير أن يكون ثمة قول . كأنه قيل : حدث نفسك بذلك - أفاده أبو السعود - ثم بين تعالى تناهي عداوتهم بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } [ 120 ]
.
{ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ } بظهوركم على العدو ، ونيلكم الغنيمة ، وخصب معاشكم ، وتتابع الناس في دينكم : { تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ } بإصابة العدو منكم ، أو اختلاف بينكم ، أو جدب أو بلية : { يَفْرَحُواْ بِهَا } ولا يعلمون ما لله تعالى في ذلك من الحكمة .
لطيفة :
المس أصله باليد ، ثم يسمى كل ما يصل إلى الشيء مسّا . والتعبير به في جانب الحسنة ، وبالإصابة في جانب السيئة للتفنن . وقد سوى بينهما في غير هذا الموضع كقوله : { إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ } [ التوبة : 50 ] وقوله : { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ النساء : 79 ] . وقال : { إذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً } [ المعارج 20 - 21 ] .
قال ناصر الدين في " الانتصاف " : يمكن أن يقال : المس أقل تمكناً من الإصابة ، وكأنه أقل درجاتها ، فكأن الكلام - والله أعلم - إن تصبكم الحسنة أدنى إصابة تسؤهم ويحسدوكم عليها . وإن تمكنت الإصابة منكم وانتهى الأمر فيها إلى الحد الذي يرثي الشامت عنده منها ، فهم لا يرثون لكم ولا ينفكّون عن حسدهم ، ولا في هذه الحال ، بل يفرحون ويسرون . والله أعلم - انتهى - .
وهذا من أسرار بلاغة التنزيل . فدل التعبير على إفراطهم في السرور والحزن . فإذا ساءهم أقل خيرنا ، فغيره أولى ، وإذا فرحوا بأعظم المصائب مما يرثي له الشامت فهم لا يرجى موالاتهم أصلاً . فكيف تتخذونهم بطانة ؟ . قال البقاعي : ولما كان هذا الأمر منكياً غائظاً مؤلماً داواهم بالإشارة إلى النصر بشرط التقوى والصبر فقال : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ } أي : تصبروا على ما يبتليكم الله به من الشدائد والمحن والمصائب ، وتثبتوا على الطاعة وتنفوا الاستعانة بهم في أموركم ، والالتجاء إلى ولايتهم : { لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } لأن المتوكل على الله الصابر على بلائه ، المستعين به لا بغيره : ظافر في طلبته ، غالب على خصمه ، محفوظ بحسن كلاءة ربه . والمستعين بغيره : مخذول موكول إلى نفسه ، محروم عن نصرة ربه ، أفاده القاشاني .
وقيل : المراد بنفي الضرر عدم المبالاة به ، لأن المتدرب بالاتقاء والصبر يكون قليل الانفعال ، جريئاً على الخصم . الكيد : الاحتيال على إيقاع الغير في مكروه : { إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } قرئ بياء الغيبة ، على معنى أنه عالم بما يعملون في معاداتكم من الكيد فيعاقبهم عليه . وبتاء الخطاب ، أي : بما تعملون من الصبر والتقوى فيجازيكم بما أنتم أهله .
تنبيه مهم :
قال الرازي : إطلاق لفظ المحيط على الله مجاز ، لأن المحيط بالشيء هو الذي يحيط به من كل جوانبه ، وذلك من صفات الأجسام ، لكنه تعالى لما كان عالماً بكل الأشياء ، قادراً على كل الممكنات ، جاز في مجاز اللغة أنه محيط بها ، ومنه قوله : { وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ } [ البروج : 20 ] . انتهى .
أقول : ما ذكره شبهة جهمية مبناها قياس صفة القديم على الحوادث ، وأخذ خاصتها به ، وهو قياس مع الفارق . والسمعيات تتلقى من عرف المتكلم بالخطاب ، لا من الوضع المحدث . فليس لأحد أن يجعل الألفاظ التي جاءت في القرآن موضوعة لمعاني ، ثم يريد أن يفسر مراد الله تعالى بتلك المعاني ، وتتمة هذا البحث تقدمت في تفسير " الرحمن الرحيم " من البسملة أول التنزيل الجليل . فارجع إليها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 121 ]
.
{ وَإِذْ غَدَوْتَ } أي : خرجت : { مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ } أي : تنزل : { الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ } أي : أماكن ومراكز يقفون فيها : { لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ذهب الجمهور وعلماء المغازي إلى أن هذه الآيات نزلت في وقعة أحد ، والسر في سوق هذه الوقعة الأحدية وإيلائها البدرية ، وهو تقرير ما سبق . فإن المدعي فيما قبلها المساءلة بالحسنة والمسرة بالمصيبة ، وسنة الله تعالى فيهم في باب النصر والمعونة ودفع مضار العدو ، إذا هم صبروا واتقوا ، والتغيير إذا غيروا . أي : اذكر لهم ما يصدق ذلك من أحوالكم الماضية حين لم يصبروا في أحد ، فأصيبوا ، وسرَّت الأعداء مصيبتكم ، وحين صبروا واتبعوا فنصروا وساء العدو نصرهم . وفي توجيه الخطاب إليه صلى الله عليه وسلم تهييج لغيره إلى تدقيق النظر واتباع الدليل ، من غير أدنى وقوف مع المألوف كذا يستفاد من تفسير البقاعي .
وهذه الآية هي افتتاح القصة ، وقد أنزل فيها ستون آية ، وأشير في هذه السورة إلى بعض الحكم والغايات المحمودة التي في هذه الوقعة ، كما سيذكر ، وكانت في شوال سنة ثلاث باتفاق الجمهور ، وكان سببها أن الله تعالى لما قتل أشراف قريش ببدر ، وأصيبوا بمصيبة لم يصابوا بمثلها ، ورأس فيهم أبو سفيان بن حرب لذهاب أكابرهم ، وجاءوا إلى أطراف المدينة في غزوة السويق ، ولم ينل ما في نفسه ، أخذ يؤلّب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين ، ويجمع الجموع قريباً من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش . وجاءوا بنسائهم لئلا يفروا ليحاموا عنهن ، ثم أقبل بهم نحو المدينة ، فنزل قريباً من جبل أحد ، واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه : أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة ؟ وكان رأيه أن لا يخرجوا من المدينة . وأن يتحصنوا بها ، فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة ، والنساء من فوق البيوت ، ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبيّ ، وكان هو الرأي ، فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر ، وأشاروا عليه بالخروج ، وألحوا عليه في ذلك ، فنهض ودخل بيته ، ولبس لأمته ، وخرج عليهم وقد انثنى عزم أولئك الملحين ، وقالوا : أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج ، فقالوا : يا رسول الله إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما ينبغي لنبي ، إذا لبس لأمته ، أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه > .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه ، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة ببقية المسلمين في المدينة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا وهو بالمدينة : رأى أن في سيفه ثلمة ، ورأى أن بقراً تذبح ، وأنه أدخل يده في درع حصينة . فتأول الثلمة في سيفه : برجل يصاب من أهل بيته ، وتأول البقر : بنفر من أصحابه يقتلون ، وتأول الدرع : بالمدينة . فخرج يوم الجمعة فلما صار بالشوط ، بين المدينة وأحد ، انخزل عنه عبد الله بن أبي في ثلث الناس ، مغاضباً لمخالفة رأيه في المقام . فتبعهم عبد الله بن عَمْرو ، والد جابر ، يوبخهم ويحضهم على الرجوع ويقول : تعالوا قاتلوا في سبيل الله ، أو ادفعوا . قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع . فرجع عنهم وسبَّهم ، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود فأبى ، وسلك حرة بني حارثة ، ومر بين الحوائط ، وأبو خيثمة من بني حارثة يدل به ، حتى نزل الشعب من أُحُد مستنداً إلى الجبل ، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم ، فلما أصبح يوم السبت تعبّى للقتال وهو في سبعمائة . فيهم خمسون فارساً وخمسون رامياً وأمّر على الرماة عبد الله بن جيبر . وأمره وأصحابه أن يلزموا مراكزهم ، وألا يفارقوه ولو رأوا الطير تخطف العسكر . وكانوا خلف الجيش . وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم . وظاهَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين يومئذ ، وأعطى اللواء مصعب بن عُمَر ، وجعل على إحدى المجنّبتين الزبير بن العوام ، وعلى الأخرى المنذر بن عَمْرو . واستعرض الشباب يومئذ . فرد من استصغره عن القتال . منهم عبد الله بن عُمَر وأسامة بن زيد وأسيد ابن ظهير والبراء بن عازب وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت وعرابة بن أوس وعمرو بن حزام . وأجاز من رآه مطيقاً . منهم سَمُرة بن جُنْدب ورافع بن خديج ، ولهما خمس عشرة سنة . فقيل : أجاز من أجازه ، لبلوغه بالسن خمس عشرة سنة ، ورد من رد لصغره عن سن البلوغ . وقالت طائفة : إنما أجاز من أجاز لإطاقته ، ورد من رد لعدم إطاقته ، ولا تأثير للبلوغ وعدمه في ذلك . قالوا : وفي بعض ألفاظ لحديث ابن عمر : فلما رآني مطيقاً أجازني . وتبعت قريش للقتال ، وهم في ثلاثة آلاف ، وفيه مائتي فارس ، فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد ، وعلى الميسرة عِكْرِمَة بن أبي جهل ، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه إلى أبي دجانة " سِمَاك بن خرشة " ، وكان شجاعاً بطلاً يختال عند الحرب ، وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر الفاسق ، واسمه : عبد بن عَمْرو بن صيفي ، وكان يسمى الراهب لترهبه وتنسكه في الجاهلية ، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق . وكان رأس الأوس في الجاهلية . فلما جاء الإسلام شرق به ، وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة ، فخرج من المدينة ، وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضهم على قتاله ، ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه . فكان أول من لقي من المسلمين فنادى قومه وتعرف إليهم . قالوا : لا أنعم الله لك عيناً يا فاسق ! فقاتل المسلمين قتلاً شديداً ، وأبلى يومئذ حمزة وطلحة وشيبة وأبو دجانة والنضر بن أنس بلاء شديداً ، وأصيب جماعة من الأنصار مقبلين غير مدبرين واشتد القتال ، وكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار ، فانهزمت أعداء الله وولوا مدبرين حتى انتهوا إلى نسائهم . فلما رأى الرماة هزيمتهم تركوا مركزهم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه ، وقالوا : يا قوم ! الغنيمة ! الغنيمة ! فذكّرهم أميرهم عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يسمعوا ، وظنوا أن ليس للمشركين رجعة ، فذهبوا في طلب الغنيمة ، وأخلوا الثغر ، ولم يطع أميرهم منهم إلا نحو العشرة ، فكرَّ المشركون وقتلوا من بقي من الرماة ، ثم أتوا الصحابة من ورائهم وهم ينتهبون ، فأحاطوا بهم ، واستشهد منهم من أكرمه الله ، ووصل العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقاتل مصعب بن عمير صاحب اللواء دونه حتى قتل ، وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه ، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر ، وهشمت البيضة في رأسه ، يقال : إن الذي تولى ذلك عُتْبَةُ بن أبي وقاص وعمرو بن قميئة الليثي . وشد حنظلةُ الغسيل على أبي سفيان ليقتله ، فاعترضه شَدَّاد بن الأسود الليثي ، من شعوب ، فقتله . وكان جنباً . فأخبر سول الله صلى الله عليه وسلم أن الملائكة غسلته . وأكبت الحجارة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سقط من بعض حفر هناك ، فأخذ علي بيده ، واحتضنه طلحة حتى قام ، ومص الدم من جرحه مالك ابن سنان الخدري ، والد أبي سعيد ، ونشبت حلقتان من حلق المغفرة في وجهه صلى الله عليه وسلم ، فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح . فندرت ثنيتاه فصار أهتم . ولحق المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم . وكرّ دونه نفر من المسلمين فقتلوا كلهم وكان آخرهم عمار بن يزيد بن السكن ، ثم قاتل طلحة حتى أجهض المشركون . وأبو دجانة يلي النبي صلى الله عليه وسلم بظهره وتقع فيه النبل فلا يتحرك ، وأصيبت عين قتادة بن النعمان . فرجع وهي على وجنته ، فردها عليه السلام بيده فصحّت . وكانت أحسن عينيه . وانتهى النضر بن أنس جماعة من الصحابة وقد دهشوا ، وقالوا : قتل رسول الله ، فقال : فما تصنعون في الحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه ، ثم استقبل الناس وقاتل حتى قتل ، ووجد به سبعون ضربة ، وجرح يومئذ عبد الرحمن بن عوف عشرين جراحة بعضها في رجله فعرج منها . وقتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم . ونادى الشيطان : ألا إن محمداً قد قتل ، لأن عَمْرو بن قميئة كان قد قتل مصعب بن عُمَر ، يظن أنه النبي صلى الله عليه وسلم . ووهن المسلمون لصريخ الشيطان . ثم إن كعب بن مالك الشاعر ، من بني سلمة ، عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم . فنادى بأعلى صوته يبشر الناس . ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له : أنصت . فاجتمع عليه المسلمون ونهضوا معه نحو الشعب ، وأدركه أبي بن خلف في الشعب ، فتناول صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة وطعنه بها في عنقه ، فكرّ أبيّ منهزماً . وقال له المشركون : ما بك من بأس . فقال : والله ! لو بصق علي لقتلني ، وكان صلى الله عليه وسلم قد توعده بالقتل . فمات عدو الله بسَرَف ، مرجعهم إلى مكة . ثم جاء عليّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالماء فغسل وجهه ونهض . فاستوى على صخرة من الجبل . وحانت الصلاة فصلى بهم قعوداً . وغفر الله للمنهزمين من المسلمين . ونزل : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } [ آل عِمْرَان : 155 ] الآية . واستشهد نحو من سبعين . معظمهم من الأنصار . وقتل من المشركين اثنان وعشرون . ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة . ويقال : إنه قال لعلي : لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح الله علينا .
هذا ملخص هذه القصة . وقد ساقها بأطول من هذا أهل السير . وفيما ذكر كفاية . وأما ما اشتملت عليه من الأحكام والفقه والحكم والغايات المحمودة ، فقد تكفل بيانها الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " فارجع إليه .
تنبيه :
فسر أكثر العلماء غدوت بأصلها ، وهو الخروج غدوة ، أي : بكرة . ثم استشلكوا أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد بعد صلاة الجمعة كما اتفقت عليه كلمة أهل السير ، فكيف المطابقة ؟
فمنهم من أجاب بأنه المراد غدوة السبت ، وأنه كان في صباحه التبوؤ للمقاعد ، إلا أنه لا يساعده من أهلك لأنه لم يكن وقتئذ أهله معه .
ومنهم من قال : المراد : غدوة الجمعة أي : اذكر إذ غدوت من أهلك صبيحة الجمعة إلى أصحابك في مسجدك تستشيرهم في أمر المشركين ، ثم قال : وبنى من غدوت حالاً إعلاماً بأن الشروع في السبب شروع في مسببه ، فقال تبوئ المؤمنين أي : صبيحة يوم السبت .
وكان يخطر لي أن الأقرب جعل الغدو بمعنى الخروج غير مقيد بالبكرة ، وكثيراً ما يستعمل كذلك .
ثم رأيت في فتح البيان ما استظهرته فحمدت الله على الموافقة ، ونصه : وعبر عن الخروج بالغدو الذي هو الخروج غدوة مع كونه صلى الله عليه وسلم خرج بعد صلاة الجمعة ، لأنه قد يعبر بالغدوة والرواح عن الخروج والدخول من غير اعتبار أصل معناهما ، كما يقال : أضحى وإن لم يكن في وقت الضحى - انتهى - .
قال البقاعي : ولما كان رجوع عبد الله بن أبيّ المنافق ، كما يأتي في ضريح الذكر آخر القصة ، من الأدلة على أن المنافقين ، فضلاً عن المصارحين بالمصارمة ، متصفون بإخبار الله تعالى عنهم من العداوة والبغضاء ، مع أنه كان سبباً في هم الطائفتين من الأنصار بالفشل . كان إيلاء هذه القصة للنهي عن اتخاذ بطانة السوء الذين لا يقصرون عن فساد ، في غاية المناسبة . ولذلك افتتحها سبحانه بقوله مبدلاً من إذ غدوت دليلاً على ما قبله من أن بطانة السوء لا يألونهم خبالاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [ 122 ]
.
{ إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ } أي : بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس : { أَن تَفْشَلاَ } أي : تكسلا وتجبنا وتضعفا لرجوع المنافقين عن نصرهم وولايتهم ، فعصمهما الله ، فمضيا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا } ناصرهما ، ومتولي أمرهما ، فأمدهما بالتوفيق والعصمة { وَعَلَى اللّهِ } وحده دون ما عداه استقلالاً أو اشتراكاً : { فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } في جميع أمورهم ، فإنه حسبهم ، والتوكل : تفعل من وكل أمره إلى فلان إذا اعتمد في كفايته عليه ، ولم يتوله بنفسه . وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي أن يدفع الْإِنْسَاْن ما يعرض له من مكروه وآفة بالتوكل على الله ، وأن يصرف الجزع عن نفسه بذلك التوكل . روى الشيخان عن جابر رضي الله عنه قال : فيما نزلت : { إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا } - قال : نحن الطائفتان : بنو حارثة وبنو سلمة ، وما نحب أنها لم تنزل لقوله تعالى : { وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا } .
أي لفرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله تعالى ، وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية . وإن تلك الهمة ما أخرجتهم عن ولاية الله تعالى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ 123 ]
.
{ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } لما ذكر تعالى قصة أحد أتبعها بذكر قصة بدر . وذلك لأن المسلمين يوم بدر كانوا في غاية الضعف عَدداً وعُدداً ، والكفار كانوا في غاية الشدة والقوة . ثم إنه تعالى نصر المسلمين على الكافرين ، فصار ذلك من أقوى الدلائل على أن ثمرة التوكل عليه تعالى والصبر والتقوى هو النصر والمعونة والتأييد . وبدر موضع بين الحرمين ، إلى المدينة أقرب ، يقال هو منها على ثمانية وعشرين فرسخاً . أو اسم بئر هناك ، حفرها رجل اسمه بدر, وقوله : { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : راجين أن تشكروا ما أنعم به عليكم بتقواكم من نصرته . وقد أشير في مواضع من التنزيل إلى غزوة بدر ، وكانت في شهر رمضان ، السنة الثانية من الهجرة . وكان سببها : أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن عيراً لقريش فيها أموال عظيمة مقبلة من الشام إلى مكة . معها ثلاثون أو أربعون رجلاً من قريش ، عميدهم أبو سفيان ، ومعه عَمْرو بن العاص ، ومخرمة بن نوفل .
فندب صلى الله عليه وسلم إلى هذه العير . وأمر من كان ظهره حاضراً بالخروج . ولم يحتفل في الحشد ، لأنه لم يظن قتالاً . وخرج مسرعاً في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ، لم يكن معهم من الخيل إلا فَرَسَان ، وكان معهم سبعون بعيراً يتعقبونها . واتصل خروجه بأبي سفيان ، فاستأجر ضمضم بن عَمْرو الغفاري ، وبعثه إلى أهل مكة يستنفرهم لعيرهم . فنفروا وأوعبوا . وخرج صلى الله عليه وسلم لثمان خلون من رمضان ، واستخلف على الصلاة عَمْرو بن أم مكتوم ، ورد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة ، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير ، ودفع إلى علي راية ، وإلى رجل من الأنصار راية أخرى ، يقال : كانتا سوداوين . وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة . وراية الأنصار يومئذ مع سعد بن معاذ ، فسلكوا نقب المدينة إلى ذي الحليفة ، ثم انتهوا إلى صخيرات يمام ، ثم إلى بئر الروحاء ، ثم رجعوا ذات اليمين عن الطريق إلى الصفراء . وبعث صلى الله عليه وسلم قبلها بسبس بن عَمْرو وعدي بن أبي الزغباء إلى بدر ، يتجسسان أخبر أبي سفيان وعيره ، ثم تنكب عن الصفراء يميناً ، وخرج على وادي دقران ، فبلغه خروج قريش ونفيرهم ، فاستشار أصحابه ، فتكلم المهاجرون ، وأحسنوا ، وهو يريد ما يقول الأنصار ، وفهموا ذلك ، فتكلم سعد بن معاذ ، وكان فيما قال : لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ، فسر بنا يا رسول الله على بركة الله . فَسُرَّ بذلك وقال : < سيروا وأبشروا ، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين > .
ثم ارتحلوا من دقران إلى قريب من بدر ، وبعث علياً والزبير وسعداً في نفر يلتمسون الخبر . فأصابوا غلامين لقريش ، فأتوا بهما ، وهو صلى الله عليه وسلم قائم يصلي ، وقالوا : نحن سقاة قريش ، فكذبوهما ، كراهية في الخبر ، ورجاء أن يكونا من العير للغنيمة وقلة المؤنة ، فجعلوا يضربونهما فيقولان : نحن من العير . فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنكر عليهم ، وقال للغلامين : أخبراني أين قريش ؟ فأخبراه أنهم وراء الكثيب وأنهم ينحرون يوماً عشراً من الإبل ويوماً تسعاً ، فقال صلى الله عليه وسلم : < القوم ما بين التسعمائة والألف > .
وقد كان بسبس وعدي مضيا يتجسسان ولا خبر ، حتى نزلا وأناخا قرب الماء ، واستقيا في شن لهما ، ومجدي بن عَمْرو من جهينة يقربهما . فسمع عديّ جارية من جواري الحي تقول لصاحبتها : العير تأتي غداً أو بعد غد ، وأعمل لهم وأقضيك الذي لك ، وجاءت إلى مجدي بن عَمْرو ، فصدقها . فرجع بسبس وعدّي بالخبر . وجاء أبو سفيان بعدهما يتجسس الخبر . فقال لمجدي : هل أحسست أحداً ؟ فقال : راكبين أناخا يميلان لهذا التل ، فاستقيا الماء ونهضا . فأتى أبو سفيان مناخهما . وفتت من أبعار رواحلهما . فقال : هذه والله علائف يثرب . فرجع سريعاً وقد حذر ، وتنكب بالعير إلى طريق الساحل فنجا . وأوصى إلى قريش بأنا قد نجونا بالعير فارجعوا .
فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر ، ونقيم به ثلاثاً ، وتهابنا العرب أبداً ، ورجع الأخنس بن شريق بجميع بني زهرة ، وكان حليفهم ومطاعاً فيهم , وقال : إنما خرجتم تمنعون أموالكم وقد نجت ، فارجعوا . وكان بنو عدي لم ينفروا مع القوم ، فلم يشهد بدراً من قريش عدوي ولا زهري . وسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً إلى ماء بدر ، وثبطهم عنه مطر نزل وبلُه مما يليهم ، وأصاب مما يلي المسلمين دهس الوادي ، وأعانهم على السير . فنزل صلى الله عليه وسلم على أدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة ، فقال له الحُبَاب بن المنذر : الله أنزلك بهذا المنزل فلا نتحول عنه ، أم قصدت الحرب والمكيدة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : < لا بل هو الرأي والحرب > . فقال : يا رسول الله ! ليس هذا بمنزل ، وإنما نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونبني عليه حوضاً ، ونملؤه ونعوِّر القُلُبَ كلها ، فنكون قد منعناهم الماء ، فاستحسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم بنوا عريشاً على تل مشرف على المعركة يكون فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتيه النصر من ربه ، ومشى يريهم مصارع القوم واحداً وحداً .
ولما نزل قريش مما يليهم بعثوا عمير بن وهب الجمحي يحزر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحزرهم وانصرف وخبرهم الخبر . ورام حكيم بن حزام وعتبة بن ربيعة أن يرجعا بقريش ، ولا يكون الحرب ، فأبى أبو جهل ، وساعده المشركون ، وتواقفت الفئتان ، وعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف بيده ، ورجع إلى العريش ، ومعه أبو بكر وحده ، وطفق يدعو ويلح ، وأبو بكر يقاوله . ويقول في دعائه : اللهم ! إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ، اللهم ! أنجز لي ما وعدتني .
وسعد بن معاذ وقوم معه من الأنصار على باب العريش يحمونه ، وأخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انتبه ، فقال : أبشر يا أبا بكر ! فقد أتى نصر الله . ثم خرج يحرض الناس . ورمى في وجوه القوم بحفنة من حصى وهو يقول : شاهت الوجوه . ثم تزاحفوا ، فحرج عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد يطلبون البراز ، فخرج إليهم عبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب ، فقتل حمزةُ وعليٌ شيبةَ والوليدَ ، وضرب عتبة عبيدة ، فقطع رجله فمات ، وجاء حمزة وعليّ إلى عتبة فقتلاه ، وقد كان برز إليهم عوف ومعاذ ابنا عفراء وعبد الله بن رواحة من الأنصار فأبو إلا قومهم . وجال القوم جولة ، فهزم المشركون . وقتل منهم يومئذ سبعون رجلاً . وأسر سبعون . واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلاً . ثم انجلت الحرب ، وانصرف إلى المدينة ، وقسم الغنائم في الصفراء ، ودخل المدينة لثمان بقين من رمضان ، وبسط القصة في السير . ومن أبدعها سياقاً وفقها " زاد المعاد " فليرجع إليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ } [ 124 ]
.
{ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم } لتقويتكم ونصركم ودفع أعدائكم : { بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ } من سمائه لقتال أعدائه . وقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ } [ 125 ]
.
{ بَلَى } إما من تتمة مقوله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين ، أو ابتداء خطاب من الله تعالى تأييداً لقول نبيه وزيادة على ما وعدهم تكرماً وفضلاً . أي : نعم يكفيكم الإمداد بثلاثة آلاف ، ولكنه يزيدكم : { إِن تَصْبِرُواْ } على قتالهم : { وَتَتَّقُواْ } الفرار عنهم : { وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا } أي : ساعتهم هذه فلا تنزعجوا بمفاجأتهم : { يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ } في حال إتيانهم لا يتأخر نزولهم عن إتيانهم : { مُسَوِّمِينَ } بكسر الواو أي : معلمين أنفسهم بأداة الحرب على عادة الفرسان يوم اللقاء ليعرفوا بها . وقرئ بفتح الواو ، أو معلَّمين من قبله تعالى . روى البخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر : < هذا جبريل آخذ براس فرسه عليه أداة للحرب > .
تنبيه :
وفي وعده صلى الله عليه وسلم للمؤمنين بالإمداد بقوله : { إِذْ تَقُولُ } وجهان :
الأول : أنه كان في يوم بدر ، فإن سياق ما قبله يدل عليه وهو قوله : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ } فإذ ظرف لنصركم ، أي : نصركم وقت قولك للمؤمنين وقد أظهروا العجز واستغاثوا ربهم . فإن قيل : فما الجمع بين هذه الآية ، على هذا الوجه ، وبين قوله في سورة الأنفال في قصة بدر : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } [ الأنفال : 9 ] .
فالجواب : أن التنصيص على الألف ههنا لا ينافي الثلاثة آلاف فما فوقها ، لقوله مردفين بمعنى يردفهم غيرهم ، ويتبعهم ألوف أخر مثلهم ، وذلك أنهم لما استغاثوا أمدهم بألف ثم أمدهم بتمام ثلاثة آلاف ، ثم أمدهم بتمام خمسة آلاف لما صبروا واتقوا ، وكان هذا التدريج ومتابعة الإمداد أحسن موقعاً وأقوى لتقويتهم ، وأسرها من أن يأتي مرة واحدة ، وهو بمنزلة متابعة الوحي ، ونزوله مرة بعد مرة . قال الربيع بن أنس : أمد الله المسلمين بألف ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف . ومما يؤيد هذا الوجه أن سياق بدر في الأنفال من قوله تعالى : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ } [ الأنفال : 7 ] ، الآيات شبيهة بهذا السياق هنا ، كما يذوقه من تدبره .
الوجه الثاني : أن هذا الوعد كان يوم أحد ، فإن القصة في سياق أحد ، وإنما أدخل ذكر بدر اعتراضاً في أثنائها ؛ ليذكرهم بنعمته عليهم ، لما نصرهم ببدر وهم أذلة ، وإنه كذلك هو قادر على نصرهم في سائر المواطن . ثم عاد إلى قصة أحد ، وأخبر عن قول رسوله لهم : { أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ } الآية . ثم وعدهم أنهم إن صبروا واتقوا أمدهم بخمسة آلاف . فهذا من قول رسوله ، والإمداد الذي ببدر من قوله تعالى ، وهذا بخمسة آلاف . وإمداد بدر بألف ، وهذا معلق على شرط ، وذاك مطلق ، والقصة في هذه السورة هي قصة أحد مستوفاة مطولة ، وبدر ذكرت فيها اعتراضاً ، والقصة في الأنفال قصة بدر مستوفاة مطولة ، فالسياق هنا غير السياق في الأنفال - أشار لذلك ابن القيم في " زاد المعاد " .
وقد انتصر للوجه الأول العلامة أبو السعود ، وبين ضعف الثاني بأوجه وجيهة . فليرجع إليه .
ونقل الخازن عن ابن جرير أنه قال : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال للمؤمنين : { أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ } فوعدهم الله بثلاثة آلاف من الملائكة مدداً لهم ، ثم وعدهم بعد الثلاثة الآلاف ، خمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم واتقوا الله .
ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة آلاف ولا بالخمسة آلاف ، ولا على أنهم لم يمدوا بهم . وقد يجوز أن يكون الله عز وجل أمدهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أنه أمدهم . وقد يجوز أن يكون لم يمدهم على نحو الذي ذكره من أنكر ذلك . ولا خبر عندنا صح من الوجه الذي يثبت أنهم أُمدوا بالثلاثة الآلاف . ولا بالخمسة الآلاف .
وغير جائز ، أن يقال في ذلك قول إلا بخبر تقوم به الحجة ، ولا خبر به كذلك ، فنسلم لأحد الفريقين قوله .
غير أن في القرآن دلالة على أنهم قد أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة وذلك قوله : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } [ الأنفال : 9 ] .
فأما في يوم أحد فالدلالة على أنهم لم يمدوا أبين منها في أنهم أمدوا . وذلك أنهم لو أمدوا ، لم يهزموا ، وينال منهم ما نيل منهم .
فالصواب فيه من القول أن يقال كما قال تعالى ذكره .
هذا هو نص ابن جرير . صفحة 180 - 181 من الجزء السابع طبعة المعارف .
فإن قلت : فما تصنع بحديث سعد بن أبي وقاص المروي في الصحيحين أنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه ، عليهما ثياب بيض ، كأشد القتال ، ما رأيتهما قبل ولا بعد ، يعني جبريل وميكائيل ؟ قلت : إنما كان ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، لأنه صبر ولم ينهزم كما انهزم أصحابه يوم أحد . انتهى .
فائدة :
الإمداد لغة : الإعانة . والمراد هنا إعانة الجيش . وهل إعانة الملائكة للجيش بالقتال معهم للحديث السابق . ولحديث عائشة في الصحيحين قالت : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السلاح واغتسل ، أتاه جبريل فقال : قد وضعت السلاح ؟ والله ما وضعناه ، اخرج إليهم ! قال : فإلى أين ؟ قال : ههنا - وأشار إلى بني قريظة ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم - أو هي بتكثير سواد المسلمين وتثبيت قلوبهم ، كما قال تعالى في الأنفال : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ } [ الأنفال : 12 ] . أو بهما معاً وهو الظاهر . وقد سئل السبكي عن الحكمة في قتال الملائكة ، مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه ، فأجاب بأن ذلك لإرادة أن يكون الفضل للنبي وأصحابه ، وتكون الملائكة مدداً على عادة مدد الجيوش ، رعاية لصورة الأسباب التي أجراها الله تعالى في عباده . والله فاعل الجميع - انتهى - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [ 126 ]
.
{ وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ } أي : ما جعل الإمداد بالملائكة إلا لتستبشروا به ، فتزداد قوة قلوبكم وشجاعتكم ونجدتكم ونشاطكم : { وَلِتَطْمَئِنَّ } أي : تسكن : { قُلُوبُكُم بِهِ } أي : فلا تجزع من كثرة عدوكم وقلة عددكم : { وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ } وحده ، لا من الملائكة ولا من غيرهم ، فالأسباب الظاهرة بمعزل من التأثير ، وفيه توثيق للمؤمنين ، وعدم إقناط من النصر عند فقدان أسبابه وأماراته : { الْعَزِيزِ } أي : الذي لا يغالب في حكمه : { الْحَكِيمِ } الذي يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه حكمته الباهرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ } [ 127 ]
.
{ لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : ليهلك وينقص طائفة منهم بالقتل والأسر ، كما كان يوم بدر ، من قتل سبعين وأسر سبعين منهم ، واللام متعلقة ، إما بقوله تعالى : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ } .
وما بينهما تحقيق لحقيقته ، وبيان لكيفية وقوعه - إما بما تعلق به الخبر في قوله تعالى : { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } من الثبوت والاستقرار : { أَوْ يَكْبِتَهُمْ } أي : يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة تقوية للمؤمنين : { فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ } أي : فيرجعوا منقطعي الآمال ، وإنما أوقع بين المعطوف والمعطوف عليه في أثناء الكلام قوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } [ 128 ]
.
{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } اعتراضاً لئلا يغفل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرى لنفسه تأثيراً في بعض هذه الأمور ، فيحتجب عن التوحيد ، أي : ليس لك من أمرهم شيء ، كيفما كان ، ما أنت إلا بشر مأمور بالإنذار . إن عليك إلا البلاغ ، إنما أمرهم إلى الله - أفاده القاشاني - وفي الاعتراض تخفيف من حزنه لكفرهم ، وحرصه على هداهم ، كما قال : { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } . وقوله تعالى : { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } أي مما هم فيه من الكفر فيهديهم للإسلام بعد الضلالة : { أَوْ يُعَذَّبَهُمْ } أي : في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم : { فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } أي : يستحقون ذلك لاستمرارهم على العناد .
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو لأحد أو يدعو لأحد, قنت بعد الركوع , فربما قال , إذا قال سمع الله لمن حمده : < اللهم ! ربنا ولك الحمد ، اللهم ! أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة, اللهم ! اشدد وطأتك على مضر واجعلها سنين كسني يوسف > يجهر بذلك ، وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر : < اللهم العن فلاناً وفلاناً > لأحياء من العرب حتى أنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } الآية .
وقد أسند ما علقه عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الآخرة من الفجر ، يقول : < اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً > . بعد ما يقول : < سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد > . فأنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } الآية ، ورواه الإمام أحمد عن ابن عمر أيضاً ولفظه : < اللهم العن فلاناً وفلاناً ، اللهم العن الحارث بن هشام ، اللهم العن سهيل بن عَمْرو ، اللهم العن صفوان بن أمية ، فنزلت هذه الآية : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } الآية > . فتيب عليهم كلهم .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيْم ، حدثنا حميد ، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد ، وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه ، فقال : < كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم عز وجل > ، فأنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } الآية - انفرد به مسلم . ورواه البخاري تعليقاً . وقد تقدم لنا في مقدمة التفسير تحقيق معنى سبب النزول ، وأن الآية قد تذكر استشهاداً في مقام ، لكونها مما تشمله . فيطلق الراوي عليها النزول فيه ، ولا يكون قصده أن هذا كان سبباً لنزولها ، والحكمة في منعه صلى الله عليه وسلم من الدعاء عليهم ظهرت من توبتهم أخيراً ، والإلحاح في الدعاء مظنة الإجابة ، ولاسيما من أشرف خلقه . فاقتضت حكمته تعالى إمهالهم إلى أن يتوبوا لسابق علمه فيهم . وفيه طلب التفويض في الأمور الملمة ، لما في طيّها من الأسرار الإلهية .
لطيفة :
قوله تعالى : { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } منصوب بإضمار أن في حكم اسم معطوف بـ " أو " على الأمر أو على " شيء " ، أي : ليس لك من أمرهم شيء ، أو من التوبة عليهم ، أو من تعذيبهم ، أو ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو تعذيبهم .
أقول : جعل : { أَوْ يَتُوبَ } منصوباً بالعطف على يكبتهم بعيد جداً . وإن قدمه بعض المفسرين على الوجه المتقدم . وذلك لأن قوله تعالى : { لَيْسَ لَكَ } كلام مستأنف على ما صرحت به الروايات في سبب النزول . وهي المرجع في التأويل - والله أعلم - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 129 ]
.
{ وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } تقرير لما قبله من قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } ، أي : له ما فيهما ملكاً وأمراً : { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء } فيحكم في خلقه بما يشاء ، لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل : { وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تذييل مقرر لمضمون قوله : { يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ } ، مع زيادة . وفي تخصيص التذييل به دون قرينة ، من الاعتناء بشأن المغفرة والرحمة ما لا يخفى - أفاده أبو السعود - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ 130 ]
.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً } هذا نهي عن الربا مع التوبيخ بما كانوا عليه في الجاهلية من تضعيفه ، كان الرجل منهم إذا بلغ الدين محله يقول : إما أن تقضي حقي أو تربي وأزيد في الأجل . وفي ندائهم باسم الإيمان ؛ إشعار بأن من مقتضى الإيمان وتصديقه ترك الربا . وقد تقدم في البقرة من المبالغة في النهي عنه ما يروع من له أدنى تقوى . ويوجب لمن لم يتركه وما يقاربه الضمان بالخذلان في كل زمان { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ البقرة : 279 ] { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } [ البقرة : 86 ] . وقوله : { أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً } أي : زيادات متكررة ، وليست لتقييد النهي به ، لما هو معلوم من تحريمه على كل حال ، بل لمراعاة عادتهم كما بينا . ومحله النصب على الحالية من الربا . وقرئ ضعفة : { وَاتَّقُواْ اللّهَ } فيما تنهون عنه : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } بإيفاء حقوقكم وصونكم عن أعدائكم ، كما صنتم حقوق الأشياء . ومما يعلم به حكمة نظم هذه الآية في سلك قصة أحد ، ما رواه أبو داود عن أبي هريرة أن عَمْرو بن أقيش رضي الله عنه كان له رباً في الجاهلية ، فكره أن يسلم حتى يأخذه ، فجاء يوم أحد ، فقال : أين بنو عمي ؟ قالوا : بأحد . قال : أين فلان ؟ قالوا : بأحد ، قال : فأين فلان ؟ قالوا : بأحد . فلبس لأمته ، وركب فرسه ثم توجه قبلهم . فلما رآه المسلمون قالوا : إليك عنا يا عَمْرو ! قال : إني قد آمنت ، فقاتل حتى جرح ، فحمل إلى أهله جريحاً ، فجاءه سعد بن معاذ رضي الله عنه ، فقال لأخته : سليه حمية لقومك وغضباً لهم أم غضباً لله عز وجل ؟ فقال : بل غضباً لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم . فمات ، فدخل الجنة ، وما صلى لله عز وجل صلاة .
قال الدينوري : وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول : حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصل قط ! فيسكت الناس ، فيقول أبو هريرة : هو أخو بني عبد الأشهل .
وعند ابن إسحاق : فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < إنه لمن أهل الجنة > ، فهذا ملخص ما أورده البقاعي رحمه الله تعالى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ 131 ]
.
{ وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } بالتحرز عن متابعتهم في الربا ونحوه . روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه كان يقول : هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ 132 ]
.
{ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ } أي : في ترك الربا ونحوه : { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ 133 ]
.
{ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ } أي : إلى ما يؤدي إليهما من الاستغفار والتوبة والأعمال الصالحة . وقوله : { عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ } أي : كعرضهما ، كما قال في سورة الحديد : { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } [ الحديد : 21 ] . وفي العرض وجهان :
الأول : أنه على حقيقته . وتخصيصه بالذكر تنبيها على اتساع طولها ، فإن العرض في العادة أدنى من الطول ، كما قال تعالى في صفة فرض الجنة : { بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَق } [ الرحمن : 54 ] . أي : فما ظنك بظاهرها ؟ فكذا هنا .
والثاني : أنه مجاز عن السعة والبسطة . قال القفال : ليس المراد بالعرض ههنا ما هو خلاف الطول ، بل هو عبارة عن السعة ، كما تقول العرب : بلاد عريضة ، ويقال : هذه دعوى عريضة أي : واسعة عظيمة . والأصل فيه : أن ما اتسع عرضه لم يضق وما ضاق عرضه دق ، فجعل العرض كناية عن السعة . وقال الزمخشري : المراد وصفها بالسعة والبسطة . فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه تعالى وأبسطه . والله أعلم { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ 134 ]
.
{ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء } أي : في حال الرخاء واليسر : { وَالضَّرَّاء } أي : في حال الضيقة والعسر . وإنما افتتح بذكر الإنفاق لأنه أشق شيء على النفس ، فمخالفتها فيه منقبة شامخة : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } أي : الممسكين عليه في نفوسهم ، الكافّين عن إمضائه مع القدرة عليه ، اتقاء التعدي فيه إلى ما وراء حقه .
روى الإمام أحمد عن جارية بن قُدَامة السَّعدِي أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله قل لي قولاً ينفعني وأقلل عليّ لعلي أعيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا تغضب > . فأعاد عليه . حتى أعاد عليه مراراً . كل ذلك يقول : < لا تغضب > - انفرد به أحمد - وروى من طريق آخر أن رجلاً قال : يا رسول الله أوصني ، قال : < لا تغضب . . > قال الرجل : ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ، النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ، فإذا الغضب يجمع الشر كله : { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } أي : ظلمهم لهم ، ولو كانوا قد قتلوا منهم ، فلا يؤاخذون أحداً بما يجني عليهم ، ولا يبقى في أنفسهم موجدة ، كما قال تعالى : { وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } [ الشورى : 37 ] . قال القفال رحمه الله : يحتمل أن يكون هذا راجعاً إلى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا . فنهى المؤمنون عن ذلك ، وندبوا إلى العفو عن المعسرين ، قال تعالى عقيب قصة الربا والتداين : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 280 ] . ويحتمل أن يكون كما قال تعالى في الدية : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } [ البقرة : 178 ] . إلى قوله : { وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } ويحتمل أن يكون هذا بسبب غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مثلوا بحمزة وقال : < لأمثلنّ بهم > . فندب إلى كظم هذا الغيظ والصبر عليه ، والكف عن فعل ما ذكر أنه يفعله من المثلة ، فكان تركه فعل ذلك عفواً . قال تعالى في هذه القصة : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } [ النحل : 126 ] - انتهى - .
وظاهر أن عموم الآية مما يشمل كل ما ذكر ؛ إذ لا تعيين : { وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } اللام إما للجنس ، وهم داخلون فيه دخولاً أولياً . وإما للعهد ، عبر عنهم بالمحسنين إيذاناً بأن النعوت المعدودة من باب الإحسان الذي هو الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي ، وقد فسره صلى الله عليه وسلم بقوله : < أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك > . والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها - أفاده أبو السعود - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ 135 ]
.
{ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً } من السيئات الكبار : { أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ } أي : بأي نوع من الذنوب : { ذَكَرُواْ اللّهَ } أي : تذكروا حقه وعهده فاستحيوه وخافوه : { فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ } أي : لأجلها بالتوبة والإنابة إليه تعالى .
قال البقاعي : ولما كان هذا مفهماً أنه يغفر لهم لأنه غفار لمن تاب ، أتبعه بتحقيق ذلك ، ونفى القدرة عليه عن غيره ، مرغباً في الإقبال عليه بالاعتراض بين المتعاطفين بقوله : { وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ } أي : يمحو آثارها حتى لا تذكر . ولا يجازي عليها : { إِلاَّ اللّهُ } أي : الملك الأعلى . وقال أبو السعود : { مَن } استفهام إنكاري . أي : لا يغفر الذنوب أحد إلا الله ، خلا أن دلالة الاستفهام على الانتفاء أقوى وأبلغ لإيذانه بأنه كل أحد ممن له حظ من الخطاب يعرف ذلك الانتفاء ، فيسارع إلى الجواب به ، والمراد به وصفه سبحانه بغاية سعة الرحمة وعموم المغفرة ، والجملة معترضة بين المعطوفين ، أو بين الحال وصاحبها لتقرير الاستغفار والحث عليه ، والإشعار بالوعد بالقبول .
وقال الزمخشري : في هذه الجملة وصف لذاته تعالى بسعة الرحمة ، وقرب المغفرة ، وأن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له ، وأنه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه ، وأن عدله يوجب المغفرة للتائب ، لأن العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه ، وجب العفو والتجاوز ، وفيه تطييب لنفوس العباد ، وتنشيط للتوبة ، وبعث عليها ، وردع عن اليأس والقنوط ، وأن الذنوب وإن جلت فإن عفوه أجلّ ، وكرمه أعظم ، والمعنى : أنه وحده معه مصححات المغفرة - انتهى - .
في ومسند الإمام أحمد عن الأسود بن سريع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بأسير ، فقال : اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : < عرف الحق لأهله > . وفيه أيضاً عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن إبليس قال لربه : بعزتك وجلالك لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم ، فقال الله : فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني .
وفيه أيضاً عن علي رضي الله عنه قال : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً نفعني الله بما شاء منه , وإذا حدثني عنه غيري استحلفته , فإذا حلف لي صدقته ، وإن أبا بكر رضي الله عليه حدثني , وصدق أبو بكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < ما من رجل يذنب ذنباً فيتوضأ فيحسن الوضوء , ثم يصلي ركعتين, فيستغفر الله عز وجل إلا غفر له > , ورواه أهل السنن وابن حبان في صحيحه وغيرهم . قال الترمذي : حديث حسن : { وَلَمْ يُصِرُّواْ } أي : لم يقيموا : { عَلَى مَا فَعَلُواْ } أي : ما فعلوه من الذنوب من غير استغفار : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } حال من فاعل يصروا أي : لم يصروا على ما فعلوا وهم عالمون بقبحه , والنهي عنه, والوعيد عليه . والتقييد بذلك, لما أنه قد يعذر من لا يعلم قبح القبيح . وقد روى أبو داود والترمذي والبزار وأبو يعلى عن مولى لأبي بكر الصديق رضي الله عنه عن أبي بكر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة > , وإسناده لا بأس به . قال ابن كثير : وقول علي بن المديني والترمذي : ليس إسناد هذا الحديث بذاك - فالظاهر أنه لأجل جهالة مولى أبي بكر, ولكن جهالة مثله لا تضر لأنه تابعي كبير ، ويكفيه نسبته إلي أبي بكر, فهو حديث حسن . والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } [ 136 ]
{ أُوْلَئِكَ } إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما مرّ من الصفات الحميدة : { جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } أي : ستر لذنوبهم : { وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } أي : من أنواع المشروبات : { خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } المخصوص بالمدح محذوف ، أي : ذلك . يعني ما ذكر من المغفرة والجنات ، ثم عاد التنزيل إلى تفصيل بقية قصد أُحُد ، بعد تمهيده مبادئ الرشد والصلاح بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ } [ 137 ]
.
{ قَدْ خَلَتْ } أي : مضت : { مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } أي : وقائع من أنواع المؤاخذات والبلايا للأمم المكذبين : { فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ } التي فيها ديارهم الخربة وآثار إهلاكهم [ في المطبوع : أهلاكهم ] : { فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ } أي : وقيسوا بها عاقبة اللاحقين بهم في الهلاك والاستئصال ، والأمر بالسير والنظر ؛ لما أن لمشاهدة آثار المتقدمين أثراً في الاعتبار ، والروعة أقوى من أثر السماع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } [ 138 ]
.
{ هَذَا } أي : القرآن أو ما تقدم من مؤاخذة المذكورين : { بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ } أي : تخويف نافع : { لِّلْمُتَّقِينَ } ثم شجع قلوب المؤمنين وسلاهم عما أصابهم بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ 139 ]
.
{ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي : لا تضعفوا عن الجهاد بما نالكم من الجراح ، ولا تحزنوا على من قتل منكم ، والحال أنكم الأعلون الغالبون دون عدوكم ، فإن مصير أمرهم إلى الدمار حسبما شاهدتم من عاقبة أسلافهم ، فهو تصريح بالوعد بالنصر بعد الإشعار به فيما سبق ، وقوله : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } متعلق بالنهي أو بالأعلون . وجوابه محذوف لدلالة ما تعلق به عليه . أي : إن كنتم مؤمنين ، فلا تهنوا ولا تحزنوا ، فإن الإيمان يوجب قوة القلب ، والثقة بصنع الله تعالى ، وعدم المبالاة بأعدائه . أو إن كنتم مؤمنين فأنتم الأعلون . فإن الإيمان يقتضي العلو لا محالة - أفاده أبو السعود - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } [ 140 ]
.
{ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ } بالفتح والضم قراءتان ، وهما لغتان ، كالضَّعف والضُّعف ، أي : إن أصابكم يوم أحد جراح : { فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ } أي : يوم بدر ، ولم يضعفوا ولم يجبنوا فأنتم أولى ، لأنكم موعودون بالنصر دونهم ، أي : فقد استويتم في الألم ، وتباينتم في الرجاء والثواب ، كما قال : { إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ } [ النساء : 104 ] . فما بالكم تهنون وتضعفون عند القرح والألم ، فقد أصابهم ذلك في سبيل الشيطان ، وأنتم أصبتم في سبيل الله ، وابتغاء مرضاته . وقيل : كلا المسَّين كان يوم أحد ، فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَتِلْكَ الأيَّامُ } أي : أيام هذه الحياة الدنيا : { نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } أي : نصرفها بينهم ، نديل تارة لهؤلاء ، وتارة لهؤلاء فهي عرض حاضر ، يقسمها بين أوليائه وأعدائه . بخلاف الآخرة ، فإن عرضها ونصرها ورجاءها خالص للذين آمنوا .
قال ابن القيم قدس سره في ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد :
ومنها أن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جرت بأن يدالوا مرة ويدال عليهم أخرى ، لكن تكون لهم العاقبة . فإنهم و انتصروا دائماً دخل معهم المسلمون وغيرهم ، ولم يميز الصادق من غيره . ولو انتصر عليهم دائماً لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة . فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين ليتميز من يتبعهم ويطيعهم للحق وما جاءوا به ، ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة - انتهى - .
وقوله تعالى : { وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ } قال ابن القيم : حكمة أخرى وهي أن يتميز المؤمنون من المنافقين فيعلمهم ، علم رؤية ومشاهدة بعد أن كانوا معلومين في غيبه ، وذلك العلم الغيبي لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب ، وإنما يترتبان على المعلوم إذا صار مشاهداً واقعاً في الحسّ .
لطيفة :
في الآية وجهان :
أحدهما : أن يكون المعلل محذوفاً معناه : { وَلِيَعْلَمَ } الخ فعلنا ذلك .
الثاني : أن تكون العلة محذوفة ، وهذا عطف عليه معناه : وفعلنا ذلك ليكون كيت وكيت ، وليعلم الله . وإنما حذف للإيذان بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة ليسليهم عما جرى عليهم وليبصرهم أن العبد يسوؤه ما يجري عليه من المصائب ، ولا يشعر أن لله في ذلك من المصالح ما هو غافل عنه - أفاده الزمخشري - .
تنبيه :
في هذه الآية بحث مشهور ، وذلك بأن ظاهرها مشعر بأنه تعالى إنما فعل ذلك ليكتسب هذا العلم ، ومعلوم أن ذلك محال على الله تعالى ، ونظيرها في الإشكال قوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ } [ آل عِمْرَان : 142 ] الخ . وقوله : { وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت : 3 ] وقوله : { لِنَعْلَمَ أي : الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى } [ الكهف : 12 ] وقوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [ محمد : 31 ] . وقوله : { إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ } [ البقرة : 143 ] .
قال الرازي : وقد احتج هشام بن الحكم بظواهر هذه الآيات على أن الله تعالى لا يعلم حدوث الحوادث إلا عند وقوعها ، فقال : كل هذه الآيات دالة على أنه تعالى إنما صار عالماً بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها .
ولما كانت الدلائل القطعية دالة على أزلية علمه جل اسمه ، أجاب عن ذلك العلماء بأجوبة :
منها : أنها من باب التمثيل . فالتقدير في هذه الآية : ليعاملكم معاملة من يريد أن يعلم المخلصين الثابتين على الإيمان من غيرهم .
ومنها : أن العلم فيه مجاز عن التمييز بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب ، أي : لميز الثابتين على الإيمان من غيرهم .
ومنها : أن العلم على حقيقته ، إلا أنه معتبر من حيث تعلقه بالمعلوم ، من حيث إنه واقع موجود بالفعل ، أي : ليعلم الثابت واقعاً منهم كما كان يعلم أنه سيقع لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد ، وهذا ما اعتمده ابن القيم كما نقلناه أولاً .
ومنها : أن الكلام على حذف مضاف . أي : ليعلم أولياء الله ، فأضاف إلى نفسه تفخيماً . والله أعلم .
ثم ذكر حكمة أخرى وهي اتخاذه سبحانه منهم شهداء بقوله : { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء } أي : وليكرم ناسا ًمنكم بالشهادة ليكونوا مثالاً لغيرهم في تضحية النفس شهادته للحق ، واستماتة دونه ، وإعلاء لكلمته ، وهو تعالى يحب الشهداء من عباده ، وقد أعد لهم أعلى المنازل وأفضلها ، وقد اتخذهم لنفسه ، فلا بد أن ينيلهم درجة الشهادة . وفي لفظ الاتخاذ المنبئ عن الاصطفاء والتقريب ، من تشريفهم وتفخيم شأنهم ما لا يخفى . وقوله : { وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } قال ابن القيم : تنبيه لطيف الموقع جداً على أن كراهته وبغضه للمنافقين الذين انخزلوا عن نبيه يوم أحد فلم يشهدوه ، ولم يتخذ منهم شهداء ، لأنه لم يحبهم ، فأركسهم وردهم ليحرمهم ما خص به المؤمنون في ذلك اليوم ، وما أعطاه من استشهد منهم ، فثبط هؤلاء الظالمين عن الأسباب التي وفق لها أولياءه وحزبه . انتهى .
فالتعريض بالمنافقين ويحتمل أن يكون بالكفرة الذين أديل لهم ، تنبيهاً على أن ذلك ليس بطريق النصرة لهم ، بل لما ذكر من الفوائد العائدة إلى المؤمنين . ثم ذكر حكمة أخرى فيما أصابهم ذلك اليوم بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } [ 141 ]
.
{ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ } أي : لينقيهم ويخلصهم من الذنوب ومن آفات النفوس . وأيضاً فإن خلصهم ومحصهم من المنافقين ، فتميزوا منهم . فحصل لهم تمحيصان : تمحيص من نفوسهم ، وتمحيص ممن كان يظهر أنه منهم وهو عدو . ثم ذكر حكمة أخرى وهي محق الكافرين بقوله : { وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } أي : يهلكهم ، فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا . فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ، إذ جرت سنة الله تعالى ، إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم ، قيّض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم . ومن أعظمها ، بعد كفرهم ، بغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم والتسليط عليهم . والمحق : ذهاب الشيء بالكلية حتى لا يرى منه شيء ، وقد محق الله الذي حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وأصروا على الكفر جميعاً ، ثم أنكر تعالى عليهم حسبانهم وظنهم أنهم يدخلون الجنة بدون الجهاد في سبيله والصبر على أذى أعدائه ، وأن هذا ممتنع بحيث ينكر على من ظنه وحسبه : فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } [ 142 ]
.
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } أي : ولما يقع ذلك منكم فيعلمه ، فإنه لو وقع لعلمه فجازاكم عليه بالجنة . فيكون الجزاء على الواقع المعلوم ، لا على مجرد العلم ، فإن الله لا يجزي العبد على مجرد علمه فيه دون أن يقع معلومه - أفاده ابن القيم - .
وفي " الكشاف " : { وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ } بمعنى : ولما تجاهدوا لأن العلم متعلق بالمعلوم ، فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلقة ، لأنه منتف بانتفائه ، يقول الرجل : ما علم الله في فلان خيراً ، يريد ما فيه خير حتى علمه ، ولما بمعنى لم ، إلا أن فيها ضرباً من التوقع ، فدل على نفي الجهاد فيما مضى ، وعلى توقعه فيما يستقبل ، وتقول : وعدني أن يفعل كذا ولما . تريد : ولما يفعل ، وأنا أتوقع فعله .
لطيفة :
قال أبو مسلم في : { أَمْ حَسِبْتُمْ } : إنه نهي وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت ، وتلخيصه : لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم يقع منكم الجهاد ، وهو كقوله : { الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 1 - 2 ] . وافتتح الكلام بذكر أم التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بين ضربين ، يشك في أحدهما لا بعينه . يقولون : أزيداً ضربت أم عمراً ؟ مع تيقن وقوع الضرب بأحدهما . قال : وعادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيداً ، فلما قال : { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا } كأنه قال : أفتعلمون أن ذلك كما تؤمرون به ، أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر ! . وإنما استبعد هذا لأن الله تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة ، وأوجب أصبر على تحمل متاعبها ، وبين وجوه المصالح فيها في الدين وفي الدنيا ، فلما كان كذلك ، فمن البعيد أن يصل الْإِنْسَاْن إلى السعادة والجنة مع إهمال هذه الطاعة - انتهى - .
ثم وبخهم على هزيمتهم من أمر كانوا يتمنونه ويودون لقاءه فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } [ 143 ]
.
{ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ } أي : الحرب ، فإنها من مبادئه ، أو الموت على الشهادة : { مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ } أي : تشاهدوه وتعرفوا هوله : { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } أي : ما تتمنونه من أسباب الموت ، أو الموت بمشاهدة أسبابه العادية ، أو قتل إخوانكم بين أيديكم : { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } حال من ضمير المخاطبين ، وفي إيثار الرؤية على الملاقاة ، وتقييدها بالنظر ، مبالغة في مشاهدتهم له .
قال ابن عباس : لما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيه بما فعل بشهداء بدر من الكرامة ، رغبوا في الشهادة ، فتمنوا قتالاً يستشهدون [ في المطبوع : يشهدون ] فيه فيلحقون إخوانهم ، فأراهم الله ذلك يوم أحد ، وسببه لهم ، فلم يلبثوا أن انهزموا إلا من شاء الله منهم ، فأنزل الله تعالى : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ } الآية . وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < لا تتمنوا لقاء العدو ، وسلوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا ، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف > .
قال أهل المغازي : لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد ، أقبل عبد الله بن قميئة يريد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم . فذبّ عنه مصعب بن عمير رضي الله عنه ، وهو يومئذ صاحب رايته ، فقتله ابن قميئة ، وهو يرى أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرجع فقال : قد قتلت محمداً ، وصرخ الشيطان : ألا إن محمداً قد قتل . فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس ، فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال . ففي ذلك أنزل الله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ } [ 144 ]
.
{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } والرسل منهم من مات ، ومنهم من قتل ، فلا منافاة بين الرسالة والقتل والموت ، إذ : { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ } فسيخلو كما خلوا : { أَفَإِن مَّاتَ } أي : أتؤمنون به في حال حياته ، فإن مات : { أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ } أي : ارتددتم : { عَلَى أَعْقَابِكُمْ } أي : بعد علمكم بخلو الرسل قبله ، وبقاء دينهم ، متمسكاً به : { وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً } وإنما يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب : { وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ } بالنصر والغلبة في الدنيا ، والثواب والرضوان في الآخرة ، وهم الذين لم ينقلبوا ، بل قاموا بطاعته ، وقاتلوا على دينه ، واتبعوا رسوله حياً وميتاً . وسماهم شاكرين لأنهم شكروا نعمة الإسلام الذي هو أجلّ نعمة وأعزّ معروف . والمعنى : أن من كان على يقين من دينه ، وبصيرة من ربه ، لا يرتد بموت الرسول وقتله ، ولا يفتر عما كان عليه ، لأنه يجاهد لربه لا للرسول ، كأصحاب الأنبياء السالفين ، كما قال أنس عم أنس بن مالك ، يوم أحد حين أرجف بقتل رسول الله عليه السلام وشاع الخبر ، وانهزم المسلمون ، وبلغ إليه تفاؤل بعضهم : ليت فلاناً يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان ، وقول المنافقين : لو كان نبياً ما قتل : يا قوم إن كان محمد قد قتل ، فإن رب محمد حي لا يموت ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله ، فقاتلوا على ما قاتل عليه ، وموتوا على ما مات عليه ، ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء هؤلاء ، ثم شد بسيفه وقاتل حتى قتل - أفاده القاشاني - .
روى ابن أبي نَجِيْح عن أبيه أن رجلاً من المهاجرين مرّ على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه ، فقال له : يا فلان أشعرت أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل ؟ فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل ، فقد بلّغ ، فقاتلوا عن دينكم ، فنزل : { وَمَا مُحَمَّدٌ } الآية . ورواه أبو بكر البيهقي في " دلائل النبوة " .
قال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " :
ومنها : أي : من الغايات في هذه الغزوة أن وقعة أحد كانت مقدمة وإرهاصاً بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فنبأهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قتل . بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده ، يموتوا عليه ويقتلوا ، فإنهم إنما يعبدون رب محمد وهو حي لا يموت . فلو مات محمد أو قتل لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه ، وما جاء به ، فكل نفس ذائقة الموت ، وما بعث محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ليخلد ، لا هو ولا هم ، بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد ، فإن الموت لا بد منه ، فسواء مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بقي ، ولهذا وبخهم على رجوع من رجع منهم عن دينه لما صرخ الشيطان بأن محمداً قد قتل ، فقال : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } الآية - والشاكرون هم الذين عرفوا قدر النعمة ، فثبتوا عليها حتى ماتوا وقتلوا ، فظهر أثر هذا العتاب ، وحكم هذا الخطاب يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وارتد من ارتد على عقبيه ، وثبت الشاكرون على دينهم ، فنصرهم الله وأعزهم ، وأظفرهم بأعدائهم وجعل العاقبة لهم - انتهى - .
وثبت في الصحيح أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه تلا هذه الآية يوم موت النبي صلى الله عليه وسلم . وتلاها منه الناس كلهم ، والحديث مشهور . ثم أخبر تعالى أنه جعل لكل نفس أجلاً ، لا بد أن تستوفيه وتلحق به ، فيرد الناس كلهم حوض المنايا مورداً واحداً ، وإن تنوعت أسبابه ، ويصدرون عن موقف القيامة مصادر شتى ، فريق في الجنة وفريق في السعير ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ } [ 145 ]
.
{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أي : بأمره وإرادته : { كِتَاباً مُّؤَجَّلاً } مصدر مؤكد لمضمون ما قبله ، أي : كتب لكل نفس عمرها كتاباً مؤقتاً بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر . وفي الآية تشجع للجبناء وترغيب لهم في القتال ، فإن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه : { وَمَن يُرِدْ } أي : بعمله : { ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا } أي : ما نشاء أن نؤتيه ، ولم يكن له في الآخرة من نصيب ، وهو تعريض بمن حضر لطلب الغنائم : { وَمَن يُرِدْ } أي : بعمله : { ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ } ونظير هذه الآية قوله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] . وقوله سبحانه : { مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } [ الإسراء : 18 - 19 ] .
واعلم أن الآية ، وإن كان سياقها في الجهاد ولكنها عامة في جميع الأعمال ، وذلك لأن المؤثر في جلب الثواب أو العقاب هو النيات والدواعي ، لا ظواهر الأعمال . ثم نعى عليهم تقصيرهم وسوء صنيعهم في صدودهم عن سنن [ في المطبوع : سسن ] الربانيين المجاهدين في سبيل الله مع الرسل الخالية ، عليهم السلام ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } [ 146 ]
.
{ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } أي : كم من الأنبياء قاتل معهم ، لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه ، جماعتهم الأتقياء العباد : { فَمَا وَهَنُواْ } أي : ضعفوا : { لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } من الجراح وشهادة بعضهم ، لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل الله وطاعته وإقامة دينه ، ونصرة رسوله : { وَمَا ضَعُفُواْ } أي : عن الجهاد أو العدو أوالدين : { وَمَا اسْتَكَانُواْ } للأعداء بل صبروا على قتالهم : { وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } على قتال أعدائه .
تنبيهات :
الأول : كأين بمعنى كم الخبرية ، وفيها لغات ، قرئ منها في السبع كائن ممدوداً مهموزاً لابن كثير . والباقون بالتشديد . وفيها كلام كثير في معناها ولغاتها وقراءاتها المتواترة والشاذة وصلاً ووقفاً ، وفي رسمها ، فانظر موادّ ذلك .
الثاني : قرئ في السبع : { قُتِلَ } بالبناء للمجهول ونائب الفاعل : { رِبِّيُّونَ } قطعاً . وأما احتمال أن يكون ضميراً لنبي ومعه ربيون حال ، أو يكون على معنى التقديم والتأخير ، أي : وكائن من نبي معه ربيون قتل ؛ فتكلفٌ ينبوا عن سُلَيم الأفهام . وتعسف يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله . وإن نقله القفال ، ونصره السهيلي وبالغ فيه . فما كل سوداء تمرة .
الثالث : الربيون بكسر الراء قراءة الجمهور ، وقرئ بضمها وفتحها ، فالفتح على القياس ، والكسر والضم من تغييرات النسب ، وهم الربانيون ، أي : الذين يعبدون الرب تعالى .
ثم أخبر سبحانه ، بعد بيان محاسنهم الفعلية ، بمحاسنهم القولية ، وهو ما استنصرت به الأنبياء وأممهم على قومهم من اعترافهم وتوبتهم واستغفارهم وسؤالهم ربهم أن يثبت أقدامهم ، وأن ينصرهم على عدوهم ، فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [ 147 ]
.
{ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ } أي : هؤلاء الربانيين ، مثل قول المنافقين ولا المعجبين . و : { قَوْلَهُمْ } بالنصب خبر لكان ، واسمها أن وما بعدها في قوله تعالى : { إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } .
قال ابن القيم : لما علم القوم أن العدو إنما يدال عليهم بذنوبهم وأن الشيطان إنما يستزلهم ويهزموهم بها ، وأنها نوعان : تقصير في حق ، أو تجاوز لحد . وأن النصر منوط بالطاعة ، قالوا : { ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا } . ثم علموا أن ربهم تبارك وتعالى ، وإن لم يثبت أقدامهم وينصرهم ، لم يقدروا على تثبيت أقدام أنفسهم ونصرها على أعدائهم ، فسألوه ما يعلمون أنه بيده دونهم ، وأنه إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم ، لم يثبتوا ولم ينتصروا . فوفوا المقامين حقهما : مقام المقتضى ، وهو التوحيد ، والالتجاء إليه سبحانه . ومقام إزالة المانع من النصرة ، وهو الذنوب والإسراف - انتهى - .
قال القاضي : وهذا تأديب من الله تعالى في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمحن ، سواء كان في الجهاد أو غيره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ 148 ]
.
{ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا } من النصر والغنيمة ، وقهر العدو ، والثناء الجميل ، وانشراح الصدر بنور الإيمان ، وكفارة السيئات : { وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ } وهو الجنة وما فيها من النعيم المقيم . وتخصيص وصف الحسن بثواب الآخرة للإيذان بفضله ومزيته ، وأنه المعتد به عنده تعالى ، بخلاف الدنيا ؛ لقلتها وامتزاجها بالمضار ، وكونها منقطعة زائلة : { وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } إشارة إلى أن ما حكى عنهم من الأفعال والأقوال من باب الإحسان .
قال الرازي : فيه دقيقة لطيفة ، وهي أن هؤلاء لما اعترفوا بكونهم مسيئين حيث قالوا : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا } الآية - سماهم الله محسنين ، كأن الله تعالى يقول لهم : إذا اعترفت بإساءتك وعجزك فأنا أصفك بالإحسان وأجعلك حبيباً لنفسي حتى تعلم أنه لا سبيل للعبد إلى الوصول إلى حضرة الله إلا بإظهار الذلة والمسكنة والعجز .
ثم حذرهم سبحانه ، إثر ترغيبهم في الاقتداء بأنصار الأنبياء المفضي لسعادة الدارين ، من طاعة عدوهم . وأخبر أنه إن أطاعوهم خسروا الدنيا والآخرة . وفي ذلك تعريض بالمنافقين الذين أطاعوا المشركين لما انتصروا وظفروا يوم أحد ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ } [ 149 ]
.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } أي : إلى الشرك . والارتداد على العقب عَلَمٌ في انتكاس الأمر ، ومثلٌ في الحور بعد الكور : { فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ } لدين الإسلام ولمحبة الله ورضوانه وثوابه الدنيوي والأخروي . فلا تعتقدوا أنهم يوالونكم كما توالونهم . قال بعض المفسرين : ثمرة الآية الدلالة على أن على المؤمنين أن لا ينزلوا على حكم الكفار ، ولا يطيعوهم ، ولا يقبلوا مشورتهم ؛ خشية أن يستنزلوهم عن دينهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ } [ 150 ]
.
{ بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ } فأطيعوه : { وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ } ينصركم خيراً من نصرهم لو نصروكم ، وكيف لا يكون خير الناصرين وهو ينصركم بغير قتال ، كما وعد بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ } [ 151 ]
.
{ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ } أي : الذي يمنعهم من الهجوم عليكم والإقدام على حرمكم : { بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ } أي : بكونه إلهاً أو متصفاً بصفاته أو مستحقاً للعبادة : { سُلْطَاناً } أي : حجة قاطعة ينبني عليها الاعتقادات : { وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ } هي . والمثوى : المقر والمأوى والمقام . من ثوى يثوي .
لطائف :
الأولى : أفادت الآية أن ذلك الرعب بسبب ما في قلوبهم من الشرك بالله ، وعلى قدر الشرك يكون الرعب . قال القاشاني : جعل إلقاء الرعب في قلوب الكفار مسبباً عن شركهم لأن الشجاعة وسائر الفضائل اعتدالات في قوى النفس لتنورها بنور التوحيد ، فلا تكون تامة إلا للموحد الموقن في توحيده . وأما المشرك فلأنه محجوب عن منيع القدرة بما أشرك بالله من الموجود المشوب بالعدم الذي لم يكن له بحسب نفسه قوة ، ولم ينزل الله بوجوده حجة ، فليس له إلا العجز والجبن وجميع الرذائل .
وقال القفال رحمه الله : كأنه قيل : إنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أُحُد إلا أن الله تعالى سيلقي الرعب منكم بعد ذلك ، في قلوب الكافرين ، حتى يقهر الكفار ، ويظهر دينكم على سائر الأديان . وقد فعل الله ذلك ، حتى صار دين الإسلام قاهراً لجميع الأديان والملل - انتهى - .
وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس كافة ، وأعطيت الشفاعة > .
الثانية : في ذكر عدم تنزيل الحجة مع استحالة تحققها في نفسها ، إشعار بنفيها ونفي نزولها جميعاً ، لأن ما لم ينزل به سلطاناً ، لا سلطان له .
الثالثة : قال أبو السعود : في الآية إيذان بأن المتبع في الباب هو البرهان السماوي ، دون الآراء والأهواء الباطلة .
وقد سبقه إلى ذلك الرازي حيث قال : هذه الآية دالة على فساد التقليد . وذلك لأن الآية دالة على أن الشرك لا دليل عليه ، فوجب أن يكون القول به باطلاً ، وهذا إنما صح إذا كان القول بإثبات ما لا دليل على ثبوته ، يكون باطلاً ، فيلزم فساد القول بالتقليد - انتهى - ثم أخبرهم أنه صدقهم وعده في النصر على عدوه ، وهو الصادق الوعد ، وأنهم لو استمروا على الطاعة ولزموا أمر الرسول لاستمرت نصرتهم ، ولكن انخلعوا عن الطاعة ، وفارقوا مركزهم ففارقهم النصر ، فصرفهم عن عدوهم عقوبة وابتلاء وتعريفاً لهم سوء عواقب المعصية وحسن عاقبة الطاعة بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [ 152 ]
.
{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ } في قوله : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ } { إِذْ تَحُسُّونَهُم } أي : تقتلونهم قتلاً كثيراً . من حسه إذا أبطل حسه : { بِإِذْنِهِ } أي : بتيسيره وتوفيقه : { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ } أي : ضعفتم وتراخيتم بالميل إلى الغنيمة : { وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ } أي : في الإقامة بالمركز ، فقال أصحاب عبد الله : الغنيمة . أي : قوم ! الغنيمة . ظهر أصحابكم فما تنظرون ؟ قال عبد الله بن جبير : أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة ، فلما أتوهم صرفت وجوههم ، فأقبلوا منهزمين - رواه الإمام أحمد - .
والأمر إما بمعنى الشأن والقصة ، وإما الذي يضاده النهي أي : فيهم أمرتم به من عدم البراح : { وَعَصَيْتُم } أي : أمر الرسول أن لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم ، وإن رأيتموهم ظهروا علينا ، فلا تعينونا - رواه البخاري - : { مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ } أي : من الظفر والغنيمة ، وانهزام العدو . روى البخاري عن البراء قال : لقينا المشركين يومئذ ، وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً من الرماة ، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير وقال : لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم - بلفظ ما تقدم - ثم قال البراء : فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل ، رفعن عن سوقهن ، قد بدت خلاخلهن ، فأخذوا يقولون : الغنيمة الغنيمة . . الحديث { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } أي : الغنيمة فترك المركز { وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ } فثبت فيه ، وهم الذين نالوا شرف الشهادة ، ومنهم أنس بن النضر الأسد المقدام ، القائل وقتئذ : اللهم ! إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ، يعني المسلمين ، وأبرأ إليك مما جاء به المشركون ، فتقدم بسيفه ، فلقي سعد بن معاذ فقال : أين يا سعد ؟ إني أجد ريح الجنة دون أُحُد ! فمضى فقتل ، فما عرف حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانه ، وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم - هذا لفظ البخاري - وأخرجه مسلم بنحوه ، فرضي الله عنه وأرضاه وقدس روحه الزكية : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } أي : كفكم عنهم حتى حالت الحال ، ودالت الدولة . وفيه من اللطف بالمسلمين ما لا يخفى : { لِيَبْتَلِيَكُمْ } أي : ليجعل ذلك الصرف محنة عليكم لتتوبوا إلى الله ، وترجعوا إليه ، وتستغفروه فيما خالفتم فيه أمره ، وملتم إلى الغنيمة . ثم أعملهم أنه تعالى قد عفا عنهم بقوله : { وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ } أي : تفضلاً عليكم لإيمانكم : { وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } أي : في الأحوال كلها ، إما بالنصرة [ و ] إما بالابتلاء ، فإن الابتلاء فضل ولطف خفي ، ليتمرنوا بالصبر على الشدائد ، والثبات في المواطن ، ويتمكنوا في اليقين ، ويجعلوه ملكة لهم ، ويتحققوا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، ولا يميلوا إلى الدنيا وزخرفها ، ولا يذهلوا على الحق ، وليكون عقوبة عاجلة للبعض ، فيتمحصوا عن ذنوبهم ، وينالوا درجة الشهادة ، فيلقوا الله ظاهرين - أفاده القاشاني - .
لطائف :
الأولى : إذا في قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ } إما شرط ، أو لا . وعلى الأول فجوابها إما محذوف أو مذكور . فتقديره على كونه محذوفاً : حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ، منعكم الله نصره - لدلالة صدر الآية عليه - أو صرتم فريقين ، لأن قوله تعالى : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ } الخ يفيد فائدته ويؤدي معناه ، وعلى كونه مذكوراً فهو إما : { وَعَصَيْتُمْ } والواو صلة ، وحكي هذا عن الكوفيين والفراء . قالوا : ونظيره قوله تعالى : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ } [ الصافات : 103 - 104 ] . والمعنى : ناديناه .
وبعض من نصر هذا الوجه زعم أن من مذهب العرب إدخال الواو في جواب حتى إذا بدليل قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر : 73 ] . أي : فتحت . وأجابوا عما أورد عليهم من لزوم تعليل الشيء بنفسه - إذ الفشل والتنازع معصية فكيف يكونان علة لها - بأن المراد من العصيان خروجهم عن ذلك المكان . ولا شك أن الفشل والتنازع هو الذي أوجب خروجهم عنه ، فلا لزوم . وإما قوله تعالى : { صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } وكلمة ثم صلة - قاله أبو مسلم - .
وعلى الثاني : أعني كونها ليست شرطاً فهي اسم و حتى حرف جر بمعنى إلى متعلقة بقوله تعالى : { صَدَقَكُمُ } باعتبار تضمنه لمعنى النصر ، كأنه قيل : لقد نصركم الله إلى وقت فشلكم وتنازعكم .
الثانية : فائدة قوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ } التنبيه على عظم المعصية ، لأنهم لما شاهدوا أن الله تعالى أكرمهم بإنجاز الوعد ، كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية ، فلما أقدموا عليها سلبوا ذلك الإكرام .
الثالثة : ظاهر قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ } . أنه تعالى عفا عنهم من غير توبة, لأنها لم تذكر , فدل على أنه تعالى قد يعفو عن أصحاب الكبائر .
الرابعة : في قوله تعالى : { وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } . دليل على أن صاحب الكبيرة مؤمن, فإن الذنب في الآية كان كبيرة - والله أعلم - .
ثم ذكرهم تعالى بحالهم وقت الفرار بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ 153 ]
إذ تصعدون متعلق بصرفكم أو بقوله ليبتليكم , أو بمقدر . والإصعاد : الإبعاد في الأرض . أي : تبعدون في الفرار, وقرئ : تَصعَدون ، من الثلاثي, أي : في الجبل : { وَلاَ تَلْوُونَ } أي : لا تعطفون بالوقوف : { عَلَى أحَدٍ } أي : من قريب ولا بعيد, من الدهش والروعة : { وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ } أي : ساقتكم وجماعتكم الأخرى, إلى ترك الفرار من الأعداء وإلى العود والكرة عليهم . وأنتم مدبرون وهو ثابت في مكانه في نحر العدو في نفر يسير وثوقاً بوعد الله ومراقبة له .
قال السدَي : لما اشتد المشركون على المسلمين بأحد, فهزموهم, دخل بعضهم المدينة, وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها . فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس : < إليَّ عَبَّاد الله ! إليَّ عَبَّاد الله ! > فذكر الله صعودهم إلى الجبل - ثم ذكر دعاء النبيَ صلى الله عليه وسلم إياهم فقال : { إِذْ تُصْعِدُونَ } الخ .
قال ابن كثير : وكذا قال ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد .
وفي حديث البراء رضي الله عنه في مسند الإمام أحمد أنهم لما انهزموا لم يبق مع النبيَ صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً . وروى مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش : { فَأَثَابَكُمْ } أي : جازاكم بهذا الهرب والفرار : { غُمَّاً بِغَمٍّ } أي : غماً متصلاً بغم, يعني غم الهزيمة والكسرة, وغم صرخة الشيطان فيهم بأن محمداً قتل . وقيل : الباء بمعنى مع , وقيل : بمعنى على , وهما قريبان من الأول . وقيل : الباء للمقابلة والعوض , أي : أذاقكم عماً بمقابلة غم أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو عصيانكم أمره . قاله الزجاج . وقال الحسن : يريد غم يوم أحد للمسلمين بغم يوم بدر للمشركين, وقيل : المعنى غماً بعد غم أي : غماً مضاعفاً . ثم أشار إلى سر ذلك بقوله : { لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ } أي : لتتمرنوا بالصبر على الشدائد, والثبات فيها, وتتعودوا رؤية الغلبة والظفر والغنيمة, وجميع الأشياء من الله لا من أنفسكم, فلا تحزنوا على ما فاتكم من الحظوظ والمنافع . وقوله : { وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ } من الغموم والمضار .
قال العلامة ابن القيم في " زاد المعاد " : وقيل جازاكم غماً بما غممتم به رسوله بفراركم عنه, وأسلمتموه إلى عدوه . فالغم الذي حصل لكم جزاءً على الغم الذي أوقعتموه بنبيه . والقول الأول أظهر لوجوه :
أحدها : أن قوله : { لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ } تنبيه على حكمة هذا الغم بعد الغم, وهو أن ينسيهم الحزن على ما فاتهم من الظفر, وعلى ما أصابهم من الهزيمة والجراح, فنسوا بذلك السلب, وهذا إنما يحصل بالغم الذي يعقبه غم آخر .
الثاني : أنه مطابق للواقع, فإنه حصل لهم غم فوات الغنيمة, ثم أعقبه غم الهزيمة, ثم غم الجراح الذي أصابهم, ثم غم القتل ، ثم غم سماعهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل, ثم غم ظهور أعدائهم على الجبل فوقهم . وليس المراد غمين اثنين خاصة, بل غماً متتابعاً لتمام الابتلاء والامتحان .
الثالث : أن قوله بغم من تمام الثواب, لا أنه سبب جزاء الثواب . والمعنى : أثابكم غماً متصلاً بغم, جزاء على ما وقع منكم من الهرب, وإسلامكم نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وترك استجابتكم له وهو يدعوكم, ومخالفتكم له في لزوم مركزكم, وتنازعكم في الأمر وفشلكم . وكل واحد من هذه الأمور يوجب غماً يخصه, فترادفت عليهم الغموم, كما ترادفت منهم أسبابها وموجباتها . ولولا أن تداركهم بعفوه لكان أمراً آخر . ومن لطفه بهم, ورأفته ورحمته, أن هذه الأمور التي صدرت منهم كان من أمور الطباع, وهي من بقايا النفوس التي تمنع من النصرة المستقرة, فقيض لهم بلطفه أسباباً أخرجها من القوة إلى الفعل, فيترتب عليها آثارها المكروهة, فعلموا حينئذ أن التوبة منها, والاحتراز من أمثالها, ودفعها بأضدادها, أمرٌ متعين لا يتم لهم الفلاح والنصرة الدائمة المستقرة إلا به, فكانوا أشد حذراً بعدها ومعرفة بالأبواب التي دخل عليهم منها . وربما صحت الأجسام بالعلل .
لطيفة :
لفظ الثواب لا يستعمل في الأغلب إلا في الخير, ويجوز أيضاً استعماله في الشر, لأنه مأخوذ من قولهم : ثاب إليه عقله, أي : رجع إليه . قال تعالى : { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } [ البقرة : 125 ] . والمرأة تسمى ثيَباً لأن الواطئ عائد إليها . وأصل الثواب كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله, سواء كان خيراً أو شراً, إلا أنه بحسب العرف اختص لفظ الثواب بالخير . فإن حملنا لفظ الثواب ههنا على أصل اللغة استقام الكلام , وإن حملنا على مقتضى العرف كان ذلك وارداً على سبيل التهكم, كما يقال : تحيته الضرب وعتابه السيف, أي : جعل الغم مكان ما يرجون من الثواب على حد : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ } [ آل عِمْرَان : 21 ] - قاله الرازي - .
تنبيه :
قال المفضل : لا زائدة, والمعنى : لتتأسفوا [ في المطبوع : للتأسفوا ] على مما فاتكم وعلى ما أصابكم عقوبة لكم, كقوله : { أَلَّا تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] , و : { لِئَلَّا يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] , أي : أن تسجد وليعلم .
وعندي أنه بعيد, لا سيما مع تكرار لا في المعطوف, واستقامة المعنى الجيد على اعتبارها, فالوجه ما سلف .
{ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } خيراً وشراً, قادر على مجازاتكم, وفيه أعظم زاجر عن الإقدام على المعصية . ثم إنه تداركهم سبحانه برحمته, وخفف عنهم ذلك الغم, وغيَّبه عنهم بالنعاس الذي أنزله عليهم أمناً منه, كما قال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ 154 ]
.
{ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً } أي : أمناً . والأمنة بتحريك الميم مصدر, يقال : أمن أمناً وأماناًَ وأمناً وأمنة محركتين وفي حديث نزول عيسى عليه السلام, وتقع الأمنة في الأرض, أي : الأمن . ومثله من المصادر العظمة والغلبة, وهو منصوب على المفعولية . وقوله تعالى : { نُّعَاساً } بدل من : { أَمَنَةً } وقيل : هو المفعول, و : { أَمَنَةً } حال أو مفعول له : { يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ } وهم المخلصون, أهل اليقين والثبات والتوكل الصادق, والجازمون بأن الله عز وجل سينصر رسوله وينجز له مأموله . والنعاس في حال الحرب دليل على الأمان, كما قال في سورة الأنفال : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ } [ الأنفال : 11 ] الآية .
وروى البخاري في التفسير عن أنس عن أبي طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، قال : فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه . ورواه الترمذي والنسائي والحاكم . ولفظ الترمذي : قال أبو طلحة : رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر ، وما منهم ويومئذ أحد إلا يميد تحت حجفته من النعاس . فذلك قوله تعالى : { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً } . وقد ساق الرازي لذلك النعاس فوائد :
منها : أن الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم ، فبقاؤهم في النوم مع السلامة في مثل تلك المعركة من أدل الدلائل على أن حفظ الله وعصمته معهم . وذلك مما يزيل الخوف عن قلوبهم ، ويورثهم مزيد الوثوق بوعد الله تعالى - انتهى - . ثم أخبر تعالى أن من لم يصبه ذلك النعاس فهو ممن أهمته نفسه ، لا دينه ولا نبيه ولا أصحابه ، بقوله : { وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ } أي : ما بهم إلا هم أنفسهم وقد قصد خلاصها ، فلم يغشهم النعاس من القلق والجزع والخوف : { يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ } أي : غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به سبحانه : { ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } كما قال تعالى في الآية الأخرى : { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً } [ الفتح : 12 ] الآية . وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة ، وأن الإسلام قد باد وأهله ، وهذا شأن أهل الريب والشك ، إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة ، تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة .
قال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " : وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله بأنه سبحانه لا ينصر رسوله ، وأن أمره سيضمحل ، وأنه يسلمه للقتل . وفسر بأن ما أصابهم لم يكن بقضائه وقدره ، ولا حكمة له فيه . ففسر بإنكار الحكمة ، وإنكار القدر ، وإنكار أن يتم أمر رسوله ، ويظهره على الدين كله . وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون به سبحانه وتعالى في سورة الفتح ، حيث يقول : { وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً } [ الفتح : 6 ] . وإنما كان هذا ظن السوء ، وظن الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل ، وظن غير الحق ، لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى ، وصفاته العليا ، وذاته المبرأة من كل سوء . بخلاف ما يليق بحكمته وحمده ، وتفرده بالربوبية والإلهية ، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه ، وكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم ، ولجنده بأنهم هم الغالبون . فمن ظن به أنه لا ينصر رسله ، ولا يتم أمره ، ولا يؤيده ويؤيد جنده ، ويعليهم ويظفرهم بأعدائه ، ويظهرهم عليهم ، وأنه لا ينصر دينه وكتابه ، وأنه يديل الشرك على التوحيد ، والباطل على الحق ، إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً - فقد ظن بالله السوء ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته . فإن عزته وحكمة إلهيته تأبى ذلك ، ويأبى أن يذل حزبه وجنده ، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به ، العادلين به - فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه ، ولا عرف صفاته وكماله ، وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره فما عرفه ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته ، وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة ، وغاية محمودة يستحق الحمد عليها ، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمة وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فوتها ، وأن تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة لإفضائها إلى ما يحب ، وإن كانت مكروهة له ، فما قدرها سدى ، ولا أنشأها عبثاً ، ولا خلقها باطلاً : { ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } [ ص : 27 ] . وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ، ظن السوء ، فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم . ولا يسلم عن ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته ، وعرف موجب حمده وحكمته . فمن قنط من رحمته ، وأيس من روحه ، فقد ظن به ظن السوء . ومن جوّز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم ، ويسوي بينهم وبين أعدائه ، فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أن يترك خلقه سدى معطلين من الأمر والنهي ولا يرسل إليهم رسله ، ولا ينزل عليهم كتبه ، بل يتركهم هملاً كالأنعام فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي فيها المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه ، ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله ، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين ، فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصاً لوجهه الكريم على امتثال أمره ويبطله عليه بلا سبب من العبد ، وأنه يعاقبه بما لا صنيع له فيه ، ولا اختيار له ، ولا قدرة ولا إرادة في حصوله ، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به ، أو ظن أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله ويجريها على أيديهم ، يضلون بها عباده ، وأنه يحسن منه كل شيء حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته ، فيخلده في الجحيم أسفل السافلين ، وينعم من استنفد عمره في داوته وعداوة رسله ودينه فيرفعه إلى أعلى عليين ، وكلا الأمرين في الحسن سواء عنده ، ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق ، وإلا فالعقل لا يقتضي بقبح أحدهما وحسن الآخر - فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل ، وترك الحق لم يخبر به ، وإنما رمز إليه رموزاً بعيدة ، وأشار إليه إشارات ملغزة ، لم يصرح به ، وصرح دائماً بالتشبيه والتمثيل والباطل ، ، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه ، وتأويله على غير تأويله ، ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة ، والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي ، أشبه منها بالكشف والبيان ، وأحالهم في معرفة أسمائه ، وصفاته على عقولهم وآرائهم ، لا على كتابه ، بل أراد منهم أن لا يحملوا كلامه على ما يعرفون من خطابهم ولغتهم ، مع قدرته أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به ، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل ، فلم يفعل ، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان - فقد ظن به ظن السوء . فإنه إن قال إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه ، فقد ظن بقدرته العجز . وإن قال : إنه قادر ولم يبين ، وعدل عن البيان ، وعن التصريح بالحق ، إلى ما يوهم ، بل يوقع في الباطل المحال ، والاعتقاد الفاسد - فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء . وظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله ، وإن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم . وأما كلام الله فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال ، وظاهر كلام المتهوكين الحيارى هو الهدى والحق ، وهذا من أسوأ الظن بالله . فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء . ومن الظانين به غير الحق ، ظن الجاهلية . ومن ظن به يكون في ملكه ما يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه - فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أنه كان معطلاً من الأزل إلى الأبد ، عن أن يفعل ولا يوصف حينئذ بالقدرة على الفعل ، ثم صار قادراً عليه بعد أن لم يكن قادراً - فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أنه ليس فوق سماواته على عرشه ، بائناً من خلقه ، وأن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل السافلين ، وإلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها ، وأنه أسفل كما أنه أعلى ، ومن قال سبحان ربي الأسفل ، كمن قال سبحان ربي الأعلى - فقد ظن به أقبح الظن .
ثم قال : وبالجملة فيمن ظن به خلاف ما وصف به نفسه ، ووصفه به ورسله ، أو عطل حقائق ما وصف به نفسه ، ووصفته به رسله - فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن أن أحداً يشفع عنده بدون إذنه ، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه ، أو أنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه ، ويتوسلون بهم إليه ، ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه ، فيدعونهم ، ويخافونهم ، ويرجونهم - فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه .
ثم قال : ومن ظن به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة وتضرع إليه وسأله واستعان به وتوكل عليه ، أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله - فقد ظن به ظن السوء . وظن به خلاف ما هو أهله .
ثم قال : ومن ظن به أنه إن عصاه أو أسخطه وأوضع في معاصيه ، ثم اتخذ من دونه ولياً ، ودعا من دونه ملكاً أو بشراً حياً أو ميتاً ، يرجوا بذلك أن ينفعه عند ربه ، ويخلصه من عذابه - فقد ظن به ظن السوء . وذلك زيادة في بعده من الله ، وفي عذابه . ومن ظن به أنه يسلط على رسوله محمد أعداءه تسليطاً مستقراً دائماً في حياته وفي مماته ، وابتلاه بهم لا يفارقونه . فلما مات استبدوا بالأمر دون وصيته ، وظلموا أهل بيته ، وسلبوهم حقهم ، وأذلوهم ، وكانت العزة والغلبة والقهر لأعدائه وأعدائهم دائماً من غير جرم ولا ذنب لأوليائه وأهل الحق ، وهو يرى قهرهم لهم ، وغصبهم إياهم حقهم ، وتبديلهم دين نبيهم ، وهو يقدر على نصر أوليائه ، وحزبه وجنده ، ولا ينصرهم ولا يديلهم ، بل يديل أعدائهم عليهم أبداً ، أو أنه لا يقدر على ذلك ، بل حصل هذا بغير قدرته ولا مشيئته ، ثم جعل أعداءه الذين بدلوا دينه مضاجعيه في حضرته ، تسلم أمته عليه وعليهم كل وقت كما تظنه الرافضة - فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه ، وسواء قالوا : إنه قادر على أن ينصرهم ويجعل لهم الدولة والظفر ، أو أنه غير قادر على ذلك . فهم قادحون في قدرته أو في حكمته وحمده ، وذلك من ظن السوء به . ولا ريب أن الرب الذي فعل هذا بغيض إلى من ظن به ذلك ، غير محمود عندهم ، وكان الواجب أن يفعل خلاف ذلك ، لكن رَفَوا هذا الظن الفاسد بخرق أعظم منه ، واستجاروا من الرمضاء بالنار ، فقالوا : لم يكن هذا بمشيئة الله ، ولا قدرة على دفعه ونصر أوليائه ، فإنه لا يقدر على أفعال عباده ، ولا يدخل تحت قدرته ، فظنوا به ظن إخوانهم المجوس والثنوية بربهم . وكل مبطر وكافر ومبتدع ومقهور مستذل ، فهو يظن بربه هذا الظن ، وإنه أولى بالنصر والظفر والعلو من خصومه ، فأكثر الخلق ، بل كلهم ، إلا من شاء الله ، يظنون بالله غير الحق وظن السوء . فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ، ناقص الحظ ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله ، ولسان حاله يقول : ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه ، ونفسه تشهد عليه بذلك ، وهو بلسانه ينكره ، ولا يتجاسر على التصريح به . ومن فتش نفسه ، وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها ، رأى ذلك فيها كامناً كمون النار في الزناد ، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده ، ولو فتشت من فتشته ، لرأيت عنده تعتباً على القدر ، وملامة له ، واقتراحاً عليه خلاف ما جرى به ، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا ، فمستقل ومستكثر ، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك :
~فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا أخالك ناجياً
فليعتن اللبيب الناصح نفسه بهذا الموضع ، وليتب إلى الله ويستغفره كل وقت ، من ظنه بربه ظن السوء . وليظن السوء بنفسه التي هي مادة كل سوء ، ومنبع كل شر ، المركبة على الجهل والظلم ، فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين ، الغني الحميد ، الذي له الغنى التام ، والحمد التام ، والحكمة التامة ، المنزه عن كل سوء ، في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه . فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه ، وصفاته كذلك ، وأفعاله كذلك ، كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل . وأسماؤه كلها حسنى . والمقصود ما ساقنا إلى هذا الكلام من قوله تعالى : { وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } .
ثم أخبر عن الكلام الذي صدر عن ظنهم الباطل بقوله : { يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ } أي : هل لنا من أمر التدبير والرأي من شيء ، استفهام على سبيل الإنكار . أي : ما لنا أمر يطاع . ونظيره ما حكاه الله عنهم أنهم قالوا : { لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } [ آل عِمْرَان : 168 ] . وذلك أن عبد الله بن أبيّ لما شاوره النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة ، أشار عليه بأن لا يخرج من المدينة ، ثم إن الصحابة ألحوا على النبي صلى الله عليه وسلم في أن يخرج إليهم ، كما تقدم . ولما رجع عبد الله بن أبيّ بمن معه ، وأخبر بكثرة القتلى من بني الخزرج ، قال : هل لنا من الأمر شيء ؟ يعني أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يقبل قولي حين أمرته بأن يبقى في المدينة ولا يخرج منها : { قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } أي : التدبير كله لله ، فإنه تعالى قد دبر الأمر كما جرى في سابق قضائه فلا مرد له .
قال الإمام ابن القيم قدس الله روحه : ليس مقصودهم بقولهم : { هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ } وقولهم : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } . إثبات القدر ، ورد الأمر كله إلى الله . ولو كان ذلك مقصودهم بالكلمة الأولى لما ذموا عليه ، لما حسن الرد عليهم بقوله : { إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } ولا كان مصدر هذا الكلام ظن الجاهلية . ولهذا ، قال غير واحد من المفسرين : إن ظنهم الباطل ههنا هو التكذيب بالقدر ، وظنهم أن الأمر لو كان إليهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه تبعاً لهم ، ويسمعون منهم ؛ لما أصابهم القتل ، ويكون النصر والظفر لهم . فأكذبهم الله عز وجل في هذا الظن الباطل ، الذي هو ظن الجاهلية ، وهو الظن المنسوب إلى أهل الجهل ، الذين يزعمون ، بعد نفاذ القضاء والقدر الذي لم يكن بد من نفاذه ، أنهم كانوا قادرين على دفعه ، أن الأمر لو كان إليهم لما نفذ القضاء ، فأكذبهم الله بقوله : { قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } . فلا يكون إلا ما سبق قضاؤه وقدره ، وجرى به علمه وكتابه السابق ، وما شاء الله كان ولا بد ، شاء الناس أم أبوا . وما لم يشأ لم يكن ، شاء الناس أو لم يشاؤوه . وما جرى عليكم من الهزيمة والقتل ، فبأمره الكوني الذي لا سبيل إلى دفعه ، سواء كان لكم من الأمر شيء أو لم يكن ، وأنكم لو كنتم في بيوتكم وقد كتب القتل على بعضكم ، لخرج الذين كتب عليهم القتل من بيوتهم إلى مضاجعهم ولا بد . سواء أن يكون لهم من الأمر شيء أو لم يكن . وهذا من أظهر الأشياء إبطالاً لقول القدرية النفاة ، الذين يجوّزون أن يقع ما لا يشاؤه الله ، وأن يشاء ما لا يقع - انتهى - .
{ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم } أي : يضمرون فيها ، أو يقولون فيما بينهم بطريق الخفية : { مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ } لكونه لا يرضاه الله تعالى . ثم بين ذلك بعد إجماله فقال : { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ } أي : المسموع : { شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَهُنَا } أي : ما غلبنا ، أو ما قتل من قتل منا ، لأنا كنا نمكث في المدينة ولا نخرج إلى العدو . ولما أخبر تعالى بما أخفوه جهلاً منهم ، ظناً أن الحذر يغني من القدر ، أمره تعالى بالرد عليهم بقوله : { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ } أي : أجمع رأيكم على أن لا تبرحوا من منازلكم أنتم والمقتولون : { لَبَرَزَ } أي : خرج : { الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ } في اللوح المحفوظ : { إِلَى مَضَاجِعِهِمْ } أي : التي قدر الله قتلهم فيها ، ولم يثبتوا في ديارهم ، لأنه يوقع في قلوبهم الخروج إمضاء لقدره وحكمه المحتوم الذي لا يقع خلافه ولا يرد ، لقوله : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ الحديد : 22 ] . وفيه مبالغة في رد مقالتهم الباطلة ، حيث لم يقتصر على تحقيق نفس القتل ، بل عين مكانه أيضاً . وفي التعبير بمضاجعهم من إجلالهم وتكريمهم ما لا يخفى على صاحب الذوق السليم { وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ } أي : ليعاملكم معاملة الممتحن ، ليستخرج ما في صدوركم من الإخلاص والنفاق ، ليجعله حجة عليكم ، فالمؤمن لا يزداد بذلك إلا إيماناً وتسليماً ، والمنافق ومن في قلبه مرض لا بد أن يظهر ما في قلبه على جوارحه ولسانه ؛ وهو علة لفعل مقدر قبلها معطوفة على علل لها أخرى مطوية ، للإيذان بكثرتها . كأنه قيل : فعل ما فعل لمصالح جمة وليبتلي . . . الخ ، أو لفعل مقدر بعدها ، أي : وللابتلاء المذكور فعل ما فعل ، لا لعدم العناية بأمر المؤمنين . وجعلها عللاً لبرز يأباه الذوق السليم . فإن مقتضى المقام بيان حكمة ما وقع يومئذ من الشدة والهول ، لا بيان حكمة البروز المفروض - أفاده أبو السعود - ثم ذكر تعالى حكمة أخرى بقوله : { وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } أي : يخلصه وينقيه ويهذبه ، فإن القلوب يخالطها بغلبة الطبائع ، وميل النفوس ، وحكم العادة ، وتزيين الشيطان ، واستيلاء الغفلة - ما يضاد ما أودع فيها من الإيمان والإسلام والبر والتقوى . فلو تركت في عافية دائمة مستمرة لم تتخلص من هذه المخالطة ، ولم تتمحص منه ، فاقتضت حكمة العزيز الرحيم أن يقضي لها من المحن والبلاء ، ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء ، إن لم يتداركه طبيبه بإزالته وتنقيته من جسده ، وإلا خيف عليه منه الفساد والهلاك . فكانت نعمته سبحانه عليهم بهذه الكسرة والهزيمة ، وقتل من قتل منهم ، تعادل نعمته عليهم بنصرهم وتأييدهم وظفرهم بعدوهم . فله عليهم النعمة التامة في هذا وهذا . أفاده ابن القيم .
وقال القاشاني : البلاء سوط من سياط الله ، يسوق به عباده إليهم بتصفيتهم عن صفات نفوسهم ، وإظهار ما فيهم من الكمالات ، وانقطاعهم من الخلق إلى الحق . ولهذا كان متوكلاً بالأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بياناً لفضله : < ما أوذي نبي مثل ما أوذيت > . كأنه قال : ما صفى نبي مثل ما صفيت . ولقد أحسن من قال :
~لله در النائبات فإنها صدأ اللئام وصيقل الأحرار
إذ لا يظهر على كل منهم إلا ما في مكمن استعداده .
{ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : الضمائر الملازمة لها ، وعد ووعيد . ثم أخبر تعالى عن تولي من تولى من المؤمنين الصادقين في ذلك اليوم ، وأنه بسبب كسبهم بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [ 155 ]
.
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ } أي : عن القتال ومقارعة الأبطال : { يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } أي : جمع المسلمين وجمع المشركين : { إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ } أي : حمله على الزلل بمكر منه . مع وعد الله بالنصر : { بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } أي : بشؤم بعض ما اكتسبوه من الذنوب ، كترك المركز ، والميل إلى الغنيمة ، مع النهي عنه ، فمنعوا التأييد وقوة القلب . قال ابن القيم : كانت أعمالهم جنداً عليهم ازداد بها عدوهم قوة . فإن الأعمال جند للعبد ، وجند عليه ، ولا بد للعبد في كل وقت من سرية من نفسه تهزمه أو تنصره . فهو يمد عدوه بأعماله من حيث يظن أنه يقاتل بها ، ويبعث إليه سرية تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوه . فأعمال العبد تسوقه قسراً إلى مقتضاه من الخير والشر . والعبد لا يشعر ، أو يشعر ويتعامى . ففرار الْإِنْسَاْن من عدوه ، وهو يطيقه ، إنما هو بجند من عمله ، بعثه له الشيطان واستزله به ، ثم أخبر سبحانه أنه عفا عنهم بقوله : { وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ } أي : بالاعتذار والندم لأن هذا الفرار لم يكن عن نفاق ، ولا شك أنه كان عارضاً عفا الله عنه ، فعادت شجاعة الإيمان وثباته إلى مركزها ونصابها : { إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } أي : يغفر الذنب ويحلم عن خلقه ، ويتجاوز عنهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ 156 ]
.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ } وهم المنافقون القائلون : { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا } { وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ } أي : سافروا فيها للتجارة فأصيبوا بغرق أو قتل : { أَوْ كَانُواْ } أي : إخوانهم : { غُزًّى } جمع غاز فأصيبوا باصطدام أو قتل : { لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا } أي : مقيمين : { مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } قال أبو السعود : ليس المقصود بالنهي عدم مماثلتهم في النطق بهذا القول ، بل في الاعتقاد بمضمونه والحكم بموجبه .
أقول : بل الآية تفيد الأمرين . أعني حفظ الاعتقاد المقصود أولاً وبالذات ، وحفظ المنطق مما يوقع في إضلال الناس ، ويخل بالمقام الإلهي ، كما بينته السنة ، وسنذكره في التنبيه الآتي .
وقوله : { لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ } أي : القول : { حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ } متعلق بقالوا على أن اللام لام العاقبة ، مثلها في : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] أي : قالوا ذلك واعتقدوه ، ليكون حسرة في قلوبهم . والمراد بالتعليل المذكور : بيان عدم ترتب فائدة ما, على ذلك أصلاً : { وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ } رد لقولهم الباطل ، إثر بيان غائلته . أي : هو المؤثر في الحياة والممات وحده ، من غير أن يكون للإقامة أو للسفر مدخل في ذلك ، فإنه تعالى قد يحيي المسافر والغازي مع اقتحامها لموارد الحتوف ، ويميت المقيم مع حيازته لأسباب السلامة . وعن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه قال عند موته : ما فيّ موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة ، وها أنا ذا أموت كما يموت البعير ، فلا نامت أَعْيَن الجبناء ! : { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } تهديد للمؤمنين في مماثلة من ذكر .
قال بعض المفسرين : ثمرة الآية أنه لا يجوز التشبه بالكفار . قال الحاكم : وقد يكون منه ما يكون كفراً . وفيها أيضاً دلالة على أنه لا يسقط وجوب الجهاد بخشية القتل .
تنبيه :
أشعرت الآية بوجوب حفظ المنطق مما يشاكل ألفاظ المشركين من الكلمات المنافية للعقيدة الإسلامية كما ذكرنا . وقد عقد الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " فصلاً في هديه صلى الله عليه وسلم في حفظ النطق واختيار الألفاظ قال :
كان صلى الله عليه وسلم يتخير في خطابه ، ويختار لأمته أحسن ألفاظ وأجملها وألطفها ، وأبعدها من ألفاظ أهل الجفاء والغلظة والفحش . إلى أن قال : ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن قول القائل بعد فوات الأمر : لو أني فعلت كذا وكذا . وقال : < إنها تفتح عمل الشيطان > . وأرشده إلى ما هو أنفع له من هذه الكلمة ، وهو أن يقول : قدر الله ، وما شاء فعل ، وذلك لأن قوله : لو كنت فعلت كذا وكذا لم يفتني ما فاتني أو لم أقع فيما وقعت فيه ، كلام لا يجدي عليه فائدة البتة . فإنه غير مستقبل لما استدبر من أمره ، وغير مستقيل عثرته بلو . وفي ضمن لو ادعاء أن الأمر لو كان كما قدره في نفسه ، لكان غير ما قضاه الله وقدره وشاءه ، فإن ما وقع مما يتمنى خلافه ، إنما وقع بقضاء الله وقدره ومشيئته . فإذا قال : لو أني فعلت كذا لكان خلاف ما وقع ، فهو محال ، إذ خلاف المقدّر المقضي محال . فقد تضمن كلامه كذباً وجهلاً ومحالاً . وإن سلم من التكذيب بالقدر لم يسلم من معارضته بقوله : لو أني فعلت لدفعت ما قدر عليّ . فإن قيل : ليس في هذا رد للقدر ولا جحد له ، إذ تلك الأسباب التي تمناها أيضاً من القدر ، فهو يقول : لو وفقت لهذا القدر لاندفع به عني ذلك القدر ، فإن القدر يدفع بعضه ببعض ، كما يدفع قدر المرض بالدواء ، وقدر الذنوب بالتوبة ، وقدر العدو بالجهاد ، فكلاهما من القدر . قيل : هذا حق ، ولكن هذا ينفع قبل وقوع القدر المكروه . وأما إذا وقع فلا سبيل إلى دفعه ، وإن كان له سبيل إلى دفعه أو تخفيفه بقدر آخر فهو أولى به من قوله : لو كنت فعلته ، بل وظيفته في هذه الحالة أن يستقبل فعله الذي يدفع به أو يخفف ، ولا يتمنى ما لا مطمع في وقوعه ، فإنه عجز محض ، والله يلوم على العجز ، ويحبّ الكيس ويأمر به . والكيس : هو مباشرة الأسباب التي ربط الله بها مسبباتها النافعة للعبد في معاشه ومعاده ، فهذه تفتح عمل الخير والأمر ، وأما العجز فإنه يفتح عمل الشيطان . فإنه إذا عجز عما ينفعه وصار إلى الأمانيّ الباطلة بقوله : لو كان كذا وكذا ، ولو فعلت كذا ، يفتح عمل الشيطان ، فإن بابه العجز والكسل . ولهذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منهما . وهو مفتاح كل شر ، ويصدر عنهما الهم والحزن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال . فمصدرها كلها عن العجز والكسل ، وعنوانها لو ، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : < فإن لو تفتح عمل الشيطان > ، فالمتمني من أعجز الناس وأفلسهم ، فإن المنى رأس أموال المفاليس ، والعجز مفتاح كل شر ، وأصل المعاصي كلها العجز ، فإن العبد يعجز عن أسباب أعمال الطاعات ، وعن الأسباب التي تعرضه عن المعاصي ، ويحول بينها وبينه ، فيقع في المعاصي .
فجمع في هذا الحديث الشريف ، في استعاذته صلى الله عليه وسلم أصول الشر وفروعه ومباديه وغاياته وموارده ومصادره . وهو مشتمل على ثمان خصال ، كل خصلتين منهما قرينتان فقال : < أعوذ بك من الهم والحزن > ، وهما قرينان . فإن المكروه الوارد على القلب ينقسم باعتبار سببه إلى قسمين : فإنه إما أن يكون سببه أمراً ماضياً ، فهو يحدث الحزن ، وإما أن يكون توقع أمر مستقبل ، فهو يحدث الهم ، وكلاهما من العجز . فإن ما مضى لا يدفع بالحزن ، بل بالرضاء والحمد والصبر والإيمان بالقدر ، وقول العبد : قدر الله وما شاء فعل . وما يستقبل لا يدفع أيضاً بالهم . بل إما أن يكون له حيلة في دفعه فلا يعجز عنه ، وإما أن لا تكون له حيلة في دفعه ، فلا يجزع منه ، ويلبس له لباسه ، ويأخذ له عدته ، ويتأهب له أهبته اللائقة ، ويستجن بجُنة حصينة من التوحيد والتوكل والانطراح بين يدي الرب تعالى ، والاستسلام له ، والرضا به رباً في كل شيء ، ولا يرضى به رباً فيما يحب دون ما يكره . فإذا كان هكذا لم يرض به رباً على الإطلاق ، فلا يرضاه الرب له عبداً على الإطلاق . . فالهم والحزن لا ينفعان العبد البتة ، بلا مضرتهما أكثر من منفعتهما ، فإنهما يضعفان العزم ، ويوهنان القلب ، ويحولان بين العبد وبين الاجتهاد فيما ينفعه ، ويقطعان عليه طريق السير ، أو ينكسانه إلى وراء ، أو يعوقانه ويقفانه ، أو يحجبانه عن العلم الذي كلما رآه شمر إليه وجدّ في سيره ، فهما حمل ثقيل على ظهر السائر ، بل إن عاقة الهم والحزن عن شهواته وإرادته التي تضره في معاشه ومعاده ، أنفع به من هذا الوجه ، وهذا من حكمة العزيز الحكيم ، أن سلط هذين الجندين على القلوب المعرضة عنه ، الفارغة من محبته وخوفه ورجائه والإنابة إليه ، والتوكل عليه ، والأنس به ، والفرار إليه ، والانقطاع إليه ، ليردها بما يبتليها به من الهموم والغموم والأحزان ، والآلام القلبية ، عن كثير من معاصيها وشهواتها المردية . وهذه القلوب في سجن من الجحيم في هذه الدار . وإن أريد بها الخير ، كان حظها من سجن الجحيم في معادها ، ولا تزال في هذا السجن ، حتى تتخلص إلى فضاء التوحيد والإقبال على الله ، والأنس به ، وجعل محبته في محل دبيب خواطر القلب ووساوسه ، بحيث يكون ذكره تعالى وحبه وخوفه ورجاؤه والفرح به والابتهاج بذكره ، هو المستولي على القلب الغالب عليه ، الذي متى فقده ، فقد قوته ، الذي لا قوام له إلا به ، ولا بقاء له بدونه ، ولا سبيل إلى خلاص القلب من هذه الآلا م التي هي أعظم أمراضه وأفسدها له ، إلا بذلك ، ولا بلاغ إلا بالله وحده ، فإنه لا يوصل إليه إلا هو ، ولا يأتي بالحسنات إلا هو ، ولا يصرف السيئات إلا هو ، ولا يدل عليه إلا هو ، وإذا أراد عبده لأمر هيأه له ، فمنه الإيجاد ، ومنه الإعداد ، ومنه الإمداد . وإذا أقامه في مقام ، أي : مقام كان فبحمده أقامه فيه ، وحكمته إقامته فيه ، ولا يليق به غيره ، ولا يصلح له سواه ، ولا مانع لما أعطى الله ، ولا معطي لما منع ، ولا يمنع عبده حقاً هو للعبد ، فيكون بمنعه ظالماً ، بل منعه ليتوسل إليه بمحابه ليعطيه ، وليتضرع إليه ويتذلل بين يديه ويتملقه ويعطي فقره إليه حقه ، بحيث يشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة فاقة تامة إليه ، على تعاقب الأنفاس . وهذا هو الواقع في نفس الأمر وإن لم يشهده ، فلم يمنع عبده ما العبد محتاج إليه بخلاً منه ولا نقصان من خزائنه ولا استئثاراً عليه بما هو حق للعبد . بل منعه ليرده إليه وليعزه بالتذلل له ، وليغنيه بالافتقار إليه ، وليجبره بالانكسار بين يديه ، وليذيقه بمرارة المنع ، حلاوة الخضوع ولذة الفقر . وليلبسه خلعة العبودية ، وليوليه بعزله أشرف الولايات ، وليشهده حكمته في قدرته ، ورحمته في عزته ، وبره ولطفه في قهره . وأن منعه عطاء وعزله تولية ، وعقوبته تأديب وامتحانه محبة وعطية ، وتسليط أعدائه عليه سائق يسوقه إليه . وبالجملة فلا يليق بالعبد غير ما أقيم فيه . وحكمته وحمده أقاماه في مقامه الذي لا يليق به سواه ولا يحسن أن يتخطاه ، انتهى .
ثم أشار تعالى إلى أن الموت في سبيل الله ليس مما يوجب الحسرة حتى يحذر منه . بل هو مما يوجب الفرح والسرور فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ 157 ]
.
{ وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ } أي : فيه من غير قتال : { لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ } أي : لذنوبكم تنالكم : { وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } أي : الكفرة من منافع الدنيا وطيباتها الفانية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } [ 158 ]
.
{ وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ } على أي : وجه كان حسب القضاء الأسبق : { لإِلَى الله } أي : الذي هو متوفيكم لا غيره : { تُحْشَرُونَ } فيجزيكم بأعمالكم .
لطائف :
الأولى : أطال نحاة المفسرين في قوله تعالى : { وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا } الخ . من الوجوه النحوية في إذا هنا ، وإنه ربما يتبادر أن الموقع لـ " إذ " لا لها ، حيث إن متعلقها وهو قالوا ماض . و إذا ظرف لما يستقبل . فمن قائل بأن إذا لحكاية الحال الماضية ، ومن قائل بأنها للاستمرار . وقيل : إن " كفروا " و " قالوا " مراد بهما المستقبل ، وفي كل مناقشات وتعسفات . والحق أنها تكون للمضي أيضاً . قال المجد الفيروز أبادي : وتجيء إذا للماضي كقوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا } . فلا إشكال .
ونقل الرازي عن قطرب : أن كلمة إذ وإذا يجوز إقامة كل واحدة منهما مقام الأخرى . قال الرازي : وهذا الذي قال قطرب كلام حسن ، وذلك لأنا إذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول منقول عن قائل مجهول ، فلأن يجوز إثباتها بالقرآن العظيم أولى . ثم قال : وكثيراً أرى النحويين يتحيرون في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن ، فإذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهول فرحوا به ، وأنا شديد التعجب منهم . فإنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلاً على صحته ، فلأن يجعلوا ورود القرآن به دليلاً على صحته كان أولى . انتهى .
الثانية : المجهول على ضم الميم في قوله تعالى : { أو متُّم } وهو الأصل لأن الفعل منه يموت . ويقرأ بالكسر وهو لغة طائية . يقال مات يمات مثل خاف يخاف فكما تقول : خفت تقول : مت .
الثالثة : قدم القتل على الموت في الأولى لأنه أكثر ثواباً وأعظم عند الله . فترتيب المغفرة والحرمة عليه أقوى . وقدم الموت في الثانية لأنه أكثر . وهما مستويان في الحشر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } [ 159 ]
.
{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ } أي : للذين تولوا عنك حين عادوا إليك بعد الانهزام ، وللمؤمنين عموماً كما قال تعالى : { بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] . وما مزيدة للتوكيد أو نكرة . ورحمة بدل منها مبين لإبهامها . والتنوين للتفخيم ، أي : ما لنت هذا اللين الخارق للعادة ، مع ما سبّب فعلهم من الغضب الموجب للعنف والسطوة ، لا سيما مع اعتراض من اعترض على ما أشار به ، إلا بسبب رحمة عظيمة : { وَلَوْ كُنتَ فَظّاً } أي : سيء الخلق خشن الكلام : { غَلِيظَ الْقَلْبِ } أي : قاسيه وشديده . تعاملهم بالعنف والجفا : { لاَنفَضُّواْ } أي : تفرقوا : { مِنْ حَوْلِكَ } فلم يسكنوا إليك فلا تتم دعوتك . ولكن الله جعلك سهلاً سمحاً طلقاً ليناً لطيفاً باراً رؤوفاً رحيماً { فَاعْفُ عَنْهُمْ } أي : فيما فرطوا في حقك كما عفا الله عنهم : { وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ } إتماماً للشفقة عليهم : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ } أي : أمر الحرب وغيره تودداً إليهم وتطييباً [ في المطبوع : وتطيباً ] لنفوسهم واستظهاراً بآرائهم وتمهيداً لسنة المشاورة في الأمة . وقد ساق العلامة الرازي وجوهاً أخرى في فائدة أمره تعالى له عليه الصلاة والسلام بمشاورتهم ، منها : أنه صلى الله عليه وسلم ، وإن كان أكمل الناس عقلاً ، إلا أن علوم الخلق متناهية ، فلا يبعد أن يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح مالا يخطر بباله . لا سيما فيما يفعل من أمور الدنيا ، فإنه صلى الله عليه وسلم قال : أنتم أعرف بأمور دنياكم . ومنها : أن الأمر بمشاورتهم لا لأجل لأنه صلى الله عليه وسلم محتاج إليهم ، ولكن لأجل أنه إذا شاورهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصلح في تلك الواقعة ، فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها ، وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله . وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات ، وهو السر في أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد . انتهى .
وقد ثبت مشاورته صلى الله عليه وسلم لأصحابه في عدة أمور منها : أنه شاورهم في يوم بدر في الذهاب إلى العير . فقالوا : يا رسول الله لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك ، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } . ولكن نقول : اذهب فنحن معك وبين يديك ، وعن يمينك وشمالك مقاتلون . وشاورهم أيضاً أين يكون المنزل حتى أشار المنذر بن عَمْرو بالتقدم أمام القوم ، وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو . فأشار جمهورهم بالخروج إليهم فخرج إليهم . وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ . فأبى ذلك عليه السعدان : سعد بن معاذ وسعد بن عُبَاْدَة ، فترك ذلك . وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين ، فقال له الصديق : إنا لم نجيء لقتال أحد ، وإنما جئنا معتمرين فأجابه إلى ما قاله .
وقال صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك : < أشيروا علي ، معشر المسلمين ، في قوم أبنوا أهلي ورموهم ، وأيم الله ما علمت على أهلي من سوء . وأبنوهم بمن ، والله ، ما علمت عليهم إلا خيراً > . واستشار علياً وأسامة في فراق عائشة رضي الله عنها . فكان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها . أفاده الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى .
قال الخفاجي : في الآية إرشاد إلى الاجتهاد وجوازه بحضرته صلى الله عليه وسلم . وقال الرازي : دلت على أنه صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بالاجتهاد إذا لم ينزل عليه الوحي . والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة ، فلهذا كان مأموراً بالمشاورة ، انتهى .
وقال بعض المفسرين : ثمرة الآية وجوب التمسك بمكارم الأخلاق وخصوصاً لمن يدعو إلى الله تعالى ويأمر بالمعروف : { فَإِذَا عَزَمْتَ } أي : بعد المشاورة على أمر واطمأنت به نفسك : { فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ } في الإعانة على إمضاء ما عزمت ، لا على المشورة وأصحابها . قال الرازي : دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الْإِنْسَاْن نفسه ، كما يقول بعض الجهال ، وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافياً للأمر بالتوكل ، بل التوكل هو أن يراعي الْإِنْسَاْن الأسباب الظاهرة ، ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعول على عصمة الحق : { إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [ 160 ]
.
{ إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ } كما نصركم يوم بدر : { فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ } كما فعل يوم أحد : { فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ } استفهام إنكاري مفيد لانتفاء الناصر ذاتاً وصفة وبطريق المبالغة . وهذا تنبيه على أن الأمر كله لله ، وترغيب في الطاعة ، وفيما يستحقون به النصر من الله تعالى والتأييد . وتحذير من المعصية ، ومما يستوجبون به العقوبة بالخذلان . كذا في " الكشاف " { وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ } أي : وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض إليه ، لعلمهم أنه لا ناصر سواه ، ولأن إيمانهم يوجب ذلك ويقتضيه - كذا في " الكشاف " - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ 161 ]
{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ } قرئ بالبناء للمعلوم ، أي : ما صح وما تأتّى لنبي من الأنبياء أن يخون في المغنم ، بعد مقام النبوة وعصمة الأنبياء عن جميع الرذائل ، وعن تأثير دواعي النفس والشيطان فيهم ؛ وبالبناء للمجهول ، أي : ما صح أن ينسب إلى الغلول ويخوِّن . روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ } ، في قطيفة حمراء افتقدت يوم بدر ، فقال بعض الناس : لعل رسول الله أخذها ، فأنزل الله : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ } الآية . قال الترمذي : حسن غريب . ورواه ابن مردويه عن ابن عباس أيضاً ، ولفظه : اتهم المنافقون رسول الله بشيء فُقد ، فأنزل الله تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ } الآية . وهذا تنزيه لمقامه صلى الله عليه وسلم الرفيع ، وتنبيه على عصمته . ثم أشار إلى وعيد الغلول بقوله : { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : بعينه ، حاملاً له على ظهره ، ليفتضح في المحشر ، كما روى الشيخان عن أبي هريرة قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، فذكر الغلول ، فعظمه وعظم أمره ، ثم قال : < لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئاً فقد أبلغتك ، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك - لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول : يا رسول الله أغثني فأقول [ في المطبوع : فأفول ] : لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك - لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئاً قد أبغلتك ، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقاع تخفق ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك شيئاً ، قد أبلغتك ، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول : يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك شيئاً قد بلغت > . لفظ مسلم . وروى البخاري عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص قال : كان على ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يقال له : كركرة فمات ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو في النار ، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلّها . وعن زيد بن خالد الجُهَنِي أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، توفي يوم خيبر ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < صلوا على صاحبكم > ، فتغيرت وجوه الناس لذلك ، فقال : إن صاحبكم غلّ في سبيل الله ، ففتشنا متاعه ، فوجدنا خرزاً من خرز اليهود لا يساوي درهمين - أخرجه أبو داود والنسائي - وروى عبد الله ابن الإمام أحمد عن عُبَاْدَة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذ الوبرة من جنب البعير من المغنم فيقول : < ما لي فيه إلا مثل ما لأحدكم منه . إياكم والغلول ، فإن الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة ، أدوا الخيط والمخيط وما فوق ذلك وجاهدوا في سبيل الله القريب والبعيد في الحضر والسفر . فإن الجهاد باب من أبواب الجنة . إنه لينجي الله تبارك وتعالى به من الهم والغم ، وأقيموا حدود الله في القريب والبعيد ، ولا تأخذكم في الله لومة لائم > . وروى ابن ماجة بعضه . وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عباس قال : حدثني عُمَر بن الخطاب قال : لما كان يوم خيبر ، أقبل نفر من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : فلان شهيد . فلان شهيد . حتى أتوا على رجل فقالوا : فلان شهيد . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < كلا إني رأيته في النهار في بردة غلها أو عباءة > . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < يا ابن الخطاب ! اذهب فناد في الناس إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون > ، قال : فخرجت فناديت : ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون . وكذا رواه مسلم والترمذي . وروى أبو داود عن سَمُرة بن جُنْدب قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غنم غنيمة أمر بلالاً فينادي في الناس ، فيجوزوا بغنائمهم فيخمسه ويقسمه ، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال : يا رسول الله هذا فيما كنا أصبناه من الغنيمة . فقال : < أسمعت بلالاً ينادي ثلاثاً ؟ > قال : نعم . قال : < فما منعك أن تجيء ؟ > فاعتذر . فقال : < كن أنت تجيء به يوم القيامة ، فلن أقبله منك > .
تنبيه :
من المفسرين من جعل الإتيان بالغلول يوم القيامة مجازاً عن الإتيان بإثمه تعبيراً بما غلّ عما لزمه من الإثم مجازاً . قال أبو مسلم : المراد أن الله تعالى يحفظ عليه هذا الغلول ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه لأنه لا يخفى عليه خافية . وقال أبو القاسم الكعبي : المراد أنه يشتهر بذلك ، مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء . وناقشهما الرازي بأن هذا التأويل يحتمل ، إلا أن الأصل المعتبر في علم القرآن أنه يجب إجراء اللفظ على الحقيقة ، إلا إذا قام دليل يمنعه منه ، وههنا لا مانع من الظاهر ، فوجب إثباته - انتهى . ومما يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم : < له رغاء ، له حمحمة . . . > الخ الظاهر في الحقيقة زيادة في النكال .
{ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } تعطى جزاء ما كسبت وافياً ، وإنما عمم الحكم ولم يقل : ثم يوفى ما كسب ، ليكون كالبرهان على المقصود ، والمبالغة فيه ، فإنه إذا كان كل كاسب مجزياً بعمله ، فالغالّ ، مع عظم جرمه بذلك أولى : { وَهُمْ } أي : الناس المدلول عليهم بكل نفس : { لاَ يُظْلَمُونَ } فلا ينقص ثواب مطيعهم ، ولا يزاد في عقاب عاصيهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ 162 ]
.
{ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ } بالطاعة : { كَمَن بَاء } رجع : { بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ } بسبب المعاصي كالغالّ ومن شاكله : { وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [ 163 ]
.
{ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ } أي : طبقات متفاوتة ، تشيبه بليغ ، ووجه ما بينهم من تباين الأحوال في الثواب والعقاب ، كالدرجات في تفاوتها علواً وسفلاً .
قال القاشاني : أي : كل من أهل الرضا وأهل السخط ذوو درجات متفاوتات ، أو هم مختلفون اختلاف الدرجات .
{ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي : بأعمالهم ، فيجازيهم على حسبها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } [ 164 ]
.
{ لَقَدْ مَنَّ اللّهُ } أي : أنعم : { عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ } أي : من جنسهم ، عربياً مثلهم ، ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته ، والانتفاع به ، ولما لم ينتفع بهذا الإنعام إلا أهل الإسلام خصوا بالذكر ، وإلا فبعثته صلى الله عليه وسلم إحسان إلى العالمين ، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] : { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } يعني القرآن بعد ما كانوا أهل جاهلية ، لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي : { وَيُزَكِّيهِمْ } أي : يطهرهم من الذنوب والشرك بدعوته : { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ } أي : القرآن : { وَالْحِكْمَةَ } أي : السنة : { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ } أي : من قبل بعثته صلى الله عليه وسلم وتزكيته : { لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } أي : ظاهر من عبادة الأوثان ، وأكل الخبائث ، وعدوان بعضهم على بعض ، وسواها ، فنقلوا ببعثته صلى الله عليه وسلم من الظلمات إلى النور ، وصاروا أفضل الأمم في العلم والزهد والعبادة ، فعظمت المنة لله تعالى عليهم بذلك . قال الرازي : وفي قوله تعالى : { مِّنْ أَنفُسِهِمْ } وجه آخر من المنة ، وذلك أنه صار شرفاً للعرب ، وفخراً لهم ، كما قال سبحانه : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ } [ الزخرف : 44 ] . وذلك لأن الافتخار بإبراهيم عليه السلام كان مشتركاً فيه بين اليهود والنصارى والعرب ، ثم إن الأولين كانوا يفتخرون بموسى وعيسى والتوراة والإنجيل . فما كان للعرب ما يقابل ذلك . فلما بعث الله محمداً ، وأنزل عليه القرآن ، صار شرف العرب ذلك زائداً على شرف جميع الأمم .
ثم كرر عليهم سبحانه أن هذا القول أصابهم إنما أتوا فيه من قبل أنفسهم وبسبب أعمالهم فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 165 ]
{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا } الهمزة للتقريع والتقرير ، والواو عاطفة للجملة على ما سبق من قصة أحد ، أو على محذوف مثل : أفعلتم : كذا وقلتم . ولما ظرفه المضاف إلى أصابتكم ، أي : حين أصابتكم مصيبة ، وهي قتل سبعين منكم يوم أحد ، والحال أنكم نلتم ضعفيها يوم بدر من قتل سبعين منهم وأسر سبعين : من أين هذا أصابنا وقد وعدنا الله النصر : { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } أي : مما اقترفته أنفسكم من مخالفة الأمر بترك المركز ، فإن الوعد كان مشروطاً بالثبات والمطاوعة .
قال ابن القيم : وذكر سبحانه هذا بعينه فيما هو أعم من ذلك في السورة المكية فقال : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [ الشورى : 30 ] . وقال : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } [ النساء : 79 ] فالحسنة والسيئة ههنا النعمة والمصيبة ، فالنعمة من الله منَّ بها عليك ، والمصيبة إنما نشأت من قبل نفسك وعملك ، فالأول فضله ، والثاني عدله ، والعبد يتقلب بين فضله وعدله ، جارٍ عليه فضله ، ماض فيه حكمه ، عدل فيه قضائه . وختم الآية الأولى بقوله : { إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } بعد قوله : { قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } إعلاماً لهم بعموم قدرته مع عدله ، وأنه عادل قادر ، وفي ذلك إثبات القدر والسبب . فذكر السبب وأضافه إلى نفوسهم ، وذكر عموم القدرة وأضافها إلى نفسه ، فالأول ينفي الجبر ، والثاني ينفي القول بإبطال القدر ، فهو شاكل قوله : { لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ التكوير : 28 - 29 ] . وفي ذكر قدرته ههنا نكتة لطيفة ، وهي أن هذا الأمر بيده وتحت قدرته ، وأنه هو الذي لو شاء لصرفه عنكم ، فلا تطلبوا كشف أمثاله من غيره ، ولا تتكلوا على سواه ، كشف هذا المعنى وأوضحه كل الإيضاح بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ } [ 166 ]
.
{ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أحد : { فَبِإِذْنِ اللّهِ } أي : فهو كائن بقضائه وتخليته الكفار ، فالإذن هنا هو الإذن الكوني القدري ، لا الشرعي الديني ، كقوله في السحر : { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } [ البقرة : 102 ] . ثم أخبر عن حكمة هذا التقدير بقوله : { وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } [ 167 ]
.
{ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ } أي : ليعلم المؤمنين من المنافقين علم عيان ورؤية يتميز فيه أحد الفريقين من الآخر تميزاً ظاهراً : { وَقِيلَ لَهُمْ } عطف على : { نَافَقُواْ } داخل معه في حيز الصلة . أو كلام مبتدأ : { تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ } يعني إن لم تقاتلوا لوجه الله تعالى فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وأموالكم : { قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } أي : لكنه ليس إلا إلقاء النفس في التهلكة : { هُمْ } أي : بهذا القول : { لِلْكُفْرِ } في الظاهر : { يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ } في الظاهر مع أنه لا إيمان لهم في الباطن أصلاً .
فائدتان :
الأولى : قال ابن كثير : استدلوا به على أن الشخص قد تتقلب به الأحوال فيكون في حال أقرب إلى الكفر ، وفي حال أقرب إلى الإيمان .
الثانية : قال الواحدي : هذه الآية دليل على أن من أتى بكلمة التوحيد لم يكفر ، ولم يطلق القول بتكفيره ؛ لأنه تعالى لم يطلق القول بكفرهم ، مع أنهم كانوا كافرين ، لإظهارهم القول بلا إله إلا الله محمد رسول الله . انتهى .
{ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } أي : يظهرون خلاف ما يضمرون لا تواطئ قلوبهم ألسنتهم بالإيمان ، وقوله : { بِأَفْوَاهِهِم } تأكيد على حد : { وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] { وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 168 ]
.
{ الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ } أي : من أجل أقاربهم من قتلى أحد : { وَقَعَدُواْ } أي : والحال قد قعدوا عنهم خذلاناً لهم : { لَوْ أَطَاعُونَا } أي : في الرجوع : { مَا قُتِلُوا } كما لم نقتل : { قُلْ } كأنكم تزعمون ادعاء القدرة على دفع الموت : { فَادْرَؤُوا } أي : ادفعوا : { عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ } أي : فإنها أقرب إليكم من أنفسهم : { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } في أن الموت يغني منه حذر ، والمعنى : أن عدم قتلكم كان بسبب أنه لم يكن مكتوباً عليكم ، لا بسبب أنكم دفعتموه بالقعود ، مع كتابته عليكم ، فإن ذلك مما لا سبيل إليه .
قال ابن القيم : وكان من الحكمة تقديره تعالى في هذه الواقعة تكلم المنافقين بما في نفوسهم ، فسمعه المؤمنون ، وسمعوا رد الله عليهم ، وجوابه لهم ، وعرفوا مواد النفاق ، وما يؤول إليه ، وكيف يحرم صاحبه سعادة الدنيا والآخرة . فيعود عليه بفساد الدنيا والآخرة . فلله كم من حكمة في ضمن هذه القصة بالغة ، ونعمة على المؤمنين سابغة ، وكم فيها من تحذير وتخويف ، وإرشاد وتنبيه ، وتعريف بأسباب الخير والشر ومآلهما وعاقبتهما .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ 169 ]
.
{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً } كلام مستأنف مسوق لبيان أن القتل الذي يحذرونه ويحذّرون الناس منه ، ليس مما يحذر ، بل هو من أجلّ المطالب التي يتنافس فيها المتنافسون ، إثر بيان أن الحذر لا يجدي ولا يغني ، أي : لا تحسبنهم أمواتاً تعطلت أرواحهم : { بَلْ } هم : { أَحْيَاء } فوق الدنيا لأنهم مقربون : { عِندَ رَبِّهِمْ } إذ بذلوا له أرواحهم ، لا بمعنى بقاء أرواحهم ورجوعها إليه ، لمشاركة أرواح غيرهم في ذلك ، بل بمعنى أنهم : { يُرْزَقُونَ } رزق الأحياء ، لا رزقاً معنوياً ، بل حقيقياً . كما روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش . فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم ، وحسن منقلبهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لئلا يزهدوا في الجهاد ، ولا ينكلوا عن الحرب . فقال الله عز وجل : أنا أبلغهم عنكم ، فأنزل الله هؤلاء الآيات : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ } > الخ . هكذا رواه الإمام أحمد ؛ ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه . وأخرج مسلم عن مسروق قال : سألنا عبد الله عن هذه الآية : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ } الخ . فقال : أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال : أرواحهم في جوف طير خضر ، لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة ، فقال : هل تشتهون شيئاً ؟ قالوا : أي : شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ؟ ! ففعل ذلك بهم ثلاث مرات ، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا : يا رب ! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى . فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا .
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < الشهداء على بارق - نهر بباب الجنة - فيه قبة خضراء ، يخرج إليهم رزقهم من الجنة بكره وعشية > - تفرد به أحمد - ورواه ابن جريج بإسناد جيد .
قال ابن كثير : وكأن الشهداء أقسام : منهم من تسرح أرواحهم في الجنة ، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة ، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر ، فيجتمعون هنالك ، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح - والله أعلم - ثم قال : وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثاً فيه البشارة لكل مؤمن ، بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضاً فيها ، وتأكل من ثمارها ، وترى ما فيها من النضرة والسرور ، وتشاهد ما أعدّ الله لها من الكرامة ، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم ، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتعبة ، فإن الإمام أحمد رحمه الله رواه عن محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله عن مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجرة الجنة حتى يرجعه الله تبارك وتعالى إلى جسده يوم يبعثه > . قوله : يعلق أي : يأكل . وفي هذا الحديث أن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة ، وأما أرواح الشهداء ، فكما تقدم ، في حواصل طير خضر ، فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين ، فإنها تطير بأنفسها . فنسأل الله الكريم المنان ، أن يميتنا على الإيمان - انتهى - .
تنبيه :
قال الواحدي : الأصح في حياة الشهداء ، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أن أرواحهم في أجواف طير خضر ، وأنهم يرزقون ويأكلون ويتنعمون .
وقال البيضاوي : الآية تدل على أن الْإِنْسَاْن غير الهيكل المحسوس ، بل هو جوهر مدرك بذاته ، لا يفنى بخراب البدن ، ولا يتوقف عليه إدراكه وتأمله والتذاذه ، ويؤيد ذلك قوله سبحانه وتعالى : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } [ غافر : 46 ] الآية . وحديث : < أرواح الشهداء في أجواف طير . . > الخ .
قال الشهاب : يعني ليس الْإِنْسَاْن مجرد البدن بدون النفس المجردة ، بل هو في الحقيقة النفس المجردة ، وإطلاقه على البدن لشدة التعلق بها ، وهو جوهر مدرك لذاته ، أي : من غير احتياج إلى هذا البدن ، لوصفه بعد مفارقته بالتنعم ونحوه - انتهى .
وقال أبو السعود : في الآية دلالة على أن روح الْإِنْسَاْن جسم لطيف ، لا يفنى بخراب البدن ، ولا يتوقف عليه إدراكه وتألمه والتذاذه . ومن قال بتجريد النفوس البشرية يقول : المراد أن نفوس الشهداء تتمثل طيوراً خضراً أو تتعلق بها فتلتذ بما ذكر - انتهى .
وقد أسلفنا في سورة البقرة ، في مثل هذه الآية ، زيادة على ذلك . فتذكر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ 170 ]
.
{ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ } يعني بما أعطاهم من الثواب والكرامة والإحسان الذين لا يغتم فيه بسلبه : { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ } أي : بإخوانهم المجاهدين الذين : { لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم } لم يقتلوا فيلحقوا بهم : { مِّنْ خَلْفِهِمْ } متعلق بيلحقوا والمعنى : أنهم بقوا من بعدهم وهم قد تقدموهم . أو لم يلحقوا بهم : لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم : { أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } بدل من الذين ، بدل اشتمال مبين أن استبشارهم بحال إخوانهم لا بذواتهم ، والمعنى : ويستبشرون بما تبين لهم من حال من تركوا خلفهم من المؤمنين . وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة ، بشرهم الله بذلك ، فهم مستبشرون به . وفي ذلك حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على الجد في الجهد ، والرغبة في نيل منازل الشهداء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ } [ 171 ]
.
{ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : يسرون بما أنعم الله عليهم ، وما تفضل عليهم من زيادة الكرامة ، وتوفير أجرهم عليهم .
قال أبو السعود : كرر لبيان أن الاستبشار المذكور ليس بمجرد عدم الخوف والحزن ، بل به وبما يقارنه ، من نعمة عظيمة ، لا يقادر قدرها ، وهي ثواب أعمالهم . ثم قال : والمراد بالمؤمنين : إما الشهداء ، والتعبير عنهم بالمؤمنين للإيذان بسمو ربتة الإيمان ، وكونه مناطاً لما نالوه من السعادة . وإما كافة أهل الإيمان من الشهداء وغيرهم ، ذكرت توفية أجورهم على إيمانهم ، وعدت من جملة ما يستبشر به الشهداء بحكم الأخوة في الدين - انتهى - .
وقال ابن القيم : إن الله تعالى عزّى نبه وأولياءه عمن قتل منهم في سبيله أحسن تعزية وألطفها وأدعاها إلى الرضا بما قضاه لهم بقوله : { وَلَا تَحْسَبَنَّ } الآيات - فجمع لهم إلى الحياة الدائمة ، منزلة القرب منه ، وأنهم عنده ، وجريان الرزق المستمر عليهم ، وفرحهم بما آتاهم من فضله ، وهو فوق الرضا ، بل هو كمال الرضا ، واستبشارهم بإخوانهم الذين باجتماعهم بهم يتم سرورهم ونعيمهم ، واستبشارهم بما يجدد لهم كل وقت من نعمته وكرامته ، وذكرهم سبحانه في أثناء هذه المحنة بما هو أعظم منة [ في المطبوع : منه ] ونعمة عليهم ، التي قابلوا بها كل محنة تنالهم وبيلة تلاشت في جنب هذه المنة والنعمة ، ولم يبق لها أثراً البتة ، وهي منّته ، عليهم بإرسال رسول من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وينقذهم من الضلال ، الذي كانوا فيه قبل إرساله ، إلى الهدى ، ومن الشقاء إلى الفلاح ، ومن الظلمة إلى النور ، ومن الجهل إلى العلم . فكل بلية ومحنة تنال العبد بعد حصول هذا الخبر العظيم له ، أمر يسير جداً في جنب الخير الكثير . كما ينال الناس بأذى المطر ، في جنب ما يحصل لهم به من الخير . وأعلمهم أن سبب المصيبة من عند أنفسهم ، ليحذروا ، وأنها بقضائه وقدره ، ليوحدوه ويتكلوا عليه ، ولا يخافوا غيره ، وأخبرهم بما له فيها من الحكم لئلا يتهموا في قضائه وقدره ، وليتعرف إليهم بأنواع صفاته وأسمائه . وسلاّهم بما أعطاهم مما هو أجلّ قدراً وأعظم خطراً مما فاتهم من النصر والغنيمة ، وعزاهم عن قتلاهم بما نالوه من ثوابه وكرامته ، لينافسوا فيه ، ولا يحزنوا عليهم ، فله الحمد كما هو أهله ، وكما ينبغي لكرم وجهه ، وعز جلاله .
ثم قال ابن القيم : ولما انقضت الحرب ، انكفأ المشركون ، فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة لإحراز الذراري والأموال ، فشق ذلك عليهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب : < اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون ، وماذا يريدون ، فإن هم جنبوا الخيل ، وامتطوا الإبل ، فإنهم يريدون مكة ، وإن كانوا ركبوا الخيل ، وساقوا الإبل ، فإنهم يريدون المدينة ، فوالذي نفسي بيده ! لئن أرادوها لأسيرن إليهم ، ثم لأناجزهم فيها > . قال علي : فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون ، فجنبوا الخيل ، وامتطوا الإبل ، ووجهوا مكة . ولما عزموا على الرجوع إلى مكة ، أشرف على المسلمين أبو سفيان ، ثم ناداهم : موعدكم الموسم ببدر . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < قولوا نعم قد فعلنا > . قال أبو سفيان : فذلكم الموعد . ثم انصرف هو وأصحابه ، فلما كان في بعض الطريق ، تلاوموا فيما بينهم ، وقال بعضهم لبعض : لم تصنعوا شيئاً ! أصبتم شوكتهم وحدهم ثم تركتموهم ، وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم ، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنادى في الناس ، وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوهم ، وقال : < لا يخرج معنا إلا من شهد القتال > ، فقال له عبد الله بن أبيّ : أركب معك ، قال : لا . فاستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد والخوف ، وقالوا : سمعاً وطاعة ، واستأذنه جابر بن عبد الله وقال : يا رسول الله ! إني أحب أن لا تشهد مشهداً إلا كنت معك ، وإنما خلفني أبي على بناته ، فَأْذن لي أسير معك ، فأذن له ، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد ، وأقبل مَعْبَد بن أبي مَعْبَد الخُزَاعِي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم . فأمره أن يلحق بأبي سفيان فيخذله ، فلحقه بالروحاء - ولم يعلم بإسلامه - فقال : ما وراءك يا مَعْبَد ؟ فقال : محمد وأصحابه قد تحرقوا عليكم ، وخرجوا في جمع لم يخرجوا مثله ، وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم . فقال : ما تقول ؟ فقال : ما أرى أن ترتحل حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة ، فقال أبو سفيان : والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم ، قال : فلا تفعل ، فإني لك ناصح ، فرجعوا على أعقابهم إلى مكة - انتهى - وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ 172 ]
.
{ الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ } أي : دعوة الله ورسوله إلى الخروج في طلب أبي سفيان إرهاباً له : { مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ } بأحد : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ } بطاعته : { وَاتَّقَواْ } مخالفته : { أَجْرٌ عَظِيمٌ } روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية ، قالت لعروة : يا ابن أختي كان أبواك منهم : الزبير وأبو بكر رضي الله عنهما . لما أصاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ما أصابهم يوم أحد ، وانصرف عنه المشركون ، خاف أن يرجعوا فقال : من يذهب في أثرهم ؟ فانتدب منهم سبعون رجلاً فيهم أبو بكر والزبير ، قال أبو هشام : ولما ثنى مَعْبَد أبا سفيان ومن معه ، كما تقدم ، مرّ بأبي سفيان ركب من عبد القيس ، فقال : أين تريدون ؟ قالوا : نريد المدينة ، قال : ولمَ ؟ قالوا : نريد الميرة ، قال : فهل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة أرسلكم بها إليه ، وأحمل لكم هذه غداً زبيباً بعكاظ إذا وافيتمونا ؟ قالا : نعم ، قال : فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد جمعنا المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم ، فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد ، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه ، فقالوا : حسبنا والله ونعم الوكيل ، فأنزل الله تعالى في ذلك :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ 173 ]
{ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ } أي : الركب المستقبل لهم : { إِنَّ النَّاسَ } أي : أبا سفيان وأصحابه : { قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } أي : الجموع ليستأصلوكم : { فَاخْشَوْهُمْ } ولا تأتوهم : { فَزَادَهُمْ } أي : ذلك القول : { إِيمَاناً } أي : تصديقاً بالله ويقيناً . والمعنى : أنهم لم يلتفتوا إليه ولم يضعفوا ، بل ثبت به عزمهم على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يأمر به وينهى عنه . وفي الآية دليل على أن الإيمان يتفاوت زيادة ونقصاناً ، فإن ازدياد اليقين بتناصر الحجج ، وكثرة التأمل ، مما لا ريب فيه : { وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ } أي : كافينا أمرهم من غير عدة لنا ولا عدد : { وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } أي : الموكول إليه والمفوض إليه الأمر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } [ 174 ]
.
{ فَانقَلَبُواْ } أي : رجعوا من حمراء الأسد : { بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ } يعني : العافية وكمال الشجاعة وزيادة الإيمان والتصلب في الدين : { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } أي : لم يصبهم قتل ولا جراح : { وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ } أي : في طاعة رسوله بخروجهم وجراءتهم : { وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } حيث تفضل عليهم بالعافية وما ذكر معها ، وبالحفظ عن كل ما يسوؤهم . وفي تحسير للمتخلف وتخطئة رأيه حيث حرم نفسه ما فازوا به .
فائدة :
قال السيوطي في " الإكليل " : في قوله تعالى : { وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } استحباب هذه الكلمة عند الغم والأمور العظيمة .
تنبيه :
حمل الآية على غزوة حمراء الأسد ، هو ما قاله الحسن وقتادة وعكرمة وغير واحد . وروي أنها نزلت في غزوة بدر الصغرى . قال ابن أبي نَجِيْح عن مجاهد : في قوله تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ } الآية ، أن أبا سفيان قال ، لما انصرف من أحد : موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < عسى ! > فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده حتى نزل بدراً ، فوافقوا السوق فيها ، فابتاعوا ، فذلك قوله تعالى : { فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ } الآية - قال : وهي غزوة بدر الصغرى - رواه ابن جرير - وأخرج أيضاً عن ابن جريج قال : لما عمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعد أبي سفيان ، فجعلوا يلقون المشركين فيسألونهم عن قريش ، فيقولون : قد جمعوا لكم يكيدونهم بذلك ، يريدون أن يرعبوهم , فيقول المؤمنون : { حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } حتى قدموا بدراً ، فوجدوا أسواقها عافية ، لم ينازعهم فيها أحد .
وروى البيهقي عن عِكْرِمَة عن ابن عباس في قوله : { فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ } قال : النعمة أنهم سلموا ، والفضل أن عيراً مرت في أيام الموسم ، فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فربح فيها مالاً ، فقسمه بين أصحابه .
قال ابن القيم في " الهدى " : إن أبا سفيان قال عند انصرافه من أحد : موعدكم وإيانا العام القابل ببدر ، فلما كان شعبان ، وقيل : ذو القعدة من العام القابل ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده في ألف وخمسمائة ، وكانت الخيل عشرة أفراس ، وحمل لواءه علي بن أبي طالب ، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة ، فانتهى إلى بدر ، فأقام به ثمانية أيام ينتظر المشركين ، وخرج أبو سفيان بالمشركين من مكة ، وهم ألفان ، ومعهم خمسون فرساً ، فلما انتهوا إلى مرّ الظهران ، مرحلة من مكة ، قال لهم أبو سفيان : إن العام عام جدب ، وقد رأيت أن أرجع بكم ، فانصرفوا راجعين ، وأخلفوا الموعد ، فسميت هذه بدر الموعد ، وتسمى بدر الثانية - انتهى - .
قال ابن كثير : والصحيح أن الآية نزلت في شأن غزوة حمراء الأسد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ 175 ]
.
{ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ } أي : قول الشيطان : { يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ } أي : يخوفكم بقوله ، أولياءه الكفار ، وحينئذ فأولياءَه ثاني مفعولي يخوف ، والأول محذوف ، أي : يخوفكم أولياءه ، كما قرئ كذلك ، وقيل : لا حذف فيه ، والمعنى يخوف من يتبعه ، فأما من توكل على الله فلا يخافه : { فَلاَ تَخَافُوهُمْ } أي : أولياءه : { وَخَافُونِ } في مخالفة أمري ورسولي : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } فإن الإيمان يقتضي إيثار خوف الله تعالى على خوف غيره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ 176 ]
.
{ وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } أي : لا تهتم ولا تبال بما يلوح منهم من آثار الكيد للإسلام ومضرة أهله . وقرئ في السبع : { يُحْزِنك } بضم الياء وكسر الزاي : { إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً } قال عطاء : يريد أولياء الله . نقله الرازي . قال أبو السعود : تعليل للنهي ، وتكميل للتسلية بتحقيق نفي ضررهم أبداً ، أي : لن يضروا بذلك أولياء الله البتة . وتعليق نفي الضرر به تعالى لتشريفهم والإيذان بأن مضارتهم بمنزلة مضارته سبحانه ، وفيه مزيد مبالغة في التسلية .
وقال المهايمي : أي : لن يضروا أولياء الله ، لأنهم يحميهم الله ، فلو أضروهم لأضروا الله بتعجزيهم إياه عن حمايتهم ، ولا يمكنهم أن يعجزوه شيئاً بل : { يُرِيدُ اللّهُ } أن يضرهم الضرر الكلي وهو : { أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ } أي : نصيباً من الثواب في الآخرة : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } قال المفسرين : ثمرة هذه الآية أنه لا يجب الاغتمام من معصية العاصين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 177 ]
.
{ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ } أي : استبدلوا : { الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً } فيه تعريض ظاهر باقتصار الضرر عليهم ، كأنه قيل : وإنما يضرون أنفسهم . فإن جعل الموصول عبارة عن المسارعين المعهودين بأن يراد باشتراء الكفر بالإيمان إيثاره عليه ، إما بأخذه بدلاً من الإيمان الحاصل بالفعل ، كما هو حال المرتدين أو بالقوة القريبة منه الحاصلة بمشاهدة دلائله في التوراة ، كما هو شأن اليهود ومنافقيهم . فالتكرير لتقرير الحكم وتأكيده ، ببيان علته ، بتغيير عنوان الموضوع ، فإن ما ذكر في حيز الصلة من الاشتراء المذكور صريح في لحوق ضرره بأنفسهم ، وعدم تعديه إلى غيرهم أصلاً ، كيف وهو علم في الخسران الكلي ، والحرمان الأبدي ، دال على كمال سخافة عقولهم ، وركاكة آرائهم ، فكيف يتأتى منهم ما يتوقف على قوة الحزم ، ورزانة الرأي ، ورصانة التدبير ، من مضارة حزب الله تعالى ، وهي أعز من الأبلق الفرد ، وأمنع من عقاب الجو ، وإن أجرى الموصول على عمومه بأن يراد بالاشتراء المذكور القدر المشترك الشامل للمعنيين المذكورين ، ولأخذ الكفر بدلاً مما نزل منزلة نفس الإيمان من الاستعداد القريب له ، الحاصل بمشاهدة الوحي الناطق ، وملاحظة الدلائل المنصوبة في الآفاق والأنفس ، كما هو دأب جميع الكفرة ، فالجملة مقررة لمضمون ما قبلها تقريراً للقواعد الكلية ، لما اندرج تحتها من جزئيات الأحكام - أفاده أبو السعود - . ثم قال : وقوله تعالى : { وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } جملة مبتدأة مبينة لكمال فظاعة عذابهم ، بذكر غاية إيلامه ، بعد ذكر نهاية عظمه ، قيل : لما جرت العادة باغتباط المشتري بما اشتراه ، وسروره بتحصيله عند كون الصفقة رابحة ، وبتألمه عند كونها خاسرة ، وصف عذابهم بالإيلام مراعاة لذلك . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ 178 ]
.
{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } أي : بتطويل أعمارهم وإمهالهم وتخليتهم وشأنهم دهراً طويلاً : { خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ } بل هو سبب مزيد عذابهم ، لأنه : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً } بكثرة المعاصي فيزدادوا عذاباً : { وَلَهْمُ } أي : في الآخرة : { عَذَابٌ مُّهِينٌ } ذو إهانة في أسفل دركات النار .
لطائف :
الأولى : في ما - من قوله تعالى : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } الأولى - وجهان : أن تكون مصدرية أو موصولة ، حذف عائدها . أي : إملاؤنا لهم أو الذي نمليه لهم .
الثانية كان حق ما في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة ، ولكنها وقعت في مصحف الإمام متصلة ، فلا يخالف ، وتتبع سنة الإمام في خط المصاحف .
الثالثة : ما الثانية في : { إِنَّمَا نُمْلِي } الخ متصلة ، لأنها كافّة .
الرابعة : في قوله تعالى : { مُّهِينٌ } سر لطيف ، وهو أنه لما تضمن الإملاء التمتيع بطيبات الدنيا وزينتها ، وذلك مما يستدعي التعزز والتجبر ، وصف عذابهم بالإهانة ، ليكون جزاؤهم جزاء وفاقاً .
ثم أشار سبحانه وتعالى إلى بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد ، وهو أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب . فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر ، وطار لهم الصيت ، دخل معهم في الإسلام ظاهراً من ليس معهم فيه باطناً ، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبّب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق ، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة ، وتكلموا بما كانوا يكتمونه ، وظهر مخبآتهم ، وعاد تلويحهم صريحاً ، وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقساماً ظاهراً ، وعرف المؤمنون أن لهم عدواً في نفس دورهم ، وهم معهم لا يفارقونهم ، فاستعدوا لهم ، وتحرزوا منهم فقال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ 179 ]
.
{ مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ } أي : يترك : { الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } من الالتباس بالمنافقين ، وبل لا يزال يبتليكم : { حَتَّىَ يَمِيزَ } المنافق : { الْخَبِيثَ مِنَ } المؤمن : { الطَّيِّبِ وَ } لا يميز إلا بهذا الابتلاء لأنه : { مَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } أي : الذي يميز به ما في قلوب الخلق من الإيمان والكفر : { وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء } باطلاعه على الغيب ، كما أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما ظهر منهم من الأقوال والأفعال ، حسبما حكى عنهم بعضه فيما سلف ، فيفضحهم على رؤوس الأشهاد ، ويخلصكم من سوء جوارهم .
قال ابن القيم : هذا استدراك لما نفاه من اطلاع خلقه على الغيب ، كما قال : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ } [ الجن : 26 - 27 ] فحظكم أنتم وسعادتكم في الإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله ، فإن آمنتم به واتقتيم كان لكم أعظم الأجر والكرامة ، في الإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله ، فإن آمنتم به واتقيتم كان لكم أعظم الأجر والكرامة ، كما قال تعالى : { فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ } الذين اجتباهم للاقتداء بهم في الاعتقادات والأعمال : { وَإِن تُؤْمِنُواْ } فتصححوا الاعتقادات : { وَتَتَّقُواْ } فتصلحوا الأعمال : { فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } وههنا :
لطائف :
الأولى : في التعبير عن المؤمن والمنافق بالطيب والخبيث تسجيل على كل منهما ، بما يليق به ، وإشعار بعلة الحكم .
الثانية : إفراد الخبيث والطيب مع تعدد ما أريد بكل منهما وتكثره لا سيما بعد ذكر ما أريد بأحدهما ، أعني : المؤمنين بصيغة الجمع ، للإيذان بأن مدار إفراز أحد الفريقين من الآخر هو اتصافهما بوصفهما لا خصوصية ذاتهما وتعدد آحادهما ، كما في مثل قوله تعالى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } [ النساء : 3 ] ، ونظيره قوله تعالى : { تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ } [ الحج : 2 ] ، حيث قصد الدلالة على الاتصاف بالوصف من غير تعرض لكون الموصوف من العقلاء أو غيرهم .
الثالثة : تعليق الميز بالخبيث المعبر به عن المنافق ، مع أن المتبادر مما سبق من عدم ترك المؤمنين على الاختلاط تعليقه بهم وإفرازهم عن المنافقين ، لما أن الميز الواقع بين الفريقين إنما هو بالتصرف في المنافقين وتغييرهم من حال إلى حال مغايرة للأولى ، مع بقاء المؤمنين على ما كانوا عليه من أصل الإيمان ، وإن ظهر مزيد إخلاصهم ، لا بالتصرف فيهم ، وتغييرهم ، من حال إلى حال أخرى ، مع بقاء المنافقين على ما هم عليه من الاستتار ، ولأن فيه مزيد تأكيد للوعيد كما أشير إليه في قوله تعالى : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } [ البقرة : 220 ] .
الرابعة : إنما لم ينسب عدم الترك إليهم ، لما أنه مشعر بالاعتناء بشأن من نسب إليه ، فإن المتبادر منه عدم الترك على حالة غير ملائمة ، كما يشهد به الذوق السليم .
الخامسة : التعرض للاجتباء في قوله : { يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ } الخ للإيذان بأن الوقوف على أمثال تلك الأسرار الغيبية ، لا يتأتى إلا ممن رشحه الله تعالى لمنصب جليل ، تقاصرت عنه همم الأمم ، واصطفاه على الجماهير لإرشادهم ، وتعميم الاجتباء لسائر الرسل عليهم السلام للدلالة على أن شأنه عليه الصلاة والسلام في هذا الباب أمر متين ، له أصل أصيل ، جار على سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين الرسل عليهم السلام .
السادسة : تعميم الأمر في يقوله تعالى : { فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ } مع أن سوق النظم الكريم للإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ، لإيجاب الإيمان به بالطريق البرهاني ، والإشعار بأن ذلك مستلزم للإيمان بالكل ، لأنه مصدق لما بين يديه من الرسل ، وهم شهداء بصحة نبوته صلى الله عليه وسلم ، والمأمور به الإيمان بكل ما جاء به عليه الصلاة والسلام ، فيدخل فيه تصديقه فيما أخبر به من أحوال المنافقين دخولاً أولياً .
هذا ما اقتبسناه من تفسير العلامة أبي السعود رحمه الله ، وقد استقرب حمل هذه الآية الكريمة على أن تكون مسوقة لبيان الحكمة في إملائه تعالى للكفرة إثر بيان شريته لهم . فالمعنى : ما كان الله ليذر المخلصين على الاختلاط أبداً كما تركهم كذلك إلى الآن ، لسر يقتضيه ، بل يفرز عنهم المنافقين ، ولذلك فعله يومئذ ، حيث خلى الكفرة وشأنهم ، فأبرز لهم صورة الغلبة ، فأظهر من في قلوبهم مرض ، ما فيها من الخبائث وافتضحوا على رؤوس الأشهاد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ 180 ]
.
{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ } اعلم أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل النفس في الجهاد في الآيات المتقدمة ، شرع ههنا في التحريض على بذل المال في سبل الله ، وبيّن الوعيد الشديد لمن يبخل ببذله فيه وإيراد ما بخلوا به بعنوان : " إيتاء الله تعالى إياه من فضله " للمبالغة في بيان سوء صنيعهم ، فإن ذلك من موجبات بذله في سبيله كما في قوله تعالى : { وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [ الحديد : 7 ] { بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } لاستجلاب العقاب عليهم ، والتنصيص على شريته لهم ، مع انفهامها من نفي خيريته ، للمبالغة في ذلك ، والتنوين للتفخيم : { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } بيان لكيفية شرية مآل ما بخلوا به . وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن هذا الوعيد على طريق التمثيل أي : سيلزمون وبال ما بخلوا به لزوم الطوق ، وذهب آخرون إلى أنه على ظاهره ، وأنه نوع من العذاب الأخروي المحسوس ، وأيدوه بما روى البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته ، مُثِّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول : أنا مالك ، أنا كنزك > ، ثم تلا هذه الآية : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ } إلى آخرها .
وروى الإمام أحمد والنسائي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثِّل الله عز وجل له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع ، له زبيبتان ، ثم يلزمه يطوِّقه يقول : أنا كنزك ، أنا كنزك > .
وروى الإمام أحمد والترمزي والنسائيَ وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < لا يمنع عبد زكاة ماله إلا جعل له شجاع أقرع يتبعه, يفر منه وهو يتبعه, فيقول : أنا كنزك > . ثم قرأ عبد الله مصداقه في كتاب الله : { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . قال الترمذي : حسن صحيح .
وروى الحافظ أبو يعلى عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < من ترك بعده كنزاً مثل له شجاعاً أقرع ، له زبيبتان ، يتبعه . فيقول : من أنت ويلك ؟ فيقول : أنا كنزك الذي خلفت بعدك ، فلا يزال يتعبه حتى يلقمه يده فيقضمها ، ثم يتبع سائر جسده > ، قال الحافظ ابن كثير : إسناده جيد قوي ، ولم يخرجوه ، وقد رواه الطبراني عن جرير بن عبد الله البجلي . ورواه ابن جرير والحافظ ابن مردويه عن حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < لا يأتي رجل مولاه فيسأله من فضل مال عنده ، فيمنعه إياه ، إلا دُعي له يوم القيامة شجاع يتلمظ فضله الذي منع > .
وروى ابن جرير مرفوعاً : < ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل جعله الله عنده ، فيبخل به عليه ، إلا أخرج له من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه > . ورواه أيضاً موقوفاً ومرسلاً .
والشجاع كغراب وكتاب : الحية مطلقاً ، أو الذكر منها ، أو ضرب منها دقيق ، وهو أجرؤها - كذا في القاموس وشرحه - .
ثم أشار تعالى إلى أنهم ، وإن لم ينفقوا أموالهم في سبيله ، فهي راجعة إليه بقوله : { وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : ما يتوارثه أهلهما من مال وغيره ، فما لهم يبخلون عليه بملكه ، ولا ينفقونه في سبيله . ونظيره قوله تعالى : { وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [ الحديد : 7 ] ، فالميراث على هذا على حقيقته ، أو المعنى : أنه يفني أهل السموات والأرض ، ويصير أملاك أهلهما بعد فنائهم إلى خالص ملكه ، كما يصير مال المورث ملك الوارث ، فجرى ما هنا مجرى الوراثة ، إذ كان الخلق يدعون الأملاك ظاهراً ، وإلا فالكل له ، وعلى هذا فهو مجاز .
قال الزجاج رحمه الله : أي : أن الله تعالى يفني أهلهما ، فيفنيان بما فيهما ، فليس لأحد فيهما ملك ، فخوطبوا بما يعلمون ، لأنهم يجعلون ، ما يرجع إلى الْإِنْسَاْن ميراثاً ، ملكاً له : { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : فيجازيكم على المنع والبخل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } [ 181 ]
.
{ لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء } روى الحافظان ابن مردويه وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : لما نزل قوله تعالى : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] ، قالت اليهود : يا محمد ! افتقر ربك ، فسأل عباده القرض ، فأنزل الله هذه الآية .
وروى محمد بن إسحاق عن عِكْرِمَة عن أبن عباس قال : دخل أبو بكر الصديق بيت المدراس ، فوجد من يهود ناساً كثيرة ، قد اجتمعوا على رجل منهم يقال له : فنحاص ، وكان من علمائهم وأحبارهم ، ومعه حبر يقال له : أشيع ، فقال له أبو بكر : ويحك يا فنحاص ! اتق الله واسلم ، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول من عند الله ، قد جاءكم بالحق من عنده ، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل . فقال فنحاص : والله يا أبا بكر ، ما بنا إلى الله من حاجة من فقر ، وإنه إلينا لفقير ، ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا ، وإنا عنه لأغنياء ، ولو كان عنا غنياً ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم . ينهاكم عن الربا ، ويعطينا ، ولو كان غنياً ما أعطاناً الربا . فغضب أبو بكر رضي الله عنه ، فضرب وجه فنحاص ضرباً وشديداً ، وقال : والذي نفسي بيده ! لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله . فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين . فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ! أبصر ما صنع بي صاحبك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما حملك على ما صنعت يا أبا بكر ؟ > فقال : يا رسول الله إن عدو الله قال قولاً عظيماً . يزعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء ، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال ، فضربت وجهه ، فجحد فنحاص ذلك وقال : ما قلت ذلك . فأنزل الله فيما قال فنحاص : { لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ } الآية . ولما كان مثل هذا القول ، سواء كان من اعتقاد ، أو استهزاء بالقرآن والرسول - وهو الظاهر - لا يصدر إلا عن تمرد عظيم لكونه في غاية العظم والهول ، أشار إلى وعيده الشديد بقوله : { سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ } أي : ما قالوه من هذه العظيمة الشنعاء في صحائف الحفظة : { وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ } إنما نظم مع ما قبله إيذاناً بسوابقهم القبيحة ، وأنه ليس أول جريمة ارتكبوها ، وأن من اجترأ على قتل الأنبياء لم يستبعد منه هذا الكلام : { وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ 182 ]
.
{ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } أي : يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً وتحقيراً وتصغيراً ، بسبب هتكهم حرمة الله ، وحرمة كلامه وأنبيائه المبلغين له .
لطائف :
الأولى : إيراد صيغة الجمع في الآية مع كون القائل واحداً ، كما روي ، لرضا الباقين بذلك ، ونظائره في التنزيل كثيرة .
الثانية : إضافة عذاب الحريق بيانية ، أي : العذاب الذي هو الحريق .
الثالثة : الذوق إدراك الطعوم ، ثم اتسع فيه لإدراك سائر المحسوسات والحالات ، وذكره ههنا ، لأن العذاب مرتب على قولهم الناشئ عن البخل ، والتهالك على المال ، وغالب حاجة الْإِنْسَاْن إليها لتحصيل المطاعم ، ومعظم بخله به للخوف من فقدانه ، ولذلك كثر ذكر الأكل مع المال - أفاده البيضاوي - .
الرابعة : تقديم الأيدي عملها ، لأن من يعمل شيئاً يقدمه ، والتعبير بالأيدي عن الأنفس من حيث أن عامة أفاعيلها إنما تزاول بهنّ ، فهو من قبيل التعبير عن الكل بالجزء الذي مدار جلّ العمل عليه .
الخامسة : إن قيل : ظلاّم صيغة مبالغة من الظلم ، تفيد الكثير ، ولا يلزم من نفي الظلم الكثير نفي الظلم القليل ، فلو قيل : بظالم ، لكان أدل على نفي الظلم قليله وكثيره ! . فالجواب عنه من أوجه :
أحدها : أن الصيغة للنسب من قبيل بزّاز وعطّار لا للمبالغة ، والمعنى : لا ينسب إلى الظلم .
الثاني : أن فعالاً قد جاء . لا يراد به الكثرة ، كقوله طرفة :
~ولستُ بحلاَّل التِّلاعِ مخافةً ولكن متى يَسْتَرفِدِ القومُ أرفِدِ
لا يريد ههنا أنه قد يحل التلاع قليلاً ، لأن ذلك يدفعه قوله : متى يسترفد القوم أرفد . وهذا يدل على نفي البخل في كل حال ، ولأن تمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة .
والثالث : أن المبالغة لرعاية جمعية العبيد ، من قولهم : فلان ظالم لعبده ، وظلام لعبيده ، فالصيغة للمبالغة كماً لا كيفاً .
الرابع : أنه إذا نفي الظلم الكثير انتفى الظلم القليل ضرورة ، لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم ، فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر ، كان للظلم القليل المنفعة أترك .
الخامس : إن المبالغة لتأكيد معنى بديع, وذلك لأن جملة : { وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } - اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها, أي : والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم . والتعبير عن ذلك بنفي الظلم لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه سبحانه من الظلم, كما يعبر عن ترك الإثابة على الأعمال بإضاعتها . وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقين } [ 183 ]
.
{ الَّذِينَ قَالُوا } نصب بتقدير " أعني " أو رفع على الذم بتقدير " هم الذين قالوا " : { إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا } أي : أمرنا : { أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ } أي : تبكيتاً لهم ، وإظهاراً لكذبهم : { قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ } أي : المعجزات الواضحة : { وَبِالَّذِي قُلْتُمْ } بعينه من تشريع القربان الذي تأكله النار : { فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ } أي : فلم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقيْنَ } في أنكم تتبعون الحق وتنقادون للرسل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِير } [ 184 ]
{ فَإِنْ كَذَّبُوكَْ } أي : بعد بطلان عذرهم المذكور : { فَقَدْ كُذِّبَ } أي : فلا تحزن وتسلّ فقد كذب : { رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ } جمع زبور أي : الكتب الموحاة منه تعالى : { وَالْكِتَابِ الْمُنِير } أي : الواضح الجلي . والزبور والكتاب : واحد في الأصل, وإنما ذكرا لاختلاف الوصفين . فالزبور فيه حكم زاجرة, والكتاب المنير هو المشتمل على جميع الشريعة .
فائدة :
في قربان أهل الكتاب وتشريعه عندهم
اعلم أن القربان بضم القاف معناه لغةً : ما يتقرب به إلى الله تعالى وسيلة لمرضاته . قال في " مرشد الطالبين " : ذبائح العبرانيين عديدة جداً, وكان المستعمل هذه الذبيحة, بتعيين الله, الثيران والنعاج والمعز والحمام واليمام . وكانت الذبائح نوعين عامّين : إحداهما كانت تقرّب لتكفير الخطايا, والأخرى شكراً لله على مراحمه وبركاته .
ثم قال : فالذبيحة اليومية كانت مشهورة جداً, وهي خروف بلا عيب, يقدم وقوداً لله كفارة للخطايا, وذلك مرتان صباحاً ومساءً, طول مدة السنة, فالتي في الصباح تقدم عن خطايا الشعب ليلاً, والتي في المساء عن خطاياهم نهاراً . وقبل فعل الذبيحة تعترف كل الشعوب بخطاياها فوق الحيوان المراد ذبحه على يد الكاهن الخادم, وبهذا كان ينقل الإثم إليه بواسطة وضع وكلاء الشعب أيديهم على رأسه, ثم يذبح ويقرب وقوداً . وفي غضون ذلك تسجد الجماعة في الدار, وتبخر الكهنة على المذابح الذهبية, ويقدمون الطلبات لله عن الشعب, وأما في يوم السبت, فكانت تتضاعف الذبيحة, ويقرب في كل دفعة خروفان .
ثم قال : يوم الكفارة كان ممتازاً بالذبيحة السنوية, وهي أنه بعد أن يقرب الكاهن ثوراً كفارة لخطايا عائلته يقرب ماعزان كفارة لخطايا الشعب - انتهى - .
وقد أشير لكيفية ذبح القربان وحرقه في مواضع من التوراة . منها : سفر الخروج في الفصل التاسع والعشرين . ومنها : في الفصل الأول من سفر الأحبار المسمين باللاويين ونصه : ودعا الرب موسى وخاطبه من خباء المحضر قائلاً : خاطب بني إسرائيل وقل لهم : أي : إنسان منكم قرب قرباناً للرب من البهائم فمن البقر والغنم يقربون قرابينهم إن كان قربانه محرقة من البقر, فذكراً صحيحاً يقربه عند باب خباء المحضر يقربه للرضوان عنه, وضع يده على رأس المحرقة ويترضى به ليغفر له, ثم يذبح الثور ويقرب الكهنة بنو هارون الدم وينضحون الدم على المذبح, وما أحاط به في باب قبة الشهادة - يعني التابوت الذي كان فيه لوحا التوراة المسماة شهادة - ثم يسلخون المحرقة, ويقطعونها قطعاً, ثم يوقدون ناراً على المذبح, وينضدون الحطب على النار, ثم يجعلون الأعضاء المقطعة الرأس والشحم على الحطب الذي على النار على المذبح, ويغسلون أكارعه وجوفه بالماء, ثم يصعده الكاهن ويجعله على المذبح وقوداً وقرباناً لرضا الرب . . . الخ .
وفي الفصل السادس من سفر الأحبار : وكلم الرب موسى قائلاً : مرْ هارون وبنيه, وقل لهم : هذه شريعة المحرقة, تكون المحرقة على وقيدة المذبح طول الليل إلى الغداة, ونار المذبح متقدة عليه, ويلبس الكاهن قميصه من الكتان, وسراويلات من الكتان على بدنه, ويرفع الرماد الذي آلت إليه نار المحرقة على المذبح, ويجعله إلى جانب المذبح, ثم يخلع ثيابه ويلبس ثياباً أخر, ويخرج الرماد إلى خارج المحلة إلى موضع طاهر, وتبقى النار على المذبح متقدة لا تطفأ, ويضع عليها الكاهن حطباً في كل غداة . . . الخ .
قال بعضهم : زعم الربانيون أن النار التي كانت في هيكل سليمان ، والتي أمر اليهود بحفظها دون أن تطفأ البتة ، كان أصلها من النار التي نزلت من السماء بعد تقدمة هارون وأبنائه المحرقات ، وأنها بقيت إلى أيام الخراب الهيكل على يد بختنصر ، إلا أنه ليس في التوراة ما يصرح بذلك - انتهى - .
وهذه النار التي نزلت من السماء جاء ذكرها في الفصل التاسع من سفر الأحبار وملخصه : أن موسى أمر هارون عليهما السلام أن يذبح قرباناً , فذبح عجلاً وأحرق لحمه وجلده خارج المحلة ، وأما شحمه وكليتاه وزيادة كبده فقترها على المذبح ، ثم قرب تيساً وثوراً وكبشاً بكيفية خاصة ، ثم دخل موسى وهارون خباء المحضر ، فخرجت نار من عند الرب ، فأكلت المحرقة والشحوم التي على المذبح ، فنظر جميع الشعب وهتفوا مسبحين وسجدوا - انتهى - .
إذا علمت ذلك ، فقوله تعالى : { تَأْكُلُهُ النَّارُ } بمعنى أن يذبح على الكيفية المعروفة ، ثم تنزل نار من السماء فتأكله ، وتكون معجزة وآية كما حصل في عهد موسى وهارون من نزول النار وأكلها المحرقة ، كما ذكرنا . وفي عهد سليمان أيضاً ، فقد جاء في الفصل التاسع من سفر أخبار الأيام الثاني : أن سليمان لما أتم الدعاء هبطت النار من السماء وأكلت المحرقة والذبائح ، وكان جميع بني إسرائيل يعاينون هبوط النار . انتهى .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } [ 185 ]
.
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ } كقوله : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } [ الرحمن : 26 - 27 ] . وفي هذه الآية تعزية لجميع الناس ، ووعد ووعيد للمصدق والمكذب : { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : تعطون جزاء أعمالكم وافياً يوم القيامة ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر . قال الزمخشري : فإن قلت : فهذا يوهم نفي ما يروى أن القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ! قلت : كلمة التوفية تزيل هذا الوهم ، لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون ذلك اليوم ، وما يكون قبل ذلك فبعض الأجور .
وقال الرازي : بيّن تعالى أن تمام الأجر والثواب لا يصل إلى المكلف إلا يوم القيامة ، لأن كل منفعة تصل إلى المكلف في الدنيا فهي مكدرة بالغموم والهموم ، وبخوف الانقطاع والزوال ، والأجر التام والثواب الكامل إنما يصل إلى المكلف يوم القيامة ، لأن هناك يحصل السرور بلا غم ، والأمن بلا خوف ، واللذة بلا ألم ، والسعادة بلا خوف الانقطاع . وكذا القول في العقاب ، فإنه لا يحصل في الدنيا ألم خالص عن شوائب اللذة ، بل يمتزج به راحات وتخفيفات ، وإنما الألم التام الخالص الباقي هو الذي يكون يوم القيامة ، نعوذ بالله منه { فَمَن زُحْزِحَ } أي : أبعد : { عَنِ النَّارِ } التي هي مجمع الآفات والشرور : { وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ } الجامعة للَّذات والسرور : { فَقَدْ فَازَ } أي : حصل الفوز العظيم ، وهو الظفر بالبغية ، أعني النجاة من سخط الله والعذاب السرمد ، ونيل رضوان الله والنعيم المخلد . وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة ، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه > . وأخرجه مسلم أيضاً : { وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } أي : لذاتها : { إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } المتاع : ما يتمتع وينتفع به ، والغرور : بضم الغين مصدر غره ، أي : خدعه وأطمعه بالباطل ، وإنما وصف عيش الدنيا بذلك لما تمنِّيه لذاتها من طول البقاء ، وأمل الدوام ، فتخدعه ثم تصرعه . قال بعض السلف : الدنيا متاع متروك يوشك أن يضمحل ويزول . فخذوا من هذا المتاع واعملوا فيه بطاعة الله ما استطعتم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } [ 186 ]
.
{ لَتُبْلَوُنَّ } أي : لتختبرن : { فِي أَمْوَالِكُمْ } بما يصيبها من الآفات : { وَأَنفُسِكُمْ } بالقتل والأسر والجراح وما يرد عليها من أصناف المتاعب والمخاوف والشدائد . وهذا كقوله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ } [ البقرة : 155 - 156 ] ، إلى آخر الآيتين - أي : لا بد أن يبتلي المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله . وفي الحديث : < يبتلى المرء على قدر دينه ، فإن كان في دينه صلابة ، زيد في البلاء > { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً } بالقول والفعل : { وَإِن تَصْبِرُواْ } على ذلك : { وَتَتَّقُواْ } أي : مخالفة أمره تعالى : { فَإِنَّ ذَلِكَ } أي : الصبر والتقوى : { مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } أي : من معزومات الأمور التي يتنافس فيها المتنافسون . أي : مما يجب أن يعزم عليه كل أحد ، لما فيه من كمال المزية والشرف . أو مما عزم الله تعالى عليه وأمر به وبالغ فيه . يعني : أن ذلك عزمة من عزمات الله تعالى ، لا بد أن تصبروا وتتقوا . وفي إبراز الأمر بالصبر والتقوى في صورة الشرطية ، من إظهار كمال اللطف بالعبادة ، ما لا يخفى . أفاده أبو السعود .
قال بعض المفسرين : ثمرة الآية وجوب الصبر . وأن الجهاد لا يسقط مع سماع ما يؤذي .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } [ 187 ]
.
{ وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } وهم علماء اليهود والنصارى : { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } أي : لتظهرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار التي من جملتها أمر نبوته صلى الله عليه وسلم . وفي قوله تعالى : { وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } من النهي عن الكتمان ، بعد الأمر بالبيان ، مبالغة في إيجاب المأمور به : { فَنَبَذُوهُ } أي : الميثاق : { وَرَاء ظُهُورِهِمْ } أي : طرحوه ولم يراعوه ، ونبذُ الشيء وراء الظهر مثل في الاستهانة به ، والإعراض عنه بالكلية . كما أن جعله نصب العين علم في كمال العناية به : { وَاشْتَرَوْاْ بِهِ } أي : استبدلوا به : { ثَمَناً قَلِيلاً } أي : شيئاً حقيراً من حطام الدنيا : { فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } بتغيير كلام الله ونبذ ميثاقه .
قال بعض المفسرين : ثمرة الآية وجوب إظهار الحق ، وتحريم كتمانه ، فيدخل فيه بيان الدين والأحكام والفتاوى والشهادات وغير ذلك مما يجب إظهاره . وقد تقدم هذا ، وإن المراد بذلك إذا لم يؤد إلى مفسدة ، ويدخل في الكتم ؛ منع الكتب المنطوية على علم الدين حيث تعذر الأخذ إلا منها .
وقال العلامة الزمخشري عليه الرحمة : كفى بهذه الآية دليلاً على أنه مأخوذ على العلماء أن يبينوا الحق للناس وما علموه ، وأن لا يكتموا منه شيئاً لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة ، وتطييب لنفوسهم ، واستجلاب لمسارهم ، أو لجر منفعة وحطام الدنيا ، أو لتقية مما لا دليل عليه ولا أمارة ، أو لبخل بالعلم ، وعيرة أن ينسب إليه غيرهم - انتهى - .
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من سئل عن علم ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار > - أخرجه الترمذي - ولأبي داود : < من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة > . وقال أبو هريرة : لولا ما أخذ الله عز وجل على أهل الكتاب ما حدثكم بشيء . ثم تلا : { وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ } الآية .
لطيفة :
قال العلامة أبو السعود : في تصوير هذه المعاملة بعقد المعاوضة ، لا سيما بالاشتراء المؤذن بالرغبة في المأخوذ ، والإعراض عن المعطي ، والتعبير عن المشتري الذي هو العمدة في العقد والمقصود بالمعاملة بالثمن الذي شأنه أن يكون وسيلة إليه ، وجعل الكتاب الذي حقه أن يتنافس فيه المتنافسون ، مصحوباً بالباء الداخلة على الآلات والوسائل - من نهاية الجزالة والدلالة على كمال فظاعة حالهم وغاية قبحها بإيثارهم الدنيء الحقير ، على الشريف الخطير ، وتعكيسهم بجعلهم المقصد وسيلة ، والوسيلة مقصداً - ما لا يخفي جلالة شأنه ورفعة مكانه - انتهى - .
ثم أشار تعالى أنهم لا يرون قبح ذلك بل يفرحون به فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 188 ]
.
{ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ } أي : بما فعلوا من اشتراء الثمن القليل بتغيير كلام الله تعالى : { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } من وفاء الميثاق من غير تغيير ولا كتمان : { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ } أي : بمنجاة : { مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } بكفرهم وتدليسهم .
روى الإمام أحمد عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، أن مروان قال : اذهب يا رافع " لبوابه " إلى ابن عباس فقل : لئن كان كل امرئ منا فرح بما أوتي ، وأحب أن يحمد بما لم يفعل ، لنعذبن أجمعون . فقال ابن عباس : ما لكم وهذه ، إنما نزلت هذه في أهل الكتاب ، ثم تلا ابن عباس : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } - إلى قوله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، وقال ابن عباس : سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه . وهكذا رواه البخاري في التفسير ، ومسلم الترمذي والنسائي في تفسيريهما ، وابن أبي حاتم وابن خزيمة والحاكم في مستدركه ، وابن مردويه بنحوه . ورواه البخاري أيضاً عن علقمة بن وقاص أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس - فذكره - وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رجالاً من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو وتخلفوا عنه ، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فنزلت : { وَلَا تَحْسَبَنَّ } الآية - وكذا رواه مسلم بنحوه .
ولا منافاة بين الروايتين ، لأن الآية عامة في جميع ما ذكر ، ومعنى نزول الآية في ذلك وقوعها بعد ذلك ، لا أن أحد الأمرين كان سبباً لنزولها . كما حققناه غير مرة .
تنبيه :
هذه الآية ، وإن كانت محمولة على الكفار لما تقدم ، ففيها ترهيب للمؤمنين عما ذم عليه أهلها من الإصرار على القبائح والفرح بها ومحبة المدح بما عرا عنه من الفضائل . ويدخل في ذلك المراؤون المتكثرون بما لم يعطوا ، كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم : < من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة > .
وفي الصحيحين أيضاً : < المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور > . فليحذر من يأتي بما لا ينبغي ويفرح به ثم يتوقع من الناس أن يصفوه بسداد السيرة واستقامة الطريقة والزهد والإقبال على الله تعالى .
فائدة :
قرأ ابن كثير وأبو عَمْرو بالياء وفتح الباء في الأول وضمها في الثاني ، وفاعل الأول " الذين يفرحون " . وأما مفعولاه فمحذوفان اكتفاء بمفعولي : { تَحْسَبَنَّهُمْ } لأن الفاعل فيهما واحد . فالفاعل الثاني تأكيد للأول ، وحسن لما طال الكلام المتصل بالأول . والفاء زائدة ، إذ ليست للعطف ولا للجواب ، وثمة وجوه أخرى .
لطيفة :
تصدير الوعيد بنهيهم عن الحسبان المذكور ، للتنبيه على بطلان آرائهم الركيكة ، وقطع أطماعهم الفارغة ، حيث كانوا يزعمون أنهم ينجون بما صنعوا من عذاب الآخرة ، كما نجوا به من المؤاخذة الدنيوية ، وعليه كان مبنى فرحهم . وأما نهيه صلى الله عليه وسلم فللتعريض بحسبانهم المذكور ، لا لاحتمال وقوع الحسبان من جهته عليه الصلاة والسلام - أفاده أبو السعود - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 189 ]
.
{ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فهو قادر على عقابهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ } [ 190 ]
.
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : في إيجادها على ما هما عليه من الأمور المدهشة ، تلك في ارتفاعها واتساعها ، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها ، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات ، وثوابت وبحار ، وجبال وقفار وأشجار ، ونبات وزروع ، وثمار وحيوان ، ومعادن ومنافع ، مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص : { وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أي : في تعاقبهما ، وكون كل منهما خلفة للآخر ، بحسب طلوع الشمس وغروبها ، أو في تفاوتهما بازدياد كل منهما انتقاص الآخر ، وانتقاصه بازدياده : { لآيَاتٍ } أي : لأدلة واضحة على الصانع وعظيم قدرته ، وباهر حكمته . والتنكير للتفخيم كمّاً وكيفاً ، أي : كثرة عظيمة : { لِّأُوْلِي الألْبَابِ } أي : لذوي العقول المجلوّة بالتزكية والتصفية بملازمة الذكر دائماً كما قال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [ 191 ]
.
{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ } أي : فلا يخلو حال من أحوالهم عن ذكر الله المفيد صفاء الظاهر المؤثر في تصفية الباطن . فالمراد : تعميم الذكر للأوقات ، وعدم الغفلة عنه تعالى . وتخصيص الأحوال المذكورة بالذكر ، ليس لتخصيص الذكر بها ، بل لأنها الأحوال المعهودة التي لا يخلو عنها الْإِنْسَاْن غالباً : { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : في إنشائهما بهذه الأجرام العظام ، وما فيهما من عجائب المصنوعات ، وغرائب المبتدعات ، ليدلهم ذلك على كمال قدرة الصانع سبحانه وتعالى ، فيعلموا أن لهما خالقاً قادراً مدبراً حكيماً ، لأن عظم آثاره وأفعاله تدل على عظم خالقها تعالى . كما قيل :
~وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
روى ابن أبي الدنيا في " كتاب التوكل والاعتبار " عن الصوفي الجليل الشيخ أبي سليمان الداراني قدس الله سره أنه قال : إني لأخرج من منزلي ، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عليّ فيه نعمة ، ولي فيه عبرة . وإنما خصص التفكر بالخلق للنهي عن التفكر في الخالق لعدم الوصول إلى كنه ذاته وصفاته .
خرّج ابن أبي حاتم من حديث عبد الله بن سلام : لا تفكروا في الله ، ولكن تفكروا فيما خلق ، وله شواهد كثيرة .
قال الرازي : دلائل التوحيد محصورة في قسمين : دلائل الآفاق ، ودلائل الأنفس ، ولا شك أن دلائل الآفاق أجل وأعظم ، كما قال تعالى : { لَخَلْقُ السَّمَوَاتِوَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [ غافر : 57 ] . ولما كان الأمر كذلك ، لا جرم أمر في هذه الآية الفكر في خلق السموات والأرض ، لأن دلالتها أعجب ، وشواهدها أعظم ، وكيف لا نقول ذلك ، ولو كأن الْإِنْسَاْن نظر إلى ورقة صغيرة من أوراق شجرة ، رأى في تلك الورقة عرقاً واحدا ًممتداً في وسطها ، ثم يتشعب من ذلك العرق عروق كثيرة إلى الجانبين ، ثم يتشعب منها عروق دقيقة ، ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخر ، حتى تصير في الدقة بحيث لا يرها البصر ، وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكماً بالغة ، وأسراراً عجيبة ، وأن الله تعالى أودع فيها قوى جاذبة لغذائها من قعر الأرض ، ثم إن ذلك الغذاء يجري في تلك العروق ، حتى يتوزع على كل جزء من أجزاء تلك الورقة ، جزءٌ من أجزاء ذلك الغذاء بتقدير العزيز العليم ، ولو أراد الْإِنْسَاْن أن يعرف كيفية خلقة تلك الورقة ، وكيفية التدبير في إيجادها ، وإيداع القوى الغاذية والنامية فيها ، لعجز عنه . فإذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلقة تلك الورقة الصغيرة ، فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السموات ، مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم . وإلى الأرض مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان ؛ عرف أن تلك الورقة بالنسبة إلى هذه الأشياء كالعدم . فإذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير ، عرف أنه لا سبيل له البتة إلى الإطلاع على عجائب حكمة الله في خلق السموات والأرض ، وإذا عرف بهذا البرهان النيّر قصور عقله وفهمه عن الإحاطة بهذا المقام ، لم يبق معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجل وأعظم من أن يحيط به وصف الواصفين ومعارف العارفين . بل يسلم أن كل ما خلقه ففيه حكم بالغة ، وأسرار عظيمة ، وإن كان لا سبيل إلى معرفتها . وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى : { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً } على إرادة القول بمعنى يتفكرون قائلين ذلك . وكلمة : { هَذا } متضمنة لضرب من التعظيم ، أي : ما خلقت هذا المخلوق البديع العظيم الشأن عبثاً ، عارياً عن الحكمة ، خالياً عن المصلحة ، بل منتظماً لحكم جليلة ، ومصالح عظيمة . من جملتها أن يكون دلالة على معرفتك ، ووجوب طاعتك ، واجتناب معصيتك ، وأن يكون مداراً لمعايش العباد ، ومناراً يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد .
لطيفة :
قال أبو البقاء : باطلاً مفعول من أجله . والباطل ، هنا ، فاعل بمعنى المصدر ، مثل العاقبة والعافية . والمعنى : ما خلقتهما عبثاً . ويجوز أن يكون حالاً . تقديره ما خلقت هذا خالياً عن حكمة . ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف ، أي : خلقاً باطلاً - انتهى - .
وقوله : { سُبْحَانَكَ } أي : تنزيهاً لك من العبث ، وأن تخلق شيئاً بغير حكمة : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } قال السيوطي : فيه استحباب هذا الذكر عند النظر إلى السماء . ذكره النووي في " الأذكار " . وفيه تعليم العباد كيفية الدعاء ، وهو تقديم الثناء على الله تعالى أولاً ، كما دل عليه قوله : { سُبْحَانَكَ } ثم بعد الثناء يأتي الدعاء ، كما دل عليه : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } .
وعن فَضَالة بن عبيد رضي الله عنه قال : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعوا في صلاته ، لم يمجد الله تعالى ، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < عجل هذا > ، ثم دعاه فقال له أو لغيره : < إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه سبحانه ، والثناء عليه ، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يدعو بعد بما شاء > . رواه أبو داود والترمذي وقال : حديث صحيح .
واعلم أنه لما حكى تعالى عن هؤلاء العباد المخلصين أن ألسنتهم مستغرقة بذكر الله تعالى ، وأبدانهم في طاعة الله ، وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله ، ذكر أنهم مع هذه الطاعات يطلبون من الله أن يقيهم عذاب النار ، ثم أتبعوا ذلك بما يدل على عظم ذلك العقاب وشدته وهو الخزي ، بقولهم :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } [ 192 ]
.
{ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } أي : أهنته وأظهرت فضيحته لأهل الموقف . وسر هذا الإتباع عظم موقع السؤال ، لأن من سأل ربه حاجة ، إذا شرح عظمها وقوتها ، كانت داعيته في ذلك الدعاء أكمل ، وإخلاصه في طلبه أشد ، والدعاء [ في المطبوع : الدعائ ] لا يتصل بالإجابة ، إلا إذا كان مقروناً بالإخلاص ، وهذا أيضاً تعليم من الله تعالى فنّاً آخر من آداب الدعاء : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } تذييل لإظهار نهاية فظاعة حالهم ، ببيان خلود عذابهم ، بفقدان من ينصرهم ، ويقوم بتخليصهم . وغرضهم تأكيد الاستدعاء . ووضع الظالمين موضع ضمير المدخلين ، لذمهم ، والإشعار بتعليل دخولهم النار بظلمهم ، ووضعهم الأشياء في غير مواضعها . وجمع الأنصار بالنظر إلى جمع الظالمين ، أي : ما لظالم من الظالمين نُصَيْر من الأنصار . والمراد به من ينصر بالمدافعة والقهر . فليس في الآية دلالة على نفي الشفاعة ، على أن المراد بالظالمين هم الكفار - أفاده أبو السعود - .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ } [ 193 ]
.
{ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً } حكاية لدعاء آخر لهم ، وتصدير مقدمة الدعاء بالنداء لإظهار كمال الضراعة والابتهال ، والتأكيد للإيذان بصدور المقال عنهم بوفور الرغبة ، وكمال النشاط . والمراد بالمنادى : الرسول صلى الله عليه وسلم ، والتنوين للتفخيم ، وهذا كقوله تعالى : { وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ } [ الأحزاب : 46 ] . وفي وصفه صلى الله عليه وسلم بالمنادي دلالة على كمال اعتنائه بشأن الدعوى وتبليغاً إلى الداني والقاصي ، لما فيه من الإيذان برفع الصوت : { يُنَادِي لِلإِيمَانِ } أي : لأجل الإيمان بالله . فإن قلت : فأي فائدة في الجمع بين المنادي وينادي ؟ قلت : ذكر النداء مطلقاً ، ثم مقيداً بالإيمان تخفيماً لشأن المنادي ، لأنه لا منادي أعظم من منادٍ ينادي للإيمان . ونحوه قولك : مررت بهادٍ يهدي للإسلام ، وذلك أن المنادي إذا أطلق ، ذهب الوهم إلى مناد للحرب ، أو لإطفاء النائرة ، أو لإغاثة المكروب ، أو لكفاية بعض النوازل ، أو لبعض المنافع . وكذلك الهادي قد يطلق على من يهدي للطريق ، ويهدي لسداد الرأي ، وغير ذلك . فإذا قلت : ينادي للإيمان ، ويهدي للإسلام ، فقد رفعت من شأن المنادي والهادي ، وفخمته . ويقال : دعاه لكذا وإلى كذا ، وندبه له وإليه ، وناداه له وإليه ، ونحوه : هداه للطريق وإليه . وذلك أن معنى انتهاء الغاية ، ومعنى الاختصاص واقعان جميعاً - أفاده الزمخشري - .
{ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا } أي : فامتثلنا أمره ، وأجبنا نداءه ، و : { أن } إما تفسيرية ، أي : آمنوا ، أو مصدرية ، أي : بأن آمنوا : { رَبَّنَا } تكرير للتضرع ، وإظهار لكمال الخضوع : { فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا } أي : استر لنا ذنوبنا ولا تفضحنا بها ، وأذهب عنا سيئاتنا بتبديلها حسنات : { وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ } أي : معدودين في جملتهم حتى نكون في درجتهم يوم القيامة . والأبرار جمع بارّ أو بر وهو كثير البر بالكسر أي : الطاعة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [ 194 ]
.
{ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ } أي : على تصديق رسلك والإيمان بهم . أو على ألسنة رسلك . وهو الثواب ، وهذا حكاية لدعاء آخر لهم ، معطوف على ما قبله . وتكرير النداء لما مرّ : { وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } قصدوا بذلك تذكير وعده تعالى بقوله : { يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ } [ التحريم : 8 ] بإظهار أنهم ممن آمن معه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ } [ 195 ]
.
{ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي } أي : بأني : { لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى } بيان لعامل وتأكيد لعمومه : { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } أي : الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر , كلكم بنو آدم . وهذه جملة معترضة مبينة سبب شركة النساء مع الرجال ، فيما وعد الله عباده العاملين . وروى الحافظ سعيد بن منصور في سننه عن أم سلمة أنها قالت : يا رسول الله ، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء ، فأنزل الله تعالى : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } الآية - وقالت الأنصار : هي أول ظعينة قدمت علينا - ورواه الترمذي ، والحاكم في " مستدركه " وقال : صحيح على شرط البخاري ، ولم يخرجاه . وروى ابن مردويه عن مجاهد عن أم سلمة قالت : آخر آية نزلت : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } إلى آخرها . وعن جعفر الصادق رضي الله عنه : من حزَبَهُ أمر ، فقال : خمس مرات ربَّنا أنجاه الله مما يخاف ، وأعطاه ما أراد . وقرأ الآيات .
{ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ } مبتدأ ، وهو تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له والتفخيم, كأنه قال : فالذين عملوا هذه الأعمال السنية وهي المهاجرة عن أوطانهم فارّين إلى الله بدينهم من دار الفتنة : { وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ } أي : التي ولدوا فيها ونشأوا : { وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي } أي : من أجله وبسببه, يريد سبيل الإيمان بالله وحده, وهو متناول لكل أذى نالهم من المشركين : { وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا } أي : غزوا المشركين واستشهدوا : { لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } جملة قسمية, خبر المبتدأ الذي هو الموصول, وهذا تصريح بوعد ما سأله الداعون بخصوصه, بعد ما وعد ذلك عموماً : { وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } أي : من تحت قصورها الأنهار, من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن ، وغير ذلك مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر : { ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } في موضع المصدر المؤكد لما قبله, فإن تكفير السيئات وإدخال الجنة, في معنى الإثابة . وأضافه إليه تعالى ليدل على أنه عظيم, لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلاً كثيراً . كما قيل :
~إن يعاقبْ يكن غراماً وإن يع طِ جزيلاً فإِنَّه لا يُبالي
{ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ } أي : حسن الجزاء لمن عمل صالحاً . ثم بين تعالى قبح ما أوتي الكفرة من حظوظ الدنيا, وكشف عن حقارة شأنها وسوء مغبتها, إثر بيان حسن ما أوتي المؤمنون من الثواب, بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ } [ 196 ]
{ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ } أي : تصرفهم فيها بالمتاجر والمكاسب, أي : لا تنظر إلى ما هم عليه من سعة الرزق ودرك العاجل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } [ 197 ]
{ مَتَاعٌ قَلِيلٌ } أي : هو متاع قليل, لقصر مدته, وكونه بُلغةً فانية, ونعمة زائلة, فلا قدر له في جنب ما أعد الله للمؤمنين .
وفي صحيح مسلم عن النبيَ صلى الله عليه وسلم : < والله ! ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم, فلينظر بم يرجع > .
{ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أي : مصيرهم الذي إليه يأوون : { وَبِئْسَ الْمِهَاد } أي : الفراش هي .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَار ِ } [ 198 ]
{ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِِ } بيان لكمال حسن حال المؤمنين, غبّ بيان وتكرير له, إثر تقرير, مع زيادة خلودهم في الجنات ليتم بذلك سرورهم, ويزداد تبجحهم, ويتكامل به سوء حال الكفرة . والنزل بضمتين, وضم فسكون : المنزل, وما هُيَئ للنزيل أن ينزل عليه : { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَار } أي : مما يتقلب فيه الفجر من المتاع القليل الزائل . والتعبير عنهم بالأبرار للإشعار بأن الصفات المعدودة من أعمال البر, كما أنها من قبيل التقوى .
روى الشيخان - واللفظ للبخاريَ - عن عُمَر بن الخطاب قال : جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإذا هو في مشربة, وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء, وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف, وعند رجليه قرظ مصبور, وعند رأسه أهب معلقة, فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت ، فقال : < ما يبكيك > ؟ قلت : يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هم فيه, وأنت رسول الله ! فقال : < أما ترضى أن تكون لهم الدنيا, ولنا الآخرة > ؟
وروى ابن أبي حاتم وعبد الرزاق عن عبد الله بن مسعود أنه قال : ما من نفس برة ولا فاجرة, إلا الموت خير لها ، لئن كان برَاً, لقد قال الله تعالى : { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ } وقرأ : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ آل عِمْرَان : 178 ] .
وروى ابن جرير عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان يقول : ما من مؤمن إلا والموت خير له, وما من كافر إلا والموت خير له, ومن يصدقني فإن الله يقول : { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ } ويقول : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } الآية . وأخرج نحوه رَزين عن ابن عباس .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ 199 ]
{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
جملة مستأنفة سيقت لبيان أن أهل الكتاب ليس كلهم كمن حكيت هناتهم من نبذ الميثاق, وتحريف الكتاب وغير ذلك . بل منهم طائفة يؤمنون بالله حق الإيمان, ويؤمنون بما أنزل على النبيَ صلى الله عليه وسلم مع ما هم مؤمنون به من الكتب المتقدمة, وأنهم خاشعون لله, أي : مطيعون له, خاضعون متذللون بين يديه, لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً, أي : لا يكتمون ما بأيديهم من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم . وهؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم, سواء كانوا هوداً أو نصارى, وقد قال تعالى في سورة القصص : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا } [ القصص : 52 - 54 ] الآية, وقال تعالى : { وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ] , وقال تعالى : { لَيْسُواْ سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } [ آل عِمْرَان : 113 ] . وهذه الصفات توجد في اليهود, ولكن قليلاً, كما وجد في عبد الله بن سلام وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود, ولم يبلغوا عشرة أنفس . وأما النصارى فكثير منهم يهتدون وينقادون للحق, كما قال تعالى : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ } [ المائدة : 82 - 85 ] .
وهكذا قال هنا : { أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ } .
وقد ثبت في الحديث أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما قرأ سورة " كهيعص " بحضرة النجاشي ملك الحبشة ، وعنده البطاركة والقساقسة ، بكى وبكوا معه حتى أخضبوا لحاهم .
وثبت في الصحيحين أن النجاشي لما مات نعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال : < إن أخاً لكم بالحبشة قد مات فصلوا عليه > ، فخرج إلى الصحراء فصفهم وصلى عليه .
وروى ابن أبي حاتم والحافظ أبو بكر بن مردويه عن أنس بن مالك قال : لما توفي النجاشي ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < استغفروا لأخيكم > . فقال بعض الناس : يأمرنا أن نستغفر لعلج مات بأرض الحبشة ؟ ! فنزلت : { وإن من أهل الكتاب } الآية - ورواه عبد بن حميد أيضاً مرسلاً . ورواه ابن جرير عن جابر ، وفيه : فقال المنافقون : يصلي على علج مات بأرض الحبشة ؟ ! فنزلت .
وروى الحاكم في " مستدركه " عن عبد الله بن الزبير قال : نزل بالنجاشي عدوّ من أرضهم ، فجاءه المهاجرون فقالوا : إنا نحب أن نخرج إليهم حتى نقاتل معك وترى جرأتنا ونجزيك ما صنعت بنا ، فقال : لداءٌ بنصر الله عز وجل ، خير من دواء بنصرة الناس . قال : وفيه نزلت : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } الآية - ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه .
وقال ابن أبي نَجِيْح عن مجاهد : وإن من أهل الكتاب ، يعني : مسلمة أهل الكتاب .
وقال عَبَّاد بن منصور : سألت الحسن البصري عن قول الله : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } الآية - قال : هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، فاتبعوه وعرفوا الإسلام ، فأعطاه الله أجر اثنين : للذي كانوا عليه من الإيمان قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، واتباعهم محمداً صلى الله عليه وسلم - رواه ابن أبي حاتم - .
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ثلاثة يؤتون أجورهم مرتين > ، فذكر منهم رجلاً من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي - أفاده ابن كثير - .
ثم إن الإخبار , في آخر الآية ، بكونه تعالى : { سَرِيعُ الْحِسَابِ } . كناية عن كمال علمه بمقادير الأجور ومراتب الاستحقاق ، وأنه يوفيها كل عامل على ما ينبغي ، وقدر ما ينبغي . ويجوز أن يكون كناية عن قرب إنجاز ما وعد من الأجر لكونه من لوازمها . ولكونها من لوازمها أشبه التأكيد ، فلذا لم يعطف عليه - والله أعلم - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ 200 ]
.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ } أي : على مشاق الطاعات وما يمسكم من المكاره والشدائد : { وَصَابِرُواْ } أي : غالبوا أعداء الله في الصبر على شدائد الجهاد . لا تكونوا أقل صبراً منهم وثباتاً . والمصابرة : باب من الصبر . ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه ، تخصيصاً ، لشدته وصعوبته - كذا في " الكشاف " - : { وَرَابِطُواْ } أي : أقيموا على مرابطة الغزو في نحر العدو بالترصد والاستعداد لحربهم ، وارتباط الخيل . قال الله تعالى : { وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } [ الأنفال : 60 ] ، والرباط في الأصل أن يربط كل من الفريقين خيولهم في ثغره ، وكل معد لصاحبه ، ثم صار لزوم الثغر رباطاً . وربما سميت الخيل أنفسها رباطاً ، وقد يتجوّز بالرباط عن الملازمة والمواظبة على الأمر ، فتسمى : رباطاً ومرابطة .
قال الفارسي : هو ثان من لزوم الثغر ، ولزوم الثغر ثان من رباط الخيل . وقد وردت الأخبار بالترغيب في الرباط ، وكثرة أجره . فمنها ما رواه البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < رباط يوم في سبيل الله ، خير من الدنيا وما عليها > .
وروى مسلم عن سلمان الفارسي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < رباط يوم وليلة ، خير من صيام شهر وقيامه > ، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله ، وأجري عليه رزقه ، وأمِنَ الفُتّان .
وروى الإمام أحمد عن فَضَالة بن عبيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < كل ميت يختم على عمله ، إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله ، فإنه ينمو عمله إلى يوم القيامة ، ويأمن فتنة القبر > ، وهكذا رواه أبو داود والترمذي وقال : حسن صحيح . وأخرجه ابن حبان في صحيحه أيضاً . وبقيت أحاديث أخر ساقها الحافظ ابن كثير في تفسيره .
هذا ومن الوجوه في قوله تعالى : { رَابِطُواْ } أن يكون معناه انتظار الصلاة بعد الصلاة . فقد روى مسلم والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < ألا أخبركم بما يمحوا الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط > ، فشبه صلى الله عليه وسلم ما ذكر من الأفعال الصالحة بالرباط .
وروى الحاكم في " مستدركه " والحافظ ابن مردويه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : أقبل عليَّ أبو هريرة يوماً فقال : أتدري ، يا ابن أخي ! فيم نزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ } ؟ قلت : لا ؟ قال : أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه ، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ، ويصلون الصلاة في مواقيتها ، ثم يذكرون الله فيها ، فعليهم أنزلت : { اصْبِرُواْ } أي : على الصلوات الخمس : { وَصَابِرُواْ } أنفسكم وهواكم ورابطوا في مساجدكم .
{ وَاتَّقُواْ اللّهَ } فيما عليكم : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : تفوزون بما يغتبط به ، و " لعل " لتغييب المآل . لئلا يتكلوا على الآمال .
خاتمة
فيما ورد في الآيات الأواخر من هذه السورة ، وفي فضل هذه السورة بتمامها . قال الحافظ ابن كثير : قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عِمْرَان إذا قام من الليل لتهجده .
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بتُّ عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ، ثم رقد ، فلما كان ثلث الليل الآخر ، قعد فنظر إلى السماء ، فقال : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } ثم قال فتوضأ ، واستن ، ثم صلى إحدى عشرة ركعة ، ثم أذن بلال ، فصلى ركعتين ، ثم خرج فصلى بالناس الصبح - وهكذا رواه مسلم ، ورواه البخاري من طريق أخرى بلفظ : حتى إذا انتصف الليل ، أو قبله بقليل ، أو بعده بقليل ، استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من منامه ، فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده ، ثم قرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عِمْرَان . . الحديث - وهكذا أخرجه الجماعة من طرق .
وروى ابن مردويه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : أمرني العباس أن أبيت بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأحفظ صلاته ، قال : فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة العشاء الأخيرة ، حتى إذا لم يبق في المسجد أحد غيري ، قام فمر بي فقال : من هذا ؟ عبد الله ؟ قلت : نعم ! قال : فمه ؟ قلت : أمرني العباس أن أبيت بكم الليلة ، قال : فالحق ، الحق . فلما دخل قال : افرش ، عبد الله ! فأتى بوسادة من مسوح ، قال : فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها حتى سمعت غطيطه ، ثم استوى على فراشه قاعداً ، قال : فرفع رأسه إلى السماء فقال : < سبحان الملك القدوس > ثلاث مرات ثم تلا هذه الآيات من آخر سورة آل عِمْرَان حتى ختمها .
وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من حديث علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه حديثاً في ذلك أيضاً .
وروى ابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة بعد ما مضى ليل ، فنظر إلى السماء وتلا هذه الآية : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } إلى آخر السورة ، ثم قال : < اللهم اجعل في قلبي نوراً ، وفي سمعي نوراً ، وفي بصري نوراً ، وعن يميني نوراً ، وعن شمالي نوراً ، ومن بين يديّ نوراً ، ومن خلفي نوراً ، ومن فوقي نوراً ، ومن تحتي نوراً ، وأعظم لي نوراً يوم القيامة > . وهذا الدعاء ثابت في بعض طرق الصحيح من رواية كريب عن ابن عباس رضي الله عنه .
وروى ابن مروديه وعبد بن حميد حديثاً عن عائشة ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } إلى قوله : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } ثم قال : ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها > .
ومما ورد في فضل هذه السورة ما أخرجه مسلم والترمذي من حديث النواس بن سمعان : < يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به ، تقدمُه سورة البقرة وآل عِمْرَان > . وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ، ما نسيتهن بعد ، قال : كأنهما غمامتان ، أو ظلتان سوداوان ، بينهما شرق أي : ضياء ونور ، أو كأنهما حزقان من طير صوافَّ تحاجَّان عن صاحبهما .
والله سبحانه الموفق .
تمّ تفسير هذه السورة صباح الجمعة في 11 ذي القعدة الحرام سنة 1318 وذلك في حرم جامع السنانية في الشباك القبلي من السدة اليمنى العليا بيد جامعه الفقير محمد جمال الدين القاسمي الدمشقي غفر له ولوالديه وللمؤمنين .
آمين .
ويليه الجزء الثالث وفيه : تفسير سورة النساء .(/)
سورة النساء
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُم مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتّقُواْ اللّهَ الّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } [ 1 ]
{ يَا أَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمُ } أي : اخشوه أن تخالفوه فيما أمركم به أو نهاكم عنه .
ثم نبههم على اتصافه بكمال القدرة الباهرة ، لتأييد : { الّذِي خَلَقَكُم مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ } أي : فرّعكم من أصل واحد ، وهو نفس أبيكم آدم ، وخلقهُ تعالى إياهم على هذا النمط البديع مما يدل على القدرة العظيمة ، ومن قدر على نحوه كان قادراً على كل شيء ، ومنه عقابهم على معاصيهم .
فالنظر فيه يؤدي إلى الاتقاء من موجبات نقمته ، وكذا جعلُه تعالى إياهم صنواناً مفرعة من أرومة واحدة من موجبات الاحتراز عن الإخلال بمراعاة ما بينهم من حقوق الأخوة .
كما ينبئ عنه ما يأتي من الإرشاد إلى صلة الأرحام ، ورعاية حال الأيتام ، والعدل في النكاح وغير ذلك .
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجليّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه أولئك النفر من مضر ، وهم مجتابو النمار ( أي : من عريهم وفقرهم ) قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته : < : { يَا أَيّهَا النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ النساء : من الآية 1 ] حتى ختم الآية ، ثم قال : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدّمَتْ لِغَدٍ } [ الحشر : من الآية 18 ] > ، ثم حضهم على الصدقة فقال : < تصدق رجل من ديناره ، من درهمه ، من صاع بره ، من صاع تمره > ، وذكر تمام الحديث .
وهكذا رواه أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود في خطبة الحاجة .
وفيها : ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها : { أَيّهَا النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمُ } الآية { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } أي : من نفسها ، يعني من جنسها ليكون بينهما ما يوجب التآلف والتضامّ ، فإن الجنسية علة الضم ، وقد أوضح هذا بقوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدّةً وَرَحْمَةً إِنّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ } [ الروم : 21 ] .
{ وَبَثّ مِنْهُمَا } أي : نشر من تلك النفس وزوجها المخلوقة منها ، بطريق التوالد والتناسل .
{ رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً } أي : كثيرة .
وترك التصريح بها للاكتفاء بالوصف المذكور .
{ وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } تكرير للأمر وتذكير لبعض آخر من موجبات الامتثال به ، فإن سؤال بعضهم بعضاً بالله تعالى بأن يقولوا : أسألك بالله وأنشدك الله ، على سبيل الاستعطاف ، يقتضي الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه .
وتعليق الاتقاء بالاسم الجليل لمزيد التأكيد والمبالغة في الحمل على الامتثال بتربية المهابة وإدخال الروعة ، ولوقوع التساؤل به لا بغيره من أسمائه تعالى وصفاته .
و : { تَسَاءَلُونَ } أصله تتساءلون ، فطرحت إحدى التاءين تخفيفاً ، وقرئ بإدغام تاء التفاعل في السين لتقاربهما في الهمس ، وقرئ تسألون ( من الثلاثيّ ) أي : تسألون به غيركم ، وقد فسر به القراءة الأولى والثانية ، وحمل صيغة التفاعل على اعتبار الجمع ، كما في قولك : رأيت الهلال وتراءيْناه -أفاده أبو السعود - .
وقوله تعالى : { وَالْأَرْحَامَ } قرأ حمزة بالجر عطفاً على الضمير المجرور ، والباقون بالنصب عطفاً على الاسم الجليل ، أي : اتقوا الله والأرحام أن تقطعوها ، فإن قطيعتها مما يجب أن يتقى ، أو عطفاً على محل الجار والمجرور ، كقولك مررت بزيدٍ وعمراً .
وينصره قراءة : { تَسَاءَلُونَ بِهِ وَبِالْأَرْحَامِ } فإنهم كانوا يقرنونها في السؤال والمناشدة بالله عز وجل .
ويقولون : أسألك بالله وبالرحم ، ولقد نبه سبحانه وتعالى ، حيث قرنها باسمه الجليل ، على أن صلتها بمكان منه ، كما في قوله تعالى : { أَلّا تَعْبُدُوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ الإسراء : من الآية 23 ] ، وقال تعالى : { وَاعْبُدُوا اللّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمسَاكِينِ } [ النساء : من الآية 36 ] .
وقد روى الشيخان عن عائشة - رَضِي اللّهُ عَنْهَا - عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < الرحم معلقة بالعرش ، تقول : من وصلني وصله الله ، ومن قطعني قطعه الله > .
ورويا أيضاً عن جُبير بن مطعم - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < لا يدخل الجنة قاطع > .
قال سفيان في روايته : يعني قاطع رحم .
وروى البخاريّ عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < ليس الواصل بالمكافئ ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها > .
ورويا عن أبي هريرة - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : < من كان يؤمن بالله ، واليوم الآخر فليصل رحمه > ، والأحاديث في الترغيب بصلة الرحم ، وترهيب من قطيعتها كثيرة .
تنبيه :
دلت الآية على جواز المسألة بالله تعالى : كذا قاله الرازيّ ، ووجهه أنه تعالى أقرهم على هذا التساؤل ، لكونهم يعتقدون عظمته ، ولم ينكره عليهم ، نعم من أدّاه التساؤل باسمه تعالى إلى التساهل في شأنه وجعله عرضة لعدم إجلاله ووسيلة للأبواب الساسانية ، فهذا محظور قطعاً .
وعليه يحمل ما ورد من لعن من سأل بوجه الله ، كما سنذكره ، وقد ورد في هذا الباب أحاديث وافرة .
منها عن ابن عمر قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < من استعاذ بالله فأعيذوه ، ومن سألكم بالله فأعطوه ، ومن دعاكم فأجيبوه ، ومن أتى عليكم معروفاً فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه > ، رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم .
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن ابن عباس مرفوعاً : < من استعاذ بالله فأعيذوه ، ومن سألكم بوجه الله فأعطوه > .
وعن ابن عمر مرفوعاً : < من سئل بالله فأعطى كتب له سبعون حسنة > ، رواه البيهقيّ بإسناد ضعيف .
وفي البخاريّ عن البراء بن عازب : < أمرنا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بسبع > ، وذكر منها : < وإبرار القسم > .
وروى أبو داود والضياء في " المختارة " بإسناد صحيح عن جابر مرفوعاً : < لا يُسأل بوجه الله تعالى إلا الجنة > .
وروى الطبرانيّ عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً : < ملعون من سَأل بوجه الله ، وملعون من سُئل بوجه الله ثم منع سائله ، ما لم يسأل هجراً > ، قال السيوطيّ : إسناده حسن .
وقال الحافظ المنذريّ : رجاله رجال الصحيح إلا شيخه ( يعني الطبرانيّ ) يحيى بن عثمان بن صالح ، وهو ثقة وفيه كلام .
وهُجْراً ( بضم الهاء وسكون الجيم ) أي : ما لم يسأل أمراً قبيحاً لا يليق ، ويحتمل أنه أراد ما لم يسأل سؤالاً قبيحاً بكلام قبيح . انتهى .
وعن أبي عبيدة ، مولى رِفاعة ، عن رافع أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < ملعون من سَأل بوجه الله ، وملعون من سُئل بوجه الله فمنع سائله > ، رواه الطبراني .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < ألا أخبركم بشر الناس ؟ رجل يُسأل بوجه الله ولا يعطي > ، رواه الترمذيّ .
وقال : حسن غريب ، والنسائيّ وابن حبان في صحيحه .
وعن أبي هريرة - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < ألا أخبركم بشر البرية ؟ > قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : < الذي يُسأل بالله ولا يعطي > .
{ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } أي : مراقباً لجميع أحوالكم وأعمالكم ، يراها ويعلمها فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، كما قال [ تعالى ] : { وَاللّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } .
وفي الحديث : < اعبد اللهَ كَأنكَ تراهُ ، فإن لمْ تكن تراه فإنه يَراك > .
وهذا إرشاد وأمر بمراقبته تعالى ، فعلى المرء أن يراقب أحوال نفسه ، ويأخذ حذره من أن ينتهز الشيطان منه فرصة فيهلك على غفلة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطّيّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } [ 2 ]
{ وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ } شروع في تفصيل موارد الاتقاء ومظانه بتكليف ما يقابلها أمراً ونهياً .
وتقديمُ ما يتعلق باليتامى لإظهار كمال العناية بأمرهم ولملابستهم بالأرحام ، إذ الخطاب للأولياء والأوصياء ، وقلما تفوض الوصاية إلى الأجانب .
واليتيم من مات أبوه ، من اليتم ، وهو الانفراد ، ومنه الدرة اليتيمة ، والقياس الاشتقاقيّ يقتضي وقوعه على الصغار والكبار .
وقد خصه الشرع بمن لم يبلغ الحلم .
كما روى أبو داود بإسناد حسن عن عليّ عليه السلام عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لا يُتْمَ بعد احتلام > .
وفي الآية وجوه :
الأول : أن يُراد باليتامى الكبار الذين أونس منهم الرشد مجازاً ، باعتبار ما كان ، أوثر لقرب العهد بالصغر ، والإشارة إلى وجوب المسارعة إلى دفع أموالهم إليهم حينئذ ، حتى كأنّ اسم اليتيم باق بعدُ ، غير زائل .
الثاني : أن يُراد بهم الكبار حقيقة ، واردةً على أصل اللغة .
الثالث : أن يُراد بهم الصغار ، وبـ ( الإيتاء ) ما يدفعه الأولياء والأوصياء إليهم من النفقة والكسوة ، لا دفعها إليهم ، وفيه بُعْدٌ .
الرابع : أن يُراد بهم ما ذكر .
وبـ ( إيتائهم ) الأموال ، أن لا يطمع فيها الأولياء ، والأوصياء ، وولاة [ في المطبوع ولاة ] السوء ، وقضاته ، ويكفوا عنها أيديهم الخاطفة حتى تؤتى اليتامى إذا بلغوا سالمة غير محذوفة ، فالتجوّز في الإيتاء حينئذ باستعماله في لازم معناه وهو تركها سالمة لأنها لا تؤتى إلا إذا كانت كذلك .
قال الناصر في " الانتصاف " : هذا الوجه قويّ بقوله بعد آيات : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتّى إِذَا بَلَغُوا النّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } [ النساء : من الآية 6 ] دل على أن الآية الأولى في الحض على حفظها لهم ليؤتوها عند بلوغهم ورشدهم .
والثانية : في الحض على الإيتاء الحقيقيّ عند حصول البلوغ والرشد .
ويقويه أيضاً قوله عقيب الأولى : { وَلَا تَتَبَدّلُوا } الخ ، فهذا كله تأديب للوصيّ ما دام المال بيده واليتيم في حجره .
وأما على الوجه الأول فيكون مؤدى الآيتين واحداً وهو الأمر بالإيتاء حقيقة ، ويخلص عن التكرار بأن الأولى كالمجملة ، والثانية كالمبيّنة لشرط الإيتاء : من البلوغ وإيناس الرشد ، والله أعلم .
{ وَلَا تَتَبَدّلُوا الْخَبِيثَ بِالطّيّبِ } أي : ولا تستبدلوا الحرام ، وهو مال اليتامى بالحلال وهو ما لكم ، وما أبيح لكم من المكاسب ، ورزق الله المبثوث في الأرض فتأكلوه مكانه .
{ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } نهى عن منكر آخر كانوا يتعاطونه ، أي : لا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم مخلوطة بها للتوسعة .
{ إِنّهُ } أي : الأكل : { كَانَ حُوباً } أي : ذنباً عظيماً ، وقرئ بفتح الحاء ، وقوله تعالى : { كَبِيراً } مبالغة في بيان عظم ذنب الأكل المذكور ، كأنه قيل من كبار الذنوب .
تنبيه :
خص من ذلك مقدار أجر الملل عند كون الوليّ فقيراً لقوله تعالى : { وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالمعْرُوفِ } كذا قاله البيضاويّ وتابعه أبو السعود .
وعندي أنه لا حاجة إلى تخصيص هذا النهي بالفقير في هذه الآية لأنها في الغنيّ ، لقوله : { إِلَى أَمْوَالِكُمْ } فلا يشمل مساقها الفقير ، وسنوضح ذلك .
لطيفة :
قال الزمخشريّ : فإن قلت : قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم ، فلم ورد النهي عن أكله معها ؟ قلت : لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال ، وهم على ذلك يطمعون فيها ، كان القبح أبلغ والذم أحق ، ولأنهم كانوا يفعلون كذلك فنعى عليهم فعلهم وسمّع بهم ليكون أزجر لهم . انتهى .
قال الناصر في " الانتصاف " : أهل البيان يقولون : المنهي متى كان درجات فطريق البلاغة النهي عن أدناها تنبيهاً على الأعلى ، كقوله تعالى : { فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفّ } [ الإسراء : من الآية 23 ] ، وإذا اعتبرت هذا القانون بهذه الآية وجدته ببادئ الرأي مخالفاً لها إذ أعلى درجات أكل مال اليتيم في النهي أن يأكله وهو غنيّ عنه ، وأدناها أن يأكله وهو فقير إليه ، فكان مقتضى القانون المذكور أن ينهى عن أكل مال اليتيم من هو فقير إليه حتى يلزم نهي الغنيّ عنه من طريق الأولى ، وحينئذ فلا بد من تمهيد أمر يوضح فائدة تخصيص الصورة العليا بالنهي في هذه الآية .
فنقول : أبلغ الكلام ما تعددت وجوه إفادته ، ولا شك أن النهي عن الأدنى ، وإن أفاد النهي عن الأعلى ، إلا أن للنهي عن الأعلى أيضاً فائدة أخرى جليلة ، لا تؤخذ من النهي عن الأدنى ، وذلك أن المنهيّ كلما كان أقبح كانت النفس عنه أنفر والداعية إليه أبعد .
ولا شك أن المستقر في النفوس أن أكل مال اليتيم مع الغنى عنه أقبح صور الأكل .
فخصص بالنهي تشنيعاً على من يقع فيه ، حتى إذا استحكم نفوره من أكل ماله على هذه الصورة الشنعاء دعاه ذلك إلى الإحجام عن أكل ماله مطلقاً .
ففيه تدريب للمخاطب على النفور من المحارم ، ولا تكاد هذه الفائدة تحصل لو خصص النهي بأكله مع الفقر ، إذ ليست الطباع في هذه الصورة مُعينة على الاجتناب ، كإعانتها عليه في الصورة الأولى ، ويحقق مراعاة هذا المعنى تخصيصه الأكل ، مع أن تناول مال اليتيم على أي : وجه كان ، منهيّ عنه ، كان ذلك بالادخار أو بالتباس أو ببذله في لذة النكاح مثلاً ، أو غير ذلك .
إلا أن حكمة تخصيص النهي بالأكل أن العرب كانت تتذمم بالإكثار من الأكل ، وتعدّ البطنة من البهيمية ، وتعيب على من اتخذها ديدنه ، ولا كذلك سائر الملاذ ، فإنهم ربما يتفاخرون بالإكثار من النكاح ويعدونه من زينة الدنيا ، فلما كان الأكل عندهم أقبح الملاذ خص النهي به ، حتى إذا نفرت النفس منه بمقتضى طبعها المألوف جرها ذلك إلى النفور من صرف مال اليتيم في سائر الملاذ أو غيرها ، أكلاً أو غيره .
ومثل هذه الآية في تخصيص النهي بما هو أعلى قوله تعالى : { لا تَأْكُلُوا الرّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً } [ آل عِمْرَان : من الآية 130 ] ، فخص هذه الصورة لأن الطبع عن الانتهاء عنها أعون .
ويقابل هذا النظر في النهي نظر آخر في الأمر ، وهو أنه تارة يخص صورة الأمر الأدنى تنبيهاً على الأعلى ، وتارة يخص صورة الأعلى لمثل الفائدة المذكورة من التدريب ، ألا ترى إلى قوله تعالى بعد آيات من هذه السورة : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ } [ النساء : من الآية 8 ] الآية ، كيف خص صورة حضورهم وإن كانت العليا بالنسبة إلى غيبتهم ، وذلك أن الله تعالى علم شح الأنفس على الأموال ، فلو أمر بإسعاف الأقارب واليتامى من المال الموروث ولم يذكر حالة حضورهم القسمة ، لم تكن الأنفس بالمنبعثة إلى هذا المعروف كانبعاثها مع حضورهم ، بخلاف ما إذا حضروا ، فإن النفس يرقّ طبعها وتنفر من أن تأخذ المال الجزل وذو الرحم حاضر محروم ، ولا يسعف ولا يساعد ، فإذا أمرت في هذه الحالة بالإسعاف هان عليها امتثال الأمر وائتلافها على امتثال الطبع ، ثم تدربت بذلك على إسعاف ذي الرحم مطلقاً حضر أو غاب .
فمراعاة هذا وأمثاله من الفوائد لا يكاد يُلْقَى إلا في الكتاب العزيز ، ولا يعثر عليه إلا الحاذق الفطن المؤيد بالتوفيق ، نسأل الله أن يسلك بنا في هذا النمط ، فخذ هذا القانون عمدة ، وهو : أن النهي ، إن خص الأدنى فلفائدة التنبيه على الأعلى ، وإن خص الأعلى ، فلفائدة التدريب على الانكفاف عن القبح مطلقاً من الانكفاف عن الأقبح ، ومثل هذا ، النظر في جانب الأمر ، والله الموفق . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مّنَ النّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاّ تَعُولُواْ } [ 3 ]
{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُواْ } أي : أن لا تعدلوا : { فِي الْيَتَامَى } أي : يتامى النساء .
وقال الزمخشريّ : ويقال للإناث اليتامى كما يقال للذكور ، وهو جمع يتيمة ، على القلب ، كما قيل أيامى والأصل أيائم ويتائم .
{ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مّنَ النّسَاء } أي : من طبن لنفوسكم من جهة الجمال والحسن أو العقل أو الصلاح منهن .
{ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } ومعنى الآية : وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهن إذا نكحتموهن ، بإساءة العشرة أو بنقص الصداق ، فانكحوا غيرهن من الغريبات فإنهن كثير ولم يضيق الله عليكم .
فالآية للتحذير من التورط في الجور والأمر بالاحتياط ، وإنّ في غيرهن متسعاً إلى الأربع .
وروى البخاريّ عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رَضِي اللّهُ عَنْهَا - أن رجلاً كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عَذْق ( أي : نخلة ) وكان يمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شيء ، فنزلت فيه : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى } أحسبه قال : كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله ، ورواه مسلم وأبو داود والنسائي .
وفي رواية لهم عن عائشة هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها ، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا لهن أعلى سُنّتِهِن في الصداق ، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن .
قال عروة : قالت عائشة : وإن الناس استفتوا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بعد هذه الآية فأنزل الله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّسَاءِ } [ النساء : من الآية 127 ] .
قالت عائشة : وقول الله تعالى في آية أخرى : { وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنّ } [ النساء : من الآية 127 ] ، رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال .
قالت : فنهوا أن ينكحوا عن من رغبوا في ماله وجماله في يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن ، إذا كن قليلات المال والجمال .
وفي رواية في قوله تعالى : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّسَاء } إلى آخر الآية .
قالت عائشة - رَضِي اللّهُ عَنْهَا - : هي اليتيمة تكون في حجر الرجل قد شركته في ماله فيرغب عنها أن يتزوجها ويكره أن يزوجها غيره فيدخل عليه في ماله فيحبسها ، فنهاهم الله عن ذلك ، زاد أبو داود رحمه الله تعالى : وقال ربيعة في قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى } قال يقول : اتركوهن إن خفتم فقد أحللت لكم أربعاً .
لطائف :
الأول : ( ما ) في قوله تعالى : ما طاب لكم ، موصولة ، وجاء بـ ( ما ) مكان ( من ) لأنهما قد يتعاقبان ، فيقع كل واحد منهما مكان الآخر ، كما في قوله تعالى : { وَالسّمَاء وَمَا بَنَاهَا } [ الشمس : 5 ] ، وقوله : { وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } [ الكافرون : 5 ] .
{ فَمِنْهُم مّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ } [ النور : 45 ] ، قال بعضهم : وحسن وقوعها هنا أنها واقعة على النساء ، وهن ناقصات العقول .
الثانية : في إيثار الأمر بنكاحهن على النهي عن نكاح اليتامى ، مع أنه المقصود بالذات ، مزيدُ لطف في استنزالهم عن ذلك ، فإن النفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه ، كما أن وصف النساء بالطيب على الوجه الذي أشير إليه ، فيه مبالغة في الاستمالة إليهن والترغيب فيهن ، وكل ذلك للاعتناء بصرفهم عن نكاح اليتامى - ، أفاده أبو السعود - .
الثالثة : اتفق أهل العلم على أن هذا الشرط المذكور في الآية لا مفهوم له ، وأنه يجوز لمن لم يخف أن يقسط في اليتامى أن ينكح أكثر من واحدة .
الرابعة : مثنى وثلاث ورباع معدولة عن أعداد مكررة ، ومحلهن النصب على أنها حال من فاعل ( طاب ) مؤكدة لما ، أفاده وصف الطيب من الترغيب فيهن ، والاستمالة إليهن ، بتوسيع دائرة الإذن ، أي : فانكحوا الطيبات لكم ، معدودات هذا العدد ، ثنتين ثنتين ، وثلاثاً ثلاثاً ، وأربعاً أربعاً ، حسبما تريدون .
فإن قلت : الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين ثنتين أو ثلاث أو أربع ، فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع ؟ قلت : الخطاب للجميع ، فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له ، كما تقول للجماعة : اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم ، درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ، ولو أفردت لم يكن له معنى .
فإن قلت : فلم جاء العطف بواو دون ( أو ) ، قلت : كما جاء بالواو في المثال الذي حذوته لك ، ولو ذهبت تقول : اقتسموا هذا المال درهمين درهمين أو ثلاثاً ثلاثاً أو أربعة أربعة ، أعلمتَ أنه لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة ، وليس لهم أن يجمعوا بينها ، فيجعلوا بعض القسم على تثنية وبعضه على تثليث وبعضه على تربيع ، وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذي دلت عليه الواو .
وتحريره أن الواو : دلت على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها من النساء على طريق الجمع إن شاءوا مختلفين في تلك الأعداد ، وإن شاءوا متفقين فيها ، محظوراً عليهم ما وراء ذلك ، أفاده الزمخشري .
بحث جليل :
قال الرازي : ذهب قوم سَدّى ( كحتى ، موضع قرب زُبَيد باليمن ا ، ه قاموس ) إلى أنه يجوز التزوج بأي عدد أريد ، واحتجوا بالقرآن والخبر :
أما القرآن : فقد تمسكوا بهذه الآية من ثلاثة أوجه :
الأول : أن قوله : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النّسَاءِ } إطلاق في جميع الأعداد بدليل أنه لا عدد إلا ويصح استثناؤه منه ، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلاً .
والثاني : أن قوله : { مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ } لا يصلح تخصيصاً لذلك العموم لأن تخصيص بعض الأعداد بالذكر لا ينفي ثبوت الحكم في الباقي ، بل نقول : إن ذكر هذه الأعداد يدل على رفع الحرج والحجر مطلقاً فان الإنسان إذا قال لولده : افعل ما شئت ، اذهب إلى السوق ، وإلى المدينة ، وإلى البستان ، كان تنصيصاً في تفويض زمام الخيرة إليه مطلقاً ، ورفع الحجر والحرج عنه مطلقاً ، ولا يكون ذلك تخصيصاً للإذن بتلك الأشياء المذكورة بل كان إذناً في المذكور وغيره ، فكذا هاهنا ، وأيضاً فذكر جميع الأعداد متعذر فإذا ذكر بعض الأعداد بعد قوله : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النّسَاءِ } كان ذلك تنبيهاً على حصول الإذن في جميع الأعداد .
والثالث : أن الواو للجمع المطلق فقوله : { مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ } يفيد حل هذا المجموع وهو يفيد تسعة بل الحق أنه يفيد ثمانية عشر لأن قوله مثنى ليس عبارة عن اثنين فقط بل عن اثنين اثنين ، وكذلك القول في البقية .
وأما الخبر فمن وجهين :
الأول : أنه ثبت بالتواتر : < أنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مات عن تسع > ، ثم إن الله تعالى أمرنا باتباعه فقال : { فَاتّبِعُوهُ } وأقل مراتب الأمر الإباحة .
الثاني : أن سنة الرجل طريقته ، وكان التزوج بالأكثر من الأربع طريقة الرسول عليه الصلاة والسلام ، فكان ذلك سنة له ، ثم إنه عليه السلام قال : < فمن رغب عن سنتي فليس مني > ، فظاهر هذا الحديث يقتضي توجه اللوم على من ترك التزوج بأكثر من الأربعة ، فلا أقل من أن يثبت أصل الجواز .
واعلم أن معتمد الفقهاء في إثبات الحصر على أمرين :
الأول :
الخبر : وهو ما روي أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة فقال الرسول صلى الله عليه وسلم
< أمسك أربعاً وفارق باقيهن > .
وروي أن نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس نسوة فقال عليه الصلاة السلام : < أمسك أربعاً وفارق واحدة > .
واعلم أن هذا الطريق ضعيف لوجهين :
الأول : أن القرآن لما دل على عدم الحصر بهذا الخبر كان ذلك نسخاً للقرآن بخبر الواحد ، وإنه غير جائز .
والثاني : وهو أن الخبر واقعة حال ، فلعله عليه الصلاة والسلام إنما أمره بإمساك أربع ومفارقة البواقي ، لأن الجمع بين الأربعة وبين البواقي غير جائز إما بسبب النسب أو بسبب الرضاع .
وبالجملة فلهذا الاحتمال قائم في هذا الخبر فلا يمكن نسخ القرآن بمثله .
الطريق الثاني : وهو إجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع ، وهذا هو المعتمد ، وفيه سؤالان :
الأول : أن الإجماع لا يَنسخَ ولا يُنسخ فكيف يقال : الإجماع نسخ هذه الآية .
الثاني : أن في الأمة أقواماً شذاذاً لا يقولون بحرمة الزيادة على الأربع ، والإجماع مع مخالفة الواحد والاثنين لا ينعقد .
والجواب عن الأول :
أن الإجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمن الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .
وعن الثاني : أن مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة فلا عبرة بمخالفته . انتهى كلام الرازي ، وقوله ( من أهل البدعة ) لا يجوز أخذه على عمومه لما ستراه .
قال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى في " وبل الغمام " : الذي نقله إلينا أئمة اللغة والإعراب وصار كالمجمع عليه عندهم ، أن العدل في الأعداد يفيد أن المعدود لما كان متكثراً يحتج استيفاؤه إلى أعداد كثيرة كانت صيغة العدل المفرد في قوة تلك الأعداد ، فإن كان مجيء القوم مثلاً اثنين اثنين ، أو ثلاثة ثلاثة ، أو أربعة أربعة ، وكانوا ألوفاً مؤلفة ، فقلت : جاءني القوم مثنى ، أفادت هذه الصيغة أنهم جاءوا اثنين اثنين ، حتى تكاملوا .
فإن قلت : مثنى وثلاث ورباع ، أفاد ذلك أن القوم جاءوك تارة اثنين اثنين ، وتارة ثلاثة ثلاثة ، وتارة أربعة أربعة ، فهذه الصيغ بينت مقدار عدد دفعات المجيء لا مقدار عدد جميع القوم ، فإنه لا يستفاد منها أصلاً ، بل غاية ما يستفاد منها أن عددهم متكثر تكثراً تشق الإحاطة به .
ومثل هذا إذا قلت : نكحت النساء مثنى ، فإن معناه نكحتهن اثنتين اثنتين ، وليس فيه دليل على أن كل دفعة من هذه الدفعات لم يدخل في نكاحه إلا بعد خروج الأولى ، كما أنه لا دليل في قولك : جاءني القوم مثنى ، أنه لم يصل الاثنان الآخران إليك إلا وقد فارقك الاثنان الأولان ، إذا تقرر هذا فقوله تعالى : { مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } يستفاد منه جواز نكاح النساء اثنتين اثنتين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً .
والمراد جواز تزوج كل دفعة من هذه الدفعات في وقت من الأوقات ، وليس في هذا تعرض لمقدار عددهن ، بل يستفاد من الصيغ الكثرة من غير تعيين ، كما قدمنا في مجيء القوم .
وليس فيه أيضاً دليل على أن الدفعة الثانية كانت بعد مفارقة الدفعة الأولى ، ومن زعم أنه نقل إلينا أئمة اللغة والإعراب ما يخالف هذا ، فهذا مقام الاستفادة منه ، فليتفضل بها علينا ، وابن عباس ، إن صح عنه في الآية أنه قصر الرجال على أربع فهو فرد من أفراد الأمة .
وأما القعقعة بدعوى الإجماع فما أهونها وأيسر خطبها عند من لم تفزعه هذه الجلبة وكيف يصح إجماع خالفته الظاهرية وابن الصباغ وآل عمرانيّ ، والقاسم بن إبراهيم ، نجم آل الرسول ، وجماعة من الشيعة ، وثلة من محققي المتأخرين ، خالفه أيضاً القرآن الكريم ، كما بيناه .
وخالفه أيضاً فعل رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، كما صح ذلك تواتراً ، من جمعه بين تسع أو أكثر في بعض الأوقات .
{ وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ } [ الحشر : من الآية 7 ] .
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : من الآية 21 ] .
{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ } [ آل عِمْرَان : من الآية 31 ] ودعوى الخصوصية مفتقرة إلى دليل ، والبراءة الأصلية مستصحبة لا ينقل عنها إلا ناقل صحيح تنقطع عنه المعاذير .
وأما حديث أمره صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لغيلان ، لما أسلم وتحته عشر نسوة ، بأن يختار منهن أربعاً ويفارق سائرهن ، كما أخرجه الترمذيّ وابن ماجة وابن حبان ، فهو وإن كان له طرق ، فقد قال ابن عبد البر : كلها معلولة ، وأعله غيره من الحفاظ بعلل أخرى ، ومثل هذا لا ينْتَهِضُ للنقل عن الدليل القرآني والفعل المصطفويّ الذي مات صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عليه والبراءة الأصلية .
ومن صحح لنا هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة ، أو جاءنا بدليل في معناه ، فجزاه الله خيراً ، فليس بين أحد وبين الحق عداوة .
وعلى العالم أن يوفي الاجتهاد حقه لا سيما في مقامات التحرير والتقرير ، كما نفعله في كثير من الأبحاث ، وإذا حاك في صدره شيء فليكن تورعه في العمل لا في تقرير الصواب ، فإياك أن تحامي التصريح بالحق الذي تبلغ إليه ملكتك ، لقيل وقال .
ولا سيما في مثل مواطن يجبن عنها كثير من الرجال ، فإنك لا تُسئل يوم القيامة عن الذي ترتضيه العباد بل عن الذي يرتضيه المعبود ، وإذا جاء نهر الله بطل نهر مَعْقِل ، ومن ورد البحر استقل السواقيا . انتهى .
وقال الشوكاني قدس سره أيضاً في " نيل الأوطار " : حديث قيس بن الحارث ( وفي رواية الحارث بن قيس ) في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وقد ضعفه غير واحد من الأئمة .
قال أبو القاسم البغوي : ولا أعلم للحارث بن قيس حديثاً غير هذا .
وقال أبو عَمْرو النمري : ليس له إلا حديث واحد ولم يأت به من وجه صحيح ، وفي معنى هذا الحديث غيلان الثقفي وهو عن الزهريّ عن سالم عن ابن عمر قال : أسلم غيلان الثقفي وتحته عشر نسوة ، في الجاهلية ، فأسلمن معه ، < فأمره النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أن يختار منهن أربعاً > ، رواه أحمد وابن ماجة والترمذيّ ، وحكم أبو حاتم أبو زرعة بأن المرسل أصح .
وحكى الحاكم عن مسلم أن هذا الحديث مما وهم فيه معمر بالبصرة ، قال : فإن رواه عنه ثقة خارج البصرة حكمنا له بالصحة ، وقد أخذ ابن حبان والحاكم والبيهقيّ بظاهر الحكم ، وأخرجوه من طرق عن معمر من حديث أهل الكوفة ، وأهل خراسان وأهل اليمامة عنه .
قال الحافظ : ولا يفيد ذلك شيئاً ، فإن هؤلاء كلهم ، إنما سمعوا منه بالصرة ، وعلى تقدير أنهم سمعوا منه بغيرها ، فحديثه الذي حدث به في غير بلده مضطرب ، لأنه كان يحدث في بلده من كتبه على الصحة ، وأما إذا رحل فحدث من حفظه بأشياء وهم فيها ، اتفق على ذلك أهل العلم ، كابن المديني والبخاريّ وابن أبي حاتم ويعقوب بن شيبة وغيرهم .
وحكى الأثرم عن أحمد أن هذا الحديث ليس بصحيح ، والعمل عليه ، وأعله بتفرد معمر في وصله وتحديثه به في غير بلده .
وقال ابن عبد البر : طرقه كلها معلولة .
وقد أطال الدارقطني في " العلل " تخريج طرقه .
ورواه ابن عيينة ومالك عن الزهريّ مرسلاً ، ورواه عبد الرزاق عن معمر كذلك ، وقد وافق معمراً على وصله بحر بن كنيز السقاء عن الزهريّ ، ولكنه ضعيف ، وكذا وصله يحيى بن سلام عن مالك ، ويحيى ضعيف .
وفي الباب عن نوفل بن معاوية ، عند الشافعيّ ، أنه أسلم وتحته خمسة نسوة ، فقال له النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : أمسك أربعاً وفارق الأخرى ، وفي إسناده رجل مجهول ، لأن الشافعيّ قال : حدثنا بعض أصحابنا عن أبي الزناد عن عبد المجيد بن سهل عن عوف بن الحارث عن نوفل بن معاوية قال : أسلمت ، فذكره ، وفي الباب أيضاً عن عروة بن مسعود وصفوان بن أمية عند البيهقيّ .
وقوله : اختر منهن أربعاً ، استدل به الجمهور على تحريم الزيادة على أربع ، وذهبت الظاهرية إلى أنه يحل للرجل أن يتزوج تسعاً ، ولعل وجهه قوله تعالى : { مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } ومجموع ذلك لا باعتبار ما فيه من العدل ، تسع .
وحكي ذلك عن ابن الصباغ وآل عمراني وبعض الشيعة .
وحكي أيضاً عن القاسم بن إبراهيم ، وأنكر الإمام يحيى الحكاية عنه ، وحكاه صاحب البحر عن الظاهرية ، وقوم مجاهيل .
وأجابوا عن حديث قيس بن الحارث المذكور بما فيه من المقال المتقدم ، وأجابوا عن حديث غيلان الثقفي بما تقدم فيه من المقال ، وكذلك أجابوا عن حديث نوفل بن معاوية بما قدمنا من كونه في إسناده مجهول ، قالوا : ومثل هذا الأصل العظيم لا يكتفي فيه بمثل ذلك ، ولا سيما وقد ثبت أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قد جمع بين تسع أو إحدى عشرة ، وقد قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : من الآية 21 ] .
وأما دعوى اختصاصه بالزيادة على الأربع فهو محل النزاع ، ولم يقم عليه دليل .
وأما قوله تعالى : { مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } فالواو فيه للجمع لا للتخيير ، وأيضاً لفظ مثنى معدول به عن اثنين اثنين ، وهو يدل على تناول ما كان متصفاً من الأعداد بصفته الأثنينية ، وإن كان في غاية الكثرة البالغة إلى ما فوق الألوف ، فإنك تقول جاءني القوم مثنى أي : اثنين اثنين ، وهكذا ثلاث ورباع ، وهذا معلوم في لغة العرب لا يشك فيه أحد .
فالآية المذكورة تدل بأصل الوضع على أنه يجوز للإنسان أن يتزوج من النساء اثنتين اثنتين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً ، وليس من شرط ذلك أن لا تأتي الطائفة الأخرى في العدد إلا بعد مفارقته للطائفة التي قبلها ، فإنه لا شك أنه يصح ، لغة وعرفاً ، أن يقول الرجل ، لألف رجل عنده : جاءني هؤلاء اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة ، فحينئذ الآية تدل على إباحة الزواج بعدد من النساء كثير ، سواء كانت الواو للجمع أو للتخيير .
لأن خطاب الجماعة بحكم من الأحكام بمنزلة الخطاب به لكل واحد منهم ، فكأن الله سبحانه وتعالى قال ، لكل فرد من الناس : أنكح ما طاب لك من النساء مثنى وثلاث ورباع ، ومع هذا فالبراءة الأصلية مستصحبة ، وهي بمجردها كافية في الحل حتى يوجد ناقل صحيح ينقل عنها .
وقد يجاب بأن مجموع الأحاديث المذكورة في الباب لا تقصر عن رتبة الحسن لغيره ، فتنتهض بمجموعها للاحتجاج ، وإن كان كل واحد لا يخلوا عن مقال ، ويؤيد ذلك كون الأصل في الفروج الحرمة ، كما صرح به الخطابي ، فلا يجوز الإقدام على شيء منها إلا بدليل ، وأيضاً هذا الخلاف مسبوق بالإجماع على عدم جواز الزيادة على الأربع ، كما صرح بذلك في " البحر " .
وقال في " الفتح " اتفق العلماء على أن من خصائصه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم الزيادة على أربع نسوة يجمع بينهن ، وقد ذكر الحافظ في " الفتح " و " التلخيص " الحكمة في تكثير نسائه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فليراجع ذلك . انتهى .
وقال قدس سره في تفسيره " فتح القدير " : وقد استدل بالآية على تحريم ما زاد على الأربع ، وبينوا ذلك بأنه خطاب لجميع الأمة ، وأن كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد ، كما يقال للجماعة : اقتسموا هذا المال ، وهو ألف درهم ( أو هذا المال الذي في البدرة ) درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة .
وهذا مسلم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته ، أو عيّن مكانه ، أما لو كان مطلقاً ، كما يقال : اقتسموا الدراهم ، ويراد بها ما كسبوه ، فليس المعنى هكذا ، والآية من الباب الآخر لا من الباب الأول ، على أن من قال لقوم يقتسمون مالاً معيناً كبيراً : اقتسموه مثنى وثلاث ورباع ، فقسموا بعضه بينهم درهمين درهمين ، وبعضه ثلاثة ثلاثة ، وبعضه أربعة أربعة ، كان هذا هو المعنى العربيّ .
ومعلوم أنه إذا قال القائل : جاءني القوم مثنى ، وهم مائة ألف ، كان المعنى أنهم جاءوه اثنين اثنين ، هكذا : جاءني القوم ثلاث ورباع .
والخطاب للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد ، كما في قوله تعالى : { اقْتُلُواْ المشْرِكِينَ } : { أَقِيمُوا الصّلَاةَ وَآتُوا الزّكَاةَ } ونحوها ، ومعنى قوله : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مّنَ النّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } : لينكح كل فرد منكم ما طاب له من النساء اثنتين اثنتين وثلاثاً وثلاثاً وأربعاً وأربعاً .
هذا ما تقتضيه لغة العرب ، فالآية تدل على خلاف ما استدلوا به عليه ، ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً } فإنه وإن كان خطاباً للجميع فهو بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد .
فالأولى أن يستدل على تحريم الزيادة على الأربع بالسنة لا بالقرآن ، وأما استدلال من استدل بالآية على جواز نكاح التسع باعتبار الواو الجامعة وكأنه قال : انكحوا مجموع هذا العدد المذكور ، فهذا جهل بالمعنى العربيّ ، ولو قال : انكحوا اثنتين وثلاثاً وأربعاً كان هذا القول له وجه ، وأما مع المجيء بصيغة العدل فلا ، وإنما جاء سبحانه بالواو الجامعة دون ( أو ) لأن التخيير يشعر بأنه لا يجوز إلا أحد الأعداد المذكورة دون غيره ، وذلك ليس بمراد من النظم القرآني .
أخرج الشافعيّ وابن أبي شيبة وأحمد والترمذيّ وابن ماجة والدارقطني والبيهقيّ ، عن ابن عمر أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة ، فقال له النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < اختر منهن ( وفي لفظ أمسك منهن ) أربعاً وفارق سائرهن > ، وروي هذا الحديث بألفاظ من طرق .
وعن نوفل بن معاوية الديليّ قال : أسلمت وعندي خمس نسوة ، فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < أمسك أربعاً وفارق الأخرى > ، أخرجه الشافعيّ في مسنده .
وأخرج ابن ماجة والنحاس في " تاريخه " عن قيس بن الحارث الأسدي قال : أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة ، فأتيت النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فأخبرته ، فقال : < اختر منهن أربعاً وخل سائرهن > ، ففعلت ، وهذه شواهد للحديث الأول كما قال البيهقيّ .
وقال قدس سره أيضاً في كتابه " السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار " : أما الاستدلال على تحريم الخامسة وعدم جواز زيادة على الأربع بقوله عز وجل : { مّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } فغير صحيح ، كما أوضحته في " شرحي للمنتقى " وقد قدمناه .
ولكن الاستدلال على ذلك بحديث قيس بن الحارث وحديث غيلان الثقفي وحديث نوفل بن معاوية هو الذي ينبغي الاعتماد عليه ، وإن كان في كل واحد منها مقال ، لكن الإجماع على ما دلت عليه قد صارت به من المجمع على العمل عليه .
وقد حكى الإجماع صاحب " فتح الباري " والمهدي في " البحر " والنقل عن الظاهرية لم يصح ، فإنه قد أنكر ذلك منهم من هو أعرف بمذهبهم . انتهى .
تتمة :
روى الدارقطني عن عُمَر بن الخطاب - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : ينكح البعد امرأتين ويطلق تطليقتين وتعتد الأمة حيضتين .
قال الشوكاني في : " نيل الأوطار " : قد تمسك بهذا من قال : إنه لا يجوز للعبد أن يتزوج فوق اثنتين .
وهو مروي عن عليّ وزيد بن عليّ والناصر والحنفية والشافعية ، ولا يخفى أن قول الصحابي لا يكون حجة على من لم يقل بحجيته ، نعم ، لو صح إجماع الصحابة على ذلك لكان دليلاً عند القائلين بحجية الإجماع ، ولكنه قد روي عن أبي الدرداء ومجاهد وربيعة وأبي ثور والقاسم بن محمد وسالم ؛ أنه يجوز له أن ينكح أربعاً كالحر ، حكى ذلك عنهم صاحب " البحر " فالأولى الجزم بدخوله تحت قوله تعالى : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مّنَ النّسَاء } والحكم له وعليه بما للأحرار وعليهم ، إلا أن يقوم دليل يقتضي المخالفة ، كما في المواضع المعروفة بالتخالف بين حكميهما انتهى .
{ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تَعْدِلُوا } أي : بين هذه الأعداد .
{ فَوَاحِدَةً } أي : فاختاروها ، وقرئ بالرفع أي : فحسبكم واحدة .
{ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي : من الإماء ، بالغة ما بلغت من مراتب العدد ، لأنه لا يلزم فيهن من الحقوق مثل ما يلزم في الحرائر ، ولا قسم لهن .
و ( أو ) للتسوية ، أي : التخيير ، والعدد يؤخذ من السياق ، ومقابلة الواحدة ، قال الزمخشري : سوى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين الإماء من غير حصر ولا توقيت عدد ، ولعمري إنهن أقل تبعة وأقصر شغَباً وأخف مؤنة من المهائر ، لا عليك ، أكثرت منهن أم أقللت ، عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل ، عزلت عنهن أم لم تعزل . انتهى .
{ ذَلِكَ } أي : الاقتصار على واحدة أو على التسري : { أَدْنَى } أي : أقرب : { أَلاّ تَعُولُواْ } أي : من أن لا تميلوا ولا تجوروا .
لانتفائه رأساً بانتفاء محله في الأول ، وانتفاء خطره في الثاني بخلاف اختيار العدد في المهائر ، فإن الميل المحظور متوقع فيه لتحقق المحل والخطر ، هذا إن قدر ( تعولوا ) مضارع عال ، بمعنى جار ومال عن الحق ، وهو اختيار أكثر المفسرين .
ومن الوجوه المحتملة فيه كونه مضارع عال بمعنى كثر عياله ، قال في : " القاموس " : وعال فلان عولاً وعيالة : كثر عياله ، كأعول وأعيل . انتهى .
وعلى هذا الوجه اقتصر الإمام المهايمي ، قدس سره ، في تفسيره حيث قال : أي : أقرب من أن لا تكثر عيالكم فيمكن معه القناعة بحيث لا يضطر إلى الجور في أموال اليتامى . انتهى .
وروي هذا التأويل عن زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة والشافعي ، وأما قول ابن كثير في هذا التفسير : ههنا نظر ، فإنه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر كذلك يخشى من تعداد السراري - فجوابه ( كما قال الرازي ) من وجهين :
الأول : ما ذكره القفال - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ، وهو أن الجواري إذا كثرن فله أن يكلفهن الكسب ، وإذا اكتسبن أنفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضاً ، وحينئذ تقل العيال ، أما إذا كانت المرأة حرة ، لم يكن الأمر كذلك ، فظهر الفرق .
الثاني : أن المرأة إذا كانت مملوكة ، فإذا عجز المولي عن الإنفاق عليها باعها وتخلص منها ، أما إذا كانت حرة فلا بد له من الإنفاق عليها ، والعرف يدل على أن الزوج ما دام يمسك الزوجة فإنها لا تطالبه بالمهر ، فإذا حاول طلاقها طالبته بالمهر فيقع الزوج في المحنة . انتهى .
تنبيهان :
الأولى : قال بعض المفسرين : دلت الآية على أنه يجب بالنكاح حقوق .
وتدل على أن من خشي الوقوع فيما لا يجوز ، قبح منه ما دعا إلى ذلك القبيح ، فلا يجوز لمن عرف أنه يخون مال اليتيم إذا تزوج أكثر من واحدة ، أن يتزوج أكثر .
وكذا إذا عرف أنه يخون الوديعة ولا يحفظها ، فإنه لا يجوز له قبول الوديعة .
وتدل على أن العدل واجب بين الزوجات .
وأن من عرف أنه لا يعدل فإنه لا تحل له الزيادة على واحدة .
وتدل على أن زواجه الصغيرة من غير أبيها وجدّها جائز ، وللفقهاء مذاهب في ذلك معروفة .
الثاني : في سر ما تشير إليه الآية من إصلاح النسل ، قال بعض علماء الاجتماع من فلاسفة المسلمين في مقالة عنوانها " الإسلام وإصلاح النسل " ما مثاله : ما زال البشر يسعى منذ ألوف من السنين وراء إصلاح ما يقتنيه من خيل وبقر وغنم ليكثر انتفاعه به ، فيختار لإناث هذه الحيوانات أفحلاً كريمة ، هي على ما يرومه من الصفات ، ليحصل منها على نسل أنفع له من أمهاته .
وقد زادت رغبة الناس بهذا العصر في إصلاح النوع النافع من الحيوان ، فضربوه ورقوه باختيار الأفحُل المناسبة ، حتى حصلوا على صنف من الخيل الجياد تسابق الرياح فتجري ( 16 ) متراً في الثانية من الزمن ، وعلى صنف من البقر تحلب في اليوم الواحد خمسين أقة ، وعلى صنف من المعزى والغنم شعره أو صوفه مثل الحرير نعومة ، ولم يقصر إصلاحهم على الحيوان ، بل تجاوز إلى النبات ، فحصلوا بفضله على أشجار كثيرة الثمر لذيذته ، وانتفعوا انتفاعاً كبيراً ، ما تيسر لأسلافهم .
نعم إن البشر افتكروا في إصلاح الحيوان الصامت والنبات ، وعلموا ما فيه من الفوائد ، فسعوا إليه السعي الذي يرضاه العلم ، وجنوا ثمار ذلك السعي ، ولكنهم ما افتكروا في إصلاح ما هو أهم من كل ذلك : في إصلاح الحيوان الذكي ، والشرير أكثر من الصالح ، والجبان أكثر من الشجاع ، والكاذب أكثر من الصادق ، والكسلان أكثر من أخي الجد النشيط ، ولو أنهم أصلحوا نسلهم لما وجد في الناس من يولد مريضاً ويعيش مريضاً ، فلا ينتفع بوجوده المجتمع ، وهو كثير .
قام من بين هذا الجيل فيلسوفان : ألماني وإنكليزي ، وأخذا يعلمان بكتاباتهما المبينة على البراهين وجوب إصلاح الإِنسَاْن لنسل الإِنسَاْن ، ويعددان فوائد الإصلاح لنوعه ، ويبيّنان للملأ أن الرقي المطلوب لا يتم إلا به ، وطفقا يلومان الناس على اعتنائهم بإصلاح المواشي وإهمالهم إصلاح أنفسهم ، الأمر الذي هو أهم من ذلك كثيراً ، وذكرا لذلك طرقاً :
( منها ) منع أصحاب العاهات والأمراض المزمنة وأولي الجرائم الكبيرة من الزواج لينقطع نسلهم الذي يجيء غالباً على شاكلتهم .
( ومنها ) إباحة تعدد الزوجات للنابغين من الرجال ليكثر نسلهم ، وقالا : إذا جرى المجتمع على هذا الانتخاب الصناعي قروناً عديدة كان نسل الإِنسَاْن الأخير ، بحكم ناموس الوراثة ، سالماً من الأمراض ، حسن الطوية ، ليس فيه ميل إلى الشر ، قوياً ، ذكي الفؤاد ، نابغاً في العلوم ، التي يتعلمها ، كأنه نوع أرقى من الإِنسَاْن الحاضر ، وكانت أهم طريقة أبدياها للارتقاء المنتظر للبشر في المستقبل ، هي طريقة تعدد الزوجات في الحاضر للنابغين من الناس ، فإن منع أصحاب الأمراض المزمنة والجناة من الزواج إنما يفيد في تقوية النسل وجعله ميالاً بالفطرة إلى الخير ليس إلا ، لا في جعله أذكى من آبائه وأسمى مدارك ، وتعدد الزوجات للنابغين من المسلمين ، قد جاء به الإسلام قبل هذين الفيلسوفين بأكثر من ألف وثلاثمائة سنة ، فقد أباح لهم تعددهن إلى أربع ، ليكثر نسلهم ، فيكثر عدد النابغين ، الذين بهم وحدهم تتم الأعمال الكبيرة في هذه الدنيا ، فهو من مكتشفات هذا الدين الاجتماعية .
وقد جعل رضاهن بذلك شرطاً أنه لئلا يكون فيه إجحاف بحقوقهن .
والعاقلة من النساء تفضل أن تكون زوجة لنابغة من الرجال - وإن كان ذا زوجات أخر - على أن تكون زوجة لرجل أحمق ، وإن اقتصر عليها ، لأنها تعلم أن أولادها من الأول ينجبون أكثر منهم من الثاني .
وأما غير النابغين منهم فإن الدين يمنعهم من نكاح أكثر من واحدة ، لئلا يكثر نسلهم ، قال الله تعالى في كتابه المبين يخاطب المؤمنين : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مّنَ النّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً } الخطاب في هذه الآية لعموم الأمة ، فهي تأذن لكل أحد من المسلمين أن يتزوج بأكثر من واحدة من النساء إلى أربع ، إذا آنس من نفسه القدرة على العدل بينهن ، وإلا وجب عليه الاقتصار على واحدة لئلا يجور عليهن .
والقدرة على العدل بين أربع من النساء ، متوقف على عقل كبير وسياسة في الإدارة وحكمة بالغة في المعاملة ، لا تتأتى إلا لمن كان نابغة بين الرجال ، ذا مكانة من العقل ترفعه على أقرانه ، والرجل النابغة ، إذا تزوج بأكثر من واحدة ، كثر نسله فكثر النوابغ .
والشعب الذي يكثر نوابغه أقدر على الغلبة في تنازع البقاء من سائر الشعوب ، كما يدلنا عليه التاريخ .
ثم خاطب الله ، في مكان آخر ، الخائفين أن لا يعدلوا بين الناس ؛ وهم غير النوابغ من المسلمين ، بقوله : { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ } .
فأمرهم في هذه الآية ، التي هي في المعنى تتمة للأولى ، أن لا يقترنوا بأكثر من واحدة لأنهم في درجة من العقل هي دون درجة النابغين ، لن يستطيعوا معها إتيان العدل بين النساء ، المتوقف على عقل كبير يسهل لصاحبه أن يرضيهن جمعاء ، كما يأتيه النابغون والدهاة من الناس ، وحرم على هؤلاء ، الذين لم يجوزوا المقدرة على العدل ، التزوج بأكثر من واحدة ، لئلا يقع سلم الارتقاء ، ولئلا يكثر نسل غير النابغين ، وهو الأهم ، فتبقى الأمة في مكانها من الانحطاط .
وقد تقدم أن الخطاب في قوله تعالى : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مّنَ النّسَاء } في الآية الأولى لعموم الأمة ، غير أن الشرط بالعدل جعله خاصة بالعادلين منهم ، وهم النابغون الذين يقتدرون على إتيان العدل بين النساء لوفور عقلهم .
والغاية من أمر هذا الصنف من المسلمين أن يتزوجوا بأكثر من واحدة إلى أربع ، هو تكثير نسلهم ليستفيد من كثرة أمثالهم المجتمع ، كما أسلفنا ، ولكن النابغة لا يأتي نسله في الغالب نوابغ ، بمجرد تعدد الزوجات ، فإن الزوجة المتوسطة أو المنحطة يكون أولادها في الغالب أوساطاً أو منحطين ، وإن كان أبوهم راقياً ، فلا تحصل الفائدة المطلوبة من تعدد الزوجات وهي إصلاح النسل .
بل يجب للحصول على هذا المطلب الأسنى أن يقترن النابغون بالنابغات ، ليكون أولادهم مثلهم نبوغاً أو أنبغ منهم ، بحكم سنة الوراثة ، وذلك إنما يتم إذا أحسن النابغون اختيار الأزواج ، فنكحوا ما طاب لهم ، والنابغة لا يطيب له أن يقترن إلا بمن جمعت نبوغاً مثل نبوغه ، إلى حسن رائع ، فإن معاشرة الحمقاء ليس مما يطيب للعاقل الراقي ، وإن الخير يطلب عند حسان الوجوه .
ولذلك قال تعالى : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مّنَ النّسَاء } ولم يقل وانكحوا من النساء ، وفي قوله تعالى : { مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } إشارة إلى مراتب نبوغ الرجل ، الثلاث ، فكأنه أراد أن لا يتجاوز ، الذي قلّ نبوغه ، الاقتران باثنتين ، وأن لا يتجاوز ، الذي نبوغه متوسط ، الاقتران بثلاث ، وأن يحل ، للذي نبوغه أعلى من الأولين ، الاقترانُ بأربع .
وأما الخائفون أن لا يعدلوا فيجب أن لا يتجاوزوا الاقتران بواحدة ، لأنهم أناس لن يستطيعوا ، مع كل حرصهم ، أن يعدلوا بين النساء ، لقصور عقلهم في سياسة المنزل وعدم نبوغهم ، وهناك إنسان نبوغه أكبر من كل نبوغ ، هو محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، الذي اختاره الله لوفور حكمته رسولاً منه إلى البشر ، قد أحل له أن يقترن بأكثر من أربع لقدرته على العدل بينهن .
وأظنك ، بعد قراءة ما أوردت ، تعترف ، إن كنت من المنصفين ، أن الإسلام جاء ، قبل أكثر من ألف وثلاثمائة عام ، بسنّة للزواج ، عليها وحدها يتوقف إصلاح نسل البشر ، الذي أخذ في هذا القرن أفراد من فلاسفة الغرب يحضّون عليه ، تلك السنة هي تعدد الزوجات بعد أن كان الرأي العام في الغرب يعيبه عليها ، هذا هو الإسلام يقرر أكبر قاعدة للترقي ، وهو إباحة تعدد الزوجات ، اللاتي يطبن لوفور جمالهن وعقلهن ، لأفراد نابغين من المسلمين ، لا يخافون لوفور عقلهم أن لا يعدلوا بينهن ، ولكن المسلمين لم يأتمروا بأمر الله ، فأباحوا هذا التعدد لكل أحد من المسلمين ، للخائفين أن لا يعدلوا ، ولغير الخائفين ، ففسد النسل ، والذي أعان على فساده هو كون القدرة عليه أصبحت ، بحكم الجهل ، منحصرة في المال الذي يجمعه الغاصب والسارق والكاسب ، فكثر نسل الظالمين وقلّ نسل العادلين من أهل العقل الراجح . انتهى كلامه ، وهو استنباط بديع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآتُواْ النّسَاء صَدُقَاتِهِنّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مّرِيئاً } [ 4 ]
{ وَآتُواْ } أي : أعطوا .
{ النّسَاء } أي : اللاتي أمر بنكاحهن .
{ صَدُقَاتِهِنّ } أي : مهورهن ( جمع صدقة كسَمْرة ) وهي المهر .
{ نِحْلَةً } أي : عطاءً غير مسترد بحيلة تلجئهن إلى الرد ، والنّحلة ( بكسر النون وضمها ، على ما رواه ابن دريد ) اسم مصدر لـ ( نحل ) ، والمصدر النّحل ( بالضم ) وهو العطاء بلا عوض ، والتعبير عن إيتاء المهور بالنحلة ، مع كونها واجبة على الأزواج ، لإفادة معنى الإيتاء عن كمال الرضا وطيب الخاطر .
فائدتان :
الأولى : هذا الخطاب إما للأزواج ، كما روى عن علقمة والنخعي وقتادة ، واختاره الزجاج ، فإن ما قبله خطاب للناكحين وهم الأزواج ، وإما لأولياء النساء ، وذلك لأن العرب كانت في الجاهلية لا تعطي النساء من مهورهن شيئاً .
ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت : هنيئاً لك النافجة ، ومعناه إنك تأخذ مهرها إبلاً فتضمها إلى إبلك فتنفج مالك أي : تعظمه .
وقال ابن الأعرابيّ : النافجة ما يأخذه الرجل من الحلوان إذا زوج ابنته ، فنهى الله تعالى عن ذلك وأمر بدفع الحق إلى أهله ، وهذا قول الكلبي وأبي صالح ، واختيار الفراء وابن قتيبة .
الثانية : قال القفال رحمه الله تعالى : يحتمل أن يكون المراد من الإيتاء المناولة ، ويحتمل أن يكون المراد الالتزام ، قال تعالى : { حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ } [ التوبة : من الآية 29 ] ، والمعنى حتى يضمنوها ويلتزموها ، فعلى هذا الوجه الأول ، كان المراد أنهم أمروا بدفع المهور التي قد سموها لهن ، وعلى التقدير الثاني كان المراد أن الفروج لا تستباح إلا بعوض يلزم ، سواء سمي ذلك أو لم يسم ، إلا ما خص به الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في الموهوبة .
ثم قال رحمه الله : ويجوز أن يكون الكلام جامعاً للوجهين معاً ، والله أعلم .
{ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مّنْهُ نَفْساً } الضمير للصدُقات ، وتذكيره لإجرائه مجرى ذلك ، أي : فإن أحللن لكم من المهر شيئاً بطيبة نفس ، جلباً لمودتكم ، لا لحياء عرض لهن منكم أو من غيركم ، ولا لاضطرارهن إلى البذل من شكاسة أخلاقكم وسوء معاشرتكم .
{ فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً } أي : فخذوه وانصرفوا فيه تملكاً ، وتخصيص الأكل بالذكر لأنه معظم وجوه التصرفات المالية .
وهنيئاً مريئاً : صفتان من ( هنؤ الطعام ومرؤ ) إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه ، وقيل : الهنيء ما أتاك بلا مشقة ولا تبعة ، والمريء حميد المغبة ، وهما عبارة عن التحليل والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة ، لأنهن كالرجال في التصرفات والتبرعات .
تنبيه :
قال بعض المفسرين : للآية ثمرات :
منها : أنه لا بد في النكاح من صداق .
ومنها : أنه حق واجب للمرأة كسائر الديون .
ومنها : أن لها أن تتصرف فيه بما شاءت ، ولم تفصل الآية بين أن تقبضه أم لا ، ولذا قال بعض الفقهاء : لها بيع مهرها قبل قبضه ، ولبعضهم : لا تبيعه حتى تقبضه ، كالملك بالشراء .
ومنها : أنه يسقط عن الزوج بإسقاطها مع طيب نفسها [ في المطبوع : نفسسها ] ، وقد رأى شريح إقالتها إذا رجعت ، واحتج بالآية .
روى الشعبي أن امرأة جاءت مع زوجها شريحاً في عطية أعطتها إياه ، وهي تطلب الرجوع ، فقال شريح : رد عليها ، فقال الرجل أليس قد قال الله تعالى : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ } ؟ فقال : لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه .
وروي عنه أيضاً : أقيلها فيما وهبت ولا أقبله ، لأنهن يُخْدعن .
وعن عُمَر بن الخطاب - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أنه كتب إلى قضاته : أن النساء يعطين رغبة ورهبة ، فأيما امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها ، نقله الرازيّ .
أقول : ما رآه شريح وروي عن عمر ، هو الفقه الصحيح والاستنباط البديع ، إذ الآية دلت على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط ، حيث بني الشرط على طيب النفس ، ولم يقل : فإن وهبن لكم ، إعلاماً بأن المراعَى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيّبة ، وبرجوعها يظهر عدم طيب نفسها ، وذلك بين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تُؤْتُواْ السّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مّعْرُوفاً } [ 5 ]
{ وَلاَ تُؤْتُواْ السّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مّعْرُوفاً } اعلم أن في الآية وجوهاً يحتملها النظم الكريم . الأول : أن يراد بالسفهاء اليتامى ، كما روي عن سعيد بن جبير ، والخطاب حينئذ للأولياء ، نهوا أن يؤتوا اليتامى أموالهم مخافة أن يضيعوها لقلة عقولهم ، لأن السفيه هو الخفيف الحلم ، وإنما أضيفت للأولياء ، وهي لليتامى ، تنزيلاً لاختصاصها بأصحابها منزلة اختصاصها بالأولياء ، فكان أموالهم عين أموالهم ، لما بينهم وبينهم من الاتحاد الجنسي والنسبي ، مبالغة في حملهم على المحافظة عليها ، كما قال تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : من الآية 29 ] ، أي : لا يقتل بعضكم بعضاً حيث عبر عن بني نوعهم بأنفسهم ، مبالغة في زجرهم عن قتلهم ، فكأن قتلهم قتل أنفسهم ، وقد أيد ذلك حيث عبر عن جعلها مناطاً لمعاش أصحابها بجعلها مناطاً لمعاش الأولياء ، بقوله تعالى : { الّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً } أي : جعلها الله شيئاً تقومون وتنتعشون ، فلو ضيعتموها لضعتم .
وقوله تعالى : { وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ } أي : اجعلوها مكاناً لرزقهم وكسوتهم ، بأن تتجروا وتتربحوا ، حتى تكون نفقاتهم من الأرباح لا من صلب المال .
وقوله سبحانه : { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مّعْرُوفاً } أي : كلاماً ليناً تطيب به نفوسهم ، ومنه أن يعدهم عدة جميلة ، بأن يقول وليهم : إذا صلحتم ورشدتم ، سلمنا إليكم أموالكم .
الوجه الثاني : أن يراد بالسفهاء الناس والصبيان ، روي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما ، فالخطاب عام والنهي لكل أحد أن يعمد إلى ما خوله الله تعالى من المال فيعطيه امرأته وأولاده ، ثم ينظر إلى أيديهم ، وإنما سماهم سفهاء استخفافاً بعقلهم واستهجاناً لجعلهم قواماً على أنفسهم .
قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس يقول : لا تعمد إلى مالك خوّلك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو ابنتك ثم تنظر إلى ما في أيديهم ، ولكن أمسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم من كسوتهم ومؤنتهم ورزقهم .
الوجه الثالث : أن يراد بالسفهاء كل من لم يكن له عقل يفي بحفظ المال ، فيدخل فيه النساء والصبيان والأيتام كل من كان موصوفاً بهذه الصفة .
قال الرازي : وهذا القول أولى ، لأن التخصيص بغير دليل لا يجوز .
قال السيوطيّ في : " الإكليل " : في هذه الآية الحجر على السفيه ، وأنه لا يمكّن من ماله ، وأنه ينفق عليه منه ويكسي ، ولا ينفق في التبرعات ، وأنه يقال له معروف كـ : ( إن رشدت دفعنا إليك مالك ، وإنما يحتاط لنفعك ) .
واستدل بعموم الآية من قال بالحجر على السفيه البالغ ، سواء طرأ عليه أم كان من حين البلوغ ، ومن قال بالحجر على من يُخدع في البيوع ، ومن قال بأن من يتصدق على محجور ، وشرط أن يترك في يده ، لا يسمع منه في ذلك .
لطيفة :
في قوله تعالى : { الّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً } حث على حفظ الأموال وعدم تضييعها .
قال الزمخشري : كان السلف يقولون : المال سلاح المؤمن ، ولأن أترك مالاً يحاسبني الله عليه ، خير من أحتاج إلى الناس .
وعن سفيان ، وكانت له بضاعة يقلبها : لولاها لتمندل بي بنو العباس .
وعن غيره ( وقيل له : إنها تدنيك من الدنيا ) : لأن أدنتني من الدنيا لقد صانتني عنها ، وكانوا يقولون : اتجروا واكتسبوا ، فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه ، وربما رأوا رجلاً في جنازة ، فقالوا له : اذهب إلى دكانك . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتّىَ إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالمعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً } [ 6 ]
{ وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى } أي : اختبروا عقولهم ومعرفتهم بالتصرف .
{ حَتّىَ إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ } أي : بأن يحتلموا أو يبلغوا خمس عشرة سنة .
لما في الصحيحين عن ابن عمر قال : < إن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عرضه يوم أُحُد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني ثم عرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني > .
قال نافع : فقدمت على عُمَر بن عبد العزيز وهو خليفة فحدثته هذا الحديث فقال : إن هذا لحَدّ بين الصغير والكبير ، وكتب إلى عماله أن يفرضوا لمن بلغ خمس عشرة ، وكذا نبات الشعر الخشن حول العورة ، لما رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن عطية القرظي قال : < عُرِضنا على النبيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يوم قريظة فكان من أنبت قتل ، ومن لم ينبت خلى سبيله ، فكنت فيمن لم ينبت ، فخلى سبيلي > ، قال الترمذيّ : حسن صحيح .
{ فَإِنْ آنَسْتُم } أي : شاهدتم وتبينتم .
{ مّنْهُمْ رُشْداً } أي : صلاحاً في دينهم وحفظاً لأموالهم ، قاله سعيد بن جبير ، وروي عن ابن عباس والحسن وغير واحد من الأئمة .
{ فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } أي : من غير تأخير .
وظاهر الآية الكريمة أن من بلغ غير رشيد إما بالتبذير أو بالعجز أو بالفسق ، لا يسلم إليه ماله لأنها مفسدة للمال .
{ وَلاَ تَأْكُلُوهَا } أيها الأولياء .
{ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } أي : مسرفين ومبادرين كبرهم ، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم ، تفرطون في إنفاقها وتقولون : ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا .
{ وَمَن كَانَ } من الأولياء .
{ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ } أي : يتنزه عن أكل مال اليتيم ، فإنه عليه كالميتة والدم ، وليقنع بما آتاه الله تعالى من الزرق .
{ وَمَن كَانَ فَقِيراً } يمنعه اشتغاله بمال اليتيم عن الكسب ، وإهمالُه يفضي إلى تلفه عليه .
{ فَلْيَأْكُلْ بِالمعْرُوفِ } بقدر حاجته الضرورية وأجرة سعيه وخدمته .
كما رواه ابن أبي حاتم عن عائشة حيث قالت : فليأكل بالمعروف بقدر قيامه عليه ، ورواه البخاريّ أيضاً .
قال ابن كثير : قال الفقهاء : له أن يأكل أقل الأمرين أجرة مثله ، وقد حاجته ، وهل يرد إذا أيسر ؟ وجهان :
أحدهما : لا يرد لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيراً ، وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعيّ ، لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل .
وروى الإمام أحمد عن عَمْرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً سأل النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقال : ليس لي مال ولي يتيم ، فقال : < كل من مال يتيمك غير مسرف ، ولا مبذر ولا متأثل مالاً ، ومن غير أن تقي مالك > ، أو قال : < تفدي مالك بماله > .
ورواه ابن أبي حاتم ولفظه : < كل بالمعروف غير مسرف > ، ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة .
وروى ابن حبان في : " صحيحه " وابن مردويه في : " تفسيره " عن جابر : أن رجلاً قال : يا رسول الله ! مما أضرب يتيمي ؟ قال : < مما كنت ضارباً منه ولدك ، غير واقٍ مالك بماله ، ولا متأثل منه مالاً > .
وروى عبد الرزاق عن الثوري عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال : جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال : إن في حجري أيتاماً ، وإن لهم إبلاً ، ولي إبل وأنا أمنح من إبلي فقراء ، فماذا يحل لي من ألبانها ؟ فقال : إن كنت تبغي ضالتها ، وتهنأ جرباها ، وتلوط حوضها ، وتسعى عليها ، فاشرب غير مضر بنسل ، ولا ناهك في الحلب ، ورواه مالك في موطئه .
وبهذا القول - وهو عدم أداء البدل - يقول عطاء بن أبي رَبَاح وعكرمة وإبراهيم النَّخَعِي وعطية العوفيّ والحسن البصريّ .
والوجه الثاني : يردّ ، لأن مال اليتيم على الحظر ، وإنما أبيح للحاجة ، فيردّ بدله - كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة .
وقد روى ابن أبي الدنيا عن حارثة بن مضرب قال : قال عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : إني أنزلت نفسي من هذا المال منزلة وإلى اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن احتجت استقرضت ، فإذا أيسرت قضيت .
وروى سعيد بن منصور في : " سننه " : حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن البراء قال : قال لي عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : إنما أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم إن احتجت أخذت منه ، فإذا أيسرت رددته ، وإن استغنيت استعففت ، قال ابن كثير : إسناد صحيح .
وروى البيهقيّ عن ابن عباس نحو ذلك ، وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { فَلْيَأْكُلْ بِالمعْرُوفِ } يعني القرض ، قال : وروي عن عبيدة وأبي العالية وأبي وائل ، وسعيد بن جبير ( في إحدى الروايات ) ومجاهد والضحاك والشعبي والسدّي نحو ذلك .
قال الفخر الرازي : وبعض أهل العلم خص هذا الإقراض بأصول الأموال من الذهب الفضة وغيرها .
وأما التناول من ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب فمباح له إذا كان غير مضر بالمال ، وهذا قول أبي العالية وغيره ، واحتجوا بأن الله تعالى قال : { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } فحكم في الأموال بدفعها إليهم . انتهى .
أقول : الكل محتمل ، إذ لا نص من الأصلين على واحد منها ، ولا يخفى الورع .
{ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } أي : بعد البلوغ والرشد .
{ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } أي : عند الدفع بأنهم قبضوها ، فإنه أنفى للتهمة وأبعد من الخصومة .
قال السيوطيّ : فيه الأمر بالإشهاد ندباً ، وقيل : وجوباً ، ويستفاد منه أن القول في الدفع قول الصبيّ ، لا الولي .
فلا يقبل قوله إلا ببينة .
{ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً } أي : كافياً في الشهادة عليكم بالدفع والقبض ، أو محاسباً ، فلا تخالفوا ما أمركم به ، ولا يخفى موقع هذا التذييل هنا ، فإن الوصي يحاسب على ما في يده .
وفيه وعيد لوليّ اليتيم وإعلام له أنه تعالى يعلم باطنه كما يعلم ظاهره ، لئلا ينوي أو يعمل في ماله ما لا يحل ، ويقوم بالأمانة التامة في ذلك إلى أن يصل إليه ماله .
وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تَأمّرَنّ على اثنين ولا تَوَلّيَنّ مال يتيم > .
ثم ذكر تعالى أحكام المواريث بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمّا قَلّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مّفْرُوضاً } [ 7 ]
{ لّلرّجَالِ } أي : الأولاد والأقرباء .
{ نَصيِبٌ } أي : حظ .
{ مّمّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } أي : المتوفون .
{ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمّا قَلّ مِنْهُ } أي : المال .
{ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مّفْرُوضاً } أي : مقطوعاً واجباً لهم ، وإيراد حكم النساء على الاستقلال دون الدرج في تضاعيف أحكام الرجال ، بأن يقال للرجال والنساء إلخ للاعتناء بأمرهن ، والإشارة من أول الأمر إلى تفاوت ما بين نصيبي الفريقين ، والمبالغة في إبطال حكم الجاهلية ، فإنهم كانوا لا يورّثون النساء والأطفال ، ويقولون ، لا يرث إلا من طاعَنَ بالرماح ، وذاد عن الحوزة ، وحاز الغنيمة ، وقد استدل بالآية على توريث ذوي الأرحام لأنهم من الأقربين ، وهو استدلال وجيه ، ولا حجة لمن حاول دفعه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مّعْرُوفاً } [ 8 ]
{ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ } أي : قسمة التركة .
{ أُوْلُواْ الْقُرْبَى } ذوو القرابة ممن لا يرث ، قدّمهم لأن إعطاءهم صدقة وصلة .
{ وَالْيَتَامَى } الضعفاء بفقد الآباء .
{ وَالمسَاكِينُ } الضعفاء بفقد ما يكفيهم من المال .
{ فَارْزُقُوهُم مّنْهُ } أي : أعطوهم من الميراث شيئاً .
{ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مّعْرُوفاً } بتلطيف القول لهم والدعاء لهم بمثل : بارك الله عليكم .
قال ابن كثير في هذه الآية : المعْنَى أَنّهُ إِذَا حَضَرَ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاء مِنْ الْقَرَابَة الّذِينَ لَا يَرِثُونَ ، وَالْيَتَامَى وَالمسَاكِين قِسْمَة مَال جَزِيل فَإِنّ أَنْفُسهمْ تَتُوق إِلَى شَيْء مِنْهُ إِذَا رَأَوْا هَذَا يَأْخُذ وَهَذَا يَأْخُذ ، وَهُمْ يَائِسُونَ لَا يُعْطُونَهُ شيئاً ، فَأَمَرَ اللّه تَعَالَى وَهُوَ الرّءُوف الرّحِيم أَنْ يُرْضَخ لَهُمْ شَيْء مِنْ الْوَسَط يَكُون بِرّا بِهِمْ وَصَدَقَة عَلَيْهِمْ وَإِحْسَاناً إِلَيْهِمْ وَجَبْراً لِكَسْرِهِمْ .
كَمَا قَالَ اللّه تَعَالَى : { كُلُوا مِنْ ثَمَره إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقّه يَوْم حَصَاده } [ الأنعام : من الآية 141 ] .
وَذَمّ الّذِينَ يَنْقُلُونَ المال خِفْيَة ، خَشْيَة أَنْ يَطّلِع عَلَيْهِمْ المحَاوِيج وَذَوُو الْفَاقَة كَمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ أَصْحَاب الْجَنّة : { إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنّهَا مُصْبِحِينَ } [ القلم : من الآية 17 ] ، { فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنّهَا الْيَوْم عَلَيْكُمْ مِسْكِين } [ القلم : 23-24 ] : { دَمّرَ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالهَا } [ محمد : 10 ] فَمَنْ جَحَدَ حَقّ اللّه عَلَيْهِ عَاقَبَهُ فِي أَعَزّ مَا يَمْلِكهُ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيث : < مَا خَالَطَتْ الصّدَقَة مَالاً إِلّا أَفْسَدَتْهُ > ، أي : مَنْعهَا يَكُون سَبَب مَحْق ذَلِكَ المال بِالْكُلّيّةِ . انتهى .
وقد روى البخاريّ عن ابن عباس ، في الآية قال : هي محكمة وليست بمنسوخة ، وفي لفظ عنه : هي قائمة يعمل بها .
وروي عن جماعة من الصحابة والتابعين ، في هذه الآية : أنها واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم .
وروى عبد الرزاق في : " مصنفه " أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم ميراث أبيه عبد الرحمن ، وعائشة حية ، فلم يدع في الدار مسكيناً ولا ذا قرابة إلا أعطاه من ميراث أبيه ، وتلا : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى } الآية .
وأخرج سعيد بن منصور عن يحيى بن يعمر قال : ثلاث آيات مدنيات محكمات ضيّعهن كثير من الناس : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ } وآية الاستئذان : { وَالّذِينَ لم يَبْلُغُوا الْحُلم مِنكُمْ } وقوله : { إِنّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنثَى } الآية .
وقد ذكر ههنا كثير من المفسرين آثاراً عن بعض السلف بأن هذه الآية منسوخة بآية الميراث ، وهي من الضعف بمكان ، ولقد أبعد القائل بالنسخ عن فهم سر الآية فيما ندبت إليه من هذه المكرمة الجليلة ، وهي إسعاف من ذكر من المال الموروث ، والنفس الأبية تنفر من أن تأخذ المال الجزل ، وذو الرحم حاضر محروم ، ولا يسعَف ولا يساعَد ، فالآية بينة بنفسها ، واضحة في معناها وضوح الشمس في الظهيرة ، لا تنسخ أو تقومَ الساعة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } [ 9 ]
{ وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } في الآية وجوه .
الأول : أنها أمر للأوصياء بأن يخشوا الله تعالى ويتقوه في أمر اليتامى ، فيفعلوا بهم ما يحبون أن يفعل بذراريّهم الضعاف بعد وفاتهم .
الثاني : أنها أمر لمن حضر المريض من العوّاد عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم أو يخشوا أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم ، فلا يتركوه أن يضرّ بهم بصرف المال عنهم .
الثالث : أنها أمر للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين ، متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافاً مثلهم ، هل يجوّزون حرمانهم ؟
الرابع : أنها أمر للموصين بأن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية .
كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده قال : يا رسول الله ! إني ذو مال ولا يرثني إلى ابنة ، أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : < لا > ، قال : فالشطر ؟ قال : < لا > ، قال : فالثلث ، قال : < الثلث ، والثلث كثير > ، ثم قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس > .
وفي الصحيح عن ابن عباس قال : لو غض الناس إلى الربع ؟ لأن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال الثلث : والثلث كثير ( أو كبير ) .
والوجه الأول : حكاه ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس ، قال ابن كثير : وهو قول حسن يتأيد بما بعده من التهديد في أكل أموال اليتامى ظلماً .
ونقل الرازي عن القاضي : إن هذا الوجه أليق بما تقدم وتأخر من الآيات الواردة في باب الأيتام ، فجعل تعالى آخر ما دعاهم إلى حفظ مال اليتيم أن ينبههم على حال أنفسهم وذريتهم إذا تصوروها ، ولا شك أنه من أقوى الدواعي والبواعث في هذا المقصود .
قال الزمخشري : والقول السديد من الأوصياء أن لا يؤذوا اليتامى ، ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب ، ويدعوهم بـ ( يا بنيّ ) ويا ولدي ، ومن الجالسين إلى المريض أن يقولوا له ، إذا أراد الوصية : لا تسرف في وصيتك فتجحف بأولادك ، مثل قول رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لسعد : < إنك إن تترك ولدك أغنياء ، خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس > ، ومن المتقاسمين ميراثهم أن يلطفوا القول ويجملوه للحاضرين .
لطيفة :
لا بد من حمل قوله تعالى : ( تركوا ) على المشارفة : ليصح وقوع ( خافوا ) خيراً له ، ضرورة أنه لا خوف بعد حقيقة الموت وترك الورثة ، ونظيره : { وَإِذَا طَلّقْتُمُ النّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَأَمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ } [ البقرة : من الآية 231 ] ، أي : شارفن بلوغ الأجل ، ولهذا المجاز ، في التعبير عن المشارفة على الترك ، بالترك ، سرّ بديع ، وهو التخويف بالحالة التي لا يبقى معها مطمع في الحياة ، ولا في الذبّ عن الذرية الضعاف ، وهي الحالة التي ، وإن كانت من الدنيا ، إلا أنها لقربها من الآخرة ، ولصوقها بالمفارقة ، صارت من حَيّزها ، ومعبراً عنها بما يعبر به عن الحالة الكائنة بعد المفارقة من الترك ، كذا في الانتصاف .
تنبيه :
قال بعض المفسرين : إن يجب أن يحب الإِنسَاْن لأخيه ما يحب لنفسه ويحب لذرية غيره من المؤمنين ما يحب لذريته ، وأن على وليّ اليتيم أن لا يؤذي اليتيم ، بل يكلمه كما يكلم أولاده بالأدب الحسن والترحيب ، ويدعوا اليتيم : يا بني ، يا ولدي ، وقد جاء في الرقة على الأيتام آثار كثيرة .
وفي الآية إشارة إلى إرشاد الآباء ، الذي يخشون ترك ذرية ضعاف ، بالتقوى في سائر شؤونهم حتى تحفظ أبناؤهم وتغاث بالعناية منه تعالى ، ويكون في إشعارها تهديد بضياع أولادهم إن فقدوا تقوى الله تعالى ، وإشارة إلى أن تقوى الأصول تحفظ الفروع .
وأن الرجال الصالحين يحفظون في ذريتهم الضعاف ، كما في آية : { وَأَمّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامينِ يَتِيمينِ فِي المدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } [ الكهف : 82 ] ، إلى آخرها ، فإن الغلامين حُفِظا ، ببركة صلاح أبيهما ، في أنفسهما ومالهما .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّ الّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلما إِنّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [ 10 ]
{ إِنّ الّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلما } أي : على وجه الظلم من الورثة ، أو أولياء السوء وقضاته ، بخلاف أكل الفقير الناظر في أموالهم بقدر أجرته ، كما تقدم .
{ إِنّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } أي : ما يجر إلى النار ويؤدي إليها .
{ وَسَيَصْلَوْنَ } أي : في القيامة .
{ سَعِيراً } أي : ناراً مستعرة .
روى ابن حبان في : " صحيحه " وابن مردويه وابن أبي حاتم عن أبي برزة أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم تأجج أفواههم ناراً > ، قيل : يا رسول الله ! من هم ؟ قال : ألم تر أن الله قال : { إِنّ الّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلماً } الآية .
لطيفة :
قال الزمخشري : في بطونهم ، أي : ملء بطونهم ، يقال : أكل فلان في بطنه وفي بعض بطنه ، قال الشاعر :
~كلوا في بعض بطنكموا تعفوا فإن زمانكم زمن خميص
قال الناصر : ومثله : قد بدت البغضاء من أفواههم أي : شرقوا بها وقالوها بملء أفواههم ، ويكون المراد بذكر البطون تصوير الأكل للسامع حتى يتأكد عنده بشاعة هذا الجرم بمزيد تصوير ، ولأجل تأكيد التشنيع على الظالم لليتيم في ماله ، خص الأكل ، لأنه أبشع الأحوال التي يتناول مال اليتيم فيها ، والله أعلم .
تنبيه :
روى أبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم أنه لما نزلت هذه الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل له الشيء من طعامه ، فيحبس له حتى أكله أو يفسد ، فاشتد عليهم ذلك ، فذكروا ذلك لرسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فأنزل الله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ } [ البقرة : من الآية 220 ] ، الآية ، فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابه بشرابه ، وقد مضى ذلك في سورة البقرة .
قال الرازي رحمه الله : ومن كالجهال من قال : صارت هذه الآية منسوخة بتلك ، وهو بعيد ، لأن هذه الآية في المنع من الظلم ، وهذا لا يصير منسوخاً بتلك ، بل المقصود أن مخالطة أموال اليتامى ، إن كان على سبيل الظلم ، فهو من أعظم أبواب الإثم ، كما في هذه الآية ، وإن كان على سبيل التربية والإحسان ، فهو من أعظم أبواب البر ، كما في قوله : { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } .
وقال رحمه الله قبل ذلك : ما أشد دلالة هذا الوعيد على سعة رحمته تعالى وكثرة عفوه وفضله ، لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى ، بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا السّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لم يَكُن لّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمّهِ الثّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمّهِ السّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مّنَ اللّهِ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيماً } [ 11 ]
وقوله تعالى :
{ يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ } شروع في تفصيل أحكام المواريث المجملة .
في قوله تعالى : { لّلرّجَالِ نَصِيبٌ } إلخ .
قال الحافظ ابن كثير : هَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة وَاَلّتِي بَعْدهَا وَالْآيَة الّتِي هِيَ خَاتِمَة هَذِهِ السّوَرة ، هُنّ آيَات عِلْم الْفَرَائِض ، وَهُوَ مُسْتَنْبَط مِنْ هَذِهِ الْآيَات الثّلَاث ، وَمِنْ الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي ذَلِكَ مِمّا هُوَ كَالتّفْسِيرِ لِذَلِكَ . انتهى .
والمعنى : يأمركم الله ويعهد إليكم في شأن ميراث أولادكم بعد موتكم .
{ لِلذّكَرِ } أي : منهم .
{ مِثْلُ حَظّ الأُنثَيَيْنِ } أي : نصيبهما اجتماعاً وانفراداً .
أما الأول : فإنه يعدّ كل ذكر بأنثيين ، في مثل ابن مع بنتين ، وابن ابنٍ مع بنتي ابن ، وهكذا في السافلين ، فيضعف نصيبه ويأخذ سهمين ، كما أن لهما سهمين ، وأما الثاني فإن له الكل وهو ضعف نصيب البنت الواحدة ، لأنه جعل لها في حال انفرادها النصف ، فاقتضى ذلك أن للذكر ، عند انفراده ، مثلي نصيبها عند انفرادها ، وذلك الكامل ، فالمذكور هنا ميراث الذكر مطلقاً ، مجتمعاً مع الإناث ومنفرداً ، كما حققه صاحب " الانتصاف " .
تنبيه :
قال السيوطيّ : استدل بالآية من قال بدخول أولاد الابن في لفظ ( الأولاد ) للإجماع على إرثهم ، دون أولاد البنت .
لطائف :
الأولى : وجه الحكمة في تضعيف نصيب الذكر هو احتياجه إلى مؤنة النفقة ومعاناة التجارة والتكسب وتحمل المشاق ، فهو إلى المال أحوج ، ولأنه لو كمل نصيبها ، مع أنها قليلة العقل ، كثيرة الشهوة لأتلفته في الشهوات إسرافاً ، ولأنها قد تنفق على نفسها فقط ، وهو على نفسه وزوجته .
الثانية : لم يقل : للذكر ضعف نصيب الأنثى ، لأن الضعف يصدق على المثلين فصاعداً ، فلا يكون نصاً ، ولم يقل : للأنثيين مثل حظ الذكر ، ولا للأنثى نصف حظ الذكر ، تقديماً للذكر بإظهار مزيته على الأنثى ، ولم يقل : للذكر مثلاً نصيب الأنثى ، لأنه المثل في المقدار لا يتعدد إلا بتعدد الأشخاص ، ولم يعتبر ههنا .
الثالثة : إيثار اسمي ( الذكر والأنثى ) على ما ذكر أولاً من الرجال والنساء ، للتنصيص على استواء الكبار والصغار من الفريقين في الاستحقاق ، من غير دخل للبلوغ والكبر في ذلك أصلاً ، كما هو زعم أهل الجاهلية حيث كانوا لا يورثون الأطفال ، كالنساء .
الرابعة : استنبط بعضهم من هذه الآية أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالدة بولدها ، حيث أوصى الوالدين بأولادهم ، فعلم أنه أرحم بهم منهم .
كما جاء في الحديث الصحيح ، وقد رأى امرأة من السبي ، فرق بينها وبين ولدها فجعلت تدور على ولدها ، فلما وجدته من السبي أخذته فألصقته بصدرها وأرضعته ، فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لأصحابه : < أَتَرَوْنْ هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على ذلك ؟ > قالوا : لا يا رسول الله ، قال : < فوالله ! لَلّهُ أرحم بعباده من هذه بولدها > .
{ فَإِن كُن } أي : الأولاد ، والتأنيث باعتبار الخبر وهو قوله تعالى : { نِسَاء } يعني بنات خلصاً ليس معهن ذكر .
{ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } خبر ثان أو صفة لنساء ، أي : نساء زائدات على اثنتين .
{ فَلَهُنّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } أي : المتوفى المدلول عليه بقرينة المقام .
تنبيه :
ظاهر النظم القرآني أن الثلثين فريضة الثلاث من البنات فصاعداً حيث لا ذكر معهن ، ولم يسم للبنتين فريضة .
وقد اختلف أهل العلم في فريضتهما ، فذهب الجمهور إلى أن لهما ، إذا انفردتا عن البنين ، الثلثين .
وذهب ابن عباس إلى أن فريضتهما النصف ، احتج الجمهور بالقياس على الأختين ، فإن الله سبحانه قال في شأنهما : { فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثّلُثَانِ } فألحقوا البنتين بالأختين في استحقاقهما الثلثين ، كما ألحقوا الأخوات ، إذا زدن على اثنتين ، بالبنات ، في الاشتراك في الثلثين .
وقيل : في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين ، وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث ، كان للابنتين ، إذا انفردتا ، الثلثان ، هكذا احتج بهذه الحجة إسماعيل بن عياش والمبرد .
قال النحاس : وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط ، لأن الاختلاف في البنتين إذا انفردتا عن البنين ، وأيضاً للمخالف أن يقول : إذا ترك بنتين وابناً فللبنتين النصف ، فهذا دليل على أن هذا فرضهما .
ويمكن تأييد ما احتج به الجمهور بأن الله سبحانه لما فرض للبنت الواحدة النصف إذا انفردت ، بقوله : { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النّصْفُ } كان فرض البنتين ، إذا انفردتا ، فوق فرض الواحدة ، وأوجب القياس على الأختين الاقتصار للبنتين على الثلثين .
وقيل إن ( فوق ) زائدة ، والمعنى : إن كن نساء اثنتين ، كقوله تعالى : { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ } [ الأنفال : من الآية 12 ] أي : الأعناق .
ورد هذا النحاس وابن عطية فقالا : هو خطأ ، لأن ظروف وجميع الأسماء لا يجوز في كلام العرب أن تزاد لغير معنى .
قال ابن عطية : ولأن قوله ( فوق الأعناق ) هو الفصيح وليست ( فوق ) زائدة بل هي محكمة المعنى ، لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ ، كما قال دريد بن الصمة : اخفض عن الدماغ وارفع عن العظم ، فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال . انتهى .
وأيضاً لو كان لفظ ( فوق ) زائداً كما قالوا ، لقال : فلهما ثلثا ما ترك ، ولم يقل : فلهن ثلثا ما ترك .
وأوضح ما يحتج به للجمهور ما أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذيّ وابن ماجة وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم والبيهقيّ في : " سننه " عَنْ جَابِرِ قَالَ : جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرّبِيعِ بِابْنَتَيْهَا مِنْ سَعْدٍ إِلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللّهِ هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرّبِيعِ ، قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيداً ، وَإِنّ عَمّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالاً ، وَلاَ تُنْكَحَانِ إِلاّ وَلَهُمَا مَالٌ .
فقَالَ : < يَقْضِى اللّهُ فِي ذَلِكَ > ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إِلَى عَمّهِمَا فَقَالَ : < أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثّلُثَيْنِ ، وأُمّهُمَا الثّمُنَ ، وَمَا بَقِىَ فَهُوَ لَكَ > .
أخرجوه من طرق ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر .
قال الترمذيّ : هَذَا حَدِيثٌ [ حَسَنٌ ] صَحِيحٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَقِيلٍ ، وَقَدْ رَوَاهُ شَرِيكٌ أَيْضاً عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَقِيلٍ من حديثه ، كذا في : " فتح البيان " .
{ وَإِن كَانَتْ } أي : المولودة .
{ وَاحِدَةً } أي : امرأة واحدة ليس معها أخ ولا أخت .
{ فَلَهَا النّصْفُ } أي : نصف ما ترك ، ولم يكمل لها لأنها ناقصة ، ولذلك لم يُجعل لها الثلثان اللذان هما نصيب الابن معها ، ثم ذكر ، بعد ميراث الأولاد ، ميراث الوالدين فقال : { وَلأَبَوَيْهِ } أي : الميت ، وهو كناية عن غير مذكور ، وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه ، والمراد بالأبوين الأب والأم ، والتثنية على لفظ الأب للتغليب .
{ لِكُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا السّدُسُ مِمّا تَرَكَ } من المال .
{ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ } ذكر أو أنثى .
{ فَإِن لم يَكُن لّهُ } للميت : { وَلَدٌ } ذكر أو أنثى : { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمّهِ الثّلُثُ } أي ثلث المال مما ترك ، والباقي للأب للذكر مثل حظ الأنثيين لكن قرر لها الثلث تنزيلاً لها منزلة البنت مع الابن ، لا منفردة ، حطّاً لها عن درجتها ، لقيام البنت مقام الميت في الجملة ، قاله المهايميّ .
{ فَإِن كَانَ لَهُ } أي : للميت : { إِخْوَةٌ } من الأب والأم ، أو من الأب أو من الأم ، ذكوراً أو إناثاً .
{ فَلأُمّهِ السّدُسُ } يعني لأم الميت سدس التركة .
{ مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } خبر مبتدأ محذوف ، أي : هذه الفروض المذكورة إنما تقسم للورثة من بعد إنفاذ وصية يوصي بها الميت إلى الثلث ، ومن بعد قضاء دين على الميت .
وقرئ في ( السبع ) : يوصي مبنياً للمفعول وللفاعل .
قال الحافظ ابن كثير : أَجْمَعَ الْعُلَمَاء مِنْ السّلَف وَالْخَلَف عَلَى أَنّ الدّيْن مُقَدّم عَلَى الْوَصِيّة .
وَرَوَى أَحْمَد وَالترمذيّ وَابْن مَاجَهْ وَأَصْحَاب التّفَاسِير مِنْ حَدِيث اِبْن إِسْحَاق عَنْ الْحَارِث بْن عَبْد اللّه الْأَعْوَر عَنْ عليّ بْن أَبِي طَالِب - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قَالَ : إِنّكُمْ تَقْرَءُونَ هذه الآية : { مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } < وَإِنّ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قَضَى بِالدّيْنِ قَبْل الْوَصِيّة ، وَإِنّ أَعْيَان بَنِي الْأُمّ يَتَوَارَثُونَ دُون بَنِي الْعِلّات ، الرّجُل يَرِث أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمّه دُون أَخِيهِ لِأَبِيهِ > .
ثُمّ قَالَ الترمذيّ : لَا نَعْرِفهُ إِلّا مِنْ حَدِيث الْحَارِث ، وَقَدْ تَكَلّمَ فِيهِ بَعْض أَهْل الْعِلْم ، لَكِنْ كَانَ حَافِظاً لِلْفَرَائِضِ ، مُعْتَنِياً بِهَا وَبِالْحِسَابِ ، فَاَللّه أَعْلَم .
قال السيوطيّ في : " الإكليل " : في الآية أن الميراث إنما يقسم بعد قضاء الدين وتنفيذ الوصايا ، وفيها مشروعية الوصية ، واستدل بتقديمها في الذّكر من قال بتقديمها على الدين في التركة ، وأجاب من أخرها بأنها قدمت لئلا يتهاون بها ، واستدل بعمومها من أجاز الوصية بما قل أو كثر ، ولو استغرق المال ، ومن أجازها للوارث والكافر ، حربياً أو ذمياً ، واستدل بها من قال : إن الدّين يمنع انتقال التركة إلى ملك الوارث ، ومن قال إن دين الحج والزكاة مقدم على الميراث ، لعموم قوله : { أَوْ دَيْنٍ } انتهى .
وقد روى الإمام أحمد وابن ماجة بسند صحيح عَنْ سَعْدِ بْنِ الْأَطْوَلِ أَنّ أَخَاهُ مَاتَ وَتَرَكَ ثَلَاثَ مِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَتَرَكَ عِيَالاً فَأَرَدْتُ أَنْ أُنْفِقَهَا عَلَى عِيَالِهِ ، فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إِنّ أَخَاكَ مُحْتَبَسٌ بِدَيْنِهِ فَاقْضِ عَنْهُ > ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللّهِ ! قَدْ أَدّيْتُ عَنْهُ ، إِلّا دِينَارَيْنِ ادّعَتْهُمَا امرأة وَلَيْسَ لَهَا بَيّنَةٌ ، قَالَ : < فَأَعْطِهَا فَإِنّهَا مُحِقّةٌ > .
لطيفة :
( فائدة ) وصف الوصية بقوله : { يُوصِي بِهَا } هو الترغيب في الوصي والندب إليها .
وإيثار ( أو ) المفيدة للإباحة في قوله : أو دين ، على ( الواو ) للدلالة على تساويهما في الوجوب ، وتقدمهما على القسمة مجموعين أو منفردين ، وتقديم الوصية على الدّين ، ذكْراً مع تأخرها عنه حكماً ، ما قدمنا من إظهار كمال العناية بتنفيذها ، لكونها مظنة التفريط في أدائها ، ولاطرّادها ، بخلاف الدين - ، أفاده أبو السعود .
{ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } أي : لا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم ، والمعنى : فرض الله الفرائض ، على ما هو ، على حكمة ، ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم ، فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة ، والتفاوت في السهام بتفاوت المنافع ، وأنتم لا تدرون تفاوتها ، فتولى الله ذلك فضلاً منه ، ولم يكلها إلى اجتهادكم لعجزكم عن معرفة المقادير ، وهذه الجملة اعتراضية مؤكدة لأمر القسمة ، وردّ لما كان في الجاهلية .
قال السمرقندي : ويقال : معنى الآية أن الله تعالى علمكم قسمة المواريث ، وأنكم لا تدرون أيهم أقرب موتاً فيرث منه الآخر . انتهى .
{ فَرِيضَةً مّنَ اللّهِ } نصبت نصب مصدر مؤكد لفعل محذوف ، أي : فرض الله ذلك فرضاً ، أو لقوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللّهُ } فإنه في معنى : يأمركم ويفرض عليكم .
{ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيما } أي : بالمصالح والرتب : { حَكِيماً } أي : في كل ما قضى وقدر ، فيدخل فيه بيان أنصباء الذكر والأنثى ، دخولاً أولياً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لم يَكُن لّهُنّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنّ الرّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِن لم يَكُن لّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنّ الثّمُنُ مِمّا تَرَكْتُم مّن بَعْدِ وَصِيّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا السّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرّ وَصِيّةً مّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ } [ 12 ]
{ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } من المال .
{ إِن لم يَكُن لّهُنّ وَلَدٌ } ذكر أو أنثى منكم أو من غيركم .
{ فَإِن كَانَ لَهُنّ وَلَدٌ } على نحو ما فصّل .
{ فَلَكُمُ الرّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ } من المال ، والباقي لباقي الورثة .
{ مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ } أي : من بعد استخراج وصيتهن وقضاء دينهن .
{ وَلَهُنّ الرّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ } من المال .
{ إِن لم يَكُن لّكُمْ وَلَدٌ } ذكر أو أنثى ، منهن أو من غيرهن .
{ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ } على النحو الذي فصل .
{ فَلَهُنّ الثّمُنُ مِمّا تَرَكْتُم مّن بَعْدِ وَصِيّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ } الكلام فيه كما تقدم ، وفي تكرير ذكر الوصية والدين ، من الاعتناء بشأنهما ، ما لا يخفى .
لطيفة :
في الآية ما يدل على فضل الرجال على النساء ، لأنه تعالى حيث ذكر الرجال ، في هذه الآية ، ذكرهم على سبيل المخاطبة ، وحيث ذكر النساء ذكرهن على سبيل المغايبة ، وأيضاً خاطب الله الرجال في هذه الآية سبع مرات ، وذكر النساء فيها على سبيل الغيبة أقل من ذلك ، وهذا يدل على تفضيل الرجال على النساء ، كما فضلوا عليهن في النصيب ، كذا يستفاد من الرازي .
{ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ } أي : تورث كذلك .
{ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا السّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ } أي : الأخوة والأخوات من الأم .
{ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ } أي : من واحد .
{ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثّلُثِ } يستوي فيه ذكرهم وأنثاهم .
قال المجد في : " القاموس " : والكَلالَةُ : مَن لا ولَدَ له ولا والِدَ ، أو ما لم يكنْ من النّسَبِ لَحّاً ، أو مَن تَكَلّلَ نَسَبُهُ بنَسَبِكَ ، كابْنِ العَمّ وشِبْهِهِ ، أو هي الأخُوّةُ للْأُمّ ، أَو بَنو العَمّ [ في المطبوع : العلم ] الأَباعدُ ، أو ما خَلا الوالدَ والوَلَدَ [ في المطبوع : الوالد ] ، أو هي من العَصَبَةِ مَنْ وَرِثَ منه الإِخْوَةُ للْأُمّ ، فهذه سبعة أقوال محكية عن أئمة اللغة .
وقال ابن بري : اعلم أَن الكَلالة في الأَصل هي مصدر ( كَلّ الميت يَكِلّ كَلاّ وكَلالة ) فهو كَلّ إِذا لم يخلف ولداً ولا والداً يرِثانه ، هذا أَصلها .
قال : ثم قد تقع الكَلالة على العين دون الحدَث ، فتكون اسماً للميت المَوْروث ، وإِن كانت في الأَصل اسماً للحَدَث على حدّ قولهم : هذا خَلْقُ الله أي : مخلوق الله .
قال : وجاز أَن تكون اسماً للوارث على حدّ قولهم : رجل عَدْل أي : عادل ، وماءٌ غَوْر أي : غائر .
قال : والأَول هو اختيار البصريين من أَن الكَلالة اسم للموروث ، قال : وعليه جاء التفسير في الآية : إِن الكَلالة الذي لم يخلّف ولداً ولا والداً ، فإِذا جعلتها للميت كان انتصابها في الآية على وجهين :
أَحدهما : أَن تكون خبر ( كان ) تقديره : وإِن كان الموروث كَلالةً ، أي : كَلاّ ليس له ولد ولا والد .
والوجه الثاني : أَن يكون انتصابها على الحال من الضمير في ( يُورَث ) أي : يورَث وهو كَلالة ، وتكون ( كان ) هي التامة التي ليست مفتقرة إِلى خبر .
قال : ولا يصح أَن تكون الناقصة كما ذكره الحوفي ، لأَن خبرها لا يكون إِلا الكَلالة ، ولا فائدة في قوله ( يورَث ) ، والتقدير إِن وقَع أَو حضَر رجل يموت كَلالة ، أي : يورَث وهو كَلالة أي : كَلّ ، وإِن جعلتها للحدَث دون العين جاز انتصابها ، على ثلاثة أَوجه :
أَحدها : أَن يكون انتصابها على المصدر ، على تقدير حذف مضاف تقديره : يورَث وِراثة كَلالةٍ ، كما قال الفرزدق :
~ورِثْتُم قَناة المُلْك لا عن كَلالةٍ
أَي ورثتموها وِراثة قُرْب لا وِراثة بُعْد ؛ وقال عامر بن الطّفَيْل :
~وما سَوّدَتْني عامِرٌ عن كَلالةٍ أَبى اللهُ أَنْ أَسْمُو بأُمّ ولا أَب
ومنه قولهم : هو ابن عَمّ كَلالةً أي : بعيد النسب ، فإِذا أَرادو القُرْب قالوا : هو ابن عَمّ دِنْيَةً .
والوجه الثاني : أَن تكون الكَلالة مصدراً واقعاً موقع الحال ، على حد قولهم : جاء زيد رَكْضاً ، أي : راكِضاً ، وهو ابن عمي دِنيةً أي : دانياً ، وابن عمي كَلالةً أي : بعيداً في النسَب .
والوجه الثالث : أَن تكون خبر ( كان ) على تقدير حذف مضاف ، تقديره : وإِن كان المَوْروث ذا كَلالة ؛ قال : فهذه خمسة أَوجه في نصب الكلالة :
أَحدها : أَن تكون خبر ( كان ) .
والثاني : أَن تكون حالاً .
الثالث : أَن تكون مصدراً ، على تقدير حذف مضاف .
الرابع : أَن تكون مصدراً في موضع الحال .
الخامس : أَن تكون خبر ( كان ) على تقدير حذف مضاف ، فهذا هو الوجه الذي عليه أَهل البصرة والعلماء باللغة ، أَعني أَن الكَلالة اسم للموروث دون الوارث .
قال : وقد أَجاز قوم من أَهل اللغة ، وهم أَهل الكوفة ، أَن تكون الكَلالة اسماً للوارِث ، واحتجّوا في ذلك بأَشياء منها :
قراءة الحسن : { وإِن كان رجل يُورِث كَلالةً } بكسر الراء ، فالكَلالة على ظاهر هذه القِراءة هي ورثةُ الميت ، وهم الإِخوة للأُم .
واحتجّوا أَيضاً بقول جابر أنه قال : يا رسول الله ! إِنما يرِثني كَلالة .
فإِذا ثبت حجة هذا الوجه كان انتصاب كَلالة أَيضاً على مثل ما انتصبت في الوجه
الخامس من الوجه الأَول ، وهو أَن تكون خبر ( كان ) ويقدر حذف مضاف ، ليكون الثاني هو الأَول ، تقديره : وإِن كان رجل يورِث ذا كَلالة ، كما تقول ذا قَرابةٍ
ليس فيهم ولد ولا والد ، قال : وكذلك إِذا جعلتَه حالاً من الضمير في ( يورث ) تقديره ذا كَلالةٍ .
قال : وذهب ابن جني في قراءة مَنْ قرأَ : { يُورِث كَلالة } و : { يورّث كَلالة } أَن مفعولي ( يُورِث ويُوَرّث ) محذوفان أي : يُورِث وارثَه مالَه ، قال : فعلى هذا يبقى ( كَلالة ) على حاله الأُولى التي ذكرتها ، فيكون نصبه على خبر ( كان ) أَو على المصدر ، وتكون ( الكَلالة ) للمَوْروث لا للوارث ؛ قال : والظاهر أَن الكَلالة مصدر يقع على الوارث وعلى الموروث ، والمصدر قد يقع للفاعل تارة وللمفعول أُخرى ، والله أَعلم .
قال ابن الأَثير : الأَب والابن طرَفان للرجل ، فإِذا مات ولم يخلّفهما فقد مات عن ذهاب طَرَفَيْه ، فسمي ذهاب الطرَفين كَلالة .
وفي الأساس : ومن والمجاز كلّ فلان كلالة ، إذا لم يكن ولداً ولا والداً ، أي : كلّ عن بلوغ القرابة المماسة .
وقال الأزهري : ذكر الله الكلالة في سورة النساء في موضعين :
أحدهما : قوله : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا السّدُسُ } .
والموضع الثاني : قوله تعالى : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } [ النساء : 176 ] .
فجعل الكلالة هنا الأخت للأب والأم ، والإخوة للأب والأم ، فجعل للأُخت الواحدة نصفَ ما ترك الميت ، وللأُختين الثلثين ، وللإِخوة والأَخوات جميع المال بينهم ، للذكر مثل حَظّ الأُنثيين ، وجعل للأَخ والأُخت من الأُم ، وفي الآية الأُولى ، الثلث ، لكل واحد منهما السدس ، فبيّن بسِياق الآيتين أَن الكَلالة تشتمل على الإِخوة للأُم مرّة ، ومرة على الإِخوة والأَخوات للأَب والأُم .
ودل قول الشاعر أَنّ الأَب ليس بكَلالة ، وأَنّ سائر الأَولياء من العَصَبة بعد الولد كَلالة ؛ وهو قوله :
~فإِنّ أَبا المَرْء أَحْمَى له ومَوْلَى الكَلالة لا يغضَب
أَراد : أَن أَبا المرء أَغضب له إِذا ظُلِم ، وموالي الكلالة ، وهم الإِخوة والأَعمام وبنو الأَعمام وسائر القرابات ، لا يغضَبون للمرء غَضَب الأَب . انتهى .
وروى ابن جرير وغيره عن الشعبي قال : قال أبو بكر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : إني قد رأيت في الكلالة رأياً ، فإن كان صواباً فمن الله وحده لا شريك له ، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان ، والله بريء منه ، إنَّ [ في المطبوع : أنت ] الكلالة ما خلا الولد والوالد .
تنبيه :
اتفق العلماء على المراد من قوله تعالى : { وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } : الأخ والأخت من الأم .
وقرأ سعد بن أبي وقاص وغيره من السلف : وله أخ أو أخت من أم ، وكذا فسرها أبو بكر الصديق - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - فيما رواه قتادة عنه .
قال الكرخيّ : القراءة الشاذة كخبر الآحاد ، لأنها ليست من قبل الرأي .
وأطلق الشافعيّ الاحتجاج بها ، فيما حكاه البويطي عنه ، في باب ( الرضاع ) وباب ( تحريم الجمع ) وعليه جمهور أصحابه ، لأنها منقولة عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ولا يلزم من انتفاء خصوص قرآنيتهما ، انتفاء خصوص خبريتها .
وقال القرطبيّ : أجمع العلماء على أن الإخوة ههنا هم الأخوة لأم .
قال : ولا خلاف بين أهل العلم أن الإخوة للأب والأم ، أو للأب ، ليس ميراثهم هكذا ، فدل إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في قوله تعالى : { وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنثَيَيْنِ } : هم الأخوة لأبوين ، أو لأب .
لطيفة :
إفراد الضمير في قوله تعالى : { وَلَهُ أخٌ } إما لعَوْده على الميت المفهوم من المقام ، أم على واحد منهما ، والتذكير للتغليب ، أو على الرجل ، واكتفى بحكمه عن حكم المرأة لدلالة العطف على تشاركهما فيه .
{ مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّ } حال من ضمير : { يُوصِي } [ على قراءته مبنياً للفاعل ] أي : غير مدخل الضرر على الورثة ، كأن يوصي بأكثر من الثلث ، ومن فاعل فعل مضمر يدل عليه المذكور ( على قراءته مبنياً للمجهول ) وتخصيص هذا القيد بهذا المقام ، لما أن الورثة مظنة لتفريط الميت في حقهم .
وقد روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن ابن عباس مرفوعاً : الضرار في الوصية من الكبائر ، ورواه النسائي في : " سننه " عن ابن عباس موقوفاً ، وهو الصحيح كما قال ابن جرير .
{ وَصِيّةً مّنَ اللّهِ } مصدر مؤكد لفعل محذوف ، وتنوينه للتفخيم ، كقوله : { فَرِيضَةً مّنَ اللّهِ } أو منصوب بـ ( غير مضار ) على أنه مفعول به ، فإنه اسم فاعل معتمد على ذي الحال ، أو منفي معنى ، فيعمل في المفعول الصريح ، ويعضده القراءة بالإضافة ، أي : غير مضار لوصية الله وعهده في شأن الورثة .
{ وَاللّهُ عَلِيمٌ } بالمضار وغيره .
{ حَلِيمٌ } لا يعاجل بالعقوبة ، فلا يغتر بالإمهال .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ 13 ]
{ تِلْكَ } الأحكام .
{ حُدُودُ اللّهِ } أحكامه وفرائضه المحدودة التي لا تجوز مجاوزتها .
{ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ } في قسمة المواريث وغيرها .
{ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } أي : من تحت شجرها ومساكنها .
{ خَالِدِينَ فِيهَا } لا يموتون ولا يخرجون .
{ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } النجاة الوافرة بالجنة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مّهِينٌ } [ 14 ]
{ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ } في قسمة المواريث وغيرها .
{ وَيَتَعَدّ حُدُودَهُ } بتجاوز أحكامه وفرائضه بالميل والجور .
{ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مّهِينٌ } أي : لكونه غير ما حكم الله به ، وضادّ الله في حكمه ، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به ، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم .
وقد روى أبو داود في باب ( الإضرار في الوصية ) من ( سننه ) عن أَبَي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللهُ عليّه وسلّم - قَالَ < إِنّ الرّجُلَ لَيَعْمَلُ وَالْمَرْأَةَ [ في المطبوع : أو المرأة ] بِطَاعَةِ اللّهِ سِتّينَ سَنَةً ، ثُمّ يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ فَيُضَارّانِ فِي الْوَصِيّةِ فَتَجِبُ لَهُمَا النّارُ > .
وَقَرَأَ عَلَىّ أَبُو هُرَيْرَةَ : { مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ } حَتّى بَلَغَ : { ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } ورواه الترمذيّ وابن ماجة .
ورواه الإمام أحمد بسياق أتم ولفظه : < إِنّ الرّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْخَيْرِ سَبْعِينَ سَنَةً ، فَإِذَا أَوْصَى حَافَ فِي وَصِيّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِشَرّ عَمَلِهِ ، فَيَدْخُلُ النّارَ ، وَإِنّ الرّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الشّرّ سَبْعِينَ سَنَةً ، فَيَعْدِلُ فِي وَصِيّتِهِ ، فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ ، فَيَدْخُلُ الْجَنّةَ > ، قَالَ ثُمّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ : وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ : { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ } إِلَى قَوْلِهِ : { عَذَابٌ مُهِينٌ } .
ثم بين تعالى بعضاً من الأحكام المتعلقة بالنساء ، إثر بيان أحكام المواريث بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنّ أَرْبَعةً مّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنّ فِي الْبُيُوتِ حَتّىَ يَتَوَفّاهُنّ الموْتُ أَوْ يجعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } [ 15 ]
{ وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ } أي : الخصلة البليغة في القبح ، وهي الزنى ، حال كونهن .
{ مِن نّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنّ } أي : فاطلبوا من القاذفين لهن .
{ أَرْبَعةً مّنكُمْ } أي : من المسلمين .
{ فَإِن شَهِدُواْ } عليهن بها .
{ فَأَمْسِكُوهُنّ فِي الْبُيُوتِ } أي : احبسوهن فيها ، ولا تمكنوهن من الخروج ، صوناً لهن عن التعرض بسببه للفاحشة .
{ حَتّىَ يَتَوَفّاهُنّ الموْتُ } أي : يستوفي أرواحهن ، وفيه تهويل للموت وإبراز له في صورة من يتولى قبض الأرواح وتوفيها ، أو يتوفاهن ملائكة الموت .
{ أَوْ يجعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } أي : يشرع لهن حكماً خاصاً بهن ، ولعل التعبير عنه بـ ( السبيل ) للإيذان بكونه طريقاً مشكوكاً ، قاله أبو السعود .
وقد بينت السنة أن الله تعالى أنجز وعده ، وجعل لهن سبيلاً ، وذلك فيما رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ قال : إنّ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كَانَ إِذَا أنَزَلَ الْوَحْيُ كَرَبَ لَهُ وَتَرَبّدَ وَجْهُهُ ، وَإِذَا سُرّيَ عَنْهُ قَالَ : < خُذُوا عَنّي خُذُوا عَنّي - ثَلاَثَ مِرَارٍ - قَدْ جَعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً ، الثّيّبُ بِالثّيّبِ وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ ، الثّيّبُ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرّجْمُ ، وَالْبِكْرُ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ > .
هذا لفظ الإمام أحمد وكذا رواه أبو داود الطيالسي ولفظه عن عبادة : إن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كان إذا نزل عليه الوحي عرف ذلك فيه ، فلما أنزلت : { أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } [ النساء : 15 ] وارتفع الوحي قال : رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < خذوا حذركم قد جعل الله لهن سبيلاً ، البكر بالبكر جلد مائة ، ونفي سنة ، والثيب بالثيب ، جلد مائة ورجم بالحجارة > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنّ اللّهَ كَانَ تَوّاباً رّحِيماً } [ 16 ]
{ وَاللّذَانَ } : بتخفيف النون وتشديدها .
{ يَأْتِيَانِهَا } أي : الفاحشة : { مِنكُمْ } أي : الرجال .
{ فَآذُوهُمَا } بالسب والتعبير ، ليندما على ما فعلا .
{ فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا } أي : أعمالهما .
{ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا } بقطع الأذية والتوبيخ ، وبالإغماض والستر ، فإن التوبة والصلاح مما يمنع استحقاق الذم والعقاب .
{ إِنّ اللّهَ كَانَ تَوّاباً } أي : على من تاب .
{ رّحِيماً } واسع الرحمة ، وهو تعليل للأمر بالإعراض .
تنبيه :
هذا الحكم المذكور في الآيتين منسوخ ، بعضه بالكتاب وبعضه بالسنة .
قال الإمام الشافعيّ في " الرسالة " في ( أبواب الناسخ والمنسوخ ) بعد ذكره هاتين الآيتين [ 376 ] : ثم نسخ الله الحبس والأذى في كتابه فقال : { الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } [ النور : من الآية 2 ] .
[ 377 ] فدلت السنة على أن جلد المائة للزانيين البكرَين ( لحديث عُبَاْدَة بن الصامت المتقدم ) .
ثم قال : [ 380 ] فدلت سنة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أن جلد المائة ثابت على البكرين الحرين ، ومنسوخ عن الثيبين ، وأن الرجم ثابت عن الثيبين الحرين ، ثم قال : [ 381 ] لأن قول رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلاً : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم - أَوّلُ ما نزل ، فنُسِخَ به الحبس والأذى عن الزانيين .
[ 382 ] فلما رجم رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ماعزاً ولم يجلده ، وأمر أنيساً أن يغدو على امرأة الأسلمي ، فإن اعترفت رجمها - دل على نسخ الجلد عن الزانيين الحرين الثيبين ، وثبت الرجم عليهما ، لأن كل شيء أبداً بعد أول فهو آخر . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّمَا التّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [ 17 ]
{ إِنّمَا التّوْبَةُ عَلَى اللّهِ } استئناف مسوق لبيان أن قبول التوبة من الله تعالى ليس على إطلاقه ، كما ينبئ عنه وصفه تعالى بكونه تواباً رحيماً ، بل هو مقيد بما سينطق به النص الكريم .
قوله تعالى : { التّوْبَةُ } مبتدأ وقوله تعالى : { لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوَءَ } خبره .
وقوله تعالى : { عَلَى اللّهِ } متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار ، ومعنى كون التوبة عليه سبحانه ، صدورُ القبول عنه تعالى ، وكلمة : { عَلَى } للدلالة على التحقق البتة بحكم سبق الوعد حتى كأنه من الواجبات عليه سبحانه ، والمراد بالسوء المعصية ، صغيرة أو كبيرة - كذا في أبي السعود .
{ بِجَهَالَةٍ } متعلق بمحذوف وقع حالاً من فاعل .
{ يَعْمَلُونَ } أي : متلبسين بها ، أي : جاهلين سفهاء ، أو بـ : { يَعْمَلُونَ } على أن الباء سببية ، أي : يعملونه بسبب الجهالة ، والمراد بالجهل السفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل ، لا عدم العلم ، فإن من لا يعلم لا يحتاج إلى التوبة : والجهلُ بهذا المعنى حقيقة واردة في كلام العرب ، كقوله :
~فنجهل فوق جهل الجاهلينا
{ ثُمّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } أي : من زمان قريب ، وظاهر الآية اشتراط وقوع التوبة عقب المعصية بلا تراخ ، وإنها بذلك تنال درجة قبولها المحتم تفضلاً ، إذ بتأخيرها وتسويفها يدخل في زمرة المصرين ، فيكون في الآية إرشاد إلى المبادرة بالتوبة عقب الذنب ، والإنابة إلى المولى بعده فوراً ، ووجوب التوبة على الفور مما لا يستراب فيه ، إذ معرفة كون المعاصي مهلكات من نفس الإيمان وهو واجب على الفور ، وتتمته في : " الإحياء " .
إذا عرفت هذا ، فما ذكره كثير من المفسرين من أن المراد من قوله تعالى : { مِن قَرِيبٍ } ما قبل حضور الموت - بعيد من لفظ الآية وسرها التي أرشدت إليه ، أعني البدار إلى التوبة قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان ، عياذاً بالله تعالى .
( فإن قيل ) : من أين يستفاد قبول التوبة قبل حضور الموت ؟
( قلنا ) يستفاد من الآية التي بعدها ، ومن الأحاديث الوافرة في ذلك لا من قوله تعالى : { مِن قَرِيبٍ } بما أولوه ، وذلك لأن الآية الثانية وهي قوله تعالى : { وَلَيْسَتِ التّوْبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ حَتّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموْتُ قَالَ إِنّي تُبْتُ الآنَ } - صريحة في أن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة ، فبقي ما وراءه في حيز القبول .
وقد روى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قَالَ : < إِنّ اللّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ > .
ورواه ابن ماجة والترمذيّ وقال : حَسَنٌ غَرِيبٌ .
وروى أبو داود الطيالسي عن عبد الله بن عَمْرو قال : < من تاب قبل موته بعام تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه > ، ( قال أيوب ) فقلت له : إنما قال الله عز وجل : { إِنّمَا التّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } فقال : إنما أحدثك ما سمعت من رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .
وروى نحوه الإمام أحمد وسعيد بن منصور وابن مردويه .
وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَاْلَ : قَاْلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ، تَابَ اللّهُ عَلَيْهِ > .
وروى الحاكم مرفوعاً : < من تاب إلى الله قبل أن يغرغر قبل الله منه > .
وروى ابن ماجة عن ابن مسعود بإسناد حسن : < التائب من الذنب كمن لا ذنب له > .
وقوله تعالى : { فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ } أي : يقبل توبتهم : { وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَيْسَتِ التّوْبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ حَتّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموْتُ قَالَ إِنّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ 18 ]
{ وَلَيْسَتِ التّوْبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ حَتّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموْتُ } عند النزاع .
{ قَالَ } عند مشاهدة ما هو فيه .
{ إِنّي تُبْتُ الآنَ } فلا ينفعه ذلك ولا يقبل منه .
{ وَلاَ الّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفّارٌ } فلا ينفعهم ندمهم ولا توبتهم لأنهم بمجرد الموت يعاينون العذاب .
روى الإمام أحمد عن أبي ذَرّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إِنّ اللّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ عَبْدِهِ وْيَغْفِرُ لِعَبْدِهِ مَا لَمْ يَقَعِ الْحِجَابُ > ، قيل : يَا رَسُولَ اللّهِ ! وَمَا الْحِجَابِ ؟ قَالَ : < أَنْ تَمُوتَ النّفْسُ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ > .
ولهذا قال تعالى : { أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا } أي : أعددنا : { لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنّ إِلاّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مّبَيّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنّ بِالمعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيجعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } [ 19 ] وقوله تعالى : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النّسَاء كَرْهاً } نهيٌ عما كان يفعله أهل الجاهلية بالنساء من الإيذاء والظلم .
روى البخاريّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : كَانُوا إِذَا مَاتَ الرّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقّ بِامْرَأَتِهِ ، إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوّجَهَا ، وَإِنْ شَاءُوا زَوّجُوهَا ، وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوّجُوهَا ، فَهُمْ أَحَقّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلّ لَكُمْ } الآية .
ورواه أبو داود والنسائي وغيرهم ، ولفظ أبي داود عن ابن عباس : أَنّ الرّجُلَ كَانَ يَرِثُ امْرَأَةَ ذِي قَرَابَتِهِ فَيَعْضُلُهَا حَتّى تَمُوتَ ، أَوْ تَرُدّ إِلَيْهِ صَدَاقَهَا ، فَأَحْكَمَ اللّهُ عَنْ ذَلِكَ ، أي : نَهَى عَنْه .
قال السيوطيّ : ففيه أن الحر لا يتصور ملكه ولا دخوله تحت اليد ، ولا يجري مجرى الأموال بوجه .
و : { كَرْهاً } بفتح الكاف وضمها ، قراءتان ، أي : حال كونهن كارهات لذلك ! أو مكرهات عليه ، والتقييد ( بالكره ) لا يدل على الجواز عند عدمه ، لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه ، كما في قوله : { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } [ الإسراء : من الآية 31 ] .
{ وَلاَ تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنّ } الخطاب للأزواج ، كما عليه أكثر المفسرين .
روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : أن الآية في الرجل تكون له المرأة ، وهو كاره لصحبتها ، ولها عليه مهر ، فيضرها لتفتدي به .
والعضل الحبس والتضييق ، أي : ولا يحل لكم أن تضيقوا عليهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ، أي : من الصداق ، بأن يدفعن إليكم بعضه اضطراراً فتأخذوه منهن .
{ إِلاّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مّبَيّنَةٍ } أي : زنى ، كما قاله جماعة من الصحابة والتابعين ، يعني إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها وتضاجرها حتى تتركه لك ، وتخالعها ، كما قال تعالى في سورة البقرة : { وَلا يَحِلّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئاً إِلّا أَنْ يَخَافَا أَلّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ } [ البقرة : من الآية 229 ] ، الآية .
وروي عن ابن عباس أيضاً وغيره : الفاحشة المبينة النشوز والعصيان ، واختار ابن جرير أنه يعم ذلك كله : الزنى والعصيان والنشوز وبذاء اللسان وغير ذلك ، يعني أن هذا كله يبيح مضاجرتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه ، ويفارقها .
قال ابن كثير : وهذا جيد ، والله أعلم .
قال أبو السعود : ( مبينة ) على صيغة الفاعل من ( بيّن ) بمعنى تبين ، وقرئ على صيغة المفعول ، وعلى صيغة الفاعل من ( أَبَان ) بمعنى تبين أي : بينة القبح من النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء والسلاطة .
ويعضده قراءة أُبي : { إلا أن يفحشن عليكم } انتهى .
وفي " الإكليل " استدل قوم بقوله : { بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنّ } : على منع الخلع بأكثر مما أعطاها . انتهى .
ثم بين تعالى حق الصحبة مع الزوجات بقوله : { وَعَاشِرُوهُنّ } أي : صاحبوهن : { بِالمعْرُوفِ } أي : بالإنصاف في الفعل والإجمال في القول حتى لا تكونوا سبب الزنى بتركهن ، أو سبب النشوز أو سوء الخلق ، فلا يحل لكم حينئذ .
قال السيوطيّ في : " الإكليل " : في الآية وجوب المعروف من توفية المهر والنفقة والقَسْم واللين في القول وترك الضرب والإغلاظ بلا ذنب .
واستدل بعمومها مَنْ أوجب لها الخدمة إذا كانت ممن لا تخدم نفسها .
{ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنّ } يعني كرهتمو الصحبة معهن .
{ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيجعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } أي : ولعله يجعل فيهن ذلك بأن يرزقكم منهن ولداً صالحاً يكون فيه خير كثير ، وبأن ينيلكم الثواب الجزيل في العقبى بالإنفاق عليهن والإحسان إليهن ، على خلاف الطبع .
وفي " الإكليل " قال الكيا الهراسيّ : في هذه الآية استحباب الإمساك بالمعروف وإن كان على خلاف هوى النفس ، وفيها دليل على أن الطلاق مكروه .
وقد روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً ، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقاً رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ > .
( يَفرَك ) بفتح الياء والراء ، معناه بغض .
لطيفة :
قال أبو السعود : ذكر الفعل الأول مع الاستغناء عنه ، وانحصار العلية في الثاني ، للتوسل إلى تعميم مفعوله - ليفيد أن ترتيب الخير الكثير من الله تعالى ليس مخصوصاً بمكروه دون مكروه ، بل هو سنة إلهية جارية على الإطلاق ، حسب اقتضاء الحكمة ، وإن ما نحن فيه مادة من موادها ، وفيه من المبالغة في الحمل على ترك المفارقة وتعميم الإرشاد ، ما لا يخفى .
تنبيه جليل في الوصية بالنساء والإحسان إليهن :
كفى في هذا الباب هذه الآية الجليل الجامعة ، وهي قوله تعالى : { وَعَاشِرُوهُنّ بِالمعْرُوفِ } .
قال ابن كثير : أي : طَيّبُوا أَقْوَالكُمْ لَهُنّ ، وَحَسّنُوا أَفْعَالكُمْ وَهَيْئَاتكُمْ بِحَسَبِ قُدْرَتكُمْ ، كَمَا تُحِبّ ذَلِكَ مِنْهَا ، فَافْعَلْ أَنْتَ بِهَا مِثْله ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَهُنّ مِثْل الّذِي عَلَيْهِنّ } [ البقرة : 228 ] .
وَقَالَ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < خَيْركُمْ خَيْركُمْ لِأَهْلِهِ ، وَأَنَا خَيْركُمْ لِأَهْلِي > ، رواه الترمذيّ عن عائشة ، وابن ماجة عن ابن عباس ، والطبراني عن معاوية .
وقال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < خيركم خيركم للنساء > ، رواه الحاكم عن ابن عباس .
وقال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي ، ما أكرم النساء إلا كريم ، ولا أهانهن إلا لئيم > ، رواه ابن عساكر عن عليّ عليه السلام .
وعَنْ عَمْرِو بْنِ الأَحْوَصِ - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أَنّهُ سمع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في حَجّةَ الْوَدَاعِ يقول : بعد أن حَمِدَ اللّهَ تعالى وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، وَذَكّرَ وَوَعَظَ ثم قَالَ : < أَلاَ وَاسْتَوْصُوا بِالنّسَاءِ خَيْراً ، فَإِنّمَا هُنّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ ، لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنّ شَيْئاً غَيْرَ ذَلِكَ ، إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرّحٍ ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنّ سَبِيلاً ، أَلاَ إِنّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقّا ، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقّا ، فَحَقّكُمْ عَلَيهن أَن لاّ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ ، وَلاَ يَأْذَنّ في بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ ، أَلاَ وَحَقّهُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنّ فِي كِسْوَتِهِنّ وَطَعَامِهِنّ > ، رواه الترمذيّ ، وقال : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وقوله : ( عوان ) أي : أسيرات ، جمع عانية .
وعن معاوية بن حيدة - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللّهِ مَا حَقّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ ؟ قَالَ : < أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ ، وَلاَ تَضْرِبِ الْوَجْهَ وَلاَ تُقَبّحْ وَلاَ تَهْجُرْ إِلاّ فِي الْبَيْتِ > ، رواه أبو داود .
وعن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لَيْسَ مِنَ اللّهْوِ إِلاّ ثَلاَثٌ : تَأْدِيبُ الرّجُلِ فَرَسَهُ ، وَرَمْيُهُ بِقَوْسِهِ وَنَبْلِهِ ، وَمُلاَعَبَتُهُ [ في المطبوع : ومداعبة ] أَهْلَهُ > ، رواه أبو داود .
وفي رواية له : < كل شيء يلهوا به الرجل باطل ، إلا تأديبه فرسه ورميه عن قوسه ومداعبته أهله > .
قال ابن كثير : وَكَانَ مِنْ أَخْلَاق النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أَنّهُ جَمِيل الْعِشْرَة ، دَائِم الْبِشْر ، يُدَاعِب أَهْله ، وَيَتَلَطّف بِهِمْ ، وَيُوسِعهُمْ نَفَقَة ، وَيُضَاحِك نِسَاءَهُ ، حَتّى إِنّهُ كَانَ يُسَابِق عَائِشَة أُمّ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِي اللّهُ عَنْهَا - ، يَتَوَدّد إِلَيْهَا بِذَلِكَ ، قَالَتْ : سَابَقَنِي رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فَسَبَقْته ، وَذَلِكَ قَبْل أَنْ أَحْمِل اللّحْم ، ثُمّ سَابَقْته بَعْدَمَا حَمَلْت اللّحْم فَسَبَقَنِي ، فَقَالَ : < هَذِهِ بِتِلْكَ > .
وكان صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يَجْمَع نِسَاءَهُ كُلّ لَيْلَة فِي بَيْت الّتِي يَبِيت عِنْدهَا ، فَيَأْكُل مَعَهُنّ الْعَشَاء فِي بَعْض الْأَحْيَان ثُمّ تَنْصَرِف كُلّ وَاحِدَة إِلَى مَنْزِلهَا ، وَكَانَ يَنَام مَعَ الْمَرْأَة مِنْ نِسَائِهِ فِي شِعَار وَاحِد ، يَضَع عَنْ كَتِفَيْهِ الرّدَاء وَيَنَام بِالْإِزَارِ .
وَكَانَ إِذَا صَلّى الْعِشَاء يَدْخُل مَنْزِله يَسْمُر مَعَ أَهْله قَلِيلاً قَبْل أَنْ يَنَام ، يُؤَانِسهُمْ بِذَلِكَ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وَقَدْ قَالَ اللّه تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُول اللّه أُسْوَة حَسَنَة } انتهى .
وقال الغزالي في : " الإحياء " في ( آداب المعاشرة وما يجري في دوام النكاح ) : الأدب الثاني : حسن الخلق معهن واحتمال الأذى منهن ، ترحماً عليهن ، لقصور عقلهن ، قال الله تعالى : { وَعَاشِرُوهُنّ بِالمعْرُوفِ } : وقال في تعظيم حقهن : { وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ ميثَاقاً غَلِيظاً } [ النساء : من الآية 21 ] ، وقال تعالى : { وَالصّاحِبِ بِالْجَنْبِ } [ النساء : من الآية 36 ] ، قيل : هي المرأة .
ثم قال : واعلم أنه ليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها بل احتمال الأذى منها ، والحلم عند طيشها وغضبها ، اقتداء برسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فقد كانت أزواجه تراجعنه الكلام ، وتهجره الواحدة منهن يوماً إلى الليل ، وراجعت امرأةُ عمرَ عُمَر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - فقال : أتراجعيني ؟ فقالت : إن أزواج رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يراجعنه ، وهو خير منك .
وكان رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقول لعائشة : < إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت عليّ غضبى > . قالت : فقلت : من أين تعرف ذلك ؟ فقال : < أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين : لا ، ورب محمد ! ، وإذا كنت غضبى قلت : لا ، ورب إبراهيم ! قالت : قلت : أجل ، والله ! يا رسول الله ! ما أهجر إلا اسمك > .
ثم قال الغزالي :
الثالث : أن يزيد على احتمال الأذى بالمداعبة والمزح والملاعبة ، فهي التي تطيب قلوب النساء ، وقد كان رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يمزح معهن وينزل إلى درجات عقولهن في الأعمال ، حتى روي أنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كان يسابق عائشة في العدو فسبقته يوماً وسبقها في بعض الأيام ، فقال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < هذه بتلك > .
قال العراقي : رواه أبو داود ، والنسائي في : " الكبرى " وابن ماجة في حديث عائشة بسند صحيح .
وقالت عائشة - رَضِي اللّهُ عَنْهَا - : سمعت أصوات أناس من الحبشة وغيرهم وهم يلعبون في يوم عيد ، فقال لي رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < أتحبين أن تري لعبهم ؟ قالت : قلت : نعم ، فأرسل إليهم فجاؤوا ، وقام رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بين البابين ، فوضع كفه على الباب ووضعت رأسي على منكبه ، وجعلوا يلعبون وأنظر ، وجعل رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقول : حسبك ! وأقول : لا تعجل ، ( مرتين أو ثلاثاً ) ثم قال : يا عائشة ! حسبك ، فقلت : نعم > .
وفي رواية للبخاري قالت : قَالَتْ : رَأَيْتُ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ ، حَتّى أَكُونَ أَنَا الّذِي أَسْأَمُ ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السّنّ ، الْحَرِيصَةِ عَلَى اللّهْوِ .
وقال عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبي ، فإذا التمسوا ما عنده وجد رجلاً .
وقال لقمان رحمه الله تعالى : ينبغي للعاقل أن يكون في أهله كالصبي ، وإذا كان في القوم وجد رجلاً .
وقال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لجابر : < هلاّ بكراً تلاعبها وتلاعبك ؟ > رواه الشيخان .
ووصفت أعرابية زوجها وقد مات فقالت : والله ! لقد كان ضحوكاً إذا ولج ، سكوتاً إذا خرج ، آكلاً ما وجد ، غير سائل عما فقد . انتهى بتصرف .
ثم نهى تعالى عن أخذ شيء من صداق النساء من أراد فراقهن ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنْ أَرَدتّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مّبِيناً } [ 20 ]
{ وَإِنْ أَرَدتّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ } أي : تزوج امرأة ترغبون فيها .
{ مّكَانَ زَوْجٍ } ترغبون عنها بأن تطلقوها .
{ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنّ } أي : إحدى الزوجات ، فإن المراد بالزوج الجنس .
{ قِنطَاراً } أي : مالاً كثيراً مهراً .
{ فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } أي : يسيراً ، فضلاً عن الكثير .
{ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً } أي : باطلاً : { وَإِثْماً مّبِيناً } بيناً ، والاستفهام للإنكار والتوبيخ ، أي : أتأخذونه باهتين وآثمين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثَاقاً غَلِيظاً } [ 21 ]
{ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ } إنكار لأخذه إثر إنكار ، وتنفير عنه غب تنفير ، على سبيل التعجب ، أي : بأي وجه تستحلون المهر .
{ وَقَدْ أَفْضَى } أي : وصل : { بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ } فأخذ عوضه .
{ وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثَاقاً غَلِيظاً } أي : عهداً وثيقاً مؤكداً مزيد تأكيد ، يعسر معه نقضه ، كالثوب الغليظ يعسر شقه .
قال الزمخشري : الميثاق الغليظ حق الصحبة والمضاجعة ، ووصفه بالغلظ لقوته وعظمه ، فقد قالوا : صحبة عشرين يوماً قرابة ، فكيف بما جرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج ؟ انتهى .
قال الشهاب الخفاجي : قلت بل قالوا :
~صحبة يوم نسب قريب وذمة يعرفها اللبيب
أو الميثاق الغليظ ما أوثق الله تعالى عليهم في شأنهم بقوله تعالى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } أو قول الولي عند العقد : أنكحتك على ما في كتاب الله : من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان .
تنبيه في فوائد :
الأولى : في قوله تعالى : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنّ قِنطَاراً } دليل على جواز الإصداق بالمال الجزيل .
وكان عُمَر بن الخطاب - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - نهى عن كثرته ثم رجع عن ذلك .
كما روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي الْعَجْفَاءِ السّلَمِيّ قَالَ : سَمِعْتُ عُمَرَ بن الخطاب ، يَقُولُ : أَلاَ لاَ تُغْلُوا صُدُقَ النّسَاءِ ، أَلاَ لاَ تُغْلُوا صُدُقَ النّسَاءِ ، فَإِنّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدّنْيَا أَوْ تَقْوَى عِنْدَ اللّهِ كَانَ أَوْلاَكُمْ بِهَا النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، مَا أَصْدَقَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ ، وَلاَ أُصْدِقَ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ ، أَكْثَرَ مِنْ اثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيّةً ، وَإِنّ الرّجُلَ لَيُبْتَلَى بِصَدَقَةِ امْرَأَتِهِ - وَقَالَ مَرّةً : وَإِنّ الرّجُلَ لَيُغْلِي بِصَدَقَةِ امْرَأَتِهِ - حَتّى تَكُونَ لَهَا عَدَاوَةٌ فِي نَفْسِهِ ، وَحَتّى يَقُولَ : كَلِفْتُ إِلَيْكِ عَلَقَ [ في المطبوع : عرق ] الْقِرْبَةِ ، ورواه أهل السنن ، وقال الترمذيّ : هذا حديث صحيح .
وروى أبو يعلى عن مسروق قال : ركب عُمَر بن الخطاب منبر رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ثم قال : أيها الناس ! ما إكثاركم في صدق النساء ! وقد كان رسول لله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأصحابه والصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك ، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها ، فلأعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم .
قال : ثم نزل ، فاعترضته امرأة من قريش ، فقالت : يا أمير المؤمنين ! نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم ، قال : نعم ، فقالت : أما سمعت ما أنزل الله في القرآن ؟ قال : وأيّ ذلك ؟ قالت : أما سمعت الله يقول : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنّ قِنطَاراً } الآية .
قال : فقال : اللهم ! غفراً ، كل الناس أفقه من عمر ، ثم رجع فركب المنبر فقال : أيها الناس ! إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم ، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب .
قال أبو يعلى : وأظنه قال : فمن طابت نفسه فليفعل ، إسناده جيد قوي ، قاله ابن كثير .
وفي " الحجة البالغة " ما نصه : لم يضبط النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم المهر بحدّ لا يزيد ولا ينقص ، إذ العادات في إظهار الاهتمام مختلفة ، والرغبات لها مراتب شتى ، ولهم في المشاحّة طبقات ، فلا يمكن تحديده عليهم ، كما لا يمكن أن يضبط ثمن الأشياء المرغوبة بحد مخصوص ، ولذلك قال : < التمس ولو خاتماً من حديد > .
غير أنه سن في صداق أزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشّاً ، أي : نصفاً . انتهى .
وقد ورد ما يفيد الندب إلى تخفيفه وكراهة المغالاة فيه .
أخرج أبو داود والحاكم ، وصححه ، من حديث عقبة بن عامر قال قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < خير الصداق أيسره > .
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فَقَالَ له : إِنّي تَزَوّجْتُ امْرَأَةً مِنِ الْأَنْصَارِ .
فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < هَلْ نَظَرْتَ إِلَيْهَا ؟ فَإِنّ فِي عُيُونِ الْأَنْصَارِ شَيْئاً > .
قَالَ : قَدْ نَظَرْتُ إِلَيْهَا .
قَالَ : < عَلَى كَمْ تَزَوّجْتَهَا ؟ > قَالَ : عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ .
فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ ؟ كَأَنّمَا تَنْحِتُونَ الْفِضّةَ مِنْ عُرْضِ هَذَا الْجَبَلِ ، مَا عِنْدَنَا مَا نُعْطِيكَ ، وَلَكِنْ عَسَى أَنْ نَبْعَثَكَ فِي بَعْثٍ تُصِيبُ مِنْهُ > .
قَالَ : فَبَعَثَ بَعْثاً إِلَى بَنِي عَبْسٍ ، بَعَثَ ذَلِكَ الرّجُلَ فِيهِمْ .
الثانية : خص تعالى ذكر من آتى القنطار من المال بالنهي ، تنبيهاً بالأعلى على الأدنى ، لأنه إذا كان هذا ، على كثير ما بذل لامرأته من الأموال ، منهياً عن استعادة شيء يسير حقير منها ، على هذا الوجه ، كان من لم يبذل إلا الحقير منهياً عن استعادته بطريق الأولى .
ومعنى قوله : { وَآتَيْتُمْ } والله أعلم : وكنتم آتيتم ، إذ إرادة الاستبدال ، في ظاهر الأحمر ، واقعة بعد إيتاء المال واستقرار الزوجية - كذا في : " الانتصاف " .
الثالثة : اتفقوا على أن المهر يستقر بالوطء ، واختلفوا في استقراره بالخلوة المجردة ، ومنشأ ذلك : أن ( أفضى ) في قوله تعالى : { وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ } يجوز حملها على الجماع كناية ، جرياً على قانون التنزيل من استعمال الكناية فيما يستحيي من ذكره ، والخلوة لا يستحيي من ذكرها فلا تحتاج إلى كناية : ويجوز إبقاؤها على ظاهرها .
قال ابن الأعرابي : الإفضاء في الحقيقة الانتهاء ، ومنه : { وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ } أي : انتهى وآوى ، هذا ، والكناية أبلغ وأقرب في هذا المقام ، ومما يرجحها أنه تعالى ذكر ذلك في معرض التعجب فقال : وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ، والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سبباً قوياً في حصول الألفة والمحبة ، وهو الجماع ، لا مجرد الخلوة ، فوجب حمل الإفضاء إليه - ذكره الرازي من وجوه .
ثم قال : وقوله تعالى : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ } كلمة تعجب ، أي : لأي وجه ولأي معنى تفعلون هذا ؟ فإنها بذلت نفسها لك وجعلت ذاتها لذّتك وتمتعك ، وحصلت الألفة التامة والمودة الكاملة بينكما ، فكيف يليق بالعاقل أن يسترد منها شيئاً بذله لها بطيبة نفسه ؟ إن هذا لا يليق بمن له طبع سُلَيم وذوق مستقيم .
الرابعة : في : " الإكليل " استدل بهذه الآية من منع الخلع مطلقاً ، وقال : إنها ناسخة لآية البقرة .
وقال غيره : إن هذه الآية منسوخة بها .
وقال آخرون : لا ناسخ ولا منسوخ بل هي في الأخذ بغير طيب نفسها . انتهى .
أقول : إن القول الثالث متعين ، لأن كلاً من آيتي البقرة وهذه في مورد خاص يعلم من مساق النظم الكريم ، وذلك لأن قوله في البقرة : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } [ البقرة : من الآية 229 ] ، صريح في أن الزوجة إذا كرهت خلق زوجها أو خُلُقَه أو نقص دينه أو خافت إثماً بترك حقه ، أبيح لها أن تفتدي منه وحلّ له أخذ الفداء مما آتاها ، لقوله تعالى ثم : { وَلاَ يَحِلّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئاً إِلاّ أَن يَخَافَا أَلاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ } [ البقرة : 229 ] إلخ .
والحكمة في حل الأخذ ظاهرة ، وهي جبر الزوج مما لحقه من ضعة اختلاعها له وهيمنتها حينئذ عليه ، واسترداد ما لو أخذ منه ، لكان في صورة المظلوم ، لأنه لم يجنح للفراق ولا رغب فيه ، فكان من العدل الإلهي أن لا يجمع عليه بين خسارتي التمتع والمال .
وأما هذه الآية فهي في حكم آخر ، وهو ما إذا أراد استبدال زوجته لطموح بصره إلى غيرها من غير أن تفتدي منه ، أو ترغيب في خلع نفسها منه ، فيضن بما آتاها ويأسف لأن تحوزه ، وهو لا يريدها وليس لها في نفسه وقع ، فعزم عليه أن لا يأخذ مما أصدقها شيئاً قط بعد الإفضاء ، لأنه لو أبيح له الأخذ حينئذ لكان ظلماً واضحاً ، لأنه أخذ بلا جريرة منها ، فكان في إبقاء ما في يدها مما آتاها جبر لما نابها من ألم الإعراض عنها واطراحها ، رحمة منه تعالى ، وعدلاً في القضيتين .
فالقائل بالنسخ فاته سر الحكمين ، وليت شعري ماذا يقول في الحديث المروي في البخاريّ وغيره ، وهو قوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لامرأة ثابت : < أتردّين عليه حديقته ! فقالت : نعم ، فقال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لزوجها : اقبل الحديقة وطلقها > .
ولا يقال : لعل القائل بنسخ الخلع اعتمد فيه قوله تعالى : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ } إلخ ، وفيه ما فيه من تهويل الأخذ والتنفير عنه كما أسلفنا ، لأنا نقول إن دلائل الأحكام الناسخة أو المنسوخة إنما تؤخذ من الجمل التامة في الأصلين ، فلا تؤخذ من شرط بلا جوابه مثلاً ، وبالعكس ، ولا من مبتدأ بدون خبره وبالعكس ، ولا من مؤكد بدون مؤكده ، وهكذا .
وما نحن فيه لو أخذ عموم تحريم الأخذ من قوله : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ } لكان الاستدلال من المؤكد بدون ملاحظة مؤكده ، وهذا ساقط ، لأن قوله : { وَكَيْفَ } - تنفير عما تقدم ، متعلق به ، وما قبله خاص ، ولو زعم القائل بالنسخ أن قوله : { وَإِنْ أَرَدتّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ } عام في المخلوعة ومن أريد طلاقها - نقول : هذا باطل وفاسد ، لأن مورد الآية في إرادته ، هو فراقها مبتدئاً ، فلا يصدق على المختلعة ، لأنه لا يراد الاستبدال بغيرها ابتداءً من جانب الزوج ، وبالجملة فكل من قرأ صدر الآيتين على أن كلاً في حكم على حدة ، لا تعلق فيها له بالآخر ، والنسخ لا يصار إليه بالرأي ، وقد كثر في المتأخرين دعوى النسخ في الآيات هكذا بلا استناد قوي ، بل لما يتراءى ظاهراً بلا إمعان ، فتثبت هذا .
وفي الصحيحين أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال للمتلاعنين ، بعد فراغهما من تلاعنهما : < اللّهُ يَعْلَمُ إِنّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ ؟ قالها ثلاثاً .
فقال الرجل : يا رسول الله : مالي ؟ يعني ما أصدقها ، قال : لا مال لك ، إن كنت صدقت فهو بما استحللت من فرجها ، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها > .
وفي سنن أبي داود وغيره ، عن بصرة بن أكثم : أنه تزوج امرأة بكراً في خدرها ، فإذا هي حامل من الزنى ، فأتى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فذكر ذلك له : < فقضى لها بالصداق وفرق بينهما ، وأمر بجلدها ، وقال : الولد عبد لك ، والصداق في مقابلة البضع > .
ثم بين تعالى من يحرم نكاحهن من النساء ومن لا يحرم ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مّنَ النّسَاء إِلاّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً } [ 22 ]
{ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مّنَ النّسَاء } بنكاح أو ملك يمين ، وإن لم يكن أمهاتكم .
{ إِلاّ مَا قَدْ سَلَفَ } أي : سوى ما قد مضى في الجاهلية فإنه معفو لكم ولا تؤاخذون به .
{ إِنّهُ كَانَ فَاحِشَةً } أي : خصلة قبيحة جداً ، لأنه يشبه نكاح الأمهات .
{ وَمَقْتاً } أي : بغضاً عند الله وعند ذوي المروآت ، ولذا كانت العرب تسمي هذا النكاح : نكاح المقت ، وتسمي ذلك المتزوج ، مقيتاً ، قاله ابن سيده .
وقال الزجاج : المقت أشد البغض ، ولما علموا أن ذلك في الجاهلية كان يقال فه المقت ، أُعلموا أنه لم يزل منكراً ممقوتاً .
{ وَسَاء سَبِيلاً } أي : بئس مسلكاً ، إذ فيه هتك حرمة الأب .
وقد روى ابن أبي حاتم : أنه لما توفي أبو قيس بن الأسلت ، وكان من صالحي الأنصار ، فخطب ابنه ، قيس ، امرأته ، فقالت : إنما أعدّك ولداً ، وأنت من صالحي قومك ، ولكني آتي رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فقالت : إن أبا قيس توفي ، فقال : < خيراً > .
ثم قالت : إن ابنه قيساً خطبني وهو من صالحي قومه ، وإنما كنت أعده ولداً ، فما ترى ؟ فقال لها : ارجعي إلى بيتك ، فنزلت : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم } الآية .
وروى ابن جرير عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحْرُمُ إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين ، فأنزل الله : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مّنَ النّسَاء إِلاّ مَا قَدْ سَلَفَ } : { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } [ النساء : من الآية 23 ] .
لطيفة :
قال الرازي : مراتب القبح ثلاثة : القبح في العقول وفي الشرائع وفي العادات ، فقوله تعالى : { إِنّهُ كَانَ فَاحِشَةً } إشارة إلى القبح العقلي ، وقوله : { وَمَقْتاً } إشارة إلى القبح الشرعي ، وقوله : { وَسَاء سَبِيلاً } : إشارة إلى القبح في العرف والعادة ، ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح ، والله أعلم .
قال ابن كثير : فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه فيقتل ويصير ماله فيئاً لبيت المال .
كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من طرق ، عن البراء بن عازب ، وفي رواية عن عمه أنه بعثه رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده ، أن يقتله ويأخذ ماله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمّهَاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مّنَ الرّضَاعَةِ وَأُمّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُم مّن نّسَآئِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُم بِهِنّ فَإِن لم تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً } [ 23 ]
{ حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهَاتُكُمْ } من النسب أن تنكحوهن ، وشملت الجدات من قبل الأب أو الأم .
{ وَبَنَاتُكُمْ } من النسب ، وشملت بنات الأولاد وإن سفلن .
{ وَأَخَوَاتُكُمْ } من أم أو أب أو منهما .
{ وَعَمّاتُكُمْ } أي : أخوات آبائكم وأجدادكم .
{ وَخَالاَتُكُمْ } أي : أخوات أمهاتكم وجداتكم .
{ وَبَنَاتُ الأَخِ } من النسب ، من أي : وجه يكنّ .
{ وَبَنَاتُ الأُخْتِ } من النسب من أي : وجه يكنّ ، ويدخل في البنات أولادهن .
{ وَأُمّهَاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ } قال المهايمي : لأن الرضاع جزء منها وقد صار جزءاً من الرضيع ، فصار كأنه جزؤها فأشبهت أصله . انتهى .
ويعتبر في الإرضاع أمران :
أحدهما : القدر الذي يتحقق به هذا المعنى ، وقد ورد تقييد مطلقه وبيان مجمله في السنة بخمس رضعات ، لحديث عائشة عند مسلم وغيره : كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يُحَرّمن ، ثم نسخن بخمسٍ معلومات ، فتوفي رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وهن فيما يقرأ من القرآن .
والثاني : أن يكون الرضاع في أول قيام الهيكل وتشبح صورة الولد ، وذلك قبل الفطام ، وإلا فهو غذاء بمنزلة سائر الأغذية الكائنة بعد التشبح وقيام الهيكل ، كالشاب يأكل الخبز .
عن أم سلمة قالت : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام > ، رواه الترمذيّ وصححه ، والحاكم أيضاً .
وأخرج سعيد بن منصور والدارقطني والبيهقيّ عن ابن عباس مرفوعاً : < لا رضاع إلا ما كان في الحولين > ، وصحح البيهقيّ وقفه .
قال السيوطيّ في : " الإكليل " : واستدل بعموم الآية من حرم برضاع الكبير . انتهى .
وقد ورد الرخصة فيه الحاجة تعرض ، روى مسلم وغيره عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمّ سَلَمَةَ قَالَتْ : قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ لِعَائِشَةَ : إِنّهُ يَدْخُلُ عَلَيْكِ الْغُلَامُ الْأَيْفَعُ الّذِي مَا أُحِبّ أَنْ يَدْخُلَ عليّ .
فَقَالَتْ عَائِشَةُ : أَمَا لَكِ فِي رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أُسْوَةٌ ؟ .
وقَالَتْ : إِنّ امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللّهِ ! إِنّ سَالِماً يَدْخُلُ عليّ وَهُوَ رَجُلٌ ، وَفِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْهُ شَيْءٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < أَرْضِعِيهِ حَتّى يَدْخُلَ عَلَيْكِ > .
وأخرج نحوه البخاريّ من حديث عائشة أيضاً .
وقد روى هذا الحديث ، من الصحابة : أمهات المؤمنين وسهلة بنت سهيل وزينب بنت أم سلمة ، ورواه من التابعين جماعة كثيرة ، ثم رواه عنهم الجمع الجم .
وقد ذهب إلى ذلك عليّ وعائشة وعروة بن الزبير وعطاء بن أبي رَبَاح والليث بن سعد وابن علية وداود الظاهري وابن حزم ، وذهب الجمهور إلى خلاف ذلك .
قال ابن القيم : أَخَذَ طَائِفَةٌ مِنْ السّلَفِ بِهَذِهِ الْفَتْوَى مِنْهُمْ عَائِشَةُ ، وَلَمْ يَأْخُذْ بِهَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَقَدّمُوا عَلَيْهَا أَحَادِيثَ تَوْقِيتِ الرّضَاعِ الْمُحَرّمِ بِمَا قَبْلَ الْفِطَامِ ، وَبِالصّغَرِ ، وَبِالْحَوْلَيْنِ لِوُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : كَثْرَتُهَا وَانْفِرَادُ حَدِيثِ سَالِمٍ .
الثّانِي : أَنّ جَمِيعَ أَزْوَاجِ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم سوى عَائِشَةَ رضي الله عنهن فِي شِقّ الْمَنْعِ .
الثّالِثُ : أَنّهُ أَحْوَطُ .
الرّابِعُ : أَنّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ لَا يُنْبِتُ لَحْماً وَلَا يَنْشُرُ عَظْماً ، فَلَا تَحْصُلُ بِهِ الْبَعْضِيّةُ الّتِي هِيَ سَبَبُ التّحْرِيمِ .
الْخَامِسُ : أَنّهُ يُحْتَمَلُ أَنّ هَذَا كَانَ مُخْتَصّا بِسَالِمٍ وَحْدَهُ ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِئْ ذَلِكَ إلّا فِي قِصّتِهِ .
السّادِسُ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَعِنْدَهَا رَجُلٌ قَاعِدٌ ، فَاشْتَدّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَغَضِبَ ، فَقَالَتْ : إنّهُ أَخِي مِنْ الرّضَاعَةِ ، فَقَالَ : < اُنْظُرْنَ إخْوَتكُنّ مِنْ الرّضَاعَةِ ، فَإِنّمَا الرّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ > ، مُتّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَاللّفْظُ لِمُسْلِمٍ .
وَفِي قِصّةِ سَالِمٍ مَسْلَكٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنّ هَذَا كَانَ مَوْضِعَ حَاجَةٍ ; فَإِنّ سَالِماً كَانَ قَدْ تَبَنّاهُ أَبُو حُذَيْفَةَ وَرَبّاهُ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُ وَمِنْ الدّخُولِ عَلَى أَهْلِهِ بُدّ ، فَإِذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ بِهِ مِمّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ ، وَلَعَلّ هَذَا الْمَسْلَكَ أَقْوَى الْمَسَالِكِ ، وَإِلَيْهِ كَانَ شَيْخُنَا يَجْنَحُ . انتهى .
يعني تقي الدين بن تيمية رضي الله عنهما .
{ وَأَخَوَاتُكُم مّنَ الرّضَاعَةِ } قال الرازي : إنه تعالى نص في هذه الآية على حرمة الأمهات والأخوات من جهة الرضاعة ، إلا أن الحرمة غير مقصورة عليهن ، لأنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < يحرم من الرضاع ما يرحم من النسب > .
وإنما عرفنا أن الأمر كذلك بدلالة هذه الآيات ، وذلك لأنه تعالى لما سمى المرضعة أماً ، والمرضعة أختاً ، فقد نبه بذلك على أنه تعالى أجرى الرضاع مجرى النسب ، وذلك لأنه تعالى حرم بسبب النسب سبعاً :
اثنتان منها هما المنتسبتان بطريق الولادة ، وهما الأمهات والبنات .
وخمس منها بطريق الأخوة ، وهن الأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت ، ثم إنه تعالى لما شرع بعد ذلك في أحوال الرضاع ، ذكر من هذين القسمين صورة واحدة تنبيهاً بها على الباقي ، فذكر من قسم قرابة الولادة ، الأمهات ، ومن قسم قرابة الأخوة ، الأخوات ، ونبه بذكر هذين المثالين ، من هذين القسمين ، على أن الحال في باب الرضاع كالحال في النسب ، ثم إنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أكد هذا البيان بصريح قوله : < يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب > ، فصار صريح الحديث مطابقاً لمفهوم الآية ، وهذا بيان لطيف . انتهى .
لطيفة :
تعرض بعض المفسرين في هذا المقام لفروع فقهية مسندها مجرد الأقيسة .
قال الرازي : من تكلم في أحكام القرآن وجب أن لا يذكر إلا ما يستنبطه من الآية .
فأما ما سوى ذلك فإنما يليق بكتب الفقه .
{ وَأُمّهَاتُ نِسَآئِكُمْ } أي : أصول أزواجكم .
{ وَرَبَائِبُكُمُ } جمع ربيبة ، بمعنى مربوبة ، قال الأزهري : ربيبة الرجل بنت امرأته من غيره . انتهى .
سميت بذلك لأنه يربّها غالباً ، كما يرب ولده .
{ اللاّتِي فِي حُجُورِكُم } جمع حجر ( بفتح أوله وكسره ) أي : في تربيتكم ، يقال : فلان في حجر فلان ، إذا كان في تربيته ، والسبب في هذه الاستعارة أن كل من ربى طفلاً أجلسه في حجره ، فصار الحجر عبارة عن التربية ، وسر تحريمهن كونهن حينئذ يشبهن البنات إلا أنه إنما يتحقق الشبه إذا كن : { مّن نّسَآئِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُم بِهِنّ } لأنهن حينئذ بنات موطوءاتكم ، كبنات الصلب ، والدخول بهن كناية عن الجماع ، كقولهم : بنى عليها ، وضرب عليها الحجاب ، أي : أدخلتموهن الستر ، والباء للتعدية .
{ فَإِن لم تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أي : فلا حرج عليكم في أن تتزوجوا بناتهن إذا فارقتموهن أو متن .
تنبيهات :
الأول : ذهب بعض السلف إلى أن قيد الدخول في قوله تعالى : { اللاّتِي دَخَلْتُم بِهِنّ } : راجع إلى الأمهات والربائب ، فقال : لا تحرم واحدة من الأم ولا البنت بمجرد العقد على الأخرى حتى يدخل بها ، لقوله : { فَإِن لم تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } .
وروى ابن جرير عن علي - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها : أيتزوج بأمها ؟ قال : هي بمنزلة الربيبة .
وروي أيضاً عن زيد بن ثابت وعبد الله ابن الزبير ومجاهد وابن جبير وابن عباس ، وذهب إليه من الشافعية أبو الحسن أحمد بن محمد بن الصابوني ، فيما نقله الرافعي عن العبادي ، وقد روي عن ابن مسعود مثله ، ثم رجع عنه ، وتوقف فيه معاوية ، وذلك فيما رواه ابن المنذر عن بكر بن كنانة أن أباه أنكحه امرأة بالطائف .
قال : فلم أجامعها حتى توفي عمي عن أمها ، وأمها ذات مال كثير ، فقال أبي : هل لك في أمها ؟ قال فسألت ابن عباس وأخبرته ، فقال : انكح أمها .
قال : وسألت ابن عمر فقال : لا تنكحها ، فأخبرت أبي بما قالا ، فكتب إلى معاوية ، فأخبره بما قالا ، فكتب معاوية : إني لا أحل ما حرم الله ، ولا أحرم ما أحل الله ، وأنت وذاك ، والنساء سواها كثير ، فلم ينه ولم يأذن لي ، فانصرف أبي عن أمها فلم ينكحنيها .
وذهب الجمهور إلى أن الأم تحرم بالعقد على البنت ولا تحرم البنت إلا بالدخول بالأم .
قالوا : الاشتراط إنما هو في أمهات الربائب ، وروي في ذلك عن عَمْرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < أَيّمَا رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً فَلاَ يَحِلّ لَهُ نِكَاحُ ابْنَتِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَلْيَنْكِحِ ابْنَتَهَا ، وَأَيّمَا رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً فَلاَ يَحِلّ لَهُ أن ينَكَحَ أُمّهَا ، دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا > ، أخرجه الترمذيّ .
قال الحافظ ابن كثير : هذا الخبر غريب ، وفي إسناده نظر .
وقال الزجاج : قد جعل بعض العلماء : { اللاّتِي دَخَلْتُم بِهِنّ } وصفاً للنساء المتقدمة والمتأخرة ، وليس كذلك ، لأن الوصف الواحد لا يقع على موصوفين مختلفي العامل ، وهذا ، لأن النساء الأولى مجرورة بالإضافة ، والثانية بـ ( من ) ولا يجوز أن تقول : مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات ، على أن تكون الظريفات نعتاً لهؤلاء النساء ولهؤلاء النساء .
قال الناصر في : " الانتصاف " : والقول المشهور عن الجمهور ، إبهام تحريم أم المرأة ، وتقييد تحريم الريبية بدخول الأم ، كما هو ظاهر الآية ، ولهذا الفرق سر وحكمة ، وذلك لأن المتزوج بابنة المرأة لا يخلوا بعد العقد وقبل الدخول من محاورة بينه وبين أمها ، ومخاطبات ومسارّات فكانت الحاجة داعية إلى تنجيز التحريم ليقطع شوقه من الأم فيعاملها معاملة ذوات المحارم ، ولا كذلك العاقد على الأم فإنه بعيد عن مخاطبة بنتها قبل الدخول بالأم ، فلم تدعُ الحاجة إلى تعجيل نشر الحرمة .
وأما إذا وقع الدخول بالأم فقد وجدت مظنة خلطة الربيبة ، فحينئذ تدعو الحاجة إلى نشر الحرمة بينهما ، والله أعلم .
الثاني : استدل بقوله تعالى : { اللاّتِي فِي حُجُورِكُم } من لم يحرم نكاح الربيبة الكبيرة والتي لم يربّها ، روى ابن أبي حاتم عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : كانت عندي امرأة فتوفيت وقد ولدت لي ، فوجدت عليها ، فلقيني عليّ بن أبي طالب - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - فقال : مالك : ؟ فقلت : توفيت المرأة ، فقال : لها ابنة ؟ قلت : نعم ، وهي بالطائف ، قال : كانت في حجرك ؟ قلت : لا ، هي بالطائف ، قال : فانكحها ، قلت : فأين قول الله : { وَرَبَائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُم } قال : إنها لم تكن في حجرك ، إنما ذلك إذا كانت في حجرك ؟ .
قال الحافظ ابن كثير : إسناده قوي ثابت إلى عليّ بن أبي طالب ، على شرط مسلم ، وإلى هذا ذهب الإمام داود بن عليّ الظاهري وأصحابه ، وحكاه أبو القاسم الرافعي عن مالك رحمه الله تعالى ، واختاره ابن حزم .
والجمهور على تحريم الربيبة مطلقاً ، سواء كانت في حجر الرجل أم لم تكن ، قالوا : والخطاب في قوله : { اللاّتِي فِي حُجُورِكُم } خرج مخرج الغالب ، فإن شأنهن الغالب المعتاد أن يكنّ في حضانة أمهاتهن تحت حماية أزواجهن ، ولم يرد كونهن كذلك بالفعل .
وفائدة وصفهن بذلك تقوية علة الحرمة وتكميلها ، كما أنها النكتة في إيرادهن باسم الربائب دون بنات النساء ، فإن كونهن بصدد احتضانهم لهن ، وفي شرف التقلب في حجورهم ، وتحت حمايتهم وتربيتهم ، مما يقوي الملابسة والشبه بينهن وبين أولادهم ، ويستدعي إجراءهن مجرى بناتهم ، لا تقييد الحرمة بكونهن في حجورهم بالفعل - كذا قرره أبو السعود - .
وفي " الانتصاف " : إن فائدة وصفهن بذلك ، هو تخصيص أعلى صور المنهيّ عنه ، بالنهي ، فإن النهي عن نكاح الربيبة المدخول بأمها عام ، في جميع الصور ، سواء كانت في حجر الزوج أو بائنة عنه في البلاد القاصية ، ولكن نكاحه لها وهي في حجره أقبح الصور ، والطبع عنها أنفر ، فخصت بالنهي لتساعد الجبلة على الانقياد لأحكام الملة ، ثم يكون ذلك تدريباً وتدريجاً إلى استقباح المحرم في جميع صوره ، والله أعلم .
وفي الصحيحين أن أم حبيبة - رَضِي اللّهُ عَنْهَا - قالت : يا رسول الله ! انكِح أختي بنت أبي سفيان ( وفي لفظ لمسلم : عزة بنت أبي سفيان ) فقال : أو تحبين ذلك ؟ قالت : نعم ، لست لك بمخلية ، وَأَحَبّ من شاركني في خير أختي ، فقال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إن ذلك لا يحل لي > .
قلت : فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة ، قال : < بنت أم سلمة ؟ > ، قلت : نعم .
فقال : < لو أنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ، ما حلت لي ، إنها لابنة أخي من الرضاعة ، أرضعتني وأبا سلمة ثُويبة ، فلا تعرضنَ عليّ بناتكن ولا أخواتكن > ، ( وفي رواية للبخاري : < لو لم أتزوج أم سلمة ما حلت لي > ) .
قال ابن كثير : فجعل المناط في التحريم مجرد تزوجه أم سلمة ، وحكم بالتحريم بذلك .
الثالث : اشتهر أن المراد من الدخول في قوله تعالى : { دَخَلْتُم بِهِنّ } معناه الكنائي ، وهو الجماع ، لأنه أسلوب الكتاب العزيز في نظائره بلاغة وأدباً .
ولذا فسره به ابن عباس وغير واحد ، فمدلول الآية صريح حينئذ في كون الحرمة مشروطة بالجماع ، فلا تتناول غيره من اللمس والتقبيل والنظر لمتاعها ، ومن أثبت تحريم الربيبة بذلك لحظ أن معنى الدخول أوسع من الجماع ، لأنه يقال : دخل بها ، إذا أمسكها وأدخلها البيت .
وفي " فتح البيان " : الذي ينبغي التعويل عليه في مثل هذا الخلاف هو النظر في معنى الدخول شرعاً أو لغة ، فإن كان خاصاً بالجماع فلا وجه لإلحاق غيره به ، من لمس أو نظر أو غيرهما ، وإن كان معناه أوسع من الجماع بحيث يصدق على ما حصل فيه نوع استمتاع كان مناط التحريم هو ذلك . انتهى .
وفي " شرح القاموس للزبيدي " : ودخل بامرأته كناية عن الجماع ، وغلب استعماله في الوطء الحلال ، والمرأة مدخول بها ، قلت : ومنه الدخلة ، لليلة الزفاف . انتهى .
{ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ } أي : موطوآت فروعكم بنكاح أو ملك يمين ، جمع حليلة ، سميت بذلك لحلها للزوج .
وقوله تعالى : { الّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } لإخراج الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية .
كما قال تعالى : { فَلما قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى المؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ } [ الأحزاب : من الآية 37 ] وقال تعالى : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } [ الأحزاب : من الآية 4 ] .
فالسر في التقيد هو إحلال حليلة المتبنى ، رداً لمزاعم الجاهلية ، لا إحلال حليلة الابن من الرضاع وأبناء الأبناء ، كأنه قيل : بخلاف من تبنيتموهم ، فلكم نكاح حلائلهم .
{ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ } في حيز الرفع ، عطفاً على ما قبله من المحرمات ، أي : وحرم عليكم الجمع بين الأختين في الوطء بنكاح أو ملك يمين من نسب أو رضاع ، لما فيه من قطيعة الرحم .
{ إَلاّ مَا قَدْ سَلَفَ } في الجاهلية فإنه معفو عنه .
{ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً } تعليل لما ، أفاده الاستثناء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالمحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء إِلاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلّ لَكُم مّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنّ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } [ 24 ]
{ وَالمحْصَنَاتُ } أي : وحرمت عليكم المزوجات .
{ مِنَ النّسَاء } حرائم وإماء ، مسلمات ، أوْ لا ، لئلا تختلط المياه فيضيع النسب .
{ إِلاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي : من اللائي سبين ولهن أزواج في دار الكفر ، فهن حلال لغزاة المسلمين ، وإن كن محصنات ، لأن السبي لهن يرفع نكاحهن ويفيد الحل بعد الاستبراء .
روى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذيّ والنسائي وابن ماجة عن أبي سعيد الخدري قال : أصبنا سبايا من سبي أوطاس ، ولهن أزواج ، فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج ، فسألنا النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فنزلت هذه الآية : { وَالمحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء إِلاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } فاستحللنا فروجهن .
تنبيه :
استدل بعموم الآية من قال : إن انتقال الملك ببيع أو إرث أو غير ذلك يقطع النكاح .
عن ابن مسعود قال : إذا بيعت الأمة ولها زوج فسيدها أحق ببضعها ، وعنه : بيع الأمة طلاقها .
وروي ذلك أيضاً عن أُبي بن كعب وجابر وابن عباس رضي الله عنهم قالوا : بيعها طلاقها .
وروى ابن جرير عن ابن عباس قال : طلاق الأمة ست : بيعها طلاقها ، وعتقها طلاقها ، وهبتها طلاقها ، وبراءتها طلاقها ، وطلاق زوجها طلاقها .
كذا قرأته في تفسير ابن كثير ، ولا يخفى أن المعدود خمسة ، ولعل السادس بيع زوجها ، حيث قال بعد ذلك : وروى عوف عن الحسن بيع الأمة طلاقها وبيعه طلاقها ، فهذا قول هؤلاء من السلف .
وحجتهم عموم الاستثناء في قوله تعالى : { إِلاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } والجمهور على أن بيع الأمة ليس طلاقاً لها ، واحتجوا بحديث بريرة المخرج في الصحيحين وغيرهما ، فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها وأعتقتها ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث ، بل خيرها رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بين الفسخ والبقاء ، فاختارت الفسخ ، وقصتها مشهورة ، فلو كان بيع الأمة طلاقها لما خيرت ، وتخييرها دال على أن المراد من الآية المسبيات فقط ، وبالجملة ، فالجمهور قصروا الآية على السبب الذي نزلت فيه .
قال الرازي : وهو يرجع إلى تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد ، أي : وهو مقبول ومعمول به في غير ما موضع ، كنصاب السرقة ، وفي التنبيه الآتي زيادة لهذا فتأثره .
فائدة :
اتفق القراء على فتح الصاد في : { المحْصَنَاتُ } هنا ، ويقرأ بالفتح والكسر في غير هذا الموضع ، وكلاهما مشهور ، فالفتح على أنهن أُحصنّ بالأزواج أو بالإسلام ، والكسر على أنهن أَحصن فروجهن أو أزواجهن ، واشتقاق الكلمة من الإحصان وهو المنع .
{ كِتَابَ اللّهِ } مصدر مؤكد ، أي : كتب الله .
{ عَلَيْكُمْ } تحريم هؤلاء كتاباً وفرضه قرضاً ، فالزموا كتابه ولا تخرجوا عن حدوده وشرعه .
{ وَأُحِلّ لَكُم } عطف على : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ } : { مّا وَرَاء ذَلِكُمْ } إشارة إلى ما ذكر من المحرمات المعدودة ، أي : أحل لكم نكاح ما سواهن .
{ أَن تَبْتَغُواْ } مفعول له ، أي : أحل لكم إرادة أن تبتغوا ، أو بدل من ( ما ) أي : ابتغاء النساء .
{ بِأَمْوَالِكُم } أي : يصرفها إلى مهورهن .
{ مّحْصِنِينَ } حال من فاعل ( تبتغوا ) ، والإحصان : العفة ، وتحصين النفس عن الوقوع فيما يوجب اللوم .
{ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } غير زانين ، والسفاح الزنى والفجوز ، من السفح وهو الصبّ ، لأنه لا غرض للزاني إلا سفح النطفة ، وكان أهل الجاهلية ، إذا خطب الرجل المرأة ، قال : انكحيني ، فإذا أراد الزنى قال : سافحيني .
قال الزجاج : المسافحة أن تقيم امرأة مع رجل على الفجور من غير تزويج صحيح .
تنبيه :
قوله تعالى : { وَأُحِلّ لَكُم مّا وَرَاء ذَلِكُم } : عام مخصوص بمحرمات أخر دلت عليها دلائل أخر ، فمن ذلك ، ما صح عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها .
وقد حكى الترمذيّ المنع من ذلك عن كافة أهل العلم ، وقال : لا نعلم بينهم اختلافاً في ذلك .
ومن ذلك ، نكاح المعتدة ، ومن ذلك ، أن من كان في نكاحه حرة ، لا يجوز له نكاح الأمة .
ومن ذلك ، القادر على الحرة لا يجوز له نكاح الأمة .
ومن ذلك ، من عنده أربع زوجات لا يجوز له نكاح خامسة .
ومن ذلك ، الملاعنة فإنها محرمة على الملاعن أبداً ، فالآية مما نزل عاماً ودلت السنة ومواضع من التنزيل على أنها مخصصة بغيرها .
قال الإمام الشافعيّ في : " الرسالة " :
[ 244 ] فرض الله عز وجل على الناس اتباع وحيه وسنن رسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .
[ 245 ] فقال في كتابه : { رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلمهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } .
[ 250 ] وقال : { وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلمكَ مَا لم تَكُنْ تَعْلم وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } .
في آيات نظائرها .
قال الشافعيّ :
[ 252 ] فذكر الله عز وجل الكتاب وهو القرآن : وذكر الحكمة ، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول : الحكمة سنة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .
[ 253 ] وهذا يشبه ما قال ، والله أعلم .
[ 254 ] لأن القرآن ذُكر وأُتبِعَتْهُ الحكمة ، وذَكّرَ الله جل ثناؤه مَنّهُ على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة ، فلم يجز ، والله أعلم ، أن يقال : الحكمة ههنا إلا سنة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .
[ 255 ] وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله ، وأن الله افترض طاعة رسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وحتّم على الناس اتباع أمره - فلا يجوز أن يقال لقولٍ : فرضٌ ، إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .
[ 256 ] لما وصفنا من أن الله تعالى جل ثناؤه جعل الإيمان برسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مقروناً بالإيمان به .
[ 257 ] وسنة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مبينة عن الله عز وجل معنى ما أراد - دليلاً على خاصه وعامه ، ثم قرن الحكمة بها بكتابه ، فأتبعها إياه ، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه ، غير رسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم . انتهى .
وإنما أوردنا هذا تزييفاً لزعم الخوارج أن حديث : < لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها > المرويّ في الصحيحين وغيرهما ، خبر واحد ، وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لا يجوز ، كما نقله عنهم الرازي ، وأورد من حججهم أن عموم الكتاب مقطوع المتن ظاهر الدلالة ، وخبر الواحد مظنون المتن ظاهر الدلالة ، فكان خبر الواحد أضعف من عموم القرآن ، فترجيحه عليه بمقتضى تقديم الأضعف على الأقوى ، وأنه لا يجوز . انتهى .
وقد توسع الرازي هنا في الجواب عن شبهتهم ، ومما قيل فيه : إن تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها مأخوذ من قوله تعالى : { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ } .
قال العلامة أبو السعود : ويشترك في هذا الحكم الجمع بين المرأة وعمتها نظائرها ، فإن مدار حرمة حرمة الجمع بين الأختين إفضاؤه إلى قطع ما أمر الله بوصله ، وذلك متحقق في الجمع بين هؤلاء ، بل أولى .
فإن العمة والخالة بمنزلة الأم ، فقوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لا تنكح المرأة ، إلخ > ، من قبيل بيان التفسير ، لا بيان التغيير .
وقيل : هو مشهور يجوز به الزيادة على الكتاب ، وقال أيضاً : ولعل إيثار اسم الإشارة ( يعني في قوله : { مّا وَرَاء ذَلِكُمْ } ) المتعرض لوصف المشار إليه وعنوانه ، على الضمير المتعرض للذات فقط - لتذكير ما في كل واحدة منهن من العنوان الذي عليه يدور حكم الحرمة ، فيفهم مشاركة من في معناهن لهن فيها بطريقة الدلالة ، فإن حرمة الجمع بين المرأة وعمتها ، وبينها وبين خالتها ، ليست بطريق العبارة ، بل بطريق الدلالة ، كما سلف . انتهى .
وفي " تنوير الاقتباس " : ويقال في قوله تعالى : { أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم } أن تطلبوا بأموالكم تزوجهن وهي المتعة ، وقد نسخت الآن . انتهى .
وسيأتي الكلام على ذلك .
{ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنّ } أي : من تمتعتم به من المنكوحات بالجماع .
{ فَآتُوهُنّ } فأعطوهن : { أُجُورَهُنّ } مهورهن كاملة .
{ فَرِيضَةً } أي : من الله عليكم أن تعطوا المهر تاماً ، و : { فَرِيضَةً } حال من الأجور ، بمعنى مفروضة ، أو نعت لمصدر محذوف ، أي : إيتاءً مفروضاً ، أو مصدر مؤكد أي : فرض ذلك فريضة .
{ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } لا حرج عليكم .
{ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ } أنتم وهن : { مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } أي : من حطها أو بعضها أو زيادة عليها بالتراضي .
{ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } فيما شرع من الأحكام .
تنبيه :
حمل قوم الآية على نكاح المتعة ، قالوا : معنى وقوله تعالى : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنّ } أي : فمن جامعتموهن ممن نكحتموهن نكاح المتعة فآتوهن أجورهن .
قال الحافظ ابن كثير : وَقَدْ اُسْتُدِلّ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَة عَلَى نِكَاح الْمُتْعَة ، وَلَا شَكّ أَنّهُ كَانَ مَشْرُوعاً فِي اِبْتِدَاء الْإِسْلَام ثُمّ نُسِخَ بَعْد ذَلِكَ .
وقد رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبّاس وَطَائِفَة مِنْ الصّحَابَة الْقَوْل بِإِبَاحَتِهَا لِلضّرُورَةِ ، وَهُوَ رِوَايَة عَنْ الْإِمَام أَحْمَد ، وَكَانَ اِبْن عَبّاس وَأُبَيّ بْن كَعْب وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَالسّدّيّ يَقْرَءُونَ : { فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ إِلَى أَجَل مُسَمّى فَآتُوهُنّ أُجُورهنّ فَرِيضَة } .
وَقَالَ مُجَاهِد : نَزَلَتْ فِي نِكَاح الْمُتْعَة ، وَلَكِنّ الْجُمْهُور عَلَى خِلَاف ذَلِكَ ، وَالْعُمْدَة مَا ثَبَتَ فِي الصّحِيحَيْنِ عَنْ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عليّ بْن أَبِي طَالِب قَالَ : < نَهَى رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عَنْ نِكَاح الْمُتْعَة وَعَنْ لُحُوم الْحُمُر الْأَهْلِيّة يَوْم خَيْبَر > .
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ الرّبِيع بْن سَبْرَة الْجُهَنِيّ عَنْ أَبِيهِ أَنّهُ كان مَعَ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فَقَالَ : < يَا أَيّهَا النّاس ! إِنّي كُنْت أَذِنْت لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاع مِنْ النّسَاء ، وَإِنّ اللّه قَدْ حَرّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ، فَمَنْ كَانَ عِنْده مِنْهُنّ شَيْء فَلْيُخْلِ سَبِيله ، وَلَا تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئاً > . انتهى .
وفي " الكشاف " : قيل نزلت هذه الآية في المتعة ، كان الرجل نكح المرأة وقتاً معلوماً ، ليلة أو ليلتين أو أسبوعاً ، بثبوت أو غير ذلك ، ويقضي منها وطره ثم يسرحها ، وسميت متعة لاستمتاعه بها ، أو لتمتيعه لها بما يعطيها .
وقال الخفاجي : روي أن سعيد بن جبير قال لابن عباس رضي الله عنهما : أتدري ما صنعت بفتواك ؟ قال : سارت بها الركبان وقيل فيها الشعر ، كقوله :
~قد قلت للشيخ لما طال مجلسه يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس ؟
~هل لك في رخصة الأطراف آنسة تكون مثواك حتى مصدر الناس ؟
فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، والله ! ما بهذا أفتيت ولا أحللت ، إلا مثل ما أحل الله الميتة والدم .
وقال الإمام شمس الدين بن القيم رضوان الله عليه في : " زاد المعاد " في الكلام على ما في غزوة الفتح من الفقه ، ما نصه : ومما وقع في هذه الغزوة ، إباحةُ مُتعة النساء ، ثم حرّمها صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قبلَ خروجه مِن مكة ، واخْتُلِفَ في الوقت الذى حُرّمت فيه المُتعة ، على أربعة أقوال :
أحدها : أنه يوم خَيْبَر ، وهذا قولُ طائفة من العلماء ، منهم : الشافعى ، وغيره .
والثانى : أنه عامَ فتح مكة ، وهذا قولُ ابنِ عيينة ، وطائفة .
والثالث : أنه عام حُنَيْن ، وهذا في الحقيقة هو القولُ الثانى ، لاتصال غزاة حُنَيْن بالفتح .
والرابع : أنه عامَ حَجّةِ الوداع ، وهو وهم من بعض الرواة ، سافر فيه وهمُه من فتح مكة إلى حَجّةِ الوداع ، وسفرُ الوهم مِن زمان إلى زمان ، ومِن مكان إلى مكان ، ومِن واقعة إلى واقعة ، كثيراً ما يعرض للحُفّاظ فمَن دونهم .
والصحيح : أنّ المُتعة إنماحُرّمت عام الفتح ، لأنه قد ثبت في " صحيح مسلم " أنهم استمتعوا عامَ الفتح مع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بإذنه ، ولو كان التحريمُ زمنَ خَيْبَر ، لزم النسخُ مرتين ، وهذا لا عهد بمثله في الشريعة البتة ، ولا يقعُ مثلُه فيها .
وأيضاً : فإن خَيْبَر لم يكن فيها مسلمات ، وإنما كُنّ يهوديات ، وإباحة نساء أهل الكتاب لم تكن ثبتت بعد ، إنما أُبِحْنَ بعد ذلك في سورة المائدة بقوله : { اليَوْمَ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّبَاتُ وَطَعَامُ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌ لّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ والْمُحْصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } [ المائدة : 5 ] ، وهذا متصل بقوله : { اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [ المائدة : 3 ] ، وبقوله : { اليَوْمَ يَئِسَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } [ المائدة : 3 ] ، وهذا كان في آخِر الأمر بعد حجة الوداع ، أو فيها ، فلم تكن إباحةُ نساء أهل الكتاب ثابتة من خَيْبَر ، ولا كان للمسلمين رغبةٌ في الاستمتاع بنساء [ في المطبوع : ونساء ] عدوهم قبل الفتح ، وبعد الفتح استُرِقّ مَن استُرِقّ منهن [ في المطبوع : منهم ] ، وصِرْنَ إماءً للمسلمين .
فإن قيل : فما تصنعون بما ثبت فى : " الصحيحين " من حديث على بن أبى طالب : < أن رسولَ الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم نهى عن مُتعة النساء يوم خَيْبَر ، وعن أكْلِ لُحُوم الحُمُر الإنسية > وهذا صحيح صريح ؟
قيل : هذا الحديثُ قد صحّت روايتُه بلفظين : هذا أحدُهما .
والثانى : الاقتصار على نهي النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عن نِكاح المُتعة ، وعن لُحوم الحُمُر الأهلية يومَ خَيْبَر ، هذه رواية ابن عُيينة عن الزهرى .
قال قاسم بن أصبغ : قال سفيان ابن عيينة : يعنى أنه نهى عن لحوم الحُمُر الأهلية زمنَ خَيْبَر ، لا عن نكاح المُتعة ، ذكره أبو عمر ، وفى : " التمهيد " : ثم قال : على هذا أكثرُ الناس انتهى .
فتوهم بعضُ الرواة أن يومَ خَيْبَر ظرفٌ لتحريمهن ، فرواه : < حرّم رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم المُتعة زمن خَيْبَر ، والحُمُرَ الأهلية > ، واقتصر بعضهم على رواية بعض الحديث ، فقال : < حرّم رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم المُتعة زمَن خَيْبَر > ، فجاء بالغلط البيّن .
فإن قيل : فأى فائدة في الجمع بين التحريمين ، إذا لم يكونا قد وقعا في وقت واحد ، وأين المُتعةُ مِن تحريم الحُمُرِ ؟ قيل : هذا الحديثُ رواه على بن أبى طالب رضى الله عنه محتجاً به على ابن عمه عبد الله بن عباس في المسألتين ، فإنه كان يُبيح المُتعة ولحوم الحُمُر ، فناظره على بن أبى طالب في المسألتين ، وروى له التحريمين ، وقيّد تحريمَ الحُمُر زمن خَيْبَر ، وأطلق تحريمَ المُتعة وقال : إنك امرؤ تائه ، إنّ رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم حرّم المُتعة ، وحرّم لحوم الحُمُر الأهلية يومَ خَيْبَر ، كما قاله سفيانُ بنُ عُيينة ، وعليه أكثرُ الناس ، فروى الأمرين محتجاً عليه بهما ، لا مقيّداً لهما بيوم خَيْبَر . . . . والله الموفق .
ولكن ههنا نظر آخر ، وهو أنه : هَلْ حرّمها تحريمَ الفواحش التي لا تُباح بحال ، أو حرّمها عند الاستغناء عنها ، وأباحها للمضطر ؟ هذا هو الذى نظر فيه ابنُ عباس وقال : أنا أبحتُها للمضطر كالميتة والدم ، فلما توسّعَ فيها مَنْ توسّع ، ولم يقف عند الضرورة ، أمسك ابنُ عباس عن الإفتاء بحلّها ، ورجع عنه ، وقد كان ابنُ مسعود يرى إباحتها ويقرأ : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَاتِ مَا أَحَلّ اللهُ لَكُمْ } [ المائدة : 87 ] .
ففى : " الصحيحين " عنه قال : كنّا نغزو مع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وليس لنا نِساء ، فقلنا : ألا نختصِي ؟ فنهانا عن ذلك ، فرخّص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوبِ [ إلى أجل ] ، ثم قرأ عبد الله : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَاتِ مَاأَحَلّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إنّ اللهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ } [ المائدة : 87 ] .
وقراءة عبد الله الآية عقيب هذا الحديث يحتمل أمرين :
أحدهما : الردّ على مَن يُحرّمها ، وأنها لو لم تكن مِن الطيبات لما أباحها رسولُ الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .
والثانى : أن يكون أراد آخِرَ هذه الآية ، وهو الرد على مَن أباحها مطلقاً ، وأنه معتد ، فإن رسولَ الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إنما رخّص فيها للضرورة عند الحاجة في الغزو ، وعند عدم النساء ، وشدة الحاجة إلى المرأة ، فمَن رخّص فيها في الحَضَر مع كثرة النساء ، وإمكان النكاح المعتاد ، فقد اعتدى ، والله لا يُحب المعتدين .
فإن قيل : فكيف تصنعون بما روى مسلم فى : " صحيحه " من حديث جابر ، وسلمة بن الأكوع ، قالا : خرج علينا منادي رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقال : إنّ رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قد أذِن لكم أن تستمتعوا ، ( يعنى : مُتعة النساء ) .
قيل : هذا كان زمنَ الفتح قبل التحريم ، ثم حرّمها بعد ذلك بدليلِ ما رواه مسلم فى : " صحيحه " ، عن سلمة بن الأكوع قال : < رخّص لنا رسولُ الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عامَ أوطاسٍ في المُتعة ثلاثاً ، ثم نهى عنها > .
( وعام أوطاس ) هو ( وعام الفتح ) واحد ، لأن غزاة أوطاس متصلة بفتح مكة .
فإن قيل : فما تصنعون بما رواه مسلم في : " صحيحه " ، عن جابر بن عبد الله ، قال : كنا نستمتع بالقَبْضَةِ مِن التمر والدقيق الأيامَ على عهدِ رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وأبى بكر حتى نهى عنها عُمَرُ في شأن عَمْرو بن حريث .
وفيما ثبت عن عمر أنه قال : مُتعتانِ كانتا على عهدِ رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، أنا أنهى عنهما : مُتعةُ النساءِ ومُتعةُ الحجّ .
قيل : الناس في هذا طائفتان : طائفة تقول : إن عُمَر هو الذي حرّمها ونهى عنها ، وقد أمر رسولُ الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم باتباع ما سَنّه الخلفاء الراشدون ، ولم تر هذه الطائفة تصحيح حديث سَبْرَة بن مَعْبَد في تحريم المُتعة عامَ الفتح ، فإنه من رواية عبد الملك بن الربيع بن سَبْرَة ، عن أبيه ، عن جده ، وقد تكلم فيه ابنُ معين ، ولم ير البخاريّ إخراجَ حديثه فى : " صحيحه " مع شدة الحاجة إليه ، وكونه أصلاً من أُصول الإسلام ، ولو صح عنده لم يصبر عن إخراجه أو الاحتجاج به ، قالوا : ولو صح حديثُ سَبْرة ، لم يخفَ على ابن مسعود حتى يروى أنهم فعلوها ، ويحتجّ بالآية .
وقالوا أيضاً : ولو صح لم يقل عُمَر : إنها كانت على عهد رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأنا أنهى عنها ، وأُعاقب عليها ، بل كان يقول : إنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم حرّمها ونهى عنها ،
قالوا : ولو صح لم تُفعل [ في المطبوع : يفعل ] على عهد الصّدّيق وهو عهدُ خلافة النبوة حقاً .
والطائفة الثانية : رأت صحةَ حديثِ سَبْرَة ، ولو لم يصح ، فقد صحّ حديثُ على رضي الله عنه : < أنّ رسولَ الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم حرّم مُتعة النساء > .
فوجب حملُ حديث جابر على أن الذي أخبر عنها بفعلها لم يبلغه التحريمُ ، ولم يكن قد اشتهر حتى كان زمنُ عُمَر رضي الله عنه ، فلما وقع فيها [ النزاعُ ] ، ظهر [ تحريمُها ] واشتهر ، وبهذا تأتَلِفُ الأحاديثُ الواردة فيها . . . . وبالله التوفيق . انتهى .
هذا ، والذين حملوا الآية على بيان حكم النكاح قالوا : المراد من قوله تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ } الخ ، أنه إذا كان المهر مقداراً بمقدار معين فلا حرج في أن تحط عنه شيئاً من المهر ، أو تبرئه عنه بالكلية ، بالتراضي ، كما تقدم وهو كقوله تعالى : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً } [ النساء : 4 ] وقوله : { إِلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النّكَاحِ } [ البقرة : من الآية 237 ] .
وقد روى ابن جرير عن حضرمي : أن رجلاً كانوا يقرضون المهر ، ثم عسى أن تدرك أحدهم العسرة ، فقال الله : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } الخ .
يعني إن وضعت لك منه شيئاً فهو لك سائغ .
وأما الذين حملوا الآية على بيان المتعة ، قالوا : المراد من نفي الجناح أنه إذا انقضى أجل المتعة لم يبق للرجل على المرأة سبيل البتة ، فإن قال لها : زيديني في الأيام وأزيدك في الأجرة - كانت المرأة بالخيار ، إن شاءت فعلت وإن شاءت لم تفعل ، فهذا هو المراد من قوله : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } أي : من بعد المقدار المذكور أولاً من الأجر والأجل ، أفاده الرازي .
قال السدي : إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى ، يعني الأجر [ في المطبوع : الاحر ] الذي أعطاها على تمتعه بها قبل انقضاء الأجل بينهما ، فقال : أتمتع منك أيضاً بكذا وكذا ، فإن شاء زاد قبل أن يستبرئ رحمها يوم تنقضي المدة ، وهو قوله تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } .
قال السدي : إذا انقضت المدة فليس عليها سبيل ، وهي منه بريئة ، وعليها أن تستبرئ ما في رحمها ، وليس بينهما ميراث ، فلا يرث واحد منهما صاحبه .
قال ابن جرير الطبري : أولى التأويلين في ذلك بالصواب ، التأويل الأول : لقيام لحجة بتحريم الله تعالى متعة النساء على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم . انتهى .
قال المهايمي : ثم أشار تعالى إلى نكاح ما يستباح للضرورة كنكاح المتعة .
لكنها ضرورة مستمرة لا تنقطع بكثرة الإسلام فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن لم يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحْصَنَاتِ المؤْمِنَاتِ فَمِن مّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مّن فَتَيَاتِكُمُ المؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلم بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنّ وَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ بِالمعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ مَا عَلَى المحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لمنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ } [ 25 ]
{ وَمَن لم يَسْتَطِعْ } أي : لم يقدر .
{ مِنكُمْ } أيها الأحرار ، بخلاف العبيد ، أن يحصل .
{ طَوْلاً } أي : غنى يمكنه به : { أَن يَنكِحَ المحْصَنَاتِ } أي : الحرائر المتعففات ، بخلاف الزواني إذ لا عبرة بهن .
{ المؤْمِنَاتِ } إذ لا عبرة بالكوافر .
{ فَمِن مّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم } أي : فله أن ينكح بعض ما يملكه أَيْمَان إخوانكم .
{ مّن فَتَيَاتِكُمُ } أي : إمائكم حال الرق .
{ المؤْمِنَاتِ } لا الكتابية ، لأنه لا يحتمل مع عار الرق عار الكفر ، وقد استفيد من سياق هذه الآية أن الله تعالى شرط في نكاح الإماء شرائط ثلاثة : اثنان منها في الناكح ، والثالث في المنكوحة .
أما اللذان في الناكح فأحدهما أن يكون غير واجد لما يتزوج به الحرة المؤمنة من الصداق ، وهو معنى قوله : { وَمَن لم يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحْصَنَاتِ المؤْمِنَاتِ } فعدم استطاعة الطول عبارة عن عدم ما ينكح به الحرة ، فإن قيل : الرجل إذا كان يستطيع التزوج بالأمة ، يقدر على التزوج بالحرة الفقيرة ، فمن أين هذا التفاوت ؟ قلنا : كانت العادة في الإماء تخفيف مهورهن ونفقتهن لاشتغالهن بخدمة السادات ، وعلى هذا التقدير يظهر التفاوت .
وأما الشرط الثاني : فهو المذكور في آخر الآية وهو قوله : { ذَلِكَ لمنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ } أي : الزنى بأن بلغ الشدة في العزوبة .
وأما الشرط الثالث : المعتبر في المنكوحة ، فأن تكون الأمة مؤمنة لا كافرة ، فإن الأمة إذا كانت كافرة كانت ناقصة من وجهين : الرق والكفر ، ولا شك أن الولد تابع للأم في الحرية والرق ، وحينئذ يعلق الولد رقيقاً على ملك الكافر ، فيحصل فيه نقصان الرق ونقصان كونه ملكاً للكافر ، وما ذكرناه هو المطابق لمعنى الآية ، ولا يخلوا ما عداه عن تكلف لا يساعده نظم الآية .
قال الزمخشري : فإن قلت : لِمَ كان نكاح الأمة منحطاً عن نكاح الحرة ؟ قلت : لما فيه من اتباع الولد الأم في الرق ، ولثبوت حق المولى فيها وفي استخدامها ، ولأنها ممتهنة مبتذلة خرّاجة ولاّجة ، وذلك كله نقصان راجع إلى الناكح ، ومهانة ، والعزة من صفات المؤمنين ، وسيأتي مزيد لهذا عند قوله تعالى : { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لّكُمْ } .
وقوله تعالى : { وَاللّهُ أَعْلم بِإِيمَانِكُمْ } إشارة إلى أنه لا يشترط الإطلاع على بواطنهن ، بل يكتفي بظاهر إيمانهن ، أي : فاكتفوا بظاهر الإيمان ، فإنه تعالى العالم بالسرائر وبتفاضل ما بينكم في الإيمان ، فرب أمة تفضل الحرة فيه .
وقوله تعالى : { بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ } اعتراض آخر جيء به لتأنيسهم بنكاح الإماء حالتئذ ، أي : أنتم وأرقاؤكم متناسبون ، نسبكم من آدم ودينكم الإسلام .
{ فَانكِحُوهُنّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنّ } أي : مواليهن لا استقلالاً ، وذلك لأن منافعهن لهم لا يجوز لغيرهم أن ينتفع بشيء منها إلا بإذن من هي له .
{ وَآتُوهُنّ } أعطوهن : { أُجُورَهُنّ } أي : مهورهن : { بِالمعْرُوفِ } أي : بلا مطل وضرار وإلجاء إلى الاقتضاء .
واستدل الإمام مالك بهذا على أنهن أحق بمهورهن ، وأنه لا حق فيه للسيد .
وذهب الجمهور إلى أن المهر للسيد ، وإنما أضافها إليهن لأن التأدية إليهن ، تأديةٌ إلى سيدهن لكونهن ماله .
{ مُحْصَنَاتٍ } حال من مفعول : { فَانكِحُوهُنّ } أي : حال كونهن عفائف عن الزنى .
{ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } حال مؤكدة : أي : غير زانيات بكل من دعاهن .
{ وَلاَ مُتّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } أي : أخلة يتخصصن بهم في الزنى .
قال أبو زيد : الأخدان الأصدقاء على الفاحشة ، والواحد خدن وخدين .
وقال الراغب : أكثر ذلك يستعمل فيمن يصاحب بشهوة نفسانية ، ومن لطائف وقوع قوله تعالى : { مُحْصَنَاتُ } الخ إثر قوله : { وَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ } : الإشعار بأنهن لو كن إحدى هاتين ، فلكم المناقشة في أداء مهورهن ليفتدين نفوسهن .
{ فَإِذَا أُحْصِنّ } أي : بالتزويج ، وقرئ على البناء للفاعل أي : أحصن فروجهن أو أزواجهن .
{ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ } أي : فعلن فاحشة وهي الزنا : { فَعَلَيْهِنّ } أي : فثابت عليهن شرعاً .
{ نِصْفُ مَا عَلَى المحْصَنَاتِ } أي : الحرائر : { مِنَ الْعَذَابِ } أي : من الحد الذي هو جلد مائة فنصفه خمسون جلدة ، لا الرجم .
قال المهايميّ : لأنهن من أهل المهانة ، فلا يفيد فيهن المبالغة في الزجر .
تنبيه :
قال ابن كثير : مَذْهَب الْجُمْهُور إِنّ الْأَمَة إِذَا زَنَتْ فَعَلَيْهَا خَمْسُونَ جَلْدَة ، سَوَاء كَانَتْ مُسْلِمَة أَوْ كَافِرَة ، مُزَوّجَة أَوْ بِكْراً ، مَعَ أَنّ مَفْهُوم الْآيَة يَقْتَضِي أَنّهُ لَا حَدّ عَلَى غَيْر الْمُحْصَنَة مِمّنْ زَنَى مِنْ الْإِمَاء ، وَقَدْ اِخْتَلَفَتْ أَجْوِبَتهمْ عَنْ ذَلِكَ .
فَأَمّا الْجُمْهُور فَقَالُوا : لَا شَكّ أَنّ الْمَنْطُوق مُقَدّم عَلَى الْمَفْهُوم ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيث عَامّة فِي إِقَامَة
الْحَدّ عَلَى الْإِمَاء ، فَقَدّمْنَاهَا عَلَى مَفْهُوم الْآيَة .
فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه عَنْ عَلِيّ - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أَنّهُ خَطَبَ فَقَالَ < يَا أَيّهَا النّاسُ ! أَقِيمُوا عَلَى أَرِقّائِكُمُ الْحدّ ، مَنْ أَحصَنَ مِنْهُن وَمَنْ لَمْ يُحصِنْ > .
فَإِنّ أَمَةً لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم زَنَتْ . فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا . فَإِذَا هِيَ حدِيثُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ . فَخَشِيتُ إِنْ أَنَا جَلَدْتُهَا ، أَنْ أَقْتُلَهَا . فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فَقَالَ : < أَحسَنْتَ ، اُتْرُكْهَا حَتّى تَمَاثَل > .
وَعِنْد عَبْد اللّه بْن أَحْمَد عَنْ غَيْر أَبِيهِ : < فَإِذَا تَعَافَتْ مِنْ نِفَاسهَا فَاجْلِدْهَا خَمْسِينَ > .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللّه صَلّى يَقُول : < إِذَا زَنَتْ أَمَة أَحَدكُمْ فَتَبَيّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدّ وَلَا يُثَرّب عَلَيْهَا ، ثُمّ إِنْ زَنَتْ الثّانِيَة فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدّ وَلَا يُثَرّب عَلَيْهَا ، ثُمّ إِنْ زَنَتْ الثّالِثَة فَتَبَيّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعْر > .
وَلِمُسْلِمٍ : < إِذَا زَنَتْ ثَلَاثاً ، ثم لْيَبِعْهَا فِي الرّابِعَة > .
وَرَوَى مَالِك عَنْ عَبْد اللّه بْن عَيّاش الْمَخْزُومِيّ قَالَ : أَمَرَنِي عُمَر بْن الْخَطّاب فِي فِتْيَة مِنْ قُرَيْش فَجَلَدْنَا ولائد مِنْ وَلَائِد الْإِمَارَة خَمْسِينَ خَمْسِينَ ، في الزّنَا .
الْجَوَاب الثّانِي : جَوَاب مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنّ الْأَمَة إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَن فَلَا حَدّ عَلَيْهَا وَإِنّمَا تُضْرَب تَأْدِيباً ، وَهُوَ الْمَحْكِيّ عَنْ اِبْن عَبّاس - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ طَاوُس وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَأَبُو عُبَيْد الْقَاسِم بْن سَلّام ، وَدَاوُد بْن عليّ الظّاهِرِيّ ( فِي رِوَايَة عَنْهُ ) وَعُمْدَتهمْ مَفْهُوم الْآيَة ، وَهُوَ مِنْ مَفَاهِيم الشّرْط ، وَهُوَ حُجّة عِنْد أَكْثَرهمْ ، فَقُدّمَ عَلَى الْعُمُوم عِنْدهمْ .
وَحَدِيث أَبِي هُرَيْرَة وَزَيْد بْن خَالِد : أَنّ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم سُئِلَ عَنْ الْأَمَة إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَن ؟ قَالَ : < إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ، ثُمّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ، ثُمّ إِنْ زَنَتْ فَبِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ > .
قَالَ اِبْن شِهَاب : لَا أَدْرِي بَعْد الثّالِثَة أَوْ الرّابِعَة . أَخْرَجَاهُ فِي الصّحِيحَيْنِ .
وَعِنْد مُسْلِم قَالَ اِبْن شِهَاب : الضّفِير الْحَبْل . قَالُوا : فَلَمْ يُؤَقّت فِيهِ عَدَد كَمَا أُقّتَ فِي الْمُحْصَنَة ، وَكَمَا وَقّتَ فِي الْقُرْآن بِنِصْفِ مَا عَلَى الْمُحْصَنَات ، فَوَجَبَ الْجَمْع بَيْن الْآيَة وَالْحَدِيث بِذَلِكَ وَاَللّه أَعْلَم .
وَأَصْرَح مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ سَعِيد بْن مَنْصُور عَنْ اِبْن عَبّاس مَرْفُوعاً : < لَيْسَ عَلَى أَمَةٍ حَدّ حَتّى تُحْصَن - يَعْنِي تُزَوّج - فَإِذَا أُحْصِنَتْ بِزَوْجٍ فَعَلَيْهَا نِصْف مَا عَلَى الْمُحْصَنَات > .
وَرَوَاهُ اِبْن خُزَيْمَة مَرْفُوعاً أيضاً وَقَالَ : رَفْعه خَطَأ ، إِنّمَا هُوَ مِنْ قَوْل اِبْن عَبّاس .
وَكَذَا رَوَاهُ البيهقيّ وَقَالَ : مِثْل قول اِبْن خُزَيْمَة .
قَالُوا : وَحَدِيث عليّ وَعُمَر قَضَايَا أَعْيَان ، وَحَدِيث أَبِي هُرَيْرَة عَنْهُ أَجْوِبَة :
أَحَدهَا : إنّ ذَلِكَ مَحْمُول عَلَى الْأَمَة الْمُزَوّجَة ، جَمْعاً بَيْنه وَبَيْن هَذَا الْحَدِيث .
الثّانِي : إنّ لَفْظَة الْحَدّ فِي قَوْله : < فَلْيُقِمْ عَلَيْهَا الْحَدّ > مُقْحَمَة مِنْ بَعْض الرّوَاة بِدَلِيلِ .
الْجَوَاب الثّالِث : وَهُوَ أَنّ هَذَا مِنْ حَدِيث صَحَابِيّيْنِ وَذَلِكَ مِنْ رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة فَقَطْ ، وَمَا كَانَ عَنْ اِثْنَيْنِ فَهُوَ أَوْلَى بِالتّقْدِيمِ مِنْ رِوَايَة وَاحِد .
وَأَيْضاً فَقَدْ رَوَاهُ النّسَائِيّ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْط مُسْلِم مِنْ حَدِيث عَبّاد بْن تَمِيم عَنْ عَمّه ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْراً : إنّ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قَالَ : < إِذَا زَنَتْ الْأَمَة فَاجْلِدُوهَا ، ثُمّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ، ثُمّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ، ثُمّ إِنْ زَنَتْ فَبِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ > .
الرّابِع : أَنّهُ لَا يَبْعُد أَنّ بَعْض الرّوَاة أَطْلَقَ لَفْظ ( الْحَدّ ) فِي الْحَدِيث عَلَى ( الْجَلْد ) لِأَنّهُ لَمّا كَانَ الْجَلْد اِعْتَقَدَ أَنّهُ حَدّ ، أَوْ أَنّهُ أَطْلَقَ لَفْظَة ( الْحَدّ ) عَلَى التّأْدِيب ، كَمَا أَطْلَقَ ( الْحَدّ ) عَلَى ضَرْب مَنْ زَنَى مِنْ الْمَرْضَى بِعِثْكَال نَخْل فِيهِ مِائَة شِمْرَاخ ، وَعَلَى جَلْد مَنْ زَنَى بِأَمَةِ اِمْرَأَته إِذَا أَذِنَتْ لَهُ فِيهَا مِائَة ، وَإِنّمَا ذَلِكَ تَعْزِير وَتَأْدِيب عِنْد مَنْ يَرَاهُ ، كَأَحْمَد وَغَيْره مِنْ السّلَف . وَإِنّمَا الْحَدّ الْحَقِيقِيّ هُوَ جَلْد الْبِكْر مِائَة ، وَرَجْم الثّيّب . انتهى .
وله تتمة سابغة .
وقال الإمام ابن القيم في : " زاد المعاد " : وحكم في الأمة إذا زنت ولم تحصن بالحد ، وأما قوله تعالى في الإماء : { فَإِذَا أُحْصِنّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ مَا عَلَى المحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } فهو نص في أن حدها بعد التزويج نصف حد الحرة من الجلد ، وأما قبل التزويج فأمر بجلدها ، وفي هذا الحد قولان :
أحدهما : أنه الحد ، ولكن يختلف الحال قبل التزويج وبعده ، فإن للسيد إقامته قبله ، وأما بعده فلا يقيمه إلا الإمام .
والقول الثاني : أن جلدها قبل الإحصان تعزير لا حد ، ولا يُبطل هذا ما رواه مسلم فى : " صحيحه " : من حديث أبى هريرة رضيَ اللّهُ عنه يرفعُه : < إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ ، فَلْيَجْلِدْهَا وَلاَ يُعَيّرْها ثَلاَثَ مَرّاتٍ ، فإِنْ عَادَتْ في الرّابِعَةِ فَلْيَجْلِدْهَا وَلْيَبِعْها وَلَوْ بِضَفِير > ، وفى لفظ : < فَلْيَضْرِبْها بكتاب الله > .
وفى " صحيحه " أيضاً : من حديث على كرم الله وجهه أنه قال : أَيّها الناسُ ! أقيمُوا على أرقائكم الحدّ ، مَنْ أحصنَ مِنهن ، ومن لم يُحصنْ ، فإن أمةً ِرَسُولِ الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم زَنَتْ ، فأمرني أن أجلِدَهَا . الحديث .
فإن التعزير يدخلُ فيه لفظُ ( الحد ) في لسان الشارع ، كما في قوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لا يُضرَبُ فوقَ عشرةِ أسواطٍ إلا في حدّ مِن حدُود الله تعالى > .
وقد ثبت التعزيرُ بالزيادة على العشرة جنساً وقدراً في مواضِع عديدة لم يَثْبُتْ نسخُها ، ولم تُجْتمِع الأمةُ على خِلافها .
وعلى كل حال ، فلا بد أن يُخالِفَ حالُها بعد الإحصان حالها قبله ، وإلا لم يكن للتقييد فائدة .
فإما أن يُقال قبل الإحصان : لا حدّ عليها ، والسنة الصحيحةُ تبطِلُ ذلك .
وإما أن يقال : حدّها قبل الإحصان حدّ الحرة ، وبعده نصفه ، وهذا باطل قطعاً مخالف لقواعد الشرع وأصوله .
وإما أن يُقال : حدها قبل الإحصان تعزير ، وبعده حد ، وهذا أقوى .
وإما أن يُقال : الافتراقُ بين الحالتين في إقامة الحدّ لا في قدرِه ، وأنه في إحدى الحالتين للسيد ، وفى الأخرى للإمام ، وهذا أقربُ ما يُقال .
وقد يقال : إن تنصيصه على التنصيفِ بعد الإحصان لئلا يتوهّم متوهم أن بالإحصان يزولُ التنصيفٌ ، ويصيرُ حدها حدّ الحرة ، كما أن الجلد عن البِكر يزال بالإحصان ، وانتقل إلى الرجم ، فبقى على التنصيف في أكمل حالتيها ، وهى الإحصان تنبيهاً على أنه إذا اكتُفِىَ به فيها ، ففي ما قبل الإحصان أولى وأحرى ، والله أعلم .
{ ذَلِكَ } أي : إباحة نكاح الإماء .
{ لمنْ خَشِيَ الْعَنَتَ } أي : المشقة في التحفظ من الزنى : { مِنْكُمْ } أيها الأحرار .
{ وَأَن تَصْبِرُواْ } على تحمل تلك المشقة متعففين عن نكاحهن .
{ خَيْرٌ لّكُمْ } من نكاحهن ، وإن سبقت كلمة الرخصة ، لما فيه من تعريض الولد للرق ، قال عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : أيما حرّ تزوج بأمة فقد أَرَقّ نصفه ، ولأن حق المولى فيها أقوى فلا تخلص للزوج خلوص الحرائر ، ولأن المولى يقدر على استخدامها كيفما يريد في السفر والحضر ، وعلى بيعها للحاضر والبادي ، وفيه من اختلال حال الزوج وأولاده ما لا مزيد عليه ، ولأنها ممتهنة مبتذلة خرّاجة ولاّجة ، وذلك كله ذل ومهانة سارية إلى الناكح ، والعزة هي اللائقة بالمؤمنين ، ولأن مهرها لمولاها ، فلا تقدر على التمتع به ولا على هبته للزوج ، فلا ينتظم أمر المنزل ، كذا حرره أبو السعود ، وقد قيل :
~إذا لم يكن في منزل المرء حرة تدبره ضاعت مصالح داره
قال في : " الإكليل " : في الآية كراهة نكاح الأمة عند اجتماع الشروط ، بقوله تعالى : { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 26 ]
{ يُرِيدُ اللّهُ } أي : في تحريم ما حرم من النساء ، وتحليل ما أحل بالشرائط .
{ لِيُبَيّنَ لَكُمْ } أي : شرائعه .
{ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } أي : يرشدكم إلى طرائق من تقدم من أهل الكتاب في تحريم ما حرمه ، لتتأسوا بهم في اتباع شرائعه التي يحبها ويرضاها .
وفي الآية دليل على أن كل ما بيّن تحريمه لنا من النساء ، في الآيات المتقدمة ، فقد كان الحكم كذلك في الملة السابقة .
وقد قرأت في سفر الأحبار اللاويين ، من التوراة ، في ( الفصل الثامن عشر ) ما يؤيد ذلك ، عدا ما رفعه تعالى عنا من ذلك مما فيه حرج .
{ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي : يتجاوز عنكم ما كان منكم في الجاهلية ، أو يرجع بكم عن معصيته التي كنتم عليها إلى طاعته .
{ وَاللّهُ عَلِيمٌ } أي : فيما شرع لكم من الأحكام : { حَكِيمٌ } مراع في جميع قضائه الحكمة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَوَاتِ أَن تَميلُواْ ميلاً عَظِيماً } [ 27 ]
{ وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي : من المآثم والمحارم ، أي : يخرجكم من كل ما يكره إلى ما يحب ويرضى ، وفيه بيان كمال منفعة ما أراده الله تعالى ، وكمال مضرة ما يريده الفجرة ، كما قال سبحانه : { وَيُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَوَاتِ } أي : ما حرمه الشرع ، وهم الزناة .
{ أَن تَميلُواْ } عن الحق بالمعصية .
{ ميلاً عَظِيماً } يعني بإتيانكم ما حرم الله عليكم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَاْن ضَعِيفاً } [ 28 ]
{ يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفّفَ عَنكُمْ } أي : في شرائعه وأوامره ونواهيه وما يقدره لكم .
ولهذا أباح نكاح الإماء بشروطه ، ونظير هذا قوله تعالى : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [ البقرة : من الآية 185 ] ، وقوله : { مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] .
{ وَخُلِقَ الإِنسَاْن ضَعِيفاً } أي : عاجزاً عن دفع عن دفع دواعي شهواته ، فناسبه التخفيف لضعف عزمه وهمته وضعفه في نفسه ، فالجملة اعتراض تذييلي مسوق لتقرير ما قبله من التخفيف في أحكام الشرع .
وفي " الإكليل " : قال طاووس : ضعيفاً أي : في أمر الناس لا يصبر عنهن .
وقال وكيع : يذهب عقله عندهن ، أخرجهما ابن أبي حاتم ، ففيه أصل لما يذكره الأطباء من منافع الجماع ومن مضار تركه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } [ 29 ]
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ } أي : لا يأكل بعضكم أموال بعض .
{ بِالْبَاطِلِ } أي : ما لم تبحه الشريعة كالربا والقمار والرشوة ، والغضب والسرقة والخيانة ، وما جرى مجرى ذلك من صنوف الحيل .
{ إِلاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً } أي : معاوضة محضة كالبيع .
{ عَن تَرَاضٍ مّنكُمْ } في المحاباة من جانب الآخذ والمأخوذ منه ، وقرئ : { تِجَارَةٌ } بالرفع على أن ( كان ) تامة ، وبالنصب على أنها ناقصة ، والتقدير : إلا أن تكون المعاملة أو التجارة أو الأموال ، تجارة .
قال السيوطيّ في " الإكليل " : في الآية تحريم أكل المال الباطل بغير وجه شرعي ، وإباحة التجارة والربح فيها ، وأن شرطها التراضي ، ومن ههنا أخذ الشافعيّ رحمه الله اعتبار الإيجاب والقبول لفظاً ، لأن التراضي أمر قلبي فلا بد من دليل عليه .
وقد يستدل بها من لم يشترطهما إذا حصل الرضا . انتهى .
أي لأن الأقوال ، كما تدل على التراضي ، فكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعاً ، فصح بيع المعاطاة مطلقاً .
وفي " الروضة الندية " : حقيقة التراضي لا يعلمها إلا الله تعالى : والمراد ها هنا أمارته ، كالإيجاب والقبول ، وكالتعاطي عند القائل به ، وعلى هذا أهل العلم ، لكونه لم يرد ما يدل على ما اعتبره بعضهم من ألفاظ مخصوصة ، وأنه لا يجوز البيع بغيرها ، ولا يفيدهم ما ورد في الروايات من نحو : ( بعت منك وبعتك ) فإنا لا ننكر أن البيع يصح بذلك ، وإنما النزاع في كونه لا يصح إلا بها ، ولم يرد في ذلك شيء ، وقد قال الله تعالى : { تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ } فدل ذلك على أن مجرد التراضي هو المناط ، ولا بد من الدلالة عليه بلفظ أو إشارة أو كتابة ، بأي لفظ وقع ، وعلى أي : صفة كان وبأي إشارة مفيدة ، حصل . انتهى .
وقوله تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } فيه وجهان :
الأول : أن المعنى لا تقتلوا من كان من جنسكم من المؤمنين ، فإن كلهم كنفس واحدة ، والتعبير عنهم بالأنفس للمبالغة في الزجر عن قتلهم ، بتصويره بصورة ما لا يكاد يفعله عاقل .
والثاني : النهي عن قتل الإِنسَاْن نفسه ، وقد احتج بهذه الآية عَمْرو بن العاص على مسألة التيمم للبرد ، وأقره النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم على احتجاجه ، كما رواه الإمام أحمد وأبو داود ، ولفظ أحمد عن
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنّهُ قَالَ : لَمّا بَعَثَه رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عَامَ ذَاتِ السّلاَسِلِ - قَالَ - احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ ، فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلَكَ ، فَتَيَمّمْتُ ثُمّ صَلّيْتُ بِأَصْحَابِي صَلاَةَ الصّبْحِ - قَالَ - فَلَمّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : < يَا عَمْرُو صَلّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ > .
قَالَ : قُلْتُ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّي احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنَ أَهْلَكَ وَذَكَرْتُ قَوْلَ اللّهِ عَزّ وَجَلّ : { وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } فَتَيَمّمْتُ ثُمّ صَلّيْتُ ، < فَضَحِكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وَلَمْ يَقُلْ شَيْئاً > .
وهكذا أورده أبو داود ، قال ابن كثير وهذا ، أي : المعنى الثاني ، والله أعلم ، أشبه بالصواب ، وقد توافرت الأخبار في النهي عن قتل الإِنسَاْن نفسه والوعيد عليه .
روى الشيخان وأهل السنن وغيرهم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ : قَالَ رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < مَنْ تَرَدّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ ، فَهْوَ في نَارِ جَهَنّمَ ، يَتَرَدّى فِيهِ خَالِداً مُخَلّداً فِيهَا أَبَداً ، وَمَنْ تَحَسّى سَمّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ ، فَسَمّهُ في يَدِهِ ، يَتَحَسّاهُ في نَارِ جَهَنّمَ خَالِداً مُخَلّداً فِيهَا أَبَداً ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ ، فَحَدِيدَتُهُ في يَدِهِ ، يَجَأُ بِهَا في بَطْنِهِ في نَارِ جَهَنّمَ خَالِداً مُخَلّداً فِيهَا أَبَداً > .
وأخرج الشيخان عنه رضى الله عنه - قَالَ شَهِدْنَا خَيْبَرَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لِرَجُلٍ مِمّنْ مَعَهُ يَدّعِى الإِسْلاَمَ : < هَذَا مِنْ أَهْلِ النّارِ > .
فَلَمّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرّجُلُ أَشَدّ الْقِتَالِ ، حَتّى كَثُرَتْ بِهِ الْجِرَاحَةُ ، فَكَادَ بَعْضُ النّاسِ يَرْتَابُ ، فَوَجَدَ الرّجُلُ أَلَمَ الْجِرَاحَةِ ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى كِنَانَتِهِ ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا أَسْهُماً ، فَنَحَرَ بِهَا نَفْسَهُ .
فَاشْتَدّ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللّهِ ، صَدّقَ اللّهُ حَدِيثَكَ ، انْتَحَرَ فُلاَنٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ .
فَقَالَ : < قُمْ يَا فُلاَنُ ، فَأَذّنْ أَنّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ إِلاّ مُؤْمِنٌ ، إِنّ اللّهَ يُؤَيّدُ الدّينَ بِالرّجُلِ الْفَاجِرِ > . وهذا لفظ البخاريّ .
وروى أبو داود عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال : أُخبر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يرجل قتل نفسه فقال : < لا أصلي عليه > .
وفي الصحيحين من حديث جُنْدب بن عبد الله قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ ، فَجَزِعَ فَأَخَذَ سِكّيناً فَحَزّ بِهَا يَدَهُ ، فَمَا رَقَأَ الدّمُ حَتّى مَاتَ ، قَالَ اللّهُ عز وجل : بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ ، حَرّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنّةَ > .
ولهذا قال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلما فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً } [ 30 ]
{ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ } أي : القتل .
{ عُدْوَاناً وَظُلما } أي : متعدياً فيه ، ظالماً في تعاطيه ، أي : عالماً بتحريمه متجاسراً على انتهاكه .
{ فَسَوْفَ نُصْلِيهِ } أي : ندخله .
{ نَاراً } أي : هائلة شديدة العذاب .
{ وَكَانَ ذَلِكَ } أي : إصلاؤه النار .
{ عَلَى اللّهِ يَسِيراً } هيناً عليه ، لا عسر فيه ولا صارف عنه ، لأنه تعالى : لا يعجزه شيء .
قال النسفي : وهذا الوعيد في حق المستحل للتخليد ، وفي حق غيره ، لبيان استحقاقه دخول النار مع وعد الله بمغفرته . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مّدْخَلاً كَرِيماً } [ 31 ]
{ إِن تَجْتَنِبُواْ } أي : تتركوا .
{ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } أي : كبائر الذنوب التي نهاكم الشرع عنها ، مما ذكر ههنا ومما لم يذكر .
{ نُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ } أي : صغائر ذنوبكم ، ونمحها عنكم ، وندخلكم الجنة ، كما قال تعالى : { وَنُدْخِلْكُم } في الآخرة .
{ مّدْخَلاً كَرِيماً } أي : حسناً وفي الجنة ، و ( مدخلاً ) قرئ بضم الميم ، اسم مكان أو مصدر ميمي ، أي : إدخالاً مع كرامة ، وبفتح الميم ، وهو أيضاً يحتمل المكان والمصدر ، وفي الآية دليل على أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر ، وردّ على من قال : إن المعاصي كلها كبائر ، وإنه لا صغيرة .
قال الإمام ابن القيم في " الجواب الكافي " : قد دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين بعدهم والأئمة على أن من الذنوب كبائر وصغائر ، قال الله تعالى : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ } [ النساء : 31 ] ، وقال تعالى : { الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلّا اللّمَمَ } [ النجم : من الآية 32 ] .
وفي الصحيح عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال : < الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان : مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر > .
وهذه الأعمال المكفرة لها ثلاث درجات :
إحداها : أن تقصر عن تكفير الصغائر لضعفها وضعف الإخلاص فيها ، والقيام بحقوقها ، بمنزلة الدواء الضعيف الذي ينقص عن مقاومة الداء كمية وكيفية .
الثانية : أن تقاوم الصغائر ، ولا ترتقي إلى تكفير شيء من الكبائر .
الثالثة : أن تقوى على تكفير الصغائر ، وتبقى فيها قوة تكفر بها بعض الكبائر ، فتأمّل هذا ، فإنه يزيل عنك إشكالات كثيرة .
وفي الصحيح عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال : < أَلاَ أُنَبّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ؟ > .
قُالوَا بَلَى يَا رَسُولَ اللّهِ . قَالَ : < الإِشْرَاكُ بِاللّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ > . وَجَلَسَ وَكَانَ مُتّكِئاً فَقَالَ : < أَلاَ وَقَوْلُ الزّورِ ( ثلاثاً ) > .
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم : < اجْتَنِبُوا السّبْعَ الْمُوبِقَاتِ > .
قالوا : وما هن يا رسول الله ؟ قال : < الإشّرْكُ بِاللّهِ ، وَالسّحْرُ ، وَقَتْلُ النّفْسِ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقّ ، وَأَكْلُ الرّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَالتّوَلّي يَوْمَ الزّحْفِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ > .
وفي الصحيح عَنْ عَبْدِ اللّهِ بن مسعود - رضى الله عنه - قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم - أي : الذّنْبِ عِنْدَ اللّهِ أَكْبَرُ ؟ ، قَالَ : < أَنْ تَجْعَلَ لِلّهِ نِدّا وَهْوَ خَلَقَكَ > .
قُلْتُ ثُمّ أي : ؟ قَالَ : < ثُمّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ > .
قُلْتُ ثُمّ أَىّ ؟ قَالَ : < أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ > .
قَالَ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ تَصْدِيقاً لِقَوْلِه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : { وَالّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقّ وَلَا يَزْنُونَ } [ الفرقان : 68 ] ، الآية .
ثم ساق الخلاف في تعدادها .
وعندي أن الصواب هو الوقوف في تعدادها على ما صحت به الأحاديث ، فإن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مبين لكتاب الله عز وجل ، أمين على تأويله ، والمرجع في بيان كتاب الله تعالى إلى السنة الصحيحة ، كما أن المرجع في تعريف الكبيرة إلى العدّ دون ضبطها بحد ، كما تكلفه جماعة من الفقهاء ، وطالت المناقشة بينهم في تلك الحدود ، وإن منها ما ليس جامعاً ، ومنها ما ليس مانعاً ، فكله مما لا حاجة إليه بعد ورود صحاح الأخبار في بيان ذلك .
وقد ساق الحافظ ابن كثير ههنا جملة وافرة منها وجوّد النقل عن الصحابة والسلف والتابعين ، فانظره فإنه نفيس .
ثم نهى تعالى عن الحاسد ، وعن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من المال ونحوه ، مما يجري فيه التنافس بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَتَمَنّوْاْ مَا فَضّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً } [ 32 ]
{ وَلاَ تَتَمَنّوْاْ مَا فَضّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمّا اكْتَسَبُواْ } أي : أصابوا وأحرزوا .
{ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمّا اكْتَسَبْنَ } أي : أصبن وأحرزن ، أي : لكل فريق نصيب مما اكتسب في نعيم الدنيا قبضاً أو بسطاً ، فينبغي أن يرضى بما قسم الله له .
وقد روى الإمام أحمد عن مجاهد أن أم سلمة قالت : يا رسول الله يغزو الرجال ولا يغزو النساء ، وإنما لنا نصف الميراث فأنزل الله تعالى : { وَلاَ تَتَمَنّوْاْ } الآية . ورواه الترمذيّ وقال : غريب .
ورواه الحاكم في مستدركه وزاد : ثم أنزل الله : { أَنّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى } [ آل عِمْرَان : من الآية 195 ] ، الآية فإن صح هذا فالمعنى : لكلٌ أحد قدر من الثواب يستحقه بكرم الله ولطفه ، فلا تتمنوا خلاف ذلك ، ولا مانع من شمول الآية لما يتعلق بأحوال الدنيا والآخرة ، فإن اللفظ محتمل ولا منافاة ، والله أعلم .
{ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ } أي : من خزائن نعمه التي لا نفاد لها ، وقد روى الترمذيّ وابن مردويه عَنْ عَبْدِ اللّهِ بن مسعود ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < سَلُوا اللّهَ مِنْ فَضْلِهِ ، فَإِنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ يُحِبّ [ أَنْ ] يُسْأَلَ ، وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ > .
{ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً } ولذلك جعل الناس على طبقات رفع بعضهم على بعض درجات حسب مراتب استعداداتهم الفائضة عليهم بموجب المشيئة المبنية على الحكم الأبية ، قاله أبو السعود .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِكُلّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ شَهِيداً } [ 33 ]
{ وَلِكُلّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } أي : ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون من المال جعلنا ورثة وعصبة يلونه ويحرزونه ، وهم يرثونه ، دون سائر الناس .
كما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا ، فَمَا بَقِىَ فَهْوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ > ، أي : اقسموا الميراث على أصحاب الفرائض الذين ذكرهم الله في آيتي الفرائض ، فما بقي بعد ذلك فأعطوه للعصبة ، فـ ( فما ) تبيين ( كل ) .
قال ابن جرير : والعرب تسمي ابن العم مولى ، كما قال الفضل بن العباس :
~مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا لا يظهرن بيننا ما كان مدفونا
وفي " القاموس " و " شرحه تاج العروس " : والمولى : القريب كابن العم ونحوه .
قال ابن الأعرابي : ابن العم مولى ، وابن الأخت مولى ، وقول الشاعر :
~هَمُ المَوْلى ، وإنْ جَنَفُوا عَلَيْنا وإنّا مِنْ لِقائِهِمُ لَزُورُ
قال أَبو عبيدة : يعني المَوالي ، أي : بني العَمّ [ في المطبوع : العلم ] ، وقال اللّهبيّ يخاطب بني أمية :
~مهلاً بني عمنا ، مهلاً مواليناً امشوا رويداً كما كنتم تكونونا
وقوله تعالى : { وَالّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } مبتدأ ضمن معنى الشرط فوقع خبره مع الفاء وهو قوله : { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } ويقرأ ( عاقدت ) بالألف ، والمفعول محذوف أي : عاقدتهم ، ويقرأ بغير ألف والمفعول محذوف أيضاً هو والعائد ، تقديره عقدت حلفهم أيمانكم ، والعقد الشد والربط والتوكيد والتغليظ ، ومنه : عقد العهد يعقده : شده .
والأيمان : جمع يمين ، إما بمعنى اليد اليمنى لوضعهم الأيدي في العهود ، أو بمعنى القسم وهو الأظهر ، لأن العقد خلاف النقض ، وقد جاء مقروناً بالحلف في قوله تعالى : { وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } [ النحل : من الآية 91 ] ، وفي قوله : { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمُ الْأَيْمَانَ } [ المائدة : من الآية 89 ] ، وفي هذه الآية محامل كثيرة ووجوه للسلف والخلف ، أظهرها السلف المفسرين رضوان الله عليهم ، وهو أن المعنيّ بالموصول ، الحلفاء ، وهو المروي عن ابن عباس في البخاريّ كما سيأتي : قال ابن أبي حاتم : وروي عن سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء والحسن وابن المسيب وأبي صالح وسليمان بن يسار والشعبي وعكرمة والسدي والضحاك وقتادة ومقاتل بن حيان ، أنهم قالوا : هم الحلفاء . انتهى .
ويزاد أيضاً : عليّ بن أبي طلحة .
وكان الحلفاء يرثون السدس من محالفيهم ، وروى الطبري من طريق قتادة : كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول : دمي دمك ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك ، فلما جاء الإسلام بقي منهم ناس ، فأمروا بأن يؤتوهم نصيبهم من الميراث وهو السدس ، ثم نسخ ذلك بالميراث ، فقال : { وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } .
ولذا قال سعيد بن جبير : فآتوهم نصيبهم من الميراث ، قال : وعاقد أبو بكر مولى فورثه .
قال الزمخشري : والمراد ، بـ ( الذين عاقدت أيمانكم ) موالي الموالاة ، كان الرجل يعاقد الرجل فيقول : دمي دمك ، وهدمي هدمك ، وثأري ثأرك ، وحربي حربك ، وسلمي سلمك ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك ، وتعقل عني وأعقل عنك ، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف . انتهى .
وعلى هذا ، فمعنى الآية : والذين عاقدتموهم على المؤاخاة والموالاة وتحالفتم بالأيمان المؤكدة أنتم وهم على النصر والإرث ، قبل نزول هذه الآية ، فآتوهم نصيبهم من الميراث وفاء بالعقود والعهود ، إذ وعدتموهم ذلك في الأيمان المغلظة .
وروى ابن أبي حاتم : كان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل ويقول ، وترثني أرثك ، وكان الأحياء يتحالفون ، فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < كُلّ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ ، أو عقد أدركه الإسلام ، فَلا يَزِيدْهُ الإِسْلاَمَ إِلاّ شِدّةً ، ولا عقد وَلاَ حِلْفَ فِي الإِسْلاَمِ > .
وروى الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن جبير بن مطعم عن أبيه قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لاَ حِلْفَ فِي الإِسْلاَمِ ، وأيما حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإِسْلاَمُ إِلاّ شِدّةً > .
وروى الإمام أحمد عَنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ أَنّهُ سَأَلَ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عَنِ الْحِلْفِ ؟ فَقَالَ : < مَا كَانَ مِنْ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَتَمَسّكُوا بِهِ ، وَلاَ حِلْفَ فِي الإِسْلاَمِ > .
ورواه أيضاً عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ قَالَ : لَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مَكّةَ عَامَ الْفَتْحِ قَامَ خَطِيباً فِي النّاسِ ، فَقَالَ : < يَا أَيّهَا النّاسُ ، مَا كَانَ مِنْ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ ، لَمْ يَزِدْهُ الإِسْلاَمَ إِلاّ شِدّةً ، وَلاَ حِلْفَ فِي الإِسْلاَمِ > .
قال ابن الأثير : الحلف في الأصل المُعاقَدةُ والمعاهدة على التّعاضُد والتّساعُد والاتّفاق ، فما كان منه في الجاهلية على الفِتَن والقتال والغاراتِ فذلك الذي ورد النّهْي عنه في الإسلام بقوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لا حِلْفَ في الإسلام > .
وما كان منه في الجاهلية على نَصْر المَظْلوم وصلة الأرحام كحلْف المُطَيّبين وما جرى مَجْراه ، فذلك الذي قال فيه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < وأَيّمَا حِلفٍ كان في الجاهلية لم يَزِدْه الإسلام إلا شدة > .
يريد من المُعاقدة على الخير ونُصْرَة الحق ، وبذلك يجتمع الحديثان ، وهذا هو الحِلْف الذي يَقْتَضِيه الإسلام ، والمَمْنُوع منه ما خالف حُكْم الإسلام . انتهى .
قال الحافظ ابن كثير : كان هذا ، أي : التوارث بالحلف ، في ابتداء الإسلام ، ثم نسخ بعد ذلك وأمروا أن يوفوا لمن عاقدوا ولا ينشئوا بعد هذه الآية معاقدة .
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَالّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } فكان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل ويقول : وترثني وأرثك ، كان الأحياء يتحالفون فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < كُلّ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ ، أو عقد أدركه الإسلام ، فَلا يَزِيدْهُ إِلاّ شِدّةً ، ولا عقد وَلاَ حِلْفَ فِي الإِسْلاَمِ > . فنسختها هذه الآية : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ } [ الأنفال : 75 ] .
وروى أبو داود عن ابن عباس في هذه الآية : كَانَ الرّجُلُ يُحَالِفُ الرّجُلَ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا نَسَبٌ ، فَيَرِثُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ ، فَنَسَخَ ذَلِكَ الأَنْفَالُ فَقَالَ : { وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } الآية .
وروى ابن جرير عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر ، فأنزل الله تعالى : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً } يقول : إلا أن توصوا لأوليائهم الذين عاقدوا ، وصية ، فهو لهم جائز من ثلث مال الميت ، ذلك هو المعروف .
وهكذا نص غير واحد من السلف أنها منسوخة بقول : { وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ } الآية .
أقول : على ما ذكر ، تكون الآية محكمة في صدر الإسلام ، منسوخة بعده ، وثمة وجه آخر فيها ، وهو أنها ناسخة لميراث الحليف بتأويل آخر .
وهو ما رواه البخاريّ عن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رضى الله عنهما - قال : { وَلِكُلّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ } وَرَثَةً { وَالّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } كَانَ الْمُهَاجِرُون لَمّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الْمُهَاجِرُي الأَنْصَارِيّ دُونَ ذَوِى رَحِمِهِ لِلأُخُوّةِ الّتِي آخَى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بَيْنَهُمْ ، فَلَمّا نَزَلَتْ : { وَلِكُلّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ } نَسَخَتْ ، ثُمّ قَالَ : { وَالّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } من النّصْرَ وَالرّفَادَةَ وَالنّصِيحَةَ ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَيُوصِى لَهُ .
وقد فهم بعضهم من هذا الأثر أن هذه الآية نسخت الحلف في المستقبل ، وحكم الحلف الماضي أيضاً ، وأنه لا توارث به ، والصحيح ما أسلفناه من ثبوت التوارث بالحلف السابق على نزول الآية في ابتداء الإسلام ، كما حكاه غير واحد من السلف ، وكما قال ابن عباس : كان المهاجري يرث الأنصاري دون ذوي رحمه حتى نسخ ذلك .
وقد حاول الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " الجمع بين الروايات المتقدمة ورواية البخاريّ باحتمال أن يكون النسخ وقع مرتين :
الأولى : حيث كان المعاقد يرث وحده دون العصبة ، فنزلت : { وَلِكُلّ جَعَلْنَا } فصاروا جميعاً يرثون ، ثم نسخ ذلك آية الأحزاب وخص الميراث بالعصبة وبقي للمعاقد النصر والإرفاد ونحوهما ، والله أعلم .
هذا وثمة روايات أخر في سبب نزولها :
منها : ما روى أبو داود وابن أبي حاتم عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ : كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَى أُمّ سَعْدٍ بِنْتِ الرّبِيعِ ، وَكَانَتْ يَتِيمَةً فِي حِجْرِ أَبِي بَكْرٍ الصديق - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ، فَقَرَأْتُ : { وَالّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } فَقَالَتْ : لاَ تَقْرَأْ هكذا وَلَكِنْ : { وَالّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } إِنّمَا نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ عَبْدِ الرّحْمَنِ رضي الله عنهما حِينَ أَبَى الإِسْلاَمَ ، فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَلاّ [ في المطبوع لا ] يُوَرّثَهُ ، فَلَمّا أَسْلَمَ أَمَرَه اللّهُ تَعَالَى أَنْ يُورثهُ نَصِيبَهُ .
ومنها ما روى ابن جرير عن الزهريّ عَن ابْن الْمُسَيّب قَال : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي الّذِينَ كَانُوا يَتَبَنّوْنَ رِجَالاً غَيْر أَبْنَائِهِمْ وَيُوَرّثُونَهُمْ ، فَأَنْزَلَ اللّه فِيهِمْ ، فَجَعَلَ لَهُمْ نَصِيباً فِي الْوَصِيّة ، وَرَدّ الْمِيرَاث إِلَى الْمَوَالِي فِي ذَوِي الرّحِم وَالْعَصَبَة ، وَأَبَى اللّه أن يكون لِلْمُدّعِينَ مِيرَاثاً مِمّنْ اِدّعَاهُمْ وَتَبَنّاهُمْ ، وَلَكِنّ جَعَلَ لَهُمْ نَصِيباً فِي الْوَصِيّة .
واعلم أن هذه الوجوه السلفية المروية في نزول الآية ، كلها مما تصدق عليها الآية وتشملها وينطبق حكمها عليها : ولا تنافي بينها ، لما أسلفناه في مقدمة التفسير ، فراجعها ولا تغفل عنها .
هذا ولأبي عليّ الجبائي تأويل آخر في الآية ، قال : تقدير الآية : ولكن شيء مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم موالي ، ورثة { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أي : فآتوا الموالي والورثة نصيبهم ، فقوله : { وَالّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } معطوف على قوله : { الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } والمعنى : إن ما ترك الذين عاقدت أيمانكم فله وارث هو أولى به ، وسمى الله تعالى الوارث مولى ، والمعنى : لا تدفعوا المال إلى الحليف بل إلى المولى والوارث .
وقال أبو مسلم الأصفهاني : المراد بـ : { وَالّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } الزوج والزوجة ، والنكاح يسمى عقداً ، قال تعالى : { وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النّكَاحِ } [ البقرة : 235 ] ، فذكر تعالى الوالدين والأقربين وذكر معهم الزوج والزوجة ، ونظيره آية المواريث ، في أنه لما بين ميراث الولد والوالدين ، ذكر معهم ميراث الزوج والزوجة .
أقول : هذا التأويل المذكور وما قبله طريقة من لا يقف مع الآثار السلفية في التفسير ، ويرى مزاحمتهم في الاجتهاد في ذلك ، ذهاباً إلى أن ما لم يتواتر في معنى الآية من خبر أو إجماع ، فلا حجة في المروي منه آحاداً ، مرفوعاً أو موقوفاً ، وإن صح ، وهذه الطريقة سبيل طائفة قصّرت في علم السمع وأقلت البحث عنه ، فنشأ من ذلك النقص من الدين والزيادة فيه بالرأي المحض .
ومذهبنا : أن لا غنى عن الرجوع إلى تفسير الصحابة رضي الله عنهم ، لما ثبت من الثناء عليهم في الكتاب والسنة ، ولأن القرآن أنزل على لغتهم ، فالغلط أبعد عنهم من غيرهم ، لا سيما تفسير حبر الأمة وبحرها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، فمتى صح الإسناد إليه كان تفسيره من أصح التفاسير ، مقدماً على كثير من الأئمة الجماهير ، لوجوه متعددة : منها : أنه - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ثبت عنه أنه كان لا يستحل التأويل بالرأي ، روي عنه أنه قال : من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ، وفي رواية ( بغير علم ) رواه أبو داود في العلم ، والنسائي والترمذيّ .
فإذا جزم - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - بأمر كان دليلاً على رفعه ، كما أسلفنا في المقدمة .
{ إِنّ اللّهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ } من الأشياء التي من جملتها الإيتاء والمنع .
{ شَهِيداً } أي : عالماً ، ففيه وعد ووعيد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النّسَاء بِمَا فَضّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنّ فَعِظُوهُنّ وَاهْجُرُوهُنّ فِي المضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنّ سَبِيلاً إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيّا كَبِيراً } [ 34 ]
{ الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النّسَاء } جمع قوام ، وهو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب ، أي : مسلطون على أدب النساء يقومون عليهن ، آمرين ناهين ، قيام الولاة على الرعية ، وذلك لأمرين : وهبيّ وكسبيّ .
أشار للأول بقوله تعالى : { بِمَا فَضّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } والضمير للرجال والنساء جميعاً ، يعني إنما كانوا مسيطرين عليهن بسبب تفضيل الله بعضهم ، وهم الرجال ، على بعض ، وهم النساء ، وقد ذكروا ، في فضل الرجال ، العقل والحزم والعزم والقوة والفروسية والرمي ، وإن منهم الأنبياء وفيهم الإمامة الكبرى والصغرى والجهاد والأذان والخطبة والشهادة في مجامع القضايا والولاية في النكاح والطلاق والرجعة وعدد الأزواج وزيادة السهم والتعصيب ، وهم أصحاب اللحى والعمائم ، والكامل بنفسه له حق الولاية على الناقص .
وأشار للثاني بقوله سبحانه : { وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } في مهورهن ونفقاتهن فصرن كالأرقاء ، ولكون القوامين في معنى السادات وجبت عليهن طاعتهم ، كما يجب على العبيد طاعة السادات .
وروى ابن مردويه عن علي - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : أتى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم رجل من الأنصار بامرأة ، فقالت : يا رسول الله ! إن زوجها فلان بن فلان الأنصاري ، وإنه ضربها فأثر في وجهها ، فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < ليس له ذلك > .
فأنزل الله تعالى : { الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النّسَاء } في الأدب ، فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < أردت أمراً وأراد الله غيره > ، ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم مرسلاً من طرق .
قال السيوطيّ : وشواهده يقوي بعضها بعضاً ، وقال عليّ بن أبي طلحة في هذه الآية عن ابن عباس : يعني أمراء عليهن ، أي : تطيعه فيما أمرها الله به من طاعة ، وطاعته أن تكون محسنة لأهله حافظة لماله .
وروى الترمذيّ عن أبي هريرة أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < لَوْ كُنْتُ آمِراً أَحَداً أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا > .
{ فَالصّالِحَاتُ } أي : من النساء .
{ قَانِتَاتٌ } أي : مطيعات لله في أزواجهن .
{ حَافِظَاتٌ لّلْغَيْبِ } قال الزمخشري : الغيب خلاف الشهادة ، أي : حافظات لمواجب الغيب ، إذا كان الأزواج غير شاهدين لهن ، حفظن ما يجب عليهن حفظه في حال الغيبة ، من الفروج والأموال والبيوت .
{ بِمَا حَفِظَ اللّهُ } أي : بحفظ الله إياهن وعصمتهن بالتوفيق لحفظ الغيب ، فالمحفوظ من حفظه الله ، أي : لا يتيسر لهن حفظ إلا بتوفيق الله ، أو المعنى : بما حفظ الله لهن من إيجاب حقوقهن على الرجال ، أي : عليهن أن يحفظن حقوق الزوج في مقابلة ما حفظ الله حقوقهن على أزواجهن ، حيث أمرهم بالعدل عليهن وإمساكهن بالمعروف وإعطائهن أجورهن ، فقوله : بما حفظ الله ، يجري مجرى ما يقال : هذا بذاك ، أي : في مقابلته .
وجعل المهايمي الباء للاستعانة حيث قال : مستعينات بحفظه مخافة أن يغلب عليهن نفوسهن ، وإن بلغن من الصلاح ما بلغن . انتهى .
وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعاً : < خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك ، وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت حفظتك في نفسها ومالك ، قال : ثم قرأ رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم هذه الآية : { الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النّسَاء } إلى آخرها > .
وروى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم :
< إِذَا صَلّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا : ادْخُلِي الْجَنّةَ مِنْ أي : الأَبْوَابِ شِئْتِ > .
تنبيه :
قال السيوطيّ في " الإكليل " : في قوله تعالى : { الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النّسَاء } : إن الزوج يقوم بتربية زوجته وتأديبها ومنعها من الخروج وإن عليها طاعته إلا في معصية ، وإن ذلك لأجل ما يجب لها عليه من النفقة ، ففهم العلماء من هذا أنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قواماً عليها ، وسقط ما له من منعها من الخروج .
واستدل بذلك من أجاز لها الفسخ حينئذ ، ولأنه إذا خرج من كونه قواماً عليها فقد خرج عن الغرض المقصود بالنكاح .
واستدل بالآية من جعل للزوج الحجر على زوجته في نفسها ومالها ، فلا تتصرف فيه إلا بإذنه ، لأنه جعله ( قواماً ) بصيغة المبالغة ، وهو الناظر في الشيء الحافظ له .
واستدل بها على أن المرأة لا تجوز أن تلي القضاء كالإمامة العظمى ، لأنه جعل الرجال قوامين عليهن ، فلم يجز أن يقمن على الرجال . انتهى .
{ وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنّ } أي : عصيانهن وسوء عشرتهن وترفعهن عن مطاوعتكم ، من ( النشز ) وهو ما ارتفع من الأرض يقال : نشزت المرأة بزوجها وعلى زوجها : استعصت عليه ، وارتفعت عليه وأبغضته ، وخرجت عن طاعته .
{ فَعِظُوهُنّ } أي : خوفوهن بالقول ، كاتقي الله ، واعلمي أن طاعتك لي فرض عليك ، واحذري عقاب الله في عصياني ، وذلك لأن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته ، وحرم عليها معصيته ، لما له عليها من الفضل والإفضال ، وقد قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لَوْ كُنْتُ آمِراً أَحَداً أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا > . رواه الترمذيّ ، عن أبي هريرة والإمام أحمد عن معاذ ، والحاكم عن بريدة .
وروى البخاريّ عن أبي هريرة - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إِذَا دَعَا الرّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ ، فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا ، لَعَنَتْهَا الْمَلاَئِكَةُ حَتّى تُصْبِحَ > ، ورواه مسلم ، ولفظه : < إِذَا بَاتَتْ الْمَرْأَةُ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا ، لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتّى تُصْبِحَ > .
{ وَاهْجُرُوهُنّ } بعد ذلك إن لم ينفع الوعظ والنصيحة .
{ فِي المضَاجِعِ } أي : المراقد فلا تدخلوهن تحت اللحف ولا تباشروهن ، فيكون كناية عن الجماع .
قال حماد بن سلمة البصري : يعني النكاح ، وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : الهجر هو أن لا يجامعها ، ويضاجعها على فراشها ، ويوليها ظهره ، وكذا قال غير واحد .
وزاد آخرون منهم السدي والضحاك وعكرمة وابن عباس ( في رواية ) : ولا يكلمها مع ذلك ولا يحدثها ، وقيل : المضاجع المبايت ، أي : لا تبايتوهن .
وفي السنن والمسند عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال : يا رسول الله : ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال : أن تطعمها إذا طمعتَ ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تقبح ، ولا تهجر إلا في البيت .
{ وَاضْرِبُوهُنّ } إن لم ينجع ما فعلتم من العظمة والهجران ، ضرباً غير مبرح أي : شديد ولا شاق ، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال في حجة الوداع : < واتقوا الله في النساء ، فإنهن عوانٍ عندكم ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَداً تَكْرَهُونَهُ . فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرّحٍ > .
قال الفقهاء : هو أن لا يجرحها ، ولا يكسر لها عظماً ، ولا يؤثر شيناً ، ويجتنب الوجه لأنه مجمع المحاسن ، ويكون مفرّقاً على بدنها ، ولا يوالي به في موضع واحد لئلا يعظم ضرره ، ومنهم من قال : ينبغي أن يكون الضرب بمنديل ملفوف ، أو بيده ! لا بسوط ولا عصا ، قال عطاء : ضرب بالسواك .
قال الرازي : وبالجملة ، فالتخفيف مراعى في هذا الباب على أبلغ الوجوه ، والذي يدل عليه أنه تعالى ابتدأ بالوعظ ، ثم ترقى منه إلى الهجران في المضاجع ، ثم ترقى منه إلى الضرب ، وذلك تنبيه يجري مجرى التصريح في أنه مهما حصل الغرض بالطريق الأخف ، وجب الاكتفاء به ، ولم يجز الإقدام على الطريق الأشق ، وهذه طريقة من قال : حكم هذه الآية مشروع على الترتيب ، فإن ظاهر اللفظ ، وإن دل على الجمع ، إلا أن فحوى الآية يدل على الترتيب .
قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : يهجرها في المضجع ، فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضرباً غير مبرح ، ولا تكسر لها عظماً ، فإن أقبلت وإلا فقد أحل الله لك منها الفدية .
وقال آخرون : هذا الترتيب مراعى عند خوف النشوز ، أما عند تحققه فلا بأس بالجمع بين الكل .
وعن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < علقوا السوط حيث يراه أهل البيت ، فإنه أدب لهم > . رواه عبد بن حميد والطبراني عن ابن عباس ، وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر .
{ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنّ سَبِيلاً } أي : إذا رجعن عن النشوز عند هذا التأديب إلى الطاعة في جميع ما يراد منهن مما أباحه الله منهن ، فلا سبيل للرجال عليهن بعد ذلك بالتوبيخ والأذية بالضرب والهجران .
{ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيّا كَبِيراً } فاحذروه ، تهديد للأزواج على ظلم النسوان من غير سبب ، فإنهن ، وإن ضعفن عن دفع ظلمكم ، وعجزن عن الانتصاف منكم ، فالله سبحانه عليّ قاهر كبير قادر ، ينتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن ، فلا تغتروا بكونكم أعلى يداً منهم وأكبر درجة منهن ، فإن الله أعلى منكم وأقدر منكم عليهن ، فَخَتْمُ الآية بهذين الاسمين ، فيه تمام المناسبة ، ولما ذكر تعالى حكم النفور والنشوز من الزوجة ، ذكر ما إذا كان النفور من الزوجين بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً } [ 35 ]
{ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } أصله شقاقاً بينهما فأضيف الشقاق إلى الظرف ، إما على إجرائه مجرى المفعول به اتساعاً ، كقوله : { بَلْ مَكْرُ اللّيْلِ وَالنّهَارِ } [ سبأ : 33 ] ، أصله بل مكر في الليل والنهار ، أو مجرى الفاعل بجعل البين مشاقاً والليل والنهار ماكرين ، كما في قولك : نهارك صائم ، والضمير للزوجين ، ولم يجر ذكرهما لجري ما يدل عليهما ، وهو الرجال والنساء ، أي : إن علمتم مخالفة مفرقة بينهما ، واشتبه عليكم أنه من جهته أو من جهتها ، ولا يفعل الزوج الصالح ولا الصفح ولا الفرقة ، ولا تؤدي المرأة الحق ولا الفدية .
{ فَابْعَثُواْ } أي : إلى الزوجين لإصلاح ذات البين وتبيّن الأمر .
{ حَكَماً } رجلاً صالحاً للحكومة ، والإصلاح ومنع الظالم من الظلم .
{ مّنْ أَهْلِهِ } أي : أقارب الزوج : { وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا } على صفة الأول ، فإن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال ، وأطلب للإصلاح ، فيلزمها أن يَخْلُوا ويستكشفا حقيقة الحال فيعرفا أن رغبتهما في الإقامة أو الفرقة .
{ إِن يُرِيدَا } أي : الحكمان .
{ إِصْلاَحاً يُوَفّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا } أي : يوقع بينهما الموافقة فيتفقان على الكلمة الواحدة ويتساندان في طلب الوفاق حتى يحصل الغرض ويتم المراد ، أو الضمير الأول للحكمين ، والثاني للزوجين ، أي : إن قصدا إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة وقلوبهما ناصحة لوجه الله ، بورك في وساطتهما ، وأوقع الله بحسن سعيهما بين الزوجين الوفاق والألفة ، وألقى في نفوسهما المودة والرحمة .
{ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً } بظواهر الحكمين وبواطنهما ، إن قصدا إفساداً يجازيهما عليه ، وإلا يجازيهما على الإصلاح ، روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : أمر الله عز وجل أَنْ يَبْعَثُوا رَجُلاً صَالِحاً مِنْ أَهْل الرّجُل ، وَمِثْله مِنْ أَهْل الْمَرْأَة ، فَيَنْظُرَانِ أَيّهمَا الْمُسِيء ، فَإِنْ كَانَ الرّجُل هُوَ الْمُسِيء حَجَبُوا عَنْهُ اِمْرَأَته وَقَصَرُوهُ عَلَى النّفَقَة ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَة هِيَ الْمُسِيئَة قَصَرُوهَا عَلَى زَوْجهَا ، وَمَنَعُوهَا النّفَقَة . فَإِنْ اِجْتَمَعَ رَأْيهمَا عَلَى أَنْ يُفَرّقَا أَوْ يُجَمّعَا ، فَأَمْرهمَا جَائِز . فَإِنْ رَأَيَا أَنْ يُجَمّعَا فَرَضِيَ أَحَد الزّوْجَيْنِ وَكَرِهَ الْآخَر ثُمّ مَاتَ أَحَدهمَا ، فَإِنّ الّذِي رَضِيَ يَرِث الّذِي لمْ يرض ، وَلَا يَرِث الْكَارِه الرّاضِيَ .
وروى عبد الرزاق في مصنفه عَنْ اِبْن عَبّاس قَالَ : بَعَثْت أَنَا وَمُعَاوِيَة حَكَمَيْنِ ، قَالَ مَعْمَر : بَلَغَنِي أَنّ عُثْمَان بَعَثَهُمَا وَقَالَ لَهُمَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا جَمَعْتُمَا ، وَإِنْ رَأَيْتُمَها أَنْ تُفَرّقَا فَفَرّقَا .
( وأسند ) عن اِبْن أَبِي مُلَيْكَة أَنّ عَقِيل بْن أَبِي طَالِب تَزَوّجَ فَاطِمَة بِنْت عُتْبَة بْن رَبِيعَة فَقَالَتْ : تَصِير إِلَيّ وَأُنْفِق عَلَيْك ، فَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا ، قَالَتْ : أَيْنَ عُتْبَة بْن رَبِيعَة وَشَيْبَة بْن رَبِيعَة ، فَقَالَ : عَلَى يَسَارك فِي النّار إِذَا دَخَلْت .
فَشَدّتْ عَلَيْهَا ثِيَابهَا ، فَجَاءَتْ عُثْمَان فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ فَضَحِكَ ، فَأَرْسَلَ اِبْن عَبّاس وَمُعَاوِيَة ، فَقَالَ اِبْن عَبّاس : لَأُفَرّقَن بَيْنهمَا ، فَقَالَ مُعَاوِيَة : مَا كُنْت لِأُفَرّق بَيْن شَخْصَيْنِ مِنْ بَنِي عَبْد مَنَاف ، فَأَتَيَاهُمَا فَوَجَدَاهُمَا قَدْ أَغْلَقَا عَلَيْهِمَا أَبْوَابهمَا ، فَرَجَعَا .
( وأسند ) عَنْ عُبَيْدَة قَالَ شَهِدْت عَلِيّا وَجَاءَتْهُ اِمْرَأَة وَزَوْجهَا مَعَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا فِئَام مِنْ النّاس ، فَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ حَكَماً ، وَهَؤُلَاءِ حَكَماً ، فَقَالَ عليّ لِلْحَكَمَيْنِ : أَتَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا ؟ إِنّ عَلَيْكُمَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا جَمَعْتُمَا .
فَقَالَتْ الْمَرْأَة : رَضِيت بِكِتَابِ اللّه لِي وَعليّ ، وَقَالَ الزّوْج : أَمّا الْفُرْقَة فَلَا .
فَقَالَ عليّ : كَذَبْت وَاَللّه ! لَا تَبْرَح حَتّى تَرْضَى بِكِتَابِ اللّه عَزّ وَجَلّ لَك وَعَلَيْك . ورَوَاهُ اِبْن أَبِي حَاتِم واِبْن جَرِير .
قال الحافظ ابن كثير وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنّ الْحَكَمَيْنِ لَهُمَا الْجَمْع وَالتّفْرِقَة حَتّى قَالَ إِبْرَاهِيم النّخَعِيّ : إِنْ شَاءَ الْحَكَمَانِ أَنْ يُفَرّقَا بَيْنهمَا بِطَلْقَةٍ أَوْ بِطَلْقَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثاً فَعَلَا ، وَهُوَ رِوَايَة عَنْ مَالِك .
وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ : الْحَكَمَانِ يَحْكُمَانِ فِي الْجَمْع لَا فِي التّفْرِقَة ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَة وَزَيْد بْن أَسْلَم ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد ، وَمَأْخَذهمْ قَوْله تَعَالَى : { إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفّق اللّه بَيْنهمَا } وَلَمْ يَذْكُر التّفْرِيق ، وَأَمّا إِذَا كَانَا وَكِيلَيْنِ مِنْ جِهَة الزوجين فإنه ينفذ حكمهما في الجمع والتفرقة بلا خلاف . انتهى .
وفي " الإكليل " : أخرج ابن منصور أن المأمور بالبعث الحكام .
وعن السدي : إنه الزوجان ، فعلى الأول استدل به من قال : إنهما مولّيان من الحاكم ، فلا يشترط رضا الزوجين عما يفعلانه من طلاق وغيره ، وعلى الثاني : استدل من قال : إنهما وكيلان من الزوجين ، فيشترط .
وقال ابن كثير : وَالْجُمْهُور عَلَى الْأَوّل - أعني أنهما منصوبان مِنْ جِهَة الْحَاكِم - لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَابْعَثُوا حَكَماً } الخ . فَسَمّاهُمَا حَكَمَيْنِ ، وَمِنْ شَأْن الْحَكَم أَنْ يَحْكُم بِغَيْرِ رِضَا الْمَحْكُوم عَلَيْهِ وَهَذَا ظَاهِر الْآيَة .
وَذْهَب الشافعيّ وَأَبو حَنِيفَة إلى الثّانِي ، لقَوْل عَلِيّ - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - لِلزّوْجِ ( حِين قَالَ : أَمّا الْفُرْقَة فَلَا ) فَقَالَ : كَذَبْت ، حَتّى تُقِرّ بِمَا أَقَرّتْ بِهِ .
قَالُوا : فَلَوْ كَانَا حَكَمَيْنِ لَمَا اِفْتَقَرَ إِلَى إِقْرَار الزّوْج وَاَللّه أَعْلَم .
وفي الآية تنبيه على أن من أصلح نيته فيما يتوخاه ، وفقه الله تعالى لمبتغاه .
تنبيه :
قال الحاكم : في الآية دلالة على أن كل من خاف فرقة وفتنة جاز له بعث الحكمين ، وقد استدل بها أمير المؤمنين على الخوارج فيما فعل من التحكيم ، قال مشايخ المعتزلة : لأن المصاحف لما رفعت ، فظهرت الفرقة في عسكره ، وخاف على نفسه ، جازت المحاكمة ، بل وجبت ، ولهذا صالح صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يوم الحديبية ، وعلى هذا يحمل صلح الحسن عليه السلام .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } [ 36 ]
{ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } يأمر تعالى بعبادته وحده وبالإخلاص فيها بقوله : { وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } كما قال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ } [ البينة : 5 ] ، لأنه تعالى هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الأوقات والحالات ، فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً من الشرك ، الجليّ والخفيّ ، للنفس وشهواتها ، وما يتوصل بها إليها من المال والجاه ، وهذه العبادة حق الله علينا .
كما في الصحيحين عن معاذ بن جبل أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قَالَ له : < يَا مُعَاذُ ، هَلْ تَدْرِي ما حَقّ اللّهِ عَلَى العِبَادِ ، وَمَا حَقّ الْعِبَادِ عَلَى اللّهِ ؟ > .
قُلْتُ : اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .
قَالَ : < حَقّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِه شَيْئاً ، وَحَقّ الْعِبَادِ عَلَى اللّهِ أَنْ لاَ يُعَذّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً > .
ثم أوصى سبحانه بالإحسان إلى الوالدين ، إثر تصدير ما يتعلق بحقوق الله عز وجل التي هي آكد الحقوق وأعظمها ، تنبيهاً على جلالة شأن الوالدين بنظمها في سلكها بقوله : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } وقد كثرت مواقع هذا النظم في التنزيل العزيز كقوله : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } [ لقمان : 14 ] ، { وَقَضَى رَبّكَ أَلّا تَعْبُدُوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] ، أي : أحسنوا بهما إحساناً يفي بحق تربيتهما ، فإن شكرهما يدعو إلى شكر الله المقرب إليه ، مع ما فيه من صلة أقرب الأقارب الموجب لوصلة الله ، وقطعها لقطعه ، ثم عطف ، على الإحسان إليهما ، الإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء ، بقوله :
{ وَبِذِي الْقُرْبَى } أي : الأقارب ، وقد جاء في الحديث الصحيح ، عن سلمان بن عامر قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < الصدقة على المسكين صدقة ، وهي على ذي الرحم اثنتان : صلة وصدقة > ، رواه الإمام أحمد والترمذيّ والنسائي والحاكم وابن ماجة .
ثم قال تعالى : { وَالْيَتَامَى } وذلك لأنهم فقدوا من يقوم بمصالحهم ومن ينفق عليهم فأمر الله بالإحسان إليهم والحنوّ عليهم ، تنزلاً لرحمته عز وجل .
{ وَالمسَاكِينِ } وهم المحاويج الذين لا يجدون ما يقوم بكفايتهم ، فأمر الله سبحانه بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم ، وتزول به ضرورتهم .
{ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى } أي : الذي قرب جوارهم ، أو الذي له مع الجوار قرب واتصال بنسب أو دين .
{ وَالْجَارِ الْجُنُبِ } أي : الذي جواره بعيد ، أو الأجنبي ، وقال نوف البكاليّ : الجار ذي القربى ، يعني الجار المسلم ، والجار الجنب : يعني اليهودي والنصراني .
وقد ورد في الوصية بالجار أحاديث كثيرة ، منها قوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < مَازَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِى بِالْجَارِ حَتّى ظَنَنْتُ أَنّهُ سَيُوَرّثُهُ > ، أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر .
ومنها ما رواه الإمام أحمد والترمذيّ عن عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو بن العاص عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ > .
وروى الإمام أحمد عن عمر قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لَا يَشْبَع الرّجُل دُون جَاره > .
قال ابن كثير : تَفَرّدَ بِهِ أَحْمَد .
وَعنْ الْمِقْدَاد بْن الْأَسْوَد قَالَ : قَالَ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لِأَصْحَابِهِ : < مَا تَقُولُونَ فِي الزّنَا ؟ > قَالُوا : حَرّمَهُ اللّه وَرَسُوله ، فَهُوَ حَرَام إِلَى يَوْم الْقِيَامَة .
قَال : فَقَالَ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لِأَصْحَابِهِ : < لَأَنْ يَزْنِي الرّجُل بِعَشْرَةِ نِسْوَة أَيْسَر عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِي بامرأة جَار > .
قَالَ : فَقَالَ : < مَا تَقُولُونَ فِي السّرِقَة ؟ > ، قَالُوا حَرّمَهَا اللّه وَرَسُوله ، فَهِيَ حَرَام .
قَالَ : < لَأَنْ يَسْرِق الرّجُل مِنْ عَشَرَة أَبْيَات أَيْسَر عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِق مِنْ جَاره > .
قَالَ ابن كثير : تَفَرّدَ بِهِ أَحْمَد ، وَلَهُ شَاهِد فِي الصّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث اِبْن مَسْعُود : قَالَ : سَأَلْتُ ( أو سأل ) رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عليّه وسلّم : أي : الذّنْبِ عِنْدَ اللّهِ أكبر ؟ قَالَ : < أَنْ
تَجْعَلَ لِلّهِ نِدّا وَهُوَ خَلَقَكَ > .
قُلْتُ : ثُمّ أي : ؟ قَالَ : < ثُمّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خشية أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ > .
قُلْتُ : ثُمّ أي : ؟ قَالَ : < أَنْ تُزَانِيَ بحَلِيلَةَ جَارِكَ > .
وروى الْإِمَام أَحْمَد عَنْ أَبِي الْعَالِيَة عَنْ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار قَالَ : خَرَجْتُ مِنْ أَهْلِي أُرِيدُ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فَإِذَا أَنَا بِهِ قَائِمٌ ، وَرَجُلٌ مَعَهُ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ ، فَظَنَنْتُ أَنّ لَهُمَا حَاجَةً .
قَالَ : فَقَالَ الأَنْصَارِيّ : وَاللّهِ لَقَدْ قَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم حَتّى جَعَلْتُ أَرْثِي لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مِنْ طُولِ الْقِيَامِ ، فَلَمّا انْصَرَفَ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللّهِ ! لَقَدْ قَامَ بِكَ الرّجُلُ حَتّى جَعَلْتُ أَرْثِي لَكَ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ .
قَالَ : < وَلَقَدْ رَأَيْتَهُ ؟ > . قُلْتُ : نَعَمْ .
قَالَ : < أَتَدْرِي مَنْ هُوَ ؟ > . قُلْتُ : لاَ .
قَالَ : < ذَاكَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلاَمُ ، مَا زَالَ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتّى ظَنَنْتُ أَنّهُ سَيُوَرّثُهُ > . ثُمّ قَالَ : < أَمَا إِنّكَ لَوْ سَلّمْتَ عَلَيْهِ رَدّ عَلَيْكَ السّلاَمَ > .
ورواه عَبْد بْن حُمَيْد عَنْ جَابِر بْن [ في المطبوع عن ] عَبْد اللّه قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْعَوَالِي وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وَجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَام يُصَلّيَانِ حَيْثُ يُصَلّى عَلَى الْجَنَائِزِ ، فَلَمّا انْصَرَفَ ، قَالَ الرّجُلُ : يَا رَسُولَ اللّهِ مَنْ هَذَا الرّجُل الّذِي رَأَيْت يُصَلّي مَعَك ؟
قَالَ : < وَقَدْ رَأَيْتَهُ ؟ > قَالَ : نَعَمْ قَالَ : < لَقَدْ رَأَيْتَ خَيْراً كَثِيراً ، هَذَا جِبْرِيلُ مَا زَالَ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتّى رَأَيْتُ أَنّهُ سَيُوَرّثُهُ > .
قال ابن كثير : تَفَرّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْه وَهُوَ شَاهِد لِلّذِي قَبْله .
وروى الْبَزّار عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللّه قَالَ : قَالَ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < الْجِيرَان ثَلَاثَة :
جَار لَهُ حَقّ وَاحِد ، وَهُوَ أَدْنَى الْجِيرَان حَقّا ، وَجَار لَهُ حَقّانِ ، وَجَار لَهُ ثَلَاثَة حُقُوق وَهُوَ أَفْضَل الْجِيرَان حَقّا .
فَأَمّا الْجَار الّذِي لَهُ حَقّ وَاحِد : فَجَار مُشْرِك لَا رَحِم لَهُ ، لَهُ حَقّ [ الجِوَارِ ] .
وَأَمّا الْجَار الّذِي لَهُ حَقّانِ : فَجَار مُسْلِم لَهُ حَقّ الْإِسْلَام وَحَقّ الْجِوَار .
وَأَمّا الّذِي لَهُ ثَلَاثَة حُقُوق : فَجَار مُسْلِم ذُو رَحِم لَهُ حَقّ الْجِوَار وَحَقّ الْإِسْلَام وَحَقّ الرّحِم > .
وَقد رَوَى الْإِمَام أَحْمَد والبخاريّ عَنْ عَائِشَة أَنّهَا سَأَلَتْ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فَقَالَتْ : إِنّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيّهمَا أُهْدِي ؟ قَالَ : < إِلَى أَقْرَبهَما مِنْك بَاباً > .
وروى الإمام مسلم عن أبي ذر قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < يَا أَبَا ذَرّ ! إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً ، فَأَكْثِرْ مَاءَهَا ، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ > .
وفي رواية قال : < إِذَا طَبَخْتَ مَرَقاً فَأَكْثِرْ مَاءَهُا ، ثُمّ انْظُرْ إلى أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِكَ ، فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ > .
وروى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قَالَ : < وَاللّهِ لاَ يُؤْمِنُ ، وَاللّهِ لاَ يُؤْمِنُ ، وَاللّهِ لاَ يُؤْمِنُ > .
قِيلَ : وَمَنْ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ : < الّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائقَهُ > .
ولمسلم : < لَا يَدْخُلُ الْجَنّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ > .
والبوائق : الغوائل والشرور .
ورويا عنه قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ ، لاَ تَحْقِرَنّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا ، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ > .
معناه : ولو أن تهدي لها فرسن شاة ، وهو الظلف المحرق ، وأراد به الشيء الحقير .
ورويا عنه أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ > .
وقوله تعالى : { وَالصّاحِبِ بِالجَنبِ } قال سعيد بن جبير : هو الرفيق الصالح .
وقال زيد بن أسلم : هو جليسك في الحضر ورفيقك في السفر ، أي : فإنه كالجار .
وأوضحه الزمخشري بقوله : هو الذي صحبك بأن حصل بجنبك ، إما رفيقاً في سفر وإما جاراً ملاصقاً ، وإما شريكاً في تعلم علم أو حرفة ، وإما قاعداً إلى جنبك في مجلس أو مسجد أو غير ذلك ، من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه ، فعليك أن تراعي ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الإحسان .
وروي عَنْ عليّ وَابْن مَسْعُود قَالَا : هِيَ الْمَرْأَة ، أي : لأنها تكون معك وتضجع إلى جنبك .
{ وَابْنِ السّبِيلِ } أي : ابن الطريق ، أي : المسافر الغريب الذي انقطع عن بلده وأهله ، وهو يريد الرجوع إلى بلده ولا يجد ما يتبلغ به ، نُسِبَ إلى السبيل الذي هو الطريق لمروره عليه وملابسته له ، أو الذي يريد البلد غير بلده ، لأمر يلزمه .
وقال ابن عرفة : هو الضيف المنقطع به ، يعطى قدر ما يتبلغ به إلى وطنه .
وقال ابن بري : هو الذي أتى به الطريق ، كذا في " تاج العروس " ، ولم يذكر السلف من المفسرين وأهل اللغة ( السائل ) في معنى ابن السبيل ، لأنه جاء تابعاً لابن السبيل في البقرة ، في قوله تعالى : { لّيْسَ الْبِرّ } - إلى قوله : { وَابْنَ السّبِيلِ وَالسّآئِلِينَ } .
قال بعضهم في ( ابن السبيل ) :
~ومنسوب إلى ما لم يلده كذاك الله نَزّلَ في الكتاب
{ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } يعني المماليك ، فإنهم ضعفاء الحيلة ، أسرى في أيدي الناس كالمساكين ، لا يملكون شيئاً ، وقد ثبت عن عليّ عليه السلام ، أَنّ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم جَعَلَ يُوصِي أُمّته فِي مَرَض الْمَوْت يَقُول : < الصّلَاة الصّلَاة ، اتقوا الله فيَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ > . رواه أبو داود وابن ماجة وهذا لفظ أبي داود .
وروى الْإِمَام أَحْمَد عَنْ الْمِقْدَام بْن مَعْدِ يكَرِبَ قَالَ : قَالَ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < مَا أَطْعَمْت نَفْسك فَهُوَ لَك صَدَقَة ، وَمَا أَطْعَمْت وَلَدك فَهُوَ لَك صَدَقَة ، وَمَا أَطْعَمْت زَوْجك فَهُوَ لَك صَدَقَة ، وَمَا أَطْعَمْت خَادِمك فَهُوَ لَك صَدَقَهُ > . وَرَوَاهُ النّسَائِيّ .
قال الحافظ ابن كثير : وَإِسْنَاده صَحِيح وَلِلّهِ الْحَمْد .
وَعَنْ عَبْد اللّه بْن عَمْرو أَنّهُ قَالَ لِقَهْرَمَانٍ لَهُ : هَلْ أَعْطَيْت الرّقِيق قُوتهمْ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : فَانْطَلِقْ فَأَعْطِهِمْ ، فَإِنّ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قَالَ : < كَفَى بالْمَرْء إِثْماً أَنْ يَحْبِس عَمّنْ يَمْلِك قُوتهمْ > . رَوَاهُ مُسْلِم .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قَالَ : < لِلْمَمْلُوكِ طَعَامه وَكِسْوَته ، وَلَا يُكَلّف مِنْ الْعَمَل إِلّا مَا يُطِيق > . رَوَاهُ مُسْلِم أَيْضاً .
وعَنْه أَيْضاً عَنْ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قَالَ : < إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ [ خَادِمُهُ ] بِطَعَامِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيُنَاوِلْهُ أُكْلَةً [ أَوْ أُكْلَتَيْنِ ] ، أَوْ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ ، فَإِنّهُ وَلِيَ حَرّهُ وَعِلاَجَهُ > . أَخْرَجَاهُ وَلَفْظه لِلْبُخَارِيّ .
وَعَنْ أَبِي ذَرّ - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - عَنْ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قَالَ : < هُمْ إِخْوَانكُمْ خَوَلكُمْ ، جَعَلَهُمْ اللّه تَحْت أَيْدِيكُمْ ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْت يَده فَلْيُطْعِمْهُ مِمّا يَأْكُل ، وَليُلْبِسهُ مِمّا يَلْبَس ، وَلَا تُكَلّفُوهُمْ مَا يَغْلِبهُمْ ، فَإِنْ كَلّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ > . أَخْرَجَاهُ .
{ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ مُخْتَالاً } أي : متكبراً عن الإحسان إلى من أُمِرَ ببره .
{ فَخُوراً } يعدّد مناقبه كبراً ، وإنما خص تعالى هذين الوصفين بالذم ، في هذا الموضع ، لأن المختال هو المتكبر ، وكل من كان متكبراً فإنه قلما يقوم برعاية الحقوق ، ثم أضاف إليه ذم الفخور لئلا يقدم على رعاية هذه الحقوق لأجل الرياء والسمعة ، بل لمحض أمر الله تعالى .
روى أبو داود والحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < الكبر من بطر الحق وغمط الناس > .
وروى اِبْن جَرِير عَنْ أَبِي رَجَاء الْهَرَوِيّ قَالَ : لَا تَجِد سَيّئ الْمَلَكَة ( المِلْكة ) إِلّا وَجَدْته مُخْتَالاً فَخُوراً ، وَتَلَا : { وَمَا مَلَكَت أَيْمَانكُمْ } الْآيَة ، وَلَا عَاقّا إِلّا وَجَدْته جَبّاراً شَقِيّا وَتَلَا : { وَبَرّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلنِي جَبّاراً شَقِيّا } [ مريم : 32 ] ، وقد ورد في ذم الخيلاء والفخر ما هو معروف .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً } [ 37 ]
{ الّذِينَ يَبْخَلُونَ } أي : بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به فيما تقدم .
{ وَيَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ } أي : ولا يكونون سبب الإحسان ، بل يبخلون بذات أيديهم وبما في أيدي غيرهم .
فيأمرونهم بأن يبخلوا به مقتاً للسخاء ممن وجد ، وفي أمثال العرب : أبخل من الضنين بنائل غيره ، قال :
~وإن امرءاً ضنت يداه على امرئ بنيل يدٍ من غيره ، لبخيل
قال الزمخشري بعد حكاية ما تقدم : ولقد رأينا ممن بلي بداء البخل ، مَن إذا طرق سمعه أن أحداً جاد على أحد ، شخص به ، وحل حبوته واضطرب ، ودارت عيناه في رأسه ، كأنما نهب رحله ، وكسرت خزانته ، ضجراً من ذلك وحسرة على وجوده . انتهى .
{ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ } أي : من المال والغنى ، فيوهمون الفقر مع الغنى والإعسار مع اليسار والعجز مع الإمكان .
{ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً } وضع الظاهر موضع المضمر إشعاراً بأن مَن هذا شأنه فهو كافر بنعمة الله تعالى ، ومن كان كافراً بنعمة الله تعالى فله عذاب يهينه ، كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء .
فائدة :
قال أبو البقاء : في قوله تعالى : { الّذِينَ يَبْخَلُونَ } وجهان :
أحدهما : هو منصوب بدل من : { مَنْ } في قوله : { مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } وجمع على معنى : { مَن } ويجوز أن يكون محمولاً على قوله : { مُخْتَالاً فَخُوراً } وهو خبر : { كَانَ } وجمع على المعنى أيضاً ، أو على إضمار : أذم .
والثاني : أن يكون مبتدأ والخبر محذوف تقديره : مبغضون ، ودل عليه ما تقدم من قوله : { لاَ يُحِبّ } ويجوز أن يكون الخبر : معذبون ، لقوله : { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً } ويجوز أن يكون التقدير : هم الذين ، ويجوز أن يكون مبتدأ : { وَالّذِينَ يُنفِقُونَ } معطوف عليه ، والخبر : { إِنّ اللّهَ لاَ يَظْلم } أي : يظلمهم .
ثم قال : والبُخْل والبَخَل لغتان : وقد قرئ بهما ، وفيه لغتان أُخريان البُخُل - بضم الخاء والباء - والبَْخل - بفتح وسكون الخاء - . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً } [ 38 ]
{ وَالّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النّاسِ } أي : قصد رؤية الخلق إياه ، غفلة عن الخالق تقدس ، وعمايةً عنه ، ليقال : ما أسخاهم وما أجودهم .
{ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } أي : الذي يتقرب إليه وحده ويتحرى بالاتفاق رضاه .
{ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ } الذي هو يوم الجزاء .
{ وَمَن يَكُنِ الشّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً } معيناً في الدنيا : { فَسَاء قِرِيناً } فبئس القرين والصاحب الشيطان ، لأنه يضله عن الهدى ويحجبه عن الحق ، وإنما اتصل الكلام هنا بذكر الشيطان ، تقريعاً لهم على طاعته .
والمعنى : من يكن عمله بما سول له الشيطان فبئس العمل عمله ، ويجوز أن يكون وعيداً لهم بأن الشيطان يقرن بهم في النار .
لطيفة :
قوله تعالى : { وَالّذِينَ } عطف على : { الّذِينَ يَبْخَلُونَ } أو : { عَلَى الْكَافِرِينَ } وإنما شاركوهم في الذم والوعيد لأن البخل كالإنفاق رياء ، سواء في القبح واستتباع اللائمة والذم ويجوز أن يكون العطف بناء على إجراء التغاير الوصفي مجرى التغاير الذاتي ، كما في قوله :
~إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
أو مبتدأ خبره محذوف ، يدل عليه قوله تعالى : { وَمَن يَكُنِ } الخ أي : فقرينهم الشيطان ، وإنما حذف للإيذان بظهوره واستغنائه عن التصريح به ، أو التقدير : فلا يقبل إحسانهم لأن رياءهم يدل على تفضيلهم الخلق على الله ، ورؤيتهم على ثوابه .
وقد روى مسلم عن أبي هريرة - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : سمعت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقول : قال الله تبارك وتعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه .
وروى ابن أبي حاتم ، في سبب نزول الآية ، عن سعيد بن جبير قال : كان علماء بني إسرائيل يبخلون بما عندهم من العلم ، فأنزل الله : { الّذِينَ يَبْخَلُونَ } الآية .
وأخرج ابن جرير من طريق ابن إسحاق عن ابن عباس ، أن رجالاً من اليهود كانوا يأتون رجالاً من الأنصار ينتصحون لهم ، فيقولون : لا تنفقوا أموالكم ، فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ، ولا تسارعوا في النفقة ، فإنكم لا تدرون ما يكون ، فانزل الله فيهم : { الّذِينَ يَبْخَلُونَ } الآية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيماً } [ 39 ]
{ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ } أي : فلم يرجحوا الخلق عليه .
{ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } بالبعث والجزاء فلم يرجحوا تعظيمهم وحطامهم على ثوابه .
{ وَأَنفَقُواْ مِمّا رَزَقَهُمُ اللّهُ } أعطاهم الله من المال ، أي : طلباً لرضاه وأجر آخرته .
قال العلامة أبو السعود : وإنما لم يصرح به تعويلاً على التفصيل السابق ، واكتفاءً بذكر الإيمان بالله واليوم الآخر ، فإنه يقتضي أن يكون الإنفاق لابتغاء وجهه تعالى وطلب ثوابه البتة ، أي : وما الذي عليهم ، أو : وأي تبعة ووبال عليهم في الإيمان بالله والإنفاق في سبيله ؟ وهو توبيخ لهم على الجهل بمكان المنفعة ، والاعتقاد في الشيء بخلاف ما هو عليه ، وتحريض على التكفير لطلب الجواب ، لعله يؤدي بهم إلى العلم بما فيه من الفوائد الجليلة والعوائد الجميلة ، وتنبيه على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه يجيب إليه احتياطاً ، فكيف إذا كان فيه منافع لا تحصى ، وتقديم الإيمان بهما ، لأهميته في نفسه ، ولعدم الاعتداد بالإنفاق بدونه ، وأما تقديم ( إنفاقهم رئاء الناس ) على عدم إيمانهم بهما ، مع كون المؤخر أقبح من المقدم ، فلرعاية المناسبة بين إنفاقهم ذلك وبين ما قبله من بخلهم وأمرهم للناس به . انتهى .
{ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيماً } وعيد لهم بالعقاب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّ اللّهَ لاَ يَظْلم مِثْقَالَ ذَرّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } [ 40 ]
{ إِنّ اللّهَ لاَ يَظْلم مِثْقَالَ ذَرّةٍ } أي : لا يبخس أحداً من ثواب عمله ولا يزيد في عقابه شيئاً مقدار ذرة ، وهي النملة الصغيرة ، في قول أهل اللغة .
قال ثعلب : مائة من الذر زنة حبة شعير ، وهذا مثل ضربه الله تعالى لأقل الأشياء ، والمعنى : إن الله تعالى لا يظلم أحداً شيئاً ، قليلاً ولا كثيراً ، فخرج الكلام على أصغر شيء يعرفه الناس .
{ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } أي : وإن تك مثقال ذرة حسنة يضاعف ثوابها ، وإنما أنث ضمير المثقال لتأنيث الخير ، أو لإضافته إلى الذرة .
{ وَيُؤْتِ } أي : زيادة على الإضعاف .
{ مِن لّدُنْهُ } مما يناسب عظمته على نهج التفضل .
{ أَجْراً عَظِيماً } أي : عطاء جزيلاً ، وقد ورد في معنى هذه الآية أحاديث كثيرة ، منها ما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في حديث الشفاعة الطويل : وفيه : فيقول الله عز وجل : ارجعوا ، فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه من النار ، وفي لفظ : أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان ، فأخرجوه من النار ، فيخرجون خلقاً كثيراً ، ثم يقول أبو سعيد : اقرؤوا إن شئتم : { إِنّ اللّهَ لاَ يَظْلم مِثْقَالَ ذَرّةٍ } .
وقد روى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال : فأما المشرك فيخفف عنه العذاب يوم القيامة ، أي : بحسنته ، ولا يخرج من النار أبداً .
قال الحافظ ابن كثير : وقد يستدل له بالحديث الصحيح إن العباس قال : يا رسول الله ! هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك ؟ قال : < نعم ، هو في ضحضاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدّركِ الأسفل من النار > .
وقد يكون هذا خاصاً بأبي طالب من دون الكفار ، بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن أنس أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إن الله عز وجل لا يظلم المؤمن حسنة ، يثاب عليها الرزق في الدنيا ، ويجزي بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة > . انتهى .
ورواه مسلم أيضاً عن أنس أيضاً مرفوعاً ، ولفظه : < إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة ، يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا ، حتى إذا أفضى إلى الآخرة ، لم يكن له حسنة يجزى بها > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً } [ 41 ]
{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً } قال الرازي : وجه النظم هو أنه تعالى بيّن أن في الآخرة لا يجزي على أحد ظلم ، وأنه تعالى يجازي المحسن على إحسانه ويزيده على قدر حقه ، فبيّن تعالى في هذه الآية أن ذلك يجزي بشهادة الرسل الذين جعلهم الله الحجة على الخلق لتكون الحجة على المسيء أبلغ ، والتبكيت له أعظم ، وحسرته أشد ، ويكون سرور من قبل ذلك من الرسول وأظهر الطاعة أعظم ، ويكون هذا وعيداً للكفار الذين قال الله فيهم : { إِنّ اللّهَ لا يَظْلم مِثْقَالَ ذَرّةٍ } [ النساء : من الآية 40 ] ووعداً للمطيعين الذين قال الله فيهم : { وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } [ النساء : من الآية 40 ] .
ثم [ في المطبوع : ثمن ] قال : من عادة العرب أنهم يقولون في الشيء الذي يتوقعونه : كيف بك إذا كان كذا وكذا ، وإذا فعل فلان كذا ، أو إذا جاء وقت كذا ؟ فمعنى هذا الكلام : كيف ترون يوم القيامة إذا استشهد الله على كل أمة برسولها ، واستشهدك على هؤلاء ، يعني قومه المخاطبين بالقرآن الذين شاهدهم وعرف أحوالهم ، ثم إن أهل كل عصر يشهدون على غيرهم ممن شاهدوا أحوالهم ، وعلى هذا الوجه قال عيسى عليه السلام : { وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ } [ المائدة : من الآية 117 ] ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلّ أُمّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [ النحل : من الآية 89 ] ، الخ .
وروى الشيخان وغيرهما عن عبد الله بن مسعود قال : قال لي رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < اقرأ عليّ > . فقلت : يا رسول الله ! أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : < نعم ، إني أحب أن أسمعه من غيري > فقرأت عليه سورة النساء ، حتى أتيت إلى هذه الآية : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً } فقال : < حسبك الآن > . فإذا عيناه تذرفان .
زاد مسلم : < شهيداً ما دمت فيهم ، أو قال : ما كنت فيهم ، شك أحد رواته > .
وروى ابن جرير عن ابن مسعود في هذه الآية قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < شهيد عليهم ما دمت فيهم ، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَئِذٍ يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً } [ 42 ]
{ يَوْمَئِذٍ } أي : يوم القيامة : { يَوَدّ } أي : يتمنى : { الّذِينَ كَفَرُواْ } بالله .
{ وَعَصَوُاْ الرّسُولَ } بالإجابة .
{ لَوْ تُسَوّى بِهِمُ الأَرْضُ } أي : يهلكون فيها ، أي : يدفنون ، فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى ، إذ هو أعز لهم من الهوان الذي يلحقهم من فضائحهم ، كقوله : { يَوْمَ يَنظُرُ المرْءُ مَا قَدّمَتْ يَدَاهُ } الآية ، فـ ( تسوّى ) بمعنى : تجعل مستوية ، والباء للملابسة ، أي : تسوى الأرض متلبسة بهم .
وقيل : الباء بمعنى ( على ) وفي " الدر المصون " : وتسوية الأرض بهم أو عليهم : دفنهم ، أو أن تنشق وتبلعهم ، أو أنهم يبقون تراباً على أصلهم من غير خلق .
وقوله تعالى : { وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً } عطف على ( يود ) أي : ويعترفون بجميع ما فعلوه لا يقدرون على كتمانه ، لأن جوارحهم تشهد عليهم ، أو ( الواو ) للحال ، أي : يودون أن يدفنوا في الأرض وحالهم أنهم لا يكتمون من الله حديثاً ، ولا يكذبونه بقولهم : { وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا مُشْرِكِينَ } كما روى ابن جرير عن الضحاك أن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس فقال : يا ابن عباس ! قول الله تعالى : { وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً } وقوله : { وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا مُشْرِكِينَ } فقال له ابن عباس : إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت : ألقي على ابن عباس متشابه القرآن ، فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله تعالى يجمع الناس يوم القيامة في بقيع واحد ، فيقول المشركون : إن الله لا يقبل من أحد شيئاً ممن وحده ، فيقولون : { تَعَالَوْا نَقُلْ } فيسألهم فيقولون : { وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا مُشْرِكِينَ } قال : فيختم على أفواههم ويستنطق جوارحهم فتشهد عليهم - جوارحهم أنهم كانوا مشركين ، فعند ذلك تمنّوا لو أن الأرض سويت بهم ولا يكتمون الله حديثاً .
وروى عبد الرزاق عن سعيد بن جبير نحو ما تقدم ، واعتمده الإمام أحمد في كتاب " الرد على الجهمية " في باب ( بيان ما ضلت فيه الزنادقة من متشابه القرآن ) وساق مثل ما تقدم عن ابن عباس ، ثم قال : فهذا تفسير ما شكّت فيه الزنادقة ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتّىَ تَعْلمواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنكُم مّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاء فَلم تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمّمُواْ صَعِيداً طَيّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ عَفُوّا غَفُوراً } [ 43 ]
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتّىَ تَعْلمواْ مَا تَقُولُونَ } نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر في جماعة كانوا يشربونها ثم يصلّون ، أي : من مقتضى إيمانكم الحياء من الله ، ومن الحياء منه أن لا تقوموا إلى الصلاة وأنتم سكارى لا تعلمون ما تخاطبونه ، فالحياء من الله يوجب ذلك ، وتصدير الكلام بحرفي النداء والتنبيه ، للمبالغة في حملهم على العمل بموجب النهي ، وتوجيه النهي إلى قربان الصلاة ، مع أن المراد هو النهي عن إقامتها ، للمبالغة في ذلك .
قال الحافظ ابن كثير : كان هذا النهي قبل تحريم الخمر ، كما دل عليه الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة عند قوله تعالى : { يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالميسِرِ } [ البقرة : من الآية 219 ] ، الآية ، فإن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم تلاها على عمر ، فقال : اللّهُمّ بَيّنْ لَنَا فِي الْخَمْر بَيَاناً شَافِياً ، فَلَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة تَلَاهَا عَلَيْهِ ، فَقَالَ : اللّهُمّ بَيّنْ لَنَا فِي الْخَمْر بَيَاناً شَافِياً ، فَكَانُوا لَا يَشْرَبُونَ الْخَمْر فِي أَوْقَات الصّلَوَات ، حَتّى نَزَلَتْ : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنّمَا الْخَمْر وَالْمَيْسِر وَالْأَنْصَاب وَالْأَزْلَام رِجْس مِنْ عَمَل الشّيْطَان فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } إِلَى قَوْله تَعَالَى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [ المائدة : 90-91 ] فَقَالَ عُمَر : اِنْتَهَيْنَا اِنْتَهَيْنَا .
ولفظ أبي داود عن عُمَر بن الخطاب في قصة تحريم الخمر فذكر الحديث ، وفيه نزلت الآية التي في النساء : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتّىَ تَعْلمواْ مَا تَقُولُونَ } فَكَانَ مُنَادِي رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إِذَا قَامَتْ الصّلَاة يُنَادِي : لَا يَقْرَبَن الصّلَاة سَكْرَان .
وروى اِبْن أَبِي شَيْبَة واِبْن [ أَبِي ] حَاتِم عَنْ سَعْد - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قَالَ : نَزَلَتْ فِي أَرْبَع آيَات : صَنَعَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار طَعَاماً فَدَعَا أُنَاساً مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَأُنَاساً مِنْ الْأَنْصَار ، فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا حَتّى سَكِرْنَا ، ثُمّ اِفْتَخَرْنَا ، فَرَفَعَ رَجُل لَحْي بَعِير فَغَرَزَ بِهَا أَنْف سَعْد فَكَانَ سَعْد مَغْرُوز الْأَنْف ، وَذَلِكَ قَبْل تَحْرِيم الْخَمْر ، فَنَزَلَتْ : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصّلَاة وَأَنْتُمْ سُكَارَى } الْآيَة . وَالْحَدِيث بِطُولِهِ عِنْد مُسْلِم ، وَرَوَاهُ أَهْل السّنَن إِلّا اِبْن مَاجَهْ .
وروى أبو داود والنسائي عن علي - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أن أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ : { قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ } فخلط فيها ، فنزلت : { لاَ تَقْرَبُواْ } الآية .
وروى ابن أبي حاتم عَنْ عَلِيّ - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قَالَ : صَنَعَ لَنَا عَبْد الرّحْمَن بْن عَوْف طَعَاماً فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنْ الْخَمْر ، فَأَخَذَتْ الْخَمْر مِنّا ، وَحَضَرَتْ الصّلَاة ، فَقَدّمُوا فُلَاناً ، قَالَ فَقَرَأَ : قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ مَا أَعْبُد مَا تَعْبُدُونَ وَنَحْنُ نَعْبُد مَا تَعْبُدُونَ ، فَأَنْزَلَ اللّه : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصّلَاة } . الآية ، وَكَذَا رَوَاهُ الترمذيّ وَقَالَ : حَسَن صَحِيح .
{ وَلاَ جُنُباً } عطف على قوله : { وَأَنتُمْ سُكَارَى } إذ الجملة في موضع النصب على الحال ، والجنب الذي أصابته الجنابة ، يستوي فيه المذكر والمؤنث ، والواحد والجمع ، لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب .
{ إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ } أي : مارين بلا لبث .
{ حَتّىَ تَغْتَسِلُواْ } من الجنابة : أي : لا تقربوا موضع الصلاة ، وهو المسجد ، وأنتم جنب ، إلا مجتازين فيه ، إما للخروج منه أو للدخول فيه .
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في معنى الآية قال : قَالَ : لَا تَدْخُلُوا الْمَسْجِد وَأَنْتُمْ جُنُب إِلّا عَابِرِي سَبِيل ، قَالَ : تَمُرّ بِهِ مَرّا ، وَلَا تَجْلِس ، ثُمّ رواه عن كثير من الصحابة ، منهم ابن مسعود وثلة من التابعين .
وروى ابن جرير عن اللّيْث قَالَ : حَدّثَنَا يَزِيد بْن أَبِي حَبِيب عَنْ قَوْل اللّه عَزّ وَجَلّ : { وَلَا جُنُباً إِلّا عَابِرِي سَبِيل } إِنّ رِجَالاً مِنْ الْمَسْجِد تُصِيبهُمْ الْجَنَابَة ، وَلَا مَاء عِنْدهمْ فَيَرِيدُونَ الْمَاء وَلَا يَجِدُونَ مَمَرّا إِلّا فِي الْمَسْجِد ، فَأَنْزَلَ اللّه : { وَلَا جُنُباً إِلّا عَابِرِي سَبِيل } .
قال الحافظ ابن كثير : وَيَشْهَد لِصِحّةِ مَا قَالَهُ يَزِيد بْن أَبِي حَبِيب رَحِمَهُ اللّه ، مَا ثَبَتَ فِي صَحِيح البخاريّ أَنّ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قَالَ : < سُدّوا كُلّ خَوْخَة فِي الْمَسْجِد ، إِلّا خَوْخَة أَبِي بَكْر > .
وَهَذَا قَالَهُ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فِي آخِر حَيَاته ، عِلْماً مِنْهُ أَنّ أَبَا بَكْر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - سَيَلِبي الْأَمْر بَعْده وَيَحْتَاج إِلَى الدّخُول فِي الْمَسْجِد كَثِيراً لِلْأُمُورِ الْمُهِمّة فِيمَا يَصْلُح لِلْمُسْلِمِينَ ، فَأَمَرَ بِسَدّ الْأَبْوَاب الشّارِعَة إِلَى الْمَسْجِد إِلّا بَابه - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ، وَمَنْ رَوَى إِلّا بَاب عليّ كَمَا وَقَعَ فِي بَعْض السّنَن فَهُوَ خَطَأ وَالصّوَاب مَا ثَبَتَ فِي الصّحِيح .
وَمِنْ هَذِا التأويل اِحْتَجّ كَثِير مِنْ الْأَئِمّة عَلَى أَنّهُ يَحْرُم عَلَى الْجُنُب الْمُكْث فِي الْمَسْجِد ، وَيَجُوز لَهُ الْمُرُور .
وثمة تأويل آخر في قوله تعالى : { إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ } وهو أن المراد منه المسافرون ، أي : لا تقربوا الصلاة جنباً في حال من الأحوال إلا حال كونكم مسافرين ، فيكون هذا الاستثناء دليلاً على أنه يجوز للجنب الإقدام على الصلاة عند العجز عن الماء ، وقد روى ابن أبي حاتم عن زر بن حبيش عن عليّ في هذه الآية ، قال : لا يقرب الصلاة لا أن يكون مسافراً تصيبه الجنابة ، فلا يجد الماء ، فيصلي حتى يجد الماء ، ثم رواه من وجه آخر عن عليّ : ورواه عن جماعة من السلف أيضاً : أنه في السفر .
قال ابن كثير : ويستشهد لهذا القول بالحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن عن أبي ذر قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < الصّعِيد الطّيّب طَهُور الْمُسْلِم ، وَإِنْ لَمْ تَجِد الْمَاء عَشْر حِجَج ، فَإِذَا وَجَدْت الْمَاء فَأَمِسّهُ بَشَرَتك فَإِنّ ذَلِكَ خَيْر لَك > ، وفي هذا التأويل بقاء لفظ الصلاة على معناه الحقيقي في الجملتين المتعاطفتين ، وفي التأويل السابق تكون الصلاة ، في الجملة الثانية محمولة على مواضعها .
قال في " فتح البيان " : وبالجملة ، فالحال الأولى أعني قوله : { وَأَنتُمْ سُكَارَى } تقوي بقاء الصلاة على معناه الحقيقي ، من دون تقدير مضاف ، وسبب نزول الآية السابق يقوي ذلك ، وقوله : { إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ } يقوي تقدير المضاف ، أي : لا تقربوا مواضع الصلاة ، ويمكن أن يقال : إن بعض قيود النهي ( أعني لا تقربوا وهو قوله : { وَأَنتُمْ سُكَارَى } ) يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقي ، وبعض قيود النهي ( وهو قوله : { إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ } ) ، يدل على أن المراد مواضع الصلاة ، ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدال عليه ، ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد ، منهما بقيد ، وهما : لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى ، ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنباً إلا حال عبوركم المسجد من جانب إلى جانب ، وغاية ما يقال في هذا إنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وهو جائز بتأويل مشهور .
وقال ابن جرير ( بعد حكايته للتأويلين ) : وأولى القولين بالتأويل لذلك ، تأويل من تأوله : { وَلاَ جُنُباً إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ } إلا مجتازي طريق فيه ، وذلك أنه قد بيّن حكم المسافر إذا عدم الماء ، وهو جنب ، في قوله : { وَإِن كُنتُم مّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ } إلى آخره ، فكان معلوماً بذلك أن قوله : { وَلاَ جُنُباً إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتّىَ تَغْتَسِلُواْ } لو كان معنياً به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله : { وَإِن كُنتُم مّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ } معنى مفهوم ، وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك .
وإن كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة ، مصلين فيها ، وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا تقربوها أيضاً جنباً حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل .
قال : و ( العابر السبيل ) المجتازه مراً وقطعاً ، يقال منه : عبرت هذا الطريق فأنا أعبُره عَبْراً وعبوراً ، ومنه [ في المطبوع : مه ] قيل : عبر فلان النهر إذا قطعه وجازه ، ومنه قيل ، للناقة القوية على الأسفار : هي عُبْر أسفار ، وعَبْر أسفار ، لقوتها على الأسفار .
قال ابن كثير : وهذا الذي نصره ( يعني ابن جرير ) هو قول الجمهور وهو الظاهر من الآية ، وكأنه تعالى نهى عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها ، وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة وهي الجنابة المباعدة للصلاة ولمحلها أيضاً ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { حَتّىَ تَغْتَسِلُواْ } غاية للنهي عن قربان الصلاة ومواضعها ، حال الجنابة ، والمعنى : لا تقربوها حال الجنابة حتى تغتسلوا ، إلا حال عبوركم السبيل .
تنبيهات :
الأولى : في الآية تحريم الصلاة على السكران حال سكره حتى يصحو ، وبطلانها وبطلان الاقتداء به ، وعلى الجنب حتى يغتسل إلا أن يكون مسافراً ، فيباح له التيمم .
الثاني : تمسك بالآية من قال : إن طلاق السكران لا يقع لأنه إذا لم يعلم ما يقوله انتفى القصد ، وبه قال عثمان بن عفان وابن عباس وطاوس وعطاء والقاسم وربيعة والليث بن سعد وإسحاق وأبو ثور والمزني واختاره الطحاوي ، والمسألة مبسوطة في " زاد المعاد " للإمام ابن القيم .
الثالث : في الآية دليل على أن ردة السكران ليست بردة : لأن قراءة سورة الكافرين ، بطرح اللاءات ، كفر ، ولم يحكم بكفره حتى خاطبهم باسم الإيمان ، وما أمر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بالتفريق بينه وبين امرأته ، ولا بتجديد الإيمان ، ولأن الأمة اجتمعت على أن من أجرى كلمة الكفر على لسانه مخطئاً ، لا يحكم بكفره ، قاله النسفي .
الرابع : استدل بأحد التأويلين السابقين على تحريم دخول المسجد على السكران ، لما يتوقع منه من التلويث وفحش القول ، فيقاس به كل ذي نجاسة يخشى منها التلويث والسباب ونحوه ، كذا في " الإكليل " .
الخامس : استدل ابن الفرس بتوجيه الخطاب لهم في الآية على تكليف السكران ودخوله تحت الخطاب ، وفيه نظر ، لأن الخطاب عام لكل مؤمن ، وعلى تقدير أنه قصد به الذين صلوا في حال السكر ، فإنما نزل بعد صحوهم ، كذا في " الإكليل " .
السادس : في قوله تعالى : { حَتّىَ تَغْتَسِلُواْ } رد على من أباح جلوس الجنب مطلقاً إذا توضأ ، لأن الله تعالى جعل غاية التحريم الغسل ، فلا يقوم مقامه الوضوء ، كذا في " الإكليل " .
أقول : إنما يكون هذا حجة لو كانت الآية نصاً في تأويل واحد ، وحيث تطرق الاحتمال لها ، على ما رأيت ، فلا .
وقد تمسك المبيح ، وهو الإمام أحمد ، بما روى هو وسعيد بن منصور في " سننه " بسند صحيح ، أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك .
قال سعيد بن منصور في " سننه " : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، هو الدراوردي ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال : رأيت رجلاً من أصحاب رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يجلسون في المسجد وهم مجنبون ، إذا توضؤوا وضوء الصلاة .
قال ابن كثير : وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم .
السابع : قال العلامة أبو السعود : لعل تقديم الاستثناء على قوله : { حَتّىَ تَغْتَسِلُواْ } للإيذان ، من أول الأمر ، بأن حكم النهي في هذه الصورة ليس على الإطلاق ، كما في صورة السكر ، تشويقاً إلى البيان ، وروماً لزيادة تقرره في الأذهان .
الثامن : قال أيضاً : في الآية الكريمة إشارة إلى أن المصلي حقه أن يتحرز عما يليه ويشغل قلبه ، وأن يزكي نفسه عما يدنسها ، ولا يكتفي بأدنى مراتب التزكية ، عند إمكان أعاليها .
التاسع : أشعر قوله تعالى : { حَتّىَ تَعْلمواْ مَا تَقُولُونَ } بالنهي عن الصلاة حال النعاس ، كما روى الإمام أحمد والبخاريّ والنسائي عن أنس قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف ولينم حتى يعلم ما يقول > .
وفي رواية : < فلعله يذهب يستغفر فيسب نفسه > .
وقد روى ابن جرير عن الضحاك في الآية قال : لم يعن بها سكر الخمر ، وإنما عنى بها سكر النوم .
قال ابن جرير : والصواب أن المراد سكر الشراب .
قال الرازي : ويدل عليه وجهان :
الأول : أن لفظ السكر حقيقة في السكر من شرب الخمر ، والأصل في الكلام الحقيقة .
والثاني : أن جميع المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية إنما نزلت في شرب الخمر ، وقد ثبت في أصول الفقه أن الآية إذا نزلت في واقعة مُعينة ، ولأجل سببٍ مُعين ، امتنع أن لا يكون ذلك السببُ مُراداً بتلك الآية .
العاشر : قال الحافظ ابن كثير : قد يحتمل أن يكون المراد من الآية التعريض بالنهي عن السكر بالكلية ، لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات ، من الليل والنهار ، فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائماً ، والله أعلم .
وعلى هذا فيكون كقوله تعالى : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنّ إِلّا وَأَنْتُمْ مُسْلمونَ } [ آل عِمْرَان : 102 ] ، وهو الأمر لهم بالتأهب للموت على الإسلام ، والمداومة على الطاعة لأجل ذلك . انتهى .
الحادي عشر : قال الرازي : قال بعضهم : هذه الآية ، أي : { لاَ تَقْرَبُواْ } الخ منسوخة بآية المائدة ، وأقول : الذي يمكن ادعاء النسخ فيه أن يقال : نهى عن قربان الممدود إلى غاية ، يقتضي انتهاء ذلك الحكم عند تلك الغاية ، فهذا يقتضي جواز قربان الصلاة مع السكر إذا صار بحيث يعلم ما يقول ، ومعلوم أن الله تعالى لما حرم الخمر بآية المائدة ، فقد رفع هذا الجواز ، فثبت أن آية المائدة ناسخة لبعض مدلولات هذه الآية ، هذا ما حضر ببالي في تقرير هذا النسخ .
والجواب عنه : أنا بيّنا أن حاصل هذا النهي راجع إلى النهي عن الشرب الموجب للسكر عند القرب من الصلاة ، وتخصيصُ الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه إلا على سبيل الظن الضعيف ، ومثل هذا لا يكون نسخاً . انتهى .
{ وَإِن كُنتُم مّرْضَى } أي : ولم تجدوا بقربكم ماء تستعملونه ، ومنه فَقْدُ من يناوله إياه ، أو خشيته الضرر به .
{ أَوْ عَلَى سَفَرٍ } لا تجدونه فيه .
{ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنكُم مّن الْغَآئِطِ } أي : أو كنتم محدثين ، والغائط هو المكان المنخفض ، فالمجيء منه كناية عن الحدث ، لأن المعتاد أن من يريده يذهب إليه ليواري شخصه عن أَعْيَن الناس .
قال الخازن : كانت عادة العرب إتيان الغائط للحدث ، فكنوا به عن الحدث ، وذلك أن الرجل منهم ، كان إذا أراد قضاء الحاجة ، طلب غائطاً من الأرض ، يعني مكاناً منخفضاً منها يحجبه عن أَعْيَن الناس ، فسمي الحدث بهذا الاسم ، فهو من باب تسمية الشيء باسم مكانه . انتهى .
وإسناد المجيء إلى واحد مبهم من المخاطبين دونهم ، للتفادي عن التصريح بنسبتهم إلى ما يستحيا منه أو يستهجن التصريح به ، كذا قاله أبو السعود .
ثم قال : وكذلك إيثار الكناية فيما عطف عليه من قوله عز وجل : { أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاء } على التصريح بالجماع ، قال الشهاب : وفي ذكر ( أحد ) دون غيره إشارة إلى أن الإِنسَاْن ينفرد عند قضاء الحاجة كما هو دأبه وأدبه .
{ فَلم تَجِدُواْ مَاء } قال المهايمي : أي : فلا تستحيوا من الله ، بل اعتذروا إليه .
{ فَتَيَمّمُواْ } أي : اقصدوا : { صَعِيداً } أي : تراباً ، أو وجه الأرض .
{ طَيّباً } أي : طاهراً .
{ فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ عَفُوّا غَفُوراً } تعليل للترخيص والتيسير ، وتقرير لهما ، فإن من عادته المستمرة أن يعفو عن الخاطئين ويغفر للمذنبين ، لا بد أن يكون ميسراً لا معسراً ، وفي هذه الآية مسائل :
الأول : الظاهر أن قوله تعالى : { فَلم تَجِدُواْ } راجع إلى جميع ما قبلها وحينئذ لا يجوز التيمم في الكل إلا عند عدم الماء ، وأما ما قيل أنه راجع إلى قوله تعالى : { أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنكُم مّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاء } لأنه قد وجد المانع ههنا من تقييد السفر والمرض ، بعدم الوجود للماء ، وهو أن كل واحد منهما عذر مستقل في غير هذا الموضع كالصوم - فلا يفيد ، لأن عدم الوجود معتبر فيهما لإباحة التيمم قطعاً ، إذ ليس السفر بمجرده مبيحاً ، وكذلك المرض .
وأما ما يقال من أنه قد يباح للمريض التيمم مع وجود الماء إذا خشي الضرر به ، فعدم الوجود في حقه إذن غير قيد ، فالجواب : أن هذا داخل تحت عدم الماء لأن من تعذر عليه استعماله هو ، عادم له ، إذ ليس المراد الوجود الذي لا ينفع ، فمن كان يشاهد ماء في قعر بئر ، يتعذر عليه الوصول إليه بوجه من الوجوه ، فهو عادم له ، وهكذا خوف السبيل الذي يسلك إلى الماء ، وهكذا من كان يحتاجه للشرب فهو عادم له ، ولئن سلمنا ، تنزلاً ، أن المراد مطلق الوجود فنقول : المدعي أنه تعالى جوز التيمم للمريض إذا لم يجد الماء ، وليس فيه دلالة على منعه من التيمم عند وجوده لعارض يمنعه من الماء .
فإن قيل : من أين تستدلون حينئذ على إباحة تيممه ؟ قلنا : من التحقيق الذي ذكرناه وهو أن المتعذر استعماله معدوم شرعاً وكذا من قوله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : من الآية 29 ] وقوله : { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ } [ البقرة : من الآية 195 ] ، وقوله : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : من الآية 78 ] .
ومما أخرجه أبو داود وابن ماجة والدارقطني من حديث جَابِرٍ - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قَالَ : خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ ، فَأَصَابَ رَجُلاً مِنّا حَجَرٌ فَشَجّهُ فِي رَأْسِهِ ، ثُمّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ ، فَقَالَ : هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التّيَمّمِ ؟ فَقَالُوا : مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ ، فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ ، فَلَمّا قَدِمْنَا عَلَى النّبِي - صَلّى اللهُ عليّه وسلّم - أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ : < قَتَلُوهُ ، قَتَلَهُمُ اللّهُ ، أَلاّ سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا ؟ فَإِنّمَا شِفَاءُ الْعِي السّؤَالُ ، إِنّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمّمَ وَيَعْصِرَ - أَوْ : يَعْصِبَ - عَلَى جُرْحِهِ [ خِرْقَةً ] ثُمّ يَمْسَحَ عَلَيْهَ ، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ > .
ومما رواه أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم والدارقطني عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ : احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السّلاَسِلِ فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ ، أَنْ أَهْلِكَ ، فَتَيَمّمْتُ ثُمّ صَلّيْتُ بِأَصْحَابِي الصّبْحَ ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنّبِي - صَلّى اللهُ عليّه وسلّم - فَقَالَ : < يَا عَمْرُو ! صَلّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ > . فَأَخْبَرْتُهُ بِالّذِي مَنَعَنِي مِنَ الاِغْتِسَالِ ، وَقُلْتُ : إِنّي سَمِعْتُ اللّهَ يَقُولُ : { وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } فَضَحِكَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللهُ عليّه وسلّم - وَلَمْ يَقُلْ شَيْئاً ، فهذا وما قبله يدل على جواز العدول إلى التيمم لخشية الضرر .
قال مجد الدين ابن تيمية : في حديث عَمْرو ، من العلم ، أن التمسك بالعمومات حجة صحيحة . انتهى .
وقد روى ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله تعالى : { وَإِن كُنتُم مّرْضَى } قال : نزلت في رجل من الأنصار كان مريضاً فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ ، ولم يكن له خادم فيناوله ، فأتى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فذكر ذلك له ، فأنزل الله هذه الآية .
قال ابن كثير : هذا مرسل .
الثانية : ما يصدق عليه مفهوم عدم الوجود المقيد بالقيام إلى الصلاة ، هو المعتبر في تسويغ التيمم ، كما هو الظاهر من الآية ، لا عدم الوجود مع طلب ، مخصوص ، كما قيل : إنه يطلب في كل جهة من الجهات الأربع في ميل ، أو ينتظر إلى آخر الوقت حتى لا يبقى إلا ما يسع الصلاة بعد التيمم ؟ إذ لا دليل على ذلك ، فإذا دخل الوقت المضروب للصلاة ، وأراد المصلي القيام إليها فلم يجد حينئذ ما يتوضأ به ، أو يغتسل في منزله أو مسجده ، أو ما يقرب منهما ، كان ذلك عذراً مسوقاً للتيمم ، فليس المراد بعدم الوجود في ذلك أن لا يجده بعد الكشف والبحث وإخفاء [ وإحفاء ] السؤال ، بل المراد أن لا يكون معه علم أو ظن بوجود شيء منه هنالك ، ولم يتمكن في تلك الحالة من تحصيله بشراء أو نحوه .
فهذا يصدق عليه أنه لم يجد الماء عند أهل اللغة ، والواجب حمل كلام الله تعالى على ذلك ، مع عدم وجود عرف شرعيّ ، وقد وقع منه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ما يشعر بما ذكرناه ، فإنه تيمم في المدينة من جدار .
كما ثبت ذلك في الصحيحين من دون أن يسال ويطلب ، ولم يصح عنه في الطلب شيء تقوم به الحجة ، فهذا ، كما يدل على وجوب الطلب ، يدل على عدم وجوب انتظار آخر الوقت ، ويدل على ذلك حديث الرجلين اللذين تيمماً في سفر ثم وجدا الماء ، فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر : فقال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم للذي لم يعد : < أصبت السنة > ، أخرجه أبو داود والحاكم وغيرهما من حديث أبي سعيد ، فإنه يردّ قول من قال بوجوب الانتظار إلى آخر الوقت على المتيمم ، سواء كان مسافراً أو مقيماً ، كذا في " الروضة الندية ) .
الثالثة : دلت الآية على أن المسافر إذا لم يجد الماء تيمم ، طال سفره أو قصر .
الرابعة : قرئ في السبع ( لامستم ولمستم ) والملامسة واللمس يردان ، لغةً ، بمعنى الجس باليد ، وبمعنى الجماع ، قال المجد في " القاموس " لمس يلمِسه ويلمُسه : مسّه بيده ، والجارية جامعها ، ثم قال : والملامسة المماسة والمجامعة .
ومن ثمة اختلف المفسرون ، والأئمة في المعنيّ بذلك هنا ، فمن قائل بأن اللمس حقيقةٌ في الجس باليد ، مجازٌ في غيره ، والأصل حمل الكلام على حقيقته لأنه الراجح ، لا سيما على قراءة ( لمستم ) إذْ لم يشتهر في الوِقَاع كالمُلامسة ، وروي عن ابن مسعود من طرق متعددة أنه قال : الملامسة ما دون الجماع ، وعنه : القبلة من المس وفيها الوضوء ، رواهما ابن جرير .
وروى الطبراني بإسناده عن عبد الله بن مسعود قال : يتوضأ الرجل من المباشرة ، ومن اللمس بيده ، ومن القبلة ، وكان يقول في هذه الآية : { أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاء } هو الغمز .
وروى ابن جرير عن نافع أن ابن عمر كان يتوضأ من قبلة المرأة ، ويرى فيها الوضوء ، ويقول : هي من اللّماس .
وذكر ابن أبي حاتم أنه روي عن كثير من التابعين نحو ذلك ، قالوا : ومما يؤيد بقاء اللمس على معناه الحقيقي قوله تعالى : { وَلَوْ نَزّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلمسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } [ الأنعام : من الآية 7 ] ، أي : جسّوه ، وقال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لماعز ، حين أقر بالزنى ، يعرّض له بالرجوع عن الإقرار : < لعلك قبلت أو لمست > ؟ .
وفي الحديث الصحيح : < واليد زناها اللمس > .
وقالت عائشة : قلّ يوم إلا ورسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يطوف علينا ، فيقبل ويلمس .
ومنه ما ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم نهى عن بيع الملامسة ، وهو يرجع إلى الجس باليد .
واستأنسوا أيضاً بالحديث الذي رواه أحمد عن معاذ ؛ أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أتاه رجل فقال : يا رسول الله ! ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها ، فليس يأتي الرجل من امرأته شيئاً إلا أتاه منها غير أنه لم يجامعها ، قال فأنزل الله عز وجل هذه الآية : { وَأَقِمِ الصّلاةَ طَرَفَيِ النّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللّيْلِ } [ هود : من الآية 114 ] الآية ، قال : فقال له النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < توضأ ثم صل > ، قال معاذ : فقلت : يا رسول الله ! أنه خاصة أم للمؤمنين عامة ؟ فقال : < بل للمؤمنين عامة > .
ورواه الترمذيّ وقال : ليس بمتصل ، والنسائي مرسلاً ، قالوا : فأمره بالوضوء لأنه لمس المرأة ولم يجامعها .
فصل
ومن قائل : إن المعنيّ باللمس هنا الجماع ، وذلك لوروده في غير هذه الآية بمعناه ، فدل على أنه من كنايات التنزيل ، قال تعالى : { وَإِنْ طَلّقْتُمُوهُنّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسّوهُنّ } [ البقرة : من الآية 237 ] ، وقال تعالى : { إِذَا نَكَحْتُمُ المؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسّوهُنّ } [ الأحزاب : من الآية 49 ] ، وقال في آية الظهار : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا } [ القصص : من الآية 3 ] .
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية : { أَوْ لَمَسْتُمُ النّسَاءَ } قال : الجماع .
وروى ابن جرير عنه ، قال : إن اللمس والمس والمباشرة : الجماع ، ولكن الله يكني ما يشاء بما شاء ، وقد صح من غير وجه عن ابن عباس أنه قال ذلك ، وقد تقرر أن تفسيره أرجح من تفسير غيره ، لاستجابة دعوة الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فيه بتعليمه تأويل الكتاب ، كما أسلفنا بيان ذلك في مقدمة التفسير ، ويؤيد عدم النقض بالمس ما رواه مسلم والترمذيّ وصححه عن عائشة قالت : فقدت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد ، وهما منصوبتان ، وهو يقول : < اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك > .
وروى النسائي عن عائشة - رَضِي اللّهُ عَنْهَا - قالت : إن كان رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ليصلي وإني لمعترضته بين يديه اعتراض الجنازة ، حتى إذا أراد أن يوتر مسّني برجله .
قال الحافظ ابن حجر في " التلخيص " : إسناده صحيح ، وقوله في " الفتح " : يحتمل أنه كان بحائل أو أنه خاص به صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، تكلف ، ومخالفة للظاهر .
وعن إبراهيم التَّيمي عن عائشة - رَضِي اللّهُ عَنْهَا - : < أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كان يقبل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ > . رواه أبو داود والنسائي : قال أبو داود : هو مرسل ، إبراهيم التَّيمي لم يسمع من عائشة ، وقال النسائي : ليس في هذا الباب أحسن من هذا الحديث ، وإن كان مرسلاً ، وصححه ابن عبد البر وجماعة .
وشهد له ما تقدم وما رواه الطبراني في المعجم الصغير من حديث عَمْرة عن عائشة قالت : فقدت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ذات ليلة ، فقلت : إنه قام إلى جاريته مارية ، فقمت ألتمس الجدار فوجدته قائماً يصلي ، فأدخلت يدي في شعره لأنظر : أغتسل أم لا ؟ فلما انصرف قال : أخذك شيطانك يا عائشة ، وفيه محمد بن إبراهيم عن عائشة ، قال ابن أبي حاتم : ولم يسمع منها .
قال ابن جرير : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عنى الله بقوله : { أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاء } الجماع دون غيره من معاني اللمس ، لصحة الخبر عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قبّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ ، ثم أسنده من طرق ، وبه يعلم أن حديث عائشة قرينة صرفت إرادة المعنى الحقيقي من اللمس ، وأوجبت المصير إلى معناه المجازي .
وأما ما روي عن ابن عمر وابن مسعود ، فنحن لا ننكر صحة إطلاق اللمس على الجس باليد ، بل هو المعنى الحقيقي ، ولكنا ندعي أن المقام محفوف بقرائن توجب المصير إلى المجاز ، وأما قولهم : بأن القبلة فيها الوضوء ، فلا حجة في قول الصحابي : لا سيما إذا وقع معارضاً لما ورد عن الشارع ، ويؤيد ذلك قول اللغويين ، أن المراد بقول بعض الأعراب للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : إن امرأته لا تردّ يد لامس ، الكناية عن كونها زانية ، ولهذا قال له صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < طلقها > .
وأما حديث معاذ الذي استأنسوا به فلا دلالة فيه على النقض ، لأنه لم يثبت أنه كان متوضئاً قبل أن يأمره النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بالوضوء ، ولا ثبت أنه كان متوضئاً عند اللمس ، فأخبره النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قد انتقض وضوؤه كذا في " نيل الأوطار " .
وقال ابن كثير : هو منقطع بين ابن أبي ليلى ومعاذ ، فإنه لم يلقه ، ثم يحتمل أنه إنما أمره بالوضوء والصلاة المكتوبة ، كما تقدم في حديث الصديق : < ما من عبد يذنب ذنباً فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له > ، وهو مذكور في سورة آل عِمْرَان عند قوله : { ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } [ آل عِمْرَان : من الآية 135 ] ، الآية .
الخامسة : التيمم : لغةً القصد ، يقال : تيممته وتأممته ويممته ، وآممته أي : قصدته ، وأما الصعيد فهو فعيل بمعنى الصاعد .
قَالَ الزّجّاجُ : الصّعِيدُ وَجْهُ الْأَرْضِ تُرَاباً كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ، لَا أَعْلَمُ اخْتِلَافاً بَيْنَ أَهْلِ اللّغَةِ فِي ذَلِكَ .
وفي " المصباح " : الصّعِيدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يُطْلَقُ عَلَى وُجُوهٍ : عَلَى التّرَابِ الّذِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ، وَعَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ، وَعَلَى الطّرِيقِ .
وفي " القاموس " : الصعيد التراب أو وجه الأرض .
قَالَ الْأَزْهَرِيّ : وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنّ الصّعِيدَ فِي قوله تعالى : { صَعِيداً طَيّباً } هَو التّرَابُ . انتهى .
واحتجوا بما في صحيح مسلم عَنْ حُذَيْفَةَ بن اليمان ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عليّه وسلّم : < فُضّلْنَا عَلَى النّاسِ بِثَلَاثٍ : جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلّهَا مَسْجِداً ، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُوراً ، إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ > .
وفي لفظ : < وجعل ترابها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء > .
قالوا : فخصص الطهورية بالتراب في مقام الامتنان ، فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه ، قالوا : وحديث جابر المتفق عليه : < جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً > ، خصصه ما قبله لأن الخاص يحمل عليه العام ، واحتجوا أيضاً بأن الطيّب لا يكون إلا تراباً .
قال الواحدي : إنه تعالى أوجب في هذه الآية كون الصعيد طيباً ، والأرض الطيبة هي التي تنبت بدليل قوله تعالى : { وَالْبَلَدُ الطّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ } [ الأعراف : من الآية 58 ] ، فوجب في التي لا تنبت أن لا تكون طيبة ، فكان قوله : { فَيَتَمّمُوا صَعِيداً طَيّباً } أمراً بالتيمم بالتراب فقط ، وظاهر الأمر للوجوب ، واحتجوا أيضاً بآية المائدة ، قالوا : الآية ههنا مطلقة ولكنها في سورة المائدة مقيدة وهي قوله سبحانه وتعالى : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } [ المائدة : من الآية 6 ] وكلمة ( من ) للتبعيض وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه .
قال الزمخشري : وقولهم إن ( من ) لابتداء الغاية ، قول متعسف ، ولا يفهم أحد من العرب ، من قول القائل : ( مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب ) إلا معنى التبعيض ، ثم قال : والإذعان للحق أحق من المراء . انتهى .
وأجاب القائلون ، بجواز التيمم بالأرض وما عليها ، عن هذه الحجج - بأن الظاهر من لفظ الصعيد وجه الأرض لأنه ما صعد أي : علا وارتفع على وجه الأرض ، وهذه الصفة لا تختص بالتراب .
ويؤيد ذلك حديث : < جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً > ، وهو متفق عليه من حديث جابر وغيره ، وما ثبت في رواية بلفظ : < وتربتها طهوراً > كما أخرجه مسلم من حديث حذيفة - فهو غير مستلزم لاختصاص التراب بذلك عند عدم الماء ، لأن غاية ذلك أن لفظ التراب دل بمفهومه على أن غيره من أجزاء الأرض لا يشاركه في الطهورية ، وهذا مفهوم لقب لا ينتهض لتخصيص عموم الكتاب والسنة ، ولهذا لم يعمل به من يعتد به من أئمة الأصول ، فيكون ذكر التراب ، في تلك الرواية من باب التنصيص على بعض أفراد العام ، وهكذا يكون الجواب عن ذكر التراب في غير هذا الحديث ، ووجه ذكره أنه الذي يغلب استعماله في هذه الطهارة ، ويؤيد هذا ما ثبت من تيممه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من جدار .
وأما الاستدلال بوصف الصعيد بالطيب ، ودعوى أن الطيب لا يكون إلا تراباً طاهراً منبتاً لقوله تعالى : : { وَالْبَلَدُ الطّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ وَالّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً } [ الأعراف : 58 ] - فغير مفيد للمطلوب إلا بعد بيان اختصاص الطيب بما ذكر ، والضرورة تدفعه ، فإن التراب المختلط بالأزبال أجود إخراجاً للنبات ، كذا في " الروضة الندية " .
وأما الاستدلال بآية المائدة وظهور التبعيض في ( من ) فذاك إذا كان الضمير عائداً إلى الصعيد .
قال الناصر في " الانتصاف " : وثمة وجه آخر وهو عود الضمير على الحدث المدلول عليه بقوله : { وَإِن كُنتُم مّرْضَى } إلى آخرها فإن المفهوم منه : وإن كنتم على حدث في حال من هذه الأحوال : سفر أو مرض ، أو مجيء من الغائط ، أو ملامسة النساء فلم تجدوا ماء تتطهرون به من الحدث ، فتيمموا منه ، يقال : تيممت من الجنابة ، قال : وموقع ( من ) على هذا مستعمل متداول ، وهي على هذا الإعراب إما للتعليل أو الغاية ، وكلاهما فيها متمكن ، والله أعلم .
السادسة : أفاد قوله تعالى : { فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم } أن الواجب في التيمم عن وضوء أو غسل هو مسح الوجه واليدين فقط ، وهذا إجماع ، إلا أن في اليدين مذاهب للأئمة ، فمن قائل بأنهما يمسحان إلى المرفقين ، لأن لفظ اليدين يصدق في إطلاقهما على ما يبلغ المنكبين وعلى ما يبلغ المرفقين ، كما في آية الوضوء ، وعلى ما يبلغ الكفين كما في آية السرقة : { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : من الآية 38 ] ، وقالوا : وحمل ما أطلق ههنا ، على ما قيد في آية الوضوء ، أولى لجامع الطهورية .
وروى الشافعيّ عن إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث عن الأعرج عن ابن الصمة قال : < مررت على النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وهو يبول ، فسلمت عليه فلم يرد عليّ ، حتى قام إلى الجدار فحتّه بعصاً كانت معه ، ثم وضع يده على الجدار فمسح وجهه وذراعيه ، ثم رد عليّ > .
وهذا الحديث منقطع ، لأن الأعرج ، وهو عبد الرحمن بن هرمز ، لم يسمع هذا من ابن الصمة ، وإنما سمعه من عمير مولى ابن عباس عن ابن الصمة ، وكذا هو مخرج في الصحيحين عن عمير مولى ابن عباس قال : دخلنا على أبي جُهَيم بن الحارث ، فقال أبو جُهَيم : < أقبل رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من نحو بئر جمل ، فلقيه رجل فسلم عليه ، فلم يرد النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، حتى أقبل على الجدار ، فوضع يده على الحائط ، فمسح بوجهه ويديه ، ثم رد عليه السلام > .
ولأبي داود عن نافع قال : انطلقت : مع ابن عمر في حاجة إلى ابن عباس ، فقضى ابن عمر حاجته ، فكان من حديثه يومئذ أن قال : مر رجل على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في سكة من السكك ، وقد خرج من غائط أو بول ، فسلم عليه فلم يرد عليه ، حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة ، ضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه ، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه ، ثم رد على الرجل السلام ، وقال : < إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام ، إلا أني لم أكن على طهر > .
وفي رواية : فمسح ذراعيه إلى المرفقين ، فهذا أجود ما في الباب ، فإن البيهقيّ أشار إلى صحته ، كذا في " لباب التأويل " .
قال ابن كثير في حديث أبي داود ما نصه : ولكن في إسناده محمد بن ثابت العبديّ ، وقد ضعفه بعض الحفاظ ، ورواه غيره من الثقات فوقفوه على فعل ابن عمر ، قال البخاريّ ، وأبو زرعة وابن عدي : هو الصحيح .
وقال البيهقيّ : رفع هذا الحديث منكر .
قال ابن كثير : وذكر بعضهم ما رواه الدارقطنيّ عن ابن عمر قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < التيمم ضربتان : ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين > ، ولكن لا يصح ، لأن في إسناده ضعفاً لا يثبت الحديث به . انتهى .
وذلك لأن فيه عليّ بن ظبيان ، قال الحافظ ابن حجر : هو ضعيف ، ضعفه القطان وابن معين وغير واحد ، وبه يعلم أن ما استدل به على إيجاب الضربتين ، مما ذكر ، ففيه نظر ، لأن طرقها جميعها لا تخلوا من مقال ، ولو صحت لكان الأخذ بها متعيناً لما فيها من الزيادة .
فصل
ذهب الزهريّ إلى أنه يمسح اليدين إلى المنكبين ، ويدل على ذلك ما روي عن عمار بن ياسر قال : < تمسّحوا وهم مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بالصعيد لصلاة الفجر ، فضربوا بأكفهم الصعيد ثم مسحوا وجوههم مسحة واحدة ، ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى ، فمسحوا بأيديهم كلها إلى المناكب والآباط من بطون أيديهم > . أخرجه أبو داود .
قال الحافظ في " الفتح " : وأما رواية الآباط ، فقال الشافعيّ وغيره : إن كان ذلك وقع بأمر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فكل تيمم صح للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بعده فهو ناسخ له ، وإن كان وقع بغير أمره فالحجة فيما أمر به .
فصل
والحق الوقوف في صفة التيمم على ما ثبت في الصحيحين من حديث عمار ، من الاقتصار على ضربة واحدة للوجه والكفين .
قال عمار : أجنبت فلم أصِب الماء ، فتمعكت في الصعيد ، وصليت ، فذكرت للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقال : < إنما كان يكفيك هكذا ، وضرب النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بكفيه الأرض ونفخ فيهما ، ثم مسح بهما وجهه وكفيه > ، متفق عليه .
وفي لفظ : < إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب ثم تنفخ فيهما ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين > . رواه الدارقطني .
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن عمار بن ياسر أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال في التيمم : < ضربة للوجه واليدين > .
وفي لفظ : < إن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أمره بالتيمم للوجه والكفين > . رواه الترمذيّ وصححه .
قال ابن عبد البر : أكثر الآثار المرفوعة عن عمار ضربة واحدة ، وما روي عنه من ضربتين فكلها مضطربة ، وأما الجواب عن المتفق عليه من حديث عمار بأن المراد منه بيان صورة الضرب ، وليس المراد منه جميع ما يحصل به التيمم - فتكلف واضح ، ومخالفة للظاهر .
وقد سرى هذا إلى العلامة السنديّ في " حواشي البخاريّ " حيث كتب على حديث عمار ما نصه : قد استدل المصنف ( يعني البخاريّ ) بهذا الحديث على عدم لزوم الذراعين في التيمم في موضع ، وعلى عدم وجوب الضربة الثانية في موضع آخر ، وكذا سيجيء في الروايات هذا الحديث أنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قدم في هذه الواقعة الكفين على الوجه ، فاستدل به القائل لعدم لزوم الترتيب ، فلعل القائل بخلاف ذلك يقول : إن هذا الحديث ليس مسوقاً لبيان عدد الضربات ولا لبيان تحديد اليد في التيمم ولا لبيان عدم لزوم الترتيب ، بل ذلك أمر مفوض إلى أدلة خارجة ، وإنما هو مسوق لرد ما زعمه عمار من أن الجنب يستوعب البدن كله ، والقصر في قوله : ( إنما كان يكفيك ) معتبر بالنسبة إليه ، كما هو القاعدة أن القصر يعتبر بالنظر إلى زعم المخاطب ، فالمعنى : إنما يكفيك استعمال الصعيد في عضوين : وهما الوجه واليد .
وأشار إلى اليد بـ ( الكف ) ، ولا حاجة إلى استعماله في تمام البدن ، وعلى هذا يستدل على عدد الضربات وتحديد اليد ولزوم الترتيب أو عدمه بأدلة أخر ، كحديث : < التيمم ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين > ، وغير ذلك ، فإنه صحيح كما نص عليه بعض الحفاظ ، وهو مسوق لمعرفة عدد الضربات وتحديد اليد ، فيقدم على غير المسوق لذلك ، والله تعالى أعلم . انتهى كلامه .
وقوله : فإنه حديث صحيح ، فيه ما تقدم .
وقد قال الإمام ابن القيم في " زاد العماد " في ( فصل هديه صلى الله عليه وسلم بالتيمم ) ما نصه : كان صلى الله عليه وسلم يتيمم بضربة واحدة للوجه والكفين ، ولم يَصِحَّ عنه أنه تيمم بضربتين ، ولا إلى المرفقين .
قال الإِمام أحمد : من قال : إن التيمم إلى المرفقين ، فإنما هو شيء زاده مِن عنده ، وكذلك كان يتيمم بالأرض التي يصلي عليها ، تراباً كانت أَوْ سَبِخَةً أو رملاً .
وصح عنه أنه قال : < حَيْثُماَ أَدْرَكَتْ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي الصَّلاَةُ ، فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَطَهُورُهُ > ، وهذا نص صريح في أن من أدركته الصلاة في الرمل ، فالرمل له طهور . ولما سافر صلى الله عليه وسلم هو وأصحابُه في غزوة تبوك ، قطعوا تلك الرمال في طريقهم ، وماؤهم في غاية القِلة ، ولم يُرْوَ عنه أنه حمل معه التراب ، ولا أمر به ، ولا فعله أحد من أصحابه ، مع القطع بأن في المفاوز الرمالَ أكثر من التراب ، وكذلك أرضُ الحجاز وغيره ، ومن تدبر هذا ، قطع بأنه كان يتيمم بالرمل ، واللّه أعلم وهذا قول الجمهور .
وأمّا ما ذكر في صفة التيمم من وضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور اليمنى ، ثم إمرارها إلى المرفق ، ثم إدارة بطن كفه على بطن الذراع ، وإقامة إبهامه اليسرى كالمؤذن ، إلى أن يصل إلى إبهامه اليمنى ، فَيُطبِقها عليها ، فهذا مما يُعلم قطعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ، ولا علَّمه أحداً من أصحابه ، ولا أمر به ، ولا استحسنه ، وهذا هديُه ، إليه التحاكُم ، وكذلك لم يَصِحَّ عنه التيمُّمُ لكِل صلاة ، ولا أمر به ، بل أطلق [ التيمم ] ، وجعله قائماً مقام الوضوء وهذا يقتضي أن يكون حكْمُه حكْمَه ، إلا فيما اقتضى الدليل خلافه . انتهى .
السابعة : ذكر هنا الحافظ ابن كثير سَبَب مَشْرُوعِيَّة التَّيَمُّم قَالَ : وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ هَهُنَا لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَة الَّتِي فِي النِّسَاء مُتَقَدِّمَة النُّزُول عَلَى آيَة الْمَائِدَة ، وَبَيَانه : أَنَّ هَذِهِ نَزَلَتْ قَبْل تَحْرِيم الْخَمْر ، وَالْخَمْر إِنَّمَا حُرِّمَ بَعْد أُحُد بِيَسِيرٍ ، فِي مُحَاصَرَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي النَّضِير ، وَأَمَّا الْمَائِدَة فَإِنَّهَا مِنْ آخِر مَا نَزَلَ ، وَلَا سِيَّمَا صَدْرهَا ، فَنَاسَبَ أَنْ يُذْكَر السَّبَب هُنَا ، وَبِاَللَّهِ الثِّقَة .
قَالَ الإمَام أَحْمَد : حَدَّثَنَا اِبْن نُمَيْر حَدَّثَنَا هِشَام عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة ، أَنَّهَا اِسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاء قِلَادَة فَهَلَكَتْ ، فَبَعَثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجَالاً فِي طَلَبهَا ، فَوَجَدُوهَا فَأَدْرَكَتْهُمْ الصَّلَاة وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاء ، فَصَلَّوْهَا بِغَيْرِ وُضُوء ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَنْزَلَ اللَّه عز وجل [ آيَة ] التَّيَمُّم ، فَقَالَ أُسَيْد بْن الْحُضَيْر لِعَائِشَة : جَزَاك اللَّه خَيْراً ، فَوَاَللَّهِ مَا نَزَلَ بِك أَمْر تَكْرَهِينَهُ ، إِلَّا جَعَلَ اللَّه لَك وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْراً .
( طَرِيق أُخْرَى ) قَالَ الْبُخَارِيّ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن يُوسُف قال : أَنْبَأَنَا مَالِك عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن الْقَاسِم عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة زوج النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قَالَتْ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْض أَسْفَاره ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ ، أَوْ بِذَاتِ الْجَيْش ، اِنْقَطَعَ عِقْد لِي .
فَأَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى اِلْتِمَاسه ، وَأَقَامَ النَّاس مَعَهُ ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاء ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاء ، فَأَتَى النَّاس إِلَى أَبِي بَكْر الصديق فَقَالُوا : أَلَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَة ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاء وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاء ، فَجَاءَ أَبُو بَكْر وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِع رَأْسه عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ .
فَقَالَ : حَبَسْتِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاس وَلَيْسُوا عَلَى مَاء وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاء ، قَالَتْ عَائِشَة : فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْر ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يَقُول ، فجَعَلَ يَطْعَنني بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي ، فَلَا يَمْنَعنِي مِنْ التَّحَرُّك إِلَّا مَكَان رَأْس رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَخِذِي ، فَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أَصْبَحَ عَلَى غَيْر مَاء ، فَأَنْزَلَ اللَّه آيَة التَّيَمُّم فَتَيَمَّمُوا . فَقَالَ أُسَيْد بْن الْحُضَيْر : مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتكُمْ يَا آل أَبِي بَكْر .
قَالَتْ : فَبَعَثْنَا الْبَعِير الَّذِي كُنْت عَلَيْهِ فَوَجَدْنَا الْعِقْد تَحْته .
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيّ أَيْضاً عَنْ قُتَيْبَة بن سعيد عَنْ مَالِك .
وَرَوَاهُ مُسْلِم عَنْ يَحْيَى بْن يَحْيَى عَنْ مَالِك . انتهى كلام ابن كثير .
وأورد الواحدي في " أسباب النزول " هذا الحديث عند ذكر آية النساء أيضاً .
وقال ابن العربيّ : لا نعلم أي : الآيتين عنت عائشة .
قال ابن بطال : هي آية النساء أو آية المائدة .
وقال القرطبيّ : هي آية النساء ، ووجهه بأن آية المائدة تسمى آية الوضوء ، وآية النساء لا ذكر فيها للوضوء ، فيتجه تخصيصها بآية التيمم .
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : وخفي على الجميع ما ظهر للبخاري من أن المراد بها آية المائدة بغير تردد ، لرواية عَمْرو بن الحارث ، إذ صرح فيها بقوله : فنزلت : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصّلاةِ } الآية .
وقال الحافظ قبلُ : استدل به ( أي : بحديث عائشة ) على أن الوضوء كان واجباً عليهم قبل نزول آية الوضوء ، ولهذا استعظموا نزولهم على غير ماء ، ووقع من أبي بكر في حق عائشة ما وقع .
وقال ابن عبد البر : معلوم عند جميع أهل المغازي أنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لم يصل منذ افترضت الصلاة عليه إلا بوضوء ، ولا يدفع ذلك إلا جاهل أو معاند ، قال : وفي قوله في هذا الحديث ( آية التيمم ) إشارة إلى أن الذي طرأ عليهم من العلم حينئذ حكم التيمم لا حكم الوضوء ، قال : والحكمة في نزول آية الوضوء مع تقدم العمل به ، ليكون فرضه متلواً بالتنزيل .
قال السيوطيّ في " لباب النقول " بعد تصويب هذا الكلام : فإن فرض الوضوء كان مع فرض الصلاة بمكة ، والآية مدنية . انتهى .
وقال الحافظ ابن حجر أيضاً في قول أسيد ( ما هي بأول بركتكم ) : يشعر بأن هذه القصة كانت بعد قصة الإفك ، فيقوّي قول من ذهب إلى تعدد ضياع العقد ، وممن جزم بذلك محمد بن حبيب الأخباريّ فقال : سقط عقد عائشة في غزوة ذات الرقاع وفي غزوة بني المصطلق .
وقد روى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة قال : لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع . . الحديث .
فهذا يدل على تأخرها عن غزوة بني المصطلق ، لأن إسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة ، وهي بعدها بلا خلاف قال : وسيأتي في المغازي أن البخاريّ يرى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبي موسى ، وقدومُه كان في وقت إسلام أبي هريرة ، ومما يدل على تأخر القصة أيضاً عن قصة الإفك ، ما رواه الطبرانيّ من طريق عَبَّاد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت : لما كان من أمر عقدي ما كان ، وقال أهل الإفك ما قالوا ، خرجت مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في غزوة أخرى فسقط أيضاً عقدي حتى حبس الناس على التماسه ، فقال لي أبو بكر : يا بنية ! في كل سفرة تكونين عناءً وبلاءً على الناس ؟ فأنزل الله عز وجل الرخصة في التيمم .
فقال أبو بكر : إنك لمباركة ( ثلاثاً ) ، وفي إسناده محمد بن حميد الرازي وفيه مقال ، وفي سياقه من الفوائد بيان عتاب أبي بكر الذي أبهم في حديث الباب ، والتصريح بأن ضياع العقد كان مرتين في غزوتين ، والله أعلم . انتهى كلام الحافظ .
وقال الإمام شمس الدين ابن القيم في " زاد المعاد " في ( غزوة المريسيع ، وهي غزوة بني المصطلق ) : إنها كانت في شعبان سنة خمس ، وبعد ذكرها قال : قال ابن سعد : وفي هذه الغزوة سقط عقد لعائشة فاحتبسوا على طلبه ، فنزلت آية التيمم ، ثم ساق حديث الطبراني المتقدم وقال : هذا يدل على أن قصة العقد التي نزل التيمم لأجلها بعد هذه الغزوة ، وهو الظاهر ، ولكن فيها كانت قصة الإفك بسبب فقد العقد والتماسه ، فالتبس على بعضهم إحدى القصتين بالأخرى . انتهى .
وقد روي سبب نزول الآية المذكورة أيضاً عن عمار بن ياسر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : إن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عرّس بأولات الجيش ومعه عائشة فانقطع عقد لها من جَزْعِ ظَفَارِ فحبس الناس ابتغاءُ عقدها ذلك حتى أضاء الفجر وليس مع الناس ماء ، فتغيظ عليها أبو بكر ، وقال : حبست الناس وليس معهم ماء ! فأنزل الله تعالى على رسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم رخصة التطهُّر بالصعيد الطيب ، فقام المسلمون مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فضربوا بأيديهم إلى الأرض ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئاً ، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب ومن بطون أيديهم إلى الآباط ، ورواه أيضاً ابن جرير عن أبي اليقظان - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : كنا مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فهلك عقد لعائشة فأقام رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم حتى أضاء الصبح ، فتغيظ أبو بكر على عائشة ، فنزلت عليه الرخصة ، المسح بالصعيد ، فدخل أبو بكر فقال لها : إنك لمباركة ، نزل فيك رخصة ، فضربنا بأيدينا : ضربة لوجوهنا وضربة لأيدينا إلى المناكب والآباط .
وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه في سبب نزولها وجهاً آخر عن الأسلع بن شَرِيك - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : كنت أرحل ناقة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فأصابتني جنابة في ليلة باردة ، وأراد رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم الرحلة فكرهت أن أرحل ناقة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأنا جنب ، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض ، فأمرت رجلاً من الأنصار فرحلها ثم رضفت أحجاراً فأسخنت بها ماءً واغتسلت ، ثم لحقت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأصحابه فقال : يا أسلع ! مالي أرى رحلتك قد تغيرت ؟ قلت : يا رسول الله ! لم أرحلها ، رحلها رجل من الأنصار ، قال : ولم ؟ قلت : إني أصابتني جنابة فخشيت القرّ على نفسي ، فأمرته أن يرحلها ورضفت أحجاراً فأسخنت بها ماء فاغتسلت به ، فأنزل الله عز وجل : { لاَ تَقْرَبُواْ الصّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى } إلى قوله : { إِنّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } .
قال ابن كثير : وقد روي من وجه آخر ، عنه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلّواْ السّبِيلَ } [ 44 ]
وقوله تعالى :
{ أَلم تَرَ } من رؤية القلب ، وضمن معنى الانتهاء ، أي : ألم ينته علمك إليهم ، أو من رؤية البصر ، أو : ألم تنظر .
{ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ } أي : حظّاً من علم التوراة ، وهم أحبار اليهود ، قال العلامة أبو السعود : المراد بالذي أوتوه ، ما بيّن لهم فيها من الأحكام والعلوم التي من جملتها ما علموه من نعوت النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وحقية الإسلام ، والتعبير عنه بالنصيب ، المنبئ عن كونه حقاً من حقوقهم ، التي يجب مراعاتها والمحافظة عليها للإيذان بكمال ركاكة آرائهم حيث ضيعوه تضييعاً .
وتنوينه تفخيمي مؤيد للتشنيع عليهم ، والتعجيب من حالهم ، فالتعبير عنهم بالموصول للتنبيه بما في حيز الصلة على كمال شناعتهم ، والإشعار بمكان ما طوى ذكره في المعاملة المحكية عنهم من الهدى الذي هو أحد العوضين : { يَشْتَرُونَ الضّلاَلَةَ } وهو البقاء على اليهودية ، بعد وضوح الآيات لهم على صحة نبوة الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وأنه هو النبي المبشر به في التوراة والإنجيل ، أي : يأخذون الضلالة ويتركون ما أوتوه من الهدى ليشتروا ثمناً قليلاً من حطام الدنيا .
وإنما طوى ذكر المتروك لغاية ظهور الأمر ، لا سيما بعد الإشعار المذكور ، والتعبير عن ذلك بالاشتراء ، الذي هو عبارة عن استبدال السلعة بالثمن ، أي : أخذها بدلاً منه ، أخذاً ناشئاً عن الرغبة فيها والإعراض عنه - للإيذان بكمال رغبتهم في الضلالة ، التي حقها أن يعرض عنها كل الإعراض ، وإعراضهم عن الهداية التي يتنافس فيها المتنافسون ، وفيه من التسجيل على نهاية سخافة عقولهم ، وغاية ركاكة آرائهم - ما لا يخفى - حيث صورت حالهم بصورة ما لا يكاد يتعاطاه أحد ممن له أدنى تمييز ، قاله أبو السعود : { وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلّواْ السّبِيلَ } أي : لا يكتفون بضلال أنفسهم بل يريدون بما فعلوا ، من كتمان نعوته صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، أن تضلوا أيها المؤمنون سبيل الحق كما ضلوا ، ويودون لو تكفرون بما أنزل عليكم من الهدى والعلم النافع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللّهُ أَعْلم بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيراً } [ 45 ]
{ وَاللّهُ أَعْلم } أي : منكم .
{ بِأَعْدَائِكُمْ } أي : وقد أخبركم بعداوتهم لكم ، وما يريدون بكم ، فاحذروهم ، ولا تستنصحوهم في أموركم ، ولا تستشيروهم .
{ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيّا } يلي أموركم .
{ وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيراً } ينصركم ، أي : فثقوا بولايته ونصرته دونهم ، ولا تتولوا غيره ، أو : ولا تبالوا بهم وبما يسومونكم من السوء ، فإنه تعالى يفكيكم مكرهم وشرهم ، ففيه وعد ووعيد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ يُحَرّفُونَ الْكَلم عَن مّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدّينِ وَلَوْ أَنّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً } [ 46 ]
{ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ } بيان للموصول وهو : { الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ } فإن متناول لأهل الكتابين ، وقد وسط بينهما ما وسط لمزيد الاعتناء ببيان محل التشنيع والتعجيب والمسارعة إلى تنفير المؤمنين منهم ، وتحذيرهم عن مخالطتهم ، والاهتمام بحملهم على الثقة بالله عز وجل ، والاكتفاء بولايته ونصرته .
وقوله تعالى : { يُحَرّفُونَ الْكَلم عَن مّوَاضِعِهِ } هو وما عطف عليه بيان لاشترائهم بالمذكور ، وتفصيل لفنون ضلالهم ، فقد روعيت في النظم الكريم طريقة التفسير بعد الإبهام ، والتفصيل إثر الإجمال ، روماً لزيادة تقرير يقتضيه الحال ، أفاده أبو السعود .
قال الإمام ابن كثير : قوله : { يُحَرّفُونَ الْكَلم عَن مّوَاضِعِهِ } أي : يتناولونه على غير تأويله ، ويفسرونه بغير مراد الله عز وجل ، قصداً منهم وافتراء .
وقال العلامة الرازيّ : في كيفية التحريف وجوه :
أحدها : إنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر .
ثم قال : والثاني : أن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ من معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية ، كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا ، بالآيات المخالفة لمذاهبهم ، وهذا هو الأصح .
والثالث : أنهم كانوا يدخلون على النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به ، فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه . انتهى .
وقال الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى في " إغاثة اللهفان " : قد اختلف في التوراة التي بأيديهم ، هل هي مبدلة أم التبديل وقع في التأويل دون التنزيل ؟ على ثلاثة أقوال :
قالت طائفة : كلها أو أكثرها مبدل ، وغلا بعضهم حتى قال : يجوز الاستجمار بها .
وقالت طائفة من أئمة الحديث والفقه الكلام : إنما وقع التبديل في التأويل .
قال البخاريّ في " صحيحه " : يحرفون يزيولون ، وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله ، ولكنهم يتأولونه على غير تأويله ، وهو اختيار الرازيّ أيضاً .
وسمعت شيخنا يقول : وقع النزاع بين الفضلاء ، فأجاز هذا المذهب ووهّى غيره ، فأنكر عليه ، فأظهر خمسة عشر نقلاً به ، ومن حجة هؤلاء ، أن التوراة قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها ، وانتشرت جنوباً وشمالاً ، ولا يعلم عدد نسخها إلا الله ، فيمتنع التواطؤ على التبديل والتغيير في جميع تلك النسخ ، حتى لا تبقى في الأرض نسخة إلا مبدلة ، وهذا مما يحيله العقل ، قالوا : وقد قال الله لنبيه : { قُلْ فَأْتُوا بِالتّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ آل عِمْرَان : من الآية 93 ] قالوا : وقد اتفقوا على ترك فريضة الرجم ، ولم يمكنهم تغييرها من التوراة ، ولذا لما اقرؤوها على النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وضع القارئ يده على آية الرجم ، فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك فرفعها فإذا هي تلوح تحتها ، وتوسطت طائفة فقالوا : قد زيد فيها وغُيَّر أشياء يسيرة جداً ، واختاره شيخنا في " الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح " قال : وهذا كلما في التوراة عندهم : إن الله سبحانه قال لإبراهيم : اذبح ابنك بكرك أو وحيدك ، إسحاق ، ثم قال : قلت والزيادة باطلة من وجوه عشرة ، ثم ساقها فارجع إليه ، وقد نقلها عنه هنا الإمام صديق خان ، فانظره في تفسيره " فتح الرحمن " .
لطيفة :
قال الزمخشريّ : فإن قلت : كيف قيل ههنا : { عَن مّوَاضِعِهِ } وفي المائدة : { من بعض مواضعه } ؟ قلت : أما : { عَن مّوَاضِعِهِ } فعلى ما فسرنا من إزالته عن موضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها ، بما اقتضت شهواتهم من إبدال غير مكانه ، وأما : { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } فالمعنى أنه كانت له مواضع ، هو قَمِِنٌ بأن يكون فيها ، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقاره ، والمعنيان متقاربان .
وقال الرازيّ : ذكر الله تعالى ههنا : { عَن مّوَاضِعِهِ } وفي المائدة : { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } والفرق : إنا إذا فسرنا التحريف بالتأويلات الفاسدة لتلك النصوص ، وليس فيه بيان أنهم يخرجون تلك اللفظة من الكتاب ، وأما الآية المذكورة في سورة المائدة ، فهي دالة على أنهم جمعوا بين الأمرين ، فكانوا يذكرون التأويلات الفاسدة وكانوا يخرجون اللفظ أيضاً من الكتاب ، فقوله : { يُحَرّفُونَ الْكَلم } إشارة إلى التأويل الباطل ، وقوله : { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } إشارة إلى إخراجه عن الكتاب .
وقال الناصر في " الانتصاف " : الظاهر أن الكلم المحرف إنما أريد به ، في هذه الصورة مثل : { غَيْرَ مُسْمَعٍٍ } و : { رَاعِنَا } ولم يقصد ههنا تبديل الأحكام ، وتوسطها بين الكلمتين بين قوله : { يُحَرّفُونَ } ويبين قوله : { لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ } والمراد أيضاً تحريف مشاهد بين على أن المحرف هما وأمثالهما ، وأما في سورة المائدة فالظاهر ، والله أعلم ، أن المراد فيها بـ : { الْكَلم } الأحكام ، وتحريفها وتبديلها ، كتبديلهم الرجم بالجلد ، ألا تراه عقبه بقوله : { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لم تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا } [ المائدة : من الآية 41 ] ؟ ولاختلاف المراد بالكلم في السورتين ، قيل في سورة المائدة : يحرفون الكلم من بعد مواضعه ، أي : ينقلونه عن الموضع الذي وضعه الله فيه ، فصار وطنه ومستقره ، إلى غير الموضع ، فبقي كالغريب المتأسف عليه الذي يقال فيه هذا غريب من بعد مواضعه ومقارّه ، ولا يوجد هذا المعنى في مثل : { رَاعِنَا } و : { غَيْرَ مُسْمَعٍٍ } وإن وجد على بعد فليس الوضع اللغوي مما يعبأ بانتقاله عن موضعه كالوضع الشرعي ، ولولا اشتمال هذا النقل على الهزء والسخرية لما عظم أمره ، فلذلك جاء هنا : { يُحَرّفُونَ الْكَلم عَن مّوَاضِعِهِ } غير مقرون ما قرن به الأول من صورة التأسف ، والله أعلم . انتهى .
وقال العلامة أبو السعود : والمراد بالتحريف ههنا ، إما ما في التوراة خاصة وإما ما هو أعم منه ، ومما سيحكى عنهم من الكلمات المعهودة الصادرة عنهم في أثناء المجاورة مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ولا مساغ لإرادة تلك الكلمات خاصة بأن يجعل عطف قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } وما بعده ، على ما قبله عطفاً تفسيرياً ، لأنه يستدعي اختصاص حكم الشرطية الآتية وما بعدها بهن من غير تعرض لتحريفهم التوراة ، مع أنه معظم جناياتهم المعدودة فقولهم : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } ينبغي أن يجري على إطلاقه من غير تقييد بزمان أو مكان ولا تخصيص بمادة دون مادة ، بل وأن يحمل على ما هو أعم من القول الحقيقي ومما يترجم عنه عنادهم ومكابرتهم ، أي : يقول في كل أمر مخالف لأهوائهم الفاسدة سواء كان بمحضر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أو لا ، بلسان المقال أو الحال : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } عناداً أو تحقيقاً للمخالفة . انتهى .
قال ابن كثير : وَيَقُولُونَ : { سَمِعْنَا } أي : سَمِعْنَا مَا قُلْته يَا مُحَمَّد وَلَا نُطِيعك فِيهِ ، هَكَذَا فَسَّرَهُ مُجَاهِد وَابْن زَيْد وَهُوَ الْمُرَاد ، وَهَذَا أَبْلَغ فِي كُفْرهمْ وَعِنَادهمْ وَأَنَّهُمْ يَتَوَلَّوْنَ عَنْ كِتَاب اللَّه بَعْدَمَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِثْم وَالْعُقُوبَة .
{ وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍٍ } عطف على : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } داخل تحت القول أي : ويقولون ذلك في أثناء مخاطبته عليه الصلاة والسلام خاصة ، وهو كلام ذو وجهين محتمل للشر ، بأن يحمل على معنى : { اسْمَعُ } حال كونك غير مسمع كلاماً أصلاً ، بصمم أو موت ، أي : مدعواً عليك بلا سمعت ، أو غير مسمع كلاماً ترضاه ، وللخير بأن يحمل على : اسمع منا غير مسمع مكروهاً ، كانوا يخاطبون به النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم استهزاء به ( عليهم اللعنة ) مظهرين له إرادة المعنى الأخير وهم مضمرون المعنى الأول مطمئنون به : { وَرَاعِنَا } عطف على ما قبله ، أي : ويقولون راعناً في أثناء خطابهم له صَلّى اللهُ عليّه وسلّم هذا أيضاً ، وهي كلمة ذات وجهين أيضاً محتملة للخير بحملها على معنى ارقبنا وانظرنا نكلمك ، وللشر بحملها على شبه كلمة عبرانية كانوا يتسابّون بها ، أو على السب بالرعونة أي : الحمق ، وبالجملة فكانوا ، سخرية بالدين وهزؤاً برسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، يكلمونه بكلام محتمل ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون به التوقير والإكرام : { لَيّا بِأَلْسِنَتِهِمْ } أي : فتلاً بها وصرفاً للكلام من وجه إلى وجه وتحريفها ، أي : يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل حيث يضعون : { رَاعِنَا } موضع : { انظُرْنَا } و : { غَيْرَ مُسْمَعٍٍ } موضع ( لا أسمعت مكروهاً ) أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرون من التوقير نفاقاً ، فإن قلت : كيف جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد ما صرحوا وقالوا : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } ؟ قلت : جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء ، ويجوز أن يقولوه فيما بينهم ويجوز أن لا ينطقوا بذلك ولكنهم لما لم يؤمنوا جعلوا كأنهم نطقوا به ، كذا في الكشاف .
وأصل : { لَيّاً } لوياً لأنه من لويت أدغمت الواو في الياء لسبقها بالسكون ، ومثله ( الطيّ ) .
{ وَطَعْناً فِي الدّينِ } أي : قدحاً فيه بالاستهزاء والسخرية وانتصابهما على العلّية لـ : { يَقُولُونَ } باعتبار تعلقه بالقولين الأخيرين ، أي : يقولون ذلك لصرف الكلام عن وجهه إلى السب والطعن في الدين ، أو على الحالية ، أي : لاوين وطاعنين في الدين ، أفاده أبو السعود .
{ وَلَوْ أَنّهُمْ قَالُواْ } أي : عندما سمعوا ما يتلى عليهم من أوامره تعالى : { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } أي : بدل قولهم : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } والقول هنا كسابقه أعم من أن يكون بلسان المقال أو بلسان الحال : { وَاسْمَعْ } أي : لو قالوا عند مخاطبة النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بدل قولهم : { اسْمَعُ } فقط بلا زيادة : { غَيْرَ مُسْمَعٍٍ } المحتمل للشر : { وَانظُرْنَا } يعني بدل قولهم : { رَاعِنَا } المحتمل للمعنى الفاسد كما سلف : { لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ وَأَقْوَمَ } في الدنيا بحقن دمائهم وعلو رتبتهم بإحاطة الكتب السماوية ، وفي الآخرة بضعف الثواب ، أفاده المهايميّ .
قال أبو السعود : وصيغة التفضيل إما على بابها واعتبار أصل الفضل في المفضل عليه بناء على اعتقادهم ، أو بطريق التهكم ، وإما بمعنى اسم الفاعل : { وَلَكِن لّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ } أي : ولكن لم يقولوا ذلك واستمروا على كفرهم فطردهم الله عن رحمته وأبعدهم عن الهدى ، بسبب كفرهم : { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً } منصوب على الاستثناء من : { لّعَنَهُمُ } أي : ولكن لعنهم الله إلا فريقاً قليلاً منهم ، آمنوا فلم يلعنوا ، أو على الوصفية لمصدر محذوف ، أي : إلا إيماناً قليلاً أي : ضعيفاً ركيكاً لا يعبأ به ، فإنهم كانوا يؤمنون بالله والتوراة وموسى ، ويكفرونه ببقية المرسلين وكتبهم المنزلة ، ورجح أبو عليّ الفارسي هذا ، قال : لأن : { قَلِيلاً } لفظ مفرد : ولو أريد به ( ناس ) لُجمِعَ نحو قوله : { إِنّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } [ الشعراء : 54 ] ، ويمكن أن يجاب عنه بأنه قد جاء فعيل مفرداً ، والمراد به الجمع قال تعالى : { وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } [ النساء : من الآية 69 ] ، وقال : { وَلا يَسْأَلُ حَميمٌ حَميماً } [ المعارج : 10 ] يبصرونهم ، أفاده الرازيّ ، وقد جوز على هذا أن يراد بالقلة العدم بالكلية ، كقوله :
~قليل التشكي للمهم يصيبه كثير الهوى شتى النوى والمسالك
أي هو كثير الهم مختلف الوجوه والطرق لا يقف أمله على فن واحد بل يتجاوزه إلى فنون مختلفة ، صبور على النوائب لا يكاد يتشكى منها ، فاستعمل لفظ ( قَليِل ) وأراد به نفي الكل ، أو منصوب على الاستثناء من فاعل ( لا يؤمنون ) أي : فلا يؤمن منهم إلا نفر قليل ، وأما قول الخفاجيّ : كان الوجه فيه الرفع على البدل لأنه من كلام غير موجب .
وأبي السعود : بأنه فيه نسبة القراء إلى الاتفاق على غير المختار - فمردود بأن النصب عربيّ جيد ، وقد قرئ به في السبع في ( قَلِيلٌ ) من قوله تعالى : { مَا فَعَلُوهُ إِلّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ } [ النساء : من الآية 66 ] ، وفي ( امرأتك ) من قوله تعالى : { وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلّا امْرَأَتَكَ } [ هود : من الآية 81 ] ، كما قاله ابن هشام في التوضيح .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزّلْنَا مُصَدّقاً لما مَعَكُم مّن قَبْلِ أَن نّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنّا أَصْحَابَ السّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً } [ 47 ]
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزّلْنَا } يعني القرآن : { مُصَدّقاً لما مَعَكُم } أي : موافقاً للتوراة : { مّن قَبْلِ أَن نّطْمِسَ وُجُوهاً } أي : نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم ، وقال العوفيّ عن ابن عباس : طمسها أن تعمى .
{ فَنَرُدّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } أي : فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الأقفاء مطموسة مثلها جزاء على الكفر ، فالفاء للتسبيب ، أو ننكسها بعد الطمس فنردها إلى موضع الأقفاء والأقفاء إلى موضعها ، وقد اكتفى بذكر أشدهما ، فالفاء للتعقيب .
قال الرازيّ : وهذا المعنى إنما جعله الله عقوبة لما فيه من التشويه في الخلقة والمثلة والفضيحة ، لأن عند ذلك يعظم الغم والحسرة .
{ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنّا أَصْحَابَ السّبْتِ } أي : أو نفعل بهم أبلغ من ذلك ، وهو أن نطردهم عن الْإِنْسَاْنية بالمسخ الكلي جزاء على اعتدائهم بترك الإيمان ، كما أخزينا به أوائلهم أصحاب السبت جزاء على اعتدائهم على السبت بالحيلة على الاصطياد ، فمسخناهم قردةً .
{ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ } أي : ما أمر به : { مَفْعُولاً } أي : نافذاً كائناً لا محالة ، هذا وفي الآية تأويل آخر ، وهو أن المراد من طمس الوجوه مجازه ، وهو صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبيل الضلالة ، يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم .
قال ابن كثير : وهذا كما قال بعضهم في قوله تعالى : { إِنّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ يس : 8 - 9 ] : أي : مثل هذا سوء ضربه الله لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى ، قال مجاهد : { مّن قَبْلِ أَن نّطْمِسَ وُجُوهاً } يقول : عن صراط الحق .
{ فَنَرُدّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } أي : في الضلال .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عباس والحسن نحو هذا .
قال السديّ : { فَنَرُدّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } : فنمنعها عن الحق ، نرجعها كفاراً .
قال الرازيّ : المقصود على هذا بيان إلقائها في أنواع الخذلان وظلمات الضلالات ، ونظيره قوله تعالى : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لما يُحْيِيكُمْ وَاعْلمواْ أَنّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ المرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [ الأنفال : 24 ] ، تحقيق القول فيه أن الإِنسَاْن في مبدأ خلقته ألف هذا العالم المحسوس ، ثم إنه عند الفكر والعبودية كأنه يسافر من عالم المحسوسات إلى عالم المعقولات ، فقدامه عالم المعقولات ، ووراءه عالم المحسوسات ، فالمخذول هو الذي يرد عن قدامه إلى خلفه ، كما قال تعالى في صفتهم : { نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ } [ السجدة : 12 ] .
ثم قال الرازيّ : قال عبد الرحمن بن زيد : هذا الوعيد قد لحق اليهود ومضى ، وتأول ذلك في إجلاء قريظة والنضير إلى الشام ، فرد الله وجوههم على أدبارهم حين عادوا إلى أذرعات وأريحاء ، من أرض الشام ، كما جاءوا منها و ( طمس الوجوه ) على هذا التأويل يحتمل معنيين :
أحدهما : تقبيح صورتهم ، يقال : طمس الله صورته ، كقوله : قبح الله وجهه ، والثاني - إزالة آثارهم عن بلاد العرب ومحو أحوالهم عنها ، وثمة تأويل آخر ، وهو : أن المراد بالوجوه الوجهاء ، على أن الطمس بمعنى مطلق التغيير ، أي : من قبل أن نغير أحوال وجهائهم ، فنسلب إقبالهم ووجاهتهم ، ونكسوهم صغاراً وإدباراً .
وقال بعضهم : الأظهر حمل قوله : { أَوْ نَلْعَنَهُمْ } الخ على اللعن المتعارف ، قال : ألا ترى إلى قوله تعالى : { قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ } [ المائدة : 60 ] ، ففصل تعالى بين اللعن وبين مسخهم قردة وخنازير .
وأقول : لا يخفى أن جميع ما ذكر من التأويلات ، غير الأول ، لا يساعده مقام تشديد الوعيد ، وتعميم التهديد ، فإن المتبادر من اللفظ الحقيقة ، ولا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذر إرادتها ، ولا تعذر هنا ، كما أن المتبادر من اللعن ، المشبه بلعن أصحاب السبت ، هو المسخ ، وهو الذي تقتضيه بلاغة التنزيل ، إذ فيه الترقي إلى الوعيد الأفظع ، ولا ننكر أن تكون هذه التأويلات مما يشمله لفظ الآية ، وإنما البحث في دعوى إرادتها دون سابقها ، فالحق أن المتبادر من النظم الكريم هو الأول ، لأنه أدخل في الزجر ، ويؤيده ما روي ، أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ولفظه بعد إسناده : عَنْ أَبِي إِدْرِيس عَائِذ اللَّه الْخَوْلَانِيّ قَالَ : كَانَ أَبُو مُسْلِم الْجَلِيلِيّ مَعَلمْ كَعْب ، وَكَانَ يَلُومهُ فِي إِبْطَائِهِ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ فَبَعَثَهُ إِلَيْهِ يَنْظُر أَهُوَ هُوَ ؟ قَالَ كَعْب : فَرَكِبْت حَتَّى أَتَيْت الْمَدِينَة ، فَإِذَا تَالٍ يَقْرَأ الْقُرْآن يَقُول : { يَا أَيّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْل أَنْ نَطْمِس وُجُوهاً فَنَرُدّهَا عَلَى أَدْبَارهَا } [ فَبَادَرْت الْمَاء ( الزيادة عند ابن كثير ) ] فَاغْتَسَلْت ، وَإِنِّي لَأَمَسّ وَجْهِي مَخَافَة أَنْ أَطْمِس ، ثُمَّ أَسْلَمْت .
وروى ، من غير طريق ، نحوه أيضاً .
فإن قيل : قرينة المجاز عدم وقوع المتوعد به ، فالجواب : أن عدم وقوعه لا يعين إرادة المجاز ، إذ ليس في الآية دلالة على تحتم وقوعه إن لم يؤمنوا ، ولو فهم منها هذا فهماً أولياً لكان إيمانهم بعدها إيمان إلجاء واضطرار ، وهو ينافي التكليف الشرعي ، إذا لم تجر سنته تعالى بهذا ، بل النظم الكريم في هذا المقام محتمل ابتداءً للقطع بوقوعه المتوعد به ، ولوقوعه معلقاً بأمره تعالى ومشيئته بذلك ، وهو المراد ، كما ينبىء عنه قوله تعالى : { وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً } [ الأحزاب : من الآية 37 ] ، أي : ما يأمر به ، ويريد وقوعه ، وإذا كان الوعيد منوطاً بأمره سبحانه فله أن يمضيه على حقيقته وله أن يصرفه لما هو أعلم به ، إلا أن ورود نظم الآية بهذا الخطاب المتبادر في الوقوع غير المعلق ، ليكون أدخل في الترهيب ، ومزجرة عن مخالفة الأمر ، هكذا ظهر لنا الآن ، وهو أقرب مما نحاه المفسرون هنا من أن العقاب منتظر ، أو أنه مشروط بعدم الإيمان ، إلى غير ذلك ، فقد زيفها جميعها العلامة أبو السعود ، ثم اختار أن المراد من الوعيد الأخروي ، قال : لأنه لم يتضح وقوعه ، وهذا فيه بعدٌ أيضاً ، لنبوّ مثل هذا الخطاب عن إرادة الوعيد الأخروي ، لا سيما والجملة الثانية التي هددوا بها ، أعني لعنهم كأصحاب السبت ، كان عقابها دنيوياً ، فالوجه ما قررناه ، وما أشبه هذه الآية ، في وعيديها ، بآية يس ، أعني قوله تعالى : { وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصّرَاطَ فَأَنّى يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لمسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلا يَرْجِعُونَ } [ يس : 66 - 67 ] ، بل هذه عندي تفسير لتلك ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، فبرح الخفاء والحمد لله .
لطيفة :
الضمير في ( نلعنهم ) لأصحاب الوجوه ، أو ( للذين ) على طريقة الالتفات أو ( للوجوه ) إن أريد بها الوجهاء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً } [ 48 ]
{ إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } قال أبو السعود : كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله من الوعيد ، وتأكيد وجوب الامتثال بالأمر من الإيمان ، ببيان استحالة المغفرة بدونه ، فإنهم كانوا يفعلون ما يفعلون من التحريف ويطمعون في المغفرة ، كما في قوله تعالى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ } [ الأعراف : من الآية 169 ] : { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى } أي : على التحريف ، { وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } والمراد بالشرك مطلق الكفر المنتظم لكفر اليهود انتظاماً أولياً ، فإن الشرع قد نص على إشراك أهل الكتاب قاطبةً ، وقضى بخلود أصناف الكفرة في النار ، ونزوله في حق اليهود ، كما قال مقاتل ، هو الأنسب بسياق النظم الكريم ، وسياقه لا يقتضي اختصاصه بكفرهم ، بل يكفي اندراجه فيه قطعاً ، بل لا وجه له أصلاً ، لاقتضائه جواز مغفرة ما دون كفرهم في الشدة من أنواع الكفر ، أي : لا يغفر الكفر لمن اتصف به بلا توبة وإيمان ، لأن الحكمة التشريعية مقتضية لسد باب الكفر ، وجواز مغفرته بلا إيمان مما يؤدي إلى فتحه ، ولأن ظلمات الكفر والمعاصي إنما يسترها نور الإيمان ، فمن لم يكن له إيمان لم يغفر له شيء من الكفر والمعاصي . انتهى .
قال الشهاب : الشك يكون بمعنى اعتقاد أن لله شريكاً ، وبمعنى الكفر مطلقاً ، وهو المراد هنا ، وقد صرح به في قوله تعالى في سورة ( البينة ) بقوله : { إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالمشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا } [ البينة : من الآية 6 ] ، فلا يبقى شبهة في عمومه . انتهى .
وقال الرازيّ : هذه الآية دالة على أن اليهودي يسمى مشركاً ، في عرف الشرع ، ويدل عليه وجهان :
الأول : أن الآية دالة على ما سوى الشرك مغفور ، فلو كانت اليهودية مغايرة للشرك لوجب أن تكون مغفورة بحكم هذه الآية ، وبالإجماع هي غير مغفرة ، فدل على أنها داخلة تحت اسم الشرك .
الثاني : إن اتصال هذه الآية بما قبلها ، إنما كان لأنها تتضمن تهديد اليهود ، فلولا أن اليهودية داخلة تحت اسم الشرك ، وإلا لم يكن الأمر كذلك ، فإن قيل : قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ } إلى قوله : { وَالّذِينَ أَشْرَكُوا } [ المائدة : من الآية 82 ] ، فعطف المشرك على اليهودي ، وذلك يقتضي المغايرة ، قلنا : المغايرة حاصلة بسبب المفهوم اللغوي ، والاتحاد حاصل بسبب المفهوم الشرعي ، ولا بد من المصير إلا ما ذكرناه ، دفعاً للتناقض . انتهى .
لطيفة :
قال أبو البقاء : الشرك أنواع : شرك الاستقلال وهو إثبات إلهين مستقلين ، كشرك المجوس ، وشرك التبعيض ، وهو تركيب الإله من آلهة كشرك النصارى ، وشرك التقريب ، هو عبادة غير الله ليقرب إلى الله زلفى ، كشرك متقدمي الجاهلية ، وشرك التقليد ، وهو عبادة غير الله تبعاً للغير ، كشرك متأخري الجاهلية ، وشرك الأسباب ، وهو إسناد التأثير للأسباب العادية ، كشرك الفلاسفة والطبائعيين ومن تبعهم على ذلك ، وشرك الأغراض ، هو العمل لغير الله ، فحكم الأربعة الأولى الكفر بإجماع ، وحكم السادس المعصية من غير كفر بإجماع ، وحكم الخامس التفصيل ، فمن قال في الأسباب العادية إنها تؤثر بطبعها فقد حكى الإجماع على كفره ، ومن قال إنها تؤثر بقوة أودعها الله فيها فهو فاسق . انتهى .
{ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } أي : ما دون الشرك من المعاصي ، صغيرة أو كبيرة .
{ لمن يَشَاء } تفضلاً منه وإحساناً ، قال ابن جرير : وقد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله عز وجل ، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه عليه ، ما لم تكن شركاً بالله عز وجل ، وظاهره أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلاً منه ورحمة ، وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة ، وقيد ذلك المعتزلة بالتوبة ، وقد تقدم قوله تعالى : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ } [ النساء : من الآية 31 ] ، وهي تدل على أن الله سبحانه يغفر سيئات من اجتنب الكبائر ، فيكون مجتنب الكبائر ممن قد شاء الله غفران سيئاته ، ولذا قال الرازيّ هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على العفو عن أصحاب الكبائر ، ثم جود وجوه الاستدلال ، ومنها : أن ما سوى الشرك يدخل فيه الكبيرة قبل التوبة ، ومنها أن غفران البيرة بعد التوبة وغفران الصغيرة مقطوع به وغير معلق على المشيئة ، فوجب أن يكون الغفران المذكور ، في هذه الآية ، هو غفران الكبيرة قبل التوبة ، وهو المطلوب .
وأوّل الزمخشريّ هذه الآية على مذهبه : بأن الفعل المنفي والمثبت جميعاً ، موجهان إلى قوله تعالى : { لمنْ يَشَاء } على قاعدة التنازع ، كأنه قيل : إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك ، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك ، على أن المراد بالأول من لم يتب وبالثاني من تاب ، قال : ونظيره قولك : إن الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء ، تريد لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله ، ويبذل القنطار لمن يستأهله . انتهى .
قال ناصر الدين في " الانتصاف " : عقيدة أهل السنة أن الشرك غير مغفور البتة ، وما دونه من الكبائر مغفور لمن يشاء الله أن يغفره له ، هذا مع عدم التوبة ، وأما مع التوبة فكلاهما مغفور ، والآية إنما وردت فيمن لم يتب ولم يذكر فيها توبة كما ترى ، فلذلك أطلق الله تعالى نفي مغفرة الشرك وأثبت مغفرة ما دونه مقرونة بالمشيئة ، كما ترى ، فهذا وجه انطباق الآية على عقيدة أهل السنة ، وأما القدرية فإنهم يظنون التسوية بين الشرك وبين ما دونه من الكبائر ، في أن كل واحد من النوعين لا يغفر بدون التوبة ، ولا شاء الله أن يغفرهما إلا للتائبين ، فإذا عرض الزمخشريّ هذا المعتقد على هذه الآية ردته ونبت عنه ، إذ المغفرة منفية فيها عن الشرك وثابتة لما دونه مقرونة بالمشيئة فأما أن يكون المراد فيهما من لم يتب ، فلا وجه للتفضيل بينهما بتعليق المغفرة في أحدهما بالمشيئة وتعليقها بالآخر مطلقاً ، إذ هما سيّان في استحالة المغفرة ، وأما أن يكون المراد فيهما التائب قد قال في الشرك إنه .
{ لاَ يَغْفِرُ } والتائب من الشرك مغفور له ، وعند ذلك أخذ الزمخشريّ يقطع أحدهما عن الآخر ، فيجعل المراد مع الشرك عدم التوبة ومع الكبائر التوبة ، حتى تنزل الآية على وفق معتقده فيحملها أمرين لا تحمل واحداً منهما :
أحدهما : إضافة التوبة إلى المشيئة وهي غير مذكورة ولا دليل عليها فيما ذكر ، وأيضاً لو كانت مرادة لكانت هي السبب الموجب للمغفرة على زعمهم عقلاً ، ولا يمكن تعلق المشيئة بخلافها على ظنهم في العقل ، فكيف يليق السكوت عن ذكر ما هو العمدة والموجب ، وذكر ما لا مدخل له على هذا المعتقد الرديء ؟
الثاني : أنه بعد تقريره التوبة احتكم فقدرها على أحد القسمين دون الآخر ، وما هذا إلا من جعل القرآن تبعاً للرأي ، نعوذ بالله من ذلك .
وأما القدرية فهم بهذا المعتقد يقع عليه بهم المثل السائر ( السيد يعطي والعبد يمنع ) ، لأن الله تعالى يصرح كرمه بالمغفرة للمصرّ على الكبائر ، إن شاء ، وهم يدفعون في وجه هذا التصريح ويحيلون المغفرة بناء على قاعدة الأصلح والصلاح ، التي هي بالفساد أجدر وأحق . انتهى .
فائدة :
وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة :
الأول : عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < الدَّوَاوِينُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثَلاَثَةٌ : دِيوَانٌ لاَ يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئاً ، وَدِيوَانٌ لاَ يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئاً ، وَدِيوَانٌ لاَ يَغْفِرُهُ اللَّهُ .
فَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لاَ يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَالشِّرْكُ بِاللَّهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } الآية ، وقال : { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ } [ المائدة : من الآية 72 ] .
وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لاَ يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئاً فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ تَرَكَهُ ، أَوْ صَلاَةٍ تَرَكَهَا ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَغْفِرُ ذَلِكَ وَيَتَجَاوَزُ إِنْ شَاءَ .
وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لاَ يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئاً ، فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً الْقِصَاصُ لاَ مَحَالَةَ > . رواه الإمام أحمد ، وقد تفرد به .
الثاني : عن أنس بن مالك عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < الظُّلْمُ ثَلاثَةٌ : فَظُلْمٌ لا يَغْفِرُهُ الله ، وظُلْمٌ يَغْفِرُهُ الله ، وظُلْمٌ لا يَتْرُكُ الله منه شيئاً .
فأمَّا الظُّلْمُ الذي لا يَغْفِرُهُ الله ، فالشِّرْكُ ، وقالَ : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : من الآية 13 ] .
وأَمَّا الظُّلْمُ الذي يَغْفِرُهُ الله : فَظُلْمُ العِبَادِ لأنْفُسِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ .
وأَمَّا الظُّلْمُ الذي لا يَتْرُكُه ، فَظُلْمُ العِبَادِ بَعْضُهُمْ بَعْضاً حَتّى يَدِينَ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ > . رواه أبو بكر البزار في مسنده .
الثالث : عن مُعَاوِيَةَ قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : < كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ ، إِلاَّ الرَّجُلُ يَمُوتُ كَافِراً ، أَوِ الرَّجُلُ يَقْتُلُ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً > ، رواه الإمام أحمد والنسائي .
الرابع : عَنْ أَبَي ذَرٍّ : أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : < مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ ، إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ > .
قُلْتُ : وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ؟ قَال : < وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ > .
قُلْتُ : وإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ؟ قَالَ < وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ > . ثَلاَثاً .
ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ : < عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ > .
قَالَ فَخَرَجَ أَبُو ذَرٍّ وَهو يَجُرُّ إِزَارَهُ وَهُوَ يَقُولُ : وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ .
وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ بِهَذَا بَعْدُ وَيَقُولُ : وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ .
أخرجه الإمام أحمد والشيخان .
وفي رواية لهما عن أبي ذر : قال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < قال لي جبريل : بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ، قلت : يا جبريل ! وإن سرق وإن زنى ؟ قال : نعم قلت : وإن سرق وإن زنى ؟ قال : نعم ، قلت : وإن سرق وإن زنى ؟ قال : نعم ، وإن شرب الخمر > .
الخامس : عن جابر قال : جاء أعرابي إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقال : يا رسول الله ! ما الموجبتان ؟ قال : < مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً دَخَلَ الْجَنَّةَ . وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ به دَخَلَ النَّارَ > ، أخرجه مسلم ، وعبد بن حميد في مسنده .
السادس : عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً دَخَلَ الْجَنَّةَ > ، رواه الإمام أحمد .
السابع : عن ابن عباس عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < قال الله عز وجل : من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي > . رواه الطبراني .
الثامن : عن أنس قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجزه له ، ومن توعده على عملٍٍ عقاباً ، فهو فيه بالخيار > ، رواه البزار وأبو يعلى .
التاسع : عن ابن عمر ، قال : كنا ، معشر أصحاب النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، لا نشك في قاتل النفس ، وآكل مال اليتيم ، وشاهد الزور ، وقاطع الرحم ، حتى نزلت هذه الآية : { إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمن يَشَاء } فأمسكنا عن الشهادة ، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير .
وفي رواية لابن حاتم : فلما سمعناها كففنا عن الشهادة وأرجينا الأمور إلى الله عز وجل .
العاشر : عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال : ما في القرآن وأحب إلي من هذه الآية : { إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمن يَشَاء } رواه الترمذيّ وقال : حديث حسن غريب .
الحادي عشر : عن أنس - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : < قَالَ اللَّهُ تَعالى : يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِى .
يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِى .
يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئاً ، لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً > . رواه الترمذيّ وقال : حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
وروى نحوه الإمام أحمد عن أبي ذر ولفظه عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إن الله عز وجل يقول : يا عبدي ! ما عبدتني ورجوتني فإني غافر لك على ما كان فيك ، ويا عبدي ! إن لقيتني بقراب الأرض خطيئة ما لم تشرك بي ، لقيتك بقاربها مغفرة > .
والأحاديث في ذلك متوافرة ، ويكفي هذا المقدار .
{ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً } أي : افترى واختلق ، مرتكباً إثماً لا يغادر قدره ، ويستحقر دونه جميع الآثام ، فلا تتعلق به المغفرة قطعاً .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه " الجواب الكافي " : الشرك بالرب تعالى نوعان : شرك به في أسمائه وصفاته ، وجعل آلهة أخرى معه ، وشرك به في معاملته ، وهذا الثاني قد لا يوجب دخول النار ، وإن أحبط العمل الذي أشرك فيه مع الله غيره ، وهذا القسم أعظم أنواع الذنوب ، ويدخل فيه القول على الله بلا علم ، في خلقه وأمره ، فمن كان من أهل هذه الذنوب ، فقد نازع الله ، سبحانه وتعالى ، ربوبيته وملكه ، وجعل له نداً ، وهذا أعظم الذنوب عند الله ، ولا ينفع معه عمل .
وقال بعد ذلك : وكشف الغطاء عن هذه المسألة أن يقال : إن الله عز وجل أرسل رسله وأنزل كتبه وخلق السماوات والأرض ، ليعرف ويُعبد ويُوحد ويكون الدين كله له ، والطاعة كلها له ، والدعوة له ، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالْإِنسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، وقال تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلّا بِالْحَقّ } [ الحجر : من الآية 85 ] وقال تعالى : { اللّهُ الّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنّ يَتَنَزّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنّ لِتَعْلموا أَنّ اللّهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍٍ قَدِيرٌ وَأَنّ اللّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلّ شَيْءٍٍ عِلماً } [ الطلاق : 12 ] ، وقال تعالى : { جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنّاسِ وَالشّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلموا أَنّ اللّهَ يَعْلم مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍٍ عَلِيمٌ } [ المائدة : 97 ] ، فأخبر سبحانه أن القصد بالخلق والأمر أن يعرف بأسمائه وصفاته ، ويعبد وحده لا يشرك به ، وأن يقوم الناس بالقسط ، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض ، كما قال تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالميزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ } [ الحديد : من الآية 25 ] فأخبر سبحانه أنه أرسل رسله ، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط ، وهو العدل ، ومن أعظم القسط التوحيد ، بل هو رأس العدل وقوامه ، وإن الشرك ظلم عظم ، كما قال تعالى : { إِنّ الشّرْكَ لَظُلم عَظِيمٌ } [ لقمان : من الآية 13 ] ، فالشرك أظلم الظلم ، والتوحيد أعدل العدل ، فما كان أشد منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر ، وتفاوتها في درجاتها بحسب منافاتها له ، وما كان أشد موافقة لهذا المقصود ، فهو أوجب الواجبات وأفرض الطاعات ، فتأمل هذا الأصل حق التأمل واعتبر به تفاصيله ، تعرف به أحكم الحاكمين وأعلم العالمين ، فيما فرض على عباده وحرمه عليهم ، وتفاوت مراتب الطاعات والمعاصي ، فلما كان الشرك بالله منافياً بالذات لهذا المقصود ، وكان أكبر الكبائر على الإطلاق ، وحرم الله الجنة على كل مشرك ، وأباح دمه وماله لأهل التوحيد ، وأن يتخذوهم عبيداً لهم لما تركوا القيام بعبوديته ، وأبى الله سبحانه أن يقبل من مشرك عملاً ، أو يقبل فيه شفاعة ، أو يستجيب له في الآخرة دعوة ، أو يقيل له فيها عثرة - فإن المشرك أجهل الجاهلية بالله حيث جعل له من خلقه نداء وذلك غاية الجهل به ، كما أنه غاية الظلم منه ، وإن كان المشرك لم يظلم ربه وإنما ظلم نفسه .
ووقعت مسألة : وهي أن المشرك إنما قصده تعظيم جناب الرب تبارك وتعالى ، وأنه لعظمته لا ينبغي الدخول عليه إلا بالوسائط والشفعاء ، كحال الملوك ، فالمشرك لم يقصد الاستهانة بجناب الربوبية ، وإنما قصد تعظيمه .
وقال : إنما أعبد هذه الوسائط لتقربني وتدخلني عليه ، فهو المقصود ، وهذه وسائل وشفعاء ، فلم كان هذا القدر موجباً لسخطه وغضبه تبارك وتعالى ومخلداً في النار وموجباً لسفك دماء أصحابه واستباحة حريمهم وأموالهم ؟ وترتب على هذا سؤال آخر : وهو أنه هل يجوز أن يشرع الله سبحانه لعباده التقريب إليه بالشفعاء والوسائط ؟ فيكون تحريم هذا إنما استفيد من الشرع ، أم ذلك قبيح في الفطر والعقول ، يمتنع أن تأتي به شريعة ، بل جاءت بتقرير ما في الفطر والعقول من قبحه الذي هو أقبح من كل قبيح ؟ وما السبب في كونه لا يغفره من دون سائر الذنوب ؟ كما قال تعالى : { إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمن يَشَاء } فتأمل هذا السؤال ، واجمع قلبك وذهنك على جوابه ، ولا تستهونه فإن به يحصل الفرق بين المشركين والموحدين ، والعالمين بالله والجاهلين به ، وأهل الجنة وأهل النار .
فنقول ( وبالله التوفيق والتأييد ، ومنه نستمد المعونة والتسديد ، فإنه من يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له ، ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ) : الشرك شركان : شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله ، وشرك في عبادته ومعاملته ، وإن كان صحابه يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، والشرك الأول نوعان :
أحدهما : شرك التعطيل : وهو أقبح أنواع الشرك ، كشرك فرعون إذ قال : { وَمَا رَبّ الْعَالمينَ } [ الشعراء : من الآية 23 ] ؟ وقال تعالى مخبراً عنه أنه قال : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعليّ أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السّمَاوَاتِ فَأَطّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنّي لَأَظُنّهُ كَاذِباً } [ غافر : من الآية 37 ] ، فالشرك والتعطيل متلازمان ، فكل مشرك معطل وكل معطل مشرك ، لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل بل قد يكون المشرك مقراً بالخالق سبحانه وصفاته ، ولكن عطل حق التوحيد ، وأصل الشرك وقاعدته التي ترجع إليها هو التعطيل ، وهو ثلاثة أقسام : تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه ، وتعطيل الصانع سبحانه عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وصفاته وأفعاله ، وتعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد .
ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود ، الذين يقولون : ماثَمَّ خالق ومخلوق ، ولا ههنا شيئان ، بل الحق المنزه هو عين الخلق المشبه ، ومنه شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديته وإنه لم يكن معدوماً أصلاً ، بل لم يزل ولا يزال ، والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها ، يسمونها العقول والنفوس .
ومن هذا أشرك من عطل أسماء الرب تعالى وأوصافه وأفعاله من غلاة الجهمية والقرامطة ، فلم يثبتوا له اسماً ولا صفة ، بل جعلوا المخلوق أكمل منه ، إذ كمال الذات بأسمائها وصفاتها .
فصل
النوع الثاني : شرك من جعل معه إلهاً آخر ولم يعطل أسمائه وربوبيته وصفاته ، كشرك النصارى الذي جعلوه ثالث ثلاثة ، فجعلوا المسيح إلهاً وأمه إلهاً .
ومن هذا شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور وحوادث الشر إلى الظلمة .
ومن هذا شرك القدرية القائلين بأن الحيوان هو الذي يخلق أفعال نفسه ، وإنها تحدث بدون مشيئة الله وقدرته وإرادته ، ولهذا كانوا من أشباه المجوس .
ومن هذا شرك الذي حاج إبراهيم في ربه : { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّيَ الّذِي يُحْيِي وَيُميتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُميتُ } [ البقرة : من الآية 258 ] ، فهذا جعل نفسه نداً لله ، يحيي ويميت بزعمه ، كما يحيي الله ويميت ، فألزمه إبراهيم ، عليه السلام ورحمة الله وبركاته ، أن طرد قولك ، أن تقدر على الإتيان بالشمس من غير الجهة التي يأتي الله بها منها ، وليس هذا انتقالاً كما زعم بعض أهل الجدل ، بل إلزاماً على طرد الدليل إن كان حقاً .
ومن هذا شرك كثير ممن يشرك بالكواكب العلويات ويجعلها أرباباً مدبرة لأمر هذا العالم ، كما هو مذهب مشركي الصابئة وغيرهم .
ومن هذا شرك عَبَّاد الشمس وعباد النار وغيرهم .
ومن هؤلاء من يزعم أن معبوده هو الإله على الحقيقة .
ومنهم من يزعم أنه أكبر الآلهة .
ومنهم من يزعم أنه إله من حملة الآلهة ، وأنه إذا خصه بعبادته والتبتل إليه والانقطاع إليه ، أقبل إليه واغتنى به .
ومنهم من يزعم أنه معبودهم الأدنى يقربه إلى المعبود الذي هو فوقه ، والفوقاني يقربه إلى من هو فوقه ، حتى تقربه تلك الآلهة إلى الله سبحانه ، فتارة تكثر الوساطة وتارة تقل .
فصل
وأما الشرك في العبادة فهو أسهل من هذا وأخف أمراً ، فإنه يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلا الله ، وأنه لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع إلا الله ، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه ، ولكن لا يخلص لله في معاملته وعبوديته ، بل يعمل لحظ نفسه تارة وطلب الدنيا تارة ، ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارة ، فلله من عمله وسعيه نصيب ، ولنفسه وحظه وهواه نصيب ، وللشيطان نصيب ، وللخلق نصيب ، هذا حال أكثر الناس ، وهو الشرك الذي قال فيه النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فيما رواه ابن حبان في صحيحه : < الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل ، قالوا : وكيف ننجو منه ؟ يا رسول الله ! قال : قل : اللهم ! إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم ، وأستغفرك لما لا أعلم > .
فالرياء كله شرك ، قال تعالى : { قُلْ إِنّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيّ أَنّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَداً } [ الكهف : 110 ] .
أي كما أنه إله واحد ، لا إله سواه ، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده ، فكما تفرد بالإلهية ، يجب أن يفرد بالعبودية ، فالعمل الصالح هو الخالي من الرياء ، المقيد بالسنة ، وكان من دعاء عُمَر بن الخطاب - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : اللهم ! اجعل عملي كله صالحاً ، واجعله لوجهك خالصاً ، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً ، وهذا الشرك في العبادة يبطل العمل ، وقد يعاقب عليه إذا كان العمل واجباً ، فإنه ينزله منزلة من لم يعمله ، فيعاقب على ترك الأمر ، فإن الله سبحانه إنما أمر بعبادته خالصة قال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَاء } [ البينة : من الآية 5 ] .
فمن لم يخلص لله في عبادته لم يفعل ما أمر به ، بل الذي أتى به ، شيء غير المأمور به ، فلا يصح ولا يقبل منه ، ويقول الله تعالى : < أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري ، تركته وشركه > .
وهذا الشرك ينقسم إلى مغفور وغير مغفور ، وأكبر وأصغر ، والنوع الأول ينقسم إلى كبير وأكبر ، وليس شيء منه مغفوراً .
فمنه الشرك بالله في المحبة والتعظيم بأن يحب المخلوق كما يحب الله ، فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله ، وهو الشرك الذي قال سبحانه فيه : { وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْدَاداً } [ البقرة : من الآية 165 ] الآية .
وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم وقد جمعتهم الجحيم : { تَاللّهِ إِنْ كُنّا لَفِي ضَلالٍٍ مُبِينٍٍ } [ الشعراء : 97 ] : { إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ الْعَالمينَ } [ الشعراء : 97 - 98 ] ، ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق والزرق والإماتة والإحياء ، والملك والقدرة ، وإنما سووهم به في الحب والتأله والخضوع لهم والتذلل ، وهذا غاية الجهل والظلم ، فكيف يسوى من خلُق من التراب برب الأرباب ؟ وكيف يسوى العبيد بمالك الرقاب ؟ وكيف يسوى الفقير بالذات ، الضعيف بالذات ، العاجز بالذات ، المحتاج بالذات ، الذي ليس له من ذاته إلا العدم - بالغني بالذات ، القادر بالذات ، الذي غناه وقدرته وملكه وجوده وإحسانه وعلمه ورحمته ، وكماله المطلق التام من لوازم ذاته ؟ فأي ظلم أقبح من هذا ؟ وأي حكم أشد جوراً منه ؟ حيث عدل من لا عدل له بخلقه ، كما قال تعالى : { الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظّلماتِ وَالنّورَ ثُمّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] ، فعدل المشرك من خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور بمن لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال بذرة في السماوات ولا في الأرض ، فيا لك من عدل تضمن أكبر الظلم وأقبحه ! !
فصل
ويتبع هذا الشرك ، الشرك به سبحانه في الأقوال والأفعال والإرادات والنيات ، فالشرك في الأفعال كالسجود لغيره ، والطواف بغير بيته ، وحلق الرأس عبودية وخضوعاً لغيره ، وتقبيل الأحجار ، غير الحجر الأسود الذي هو يمين الله في الأرض ، أو تقبيل القبور واستلامها والسجود لها ، وقد لعن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلي فيها ، فكيف بمن اتخذ القبور أوثاناً يعبدوها من دون الله ، وفي الصحيحين عنه أنه قال : < لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ > .
وفي الصحيح عنه : < إن من شِرَارَ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُم السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَمَنْ يَتَّخِذُ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ > .
وفي الصحيح أيضاً عنه : < إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك > .
وفي مسند الإمام أحمد - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - وصحيح ابن حبان عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لعن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج > .
وقال : < اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد > .
وقال : < إن من كان قبلكم ، إذا مات فيهم الرجل الصالح ، بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة > .
فهذا حال من سجد لله في مسجد على قبر ، فكيف حال من سجد للقبر بنفسه ؟ وقد قال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < اللهم ! لا تجعل قبري وثناً يعبد > ، وقد حمى النبي جانب التوحيد أعظم حماية حتى نهى عن صلاة التطوع لله سبحانه عند طلوع الشمس وعند غروبها ، لئلا يكون ذريعة إلى التشبيه بعباد الشمس الذين يسجدون لها في هاتين الحالتين ، وسد الذريعة بأن منع الصلاة بعد العصر والصبح ، لاتصال هذين الوقتين بالوقتين اللذين يسجد المشركون فيهما للشمس .
وأما السجود لغير الله فقال : < لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلا لله > .
و ( لا ينبغي ) في كلام الله ورسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم - للذي هو في غاية الامتناع شرعاً ، كقوله تعالى : { وَمَا يَنْبَغِي لِلرّحْمَنِ أَنْ يَتّخِذَ وَلَداً } [ مريم : 92 ] ، وقوله : { وَمَا عَلمنَاهُ الشّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَه } [ يس : من الآية 69 ] ، وقوله : { وَمَا تَنَزّلَتْ بِهِ الشّيَاطِينُ } [ الشعراء : 210 ] : { وَمَا يَنْبَغِي لَهُم } [ الشعراء : من الآية 211 ] ، وقوله عن الملائكة : { مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ } [ الفرقان : من الآية 18 ] .
فصل
ومن الشرك به سبحانه الشرك به في اللفظ ، كالحلف بغيره ، كما رواه أحمد وأبو داود عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، أنه قال : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < مَنْ حَلَفَ بِشَيْءٍ دُونَ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ > . وصححه الحاكم وابن حبان .
ومن ذلك قول القائل للمخلوق : ما شاء الله وشئت ، كما ثبت عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : أنه قال له رجل : ما شاء الله وشئت ، قال : < أجعلتني لله نداً ؟ قل : ما شاء الله وحده > ، وهذا ، مع أن الله قد أثبت للعبد مشيئة ، كقوله : { لمنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } [ التكوير : 28 ] - فكيف من يقول : أنا متوكل على الله وعليك ، وأنا في حسب الله وحسبك ؟ وما لي إلا الله وأنت ؟ وهذا من الله ومنك ، وهذا من بركات الله وبركاتك ؟ والله لي في السماء وأنت لي في الأرض ؟ أو يقول : والله ! وحياة فلان ، أو يقول : نذراً لله ولفلان ، وأنا تائب لله ولفلان ، وأرجو الله وفلاناً ونحو ذلك ، فوازن بين هذه الألفاظ وبين قول القائل : ما شاء الله وشئت ، ثم انظر أيهما أفحش ؟ يتبين لك أن قائلها أولى لجواب النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لقائل تلك الكلمة ، وأنه إذا كان قد جعله نداً لله بها فهذا قد جعل من لا يداني رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في شيء من الأشياء ، بل لعله أن يكون من أعدائه ، نداً لرب العالمين ، فالسجود والعبادة ، والتوكل والإنابة ، والتقوى والخشية ، والتحسب والتوبة ، والنذر والحلف ، والتسبيح والتكبير ، والتهليل والتحميد ، والاستغفار وحلق الرأس ، خضوعاً وتعبداً ، والطواف بالبيت ، والدعاء - كل ذلك محض حق الله ، لا يصلح ولا ينبغي لسواه ، من ملك مقرب ولا نبي مرسل .
وفي مسند الإمام أحمد أن رجلاً أتي به إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قد أذنب ذنباً ، فلما وقف بين يديه قَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ ، وَلاَ أَتُوبُ إِلَى مُحَمَّدٍ . قَالَ [ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] : < قَدْ عَرَفَ الْحَقَّ لأَهْلِهِ > .
فصل
وأما الشرك في الإرادات والنيات ، فذلك البحر الذي لا ساحل له ، وقلّ من ينجو منه ، فقمن أراد بعمله غير وجه الله ، ونوى شيئاً غير التقرب إليه وطلب الجزاء منه ، فقد أشرك في نيته وإرادته .
والإخلاص : أن يخلص لله في أقواله وأفعاله وإراداته ونيته ، وهذه هي الحنيفية ، ملة إبراهيم ، التي أمر الله بها عباده كلهم ، ولا يقبل من أحد غيرها ، وهي حقيقة الإسلام .
{ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ آل عِمْرَان : 85 ] ، وهي ملة إبراهيم عليه السلام ، التي من رغب عنها فهو من أسفه السفهاء .
فصل
وإذا عرفت هذه المقدمة انفتح لك باب الجواب عن السؤال المذكور ، فنقول ( ومن الله وحده نستمد الصواب ) : حقيقة الشرك هو التشبه بالخالق والتشبيه للمخلوق به ، وهذا هو التشبيه في الحقيقة ، لا إثبات صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه ووصف بها رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فعكس من نكس الله قلبه وأعمى عين بصيرته وأركسه بلبسه الأمر وجعل التوحيد تشبيهاً والتشبيه تعظيماً وطاعة ، فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية ، فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع ، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجال والتوكل به وحده ، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق ، وجعل من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، أفضل من غيره ، تشبيهاً بمن له الأمر كله ، فأزمة الأمور كلها بيده ، ومرجعها إليه ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ، بل إذا فتح لعبده باب رحمته لم يمسكها أحد ، وإن أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد ، فمن أقبح التشبيه تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات ، بالقادر فيه بوجه من الوجوه ، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده ، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجال والإنابة والتوكل والاستعانة وغاية الذل مع غاية الحب ، كل ذلك يجب عقلاً وشرعاً وفطرة أن يكون له وحده ، ويمنع عقلاً وشرعاً وفطرة أن يكون لغيره ، فمن جعل شيئاً من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا ند له ، وذلك أقبح التشبيح وأبطله ، ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم ، أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره ، مع أنه كتب على نفسه الرحمة ، ومن خصائص الإلهية العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما : غاية الحب مع غاية الذل : هذيا تمام العبودية ، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين ، فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله ، فقد شبهه به في خالص حقه ، وهذا من المحال أن تأتي به شريعة من الشرائع ، وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل ، ولكن غيرت الشيطان فطر أكثر الخلق وعقولهم ، وأفسدتها عليهم ، واجتالتهم عنها ، ومضى على الفطرة الأولى من سبقت له من الله الحسنى ، فأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه بما يوافق فطرتهم وعقولهم ، فازدادوا بذلك نوراً على نور ، يهدي الله لنوره من يشاء .
إذا عرف هذا ، فمن خصائص الإلهية السجود ، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به ، ومنها التوكل فمن توكل على غيره فقد شبهه به ، ومنها التوبة ، فمن تاب لغيره فقد شبهه به ، ومنها الحلف باسمه تعظيماً وإجلالاً ، فمن حلف بغيره فقد شبهه به ، هذا في جانب التشبيه ، وأما في جانب التشبه به ، فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم ، والخضوع والرجاء ، وتعليق القلب به خوفاً ورجاء ، والتجاء واستعانة ، فقد تشبه بالله ونازعه في ربوبيته وإلهيته ، وهو حقيق بأن يهينه غاية الهوان ، ويذله غاية الذل ويجعله تحت أقدام خلقه .
وفي الصحيح عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < يقول الله عز وجل : العظمة إزاري والكبرياء ردائي ، فمن نازعني واحداً منهما عذبته > ، وإذا كان المصور ، الذي يصنع الصورة بيده ، ومن أشد الناس عذاباً يوم القيامة ، لتشبهه بالله في مجرد الصنعة - فما الظن بالتشبه بالله في الربوبية والإلهية ، كما قال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون ، يقال لهم : أحيوا ما خلقتم > .
وفي الصحيح عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال : < قال الله عز وجل : ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقاً كخلقي ؟ فليخلقوا ذرة ، فليخلقوا شعيرة > ، فنبه بالذرة والشعيرة على ما هو أعظم منهما وأكبر ، والمقصود أن هذا حال من تشبه به في صنعة صورة ، فكيف حال من تشبه به في خواص ربوبيته وإلهيته ؟ وكذلك من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا لله وحده ، كملك الأملاك وحاكم الحكام ونحوه .
وقد ثبت في الصحيح عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال : < إن أخنع الأسماء عند الله رجل يتسمى بشاهان شاه ملك الملوك ، ولا ملك إلا الله > .
وفي لفظ : < أغيظ رجل على الله رجل يسمي بملك الأملاك > ، فهذا مقت الله وغضبه على من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا له ، فهو سبحانه ملك الملوك وحده ، وهو حاكم الحكام وحده ، فهو الذي يحكم على الحكام كلهم ، ويقضي عليهم كلهم ، لا غيره .
تنبيه :
حيثما وقع في حديث : من فعل كذا فقد أشرك ، أو فقد كفر - لا يراد به الكفر المخرج من الملة ، والشرك الأكبر المخرج عن الإسلام الذي تجري عليه أحكام الردة ، والعياذ بالله تعالى ، وقد قال البخاريّ : باب كفران العشير وكفر دون كفر .
قال القاضي أبو بكر ابن العربيّ في " شرحه " : مراده أن يبين أن الطاعات ، كما تسمى إيماناً ، كذلك المعاصي تسمى كفراً ، لكن حيث يطلق عليها الكفر لا يراد عليه الكفر المخرج عن الملة ، فالجاهل والمخطئ من هذه الأمة ، ولو عمل من الكفر والشرك ما يكون مشركاً أو كافراً ، فإنه يعذر بالجهل والخطأ ، حتى تتبين له الحجة ، الذي يكفر تاركها ، بياناً واضحاً ما يلتبس على مثله ، وينكر ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام مما أجمعوا عليه إجماعاً جلياً قطعياً ، يعرفه كل من المسلمين من غير نظر وتأمل ، كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، ولم يخالف في ذلك إلا أهل البدع .
قال الشيخ تقي الدين في كتاب " الإيمان " : لم يكفّر الإمام أحمد الخوارج ولا المرجئة ولا القدرية ، وإنما المنقول عنه وعن أمثاله تكفير الجهمية ، مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية ، ولا كل من قال : أنا جهمي - كفّره ، بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم ، وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة : ولم يكفرهم أحمد وأمثاله بل كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم ويدعو لهم ويرى لهم الائتمام بالصلاة خلفهم ، والحج والغزو معهم ، والمنع من الخروج عليهم بما يراه لأمثالهم من الأئمة ، وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم ، وإن لم يعلموا هم أنه كفر ، كان ينكره ويجاهدهم على رده بحسب الإمكان ، فيجمع بين طاعة الله ورسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في إظهار السنة والدين وإنكار بدع الجهمية الملحدين ، وبين رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والأمة وإن كانوا جهالاً مبتدعين ، وظلمة فاسقين . انتهى كلام الشيخ ، فتأمله تأملاً خالياً عن الميل والحيف .
وقال الشيخ تقي الدين أيضاً : من كان في قلبه الإيمان بالرسول وبما جاء به ، وقد غلط في بعض ما تأوله من البدع ولو دعا إليها ، فهذا ليس بكافر أصلاً ، والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالاً للأمة وتكفيراً لها ، ولم يكن في الصحابة من يكفرهم ، لا عليّ ولا غيره ، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين ، كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع ، وكذلك سائر الثنتين والسبعين فرقة ، من كان منهم منافقاً فهو كافر في الباطن ، من كان مؤمناً بالله ورسوله في الباطن لم يكن كافراً في الباطن ، وإن كان أخطأ في التأويل كائناً ما كان خطؤه ، وقد يكون في بعضهم شبة من النفاق ، ولا يكون فيه النفاق الذي كون صاحبه في الدرك الأسفل من النار ، ومن قال : إن الثنتين والسبعين فرقة ، كل واحد منهم يكفر كفراً ينقل عن الملة ، فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ، بل وإجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة ، فليس فيهم من كفّر كل واحد من الثنتين والسبعين فرقة . انتهى .
وقال ابن القيم في طرق أهل البدع : الموافقون على أصل الإسلام ولكنهم مختلفون في بعض الأصول كالخوارج والمعتزلة والقدرية والرافضة والجهمية وغلاة المرجئة :
فهؤلاء أقسام :
أحدها : الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له ، فهذا لا يكفر ولا يفسق ولا ترد شهادته إذا لم يكن قادراً على تعلم الهدى ، وحكمه حكم المستضعفين من الرجال والنساء والولدان .
القسم الثاني : متمكن من السؤال وطلب الهداية ومعرفة الحق ، ولكن يترك ذلك اشتغالاً بدنياه ورياسته ولذاته ومعاشه ، فهذا مفرط مستحق للوعيد ، آثم بترك ما أوجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته ، فهذا ، إن ما فيه البدعة والهوى ، على ما فيه من السنة والهدى ، ردت شهادته ، وإن غلب ما فيه من السنة والهدى ، على ما فيه من البدعة والهوى ، قبلت شهادته .
الثالث : أن يسأل ويطلب ويتبين له الهدى ويترك ، تعصباً أو معاداة لأصحابه ، فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقاً ، وتكفيره محل اجتهاد . انتهى كلامه ، فانظره وتأمله ، فقد ذكر هذا التفصيل في غالب كتبه ، وذكر أن الأئمة وأهل السنة لا يكفرونهم ، هذا مع ما وصفهم به من الشرك الأكبر ، والكفر الأكبر ، وبين في غالب كتبه مخازيهم .
ولنذكر من كلامه طرفاً تصديقاً لما ذكرنا عنه ، قال رحمه الله في " المدارج " : المثبتون للصانع نوعان : أحدهما : أهل الإشراك به في ربوبيته وإلهيته ، كالمجوس وزمن ضاهاهم من القدرية ، فإنهم يثبتون مع الله إلهاً آخر ، والمجوسية القدرية تثبت مع الله خالقاً للأفعال ، ليست أفعالهم مخلوقة لله ولا مقدورة له ، وهي صادرة بغير مشيئته تعالى وقدرته ، ولا قدرة له عليها ، بل هم الذين جعلوا أنفسهم فاعلين مريدين شيّائين ، وحقيقة قول هؤلاء : إن الله ليس رباً خالقاً لأفعال الحيوان . انتهى كلامه .
وقد ذكرهم بهذا الشرك في سائر كتبه ، وشبههم بالمجوس الذين يقولون : إن للعالم خالقين ، وانظر لما تكلم على التكفير هو وشيخه ، كيف حكيا عدم تكفيرهم عن جميع أهل السنة ، حتى مع معرفة الحق والمعاندة ، قال : كفره محل اجتهاد ، كما تقدم كلامه قريباً .
وقال ابن تيمية ، وقد سئل عن رجلين تكلما في مسألة التكفير ، فأجاب وأطال ، وقال في آخر الجواب : لو فرض أن رجلاً دفع التكفير عمن يعتد أنه ليس بكافر ، حماية له ونصراً لأخيه المسلم ، لكان هذا غرضاً شرعياً حسناً ، وهو إذا اجتهد في ذلك فأصابه فله أجران ، وإن اجتهد فاخطأ فله أجر ، وقال رحمه الله : التكفير إنما يكون بإنكار ما علم من الدين بالضرورة ، أو بإنكار الأحكام المتواترة المجتمع عليها ، وسئل أيضاً ، قدس الله روحه ، عن التكفير الواقع في هذه الأمة ، من أول من أحدثه وابتدعه ؟ فأجاب : أول من أحدثه في الإسلام المعتزلة ، وعنهم تلقاه من تلقاه ، وكذلك الخوارج هم أول من أظهره ، واضطرب الناس في ذلك ، فمن الناس من يحكي عن مالك فيه قولين ، وعن الشافعيّ كذلك ، وعن أحمد روايتان ، وأبو الحسن الأشعري وأصحابه لهم قولان ، وحقيقة الأمر في ذلك أن القول قد يكون كفراً ، فيطلق القول بتكفير قائله ، ويقال : من قال كذا فهو كافر ، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها ، من تعريف الحكم الشرعي ، من سلطان أو أمير مطاع ، كما هو المنصوص عليه في كتب الأحكام ، فإذا عرفه الحكم وزالت عنه الجهالة قامت عليه الحجة ، وهذا كما هو في نصوص الوعيد من الكتاب والسنة ، وهي كثيراً جداً ، والقول بموجبها وأجب على وجه العموم ، والإطلاق ، من غير أن يعين شخص من الأشخاص ، فيقال : هذا كافر أو فاسق أو ملعون أو مغضوب عليه أو مستحق للنار ، لا سيما إن كان للشخص فضائل وحسنات - فإن ما سوى الأنبياء يجوز عليهم الصغائر والكبائر مع إمكان أن يكون ذلك الشخص صديقاً أو شهيداً أو صالحاً ، كما قد بسط في غير هذا الموضع ، من أن موجب الذنوب تتخلف عنه بتوبة أو باستغفار أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة مقبولة أو لمحض مشيئة الله ورحمته ، فإذا قلنا بموجب قوله تعالى : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمّدا } [ النساء : من الآية 93 ] الآية ، وقوله : { إِنّ الّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلماً إِنّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [ النساء : 10 ] ، وقوله : { وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } [ النساء : 14 ] الآية ، وقوله : { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ } - إلى قوله - : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلماً } [ النساء : من الآية 30 ] الآية ، إلى غير ذلك من آيات الوعيد ، وقلنا بموجب قوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لعن الله من شرب الخمر > ، أو < من عق والديه > ، أو < من غير منار الأرض > ، أو < من ذبح لغير الله > ، أو < لعن الله السارق > ، أو < لعن الله آكل الربا ومؤكله وشاهده وكاتبه > ، أو < لعن الله لاوي الصدقة والمتعدي فيها > ، أو < من أحدث في المدينة حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين > ، إلى غير ذلك من أحاديث الوعيد ، لم يجز أن تعين شخصاً ، ممن فعل بعض هذه الأفعال ، وتقول : هذا المعين قد أصاب هذا الوعيد ، لإمكان التوبة وغيرها من مسقطات العقوبة ، إلى أن قال : ففعل هذه الأمور ممن يحسب أنها مباحة باجتهاد أو تقليد ونحو ذلك ، وغايته أنه معذور من لحوق الوعيد به لمانع ، كما امتنع لحوق الوعيد بهم لتوبة أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو غير ذلك ، وهذه السبيل هي التي يجب اتباعها ، فإن ما سواها طريقان خبيثان :
أحدهما : القول بلحوق الوعيد بكل فرد من الأفراد بعينه ، ودعوى أنها عمل بموجب النصوص ، وهذا أقبح من قول الخوارج المكفرين بالذنوب ، والمعتزلة وغيرهم ، وفساده معلوم بالاضطرار ، وأدلته معلومة في غير هذا الموضع ، فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق ، لكن الشخص المعين الذي فعله لا يشهد عليه بالوعيد ، فلا يشهد على معين من أهل القبلة بالنار ، لفوات شرط أو لحصول مانع ، وهكذا الأقوال الذي يكفر قائلها ، قد يكون القائل لها لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق ، وقد تكون بلغته ولم تثبت عنده ، أو لم يتمكن من معرفتها وفهمها ، أو قد عرضت له شبهات يعذره الله بها ، فمن كان مؤمناً بالله وبرسوله ، مظهراً للإسلام ، محباً لله ورسوله ، فإن الله يغفر له لو فارق بعض الذنوب القولية أو العملية ، سواء أطلق عليه لفظ الشرك أو لفظ المعاصي ، هذا الذي عليه أصحاب رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وجماهير أئمة الإسلام ، لكن المقصود أن مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل ، بالفرق بين النوع والعين ، بل لا يختلف القول عن الإمام أحمد وسائر أئمة الإسلام كمالك وأبي حنيفة والشافعي ؛ أنهم لا يكفرون المرجئة الذين يقولون : الإيمان قول وعمل ، ونصوصهم صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم ، وإنما كان الإمام أحمد يطلق القول بتكفير الجهمية لأنه ابتلي بهم حتى عرف حقيقة أمرهم ، وأنه يدور على التعطيل ، وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة ، لكن ما كانوا يكفرون أعيانهم ، فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقوله ولا يدعو إليه ، والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط ، والذي يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقب ، ومع هذا فالذين من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية : إن القرآن مخلوق ، وإن الله لا يُرى في الآخرة ، وإن ظاهر القرآن لا يحتج به في معرفة الله ، ولا الأحاديث الصحيح ، وإن الدين لا يتم إلا بما زخرفوه من الآراء والخيالات الباطلة والعقول الفاسدة ، وأن خيالاتهم وجهالاتهم أحكم في دين الله من كتاب الله وسنة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وإن أقوال الجهمية والمعطلة من النفي والإثبات أحكم في دين الله ، بسبب ذلك امتحنوا المسلمين وسجنوا الإمام أحمد وجلدوه وقتلوا جماعة وصلبوا آخرين ، ومع ذلك لا يطلقون أسيراً ولا يعطون من بيت المال إلا من وافقهم ويُقر بقولهم ، وجرى على الإسلام منهم أمور مبسوطة في غير هذا الموضع ، ومع هذا التعطيل الذي هو شر من الشرك ، فالإمام أحمد ترحم عليهم واستغفر لهم ، وقال : ما علمت أنهم مكذبون للرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ولا جاحدون لما جاء به ، لكنهم تأوّلوا فأخطأوا ، وقلدوا من قال ذلك ، والإمام الشافعيّ لما ناظر حفص الفرد ، من أئمة المعطلة ، في مسألة ( القرآن مخلوق ) قال له الإمام الشافعيّ : كفرت بالله العظيم ، فكفره ولم يحكم بردته بمجرد ذلك ، ولو اعتقد ردته وكفره لسعى في قتله ، وأفتى العلماء بقتل دعاتهم مثل غيلان القدري والجعد بن درهم وجهم بن صفوان إمام الجهمية وغيرهم ، وصلى الناس عليهم ودفنوهم مع المسلمين ، وصار قتلهم من باب قتل الصائل ، لكفّ ضررهم ، لا لردتهم ، ولو كانوا كفاراً لرآهم المسلمون كغيرهم ، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع .
وقال ابن القيم في " شرح المنازل " : أهل السنة متفقون على أن الشخص الواحد يكون فيه ولاية لله وعداوة من وجهين مختلفين ، ويكون محبوباً لله ومبغوضاً من وجهين ، بل يكون فيه إيمان ونفاق ، وإيمان وكفر ، ويكون إلى أحدهما أقرب من الآخر ، فيكون إلى أهله كما قال تعالى : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ } [ آل عِمْرَان : من الآية 167 ] ، وقال : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَهُم مّشْرِكُونَ } فأثبت لهم ، تبارك وتعالى ، الإيمان مع مقارنة الشرك ، فإن كان مع هذا الشرك تكذيب لرسله لم ينفعهم ما معهم من الإيمان ، وإن كان تصديق برسله وهم يرتكبون لأنواع من الشرك لا تخرجهم عن الإيمان بالرسل واليوم الآخر - فهم مستحقون للوعيد أعظم من استحقاق أهل الكبائر ، وبهذا الأصل أثبت أهل السنة دخول أهل الكبائر النار ثم خروجهم منهم ودخولهم الجنة ، لما قام به من السببين ، قال : وقال ابن عباس ، في قوله تعالى : { وَمَنْ لم يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [ المائدة : من الآية 44 ] قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس بكفر ينقل عن الملة ، إذا فعله فهو به كفر ، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر ، وكذلك قال طاوس وعطاء . انتهى كلامه .
وقال الشيخ تقي الدين : كان الصحابة والسلف يقولون : إنه يكون في العبد إيمان ونفاق ، وهذا يدل عليه قوله عز وجل : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ } [ آل عِمْرَان : من الآية 167 ] وهذا كثير في كلام السلف ، يبينون أن القلب يكون فيه إيمان ونفاق ، والكتاب والسنة يدل على ذلك .
ولهذا قال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان > .
فعلم أن من كان معه من الإيمان أقل قليل لم يخلد في النار ، وإن كان معه كثير من النفاق ، فهذا يعذب في النار على قدر ما معه ثم يخرج ، إلى أن قال : وتمام هذا أن الإِنسَاْن قد يكون فيه شعبة من شعب الإيمان وشعبة من شعب الكفر وشعبة من شعب النفاق ، وقد يكون مسلماً وفيه كفر دون الكفر الذي ينقل عن الإسلام بالكلية ، كما قال الصحابة ، ابن عباس وغيره : كفر دون كفر ، وهذا عامة قول السلف . انتهى .
فتأمل هذا الفصل وانظر حكايتهم الإجماع من السلف ، ولا تظن أن هذا في المخطئ ، فإن ذلك مرفوع عنه إثم خطئه كما تقدم مراراً عديدة .
وقال الشيخ تقي الدين في كتاب " الإيمان " : الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان في الباطن ، وإن المنافقين الذين قالوا : { آمَنّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } [ البقرة : من الآية 8 ] هم في الظاهر مؤمنون يصلون مع المسلمين ويناكحونم ويوارثونهم ، كما كان المنافقون على عهد رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ولم يحكم النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فيهم بحكم الكفار المظهرين الكفر لا في مناكحتهم ولا في موارثتهم ولا نحو ذلك ، بل لما مات عبد الله بن أُبَيّ ، وهو من أشهر الناس في النفاق ، وَرِثَهُ عبد الله ابنه ، وهو من خيار المؤمنين ، وكذلك سائر من يموت منهم يرثه ورثته المؤمنون ، وإذا مات لهم وارث ورثوه مع المسلمين وإن علم أنه منافق في الباطن ، وكذلك كانوا في الحدود والحقوق كسائر المسلمين ، وكانوا يغزون مع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ومنهم مَنْ هَمّ بقتل النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في غزوة تبوك ومع هذا ، ففي الظاهر ، تجري عليهم أحكام أهل الإيمان ، إلى أن قال : ودماؤهم وأموالهم معصومة ولا يستحل منهم ما يستحل من الكفار ، والذين يظهرون أنهم مؤمنون ، بل يظهرون الكفر دون الإيمان ، فإنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله > .
وكما قال لأسامة : < أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله ؟ > قال : فقلت : إنها قالها تعوذاً ، قال : < هل شققت على قلبه > ؟ وقال : < إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم > .
وكان إذا استؤذن في قتل رجل يقول : < أليس يصلي ؟ أليس يشهد ؟ > فإذا قيل له : إنه منافق ، قال ذلك .
فكان حكمه في دمائهم وأموالهم كحكمه في دماء غيرهم ولا يستحل منها شيئاً مع أنه يعلم نفاق كثير منهم . انتهى كلام الشيخ .
وقد أوضح حجة الإسلام الغزالي - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - في " فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة " الكفر المخرج عن الملة ، والعياذ بالله تعالى ، بعد مقدمته المدهشة بقوله : لعلك تشتهي أن تعرف حد الكفر بعد أن تتناقض عليك حدود أصناف المقلدين ، فاعلم أن شرح ذلك طويل ومدركه غامض ، ولكني أعطيك علامة صحيحة فتطردها وتعكسها لتتخذها مطمح نظرك وترعوي بسببها عن تكفير الفرق وتطويل اللسان في أهل الإسلام ، وإن اختلفت طرقهم ما داما متمسكين بقوله : ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) صادقين بها غير مناقضين لها ، فأقول : الكفر هو تكذيب الرسول عليه السلام في شيء مما جاء به ، والإيمان تصديقه في جميع ما جاء به .
فاليهودي والنصراني كافران لتكذيبهما للرسول عليه السلام .
والبرهميّ كافر بالطريق الأولى ، لأنه أنكر ، مع رسولنا ، سائر المرسلين .
والدهريّ كافر بالطريق الأولى ، لأنه أنكر ، مع رسولنا المرسل ، سائر الرسل ، وهذا لأن الكفر حكم شرعي كالرق والحرية مثلاً .
إذ معناه ، إباحة الدم والحكم بالخلود في النار ، ومدركه شرعيّ فيدرك إما بنص وإما بقياس على منصوص ، وقد وردت النصوص في اليهود والنصارى ، والتحق بهم بالطريق الأولى البراهمة والثنوية والزنادقة والدهرية ، وكلهم مشركون ، فإنهم مكذبون للرسول ، فكل كافر مكذب للرسول ، وكل مكذب فهو كافر ، فهذه هي العلامة المطردة المنعكسة .
وتتمة هذا البحث في هذا الكتاب الذي لا يستغني عنه فاضل ، فارجع إليه ، وعض بنواجذك عليه ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلمونَ فَتِيلاً } [ 49 ]
{ أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنفُسَهُمْ } تعجيب من تمادحهم بالتزكية التي هي التطهير والتبرئة من القبيح فعلاً وقولاً ، المنافية لما هم عليه من الطغيان والشرك الذي قصه تعالى عنهم قبل ، فالمراد بهم اليهود ، وقد حكى تعالى عنهم أنهم يقولون : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ وَأَحِبّاؤُه } [ المائدة : من الآية 18 ] ، وحكى عنهم أيضاً أنهم قالوا : { ا لَنْ تَمَسّنَا النّارُ إِلّا أَيّاماً مَعْدُودَةً } [ البقرة : من الآية 80 ] ، وأنهم قالوا : { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنّةَ إِلّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى } [ البقرة : من الآية 111 ] .
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب ، وكذبوا ، قال الله : إني لا أطهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له ، وأنزل الله : { أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنفُسَهُمْ } أي : انظر إليهم فتعجب من ادعائهم أنهم أزكياء عند الله تعالى مع ما هم فيه من الكفر والإثم العظيم ، أو من ادعائهم تكفير ذنوبهم مع استحالة أن يُغفَرَ للكافر شيء من كفره أو معاصيه .
وقوله تعالى : { بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَن يَشَاء } تنبيه على أن تزكيته هي المعتد به دون تزكية غيره ، فإنه العالم بما ينطوي على الإِنسَاْن من حَسَن وقبيح ، وقد ذمهم وزكى المرتضين من عباده المؤمنين .
تنبيه :
قال الزمخشريّ : يدخل في الآية كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله ، فإن قلت : أما قال رسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < والله ! إني لأمين في السماء ، أمين في الأرض ؟ > .
قلت : إنما قال ذلك حين قال له المنافقون : اعدل في القسمة ، إكذاباً لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه ، وشتان من شهد الله له بالتزكية ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم .
وقد ورد في من التمادح والتزكية أحاديث كثيرة ، منها :
عن أبي موسى الأشعري - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : سمع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم رجلاً يثني على رجل ويطريه في المدح فقال : < أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل > ، متفق عليه .
وعن أبي بكرة - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أن رجلاً ذكر عند النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فأثنى عليه رجل خيراً فقال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < ويحك ! قطعت عنق صاحبك - يقوله مراراً - إن كان أحدكم مادحاً ، لا محالة ، فليقل : أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك ، وحسيبه الله ، ولا يزكي على الله أحداً > ، متفق عليه .
وعن هَمَّام بن الحارث عن المقداد - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أن رجلاً عل يمدح عثمان - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ، فعمد المقداد فجثا على ركبتيه ، فجعل يجثوا في وجهه الحصاء ، فقال له عثمان : ما شأنك ؟ فقال : إن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب > رواه مسلم .
وقال الإمام أحمد : حدثنا معتمر عن أبيه عن نعيم بن أبي هند قال : قال عمر ابن الخطاب : من قال : أنا مؤمن فهو كافر ، ومن قال : هو عالم ، فهو جاهل ، ومن قال : هو في الجنة فهو في النار .
ورواه ابن مردويه عن طريق موسى بن عبيدة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز عن عمر أنه قال : إن أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه ، فمن قال إنه مؤمن فهو كافر ، ومن قال هو عالم فهو جاهل ، ومن قال هو في الجنة فهو في النار .
وروى الإمام أحمد عن مَعْبَد الجُهَنِي قال : كان معاوية قلما كان يحدث عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، قال : كان قلّما يدع ، يوم الجمعة ، هؤلاء الكلمات أن يحدث بهن عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، يقول : < من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، وإن هذا المال حلو خضر فمن يأخذه حقه يبارك له فيه ، وإياكم والتمادح فإنه الذبح > .
وروى ابن ماجة عنه : < إياكم والتمادح فإنه الذبح > .
وروى ابن جرير بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال : إن الرجل ليغدو بدينه ثم يرجع وما معه منه شيء ، يلقى الرجل ليس يملك له نفعاً ولا ضراً فيقول له : والله ! إنك لذيت وذيت فلعله أن يرجع ولم يحل من حاجته بشيء ، وقد أسخط الله عليه ، ثم قرأ : { أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنفُسَهُمْ } الآية : { وَلاَ يُظْلمونَ فَتِيلاً } عطف على جملة قد حذفت ، تعويلاً على دلالة الحال عليها وإيذاناً بأنها غنية عن الذكر ، أي : يعاقبون بتلك الفعلة القبيحة ولا يظلمون في ذلك العقاب فتيلاً ، أي : أدنى ظلم وأصغره ، والفتيل الخيط الذي في شق النواة أو ما يفتل بين الأصابع من الوسخ ، يضرب به المثل في القلة والحقارة ، وقيل : التقدير ، يُثاب المزكون ولا ينقص من ثوابهم شيء أصلاً ، ولا يساعده مقام الوعيد ، قاله أبو السعود .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مّبِيناً } [ 50 ]
{ انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ } أي : في تزكيتهم أنفسهم ودعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وقولهم : { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنّةَ إِلّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى } [ البقرة : من الآية 111 ] وقولهم : { لَنْ تَمَسّنَا النّارُ إِلّا أَيّاماً مَعْدُودَةً } [ البقرة : من الآية 80 ] واتكالهم على أعمال آياتهم الصالحة ، وقد حكم الله أن أعمال الآباء لا تجزي عن الأبناء شيئاً ، في قوله : { تِلْكَ أُمّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ } [ البقرة : من الآية 134 ] ، الآية .
قال العلامة أبو السعود : ( كيف ) نصب إما على التشبيه بالظرف أو بالحال ، والعامل ( يفترون ) وبه تتعلق ( على ) أي : في حال أو على أي : حال يفترون عليه تعالى الكذب ، والمراد بيان شناعة تلك الحال وكمال فظاعتها ، والجملة في محل النصب بعد نزع الخافض و ( النظر ) متعلق بهما ، وهو تعجيب إثر تعجيب ، وتنبيه على أن ما ارتكبوه متضمن لأمرين عظيمين موجبين للتعجيب : ادعاؤهم الإنصاف بما هم متصفون بنقيضه ، وافتراؤهم على الله سبحانه ، فإن ادعائهم الزكاء عنده تعالى متضمن لادعائهم قرب الله وارتضاءهم إياهم ، تعالى عن ذلك علواً كبيراً ، ولكون هذا أشنع من الأول جرماً ، وأعظم قبحاً لما فيه من نسبته سبحانه وتعالى إلى ما يستحيل عليه بالكلية من قول الكفر وارتضائه لعباده ، ومغفرة كفر الكافر وسائر معاصيه - وجّه النظر إلى كيفيته تشديداً للتشنيع وتأكيداً للتعجيب ، والتصريح بالكذب ، مع أن الافتراء لا كون إلا كذباً ، لمبالغة في تقبيح حالهم .
{ وَكَفَى بِهِ } أي : بافترائهم هذا من حيث هو افتراء عليه تعالى مع قطع النظر عن مقارنته لتزكية أنفسهم وسائر آثارهم العظام .
{ إِثْما مّبِينا } ظاهراً بيناً كونه إثماً ، والمعنى : كفى ذلك وحده في كونهم أشد إثماً من كل كفار أثيم ، أو في استحقاقهم لأشد العقوبات ثم حكى تعالى عن اليهود نوعاً آخر من المكر ، وهو أنهم كانوا يفضلون عَبْدة الأصنام على المؤمنين ، تعصباً وعناداً ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً } [ 51 ]
{ أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ } أي : علماً بالتوراة الداعية إلى التوحيد وترجيح أهله ، والكفر بالجبت والطاغوت ، ووصفهم بما ذكر ، من إيتاء النصيب ، لما مر من منافاته لما صدر عنهم من القبائح .
{ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ } الجبت يطلق ، لغة على الصنم والكاهن والساحر والسحر والذي لا خير فيه وكل ما عبد من دون الله تعالى ، وكذا الطاغوت ، فيطلق على الكاهن والشيطان وكل رأس ضلال والأصنام وكل ما عبد من دون الله وَمَرَدَة أهل الكتاب ، كما في القاموس .
{ وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُواْ } أي : أشركوا بالله ، وهم كفار مكة ، أي : لأجلهم وفي حقهم : { هَؤُلاء } يعنونهم .
{ أَهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ } بالله وحده : { سَبِيلاً } أي : أرشد طريقة ، وإيرادهم بعنوان الإيمان ليس من قِبَل القائلين ، بل من جهة الله تعالى ، تعريفاً لهم بالوصف الجميل ، وتخطئة لمن رجح عليهم المتصفين بأقبح القبائح .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً } [ 52 ]
{ أُوْلَئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ } أي : أبعدهم عن رحمته وطردهم .
{ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ } أي : يبعده عن رحمته .
{ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً } يدفع عنه العذاب دنيوياً كان أو أخروياً ، لا بشفاعة ولا بغيرها .
قال الرازيّ : إنما استحقوا هذا اللعن الشديد لأن الذي ذكروه من تفضيل عَبْدة الأوثان على الذين آمنوا بمحمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يجري مجرى المكابرة ، فمن يعبد غير الله كيف يكون أفضل حالاً ممن لا يرضى بمعبود غير الله ؟ ومن كان دينه الإقبال بالكلية على خدمة الخالق والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة كيف يكون أقل حالاً ممن كان بالضد في كل هذه الأحوال ؟
وقد روى الإمام أحمد عن عِكْرِمَة عن ابن عباس قال : لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش : ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية ، قال : أنتم خير ، قال فنزلت فيهم : { إِنّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } [ الكوثر : 3 ] ، ونزل : { أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ } - إلى - : { نَصِيراً } .
وقال الإمام ابن إسحاق - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : حدثني محمد بن أبي محمد عن عِكْرِمَة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة ، حُيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق وأبو رافع والربيع بن أبي الحقيق وأبو عامر ووحوح بن عامر وهودة بن قيس .
فأما وحوح وأبو عامر وهودة فمن بني وائل وكان سائرهم من بني النضير ، فلما قدموا على قريش قالوا : هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتاب الأول ، فاسألوهم أدينكم خير أم دين محمد ؟ فسألوهم فقالوا : دينكم خير من دينه وأنتم أهدى منه وممن اتبعه ، فأنزل الله عز وجل : { أم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } إلى قوله عز وجل : { وَآتَيْنَاهُم مّلْكاً عَظِيماً } وهذا لعن لهم وإخبار بأنهم لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة ، لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين ، وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم وقد أجابوهم وجاؤوا معهم يوم الأحزاب حتى حفر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأصحابه حول المدينة الخندق فَكَفَى اللهُ شَرَّهُمْ .
{ وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لم يَنَالُوا خَيْراً } : { وَكَفَى اللّهُ المؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } [ الأحزاب : من الآية 25 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الملْكِ فَإِذاً لاّ يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيراً } [ 53 ]
{ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الملْكِ فَإِذاً لاّ يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيراً } لما ذم سبحانه اليهود بتزكيتهم أنفسهم وتفضيل المشركين على الموحدين ، شرع في تفصيل بعض آخر من مثالبهم ، وهو وصفهم بالبخل والحسد اللذين هما شر خصلتين .
و ( أم ) منقطعة ، والهمزة لإنكار أن يكون لهم نصيب من الملك ، والفاء للسببية الجزائية لشرط محذوف ، أي : لو كان لهم نصيب من الملك ، والفاء للسببية الجزائرية لشرط محذوف ، أي : لو كان لهم نصيب من الملك فإذاً لا يؤتون أحداً مقدار نقير لفرط بخلهم .
و ( النقير ) النقرة في ظهر النواة وهو مثل في القلة والحقارة ، كالفتيل والقطمير ، والمراد بالملك إما ملك أهل الدنيا وإما ملك الله ، كقوله تعالى : { قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ } [ الإسراء : من الآية 100 ] .
وقال أبو السعود : وهذا هو البيان الكاشف عن كنه حالهم ، وإذا كان شأنهم كذلك وهم ملوك فما ظنك بهم وهم أذلاء متنافرون ؟ ويجوز أن لا تكون الهمزة لإنكار الوقوع بل لإنكار الواقع والتوبيخ عليه ، أي : لعده منكراً غير لائق بالوقوع على أن الفاء عطف والإنكار متوجه إلى مجموع المعطوفين على معنى : ألهم نصيب وافر من الملك حيث كانوا أصحاب أموال وبساتين وقصور مشيدة كالملوك فلا يؤتون الناس مع ذلك نقيراً ؟ كما تقول لغني لا يراعي أباه : ألك هذا القدر من المال فلا تنفق على أبيك شيئاً ؟ وفائدة ( إذن ) تأكيد الإنكار والتوبيخ ، حيث يجعلون ثبوت النصيب سبباً للمنع مع كونه سبباً للإعطاء ، وهي ملغاة عن العمل ، كأنه قيل : فلا يؤتون الناس إذن : وقرئ : ( فإذن لا يؤتوا ) بالنصب على إعمالها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مّلْكاً عَظِيماً } [ 54 ]
{ أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ } منقطعة أيضاً مفيدة للانتقال من توبيخهم بما سبق ، أعني البخل ، إلى توبيخهم بالحسد ، وهما شر الرذائل كما قدمنا ، وكان بينهما تلازماً وتجاذباً ، واللام في ( الناس ) للعهد والإشارة إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم والمؤمنين .
وروى الطبراني بسنده عن ابن عباس في هذه الآية قال : نحن الناس دون الناس ، والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه .
قال الرازيّ : وإنما حسن ذكر الناس لإرادة طائفة معينة من الناس ، لأن المقصود من الخلق إنما هو القيام بالعبودية كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالْإِنسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] فما كان القائمون بهذا المقصود ليس إلا محمداً صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ومن كان على دينه - كان هو وأصحابه كأنهم كل الناس ، فلهذا حسن إطلاق لفظ ( الناس ) وإرادتهم على التعيين : { عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ } وهو النبوة والكتاب والرشد وازدياد العز والنصر يوماً فيوماً ، وقوله تعالى : { فَقَدْ آتَيْنَآ } تعليل للإنكار والاستقباح وإلزام لهم بما هو مسلم عندهم ، وحسم لمادة حسدهم واستبعادهم ، المبنيين على توهم عدم استحقاق المحسود لما أوتي من الفضل ببيان استحقاقه له بطريق الوراثة كابراً عن كابر ، وإجراء الكلام على سنن الكبرياء بطريق الالتفات لإظهار كمال العناية بالأمر ، والمعنى : أن حسدهم المذكور في غاية القبح والبطلان ، فإنا قد آتينا من قبل هذا : { آلَ إِبْرَاهِيمَ } الذين هم أسلاف محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأبناء أعمامه : { الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } النبوة : { وَآتَيْنَاهُم مّلْكاً عَظِيماً } لا يقادر قدره ، فكيف يستبعدون نبوته ويحسدونه على إيتائها ؟ ، أفاده أبو السعود .
قال الرازيّ : إن الحسد لا يحصل إلا عند الفضيلة ، فكلما كانت فضيلة الإِنسَاْن أتم وأكمل كان حسد الحاسدين عليه أعظم ، ومعلوم أن النبوة أعظم المناصب في الدين ، ثم إنه تعالى أعطاها لمحمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وضم إليها أنه جعله كل يوم أقوى دولة وأعظم شوكة وأكثر أنصاراً وأعواناً ، فلما كانت هذه النعم سبباً لحسد هؤلاء ، بين تعالى ما يدفع ذلك فقال : { فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مّلْكاً عَظِيماً } والمعنى : أنه حصل في أولاد إبراهيم جماعة كثيرون جمعوا بين النبوة والملك وأنتم لا تتعجبون من ذلك ولا تحسدوهم ، فلم تتعجبون من حال محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ولم تحسدونه ؟(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمِنْهُم مّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مّن صَدّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنّمَ سَعِيراً } [ 55 ]
{ فَمِنْهُم مّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مّن صَدّ عَنْهُ } حكاية لما صدر عن أسلافهم ، أي : فمن جنس هؤلاء الحاسدين وآبائهم من آمن بما أوتي آل إبراهيم ، ومنهم من كفر به وأعرض عنه وسعى في صد الناس عنه ، وهو منهم ومن جنسهم ، أي : من بني إسرائيل ، وقد اختلفوا عليه ، فكيف بك يا محمد ولست من بني إسرائيل ؟ فالكفرة منهم أشد تكذيباً لك وأبعد عما جئتهم به من الهدى والحق المبين ، وفيه تسلية لرسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأن ذلك ديدنهم المستمر .
{ وَكَفَى بِجَهَنّمَ سَعِيراً } أي : ناراً مسعّرة يعذبون بها على كفرهم وعنادهم ومخالفتهم كتب الله ورسله ، ثم أخبر تعالى عما يعاقب به في نار جهنم من كفر بآياته وصد عن رسله فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً } [ 56 ]
{ إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً } أي : عظيمة هائلة .
{ كُلما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } أي احترقت احتراقاً تاماً .
{ بَدّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ } أي : ليدوم لهم ، وذلك أبلغ في العذاب للشخص ، لأن إحساسه لعمل النار في الجلد الذي لم يحترق ، أبلغ من إحساسه لعملها في المحترق .
تنبيه :
لهم في التبديل وجهان :
الأول : أنه تبديل حقيقي مادي ، فيخلق مكانها جلود أخر جديدة مغايرة للمحترقة .
الثاني : أنه تبديل وصفي : أي : أعدنا الجلد جديدة مغايرة للمحترقة صورة ، وإن كانت عينها مادة ، بأن لا يزال عنها الاحتراق ليعود إحساسها للعذاب ، فلم تبدل إلا صفتها ، لا مادتها الأصلية ، وفيه بُعد ، إذ يأباه معنى التبديل .
وقال الرازيّ : يمكن أن يقال : هذه استعارة عن الدوام وعدم الانقطاع ، كما يقال لمن يراد وصفه بالدوام : كلما انتهى فقد ابتدأ ، وكلما وصل إلى آخره فقد ابتدأ ، من أوله ، فكذا قوله : { كُلما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } الآية ، يعني : كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك ، أعطيناهم قوة جديدة من الحياة ، بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا ، فيكون المقصود بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه . انتهى .
وهذا أبعد مما قبله ، إذ ليس لنا أن نعدل في كلام الله تعالى عن الحقيقة إلى المجاز ، إلا عند الضرورة ، لا سيما وقد روي عن السلف ، صحابة وتابعين ، أنهم يبدلون في اليوم أو الساعة مرات عديدة ، كما رواه ابن جرير وغيره مفصلاً .
{ إِنّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً } لا يمتنع عليه ما يريد .
{ حَكِيماً } فيما يقضيه ، ومنه هذا التبديل ، إذا لا يتم تخليد العذاب الموعود ، على الكفر الذي لا ينزجون عنه ، بالعذاب المنقطع ، وعداً لا بد من إيفائه ، ثم بين مآل أهل السعادة فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاّ ظَلِيلاً } [ 57 ]
{ وَالّذِينَ آمَنُواْ } أي : بمحمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم والقرآن وجملة الكتب والرسل .
{ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ } أي : الطاعات فيما بينهم وبين ربهم بالإخلاص : { سَنُدْخِلُهُمْ } أي : في الآخرة .
{ جَنّاتٍٍ } أي : بساتين : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا } أي : من تحت شجرها وصورها .
{ الأَنْهَارُ } أي : أنها الخمر واللبن والعسل والماء .
{ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً } أي : مقيمين في الجنة لا يموتون ولا يخرجون منها .
{ لّهُمْ فِيهَا } أي : الجنة : { أَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ } أي : من الحيض والنفاس والأذى والأخلاق الرذيلة والصفات الناقصة .
{ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاّ ظَلِيلاً } أي : كنّاً كنيناً لا تنسخه الشمس ، ولا حر فيه ولا برد ، و ( ظليل ) صفة مشتقة من لفظ ( الظل ) لتأكيد معناه ، كما يقال : ليل أليل ، ويوم أيوم .
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْجَوَادَ الْمُضَمَّرَ السَّرِيعَ ، مِائَةَ عَامٍ ، مَا يَقْطَعُهَا > .
وفيهما أيضاً من رواية أبي هريرة - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : < يَسِيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّهَا مِائَةَ سَنة مَاَ يَقْطَعُهَا > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنّ اللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُم بِهِ إِنّ اللّهَ كَانَ سَميعاً بَصِيراً } [ 58 ]
{ إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } هذه الآية من أمهات الآيات المشتملة على كثير من أحكام الشرع .
قال أبو السعود : في تصدير الكلام بكلمة التحقيق وإظهار الاسم الجليل وإيراد الأمر على صورة الإخبار ، من الفخامة وتأكيد وجوب الامتثال به والدلالة على الاعتناء بشأنه ما لا مزيد عليه ، وهو خطاب يعم حكمه المكلفين قاطبة ، كما أن الأمانات تعم جميع الحقوق المتعلقة بذممهم : من حقوق الله تعالى وحقوق العباد ، سواء كانت فعلية أو قولية أو اعتقادية ، وإن ورد في شأن عثمان بن طلحة . انتهى .
أي لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، كما تقرر في الأصول ، وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها ، الأبرار منهم والفجار ، كما قال ابن المنذر .
وفي حديث سمرة : إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : < أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ > ، رواه الإمام أحمد وأهل السنن .
قال الحافظ ابن كثير : وَقَدْ ذَكَرَ كَثِير مِنْ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي شَأْن عُثْمَان بْن طَلْحَة بْن أَبِي طَلْحَة وَاسْم أَبِي طَلْحَة عَبْد اللَّه بْن عَبْد الْعُزَّى بْن عُثْمَان بْن عَبْد الدَّار بْن قُصَيّ بْن كِلَاب الْقُرَشِيّ الْعَبْدَرِيّ حَاجِب الْكَعْبَة الْمُعَظَّمَة ، وَهُوَ اِبْن عَمّ شَيْبَة بْن عُثْمَان بْن أَبِي طَلْحَة الَّذِي صَارَتْ الْحِجَابَة فِي نَسْله إِلَى الْيَوْم .
أَسْلَمَ عُثْمَان هَذَا فِي الْهُدْنَة بَيْن صُلْح الْحُدَيْبِيَة وَفَتْح مَكَّة ، هُوَ وَخَالِد بْن الْوَلِيد وَعَمْرو بْن الْعَاصِ ، وَأَمَّا عَمّه عُثْمَان بْن طَلْحَة بْن أَبِي طَلْحَة ، فَكَانَ مَعَهُ لِوَاء الْمُشْرِكِينَ يَوْم أُحُد وَقُتِلَ يَوْمئِذٍ كَافِراً .
وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى هَذَا النَّسَب لِأَنَّ كَثِيراً مِنْ الْمُفَسِّرِينَ قَدْ يَشْتَبِه عَلَيْهِ هَذَا بِهَذَا .
وَسَبَب نُزُولهَا فِيهِ لَمَّا أَخَذَ مِنْهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِفْتَاح الْكَعْبَة يَوْم الْفَتْح ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهِ . وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق فِي غَزْوَة الْفَتْح حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن الزُّبَيْر بْن عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه أَبِي ثَوْر عَنْ صَفِيَّة بِنْت شَيْبَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ بِمَكَّة وَاطْمَأَنَّ النَّاس ، خَرَجَ حَتَّى جَاءَ إِلَى الْبَيْت فَطَافَ بِهِ سَبْعاً عَلَى رَاحِلَته يَسْتَلِم الرُّكْن بِمِحْجَنٍ فِي يَده ، فَلَمَّا قَضَى طَوَافه دَعَا عُثْمَان بْن طَلْحَة فَأَخَذَ مِنْهُ مِفْتَاح الْكَعْبَة فَفُتِحَتْ لَهُ ، فَدَخَلَهَا فَوَجَدَ فِيهَا حَمَامة مِنْ عِيدَان فَكَسَرَهَا بِيَدِهِ ثُمَّ طَرَحَهَا ثُمَّ وَقَفَ عَلَى بَاب الْكَعْبَة وَقَدْ اِسْتَكَفَّ لَهُ النَّاس فِي الْمَسْجِد .
قَالَ اِبْن إِسْحَق : فَحَدَّثَنِي بَعْض أَهْل الْعِلْم أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى بَاب الْكَعْبَة فَقَالَ : < لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ ، صَدَقَ وَعْده ، وَنَصَرَ عَبْده ، وَهَزَمَ الْأَحْزَاب وَحْده ، أَلَا كُلّ مَأْثُرَة أَوْ دَم أَوْ مَال يُدْعَى فَهُوَ تَحْت قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلَّا سِدَانة الْبَيْت وَسِقَايَة الْحَاجّ > .
وَذَكَرَ بَقِيَّة الْحَدِيث فِي خُطْبَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمئِذٍ ، إِلَى أَنْ قَالَ : ثُمَّ جَلَسَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِد فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَمِفْتَاح الْكَعْبَة فِي يَده فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه اِجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَة مَعَ السِّقَايَة ، صَلَّى اللَّه عَلَيك ، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيْنَ عُثْمَان بْن طَلْحَة ؟ فَدُعِيَ لَهُ ، فَقَالَ [ لَهُ ] : < هَاكَ مِفْتَاحك يَا عُثْمَان ، الْيَوْم يَوْمُ بِرٍّ وَوَفَاء > .
وروى اِبْن جَرِير عَنْ اِبْن جُرَيْج فِي الْآيَة قَالَ : نَزَلَتْ فِي عُثْمَان بْن أبي طَلْحَة ، قَبَضَ مِنْهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِفْتَاح الْكَعْبَة ، وَدَخَلَ به الْبَيْت يَوْم الْفَتْح ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَة : { إِنَّ اللَّه يَأْمُركُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهْلهَا } فَدَعَا عُثْمَان إِلَيْهِ ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ الْمِفْتَاح .
قَالَ : وَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب ( لَمَّا خَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكَعْبَة وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَة : { إِنَّ اللَّه يَأْمُركُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهْلهَا } فِدَاهُ أَبِي وَأُمِّي ، مَا سَمِعْته يَتْلُوهَا قَبْل ذَلِكَ .
قال السيوطيّ : ظاهر هذا أنها نزلت في جوف الكعبة . انتهى .
وعن محمد بن كعب وزيد بن أسلم وشهر بن حَوْشَب أن هذه الآية نزلت في الأمراء ، يعني الحكام بين الناس .
وقال السيوطيّ في " الإكليل " : في هذه الآية وجوب رد كل أمانة من وديعة وقراض وقرض وغير ذلك ، واستدل المالكية ، بعموم الآية ، على أن الحربي إذا دخل دارنا بأمان فأودع وديعة ثم مات أو قتل ، إنه يجب رد وديعته إلى أهله ، وأن المسلم إذا استدان من الحربي بدار الحرب ثم خرج ، يجب وفاؤه ، وأن الأسير إذا ائتمنه الحربي على شيء لا يجوز له أن يخونه ، وعلى أن من أودع مالاً وكان المودع خانه قبل ذلك ، فليس له أن يجحده كما جحده ، ويوافق هذه المسألة حديث : < أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ > .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس ، في هذه الآية قال : مبهمة للبر والفاجر ، يعني عامة .
وقد أخرج ابن جرير وغيره أنها نزلت في شأن مفتاح الكعبة ، لما أخذه النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من عثمان بن طلحة ، واختار ما رواه عليّ وغيره أنها خطاب لولاة المسلمين ، أمروا بأداء الأمانة لمن ولوا عليهم ، فيستدل بالآية على أن على الحكام والأئمة ونظار الأوقاف أداء الحقوق المتعلقة بذممهم من توليه المناصب وغيرها إلى من يستحقها ، كما أن قوله تعالى : { وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } أمرٌ لهم بإيصال الحقوق المتعلقة بذمم الغير إلى أصحابها ، وحيث كان المأمور بِهِ هُنا بههنا مختصاً بوقت المرافعة ، قيد به ، بخلاف المأمور به أولاً ، فإنه لما لم يتعلق بوقت دون وقت أطلق إطلاقاً ، وأصل العدل هو المساواة في الأشياء ، فكل ما خرج من الظلم والاعتداء سمي عدلاً .
روى الإمام مسلم عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إن الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَن يَمِينِ الرَّحْمَنِ ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ > .
وروى الترمذيّ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَدْنَاهُمْ عِنْدهُ مَجْلِساً : إِمَامٌ عَادِلٌ ، وَأَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ وَأَبْعَدَهُمْ مِنْهُ مَجْلِساً إِمَامٌ جَائِرٌ > .
وروى الحاكم والبيهقيّ بسند صحيح عن ابن أبي أوفى عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إن الله تعالى مع القاضي ما لم يجر ، فإذا جار تبرأ الله منه وألزمه الشيطان > .
قال الإمام ابن تيمية - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - في رسالته " السياسة الشرعية " بعد الخطبة : هذه الرسالة مبنية عل آية الأمراء في كتاب الله تعالى ، وهي قوله تعالى : { إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } الآية .
قال العلماء : نزلت في ولاة الأمور عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل ، ثم قال : وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها : والحكم بالعدل ، فهذان جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة ، ثم قال : أما أداء الأمانات فيه نوعان :
أحدهما : الولايات وهو كان سبب نزول الآية ، فإن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لما فتح مكة وتسلم مفاتيح الكعبة من بني شيبة وطلبها العباس ليجمع له بين سقاية الحاج وسدانة البيت فأنزل الله هذه الآية ، فرد مفاتيح الكعبة إلى بني شيبة ، فيجب على وليّ الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل .
قال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < من وَلِيَ من أمر المسلمين شيئاً ، فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه ، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين > . رواه الحاكم في صحيحه .
وفي رواية : < من قلد رجلاً عملاً على عصابة ، وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه ، فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين > .
وقال عُمَر بن الخطاب - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما ، فقد خان الله ورسوله والمسلمين ، فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات من نوابه على الأمصار ، من الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان والقضاء ، ومن أمراء الأجناد ومقدمي العساكر الكبار والصغار وولاة الأموال من الوزراء والكتاب والشادين والسعاة على الخراج والصدقات وغير ذلك من الأموال التي للمسلمين ، وعلى كل واحد من هؤلاء أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده ، وينتهي ذلك إلى أئمة الصلاة والمؤذنين والمقرئين والمعلمين وأمراء لحاج والبُرُد وخزان الأموال ونقباء العساكر الكبار والصغار وعرفاء القبائل والأسواق .
على كل من ولي شيئاً من أمور المسلمين من الأمراء وغيرهم أن يستعمل فيما تحت يده ، في كل موضع ، أصلح من يقدر عليه ، ولا يقدم الرجل لكونه طَلَبَ أو سَبَقَ في الطلب ، بل ذلك سبب المنع ، فإن في الصحيح عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < أن قوماً دخلوا عليه فسألوه ولاية فقال : إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه > .
وقال لعبد الرحمن بن سمرة : < يا عبد الرحمن ! لا تسأل الإمارة ، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أُعنت عليها ، وإن أعطيتها من مسألة وكلت إليها > . أخرجاه في الصحيحين .
وقال : < من طلب القضاء واستعان عليه وَكِل إليه ، ومن لم يطلبه ولم يستعن عليه أنزل الله إليه ملكاً يسده > . رواه أهل السنن .
فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره ، لأجل قرابة بينهما ، أو ولاه عتاقة أو صداقة أو موافقة في مذهب أو بلد أو طريقة أو جنس ، كالعربيّة والفارسية والتركية والرومية ، أو لرشوة يأخذها منه من ماله أو من منفعة ، أو غير ذلك من الأسباب ، أو لضغن في قلبه على الأحق ، أو عداوة بينهما - فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ودخل فيما نهى عنه في قوله تعالى : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ وَالرّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلمونَ } [ الأنفال : 27 ] .
ثم قال الله تعالى : { وَاعْلموا أَنّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنّ اللّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ الأنفال : 28 ] ، فإن الرجل لحبه لولده أو عتيقه قد يؤثره في بعض الولايات أو يعطيه ما لا يستحقه فيكون قد خان أمانته ، وكذلك قد يؤثر زيادة حفظه أو ماله يأخذ ما لا يستحقه أو محاباة مَنْ يُدَاهنه في بعض الولايات فيكون قد خان الله ورسوله وخان أمانته ، ثم إن المؤدي الأمانة ، مع مخالفة هواه ، يثيبه الله فيحفظه في أهله وماله بعده ، والمطيع لهواه يعاقبه بنقيض قصده ، فيذل أهله ويذهب ماله ، وفي ذلك الحكاية المشهورة : إن بعض خلفاء بني العباس سأل بعض العلماء أن يحدّث بما أدرك ، فقال : أدركت عُمَر بن عبد العزيز ، فقيل له : يا أمير المؤمنين ! أفقرت أفواه بنيك من هذا المال وتركتهم فقراء لا شيء لهم ، وكان في مرض موته ، فقال : أدخلوهم عليّ ، فأدخلوهم وهم بضعة عشر ذكراً ، ليس فيهم بالغ ، فلما رآهم ذرفت عيناه ثم قال : والله ! يا بني ! ما منعتكم حقاً هو لكم ، ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فادفعها إليهم ، وإنما أنتم أحد رجلين : إما صالح فالله يتولى الصالحين ، وإما غير صالح فلا أخلف له ما يستعين به على معصية الله ، قوموا عني .
قال : ولقد رأيت بعض ولده حمل على مائة في سبيل الله ، يعني أعطاها لمن يغزو عليها .
قلت : هذا وقد كان خليفة المسلمين من أقصى المشرق ببلاد الترك إلى أقصى المغرب بالأندلس وغيرها من جزيرة قبرص وثغور الشام والعواصم كطرسوس ونحوها ، إلى أقصى اليمن ، وإنما أخص كل واحد من أولاده من تركته شيئاً يسيراً ، يقال أقل من عشرين درهماً .
قال : وحضرت بعض الخلفاء وقد اقتسم تركته بنوه ، فأخذ كل واحد ستمائة ألف دينار ، ولقد رأيت بعضهم يتكفف الناس ، أي : يسألهم بكفه ، وفي هذا الباب من الحكايات والوقائع المشاهدة في الزمان ، والمسموعة عما قبله ، عبرة لكل ذي لب ، وقد دلت سنة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم على أن الولاية أمانة يجب أداؤها ، في موضع مثل ما تقدم ، ومثل قوله لأبي ذر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - في الإمارة : < إِنَّهَا أَمَانَةُ ، وَإِنَّهَا ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، حسرة وَنَدَامَةٌ . إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ > . فيما رواه مسلم .
وروى البخاريّ في صحيحه عن أبي هريرة - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ > . قيل : يا رسول الله ! وما إِضَاعَتُهَا ؟ قال : < إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ > .
وقد أجمع المسلمون على هذا .
ثم قال ابن تيمية رحمه الله :
القسم الثاني : أمانات الأموال كما قال تعالى في الديون : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ } [ البقرة : من الآية 283 ] ، ويدخل في هذا القسم الأعيان والديون الخاصة والعامة ، مثل رد الودائع ومال الشريك والموكل والمضارب ومال المولى من اليتيم وأهل الوقف ونحو ذلك ، وكذلك وفاء الديون من أثمان المبيعات وبدل القرض وصدقات النساء وأجور المنافع ونحو ذلك ، وقد قال الله تعالى : { إِنّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسّهُ الشّرّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلّا المصَلّينَ الّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقّ مّعْلُومٌ لّلسّائِلِ وَالمحْرُومِ } - إلى قوله - : { وَالّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } [ المعارج : 32 ] ، وقال تعالى : { إِنّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً } [ النساء : 105 ] ، أي : لا تخاصم عنهم .
وقال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، والمهاجر من هاجر ما نهى الله عنه ، والمجاهد من جاهد نفسه في ذات > ، وهو حديث صحيح ، بعضه في الصحيحين وبعضه في سنن الترمذيّ ، وقال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّاها اللَّهُ عَنْهُ ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ > ، رواه البخاريّ .
وإذا كان الله تعالى قد أوجب أداء الأمانات التي قبضت بحق ، ففيه تنبيه على وجوب أداء الغضب والسرقة والخيانة ونحو ذلك من المظالم ، وكذلك أداء العارية ، ولينظر تتمة هذا البحث في الرسالة المذكورة ، فإن الوقوف عليها من المهمات .
{ إِنّ اللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُم بِهِ } أي : نعم ما يأمركم به من أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس وغير ذلك من أوامره وشرائعه الكاملة العظيمة ، و ( ما ) إما منصوبة موصوفة بـ ( يعظكم ) أو مرفوعة موصولة ، كأنه قيل نعم شيئاً يعظكم به ، أو نعم الشيء الذي يعظكم به ، والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها متضمنة لمزيد لطف بالمخاطبين وحسن استدعائهم إلى الامتثال بالأمر .
{ إِنّ اللّهَ كَانَ سَميعاً } لأقوالكم في الأمانات والأحكام : { بَصِيراً } بأفعالكم فيها ، فإن سمع ورأى خيراً جازاكم عليه خير الجزاء ، وإن سمع ورأى شراً جازاكم عليه ، فهو وعد ووعيد .
وروى ابن أبي حاتم بسنده عن أبي يونس قال : سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية : { إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } إلى قوله : { سَميعاً بَصِيراً } ويضع إبهامه على أذنه ، والتي تليها على عينه ويقول : هكذا سمعت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقرؤها ويضع إصبعه .
وقال أبو زكريا : وصفه لنا المقري ووضع أبو زكريا إبهامه الأيمن على عينه اليمنى ، والتي تليها على الأذن اليمنى ، وأرانا ، فقال : هكذا ، وهكذا ، رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وابن مردويه في تفسيره .
وأبو يونس هذا مولى أبي هريرة ، واسمه سُلَيم بن جبير ، أفاده ابن كثير .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ 59 ]
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } اعلم أنه تعالى ، لما أمر الرعاة والولاة بأداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل ، أمر الرعية من الجيوش وغيرهم بطاعة أولي الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك ، إلا أن يأمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
قال الرازيّ : قال عليّ بن أبي طالب - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة ، فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا ، وقد روى الطبري بسند صحيح عن أبي هريرة : إن أولي الأمر هم الأمراء .
واحتج له الشافعي بأن قريشاً ومن يليها من العرب كانوا لا يعرفون الإمارة ولا ينقادون إلى أمير ، فأمروا بالطاعة لمن ولي الأمر ، والانقياد له إذا بعثهم في السرايا ، وإذا ولاهم البلاد ، فلا يخرجوا عليهم ولا يمتنعوا عليهم ، لئلا تفترق الكلمة ، ولذلك قال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي > ، متفق عليه .
وفي البخاريّ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في سرية .
قال ابن كثير : وهكذا أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجة وقال الترمذيّ : حديث حسن غريب ، ولا نعرفه إلا من حديث ابن جريج .
وروى الطبري عن السدي أنها نزلت في قصة جرت لعمار بن ياسر مع خالد بن الوليد ، وكان خالد أميراً ، فأجاز عمار رجلاً بغير أمره ، فتخاصما وارتفعا إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فأجاز أمان عمار ونهاه أن يجبر الثانية على أمير .
قال ابن كثير : وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق عن السدي مرسلاً ، ورواه ابن مردويه عن السدي عن أبي صالح عن ابن عباس ، فذكر بنحوه .
ولا تنافي بين الروايتين لما أسلفناه في مقدمة التفسير في بحث سبب النزول ، فتذكر .
وقال الزمخشريّ : المراد بأولي الأمر منكم ، أمراء الحق ، لأن أمراء الجور ، الله ورسوله بريئان منهم ، فلا يعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم ، وإنما يجمع بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل واختيار الحق والأمر بهما والنهي عن أضدادهما ، كالخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان ، وكان الخلفاء يقولون : أطيعوني ما عدلت فيكم فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم .
وفي الصحيحين عن علي - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ > .
وروى الإمام أحمد عن عِمْرَان بن حصين عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < لاَ طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ الله > .
لطيفة :
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : النكتة في إعادة العامل في الرسول دون أولي الأمر ، مع أن المطاع في الحقيقة هو الله تعالى - كون الذي يعرف به ما يقع به التكليف هما القرآن والسنة ، فكان التقدير : وأطيعوا الله فيما قضى عليكم في القرآن ، وأطيعوا الرسول فيما بين لكم من القرآن وما ينصه عليكم من السنة ، والمعنى : أطيعوا الله فيما يأمركم به من الوحي المتعبد بتلاوته ، وأطيعوا الرسول فيما يأمركم به من الوحي الذي ليس بقرآن .
ومن بديع الجواب قول بعض التابعين لبعض الأمراء من بني أمية ، لما قال له : أليس الله أمركم أن تطيعونا في قوله : { وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } ؟ فقال له : أليس قد نزعت عنكم ، يعني الطاعة ، إذا خالفتم الحق بقوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } ؟ .
قال الطيبي : أعاد الفعل في قوله : { وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ } إشارة إلى استقلال الرسول بالطاعة ، ولم يعده في أولي الأمر إشارة إلى أنه يوجد فيهم من لا تجب طاعته ، ثم بين ذلك بقوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍٍ } ، كأنه قيل فإن لم يعملوا بالحق فلا تطيعونهم وردوا ما تخالفتم فيه إلى حكم الله ورسوله . انتهى .
تنبيه :
يشمل عموم وقوله : { وَأُوْلِي الأَمْرِ } العلماء ، كما روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : أنه يعني أهل الفقه والدين ، وكذا قال مجاهد وعطاء والحسن البصري وأبو العالية ، وهذا ليس قولاً ثانياً في الآية بل هو مما يشمله لفظها ، فهي عامة في أولي الأمر من الأمراء والعلماء وإن نزلت على سبب خاص ، وقد كثرت الأوامر بطاعة العلماء كالأمراء ، قال تعالى : { لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرّبّانِيّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السّحْتَ } [ المائدة : من الآية 63 ] ، وقال تعالى : { فَاسْأَلوا أَهْلَ الذّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلمونَ } [ النحل : من الآية 43 ] وقال تعالى : { وَلَوْ رَدّوهُ إِلَى الرّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلمهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [ النساء : من الآية 83 ] .
وفي الحديث الصحيح المتفق على صحته عن أبي هريرة عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال : < مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ ، وَمَنْ أطِاع أَمِيرَي فَقَدْ أَطَاعَنِي ، وَمَنْ عْصى أَمِيرَي فَقَدْ عَصَانِي > .
وروى أبو داود عن عبد الله بن عُمَر عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ ، فَإِذا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ [ عَلَيْهِ زيادة عند أبو داوود ] وَلاَ طَاعَةَ > .
وروى البخاريّ عن أنس بن مالك - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ > .
والأحاديث في هذا كثيرة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه " الحسبة في الإسلام " : وقد أمر الله تعالى في كتابه بطاعته وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر من المؤمنين وأولو الأمر أصحاب الأمر وذووه وهم الذين يأمرون الناس ، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام ، فلهذا كان أولو الأمر صنفين : العلماء والأمراء ، فإذا صلحوا صلح الناس ، وإذا فسدوا فسد الناس ، كما قال أبو بكر الصديق - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ( للأحمسية لما سألته ما بقاؤنا على هذا الأمر ) قال : ما استقامت لكم أئمتكم ، ويدخل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان وكل من كان متبوعاً فإنه من أولي الأمر ، وعلى كل واحد من هؤلاء أن يأمر بما أمر الله به وينهي عما نهى عنه ، وعلى كل واحد ممن له عليه طاعة أن يطيعه في طاعة الله ولا يطيعه في معصية الله ، كما قال أبو بكر الصديق - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ، حين تولى أمر المسلمين وخطبهم ، فقال في خطبته : أيها الناس ! القوي فيكم الضعيف عندي حتى آخذ منه الحق ، والضعيف فيكم القوي عندي حتى آخذ له الحق ، أطيعوني ما أطعت الله ، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ } أي : اختلفت أنتم وأولو الأمر : { فِي شَيْءٍٍ } من الأحكام : { فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ } أي : فارجعوا فيه إلى كتابه : { وَالرّسُولِ } بالسؤال منه في زمانه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم والرجوع إلى سننه بعده لا إلى ما تهوون ولا إلى ما يهواه الحكام : { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } الواضع لشرائع العدل : { وَالْيَوْمِ الآخِرِ } الذي يجازي فيه الموافق والمخالف لتلك الشرائع : { ذَلِكَ } أي : الرد إلى كتاب الله وسنة الرسول ، والرجوع إليهما فصل النزاع .
{ خَيْرٌ } أي : لكم ولحكامكم وأصلح : { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } أي : عاقبة ومآلاً ، كما قاله السديّ وغير واحد ، وقال مجاهد : وأحسن جزاء ، وهو قريب .
قال الحافظ ابن كثير : هذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع فيه الناس من أصول الدين وفروعه ، أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة ، كما قال تعالى : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللّهِ } [ الشورى : من الآية 10 ] ، فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق ، وماذا بعد الحق إلا الضلال ، ولهذا قال تعالى : { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله ، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، فدل على أن من لم يتحاكم ، في محل النزاع ، إلى الكتاب والسنة ، ولا يرجع إليهما في ذلك ، فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر . انتهى .
تنبيهات :
الأول : قال البيضاوي : إن قوله تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ } يؤيد أن المراد بأولي الأمر الأمراء لا العلماء ، قال : إذ ليس للمقلد أن ينازع المجتهد في حكمه بخلاف المرؤوس ، ثم قال : إلا أن يقال الخطاب لأولي الأمر ، على طريقة الالتفات ، وتابعه أبو السعود .
قال الخفاجي : وجه التأييد أن للناس والعامة منازعة الأمراء في بعض الأمور وليس لهم منازعة العلماء ، إذ المراد بهم المجتهدون ، والناس ممن سواهم لا ينازعونهم في أحكامهم ، والمراد بالمرؤوس ( على وزن المفعول ) العامة التابعة للرائس والرئيس ، فإذا كان الخطاب في ( تنازعتم ) لأولي الأمر على الالتفات صح إرادة العلماء ، لأن للمجتهدين أن ينازع بعضهم بعضاً مجادلة ومحاجة ، فيكون المراد أمرهم بالتمسك بما يقتضيه الدليل . انتهى .
وفي قوله : ( إذ ليس للمقلد إلخ ) ما ستراه .
الثاني : فيهم كثير من الناس والمفسرين أيضاً أن طاعة أولي الأمر العلماء ، تقليدهم فيما يفتون به ، وهو غلط قال الإمام ابن القيم في " أعلام الموقعين " في :
فصل
في عقد مجلس مناظرة بين مقلد وبين صاحب حجة منقاد للحق حيث كان .
قال المقلد : وقد أمر الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأولي الأمر - وهم العلماء ، أو العلماء والأمراء - وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به ، فإنه لولا التقليد ، لم يكن هناك طاعة تختص بهم ، قال : وجوابه أن أولي الأمر ، قيل : هم الأمراء ، وقيل : هم العلماء ، وهما روايتان عن الإمام أحمد ، والتحقيق أن الآية تتناول الطائفتين ، وطاعتهم من طاعة الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، لكن خفي على المقلدين أنهم يطاعون في طاعة الله إذا أمروا بأمر الله تعالى ورسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فأين في الآية تقديم آراء الرجال على سنة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وإيثار التقليد عليها ؟ ثم قال ابن القيم : إن هذه الآية من أكبر الحجج عليهم وأعظمها إبطالاً للتقليد ، وذلك من وجوه :
أحدها : الأمر بطاعة الله التي هي امتثال أمره واجتناب نهيه .
الثاني : طاعة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ولا يكون العبد مطيعاً لله ولرسوله حتى يكون عالماً بأمر الله تعالى ورسوله ، وأما من هو مقلد فيها لأهل العلم لم يمكنه تحقيق طاعة الله ورسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم البتة .
الثالث : أن أولي الأمر قد نهوا عن تقليدهم ، كما صح ذلك عن معاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عُمَر وعبد الله بن عباس وغيرهم من الصحابة ، وذكرناه عن الأئمة الأربعة وغيرهم ، وحينئذ فطاعتهم في ذلك إن كانت واجبة بطل التقليد ، وإن لم تكن واجبة الاستدلال .
الرابع : أنه سبحانه وتعالى ، قال في الآية نفسها : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } وهذا صريح في إبطال التقليد والمنع من رد المتنازع فيه إلى رأي أو مذهب أو تقليد ، فإن قيل : فما هي طاعتهم المختصة بهم ؟
فإن كانت الطاعة فيما يخبرون به عن الله تعالى ورسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، كانت الطاعة لله ورسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لا لهم ، قيل : هذا هو الحق ، وطاعتهم إنما هي تبع لا استقلال ، ولهذا قرنها بطاعة الرسول ، وأعاد العامل لئلا يتوهم أنه إنما يطاع تبعاً كما يطاع أولو الأمر تبعاً ، وليس كذلك ، بل طاعته واجبة استقلالاً ، كان ، ما أمر به أو نهى عنه في القرآن ، أو لم يكن . انتهى .
وقال رحمه الله تعالى قبل ذلك : إن فرقة التقليد قد ارتكبت مخالفة أمر الله تعالى وأمر رسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وهدي أصحابه وأحوال أئمتهم ، وسلكوا ضد طريق أهل العلم ، أما أمر الله تعالى ، فإنه أمر أن يرد ما تنازع فيه المسلمون إليه وإلى رسوله ، والمقلدون قالوا : إنما نرده إلى من قلدناه ، وأما أمر رسوله فإنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أمر عند الاختلاف بالآخذ بسنته وسنة خلفائه الراشدين المهديين ، وأمر أن يتمسك بها ويعض عليها بالنواجذ ، وقال المقلدون : بل عند الاختلاف نتمسك بقول من قلدناه ونقدمه على كل ما عداه ، وأما هدي الصحابة رضي الله عنهم فمن المعلوم بالضرورة أنه لم يكن شخص واحد يقلد رجلاً في جميع أقواله ويخاف من عداه من الصحابة بحيث لا يرد من أقواله شيئاً ولا يقبل من أقوالهم شيئاً ، وهذا من أعظم البدع وأقبح الحوادث ، وأما مخالفتهم لأئمتهم فإن الأئمة نهو عن تقليدهم وحذروا منه ، كما تقدم ذكر بعض ذلك عنهم وضبطها والنظر فيها وعرضها على القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأقوال خلفائه الراشدين ، فما وافق ذلك منها قبلوه ودانوا الله تعالى به ، وقبضوا به وأفتوا به ، وما خالف ذلك منها لم يلتفتوا إليه وردوه ، وما لم يتبين لهم كان عندهم من مسائل الاجتهاد التي غايتها أن تكون سائغة الأتباع لا واجبة الاتباع ، من غير أن يلزموا بها أحداً ولا يقولوا إنها الحق دون ما خلفها ، هذه طريقة أهل العلم سلفاً وخلفاً ، وأما هؤلاء الخلف فعكسوا الطريق وقلبوا أوضاع الدين ، فزيفوا كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأقوال خلفائه وجميع أصحابه ، وعرضوها على أقوال من قلدوه ، فما وافقها منها قالوا : لنا ؛ وانقادوا مذعنين ، وما خالف أقوال متبوعهم منها قالوا : احتج الخصم بكذا وكذا ، ولم يقبلوه ولم يدينوا به ، واحتال فضلاؤهم في ردها بكل ممكن ، وتطلبوا لها وجوه الحيل التي يرونها ، حتى إذا كانت موافقة لمذهبهم ، وكانت تلك الوجوه بعينها قائمة فيها ، شنعوا على منازعهم وأنكروا عليهم ردها بمثل تلك الوجوه بعينها ، وقالوا : لا تُرَدُّ النصوص بهذا ، ومن له همة تسموا إلى الله ومرضاته ، ونصر الحق الذي بعث به رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، أين كان ومع من كان ، لا يرضى لنفسه بمثل هذا المسلك الوخيم والخلق الذميم . انتهى .
الثالث : إن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله : { فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ } أي : فوضوا علمه إلى الله وأسكتوا عنه ولا تتعرضوا له ؟ وأيضاً ، لم لا يجوز أن يكون المراد فردوا هذه الأحكام إلى البراءة الأصلية ؟ قلنا : أما الأول فمدفوع ، وذلك لأن هذه الآية دلت على أنه تعالى جعل الوقائع قسمين : منها ما يكون حكمها منصوصاً عليه ، ومنها ما لا يكون كذلك ، ثم أمر في القسم الأول بالطاعة والانقياد ، وأمر في القسم الثاني بالاجتهاد فيه ، وهو الرد إلى الله وإلى الرسول ولا يجوز أن يكون المراد بهذا الرد السكوت ، لأن الواقعة بما كانت لا تحتمل ذلك ، بل لا بد من قطع للشغب والخصومة فيها ، بنفيٍٍ أو إثبات ، وإذا كان كذلك امتنع حمل الرد إلى الله ، على السكوت عن تلك الواقعة ، وأما السؤال الثاني : فجوابه أن البراءة الأصلية معلومة بحكم العقل ، فلا يكون رد الواقعة إليها رداً إلى الله بوجه من الوجوه ، أما إذا رددنا حكم الواقعة إلى الأحكام المنصوص عليها ، كان هذا رداً للواقعة على أحكام الله تعالى ، فكان حمل اللفظ على هذا الوجه أولى : أفاده الرازيّ .
الرابع : استدل مثبتوا القياس بقوله تعالى : { فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ } إلخ قالوا : معنى الآية : فإن تنازعتم في شيء حكمه غير مذكور في الكتاب والسنة ، فردوا حكمه إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة له ، وذلك هو القياس ، قالوا : ولو كان المراد من قوله تعالى : { فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ } طلب حكمه من نصوص الكتاب والسنة - لكان داخلاً تحت قوله : { أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ } وهو إعادة لعين ماضي ( كذا ) وهو غير جائز ، وقد توسع الرازيّ في تقرير ذلك ههنا ، كما توسع في أن قوله تعالى ( وأولي الأمر ) إشارة إلى الإجماع ، فتكون الآية ، بزعمه ، دلت على الأصول الأربع ، ولا يخفى ما في هذا التعمق من دقيق الاستنباط .
الخامس : قدمنا رواية البخاريّ في سبب نزول هذه الآية ، وأن ابن عباس قال : نزلت في عبد الله بن حذافة .
قال الداودي ( شارح الصحيح ) : هذا وهم على ابن عباس ، فإن عبد الله بن حذافة خرج على جيش فغضب عليهم ، فأمرهم أن يوقدوا ناراً ويقتحموها ، فامتنع بعضهم وهم بعض أن يفعل .
قال : فإن كانت الآية نزلت قبلُ ، فكيف يخص عبد الله بن حذافة بالطاعة دون غيره ؟ وإن كانت نزلت بعدُ فإنما قيل لهم : إنما الطاعة في المعروف ، وما قيل لهم : لِمَ لم تطيعوه ؟ انتهى .
وأجاب الحافظ ابن حجر : أي : المقصود في قصته قوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍٍ فَرُدّوهُ إِلَى } لأنهم تنازعوا في امتثال ما أمرهم به ، وسببه أن الذين هموا أن يعطوه وقفوا عند امتثال الأمر بالطاعة ، والذين امتنعوا عارضه عندهم الفرار من النار ، فناسب أن ينزل في ذلك ما يرشدهم إلى ما يفعلونه عند التنازع ، وهو الرد إلى الله وإلى رسوله ، أي : إن تنازعتم في جواز الشيء وعدم جوازه فارجعوا إلى الكتاب والسنة ، والله أعلم .
ولما أوجب تعالى على جميع المكلفين أن يطيعوا الله ورسوله ، آثرها بأن المنافقين والذين في قلوبهم مرض لا يطيعون الرسول ولا يرضون بحكمه ، وإنما يريدون حكم غيره ، فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشّيْطَانُ أَن يُضِلّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } [ 60 ]
{ أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } يعني القرآن .
{ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } يعني التوراة ووصفهم بادعاء الإيمان بالقرآن وبما أنزل من قبله ، لتأكيد العجيب من حالهم وتشديد التوبيخ والاستقباح ، ببيان كمال المباينة بين دعواهم المقتضية حتماً للتحاكم إلى الرسول ، وبين ما صدر عنهم من مخالفة الأمر المحتوم .
{ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطّاغُوتِ } الداعي إلى الطغيان بالحكم على خلاف المنزل إليك والمنزل على من قبلك ، وتقدم قريباً معاني الطاغوت ، والمراد به ها هنا ما سوى كتاب الله وسنة رسوله ، من الباطل .
{ وَقَدْ أُمِرُواْ } في جميع تلك الكتب .
{ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } أي : يتبرؤوا منه ، لأنه تحاكم على خلاف ما أنزل الله في كتبه فيعصونه ويطيعون الشيطان .
{ وَيُرِيدُ الشّيْطَانُ } أي : من الجن والْإِنْسَ .
{ أَن يُضِلّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } عن الحق والهدى ، وقوله : { وَيُرِيدُ } إلخ عطف على ( يريدون ) داخل في حكم التعجيب ، فإن اتباعهم لمن يريد إضلالهم وإعراضهم عمن يريد هدايتهم ، أعجب من كل عجيب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرّسُولِ رَأَيْتَ المنَافِقِينَ يَصُدّونَ عَنكَ صُدُوداً } [ 61 ]
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ } أي : إلى حكم ما أنزل الله في القرآن الذي تدعون الإيمان به : { وَإِلَى الرّسُولِ } أي : حكمه .
{ رَأَيْتَ المنَافِقِينَ يَصُدّونَ } أي : يمنعون خصومهم فيبعدونهم .
{ عَنكَ صُدُوداً } بليغاً ليتمكنوا مما يريدونه بالرشوة ، وقوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ } إلخ تكملة لمادة التعجيب ببيان إعراضهم صريحاً عن التحاكم إلى كتاب الله تعالى ورسوله ، إثر بيان إعراضهم عن ذلك في ضمن التحاكم إلى الطاغوت ، وإظهار ( المنافقين ) في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بالنفاق ، وذمهم به ، والإشعار بعلة الحكم .
تنبيه - في سبب نزولها
أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال : كان أبو برزة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه ، فتنافر إليه ناس من المسلمين ، فأنزل الله : { أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنّهُمْ آمَنُواْ } إلى قوله : { إِلاّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً } .
أقول : ثم أسلم أبو برزة وصحب النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، واسمه نَضْلَة بن عبيد .
قال الحافظ ابن حجر في التقريب : صحابي مشهور بكنيته ، أسلم قبل الفتح ، وغزا سبع غزوات ، ثم نزل البصرة ، وغزا خراسان ومات بها سنة خمس وستين على الصحيح . انتهى .
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عِكْرِمَة ، أو سعيد ، عن ابن عباس قال : كان الجلاس بن الصامت ومعتب بن قشير ، ورافع بن زيد ، وَبشَرٌ يدّعون الإسلام ، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين ، في خصومة كانت بينهم إلى الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فدعوهم إلى الكهان ، حكام الجاهلية ، فأنزل الله فيهم : { أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ } الآية .
وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال : كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي : أحاكمك إلى أهل دينك ، أو قال : إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، لأنه قد علم أن لا يأخذ الرشوة في الحكم ، فاختلفا ، واتفقا على أن يأتيا كاهناً في جهينة ، فنزلت ، ولا تَعَاَرُضَ ، لما أسلفناه في المقدمة في بحث سبب النزول ، فتذكر .
قال أبو مسلم الأصفهاني : ظاهر الآية يدل على أنه كان منافقاً من أهل الكتاب ، مثل : إنه كان يهودياً فأظهر الإسلام على سبيل النفاق ، لأن قوله تعالى : { يَزْعُمُونَ أَنّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } إنما يليق بمثل هذا المنافق . انتهى .
أقول : ما استظهره مناف لما أسلفناه مما روي في نزولها ، على أن توصيفهم بالإيمان بـ ( ما أنزل من قبل ) لا يؤيد ما ذكره ، لأن هذا كثيراً ما يذكر تنويهاً به وتثبيتاً لركنيته في الإيمان ، وتذكيراً له ، كما لا يخفى على من سبر قاعدة التنزيل في أمثاله ، فاعرفه .
مباحث
الأول : قال الحافظ ابن كثير : هذه الآية إنكار من الله عز وجل على من يدّعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين ، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم ، في فصل الخصومات ، إلى غير كتاب الله وسنة رسوله ، كما ذُكر في سبب نزول هذه الآية ، ثم ساق ما قدمناه وقال : الآية أعم من ذلك كله ، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل ، وهو المراد بـ ( الطاغوت ) ههنا ، واعرضوا كالمستكبرين كما قال تعالى عن المشركين : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللّهُ قَالُوا بَلْ نَتّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } [ البقرة : من الآية 170 ] وهؤلاء بخلاف المؤمنين الذين قال الله فيهم : { إِنّمَا كَانَ قَوْلَ المؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [ النور : من الآية 51 ] الآية .
الثاني : قال القاضي : يجب أن يكون التحاكم إلى هذا الطاغوت كالكفر ، وعدم الرضا بحكم محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كفر ، ويدل عليه وجوه :
الأول : أنه تعالى قال : { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } فجعل التحاكم إلى الطاغوت يكون إيماناً به ، ولا شك أن الإيمان بالطاغوت كفر بالله ، كما أن الكفر بالطاغوت إيمان بالله .
الثاني : قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } إلى قوله : { وَيُسَلموا تَسْلِيماً } [ النساء : من الآية 65 ] وهذا نص في تكفير من لم يرض بحكم الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .
الثالث : قوله تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النور : من الآية 63 ] وهذا يدل على أن مخالفته معصية عظيمة ، وفي هذه الآيات دلائل على أن من رد شيئاً من أوامر الله ، أو أوامر الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فهو خارج عن الإسلام ، سواء رده من جهة الشك أو من جهة التمرد ، وذلك يوجب صحة ما ذهبت الصحابة إليه من الحكم بارتداد مانعي الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم ، نقله الرازيّ .
الرابع : قال بعض المفسرين : في هذه الآية وجوب الرضا بقضاء الله سبحانه ، والرضا بما شرعه ، وتدل على أنه لا يجوز التحكم إلى غير شريعة الإسلام .
قال الحاكم : وتدل على أن من لم يرض بحكمه كَفَرَ ، وما ورد من فعل عمر وقتله المنافق يدل على أن دمه هدر ، لا قصاص فيه ولا دية .
وههنا فرع ، وهو أن يقال : إذا تحاكم رجلان في أمر فرضي أحدهما بحكم المسلمين وأبى الثاني ، وطلب المحاكمة إلى حاكم الملاحدة ، فإنه يكفر ، لأن في ذلك رضا بشعار الكفرة . انتهى .
الخامس : في قوله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ } دقيقة بديعة ، قال أبو السعود : الاقتصار في معرض التعجب والاستقباح على ذكر إرادة التحاكم ، دون نفسه ، مع وقوعه أيضاً - للتنبيه على أن إرادته مما يقضي منه العجب ولا ينبغي أن يدخل تحت الوقوع ، فما ظنك بنفسه ؟
السادس : قال المفسرون : إنما صد المنافقون عن حكم الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لأنهم كانوا ظالمين ، وعلموا أنه لا يأخذ الرشا ، وأنه لا يحكم إلا بمرّ الحكم ، وقيل : كان ذلك الصد لعدوانهم في الدين ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مّصِيبَةٌ بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً } [ 62 ]
{ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مّصِيبَةٌ بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ } متصل بما قبله ، مبين غائلة جناياتهم المحكية ووخامة عاقبتها ، أي : كيف يكون حالهم إذا ساقتهم التقادير إليك ، في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم ، التي منها المحاكمة إلى الطاغوت والكراهة لحكمك ، واحتاجوا إليك في ذلك .
{ ثُمّ جَآؤُوكَ } للاعتذار عما صنعوا من القبائح : { يَحْلِفُونَ بِاللّهِ } كذباً .
{ إِنْ أَرَدْنَا } أي : ما أردنا بذلك التحاكم : { إِلاّ إِحْسَاناً } أي : فصلاً بالوجه الحسن .
{ وَتَوْفِيقاً } بالصلح بين الخصمين ، ولم نرد مخالفة لك ولا تسخطاً لحكمك ، فلا تؤاخذنا بما فعلنا ، وهذا وعيد لهم على ما فعلوا ، وأنهم سيندمون عليه لا ينفعهم الندم ، ولا يغني عنهم الاعتذار .
قال الرازيّ : ذكروا في تفسير قوله تعالى : { أَصَابَتْهُم مّصِيبَةٌ } وجوهاً :
الأول : إن المراد منه قتل عمر صاحبهم الذي أَقَرّ أنه لا يرضى بحكم الرسول عليه السلام ، فهم جاؤوا إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فطالبوا عمر بدمه ، وحلفوا أنهم ما أرادوا بالذهاب إلى غير الرسول إلا المصلحة ، وهذا اختيار الزجاج .
قلت : واختياره غير مختار ، لأن قصة قتل عمر لم ترو من طريق صحيح ولا حسن ، فهي ساقطة عند المحققين ، واستدلال الحاكم ، الذي قدمناه ، مسلم ، لو صحت .
الثاني : قال أبو عليّ الجبائي : المراد من هذه المصيبة ما أمر الله تعالى الرسول عليه الصلاة والسلام من أنه لا يستصحبهم في الغزوات ، وأنه يخصهم بمزيد من الإذلال والطرد عن حضرته ، وهو قوله تعالى : { لَئِنْ لم يَنْتَهِ المنَافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالمرْجِفُونَ فِي المدِينَةِ لَنُغْرِيَنّكَ بِهِمْ ثُمّ لا يجاوِرُونَكَ فِيهَا إِلّا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتّلُوا تَقْتِيلاً } [ الأحزاب : 60 - 61 ] وقوله : { فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً } [ التوبة : من الآية 83 ] ، وبالجملة ، فأمثال هذه الآيات ، توجب لهم الذل العظيم ، فكانت معدودة في مصائبهم ، وإنما يصيبهم ذلك لأجل نفاقهم .
الثالث : قال أبو مسلم الأصفهاني : إنه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم رغبوا في حكم الطاغوت وكرهوا حكم الرسول ، بَشَّرَ الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه ستصيبهم مصائب تلجئهم إليه وإلى أن يظهروا له الإيمان به ، وإلى أن يحلفوا بأن مرادهم الإحسان والتوفيق ، قال : ومن عادة العرب عند التبشير والإنذار أن يقولوا : كيف أنت إذا كان كذا وكذا ؟ ومثاله ، قوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍٍ بِشَهِيدٍٍ } [ النساء : من الآية 41 ] وقوله : { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍٍ لا رَيْبَ فِيهِ } [ آل عِمْرَان : من الآية 25 ] ، ثم أمره تعالى ، إذا كان منهم ذلك ، أن يعرض عنهم ويعظهم . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُولَئِكَ الّذِينَ يَعْلم اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } [ 63 ]
{ أُولَئِكَ } إشارة إلى المنافقين : { الّذِينَ يَعْلم اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } من النفاق والميل إلى الباطل وإن أظهروا إسلامهم وعذرهم بحلفهم .
{ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي : لا تعاقبهم لمصلحة في استبقائهم ولا تزد على كفهم ، بالموعظة والنصيحة عما هم عليه .
{ وَعِظْهُمْ } أي : ازجرهم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر .
{ وَقُل لّهُمْ قَوْلاً بَلِيغاً } أي : مؤثراً واصلاً إلى كنه المراد ، فإن قيل : بم تعلق قوله تعالى : { فِي أَنفُسِهِمْ } ؟ فالجواب : بقوله : { بَلِيغاً } على رأي من يجيز تقديم معمول الصفة على الموصوف ، أي : قل لهم قولاً بليغاً في أنفسهم مؤثراً في قلوبهم يغتمون به إغتماماً ، ويستشعرون منه الخوف استشعاراً ، وهو التوعد بالقتل والاستئصال إن نجم منهم النفاق وأطلع قَرْنَه ، وأخبرهم أن ما في نفوسهم من الدغل والنفاق ، معلوم عند الله ، وإنه لا فرق بينكم وبين المشركين ، وما هذه المكافّة إلا لإظهاركم الإيمان وإسراركم الكفر وإضماره ، فإن فعلتم ما تكشفون به غطاءكم لم يبق إلا السيف ، أو يتعلق بقوله : { قُل لّهُمْ } أي : قل لهم في معنى أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على النفاق ، قولاً بليغاً ، وإن الله يعلم ما في قلوبكم ، لا يخفى عليه ، فلا يغني عنكم إبطانه فأصلحوا أنفسكم وطهروا قلوبكم ، لا يخفى عليه ، فلا يغني عنكم إبطانه ، فأصلحوا أنفسكم وطهروا قلوبكم وداووها من مرض النفاق ، وإلا أنزل الله بكم ما أنزل بالمهاجرين بالشرك ، من انتقامه ، وشراً من ذلك وأغلظ ، أو قل لهم في أنفسهم خالياً بهم ، ليس معهم غيرهم ، مساراً لهم بالنصيحة ، لأنها في السر أنجع وفي الإمحاض أدخل : { قَوْلاً بَلِيغاً } يبلغ منهم ويؤثر فيهم ، كذا يستفاد من الكشاف .
قال الناصر في " الانتصاف " ولكل من هذا التأويلات شاهد على الصحة .
أما الأول : فلأن حاصله أمره بتهديدهم على وجه مبلغ صميم قلوبهم ، وسياق التهديد في قوله : { فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مّصِيبَةٌ بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمّ جَآؤُوكَ } يشهد له ، فإنه أخبر بما سيقع لهم على سبيل التهديد .
وأما الثاني : فيلائمه من السائق قوله : { أُولَئِكَ الّذِينَ يَعْلم اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } يعني ما انطوت عليه من الخبث والمكر والحيل ، ثم أمره بوعظهم والإعراض عن جرائمهم حتى لا تكون مؤاخذتهم بها مانعة من نصحهم ووعظهم ، ثم جاء قوله : { وَقُل لّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } كالشرح للوعظ ولذكر أهم ما يعظهم فيه ، وتلك نفوسهم التي علم الله ما انطوت عليه من المذامّ ، وعلى هذا يكون المراد الوعظ وما يتعلق به .
وأما الثالث : فيشهد له سيرته عليه الصلاة والسلام في كتم عناد المنافقين ، والتجافي عن إفصاحهم والستر عليهم ، حتى عدّ حذيفة - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ، صاحب سره عليه الصلاة والسلام ، لتخصيصه إياه بالاطلاع على أعيانهم وتسميتهم له بأسماءهم ، وأخباره في هذا المعنى كثيرة .
تنبيه :
قال بعض المفسرين : وثمرة الآية قبح الرياء والنفاق واليمين الكاذبة والعذر الكاذب ، لأنهم اعتذروا بإرادتهم الإحسان ، وذلك كذب ، ثم قال : ودلت الآية على لزوم الوعظ والمبالغة فيه . انتهى .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍٍ إِلاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنّهُمْ إِذ ظّلمواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوّاباً رّحِيماً } [ 64 ]
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍٍ إِلاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ } كلام مبتدأ ، جيء به تمهيداً لبيان خطتهم في ترك طاعة الرسول ، والاشتغال بسر جنايتهم بالاعتذار بالأباطيل وعدم تلاقيها بالتوبة ، أي : وما أرسلنا رسولاً إلا ليطاع فيما حكم ، لا ليطلب الحكم من غيره ، فطاعته فرض على من أرسل إليهم ، وإنكارُ فرضيتها كفر .
وقوله : { بِإِذْنِ اللّهِ } أي : بسبب إذنه في طاعته ، وبأنه أمر المبعوث إليهم بأن يطيعوه ويتبعوه ، لأنه مؤدٍّ عن الله فطاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله : { مّنْ يُطِعِ الرّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } ويجوز أن يراد : بتيسير الله وتوفيقه في طاعته :
{ وَلَوْ أَنّهُمْ إِذ ظّلمواْ أَنفُسَهُمْ } هذا الظلم العظيم غاية العظم ، إذ عرضوها لعذاب ، على عذاب النفاق ، بترك طاعتك والتحاكم إلى الطاغوت .
{ جَآؤُوكَ } تائبين من النفاق متنصلين عما ارتكبوا .
{ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ } من ذلك وتابوا إليه تعالى من صنيعهم : { وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرّسُولُ } أي : دعا لهم بالمغفرة ، فكان استغفاره شفاعة لقبول استغفارهم .
{ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوّاباً } أي : قابلاً لتوبتهم : { رّحِيماً } أي : متفضلاً عليهم بالرحمة وراء قبول التوبة .
لطيفة :
قال الزمخشريّ : ولم يقل : واستغفرت لهم ، وعَدَل عنه إلى طريقة الالتفات ، تفخيماً لشأن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وتعظيماً لاستغفاره وتنبيهاً على أن شفاعةَ مَنِ اسمُهُ الرسول ، من الله بمكان .
قال في " الانتصاف " : وفي هذا النوع من الالتفات خصوصية ، وهي اشتماله على ذكر صفة مناسبة لما أضيف إليه ، وذلك زائد على الالتفات بذكر الأعلام الجامدة .
تنبيهات :
الأول : دلت الآية على أن توبة المنافق مقبولة عند الله وفاقاً ، وأما الظاهر فظاهر الآية قبولها ، لأنه جعل النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مستغفراً لهم وشافعاً .
وعن الراضي بالله في ( الباطنية ) : إن أظهروا شبههم وما يعتادون كتمه ، دل ذلك على صدق توبتهم ، فيقبل وإلا فلا ، ودلت الآية على أن من تكررت منه المعصية والتوبة صحت توبته لقوله تعالى : { تَوّاباً } وذلك ينبئ عن التكرار ، كذا في بعض التفاسير .
الثاني : قال الرازيّ : لقائل أن يقول : أليس لو استغفروا الله وتابوا على وجه صحيح ، لكانت توبتهم مقبولة ؟ فما الفائدة في ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم : قلنا : الجواب عنه من وجوه :
الأول : أن ذلك التحاكم إلى الطاغوت كان مخالفة لحكم الله ، وكان أيضاً إساءة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ، ومن كان ذنبه كذلك وجب عليه الاعتذار عن ذلك الذنب لغيره ، فلهذا المعنى وجب عليهم أن يطلبوا من الرسول أن يستغفر لهم .
الثاني : إن القول لما لم يرضوا بحكم الرسول ، ظهر منهم ذلك التمرد ، فإذا تابوا وجب عليهم أن يفعلوا ما يزيل عنهم ذلك التمرد ، وما ذاك إلا بأن يذهبوا إلى الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ويطلبوا منه الاستغفار .
الثالث : لعلهم إذا أتوا بالتوبة أتَوْا بها على وجه الخلل ، فإذا انضم إليها استغفار الرسول صارت مستحقة للقبول . انتهى .
أقول : وثمة وجه رابع - وهو التنويه بشأن الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وأن طاعته طاعته تعالى ، فرضاه رضاه وسخطه سخطه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يجدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ وَيُسَلمواْ تَسْلِيماً } [ 65 ]
{ فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } في السر ولا يستحقون اسم الإيمان في السر .
{ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ } يجعلوك حاكماً ويترافعوا إليك : { فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } أي : فيما اختلف بينهم من الأمور والتبس .
{ ثُمّ لاَ يجدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ } في قلوبهم : { حَرَجاً } أي : ضيقاً : { مّمّا قَضَيْتَ } بينهم .
{ وَيُسَلمواْ } أي : ينقادوا لأمر ويذعنوا لحكمك : { تَسْلِيماً } تأكيد للفعل ، بمنزلة تكريره ، أي : تسليماً تاماً بظاهرهم وباطنهم من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة ، كما ورد في الحديث : < وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ! لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به > .
تنبيهات :
الأول : روى البخاريّ عن الزهريّ عن عروة قال : خاصم الزبير رجلاً في شراج الحراة ، فقال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < اسْقِ يَا زُبَيْرُ ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ > ، فقال الأنصاري : يا رسول الله ! أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ثم قال : < اسْقِ يَا زُبَيْرُ ، ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ > .
واستوعى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري ، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة .
قال الزبير : فما أحسب هذا الآيات إلا نزلت في ذلك : { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } .
قال ابن كثير : هكذا رواه البخاريّ في ( كتاب التفسير ) في " صحيحه " من حديث معمر ، وفي كتاب ( المساقاة ) من حديث ابن جريج ومعمر أيضاً ، وفي كتاب ( الصلح ) من حديث شعيب بن أبي حمزة ، ثلاثتهم عن الزهريّ عن عروة فذكره ، وصورته الإرسال وهو متصل في المعنى ، وقد رواه الإمام أحمد من هذا الوجه فصرح بالإرسال فقال : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب عن الزهريّ أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه كان يخاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدراً ، إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في شراج الحرة ، كان يستقيان بها كلاهما ، فقال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم للزبير : < اسْقِ ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ > ، فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله ! أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ثم قال للزبير : < اسْقِ يَا زُبَيْرُ ، ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ > .
فاستوعى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم للزبير حقه ، وكان النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، قبل ذلك ، أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري ، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، استوعى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم للزبير حقه في صريح الحكم .
قال عروة : فقال الزبير : والله ! ما أحسب هذه الآية أنزلت إلا في ذلك : { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يجدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ وَيُسَلمواْ تَسْلِيماً } .
هكذا رواه الإمام أحمد وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير فإنه لم يسمع منه ، والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله ، فإن أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم رواه كذلك في " تفسيره " ، فقال : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني الليث ويونس عن ابن شهاب ؛ أن عروة بن الزبير حدثه ؛ أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام ؛ أنه خاصم رجلاً . . . . الحديث ) .
قال ابن كثير : وهكذا رواه النسائي من حديث ابن وهب به ، ورواه أحمد والجماعة كلهم من حديث الليث به ، وجعله أصحاب الأطراف في مسند عبد الله بن الزبير ، وهكذا ساقه الإمام أحمد في مسند عبد الله بن الزبير ، والله أعلم .
وروى ابن أبي حاتم عن الزهريّ عن سعيد بن المسيب في هذه الآية قال : نزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة ، اختصما في ماء ، فقضى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أن يسقى الأعلى ثم الأسفل .
قال ابن كثير : هذا مرسل ، لكن فيه فائدة تسمية الأنصاري . انتهى .
قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " : وحكى الواحدي وشيخه الثعلبي والمهدوي أنه حاطب بن أبي بلتعة ، وتعقب بأن حاطباً وإن كان بدرياً ، لكنه من المهاجرين ، لكن مستند ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن عبد العزيز عن الزهريّ عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } الآية ، قال : نزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة ، اختصما في ماء . . . . الحديث ، وإسناده قوي مع إرساله ، فإن كان سعيد بن المسيب سمعه من الزبير ، فيكون موصولاً ، وعلى هذا فيؤول قوله ( من الأنصار ) على إرادة المعنى الأعم ، كما وقع ذلك في حق غير واحد كعبد الله بن حذافة ، وأما قول الكرمانيّ بأن حاطباً كان حليفاً للأنصار - ففيه نظر .
وأما قوله ( من بني أمية بن زيد ) فلعله كان مسكنه هناك ، كعمر ، ثم قال : ويترشح بأن حاطباً كان حليفاً لآل الزبير بن العوام من بني أسد وكأنه كان مجاوراً للزبير ، والله أعلم .
أقول : وقع في التفسير المنسوب لابن عباس ، ههنا ، ذكر حاطب بن أبي بلتعة وتلقيبه بالمنافق وإدراجه تحت قوله تعالى : { رَأَيْتَ المنَافِقِينَ } وفي صحة هذا عن ابن عباس نظر ، وكيف ؟ وقد كان - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - من البدريين ، وقد انتفى النفاق عمن شهدها .
قال التوربشتي : يحتمل أنه أصدر ذلك منه بادرة النفس ، كما وقع لغيره ممن صحت توبته ، إذا لم تجر عادة السلف بوصف المنافقين بصفة النصرة التي هي المدح ولو شاركهم في النسب ، قال : بل هي زلة من الشيطان تمكن به منها عند الغضب ، وليس ذلك بمستنكر من غير المعصوم في تلك الحالة . انتهى .
ولما همّ عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - بضرب عنقه في قصة الظعينة ، قال حاطب : لا تعجل عليّ يا رسول الله ! والله ! إني لمؤمن بالله ورسوله ، وما ارتددت ولا بدلت ، فأقرّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وكف عمر عنه ، وقال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لعمر : < إنه قد شهد بدراً ، وما يدريك يا عمر ؟ لعل الله قد اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم > ، فذرفت عينا عمر . . . . الحديث .
ولله در أصحاب الصحاح حيث أبهموا في قصة الزبير اسم خصمه ستراً عليه كيلا يغض من مقامه ، وهكذا ليكن الأدب ، وكفانا أصلاً عظيماً في هذا الباب إبهام التنزيل الجليل في كثير من قصصه الكريمة ، فهو ينبوع المعارف والآداب على مرور السنين والأحقاب ، هذا كله على الجزم بأنها نزلت في قصة الزبير وخصمه .
وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : والراجح رواية الأكثر ، وأن الزبير كان لا يجزم بذلك ، ثم قال الحافظ ابن حجر : وجزم مجاهد والشعبي بأن الآية إنما نزلت فيمن نزلت فيه الآية التي قبلها وهي قوله تعالى : { أَلم تَرَ } الخ فروى إسحاق بن راهويه في " تفسيره " بإسناد صحيح عن الشعبي ، قال : كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة ، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة ، ودعا المنافق اليهودي إلى حكامهم ، لأنه علم أنهم يأخذونها ، فأنزل الله هذه الآيات ، إلى . . . . { وَيُسَلمواْ تَسْلِيماً } .
وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نَجِيْح عن مجاهد ، نحوه .
وروى الطبري بإسناد صحيح عن ابن عباس أن حاكم اليهود يومئذ كان أبا برزة الأسلمي قبل أن يسلم ويصحب .
وروي بإسناد آخر صحيح إلى مجاهد ؛ أنه كعب بن الأشرف . انتهى .
وقال ابن كثير : ذكر سبب آخر غريب جداً ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس ابن عبد الأعلى قراءة ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود قال : اختصم رجلان إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقضى بينهما ، فقال المقضي عليه : ردنا إلى عُمَر بن الخطاب ، فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : نعم انطلقا إليه ، فلما أتيا إليه ، فقال الرجل يا ابن الخطاب ! قضى لي رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم على هذا ، فقال : ردنا إلى عُمَر بن الخطاب فرددنا إليك ، فقال : أكذاك ؟ قال : نعم : فقال عمر : مكانكما حتى أخرج إليكما فأقضي بينكما ، فخرج إليه مشتملاً على سيفه فضرب الذي قال : ردنا إلى عمر ، فقتله ، وأدبر الآخر ، فأتى إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقال : يا رسول ! قتل عمر ، والله ! صاحبي ، ولولا أني أعجزته لقتلني .
فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن > ، فأنزل الله : { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } الآية فهدر دم ذلك الرجل وبرئ عمر من قتله ، فكره الله أن يسن ذلك بعد ، فأنزل : { لَوْ أَنّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } الآية وكذا رواه ابن مردويه من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود به ، وهو أثر غريب مرسل ، وابن لهيعة ضعيف ، والله أعلم .
طريق أخرى : قال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دحيم في " تفسيره " : حدثنا شعيب بن شعيب ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا عُتْبَةُ بن حمزة ، حدثني أبي ، أن رجلين اختصما إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقضى للمحق على المبطل ، فقال المقضي عليه : لا أرضى ، فقال صاحبه : فما تريد ؟ قال : أن نذهب إلى أبي بكر الصديق ، فذهبا إليه ، فقال الذي قضى له : قد اختصمنا إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقضى لي ، فقال أبو بكر : أنتما على ما قضى به رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فأبى صاحبه أن يرضى ، فقال : نأتي عُمَر بن الخطاب ، فقال المقضي له : قد اختصمنا إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقضى لي عليه ، فأبى أن يرضى ، فسأله عُمَر بن الخطاب ، فقال كذلك فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده سله ، فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى ، فقتله ، فأنزل الله : { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } الآية . انتهى .
وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : روى الكلبي في تفسيره عن أبي صالح عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة ، فقال اليهودي : انطلق بنا إلى محمد ، وقال المنافق : بل نأتي كعب بن الأشرف ، فذكر القصة ، وفيه أن عمر قتل المنافق وأن ذلك سبب نزول هذه الآيات وتسمية عمر الفاروق ، وهذا الإسناد ، وإن كان ضعيفاً ، لكن تقوى بطريق مجاهد ، ولا يضره الاختلاف ، لإمكان التعدد .
وأفاد الواحدي بإسناد صحيح عن سعيد عن قتادة أن اسم الأنصاري المذكور قيس ، ورجح الطبري في " تفسيره " وعزاه إلى أهل التأويل في " تهذيبه " أن سبب نزولها هذه القصة ، ليتسق نظام الآيات كلها في سبب واحد ، قال : ولم يعرض بينها ما يقتضي خلاف ذلك .
ثم قال : ولا مانع أن تكون قصة الزبير وخصمه وقعت في أثناء ذلك فيتناولها عموم الآية ، والله أعلم . انتهى .
قال الرازيّ : اعلم أن قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } قسمٌ من الله تعالى على أنهم لا يصيرون موصوفين بصفة الإيمان إلا عند حصول شرائط :
أولها : قوله تعالى : { حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } وهذا يدل على أن من لم يرض بحكم الرسول لا يكون مؤمناً .
الشرط الثاني : قوله : { ثُمّ لاَ يجدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ } واعلم أن الراضي بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام قد يكون راضياً في الظاهر دون القلب ، فبين ، في هذه الآية ، أنه لا بد من حصول الرضا به في القلب ، واعلم أن ميل القلب ونفرته شيء خارج عن وسع البشر ، فليس المراد من الآية ذلك بل المراد منه أن يحصل الجزم واليقين في القلب بأن الذي يحكم به الرسول هو الحق والصدق .
الشرط الثالث : قوله : { وَيُسَلمواْ تَسْلِيماً } واعلم أن من عرف بقلبه كون ذلك الحكم حقاً وصدقاً ، قد يتمرد عن قبوله على سبيل العناد أو يتوقف في ذلك القبول ، فبين تعالى أنه ، كما لا بد في الإيمان من حصول ذلك اليقين في القلب ، فلا بد أيضاً من التسليم معه في الظاهر ، فقوله : { ثُمّ لاَ يجدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ } المراد به الانقياد في الباطن ، وقوله : { وَيُسَلمواْ تَسْلِيماً } المراد منه الانقياد في الظاهر ، والله أعلم .
الثالث : قال الرازيّ : ظاهر الآية يدل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس ، لأنه لا يدل على أنه يجب متابعة قوله وحكمه على الإطلاق ، وأنه لا يجوز العدول منه إلى غيره ، ومثل هذه المبالغة المذكورة في هذه الآية قلما يوجد في شيء من التكاليف ، وذلك يوجب تقديم عموم القرآن والخبر على حكم القياس ، وقوله : { ثُمّ لاَ يجدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ } مشعر بذلك ، لأنه متى خطر بباله قياس يفضي إلى نقيض مدلول النص ، فهناك يحصل الحرج في النفس ، فبين تعالى أنه لا يكمل إيمانه ، إلا بعد أن لا يلتفت إلى ذلك الحرج ، ويسلم النص تسليماً كلياً ، وهذا الكلام قوي حسن لمن أنصف .
الرابع : ( لا ) في قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبّكَ } قيل إنها ردٌّ لمقدر ، أي : تفيد نفي أمر سبق ، والتقدير : ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك ، ثم استأنف القسم بقوله : { وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ } وقيل : مزيدة لتأكيد النفي الذي جاء فيما بعد أعني الجواب ، لأنه إذا ذكر في أول الكلام وفي آخره كان أوكد وأحسن ، وقيل : إنها مزيدة لتأكيد معنى القسم ، وارتضاه الزمخشريّ ، قال كما زيدت في : { لِئَلّا يَعْلم } [ الحديد : من الآية 29 ] لتأكيد وجوب العلم ، قال في " الانتصاف " يشير إلى أن ( لا ) لما زيدت مع القسم ، وإن لم يكن المقسم به ، دَلَّ ذلك على أنها إنما تدخل فيه لتأكيد القسم ، فإذا دخلت حيث يكون المقسم عليه نفياً ، تعين جعلها لتأكيد القسم ، طرداً للباب ، أو الظاهر عنده ، والله أعلم ، أنها هنا لتوطئة النفي المقسم عليه ، والزمخشريّ لم يذكر مانعاً من ذلك ، وحاصل ما ذكره مجيئها لغير هذا المعنى في الإثبات ، وذلك لا يأبى مجيئها في النفي على الوجه الآخر من التوطئة ، على أن في دخولها على القسم المثبت نظراً ، وذلك أنها لم ترد في الكتاب العزيز إلا مع القسم حيث يكون بالفعل ، مثل : { لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ } [ البلد : 1 ] : { لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } [ القيامة : 1 ] : { فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنّسِ } [ التكوير : 15 ] : { فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النّجُومِ } [ الواقعة : 75 ] : { فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ } [ الحاقة : 38 - 39 ] ، ولم تدخل أيضاً إلا على القسم بغير الله تعالى ، ولذلك شرٌّ يأبى كونها في هذه الآية لتأكيد القسم ، ويعين كونها للتوطئة : وذلك أن المراد بها في جميع الآيات التي عددناها تأكيد تعظيم المقسم به ، إذ لا يقسم بالشيء إلا إعظاماً له ، فكأنه بدخولها يقول : إن إعظامي لهذه الأشياء بالقسم بها ، كلا إعظام ، يعني أنها تستوجب من التعظيم فوق ذلك ، وهذا التأكيد إنما يؤتى به رفعاً لتوهم كون هذه الأشياء غير مستحقة للتعظيم ، وللإقسام بها ، فيزاح هذا الوهم بالتأكيد ، في إبراز فعل القسم مؤكداً بالنفي المذكور ، وقد قرر الزمخشريّ هذا المعنى في دخول ( لا ) عند قوله : { لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } على وجه مجمل ، هذا بسطه وإيضاحه ، فإذا بين ذلك ، فهذا الوهم الذي يراد إزاحته في القسم بغير الله ، مندفع في الإقسام بالله ، فلا يحتاج إلى دخول ( لا ) مؤكدة للقسم ، فيتعين حملها على الموطئة ، ولا تكاد تجدها ، في غير الكتاب العزيز ، داخلة على قسم مثبت ، وأما دخولها في القسم ، وجوابه نفي ، فكثير مثل :
~فَلاَ وأَبِيكِ ابْنَةَ الْعَامِرِيّ لاَ يَدَّعِي الْقَوْمُ أَنَّي أَفرّ
وكقوله :
~أَلاَ نَادَتْ أُمَامةُ باحتمالٍٍ لِتَحْزنَنِي ، قَلاَ بِكِ مَا أُبَالِي
وقوله :
~رأَىَ بَرْقاً فَأَوضع فوق بَكْرٍٍ فَلاَ بِكِ مَا أَساَل وَلا أغاما
وقوله :
~فَخَالِفْ فَلاَ واللهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً من الأرض إلاَّ أنت للذلِّ عَارفٌ
وهو أكثر من أن يحصى ، فتأمل هذا الفصل فإنه حقيق بالتأمل . انتهى .
الخامس : أعلم أن كل حديث صح عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، بأن رواه جامعو الصحاح ، أو صححه من يرجع إليه في التصحيح من أئمة الحديث ، فهو مما تشمله هذه الآية ، أعني قوله تعالى : { مّمّا قَضَيْتَ } فحينئذ يتعين على كل مؤمن بالله ورسوله الأخذ به وقبوله ظاهراً وباطناً ، وإلا بأن التمس مخارج لرده أو تأويله ، بخلاف ظاهره ، لتمذهب تقلَّده وعصبية رُبِيَ عليها ، كما هو شأن المقلدة أعداء الحديث وأهله - فيدخل في هذا الوعيد الشديد المذكور في هذه الآية ، الذي تقشعر له الجلود وترجف منه الأفئدة .
قال الإمام الشافعيّ في الرسالة التي أرسلها إلى عبد الرحمن بن مهدي : أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه قال : أرسله عُمَر بن الخطاب - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - إلى شيخ من زهرة كان يسكن دارنا ، فذهبت معه إلى عمر ، فسأل عن وليدة من ولائد الجاهلية ، فقال : أما الفراش فلفلان ، وأما النطفة فلفلان ، فقال : صدقت ، ولكن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قضى بالفراش .
قال الشافعيّ : وأخبرني من لا أتهم عن ابن أبي ذئب قال : أخبرني مخلد بن خفاف قال : ابتعت غلاماً فاستغللته ، ثم ظهرتُ منه على عيب فخاصمت فيه إلى عُمَر بن عبد العزيز ، فقضى لي برده ، وقضى عليّ برد غلته ، فأتيت عروة فأخبرته فقال : أروح إليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قضى في مثل هذا ، أن الخراج بالضمان ، فعجلت إلى عمر فأخبرته بما أخبرني به عروة عن عائشة عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فقال عُمَر بن عبد العزيز : فما أيسر عليّ من قضاء قضيتُه ، والله يعلم أني لم أرد فيه إلا الحق - فبلغتني فيه سنة عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فأرد قضاء عمر وأنفذ سنة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فراح إليه عروة فقضى لي أن آخذ الخراج الذي قضى به عليّ له .
قال الشافعيّ : وأخبرني من لا أتهم من أهل المدينة عن ابن أبي ذئب قال : قضى سعيد بن إبراهيم على رجل ، بقضية ، برأي ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، فأخبرته عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بخلاف ما قضى به ، فقال سعد لربيعة : هذا ابن أبي ذئب ، وهو عندي ثقة ، يخبرني عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بخلاف ما قضيت به ، فقال له ربيعة : قد اجتهدت ومضى حكمك ، فقال سعد : واعجباً ، أنفذ قضاء سعد بن أم سعد وأردّ قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ! بل أرد قضاء سعد بن أم سعد بن أم سعد وأنفذ قضاء رسول لله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فدعى سعد بكتاب القضية فشقه ، فقضى للمقضي عليه .
قال الشافعيّ : أخبرنا أبو حنيفة بن سِمَاك بن الفضل الشهابي ، قال : حدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال عام الفتح : < مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهْوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ ، إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود > .
قال أبو حنيفة : فقلت لابن أبي ذئب : أتأخذ بهذا ، يا أبا الحارث ؟ فضرب صدري وصاح عليّ صياحاً كثيراً ، ونال مني وقال : أحدثك عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وتقول أتأخذ به ؟ نعم ، آخذ به ، وذلك القرض عليّ وعلى من سمعه ، إن الله تبارك وتعالى اختار محمداً صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من الناس فهداهم به وعلى يديه ، واختار لهم ما اختار له وعلى لسانه ، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين داخرين ، لا مخرج لمسلم من ذلك .
وما سكت حتى تمنيت أن يسكت . انتهى .
قال الإمام الفُلاني في " إيقاظ الهمم " بعد نقل ما مرّ : تأمل فعل عُمَر بن الخطاب وفعل عُمَر بن عبد العزيز وفعل سعد بن إبراهيم ، يظهر لك أن المعروف عند الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعند سائر العلماء المسلمين ، أن حكم الحاكم المجتهد ، إذا خالف نص كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وجب نقضه ومنع نفوذه ، ولا يعارض نص الكتاب والسنة بالاحتمالات العقلية والخيالات النفسانية والعصبية الشيطانية ، بأن يقال : لعل هذا المجتهد قد اطلع على هذا النص وتركه لعلة ظهرت له ، أو أنه اطلع على دليل آخر ، ونحو هذا ، مما لهج به فرق الفقهاء المتعصبين ، وأطبق عليه جهلة المقلدين فافهم . انتهى .
وقال ولي الدين التبريزي في " مشكاة المصابيح " في ( الفصل الثالث عشر ) من ( باب الجماعة وفضلها ) : وعن بلال بن عبد الله بن عُمَر عن أبيه قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ حُظُوظَهُنَّ مِنِ الْمَسَاجِدِ . إِذَا اسْتَأْذَنُوكُمْ > ، فقال بلال : والله ! لنمنعهن ، فقال عبد الله : أقول : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وتقول أنت : لنمنعهن ؟ ( وفي رواية سالم عن أبيه ) قال : فأقبل عليه عبد الله فسبه سبّاً ما سمعت سبه مثله قط ، وقال : أخبرك عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وتقول : والله ! لنمنعهن .
رواه مسلم ، وعن مجاهد عن عبد الله بن عُمَر أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < لا يمنعن رجل أهله أن يأتوا المساجد > ، فقال ابنٌ لعبد الله بن عُمَر : فإنا نمنعهن ، فقال عبد الله أحدثك عن رسول الله وتقول هذا ؟ قال فما كلمه عبد الله حتى مات ، رواه الإمام أحمد .
وقال الطيبي شارح " المشكاة " : عجبت ممن سمي بالسني ، إذا سمع من سنة رسول الله وله رأي ، راجح رأيه عليها ، وأي فرق بينه وبين المبتدع ؟ أما سمع : < لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به > ؟ وها هو ابن عمر ، وهو من أكابر الصحابة وفقهائها ، كيف غضب لله ورسوله وهجر فلذة كبده لتلك الهنة ، عبرة لأولي الألباب .
وروى الإمام مسلم في " صحيحه " في ( كراهة الخذف ) قبيل ( كتاب الأضاحي ) ، عن سعيد بن جبير أن قريباً لعبد الله بن مُغَفَّل حذف ، قال فنهاه وقال : إن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم نهى عن الخذف ، وقال : < إنها لا تصيد صيداً ولا تنكأ عدواً ، وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ ، وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ > ، فقال فعاد ، فقال : أحدثك أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم نهى عنه ثم تخذف ، لا أكلمك أبداً .
قال النووي : فيه جواز هجران أهل البدع والفسوق ، وأنه يجوز هجرانهم دائماً ، فالنهي عنه فوق ثلاثة أيام إنما هو في هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا ، وأما هجر أهل البدع ، فيجوز على الدوام ، كما يدل عليه هذا مع نظائر له ، لحديث كعب بن مالك .
قال السيوطيّ : وقد ألفت مؤلفاً سميته " الزجر بالهجر " لأني كثير الملازمة لهذه السنة .
أقول : حديث الخذف ساقه الحافظ الدارمي في " سننه " تحت باب ( تعجيل عقوبة من بلغه عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم حديثه فلم يعظمه ولم يوقره ) ورواه من طرق متنوعة ، وفي بعضها : أحدثك أني سمعت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ينهى عن الخذف ثم تخذف ؟ والله ! لا أشهد لك جنازة ولا أعودك في مرض ولا أكلمك أبداً .
وأسند الدارمي في هذا الباب عن قتادة عن ابن سيرين ؛ أنه حدث رجلاً بحديث عن الني صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فقال رجل : قال فلان وفلان : كذا وكذا ! فقال ابن سيرين : أحدثك عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وتقول : قال فلان وفلان ؟ لا أكلمك أبداً ، وأسند أيضاً فيه عن عبد الرحمن بن حرملة قال : جاء رجل إلى سعيد بن المسيب يودعه بحج أو عَمْرة ، فقال له : لا تبرح حتى تصلي ، فإن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال لا يخرج بعد النداء من المسجد إلا منافق ، إلا رجل أخرجته حاجة وهو يريد الرجعة إلى المسجد ، فقال : إن أصحابي بالحرة ، قال فخرج ، قال : فلم يزل سعيد يولع بذكره حتى أخبر أنه وقع من راحلته فانكسرت فخذه .
وذكر الدرامي - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قبل هذا الباب ( باب ما يتّقى من تفسير حديث النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وقول غيره عند قوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ) وأسند عن معتمر عن أبيه عن ابن عباس أنه قال : أما تخافون أن تعذبوا أو يخسف بكم أن تقولوا : قال رسول الله ، وقال فلان .
قال الإمام شمس الدين بن القيم في " أعلام الموقعين " : ترى كثيراً من الناس إذا جاء الحديث يوافق قول من قلده ، وقد خالفه راويه يقول : الحجة فيما روى لا في قوله ، فإذا جاء قول الراوي موافقاً لقول من قلده ، والحديث يخالفه قال : لم يكن الراوي يخالف ما رواه وإلا وقد صح عنده نسخه ، وإلا كان قدحاً في عدالته ، فيجمعون في كلامهم بين هذا وهذا ، بل قد رأينا ذلك في الباب الواحد ، وهذا من أقبح التناقض ، والذي ندين الله به ، ولا يسعنا غيره ، أن الحديث إذا صح عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه ، أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه ، ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائناً من كان ، لا رواية ولا غيره : إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث ولا يحضره وقت الفتيا ، أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة ، أو أن يتأول فيه تأويلاً مرجوحاً ، أو يقوم في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضاً في نفس الأمر ، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه ، وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه ، ولو قدّر انتقاء ذلك كله ، ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه ، لم يكن الراوي معصوماً ، ولم توجب مخالفته ، لما رواه ، سقوط عدالته ، حتى تغلب سيئاته حسناته ، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك .
وقال الفلاني رحمه الله تعالى في " الإيقاظ " قال عثمان بن عُمَر : جاء رجل إلى مالك بن أنس فسأله عن مسألة فقال له : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كذا وكذا ، فقال الرجل : أرأيت ؟ فقال مالك : { فَلْيَحْذَرِ الّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } قال مالك : لم تكن من فتيا الناس أن يقال لهم : لم قلت هذا ؟ كانوا يكتفون بالرواية ويرضون بها .
قال الجنيد - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في ( فتوى له ) قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله تعالى افترض على العباد طاعته وطاعة رسوله ، ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه ، في كل ما أمر به ونهى عنه ، إلا رسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، حتى كان صديق الأمة وأفضلها بعد نبيها صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ورضي عنه يقول : أطيعوني ما أطعت الله ، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم ، واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصوماً في كل ما أمر به ونهى عنه إلا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ولهذا قال غير واحد من الأئمة : كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وهؤلاء الأئمة الأربعة قد نهو الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه ، وذلك هو الواجب ، وقال أبو حنيفة : هذا رأيي ، وهذا أحسن ما رأيت ، فمن جاء برأي خير منه قبلناه ، ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه ، أبو يوسف بإمام دار الهجرة ، مالك بن أنس وسأله عن مسألة الصاع ، وصدقة الخضروات ، ومسألة الأحباس ، فأخبره مالك - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - بما دلت عليه السنة في ذلك ، فقال : رجعت لقولك يا أبا عبد الله ، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت .
ومالك رحمه الله كان يقول : إنما أنا بشر أصيب وأخطئ فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة : أو كلام هذا معناه .
والشافعي رحمه الله كان يقول : إذا صح الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط ، وإذا رأيت الحجة موضوعة على طريق فهي قولي .
ثم قال ابن تيمية : وإذا قيل لهذا المستفني المسترشد : أنت أعلم أم الإمام الفلاني ؟ كانت هذه معارضة فاسدة ، لأن الإمام الفلاني قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة ، ولست من هذا ولا من هذا ، ولكن نسبه هؤلاء الأئمة إلى نسبة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وأبن مسعود وأُبي ومعاذ ونحوهم إلى الأئمة وغيرهم ، فكما أن هؤلاء الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع ، فإذا تنازعوا في شيء ردوه إلى الله وإلى رسوله ، وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع آخر ، وكذلك موارد النزاع بين الأئمة ، وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود رضي الله عنهما في مسألة تيمم الجنب ، وأخذوا بقول أبي موسى الأشعري - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - وغيره ، لما احتج بالكتاب والسنة ، وتركوا قول عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - في دية الأصابع ، وأخذوا بقول معاوية بن أبي سفيان ، لما كان من السنة أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < هذه وهذه سواء > ، وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس رضي الله عنهما في المتعة ، فقال له : قال أبو بكر وعمر ، فقال ابن عباس : يوشك أن ينزل عليكم حجارة من السماء ، أقول : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر ، وكذلك ابن عمر رضي الله عنهما ، لما سألوه عنها ، فأمر بها فارضوه بقول عمر ، فبين لهم أن عمر لم يرد ما يقولونه ، فألحوا عليه فقال لهم ، أرسول الله أحق أن يتبع أم عمر ؟ مع علم الناس بأن أبا بكر وعمر أعلم من ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم ، ولو فتح هذا الباب لأوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله ، وبقي كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي في أمته ، وهذا تبديل للدين وشبيه بما عاب الله به النصارى في قوله : { اتّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَالمسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 31 ] ، والله سبحانه أعلم . انتهى .
وقال الإمام ابن القيم في خطبة " زاد المعاد " : فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته ، فلأتباعه الهدى والأمن والفلاح والعزة والكفاية والنصرة والولاية والتأييد وطيب العيش في الدنيا والآخرة ، ولمخالفيه الذلة والصغار والخوف والضلال والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة ، وقد أقسم صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بأن لا يؤمن أحد حتى يكون هو أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين ، وأقسم سبحانه بأنه لا يؤمن من لم يحكمه في كل ما تنازعه فيه هو وغيره ، ثم يرضى بحكمه ، ولا يجد في نفسه حرجاً مما حكم به ، ثم يسلم له تسليماً ، وينقاد له انقياداً ، وقال تعالى : { وَمَا كَانَ لمؤْمِنٍٍ وَلا مُؤْمِنَةٍٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [ الأحزاب : من الآية 36 ] ، فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله ، فليس لمؤمن أن يختار شيئاً بعد أمره صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، بل إذا أمر فأمره حتم ، وإنما الخيرة في قوله غيره ، إذا خفي أمره ، وكان ذلك الغير من أهل العلم به وبسنته ، فبهذه الشروط يكون قول غيره سائغ الاتباع ، لا واجب الاتباع ، فلا يجب على أحد اتباع قول أحد سواه ، بل غايته أنه يسوغ له اتباعه ، ولو ترك الأخذ بقول غيره ، لم يكن عاصياً لله ورسوله ، فأين هذا ممن يجب على جميع المكلفين اتباعه ، ويحرم عليهم مخالفته ، ويجب عليهم ترك كل قول لقوله ، فلا حكم لأحد معه ، ولا قول لأحد معه ، كما لا تشريع لأحد معه ، وكل حي سواه ، فإنما يجب اتباعه على قوله ، إذا أمر بما أمر به ونهى عما نهى عنه ، فكان مبلغاً محضاً ومخبراً ، لا منشئاً ومؤسساً ، فمن أنشأ أقوالاً وأسس قواعد ، بحسب فهمه وتأويله ، لم يجب على الأمة اتباعها ولا التحاكم إليها ، حتى تعرض على ما جاء به ، فإن طابقته ووافقته وشهد لها بالصحة ، قبلت حينئذ ، وإن خالفته وجب ردها واطراحها ، وإن لم يتبين فيها أحد الأمرين ، جعلت موقوفة ، وكان أحسن أحوالها أن يجوز الحكم والإفتاء بها ، وأما أنه يجب ويتعين ، فكَلاّ . انتهى .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مّا فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ وَأَشَدّ تَثْبِيتاً } [ 66 ]
{ وَلَوْ أَنّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مّا فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ } قال الرازيّ : اعلم أن هذه الآية متصلة بما تقدم من أمر المنافقين وترغيبهم في الإخلاص وترك النفاق ، والمعنى : إنا لو شدّدنا التكليف على الناس ، نحو أن نأمرهم بالقتل والخروج عن الأوطان ، لصعب ذلك عليهم ، ولما فعله إلا الأقلون ، وحينئذ يظهر كفرهم وعنادهم ، فلما لم نفعل ذلك ، رحمة منا على عبادنا ، بل اكتفينا بتكليفهم في الأمور السهلة ، فليقبلوها بالإخلاص ، وليتركوا التمرد والعناد ، حتى ينالوا خير الدارين . انتهى .
ونقله فيما بعد عن ابن عباس ، وعليه فمرجع الضمير في ( عَلَيْهِمْ ) إلى المنافقين ، وثمة وجه آخر ، وهو عوده إلى الناس كافة ، ويكون المراد بـ ( القليل ) المؤمنين ، وأما الضمير في قوله : { وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُواْ } فهو مختص بالمنافقين ، ولا يبعد أن يكون أول الآية عاماً وآخرها خاصاً ، قرره الرازيّ ، روى ابن جريج بسنده إلى أبي إسحاق السبيعي قال : لما نزلت : { وَلَوْ أَنّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ } الآية ، قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا ، فبلغ ذلك النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقال : < إن من أمتي لرجالاً ، الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي > ، ورواه ابن أبي حاتم نحوه ، وأسند عن السديّ قال : افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من اليهود ، فقال اليهودي : والله ! لقد كتب الله علينا القتل فقتلنا أنفسنا ، فقال ثابت : والله ! لو كتب علينا أن اقتلوا أنفسكم لفعلنا ، فنزلت الآية ، وأسند أيضاً عن عامر بن عبد الله بن الزبير أن هذه الآية لما نزلت قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم ، وأسند أيضاً عن شريح بن عبيد قال : لما تلا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم هذه الآية ، أشار بيده إلى عبد الله بن رواحة فقال : لو أن الله كتب ذلك ، لكان هذا من أولئك القليل .
تنبيهات :
الأول : قال بعض المفسرين : أراد حقيقة القتل والخروج من الديار ، وقيل : أراد التعرض للقتل بالجهاد ، وأراد الهجرة بالخروج من الديار ، والمعنى : لو أمر المنافقون ، كما أمر المؤمنون ، ما فعلوه . انتهى .
والقول الثاني بعيد ، لأنه لا يعدل عن الحقيقة إلا لضرورة ، ولمنافاته للآثار المذكور الصريحة في الأول .
الثاني : الضمير في ( فعلوه ) للمكتوب الشامل للقتل والخروج ، لدلالة ( كتبنا ) عليه ، أو هو عائد على أحد مصدري الفعلين ، قال الخفاجي : وللعطف بـ ( أو ) لزم توحيد الضمير . انتهى .
أقول : ذكر الشيخ خالد في " التصريح " أن إفراد الضمير في العطف بـ ( أو ) رأي البصريين ، والتثنيةُ رأي الكوفيين ، فأفاد جواز الوجهين ، قال محشيه العلامة يس : الذي نص عليه ابن مالك أن ( أو ) التي للشك والإبهام يفرد بعدها الضمير ، والتي للتنويع يطابق ، نحو قوله تعالى : { إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا } [ النساء : من الآية 135 ] ، ونص على ذلك ابن هشام في " المغني " في ( بحث الجملة المعترضة ) ، فقال ( في قوله تعالى : { إِن يَكُنْ غَنِيّا أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا } ) : الظاهر أن الجواب : فالله أولى بهما ، ولا يرد ذلك تثنية للضمير كما قد توهموا ، لأن ( أو ) هنا للتنويع ، حكمها حكم ( الواو ) في وجوب المطابقة ، نص عليه الأبدي وهو الحق . انتهى .
وبه يعلم أن ما اشتهر من أنه إذا ذكر متعاطفان بـ ( أو ) فإنه يعاد الضمير إلى أحدهما - ليس على عمومه .
الثالث : قرأ ابن عامر ( قليلاً ) بالنصب على الاستثناء ، والباقون بالرفع بدلاً من الضمير المرفوع : { وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ } أي : من متابعة الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وطاعته والانقياد لما يحكم به ظاهراً وباطناً ، وسميت أوامر الله ونواهيه مواعظ ، لاقترانها بالوعد والوعيد : { لَكَانَ } أي : فعلهم ذلك : { خَيْراً لّهُمْ } في عاجلهم : { وَأَشَدّ تَثْبِيتاً } أي : لإيمانهم ، وأبعد من الاضطراب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذاً لّآتَيْنَاهُم مّن لّدُنّا أَجْراً عَظِيماً } [ 67 ]
{ وَإِذاً لّآتَيْنَاهُم مّن لّدُنّا } أي : من عندنا .
{ أَجْراً } أي : ثواباً : { عَظِيماً } يعني الجنة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً } [ 68 ]
{ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً } أي : لثبتناهم في الدنيا على دين قويم نرتضيه ، وهو الإسلام ، ثم بين تعالى فضل الطاعة وأن ثمرتها مرافقة أقرب عَبَّاد الله إلى الله وأرفعهم درجات عنده ، فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مّنَ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشّهَدَاء وَالصّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } [ 69 ]
{ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم } ولم يذكر المنعَم به إشعاراً بقصور العبارة عن تفصيله وبيانه .
{ مّنَ النّبِيّينَ } الذين أنبأهم الله أكمل الاعتقادات والأحكام ، وأمرهم بإنبائها الخلق ، كلّاً بمقدار استعداده .
{ وَالصّدّيقِينَ } جميع صديق ، وهو المبالغ في صدق ظاهره بالمعاملة ، وباطنه بالمراقبة ، أو الذي يصدق قوله بفعله كذا في " المدارك " .
قال الرازيّ : للمفسرين ( في الصديق ) وجوه :
الأول : أن كل من صدق بكل الدين لا يتخالجه فيه شك فهو صديق ، والدليل قوله تعالى : { وَالّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصّدّيقُون } [ الحديد : من الآية 19 ] .
الثاني : قال قولهم : الصديقون أفاضل أصحاب النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .
الثالث : أن الصديق اسم لمن سبق إلى تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام .
فصار في ذلك قدوة لسائر الناس ، وإذا كان الأمر كذلك ، كان أبو بكر الصديق - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أولى الخلق بهذا الوصف ، ثم جوّد الرازيّ الكلام في سبقه - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - إلى التصديق ، وفي كونه صار قدوة للناس في ذلك ، فانظره .
{ وَالشّهَدَاء } الذين استشهدوا في سبيل الله تعالى .
{ وَالصّالِحِينَ } الذين صلحت أحوالهم وحسنت أعمالهم .
{ وَحَسُنَ أُولَئِكَ } إشارة إلى النبيين والصديقين وما بعدهما .
{ رَفِيقاً } يعني في الجنة ، والرفيق الصاحب ، سمي رفيقاً لارتفاقك به وبصحبته ، وإنما وحدّ ( الرفيق ) وهو صفة الجمع ، لأن العرب تعبر به عن الواحد والجمع ، كالصديق والخليط ، والجملة تذييل مقرر لما قبله ، مؤكد للترغيب والتشويق .
قال الزمخشريّ : فيه معنى التعجب ، كأنه قيل : وما أحسن أولئك رفيقاً ! ولاستقلاله بمعنى التعجب قرئ ( وحسْن ) بسكون السين .
تنبيهات :
الأول : قال الرازيّ : ليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين . . . . إلخ - كون الكل في درجة واحدة ، لأن هذا يقتضي التسوية ي الدرجة بين الفاضل والمفضول ، وأنه لا يجوز ، بل المراد كونهم في الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر ، وإن بعد المكان ، لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضاً ، وإذا أرادوا الزيادة قدروا عليه ، فهذا هو المراد من هذه المعية .
الثاني : دلت الآية على أنه لا مرتبة بعد النبوة في الفضل والعلم إلا هذا الوصف ، وهو كون الإِنسَاْن صديقاً ، ولذا أينما ذكر في القرآن الصديق والنبي لم يجعل بينهما واسطة .
كما قال تعالى في وصف إسماعيل : { إِنّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ } [ مريم : من الآية 54 ] ، وفي صفة إدريس : { إِنّهُ كَانَ صِدّيقاً نَبِيّاً } [ مريم : من الآية 56 ] ، وقال في هذه الآية : { مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ } يعني إنك إن ترقيت من الصديقية وصلت إلى النبوة ، وإن نزلت من النبوة وصلت إلى الصديقية ، ولا متوسط بينهما ، وقال في آية أخرى : { وَالّذِي جَاءَ بِالصّدْقِ وَصَدّقَ بِهِ } [ الزمر : من الآية 33 ] ، فلم يجعل بينهما واسطة ، وكما دلت هذه الدلائل على نفي الواسطة ، فقد وفق الله هذه الأمة الموصوفة بأنها خير أمة ، حتى جعلوا الإمام بعد الرسول عليه الصلاة والسلام أبا بكر ، على سبيل الإجماع ، ولما توفي رضوان الله عليه دفنوه إلى جنب رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وما ذاك إلا أن الله تعالى رفع الواسطة بين النبيين والصديقين في هذه الآية ، لا جرم ارتفعت الواسطة بينهما في الوجوه التي عددناها ، أفاده الرازيّ .
الثالث : روى الطبري في سبب نزولها عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وهو محزون ، فقال له النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : يا فلان ! ما لي أراك محزوناً ! فقال : يا نبي الله ! شيء فكرت فيه ، فقال : ما هو ! قال نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك ، غداً ترفع مع النبيين فلا نصل إليك ، فلم يرد النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم شيئاً ، فأتاه جبريل بهذه الآية : { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ } إلخ ، فبعث النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فبشره ، وقد روي هذا الأثر مرسلاً عن مسروق وعن عِكْرِمَة وعامر الشعبي وقتادة وعن الربيع بن أنس ، وهو من أحسنها سنداً : قال الطبري : حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع قال ( في هذه الآية ) : إن أصحاب النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قالوا : قد علمنا أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم له فضله على من آمن به في درجات الجنة ، ممن اتبعه وصدقه ، فكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضاً ؟ فأنزل الله في ذلك هذه الآية ، فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إِنَّ الْأَعْلَيْنَ يَنْحَدِرُونَ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَل مِنْهُمْ ، فَيَجْتَمِعُونَ فِي رِيَاضها فَيَذْكُرُونَ مَا أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِمْ وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ وَيَنْزِل لَهُمْ أَهْل الدَّرَجَات فَيَسْعَوْنَ عَلَيْهِمْ بِمَا يَشْتَهُونَ وَمَا يَدْعُونَ بِهِ فَهُمْ فِي رَوْضَة يُحْبَرُونَ وَيَتَنَعَّمُونَ فِيهِ > .
ورواه ابن مردويه من وجه آخر مرفوعاً عن عائشة ، قالت : جاء رجل إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقال : يا رسول الله ! إنك لأحب إليّ من نفسي وأحب إلي من أهلي وأحب إلي من ولدي ، وإني لأكون في البيت فأذكرك ، فما أصبر حتى آتيك ، فانظر إليك ، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك ، إذا دخلت الجنة ، رفعت مع النبيين ، وإن دخلت الجنة خشيت أن لا أراك ، فلم يرد النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم حتى نزلت عليه : { وَمَن يُطِعِ اللّهَ } الآية ، وهكذا رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه في " صفة الجنة " بإسناد قال فيه : لا أرى به بأساً .
الرابع : روي في السنة في معنى هذه الآية أخبار وافرة ، منها : في صحيح مسلم عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال : كنت أبيت مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فأتيته بوضوء وحاجته فقال لي : سل : فقلت : أسألك مرافقتك في الجنة فقال : أو غير ذلك ؟ قلت : هو ذاك ، قال : < فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسك بِكَثْرَةِ السُّجُود > .
ومنها في مسند الإمام أحمد عن عَمْرو بن مرة الجُهَنِي : قال : جاء رجل إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقال : يا رسول الله ! شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، وصليت الخمس وأديت زكاة مالي ، وصمت شهر رمضان ، فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < مَنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء يَوْم الْقِيَامَة هَكَذَا - وَنَصَبَ أُصْبُعَيْهِ - مَا لَمْ يَعُقّ وَالِدَيْهِ > .
قال ابن كثير : تفرد به أحمد ، ومنها ما رواه الإمام أحمد أيضاً عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < مَنْ قَرَأَ أَلْف آيَة فِي سَبِيل اللَّه تبارك وتعالى كُتِبَ يَوْم الْقِيَامَة مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً > ، إن شاء الله تعالى .
ومنها ما رواه الترمذيّ عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < التَّاجِر الصَّدُوق الْأَمِين مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء > .
قال ابن كثير : وأعظم من هذا كله بشارة ، ما ثبت في الصحيح والمسانيد وغيرهما من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم ؟ فقال : < الْمَرْء مَعَ مَنْ أَحَبّ > .
قال أنس : فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث .
وفي رواية عن أنس أنه قال : إِنِّي لَأُحِبّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُحِبّ أَبَا بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَأَرْجُو أَنَّ [ اللَّه ] يَبْعَثنِي مَعَهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَل كَعَمَلِهِمْ .
وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إِنَّ أَهْل الْجَنَّة لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْل الْغُرَف مِنْ فَوْقهمْ كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَب الدُّرِّيّ الْغَابِر فِي الْأُفُق مِنْ الْمَشْرِق أَوْ الْمَغْرِب لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنهمْ > ، قالوا : يا رسول الله ! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ، قال : < بَلَى وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَال آمَنُوا بِاَللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ > ، أخرجها في الصحيحين من حديث الإمام مالك ، واللفظ لمسلم ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً } [ 70 ]
{ ذَلِكَ } مبتدأ ، إشارة إلى ما للمطيعين من الأجر ومزيد الهداية ومرافقة المنعم عليهم ، أو إلى فضل هؤلاء المنعم عليهم ومزيتهم ، فالمشار إليه إما جميع ما قبله أو ما يليه .
{ الْفَضْلُ } صفة : { مِنَ اللّهِ } خبره ، أي : ذلك الفضل العظيم من الله تعالى لا من غيره ، أو : { الْفَضْلُ } خبر ، و : { مِنَ اللّهِ } حال ، والعامل فيه معنى الإشارة ، أي : ذلك الثواب ، لكمال درجته ، كأنه هو الفضل ، وإن ما سواه ليس بشيء موجوداً وكائناً من الله تعالى ، لا أن أعمال المكلفين توجيه .
قال الناصر في " الانتصاف " : معتقدنا ، معاشر أهل السنة ، أن الطاعات والأعمال التي يتميز بها هؤلاء الخواص ، خلقُ الله تعالى وفعله ، وإن قدرهم لا تأثير لها في أعمالهم ، بل الله عز وجل يخلق على أيديهم الطاعات ويثيبهم عليها ، فالطاعة إذاً من فضله ، فله الفضل على كل حال ، والمنة في الفاتحة والمآل ، وكفى بقول سيد البشر في ذلك حجة وقدوة : فقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام : < لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله > قيل : ولا أنت يا رسول الله ؟ ! قال : < ولا أنا ، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بفضل مِنْهُ وَبِرَحْمَةٍ > ، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ، اللهم ! اختم لنا باقتفاء السنة ، وأدخلنا بفضلك المحض الجنة . انتهى كلام الناصر .
والحديث المذكور أخرجه الشيخان عن أبي هريرة : { وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً } بجزاء من أطاعه وبمقادير الفضل واستحقاق أهله .
قال الرازيّ : وله موقع عظيم في توكيد ما تقدم من الترغيب في طاعة الله ، لأنه تعالى نبه بذلك على أنه يعلم كيفية الطاعة وكيفية الجزاء والتفضل ، وذلك مما يرغب المكلف في كمال الطاعة ، والاحتراز عن التقصير فيه ، ثم أعاد تعالى ، بعد الترغيب في طاعته وطاعة رسوله ، الأمر بالجهاد الذي تقدم ، لأنه أشق الطاعات وأعظم الأمور التي يحصل بها تقوية الدين ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍٍ أَوِ انفِرُواْ جَميعاً } [ 71 ]
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ } أي : تيقظوا واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم ، يقال : أخذ حذره إذا تيقظ واحترز من المخوف ، كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ، ويطلق الحذر على ما يحذر به ويصون ، كالسلاح والحزم ، أي : استعدوا للعدو ، والحذر على هذا حقيقة ، وعلى الأول من الكناية والتخييل ، بتشبيه الحذر بالسلاح وآلة الوقاية .
قال في " الإكليل " : فيه الأمر باتخاذ السلاح ، وأنه لا ينافي التوكل .
قال بعض المفسرين : دلت الآية على وجوب الجهاد وعلى استعمال الحذر ، وهو الحزم ، من العدو ، وترك التفريط ، وكذلك ما يحذرونه وهو استعمال السلاح على أحد التفسيرين ، فتكون الرياضة بالمسابقة والرهان في الخيل ، من أعمال الجهاد .
{ فَانفِرُواْ } أي : أخرجوا إلى الجهاد .
{ ثُبَاتٍٍ } جمع ( ثبة ) بمعنى الجماعة ، كما في القاموس ، أي : جماعات متفرقين ، سرية بعد سرية ، وفرقة بعد فرقة إظهاراً للجراءة .
{ أَوِ انفِرُواْ جَميعاً } أي : مجتمعين كلكم كوكبة واحدة ، إيقاعاً للمهابة بتكثير السواد ، ومبالغة في التحرز عن الخطر .
قال الحاكم : اتفق العلماء على أن ذلك موكول إلى اجتهاد الإمام .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنّ مِنكُمْ لمن لّيُبَطّئَنّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عليّ إِذْ لم أَكُن مّعَهُمْ شَهِيداً } [ 72 ]
{ وَإِنّ مِنكُمْ لمن لّيُبَطّئَنّ } أي : ليتثاقلن وليتخلفن عن الجهاد والخروج مع الجماعة لنفاق ، أو معناه : ليثبطن غيره ، كما كان المنافقون يثبطون غيرهم ، وكان هذا ديدن المنافق عبد الله بن أُبي ، وهو الذي ثبط الناس يوم أُحُد ، وقد روي عن كثير من التابعين أن الآية نزلت في المنافقين ، فإن ما حكي عنهم هو دأبهم ، وقيل : الخطاب للمؤمنين وقوفاً مع صدر الآية ، فإن قال : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ } ثم قال : { وَإِنّ مِنكُمْ } وقد قال تعالى في المنافقين : { مَا هُم مّنكُمْ } .
قال الحاكم : والتقدير على القول الأول : وإن منكم ، على زعمه ، في الظاهر أو في حكم الشرع .
{ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مّصِيبَةٌ } كهزيمة ، وشهادة ، وغلب العدو لكم ، لما لله في ذلك من الحكمة .
{ قَالَ } أي : المبطئ فرحاً بصنعه ، ومعجباً برأيه .
{ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عليّ } بالقعود : { إِذْ لم أَكُن مّعَهُمْ شَهِيداً } أي : حاضراً في المعركة ، فيصيبني ما أصابهم ، يعدّ ذلك من نعم الله عليه ، ولم ير ما فاته من الأجر في الصبر ، أو الشهادة إن قتل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مّنَ الله لَيَقُولَنّ كَأَن لم تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً } [ 73 ]
{ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مّنَ الله } كفتحٍٍ ، وغنيمةٍٍ ، ونصرٍٍ ، وظفرٍٍ ، ونسبة إصابة الفضل إلى جنابه تعالى ، دون إصابة المصيبة ، من العادات الشريفة التنزيلية ، كما في قوله تعالى : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء : 80 ] .
{ لَيَقُولَنّ } ندامة على تثبطه وقعوده ، وتهالكاً على حطام الدنيا ، وتحسُّراً على فواته .
{ كَأَن لم تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدّةٌ } أي : صلة في الدين ، ومعرفة بالصحبة .
{ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً } فأصيب غنائم كثيرة ، وحظاً وافراً .
وقوله تعالى : { كَأَن لم } إلخ ، اعتراض بين الفعل وهو : { لَيَقُولَنّ } ومفعوله وهو : { يَا لَيْتَنِي } الخ للتنبيه على ضعف عقيدتهم ، وأن قولهم هذا قول من لم تتقدم له معكم موادة ، لأن المنافقين كانوا يوادون المؤمنين ويصادقونهم في الظاهر ، وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن ، وفيه تعجيب أيضاً من قولهم المذكور .
قال بعض المفسرين : ثمرة ذلك تأكيد وجوب الجهاد وتحريم التثبيط عنه . انتهى .
ولما ذم تعالى المبطئين عن الجهاد ، رغّب المؤمنين فيه بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } [ 74 ]
{ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا بِالآخِرَةِ } أي : يبيعونها بها وهم المؤمنون الذي يستحبون الآجلة على العاجلة ويستبدلونها بها ، والمعنى : إن صد الذين في قلوبهم مرض ، فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم في طلب الآخرة ، ويقال : عني بالموصول المنافقين المبطئين ، أي : الذين يشترونها ويختارونها على الآخرة ، فيكون وعظاً لهم بأن يبدلوا التثبيط بالجهاد .
{ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ } أي : يستشهد .
{ أَو يَغْلِبْ } أي : يظفر على العدوّ .
{ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ } نعطيه : { أَجْراً عَظِيماً } ثواباً وافراً .
روى الشيخان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < تَضَمَّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ ، لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا جِهَاداً فِي سَبِيلِي ، وَإِيمَاناً بِي وَتَصْدِيقاً بِرُسُلِي فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِناً أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ أَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلاً مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ > . ( لفظ مسلم ) .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالمسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدَانِ الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظّالم أَهْلُهَا وَاجْعَل لّنَا مِن لّدُنكَ وَلِيّا وَاجْعَل لّنَا مِن لّدُنكَ نَصِيراً } [ 75 ]
{ وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ } خطاب للمأمورين بالقتال ، على طريقة الالتفات ، مبالغةً في التحريض عليه ، وتأكيداً لوجوبه .
وقوله تعالى : { وَالمسْتَضْعَفِينَ } مجرور ، عطفاً على اسم الله ، أي : في سبيل المستضعفين الذين هم كأنفسكم ، وهو تخليصهم من الأسر وصونهم عن العدو ، أو على السبيل ، بحذف المضاف ، أي : في خلاص المستضعفين ، أو منصوب على الاختصاص ، يعني : وأختص من سبيل الله خلاص المستضعفين ، لأن سبيل الله عام في كل خير ، وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخير وأخصه .
قال في " الانتصاف " : وفي النصب مبالغة في الحث على خلاصهم من جهتين :
إحدهما : التخصيص بعد التعميم ، فإنه يقتضي إضمار الناصب الذي هو أختص ، ولولا النصب لكان التخصيص معلوماً من إفراده بالذكر ، ولكن أكد هذا المعلوم بطريق اللزوم ، بأن أخرجه إلى النطق .
{ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدَانِ } بيان للمستضعفين ، أو حال منهم ، وهم المسلمون الذين صدّهم المشركون عن الهجرة ، فبقوا بمكة مستذلين مستضعفين يلقون منهم الأذى الشديد ، وكان النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يدعو لهم فيقول : < اللَّهُمْ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِى رَبِيعَةَ ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ > ، كما في الصحيح .
وإنما ذكر ( الولدان ) معهم ، تكميلاً للاستعطاف واستجلاب المرحمة ، وتنبيهاً على تناهي ظلم المشركين ، بحيث بلغ أذاهم الصبيان ، وإيذاناً بإجابة الدعاء الآتي بسبب مشاركتهم في الدعاء .
{ الّذِينَ يَقُولُونَ } من إيذاء أهل مكة وإذلالهم إياهم ، متبرئين من المقام بها .
{ رَبّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظّالم أَهْلُهَا } أي : بالشرك الذي هو ظلم عظيم ، وبأذية المسلمين ، وهي مكة ، و ( الظالم ) صفتها ، وتذكيره لتذكير ما أسند إليه ، فإن اسم الفاعل والمفعول إذا أُجري على غير من هو له ، كان كالفعل في التذكير والتأنيث ، بحسب ما عمل فيه ، قاله أبو السعود .
{ وَاجْعَل لّنَا مِن لّدُنكَ وَلِيّا } أي : سخر لنا من عندك حافظاً يحفظ علينا ديننا .
{ وَاجْعَل لّنَا مِن لّدُنكَ نَصِيراً } ناصراً يدفع عنا أذيّات أعدائنا ، أو المعنى : واجعل لنا من لدنك ولاية ونصرة ، أي : لتكن أنت ولينا وناصرنا ، وقد استجاب الله عز وجل دعائهم حيث يسر لبعضهم الخروج إلى المدينة ، وجعل لمن بقي منهم خير وليّ وأعز ناصر ، ففتح مكة على نبيه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فتولاهم أي : تولٍّ ، ونصرهم أية نصرة ، حتى صاروا أعزّ أهلها .
وروى البخاريّ بالسند إلى ابن عباس قال : كنت أنا وأمي من المستضعفين ، وبه إليه قال : كانت أمي ممن عذر الله .
قال الرازيّ : معنى الآية : لا عذر لكم في ترك المقاتلة ، وقد بلغ حال المستضعفين من المسلمين إلى ما بلغ في الضعف ، فهذا حث شديد على القتال ، وبيان العلة التي صار لها القتال واجباً ، وهو ما في القتال من تخليص هؤلاء المؤمنين من أيدي الكفرة ، لأن هذا الجمع إلى الجهاد يجري مجرى فكاك الأسير . انتهى .
تنبيه :
قال بعض المفسرين : ثمرة هذه الآية تأكيد لزوم الجهاد ، لأنه تعالى وبخ على تركه ، تدل الآية على لزوم استنقاذ المسلم من أيدي الكفار ، ويأتي مثل هذا استنقاذه من كل مضرة ، من ظالم أو لص وغير ذلك ، ووجه مأخذ ذلك ، أنه تعالى جعل ذلك كالعلم للانقطاع إليه ، وتدل على أن حكم الولدان حكم الآباء ، لأن الظاهر أنه أراد الصغار .
قال الزمخشريّ : ويجوز أن يراد بالرجال والنساء ، الأحرارَ والحرائر ، وبالولدان ، العبيد والإماء ، لأن العبد والأمة يقال لهما : الوليد والوليدة ، وقيل ( للولدان والولائد ) : الولدان ، لتغليب الذكور على الإناث ، كما يقال : الآباء والإخوة ، وتدل الآية على أن للداعي حقاً عند الله ، لأنه جعل ذلك اختصاصاً لنصرته ، وتدل على لزوم الهجرة من ديار الكفر ، وأن المؤمن لا يذل نفسه بجعله مستضعفاً ، لأنه تعالى أوجب المقاتلة لزوال الغلبة عليهم ، وفي الآيات هذه تأكيدات متتابعة على لزوم الجهاد .
لطيفة :
قال ناصر الدين في " الانتصاف " : وقفت على نكتة في هذه الآية حسنة ، وهي أن كل قرية ذكرت في الكتاب العزيز ، فالظلم ينسب إليها بطريق المجاز ، كقوله : { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مّطْمَئِنّةً } إلى قوله : { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ } [ النحل : من الآية 112 ] ، وقوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } [ القصص : من الآية 58 ] ، وأما هذه القرية ( في سورة النساء ) فينسب الظلم إلى أهلها على الحقيقة ، لأن المراد بها مكة ، فوقرت عن نسبة الظلم إليها ، تشريفاً لها ، شرفها الله تعالى ، ثم شجع تعالى المؤمنين ورغبّهم في الجهاد بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشّيْطَانِ إِنّ كَيْدَ الشّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } [ 76 ]
{ الّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ } يعني في طاعته لإعلاء كلمته ، فهو وليهم وناصرهم .
{ وَالّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطّاغُوتِ } في طاعة الشيطان الآمر بغاية الطغيان ، كإيذاء المستضعفين من المؤمنين وقتال أقويائهم .
{ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشّيْطَانِ } أي : جنده .
قال أبو السعود : وذكرهم بهذا العنوان للدلالة على أن ذلك نتيجة لقتالهم في سبيل الشيطان ، والإشعار بأن المؤمنين أولياء الله تعالى لما أن قتالهم في سبيله ، وكل ذلك لتأكيد رغبة المؤمنين في القتال وتقوية عزائمهم عليه ، فإن ولاية الله تعالى علم في العزة والقوة ، كما أن ولاية الشيطان مثل في الذلة والضعف ، كأنه قيل : إذا كان الأمر كذلك ، فقاتلوا ، يا أولياء الله ! أولياء الشيطان ، ثم صرح في التعليل فقيل : { إِنّ كَيْدَ الشّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } أي : في حد ذاته ، فكيف بالقياس إلى قدرة الله تعالى ، ولم يتعرض لبيان قوة جنابه تعالى ، إيذاناً بظهورها .
قالوا : فائدة إدخال ( كان ) في أمثال هذه المواقع التأكيد ببيان أنه منذ كان ، كان كذلك ، فالمعنى : إن كيد الشيطان منذ كان ، كان موصوفاً بالضعف . انتهى .
( والكيد ) : السعي في فساد الحال على جهة الاحتيال عليه ، يقال : كاده يكيده ، إذا سعى في إيقاع الضرر على جهة الحيلة عليه ، أفاده الرازيّ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ فَلما كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبّنَا لم كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍٍ قَرِيبٍٍ قُلْ مَتَاعُ الدّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لمنِ اتّقَى وَلاَ تُظْلمونَ فَتِيلاً } [ 77 ]
{ أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ } وهم المؤمنون عند استئذانهم رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في القتال ، قبل أن يؤمروا به .
{ كُفّواْ أَيْدِيَكُمْ } أي : عن القتال ، فإنكم لم تؤمروا به .
{ وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ } أي : أتموا الصلوات الخمس بوضوئها وركوعها وسجودها ، وما يجب فيها من مواقيتها ، وأعطوا زكاة أموالكم .
{ فَلما كُتِبَ } أي : فرض : { عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ } أي : الجهاد في سبيل الله حين قوي حالهم .
{ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ } أي : طائفة منهم وهم المنافقون ، وإدخالهم المؤمنين لما كانوا يظهرونه من أنفسهم أنهم منهم .
{ يَخْشَوْنَ النّاسَ } أي : يخافون أهل مكة الكفار أن يقتلوهم .
{ كَخَشْيَةِ اللّهِ } أي : كما يخشون الله أن ينزل عليهم بأسه .
{ أَوْ أَشَدّ خَشْيَةً } أي : أكثر خوفاً منه .
فإن قيل : ظاهر قوله : { أَوْ أَشَدّ خَشْيَةً } يوهم الشك ، وذلك على علام الغيوب محال ، ( أجيب ) بأن ( أو ) إما بمعنى ( بل ) أو هي للتنويع على أن معنى : أن خشية بعضهم كخشية الله ، وخشية بعضهم أشد منها ، أو للإبهام على السامع ، بمعنى أنهم على إحدى الصفتين من المساواة والشدة ، وهو قريب مما في قوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] يعني أن من يبصرهم يقول : إنهم مائة ألف أو يزيدون .
تنبيه :
حكى المفسرون هنا رواية عن ابن عباس ، أن هذه الآية نزلت في جماعة من الصحابة المهاجرين وأنهم كانوا يلقون من مشركي مكة ، قبل الهجرة ، أذىً شديداً ، فيشكون ذلك إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ويقولوا : ائذن لنا في قتالهم ، فيقول لهم النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < كفوا أيدكم ، فإني لم أومر بقتالهم ، واشتغلوا بإقامة دينكم من الصلاة والزكاة > ، ثم بعد الهجرة إلى المدينة ، لما أمروا بقتالهم في وقعة بدر ، كرهه بعضهم ، فنزلت الآية .
وعندي أن هذه الآية كسوابقها نزلت في المنافقين ، تقريعاً لهم وتحذيراً للمخلصين ، من شاكلتهم ، والقول بنزولها في بعض المؤمنين لا يصح لوجوه :
منها : أن في إسنادها عن ابن عباس من ليس على شرط الصحيح .
ومنها : أن طلبهم للجهاد وهم في مكة ، مع قلة العَدد والعُدَد ، وممالأة العدو عليهم من كل جانب في غاية البعد .
ومنها : أن السياق في المنافقين : وقد ابتدئ الكلام في شأنهم من قوله تعالى : { أَلم تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطّاغُوتِ } - إلى قوله تعالى الآتي - : { فَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ } الآية ، كما يظهر من التدبر الصادق .
ومنها : أن هذا السياق اشتمل على أمور تدل على أنها مختصة بالمنافقين ، لأنه تعالى قال في وصفهم : { يَخْشَوْنَ النّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدّ خَشْيَةً } ولا يكون هذا الوصف إلا لكافر أو منافق ، وحكى تعالى عنهم أنهم قالوا : { وَقَالُواْ رَبّنَا لم كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ } ولم يعهد هذا عن المؤمنين ، بل المحفوظ مبادرتهم للجهاد ، كما روى ابن إسحاق في " السيرة " أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم استشار الناس في غزوة بدر ، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن ، ثم قام عُمَر بن الخطاب فقال وأحسن ، ثم قام المقداد بن عَمْرو فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ! امض لما أراك الله ، فنحن معك ، والله ! لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّكَ فَقَاتِلا إِنّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : من الآية 24 ] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق ! لو سرت بنا إلى بَرْك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه .
ثم قال سعد بن معاذ : امض ، يا رسول الله ! لما أردت ، فنحن معك ، فوالذي بعثك بالحق ! لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدوناً غداً ، إنا لصبُرٌ في الحرب صُدُق في اللقاء .
ومنها أنه تعالى ذكر بعد ذلك قوله : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } [ النساء : من الآية 78 ] ، ولا شك أن هذا من كلام المنافقين ، ثم صرح تعالى في آخر الكلام عليهم بقوله : { فَمَا لَكُمْ فِي المنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } فزال اللبس وبرح الخفاء .
وما أشبه هذه الآيات بقوله تعالى في ( سورة محمد ) : { وَيَقُولُ الّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزّلَتْ سورة } أي : تأمرنا بالجهاد : { فَإِذَا أُنزِلَتْ سورة مّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } إلى قوله : { أَمْ حَسِبَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللّهُ أَضْغَانَهُمْ } [ محمد : 29 ] .
{ وَقَالُواْ رَبّنَا لم كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ } أي : الجهاد في سبيلك .
{ لَوْلا أَخّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍٍ قَرِيبٍٍ } أي : هلا عافيتنا وتركتنا حتى نموت بآجالنا .
{ قُلْ } أي : تزهيداً لهم فيما يؤملون بالقعود من المتاع الفاني ، وترغيباً فيما ينالونه بالجهاد من النعيم الباقي .
{ مَتَاعُ الدّنْيَا } أي : ما يتمتع وينتفع به في الدنيا .
{ قَلِيلٌ } سريع التقضي ، وشيك الانصرام ، وإن أخرتم إلى ذلك الأجل .
{ وَالآخِرَةُ } أي : ثوابها الذي من جملته الثواب المنوط بالجهاد .
{ خَيْرٌ } أي : لكم من ذلك المتاع الفاني لكثرته وعدم انقطاعه ، وصفائه عن الكدورات ، وإنما قيل : { لمنِ اتّقَى } حثاً لهم على اتقاء العصيان والإخلال بموجب التكليف .
{ وَلاَ تُظْلمونَ فَتِيلاً } عطف على مقدر ، ينسحب عليه الكلام ، أي : تجزون ولا تنقصون أدنى شيء من أجور أعمالكم ، التي من جملتها مسعاكم في شأن القتال ، فلا ترغبوا عنه .
( والفتيل ) ما في شق النواة من الخيط ، يضرب به المثل في القلة والحقارة .
وقرئ : { يُظْلمونَ } بالياء ، إعادة للضمير إلى ظاهر ( مَن ) ، أفاده أبو السعود .
روى ابن أبي حاتم قال : قرأ الحسن : قل متاع الدنيا قليل ، قال : رحم الله عبداً صحبها على حسب ذلك ، وما الدنيا كلها ، أولها وآخرها ، إلا كرجل نام نومة فرأى في منامه بعض ما يحب ثم انتبه ، وقال ابن معين : كان أبو مصهر ينشد :
~وَلَا خَيْر فِي الدُّنْيَا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ اللَّه فِي دَار الْمَقَام نَصِيب
~فَإِنْ تُعْجِب الدُّنْيَا رِجَالاً فَإِنَّهَا مَتَاع قَلِيل وَالزَّوَال قَرِيب
ثم بين تعالى أنه لا ينفعهم الفرار من الموت ، لأنه لا خلاص لهم منه ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككّمُ الموْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍٍ مّشَيّدَةٍٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلّ مّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } [ 78 ]
{ أَيْنَمَا تَكُونُواْ } أي : في أي : مكان تكونوا عند الأجل .
{ يُدْرِككّمُ الموْتُ } أي : الذي لأجله تكرهون القتال ، زعماً منكم أنه من مظانه ، وتحبون القعود عنه ، على زعم أنه منجاة منه ، أي : وإذا كان لا بد من الموت ، فبأن يقع على وجه يكون مستعقباً للسعادة الأبدية ، كان أولى من أن لا يكون كذلك ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : { قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الموْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتّعُونَ إِلّا قَلِيلاً } [ الأحزاب : 16 ] .
{ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍٍ } أي : حصون : { مّشَيّدَةٍٍ } أي : مرفوعة مستحكمة ، لا يصل إليها القاتل الْإِنْسَاْني ، لكنها لا تمنع القاتل الإلهي ، كما قال زهير بن أبي سلمى :
~وَمَنْ هَابَ أَسْبَاب الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ وَلَوْ رَامَ أَسْبَاب السَّمَاء بِسُلَّمِ
وقد ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم ههنا حكاية مطولة عن مجاهد ، والشاهد منها هنا ؛ أنها كانت أُخبرت بأنها تموت بالعنكبوت ، فاتخذ لها زوجها قصراً منيعاً شاهقاً ليحرزها من ذلك ، فبينما هم يوماً فإذا العنكبوت في السقف ، فأراها إياها فقالت : أهذه التي تحذرها عليّ ؟ والله ! لا يقتلها إلا أنا ، فأنزلوها من السقف ، فعمدت إليها فوطئتها بإبهام رجلها فقتلتها ، فطار من سمها شيء فوقع بين ظفرها ولحمها ، واسودت رجلها ، فكان في ذلك أجلها ، فماتت .
ولما حكى تعالى عن المنافقين كونهم متثاقلين عن الجهاد ، خائفين من الموت ، غير راغبين في سعادة الآخرة ، أتبع ذلك بخلّة لهم أشنع ، بقوله سبحانه :
{ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } كخصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحوها .
{ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ } أي : من قِبَلِه ، لما علم فينا الخير .
{ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ } كقحط وجدب ، وغلاء السعر ، ونقص في الزروع والثمار ، وموت أولاد ونتاج ، ونحو ذلك .
{ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ } يعنون : من شؤمك ، كما قال تعالى عن قوم فرعون : { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَطّيّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ } [ الأعراف : من الآية 131 ] ، وعن قوم صالح : { قَالُوا اطّيّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ } [ النمل : من الآية 47 ] .
قال أبو السعود : فأمر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بأن يرد زعمهم الباطل ويرشدهم إلى الحق ويلقمهم الحجر ، ببيان إسناد الكل إليه تعالى على الإجمال ، إذ لا يجترؤون على معارضة أمر الله عز وجل حيث قيل : { قُلْ كُلّ مّنْ عِندِ اللّهِ } أي : كل واحدة من النعمة والبلية من جهة الله تعالى ، خلقاً وإيجاداً ، من غير أن يكون لي مدخل في وقوع شيء منها بوجه من الوجوه كما تزعمون ، بل وقوع الأولى منه تعالى بالذات تفضلاً ، ووقوع الثانية بواسطة ذنوب من ابتلى بها عقوبة ، كما سيأتي بيانه ، فهذا الجواب المجمل في معنى ما قيل ، رداً على أسلافهم من قوله تعالى : { أَلا إِنّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ } أي : إنما سبب خيرهم وشرهم ، أو سبب إصابة السيئة التي هي ذنوبهم ، عند الله تعالى لا عند غيره ، حتى يسندوها إليه ويطيروا به .
{ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ } يعني المنافقين .
{ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } أي : قولاً ، والجملة اعتراضية مسوقة لتعبيرهم بالجهل وتقبيح حالهم والتعجب من كمال غباوتهم ، إذ لو فقهوا شيئاً لعلموا مما يوعظون به ، أن الله هو القابض الباسط ، وأن النعمة منه تعالى بطريق التفضل الإحسان ، والبلية بطريق العقوبة على ذنوب العباد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍٍ فَمِن نّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً } [ 79 ]
{ مّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍٍ } أي : نعمة .
{ فَمِنَ اللّهِ } أي : فمن نعمته وتفضله ابتداءً .
{ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍٍ } أي : بلية .
{ فَمِن نّفْسِكَ } أي : من شؤمها بسبب اقترافها المعاصي الموجبة لها ، وإن كانت من حيث الإيجاد منتسبة إليه تعالى ، نازلة من عنده عقوبة ، كقوله تعالى : { وَمَا أَصَابَكُم مّن مّصِيبَةٍٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍٍ } [ الشورى : 30 ] .
روى ابن عساكر عن البراء - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < ما من عثرة ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم ، وما يغفر الله أكثر > .
روى الترمذيّ عن أبي موسى الأشعري عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < لا يصيب عبداً نكتة فما فوقها أو دونها ، إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر ، قال وقرأ : { وَمَا أَصَابَكُم مّن مّصِيبَةٍٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍٍ } > .
لطيفة
الخطاب في : { أَصَابَكَ } عام لكل من يقف عليه ، لا للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، كقوله :
~إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
ويدخل فيه المذكورون دخولاً أولياً ، وجوز أن يكون الخطاب له صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، كما قبله وما بعده ، لكن لا لبيان حاله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، بل لبيان حال الكفرة بطريق التصوير ، ولعل ذلك لإظهار كمال السخط والغضب عليهم ، والإشعار بأنهم لفرط جهلهم وبلادتهم بمعزل من استحقاق الخطاب ، لا سيما بمثل هذه الحكمة الأنيقة ، قرره أبو السعود .
قال بعض المفسرين : وثمرة الآية رد التطير والتشاؤم .
{ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنّاسِ رَسُولاً } بيان لجلالة منصبه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ومكانته عند الله عز وجل ، بعد بيان بطلان زعمهم الفاسد في حقه عليه الصلاة والسلام ، بناء على جهلهم بشأنه الجليل ، وتعريف ( الناس ) للاستغراق ، أفاده أبو السعود ، أي : فمن أين يتصور لك الشؤم وقد أرسلت داعياً العموم إلى الخيرات ؟ فأنت منشأ كل خير ورحمة : { وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً } أي : على رسالتك وصدقك ، بإظهار المعجزات على يديك ، أي : وإذا ثبتت رسالتك ، فاليُمن في طاعتك ، والشؤم في مخالفتك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مّنْ يُطِعِ الرّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } [ 80 ]
{ مّنْ يُطِعِ الرّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } لأنه عليه الصلاة والسلام مبلغ لأمره ونهيه ، مرجع الطاعة وعدمها هو الله سبحانه وتعالى .
{ وَمَن تَوَلّى } عن طاعته .
{ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } أي : كفيلاً تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتعاقبهم بحسبها .
{ فَإِنّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [ الرعد : 40 ] .
ولما بين تعالى وجوب طاعة الرسول ، تأثره بذكر معاملتهم معه ، فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيّتَ طَآئِفَةٌ مّنْهُمْ غَيْرَ الّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً } [ 81 ]
{ وَيَقُولُونَ } أي : المنافقون ، إذا أمرتهم بشيء ، وهم عندك : { طَاعَةٌ } بالرفع .
أي : أمرنا وشأننا طاعة ، ويجوز النصب بمعنى : أطعناك طاعة ، كما يقول المنقاد : سمعاً وطاعة ، وسمعٌ وطاعةٌ .
قال سيبويه : سمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال له : كيف أصبحت ؟ فيقول : حمدُ الله وثناءٌ عليه ، كأنه قال : أمري وشأني حمدُ الله وثناءٌ عليه ، ولو نصب ( حمد الله ) كان على الفعل ، والرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها .
{ فَإِذَا بَرَزُواْ } أي : خرجوا : { مِنْ عِندِكَ } أي : من مجلسك .
{ بَيّتَ } أي : دبر ليلاً .
{ طَآئِفَةٌ مّنْهُمْ } أي : من القائلين المذكورين وهم رؤساؤهم .
{ غَيْرَ الّذِي تَقُولُ } أي : خلاف ما قالت لك ، من القبول وضمان الطاعة ، لأنهم مصرون على الرد والعصيان ، وإنما يظهرون ما يظهرون على وجه النفاق .
تنبيهان :
الأول : في " القاموس وشرحه " وبينت الأمر : عمله أو دبره ليلاً .
وقال الزجاج : كل ما فكر فيه ، أو خِيض بليل ، فقد بيّت ، ويقال : بيت بليل ودبر بليل بمعنى واحد ، وفي الحديث : أنه كان صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لا يبيّت مالاً ولا يقيله ، أي : إذا جاءه مال لا يمسكه إلى الليل ولا إلى القائلة ، بل يعجل قسمته . انتهى .
ونقل الرازيّ عن الزجاج أيضاً : أن كل أمر تفكر فيه وتأمل في مصالحه ومفاسده كثيراً ، يقال فيه مبيت ، وفي اشتقاقه وجهان :
الأول : من البيتوتة لأن أصلح الأوقات للفكر أن يجلس الإِنسَاْن في بيته بالليل ، فهناك تكون الخواطر أخلى ، والشواغل أقل ، فلما كان الغالب أن الإِنسَاْن وقت الليل يكون في البيت ، والغالب أنه يستقصي الأفكار في الليل ، لا جرم سمي الفكر المستقصى مبيتاً .
الثاني : اشتقاقه من أبيات الشعر ، لأن الشاعر يدبرها ويسويها ، قال الأخفش : العرب إذا أرادوا قرض الشعر بالغوا في التفكر فيه ، فسمَّوُا المتفكِّر فيه ، المستقصى ، مبيتاً ، تشبيهاً له يبيت الشعر ، من حيث إنه يسوى ويدبر .
الثاني : تذكير الفعل ، لأن تأنيث ( طائفة ) غير حقيقي ، ولأنها في معنى الفوج والفريق ، وإسناده إلى طائفة منهم ، لبيان أنهم المتصدون له بالذات ، والباقون اتباع لهم في ذلك ، لا لأن الباقين ثابتون على الطاعة .
{ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ } أي : يثبه في صحائف أعمالهم بما يأمر به حفظته الكاتبين الموكلين بالعباد فيجازيهم عليه .
قال ابن كثير : والمعنى في هذا التهديد ، أنه تعالى يخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم ، وما يتفقون عليه ليلاً من مخالفة الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وعصياه ، وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة ، وسيجزيهم على ذلك . انتهى .
وجوز أن يكون المعنى : والله يكتبه في جملة ما يوحي إليك في كتابه ، فيطلعك على أسرارهم ، فلا يسحبوا أن إبطانهم يغني عنهم ، فالقصد لتهديدهم على الأول ، وتحذيرهم من النفاق لأن الله يظهره ، على الثاني .
{ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي : تجاف عنهم ولا تعاقبهم .
{ وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ } أي : ثق بالله في شأنهم ، فإن الله يكفيك شرهم وينتقم منهم .
{ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً } كفيلاً بالنصرة والدولة لك عليهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } [ 82 ]
{ أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ } إنكار واستقباح لعدم تدبرهم القرآن وإعراضهم عن التأمل فيما فيه من موجبات الإيمان ، ليعلموا كونه من عنده تعالى ، بمشاهدة ما فيه من الشواهد التي من جملتها هذا الوحي الصادق والنص الناطق بنفاقهم المحكي على ما هو عليه .
وأصل التدبر التأمل والنظر في أدبار الأمر وعواقبه خاصة ، ثم استعمل في كل تأمل ، سواء كان نظراً في حقيقة الشيء وأجزائه ، أو سوابقه وأسبابه ، أو لواحقه وأعقابه .
{ وَلَوْ كَانَ } أي : القرآن : { مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ } تعالى كما يزعمون .
{ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } بأن يكون بعض أخباره غير مطابق للوقع ، إذ لا علم بالأمور الغيبية ، ماضية ، كانت أو مستقبلة ، لغيره سبحانه ، وحيث كانت كلها مطابقة للواقع ، تعيّن كونه من عنده تعالى .
قال الزجاج : ولولا أنه من عند الله تعالى لكان ما فيه من الإخبار بالغيب ، مما يسره المنافقون وما يبيّتونه ، مختلفاً : بعضه حق وبعضه باطل ، لأن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى .
وقال أبو بكر الأصم : إن هؤلاء المنافقين كانوا يتواطئون في السر على أنواع كثيرة من الكيد والمكر ، وكان الله تعالى يُطلع الرسول عليه الصلاة والسلام على ذلك ، ويخبره بها مفصلة ، فقيل لهم إن ذلك ، لو لم يحصل بإخبار الله تعالى لما اطرد الصدق فيه ، ولوقع فيه الاختلاف ، فلما لم يقع ذلك قط ، علم أنه بإعلامه تعالى ، وأما حمل الاختلاف على التناقض وتفاوت النظم في البلاغة ، فمما لا يساعده السباق ولا السياق ، أفاده أبو السعود .
تنبيه :
دلت الآية على وجوب النظر والاستدلال ، وعلى القول بفساد التقليد ، لأنه تعالى أمر المنافقين بالاستدلال بهذا الدليل على صحة نبوته ، أفاده الرازيّ .
وفي الآية ، أيضاً ، الحث على تدبر القرآن ليعرف إعجازه عن موافقته للعلوم واشتماله على فوائد منها ، وكمال حججه وبلاغته العليا ، وموافقته أحكامه للحكمة ، وأخباره الماضية لكتب الأولين ، والمستقبلة للواقع .
قال الحافظ ابن حجر : من أمعن في البحث عن معاني كتاب الله ، محافظاً على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وعن أصحابه ، الذين شاهدوا التنزيل ، وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ، ومفهومه ، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك ، مقتصراً على ما يصلح للحجة منها ، فإنه الذي يحمد وينتفع به ، وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمن بعده . انتهى .
وقد روى البخاريّ في صحيحه تعليقاً عن ابْنُ عَوْنٍ ( وهو عبد الله البصري ، من صغار التابعين ) ، أنه قال : ثَلاَثٌ أُحِبُّهُنَّ لِنَفْسِي وَلإِخْوَانِي هَذِهِ السُّنَّةُ أَنْ يَتَعَلَّمُوهَا وَيَسْأَلُوا عَنْهَا ، وَالْقُرْآنُ أَنْ يَتَفَهَّمُوهُ وَيَسْأَلُوا [ النَّاسَ ] عَنْهُ ، وَيَدَعُوا النَّاسَ إِلاَّ مِنْ خَيْرٍ . وفي رواية ( فيتدبروه ) بدل ( يتفهموه ) .
قال الكرماني : قال في القرآن : يتفهموه ، وفي السنة : يتعلموها ، لأن الغالب أن المسلم يتعلم القرآن في أول أمره فلا يحتاج إلى الوصية بتعلمه ، فلهذا أوصى بتفهم معناه وإدراك منطوقه . انتهى .
وفي بقية الآية العذر للمصنفين فيما يقع لهم من الاختلاف والتناقض ، لأن السلامة عن ذلك من خصائص القرآن ، ثم ذكر تعالى عن المنافقين نوعاً آخر من مفاسدهم ، وهو إظهارهم أسرار رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ومبادرتهم بأخبار السرايا وإذاعتها ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدّوهُ إِلَى الرّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلمهُ الّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتّبَعْتُمُ الشّيْطَانَ إِلاّ قَلِيلاً } [ 83 ]
{ وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ } أي : مما يوجب أحدهما .
{ أَذَاعُواْ بِهِ }
أي : أفشوه ، فتعودُ إذاعتهم مفسدة من وجوه :
الأول : أن هذه الإرجافات لا تنفك عن الكذب الكثير .
والثاني : أنه إن كان ذلك الخبر في جانب الأمن ، زادوا فيه زيادات كثيرة ، فإذا لم توجد تلك الزيادات ، أورث ذلك شبهة للضعفاء في صدق الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، لأن المنافقين كانوا يرون تلك الإرجافات عن الرسول ، وإن كان ذلك في جانب الخوف ، تشوش الأمر بسببه على ضعفاء المسلمين ، ووقعوا عنده في الحيرة والاضطراب ، فكانت تلك الإرجافات سبباً للفتنة من هذا الوجه .
الثالث : أن الإرجاف سبب لتوفير الدواعي على البحث الشديد والاستقصاء التام ، وذلك سبب لظهور الأسرار ، وذلك مما لا يوافق مصلحة المدينة .
والرابع : أن العداوة الشديدة كانت قائمة بين المسلمين والكفار ، فكل ما كان أمناً لأحد الفريقين كان خوفاً للفريق الثاني ، فإن وقع خبر الأمن للمسلمين وحصول العسكر وآلات الحرب لهم ، أرجف المنافقون بذلك ، فوصل الخبر في أسرع مدة إلى الكفار ، فأخذوا في التحصن من المسلمين ، وفي الاحتراز عن استيلائهم عليهم ، وإن وقوع خبر الخوف للمسلمين بالغوا في ذلك وزادوا فيه ، وألقوا الرعب في قلوب الضعفة والمساكين ، فظهر من هذا أن ذلك الإرجاف كان منشئاً للفتن والآفات من كل الوجوه ، ولما كان الأمر كذلك ذم الله تعالى تلك الإذاعة وذلك التشهير ، ومنعهم منه ، أفاده الرازيّ .
{ وَلَوْ رَدّوهُ } أي : ذلك الأمر الذي جاءهم .
{ إِلَى الرّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ } هم كبراء الصحابة البصراء في الأمور رضي الله عنهم ، أو الذين يؤمرون منهم وكانوا لم يسمعوا .
{ لَعَلمهُ } أي : الأمر .
{ الّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ } أي : يستعلمونه ويتطلبونه وهم المنافقون المذيعون .
{ مِنْهُمْ } أي : من الرسول وأولي الأمر ، يعني لو أنهم قالوا : نسكت حتى نسمعه من جهة الرسول ومن ذكر معه ، ونعرف الحالف فيه من جهتهم ، لعلموا صحته وأنه هل هو مما يذاع أو لا ؟ وإنما وضع الموصول موضع الضمير ، يعني لم يقل ( لعلموه ) لزيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام ، أو لذمهم أو للتنبيه على خطأهم في الفحص عن استخراج وإظهار خفي ذلك الأمر .
قال الناصر في " الانتصاف " : في هذه الآية تأديب لكل من يحدث بكل ما يسمع ، وكفى به كذباً ، وخصوصاً عن مثل السرايا والمناصبين الأعداء والمقيمين في نحر العدو ، وما أعظم المفسدة في لهج العامة بكل ما يسمعون من أخبارهم ، خيراً أو غيره . انتهى .
وقد روى مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال : < كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِباً أَنْ يُحَدِّث بِكُلِّ مَا سَمِعَ > .
وعند أبي داود والحاكم عنه : < كفى بالمرء إثماً > ، ورواه الحاكم أيضاً عن أبي أمامة .
هذا ، ونقل الرازيّ وجهاً آخر في الموصول ، وهو أن المعنيّ به طائفة من أولي الأمر ، قال : والتقدير : ولو أن المنافقين ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر لكان علمه حاصلاً عند من يستنبط هذه الوقائع من أولي الأمر ، وذلك لأن أولي الأمر فريقان : بعضهم من يكون مستنبطاً ، وبعضهم من لا يكون كذلك .
فقوله ( منهم ) يعني لعلمه الذين يستنبطون المخفيات من طوائف أولي الأمر .
فإن قيل : إذا كان الذين أمرهم الله برد هذه الأخبار إلى الرسول وإلى أولي الأمر هم المنافقون ، فكيف جعل أولي الأمر منهم في قوله : { وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ } ؟ قلنا : إنما جعل أولي الأمر منهم على حسب الظاهر ، لأن المنافقين يظهرون من أنفسهم أنهم يؤمنون ، ونظيره قوله تعالى : { وَإِنّ مِنْكُمْ لمنْ لَيُبَطّئَنّ } [ النساء : من الآية 72 ] وقوله : { مّا فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ } انتهى .
وعلى هذا الوجه يحمل قول السيوطيّ في " الإكليل " : قوله تعالى : { وَلَوْ رَدّوهُ } ، الآية ، هذا أصل عظيم في الاستنباط والاجتهاد .
وقول المهايميّ : فلو وجدوا في القرآن ما يوهم الاختلاف لوجب عليهم استفسار الرسول والعلماء الذين هم أولو الأمر ، ليعلمهم منهم المجتهدون في استنباط وجوه التوفيق .
وقال بعض الإمامية : ثمرة الآية أنه يجب كتم ما يضر إظهاره المسلمين ، وأن إذاعته قبيحة ، وأنه لا يُخْبَرُ بما لم يعرف صحته ، وتدل على تحريم الإرجاف على المسلمين ، وعلى أنه يلزم الرجوع إلى العلماء في الفتيا ، وتدل على صحة القياس والاجتهاد ، لأنه استنباط . انتهى .
تنبيه :
ما نقله الزمخشريّ وتبعه البيضاوي وأبو السعود وغيرهم ، من أن قوله تعالى : { وَإِذَا جَاءهُمْ } عنى به طائفة من ضعفة المسلمين - فإن أرادوا بالضعفة المنافقين ، فصحيح ، وإلا فبعيد غاية البعد كما يعلم من سباق الآية وسياقها ، وكذا ما نوعوه من الأقوال في معناه ، فكله لم يصب المرمى ، والذي يعطيه الذوق السليم في الآية هو الوجه الأول ، ولها إشعار بالوجه الثاني لا تأباه ، فتبصر ولا تكن أسير التقليد .
{ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } بإرسال الرسول وإنزال الكتاب .
{ لاَتّبَعْتُمُ الشّيْطَانَ } بالكفر والضلال .
{ إِلاّ قَلِيلاً } أي : إلا قليلاً منكم ممن تفضل الله عليه بعقل صائب فاهتدى به إلى الحق والصواب ، وعصمه عن متابعة الشيطان ، كمن اهتدى إلى الحق في زمن الفترة ، كقس بن ساعدة وأضرابه ، وهم عشرة ، وقد أوضحت شأنهم في كتابي " إيضاح الفطرة في أهل الفترة " في : ( الفصل الرابع عشر ) فانظره .
وانقل الرازيّ عن أبي مسلم الأصفهاني ، أن المراد بفضل الله ورحمته ، هنا ، هو نصرته تعالى ومعونته اللذان عناهما المنافقون بقولهم : فأفوز فوزاً عظيماً ، أي : لولا تتابع النصرة والظفر لابتعتم الشيطان ، وتوليتم إلا القليل منكم من المؤمنين من أهل البصيرة الذي يعلمون أنه ليس مدار الحقية على النصر في كل حين ، واستحسن هذا الوجه الرازيّ .
وقال : هو الأقرب إلى التحقيق .
قال الخفاجي : لارتباطه بما بعده ، هذا وزعم بعضهم أن قوله تعالى : { إِلاّ قَلِيلاً } مستنثى من قوله ( أذاعوه ) أو ( لعلمه ) واستدل به على أن الاستثناء لا يتعين صرفه لما قبله ، قال : لأنه لو كان مستثنى من جملة ( اتبعتم ) فسد المعنى لأنه يصير عدم اتباع القليل للشيطان ليس بفضل الله ، وهو لا يستقيم ، وبيان لزومه أن ( لولا ) حرف امتناع لوجود ، وقد أبانت امتناع اتباع المؤمنين للشيطان ، فإذا جعلت الاستثناء من الجملة الأخيرة فقد سلبت تأثير فضل الله في امتناع الاتباع عن البعض المستثنى ، ضرورة ، وجعلت هؤلاء المستثنين مستبدين بالإيمان وعصيان الشيطان بأنفسهم ، ألا تراك إذا قلت ( لمن تذكره بحقك عليه ) : لولا مساعدتي لك لسُلِبَتْ أموالك إلا قليلاً ، كيف لم يجعل لمساعدتك أثراً في بقاء القليل للمخاطب ، وإنما مننت عليه بتأثير مساعدتك في بقاء أكثر ماله ، لا في كله ، ومن المحال أن يعتقد مسلم أنه عصم في شيء من اتباع الشيطان ، إلا بفضله تعالى عليه ، هذا ملخص ما قرره صاحب الانتصاف ، وهول فيه ، ولا يخفى أن صرف الاستثناء إلى ما يليه ويتصل به لتبادره فيه ، أولى من صرفه إلى الشيء البعيد عنه ، واللازم ممنوع ، لأن المراد بالفضل والرحمة معنى مخصوص ، وهو ما بيناه ، فإن عدم الاتباع ، إذا لم يكن بهذا الفضل المخصوص ، لا ينافي أن يكون بفضل آخر ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلّفُ إِلاّ نَفْسَكَ وَحَرّضِ المؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفّ بَأْسَ الّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدّ بَأْساً وَأَشَدّ تَنكِيلاً } [ 84 ]
{ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } تلوين الخطاب ، وتوجيه له إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بطريق الالتفات وهو جواب شرط محذوف ينساق إليه النظم الكريم ، أي : إذا كان الأمر ، كما حكى من عدم طاعة المنافقين وكيدهم ، فقاتل أنت وحدك غير مكترث بما فعلوا ، قاله أبو السعود .
{ لاَ تُكَلّفُ إِلاّ نَفْسَكَ } أي : إلا فعل نفسك ، بالتقدم إلى الجهاد ، فإن الله هو ناصرك ، لا الجنود ، فإن شاء نصرك وحدك ، كما ينصرك وحولك الألوف ، أي : ومن نكل ، فلا عليك منه ولا تؤاخذ به .
قال الرازيّ : دلت الآية على أنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كان أشجع الخلق وأعرفهم بكيفية القتال ، لأنه تعالى ما كان يأمره بذلك إلا وهو صَلّى اللهُ عليّه وسلّم موصوف بهذه الصفات ، ولقد اقتدى به أبو بكر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - حيث حاول الخروج وحده إلى قتال مانعي الزكاة ، ومن علم أن الأمر كله بيد الله ، وأنه لا يحصل أمر من الأمور إلا بقضاء الله ، سهل ذلك عليه .
وروى ابن أبي حاتم عن أبي إسحاق قال : سألت البراء بن عازب عن الرجل يلقى المائة من العدو فيقاتل ، فيكون ممن قال الله فيه : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ } ؟ قال : قد قال الله تعالى لنبيه : { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلّفُ إِلاّ نَفْسَكَ } .
ورواه الإمام أحمد أيضاً عنه قال : قلت للبراء : الرجل يحمل على المشركين ، أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة ؟ قال : لا ، إن الله بعث رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقال : { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلّفُ إِلاّ نَفْسَكَ } إنما ذلك في النفقة .
{ وَحَرّضِ المؤْمِنِينَ } أي : على الخروج معك وعلى القتال ، ورغبهم فيه وشجعهم عليه ، كما قال لهم صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، يوم بدر ، وهو يسوي الصفوف : قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض ، وقد وردت أحاديث كثيرة في الترغيب في ذلك ، منها :
ما رواه البخاريّ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، بَيْنَ كل الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ > .
{ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفّ } أي : يمنع : { بَأْسَ } أي : قتال : { الّذِينَ كَفَرُواْ } وهم كفار مكة أي : بتحريضك إياهم على القتال ، تبعث هممهم على مناجزة الأعداء ومدافعتهم عن حوزة الإسلام وأهله ، ومقاومتهم ومصابرتهم .
قال أبو السعود : وقوله تعالى : { عَسَى } الخ عِدَةٌ منه سبحانه وتعالى محققة الإنجاز بكف شدة الكفرة ومكروههم ، فإن ما صدر بـ ( لعل وعسى ) مقرر الوقوع من جهته عز وجل ، وقد كان كذلك ، حيث روي في السيرة أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم واعد أبا سفيان ، بعد حرب أُحُد ، موسم بدر الصغرى في ذي القعدة ، فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج ، وخرج في شعبان سنة أربع في سبعين راكباً ، ووافوا الموعد وألقى الله تعالى في قلوب الذين كفروا الرعب ، فرجعوا من مر الظهران . انتهى . بزيادة .
وقال في ذلك عبد الله بن رواحة ( وقيل كعب بن مالك ) :
~وَعَدْنَا أَبَا سُفْيَانَ بَدْراً فَلَمْ نَجِدْ لميعاده صِدْقاً وَمَا كَانَ وَافِيَا
~فَأُقْسِمُ لَوْ وَافَيْتنَا فَلَقِيتنَا لأُبْت ذَمِيماً وَافْتَقَدْت الْمَوَالِيَا
~تَرَكْنَا بِهَا أَوْصَالَ عُتْبَةَ وَابْنِه وَعَمْراً ، أَبَا جَهْلٍ ، تَرَكْنَاهُ ثَاوِيَا
~عَصَيْتُمْ رَسُولَ اللّهِ أُفّ لِدِينِكُمْ وَأَمْرُكُمْ السّيّئُ الّذِي كَانَ غَاوِيَا
~فِإنّي وَإِنْ عَنّفْتُمُونِي لَقَائِلٌ فِدًى لِرَسُولِ اللّهِ أَهْلِي وَمَا لِيَا
~أَطَعْنَا لَمْ نَعْدِلْه فينا بِغَيْرِهِ شِهَاباً لَنَا فِي ظُلْمَةِ اللّيْلِ هَادِيَا
{ وَاللّهُ أَشَدّ بَأْساً } أي : شدة وقوة من قريش : { وَأَشَدّ تَنكِيلاً } أي : تعذيباً وعقوبة .
قال ابن كثير : أي : هو قادر عليهم في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : { ا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍٍ } [ محمد : من الآية 4 ] . انتهى .
قال الخفاجي : والقصد التهديد أو التشجيع ، ثم أشار تعالى إلى أن التحريض على القتال شفاعة في تكفير الكبائر ورفع الدرجات فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيّئَةً يَكُن لّهُ كِفْلٌ مّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍٍ مّقِيتاً } [ 85 ]
{ مّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً } أي : يتوسط في أمر فيترتب عليه خير من دفع ضر ، أو جلب نفع ، ابتغاء لوجه الله تعالى ، ومنه حمل المؤمنين على قتال الكفار .
{ يَكُن لّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا } وهو ثواب الشفاعة والتسبب إلى الخير الواقع بها .
{ وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيّئَةً } وهي ما كانت بخلاف الحسنة ، بأن كانت في أمر غير مشروع .
{ يَكُن لّهُ كِفْلٌ مّنْهَا } أي : نصيب من وزرها الذي ترتب على سعيه ، مساوٍٍ لها في المقدار من غير أن ينقص منه شيء .
فوائد :
الأولى : قال السيوطيّ في " الإكليل " : في الآية مدح الشفاعة وذم السعاية وهي الشفاعة السيئة ، وذكر الناس عند السلطان بالسوء ، وهي معدودة من الكبائر .
الثانية : روي في فضل الشفاعة أحاديث كثيرة ، منها :
ما أخرجه الشيخان عن أبي موسى الأشعري - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : كان النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال : < اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ [ عَزَّ وَجَلَّ ] عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا أحب > .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة بَرِيرَةَ وزوجها قال : قال لها النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لَوْ رَاجَعْتِهِ ! > قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ تَأْمُرُنِي ؟ قال : < إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ > ، قَالَتْ : لاَ حَاجَةَ لِي فِيهِ ، رواه البخاريّ .
الثالثة - قال مجاهد والحسن والكلبي وابن زيد : نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض ، فما يجوز في الدين أن يشفع فيه ، فهو شفاعة حسنة ، وما لا يجوز أن يشفع فيه ، فهو شفاعة سيئة .
ثم قال الحسن : من يشفع شفاعة حسنة كان له فيها أجر ، وإن لم يشفع ، لأن الله يقول : من يشفع ، ولم يقل : من يشفع ، ويتأيد هذا بقوله عليه الصلاة والسلام : < اشْفَعُوا تُؤْجَرُوْا > ، نقله الرازيّ .
الرابعة : قال الزمخشريّ : الشفاعة الحسنة هي التي روعي بها حق مسلم ، ودفع بها عنه شر ، أو جلب إليه خير ، وابتغي بها وجه الله ، ولم تؤخذ عليها رشوة ، وكانت في أمر جائز ، لا في حد من حدود الله ، ولا في حق من الحقوق ، يعني الواجبة عليه ، والسيئة ما كان بخلاف ذلك ، وعن مسروق : أنه شفع شفاعة ، فأهدى إليه المشفوع جارية فغضب وردها ، وقال : لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك ، ولا أتكلم فيما بقي منها . انتهى .
وروى أبو داود : أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < مَنْ شَفَعَ لأَخِيهِ بِشَفَاعَةٍ ، فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا ، فَقَبِلَهَا ، فَقَدْ أَتَى بَاباً عَظِيماً مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا > .
وهذا الحديث أورده أيضاً المنذري في " كتاب الترغيب والترهيب " في ترجمة ( الترغيب في قضاء حوائج المسلمين وإدخال السرور عليهم ، وما جاء فيمن شفع فأهدي إليه ) ثم ساق حديث الشيخين وغيرهما عن ابن عمر أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَ الدُنيَا يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ > .
وروى الطبراني بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < من ما عبد أنعم الله نعمة فأسبغها عليه ، ثم جعل من حوائج الناس إليه فتبرّم ، فقد عرّض تلك النعمة للزوال > .
وروي نحوه عن عائشة وابن عمر وابن عَمْرو .
وروى الطبراني وابن حبان في " صحيحه " عن عائشة - رَضِي اللّهُ عَنْهَا - قالت : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < من كان وصلة لأخيه المسلم إلى ذي سلطان في مبلغ برٍّ ، أو تيسير عسير ، أعانه الله إجازة الصراط يوم القيامة عند دحض الأقدام > .
وفي رواية للطبراني عن أبي الدرداء : < رفعه الله في الدرجات العلا من الجنة > .
وروى الطبراني عن الحسن بن عليّ رضي الله عنهما عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إن من موجبات المغفرة إدخالك السرور على أخيك المسلم > .
ورواه عن عمر مرفوعاً بلفظ : < أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن > .
ورواه بنحو ذلك أيضاً عن ابن عمر وابن عباس وعائشة وغيرهم ، انظر الترغيب .
الخامسة : نكتة اختيار النصيب في ( الحسنة ) والكفل في ( السيئة ) ما أشرنا إليه ، وذلك أن النصيب يشمل الزيادة ، لأن جزاء الحسنات يضاعف ، وأما الكفل فأصله المركب الصَّعب ، ثم استعير للمثل المساوي ، فلذا اختير ، إشارة إلى لطفه بعباده ، إذ لم يضاعف السيئات كالحسنات ، ويقال : إنه وإن كان معناه المثل لكنه غلب في الشر وندر في غيره ، كقوله تعالى : { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رّحْمَتِهِ } [ الحديد : 28 ] ، فلذا خص به السيئة تطرية وهرباً من التكرار .
و ( مِنْ ) بيانية أو ابتدائية ، أفاده الخفاجي .
{ وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍٍ مّقِيتاً } أي : مقتدراً ، من ( أقات على الشيء ) إذا اقتدر عليه كما قال :
~وذي ضِغْنٍ كففتُ النفس عنه وكنتُ على مساءته مُقيتاً
أي رب ذي حقد عليّ كففت السوء عنه مع القدرة عليه ، أو شهيداً حافظاً ، واشتقاقه من ( القوت ) فإنه يقوي البدن ويحفظه ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا حُيّيْتُم بِتَحِيّةٍٍ فَحَيّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدّوهَا إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَيْءٍٍ حَسِيباً } [ 86 ]
{ وَإِذَا حُيّيْتُم بِتَحِيّةٍٍ } أي : إذا سلم عليكم فدعى لسلامة حياتكم وصفاتكم التي بها كمال الحياة بتحية ، فقيل : السلام عليكم .
{ فَحَيّواْ } أي : أداءً لحق المسلم عليكم .
{ بِأَحْسَنَ مِنْهَا } أي : بتحية أحسن منها ، بأن تقولوا : وعليكم السلام ورحمة الله ، ولو قالها المسلم ، زيد : وبركاته .
قال الراغب : أصل التحية الدعاء بالحياة وطولها ، ثم استعملت في كل دعاء ، وكانت العرب إذا لقي بعضهم بعضاً ، يقول : حياك الله ، ثم استعملها الشرع في السلام ، وهي تحية الإسلام ، قال الله تعالى : { تَحِيّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ } [ إبراهيم : من الآية 23 ] ، وقال : { تَحِيّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ } [ الأحزاب : من الآية 44 ] وقال : { فَسَلموا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيّةً مِنْ عِنْدِ اللّهِ } [ النور : من الآية 61 ] ، قالوا : في السلام مزية على ( حياك ) لما أنه دعاء بالسلامة من الآفات الدينية والدنيوية ، وهي مسلتزمة لطول الحياة ، وليس في الدعاء بطول الحياة ذلك ، ولأن السلام من أسمائه تعالى ، فالبداءة بذكره مما لا ريب في فضله ومزيته .
{ أَوْ رُدّوهَا } أي : أجيبوها بمثلها ، ورد السلام ورجعه : جوابه بمثله ، لأن المجيب يرد قول المسلم ويكرره .
{ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَيْءٍٍ حَسِيباً } أي : فيحاسبكم على كل شيء من أعمالكم التي من جملتها ما أمرتم به من التحية ، فحافظوا على مراعاتها حسبما أمرتم به ، وفي الآية فوائد شتى :
الأولى : نكتة نظمها مع آيات الجهاد هو التمهيد لمنع المؤمنين من قتل من ألقى إليهم السلام في الحرب الآتي قريباً ، ببيان أن لكل مسلم حقاً يؤدى إليه ، وذلك لأن السلام نوع من الإكرام ، والمكرم يقابل بمثل إكرامه أو أزيد .
قال الرازيّ : إن الرجل في الجهاد كان يلقاه الرجل في دار الحرب أو ما يقاربها فيسلم عليه ، فقد لا يلتفت إلى سلامه عليه ويقتله ، وربما ظهر أنه كان مسلماً ، فمنع الله المؤمنين عنه ، وأمرهم أن كل من يسلم عليهم ويكرمهم بنوع من الإكرام يقابلونه بمثل ذلك الإكرام أو أزيد ، فإنه إن كان كافراً لا يضر المسلم ، إن قابل إكرام ذلك الكافر بنوع من الإكرام ، أما إن كان مسلماً ، وقتله ، ففيه أعظم المصادر والمفاسد .
ولذا قال : { إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَيْءٍٍ حَسِيباً } أي : هو محاسبكم على كل أعمالكم ، وكاف في إيصال جزاء أعمالكم إليكم ، فكونوا على حذر من مخالفة هذا التكليف ، فهذا يدل على شدة العناية بحفظ الدماء ، والمنع من إهدارها .
وقد روى ابن أبي حاتم عن عِكْرِمَة عن ابن عباس قال : من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه ، وإن كان مجوسياً ذلك بأن الله يقول : { فَحَيّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدّوهَا } .
وقال قتادة : فحيوا بأحسن منها ، يعني للمسلمين ، أو ردوها ، يعني لأهل الذمة ، ومن هنا حكى المارودي وجهاً : أنه يقول في الرد على أهل الذمة ، إذا ابتدؤوا : وعليكم السلام ، ولا يقول : ورحمة الله نقله عنه النووي .
وروى الزمخشريّ عن الحسن أنه يجوز أن يقال للكافر : وعليك السلام ، ولا تقل : ورحمة الله ، فإنها استغفار .
وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم عليه : وعليك السلام ورحمة الله ، فقيل له في ذلك ، فقال : أليس في رحمة الله يعيش ؟ انتهى .
والظاهر أنه لحظ الأخبار بذلك ولم يرد مضمون التحية ، ومع هذا فالثابت في الصحيحين عن أنس مرفوعاً : < إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ > ، كما يأتي .
قال السيوطيّ في " الإكليل " : في هذه الآية مشروعية السلام ووجوب رده ، واستدل به الجمهور على رد السلام على كل مسلم ، مسلماً كان أو كافراً ، لكن مختلفان في صيغة الرد .
الثانية : ورد في إفشاء السلام أحاديث كثيرة ، منها :
قول البراء بن عازب رضي الله عنهما : أمرنا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بِسَبْعٍ ، منها : وإفشاء السلام ، رواه الشيخان .
وعن أبي هريرة - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ، أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شيءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ > رواه مسلم .
وعن عبد الله بن سلام - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < أَيُّهَا النَّاسُ ! أَفْشُوا السَّلَامَ ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ ، وَصَلُّوا [ بِاللَّيْلِ ] وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ > قال الترمذيّ : حديث صحيح .
الثالثة : في كيفية السلام ، قال الرازيّ : إن شاء قال : سلام عليكم ، وإن شاء قال : السلام عليكم ، قال تعالى في حق نوح : { يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍٍ مِنّا } [ هود : من الآية 48 ] ، وقال عن الخليل : { قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبّي } [ مريم : من الآية 47 ] ، وقال في قصة لوط : { قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلام } [ هود : من الآية 69 ] ، وقال عن يحيى : { وَسَلامٌ عَلَيْه } [ مريم : من الآية 15 ] ، وقال عن محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : { قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الّذِينَ اصْطَفَى } [ النمل : من الآية 59 ] وقال عن الملائكة : { وَالملائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلّ بَابٍٍ } [ الرعد : من الآية 23 ] : { سَلامٌ عَلَيْكُمْ } [ الرعد : من الآية 24 ] ، وقال عن نفسه المقدسة : { سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبّ رَحِيمٍٍ } [ يس : 58 ] ، وقال : { فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 54 ] ، وأما بالألف واللام فقوله عن موسى عليه السلام : { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍٍ مِنْ رَبّكَ وَالسّلامُ عَلَى مَنِ اتّبَعَ الْهُدَى } [ طه : من الآية 47 ] ، وقال عن عيسى عليه السلام : و : { وَالسّلامُ عليّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } [ مريم : 33 ] فثبت أن الكل جائز . انتهى .
قال الإمام أبو الحسن الواحدي : أنت في تعريف السلام وتنكيره بالخيار . انتهى .
ولكثرة ورود التنكير في القرآن ، على ما بيناه ، فضله بعضهم على التعريف .
الرابعة : في فضله ، روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذيّ والدارمي عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : جَاءَ رَجُل إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ . فَقَالَ النَّبِيُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < عَشْرٌ > . ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < عِشْرُونَ > . ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < ثَلاَثُونَ > .
قال الترمذيّ : حديث حسن [ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ] .
وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَعَلِيٍ وَسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ .
وقال البزار : قد روي هذا عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من وجوه ، هذا أحسنها إسناداً .
وفي رواية لأبي داود ، من رواية معاذ بن أنس - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - زيادة على هذا ، قال : ثم أتى آخر ، فَقَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ ، قَالَ : < أَرْبَعُونَ > ، قَالَ : < هَكَذَا تَكُونُ الْفَضَائِلُ > .
وفيه رد على من زعم أنه لا يزاد على ( وبركاته ) ، لا يقال رواية ( ومغفرته ) عند أبي داود ، هي من طريق أبي مرحوم واسمه عبد الرحيم بن ميمون عن سهل بن معاذ عن أبيه ، وأبو مرحوم ضعفه يحيى .
وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به - لأنا نقول : قد حسّن الترمذيّ روايته عن سهل بن معاذ ، وصححها أيضاً هو وابن خزيمة والحاكم وغيرهم .
قال النسائي : لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه .
عود :
وروى الطبراني عن سهل بن حنيف - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < من قال : السلام عليكم كتب له عشر حسنات ، ومن قال : السلام عليكم ورحمة الله ، كتبت عشرون حسنة ، ومن قال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كتبت له ثلاثون حسنة > .
وروى ابن حيان في صحيحه عن أبي هريرة ، - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أن رجلاً مر على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وهو في مجلس فقال : سلام عليكم ، فقال : < عشر حسنات > ، ثم مر آخر فقال : سلام عليكم ورحمة الله فقال : < عشرون حسنة > ، ثم مر آخر فقال : سلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقال : < ثلاثون حسنة > ، فقام رجل من المجلس ولم يسلم ، فقال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < ما أوشك ما نسي صاحبكم ، إذا جاء أحدكم إلى المجلس فليسلم ، فإن بدا له أن يجلس فليجلس ، وإن قام فليسلم ، فليست الأولى بأحق من الآخرة > .
وروى الطبراني بإسناد جيد عن عبد الله بن مُغَفَّل قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < أبخل الناس من بخل بالسلام > . ورواه أيضاً عن أبي هريرة ، ولأحمد والبزار نحوه عن جابر .
وروى الطبراني عن حذيفة بن اليمان عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إن المؤمن إذا لقي المؤمن فسلم عليه وأخذ بيده تناثرت خطاياهما كما تتناثر ورق الشجر > .
قال المنذري : ورواته لا أعلم فيهم مجروحاً .
وروى البزار عن عُمَر بن الخطاب قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إذا التقى الرجلان المسلمان فسلم أحدهما على صاحبه ، فإن أحبهما إلى الله أحسنهما بشراً لصاحبه ، فإذا تصافحا نزلت عليهما مائة رحمة : للبادئ منهما تسعون ، وللمصافح عشرة > .
وروى أبو داود عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلاَمِ > .
الخامسة : في بعض أحكامه المأثورة ، روى أبو داود عن علي - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < يُجْزِئُ عَنِ الْجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ ، وَيُجْزِئُ عَنِ الْجُلُوسِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ > .
وفي الموطأ عن زيد بن أسلم أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إذا سلم واحد من القوم أجزأ عنهم > ، قال النووي : هذا مرسل صحيح الإسناد .
وفي الصحيحين عن عائشة - رَضِي اللّهُ عَنْهَا - قالت : قال لي رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < يَا عَائِشَةُ هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلاَمَ >
قالت : قلت : وعليه السلام ورحمة الله ، ترى ما لا نرى ( تريد رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ) .
قال النووي : ووقع في بعض روايات الصحيحين ( وبركاته ) ، ولم يقع في بعضها ، وزيادة الثقة مقبولة .
وفي سنن أبي داود عن غالب القطان عن رجل قال : حدثني أبي عن جدي قال : بعثني أبي إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقال : ائته فاقرئه السلام ، فأتيته فقلت : إِنَّ أَبِي يُقْرِئُكَ السَّلاَمَ . فَقَالَ : < عَلَيْكَ وَعَلَى أَبِيكَ السَّلاَمُ > .
قال النووي : هذا وإن كان رواية عن مجهول ، فأحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم ، فيستفاد منه الرد على المبلغ كالمسلم .
وروى أبو داود عن أبي هريرة عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إِذَا لَقِي أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أَوْ جِدَارٌ أَوْ حَجَرٌ ثُمَّ لَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ > ، ففيه أن من سلم عليه إنسان ، ثم لقيه على قرب ، ندب التسليم عليه ثانياً وثالثاً .
وروى الشيخان عن أبي هريرة أن الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي ، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ > .
وروى الشيخان عن أنس : أنه مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ، وَقَالَ : كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ .
ولفظ أبي داود : أتى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم على غِلْمَانٍ يَلْعَبُونَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ .
وعند ابن السني فيه ، فقال : < السلام عليكم يا صبيان > .
وروى أبو داود عن أسماء بنت يزيد قالت : مَرَّ عَلَيْنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نِسْوَةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا .
وروى الترمذيّ نحوه ، وروى الشيخان عن أنس قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ > .
ورويا عن أسامة : أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مر على مجلس فيه أَخْلاَطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ وَالْمُسْلِمِينَ ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ النبي صلى الله عليه وسلم .
وروى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ > .
قال النووي : روينا في موطأ مالك أنه سئل عمن سلم على اليهودي أو النصراني هل يستقبله ذلك ؟ فقال : لا ، قال أبو سعد المتولي الشافعيّ : لو أراد تحية ذمي ، فعلها بغير السلام ، بأن يقول : هداك الله أو أنعم الله صباحك .
قال النووي ، هذا الذي قاله أبو سعد لا بأس به ، إذا احتاج إليه فيقول : صبحت بالخير أو بالسعادة أو بالعافية ، أو صبحك الله بالسرور أو بالسعادة والنعمة أو بالمسرة أو ما أشبه ذلك .
السادسة : قال الحسن البصري : السلام تطوع والرد فريضة .
قال ابن كثير : وهذا الذي قاله هو قول العلماء قاطبة : أن الرد واجب على من سلم عليه : فيأثم إن لم يفعل لأنه خالف أمر الله في قوله : { فَحَيّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدّوهَا } انتهى ، وفي ترك الرد إهانة وازدراء وهو حرام ، ولذا ندب للجمع المسلم عليهم أن يجيبوا كلهم إظهاراً للإكرام ومبالغة فيه ، وإن كان الفرض يسقط ببعضهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللّهُ لا إِلَهَ إِلّا هُوَ لَيجمَعَنّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً } [ 87 ]
{ اللّهُ لا إِلَهَ إِلّا هُوَ لَيجمَعَنّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } أي : ليبعثنكم من قبوركم ويحشرنكم إلى حساب يوم القيامة في صعيد واحد ، فيجازي كل عامل بعمله .
قال الزمخشريّ : القيامة والقيام كالطلابة والطلاب ، وهي قيامهم من القبور أو قيامهم للحساب ، قال الله تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ الْعَالمينَ } [ المطففين : 6 ] .
{ لا رَيْبَ فِيهِ } أي : لا شك في يوم القيامة أو في الجمع .
{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً } إنكار لأن يكون أحد أصدق منه تعالى في حديثه وخبره ووعده ووعيده وبيان لاستحالته لأنه نقص وقبيح ، إذْ مَنْ كذب ، لم يكذب إلا لأنه محتاج إلى أن يجر منفعة بكذبه أو يدفع مضرة ، أو هو جاهل بقبحه ، أو هو سفيه لا يفرق بين الصدق والكذب في أخباره ، ولا يبالي بأيهما نطق ، فظهر استحالة الكذب عليه جل شأنه ، والغير ، وإن دلت الدلائل على صدقه ، فكذبه ممكن إذا لم ينظر إليها .
فوائد :
الأولى : قال الرازيّ : في كيفية النظم وجهان :
أحدهما : إنا بينا أن المقصود من قوله : { وَإِذَا حُيّيتُمْ بِتَحِيّةٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ فَحَيّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدّوهَا } أن لا يصير الرجل المسلم مقتولاً ، ثم إنه تعالى أكد ذلك بالوعيد في قوله : { إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ حَسِيباً } ثم بالغ في تأكيد ذلك الوعيد بهذه الآية ، فبين في هذه الآية أن التوحيد والعدل متلازمان ، فقوله : { لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ } إشارة إلى التوحيد ، وقوله : { لَيجمَعَنّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } إشارة إلى العدل [ في المطبوع : العد ] ، وهو كقوله : { شَهِدَ اللّهُ أَنّهُ لا إِلَهَ إِلّا هُوَ وَالملائِكَةُ وَأُولُو الْعِلم قَائِماً بِالْقِسْطِ } [ آل عِمْرَان : من الآية 18 ] وكقوله في طه : { إِنّنِي أَنَا اللّهُ لا إِلَهَ إِلّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصّلاةَ لِذِكْرِي } [ طه : 14 ] وهو إشارة إلى التوحيد ، ثم قال : { إِنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلّ نَفْسٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ بِمَا تَسْعَى } [ طه : 15 ] ، وهو إشارة إلى العدل ، فكذا في هذه الآية ، بين أنه يجب في حكمه وحكمته أن يجمع الأولين والآخرين في عرصة القيامة ، فينتصف للمظلومين من الظالمين ، ولا شك أنه تهديد شديد .
الوجه الثاني : كأنه تعالى يقول : من سلم عليكم وحياكم فاقبلوا سلامه وأكرموه وعاملوه بناء على الظاهر ، فإن البواطن إنما يعرفها الله الذي لا إله إلا هو ، إنما تنكشف بواطن الخلق للخلق في يوم القيامة .
الثانية : قوله : { لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ } إما خبر للمبتدأ و ( ليجمعنكم إلخ ) ، جواب قسم محذوف ، والجملة القسمية مستأنفة لا محل لها ، أو خبر ثان ، وإما اعتراض ، والجملة القسمية خبر .
الثالثة : تعدية ( ليجمعنكم ) بـ ( إلى ) لكونه بمعنى الحشر كما بينا ، أو لكون ( إلى ) بمعنى ( في ) كما أثبته أهل العربيّة ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَا لَكُمْ فِي المنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلّ اللّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } [ 88 ]
{ فَمَا لَكُمْ فِي المنَافِقِينَ } أي : فما لكم تفرقتم في أمر المنافقين .
{ فِئَتَيْنِ } أي : فرقتين ولم تتفقوا على التبرؤ منهم ، والاستفهام للإنكار ، والنفي والخطاب لجميع المؤمنين ، لكن ما فيه من معنى التوبيح متوجه إلى بعضهم ، وذلك أن فرقة من المؤمنين كانت تميل إليهم وتذب عنهم وتواليهم ، وفرقة منهم تباينهم وتعاديهم ، فنهوا عن ذلك وأمروا بأن يكونوا على نهج واحد في التباين والتبرؤ منهم ، لأن دلائل نفاقهم وكفرهم ظاهرة جلية ، فليس لكم أن تختلفوا في شأنهم ، وقد قيل : إن المراد بهم هنا عبد الله بن أُبي وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يوم أحد ، ورجعوا بعسكرهم ، بعد أن خرجوا ، كما تقدم في آل عِمْرَان ، كما أوضحه الشيخان والإمام أحمد والترمذيّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى أُحُدٍ ، فَرَجَعَ ناسٌ خَرَجُوا مَعَهُ ، فَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِرْقَتَيْنِ ، فِرْقَةٌ تَقُولُ : نقَتْلِهِمْ ، وَفِرْقَةٌ تَقُولُ : لاَ هم المؤمنون ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < إِنَّهَا طَيْبَةُ وَإِنَّهَا تَنْفِي الْخَبَثَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ > . هذا لفظ أحمد .
وقد ذكر الإمام محمد بن إسحاق في واقعة أحد : أن عبد الله بن أبيّ بن سلول رجع يومئذ بثلث الجيش : رجع بثلاثمائة وبقي النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في سبعمائة .
وثمة في نزول الآية رواية أخرى أخرجها الإمام أحمد في مسنده عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ : أَنَّ قَوْماً مِنَ الْعَرَبِ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَأَسْلَمُوا وَأَصَابَهُمْ وَبَاءُ الْمَدِينَةِ حُمَّاهَا ، فَأُرْكِسُوا ، فَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ ، فَاسْتَقْبَلَهُمْ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ - يَعْنِي أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا لَهُمْ : مَا لَكُمْ رَجَعْتُمْ ؟ قَالُوا : أَصَابَنَا وَبَاءٌ الْمَدِينَةِ . فَقَالُوا : أَمَا لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حسنة ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : نَافَقُوا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَمْ يُنَافِقُوا . فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } الآيَةَ .
وهذه الرواية هي الأقرب لنظم الآية كما سنبينه في التنبيه الثاني : { وَاللّهُ أَرْكَسَهُمْ } أي : نكسهم وردهم إلى الكفر .
{ بِمَا كَسَبُوا } : أي : بسبب ما كسبوه من لحوقهم بالكفار .
{ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلّ اللّهُ } أي : تعدّوهم من جملة المهتدين .
قال أبو السعود : تجريد للخطاب وتخصيص له بالقائلين بإيمانه من الفئتين ، وتوبيخ لهم على زعمهم ذلك وإشعار بأنه يؤدي إلى محاولة المحال الذي هو هداية من أضله الله تعالى ، وذلك لأن الحكم بإيمانهم وادعاء اهتدائهم ، وهم بمعزل عن ذلك ، سعى في هدايتهم وإرادة لها ، ووضع الموصول موضع ضمير المنافقين لتشديد الإنكار وتأكيد استحالة الهداية بما ذكر في حيّز الصلة ، وتوجيه الإنكار إلى الإرادة لا إلى متعلقها ، بأن يقال : أتهدون إلخ للمبالغة في إنكاره بيان أنه مما لا يمكن إرادته ، فضلاً عن إمكان نفسه : { وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ } عن دينه .
{ فَلَنْ تَجِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِدَ لَهُ سَبِيلاً } أي : طريقاً إلى الهدى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَدّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً } [ 89 ]
{ وَدّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا } كلام مستأنف مسوق لبيان غلوهم وتماديهم في الكفر وتصديهم لإضلال غيرهم ، إثر بيان كفرهم وضلالهم في أنفسهم أي : تمنوا أن تكفروا ككفركم بعد الإيمان .
{ فَتَكُونُونَ سَوَاءً } أي : في الكفر والضلال .
{ فَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ } في العون والنصرة لئلا يفضي إلى كفركم ، وإن أظهروا لكم الإيمان طلباً لموالاتكم .
{ حَتّى يُهَاجِرُوا } من دار الكفر : { فِي سَبِيلِ اللّهِ } فتتحققوا إيمانهم .
{ فَإِنْ تَوَلّوْا } أي : عن الهجرة ، فهم ، وإن أظهروا لكم الإسلام مع قدرتهم على الهجرة ، فافعلوا بهم ما تفعلون بالكفار ، لأنه زال عنهم حكم النفاق بلحوق دار الكفر .
{ فَخُذُوهُمْ } أي : اتسروهم : { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُُ وَجَدْتُمُوهُمْ } في الحل والحرم .
{ وَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً } أي : لا توالوهم ولا تستنصروا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك .
تنبيهان :
الأول : قال الرازيّ : دلت الآية على أنه لا يجوز موالاة المشركين والمنافقين والمشتهرين بالزندقة والإلحاد ، وهذا متأكد بعموم قوله تعالى : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أَوْلِيَاءَََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََ } [ الممتحنة : من الآية 1 ] ، والسبب فيه أن أعز الأشياء وأعظمها عند جميع الخلق هو الدين ، لأن ذلك هو الأمر الذي يتقرب به إلى الله تعالى ويتوسل به إلى طلب السعادة في الآخرة ، وإذا كان كذلك ، كانت العداوة الحاصلة بسببه أعظم أنواع العداوة ، وإذا كان كذلك ، امتنع طلب المحبة والولاية في الموضع الذي يكون أعظم موجبات العداوة حاصلاً فيه ، والله أعلم .
الثاني : يظهر لي أن الأقرب في سبب نزول هذه الآيات أعني قوله تعالى : { فَمَا لَكُمْ فِي المنَافِقِينَ } الخ ، رواية عبد الرحمن بن عوف ، كما يدل عليه سير هذه الآيات وتدبرها بصادق النظر والإمعان ، وقد اهتدى إلى ذلك الفاضل المهايميّ في تفسيره ، فاقتصر على هذا الوجه فقال : وهم الذين استأذنوا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في الْخُرُوجَ إِلَى البدو لاجتواء المدينة ، فلم يزالوا يرتحلون مرحلة بعد أخرى حتى لحقوا المشركين . انتهى .
وقول السيوطيّ : في إسناد رواية عبد الرحمن بن عوف عند أحمد تدليس وانقطاع ، لا يقدح في إصابتها كبد الحقيقة ، لأنها وجدت فيها قرينة تلحقها بالمقبول وهو موافقتها لألفاظ الآية بلا تكلف ، وحينئذ فقول زيد بن ثابت : فنزلت فيما تقدم بمعنى أنها تشمل ما وقع من المنخزلين عن أُحُد وما جرى من اختلاف المؤمنين في شأنهم ، لا أن ما وقع كان سبباً لنزولها ، واستعمال النزول بذلك معروف كما بيناه في المقدمة ، وإلا لأشكل قوله تعالى : { إلا أن يهاجروا } إذ لم تطلب المهجرة إلا من النائبين عن المدينة ، أولئك ، أعني الذين انخزلوا عن المسلمين في أحد ، كانوا بها ، فيحتاج إلى جعل المهاجرة بمعنى خروجهم مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم والمؤمنين ، صابرين محتسبين مخلصين ، كما قاله بعض المفسرين ، وهذا المعنى لم يشع في المهاجرة ، ولأشكل أيضاً قوله تعالى : { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتّمُوهُمْ } فإنه يفيد بأنهم ليسوا من منافقي أهل المدينة ، وإنه يتوقع الظفر بهم ، وإلا فمنافقوها بين ظهرانيهم ليلاً ونهاراً ، فالظاهر في هذا المقام رواية ابن عوف ، وفي آخر رواية زيد ما يشعر بها حيث قال : < إنها طيبة وإنها تنفي الخبث > ، إشارة إلى أن المدينة نفت هؤلاء الذين نزحوا عنها بعد إسلامهم ، والله أعلم ، لم استثنى عن أسر المرتدين وقتلهم بقولهم :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم ميثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلم يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السّلم فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } [ 90 ]
{ إِلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ } يلجئون .
{ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم ميثَاقٌ } أي : عهد بهدنة أو أمان فاجعلوا حكمهم كحكمهم لئلا يفضي إلى قتال من وصلوا إليهم فيفضي إلى نقض الميثاق .
{ أَوْ جَآؤُوكُمْ } عطف على الصلة أي : والذين جاءوكم .
{ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } حال بإضمار ( قد ) أي : ضاقت وانقبضت نفوسهم .
{ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ } لإرادتهم المسالمة .
{ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ } أي : معكم من أجلكم لمكان القرابة منهم ، فهم لا لكم ولا عليكم .
قال أبو السعود : استُثْنِي من المأمور بأخذهم وقتلهم فريقان :
أحدهما : من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين .
والآخر : من أتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين .
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن أن سُرَاقَة بن مالك المدلجيّ حدثهم قال : لما ظهر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم على أهل بدر وأحد ، وأسلم من حولهم ، قال : بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج ، فأتيته فقلت : أنشدك النعمة ، بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي ، وأنا أريد أن توادعهم ، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام ، وإن لم يسلموا لم يحسن تغليب قومك عليهم ، فأخذ رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بيد خالد فقال : < اذهب فافعل ما يريد > ، فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم ، وأنزل الله : { إِلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم ميثَاقٌ } فكان ومن وصل إليهم كان معهم على عهدهم ، وفي قوله تعالى : { وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ } إشعار بقوتهم في أنفسهم ، وأن في التعرض لقتلهم إظهاراً لقوتهم الخفية في الجملة جارية مجرى التعليل لاستثنائهم من الأخذ والقتل .
{ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ } أي : تركوكم : { فَلم يُقَاتِلُوكُمْ } مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك بمشيئة الله عز وجل .
{ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السّلم } أي : الانقياد والاستسلام .
{ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } أي : طريقاً بالأسر أو القتل ، إذ لا ضرر منهم في الإسلام ، وقتالهم يظهر كمال قوتهم .
لطيفة :
قال الخفاجيّ ( السَلَم ) بفتحتين : الانقياد ، وقرئ بسكون اللام مع فتح السين وكسرها ، وكان إلقاء السلم استعارة ، لأن من سلّم شيئاً ألقاه وطرحه عند المسلّم له ، وعدم جعل السبيل مبالغة في عدم التعرض لهم ، لأن من لا يمر بشيء كيف يتعرض له ؟
تنبيه :
ظاهر النظم الكريم أن الفريقين المستثنيين من الكفار ، وحاول أبو مسلم الأصفهاني كونهما من المسلمين حيث قال : إنه تعالى لما أوجب الهجرة على كل من أسلم ، استثنى من له عذر ، فقال : إلا الذين يصلون ، وهم قوم من المؤمنين قصدوا الرسول للهجرة والنصرة ، إلا أنهم كان في طريقهم من الكفار ما لم يجدوا طريقاً إليه خوفاً من أولئك الكفار ، فصاروا إلى قوم بين المسلمين وبينهم عهد وأقاموا عندهم إلى أن يمكنهم الخلاص ، واستثنى بعد ذلك من صار إلى الرسول ، ولا يقاتل الرسول ولا أصحابه ، لأنه يخاف الله تعالى فيه ، ولا يقاتل الكفار أيضاً ، لأنهم أقاربه ، أو أنه أبقى أولاده وأزواجه بينهم ، فيخاف ، لو قاتلهم ، أن يقتلوا أولادهم وأصحابه ، فهذان الفريقان من المسلمين لا يحل قتالهم ، إن كان لم يوجد منهم الهجرة ولا مقاتلة الكفار . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلّ مَا رُدّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لم يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السّلم وَيَكُفّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مّبِيناً } [ 91 ]
{ سَتَجِدُونَ } أقواماً : { آخَرِينَ يُرِيدُونَ } بإظهار الإسلام لكم .
{ أَن يَأْمَنُوكُمْ } : أي : على أنفسهم .
{ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ } بإظهار الكفر .
{ كُلّ مَا رُدّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ } أي : دعوا إلى الارتداد والشرك : { أُرْكِسُواْ فِيِهَا } أي : رجعوا إلى منكوسين على رؤوسهم .
{ فَإِن لم يَعْتَزِلُوكُمْ } أي : ينتحوا عنكم جانباً ، بأن لم يكونوا معكم ولا عليكم .
{ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السّلم } أي : ولم يلقوا الانقياد .
{ وَيَكُفّوَاْ أَيْدِيَهُمْ } أي : عن قتالكم .
{ فَخُذُوهُمْ } أي : اتسروهم .
{ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ } أي : وجدتموهم في داركم أو دارهم .
{ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مّبِيناً } أي : حجة واضحة في الإيقاع بهم قتلاً وسبياً ، لظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر ، وإضرارهم بأهل الإسلام ، أو تسلطاً ظاهراً ، حيث أذنّا لكم في أخذهم وقتلهم .
تنبيهان :
الأول : قال ابن كثير : هؤلاء الآخرون ، في الصورة الظاهرة ، كمن تقدمهم ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك ، فإن هؤلاء قوم منافقون يظهرون للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ولأصحابه الإسلام ، ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم ، ويصانعون الكفار في الباطن ، فيعبدون معهم ما يعبدون ، ليأمنوا بذلك عندهم ، وهم في الباطن مع أولئك ، كما قال تعالى : { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنّا مَعَكُمْ } [ البقرة : من الآية 14 ] الآية .
وحكى ابن جرير عن مجاهد ؛ أنها نزلت في قوم من أهل مكة ، كانوا يأتون النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فيُسلمون رياء ، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان ، يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا ، فأمر بقتلهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا .
الثاني : قال الرازيّ : قال الأكثرون : في الآية دلالة على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن إيذائنا ، لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم ، ونظيره قوله تعالى : { لا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لم يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلم يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرّوهُمْ } [ الممتحنة : من الآية 8 ] ، وقوله تعالى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } [ البقرة : من الآية 190 ] ، فخص الأمر بالقتال لمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ لمؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مّسَلمةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاّ أَن يَصّدّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثَاقٌ فَدِيَةٌ مّسَلمةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّؤْمِنَةً فَمَن لم يجدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [ 92 ]
{ وَمَا كَانَ لمؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَئاً } أي : ما جاز ولا صح ولا لاق لمؤمن قتل أخيه المؤمن ، فإن الإيمان راجز عن ذلك ، إلا على وجه الخطأ ، فإنه ربما يقع لعدم دخول الاحتراز عنه بالكلية تحت الطاقة البشرية .
قال الزمخشريّ : فإن قلت : بم انتصب خطأ ؟ قلت : بأنه مفعول له : أي : ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده ، ويجوز أن يكون حالاً ، بمعنى لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ ، وأن يكون صفة للمصدر : إلا قتلاً خطأ ، والمعنى : إن من شأن المؤمن أن ينتفي عنه وجود قتل المؤمن ابتداء ، البتة ، إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد ، بأن يرمي كافراً فيصيب مسلماً ، أو يرمي شخصاً على أنه كافر فإذ اهو مسلم . انتهى .
{ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً } أي : بما ذكرنا ، فهو ، وإن عفي عنه ، لكنه لا يخلوا عن تقصير في حق الله ، ولا يهدر دم المؤمن بالكلية .
{ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّؤْمِنَةٍ } أي : فالواجب عليه ، لحق الله ، إعتاق نفس محكوم عليها بالإيمان ، ولو صغيرة ، ليعتق الله عنه بكل جزء منها جزءاً من النار .
وقد روى الإمام أحمد عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ ، أَنَّهُ جَاءَ بِأَمَةٍ سَوْدَاءَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ عَلَيَّ عِتْقَ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ، فَإِنْ كُنْتَ تَرَى هَذِهِِ مُؤْمِنَةً أَعْتَقْتُهَا .
فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < أَتَشْهَدِينَ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ > . قَالَتْ : نَعَمْ .
قَالَ < أَتَشْهَدِينَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ > . قَالَتْ : نَعَمْ .
قَالَ < أَتُؤْمِنِينَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ > . قَالَتْ : نَعَمْ .
قَالَ < أَعْتِقْهَا > .
وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح وَجَهَالَة الصَّحَابِيّ لَا تَضُرّهُ .
وَفِي مُوَطَّأ مَالِك وَمُسْنَد الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَصَحِيح مُسْلِم وَسُنَن أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَنْ مُعَاوِيَة بْن الْحَكَم أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ بِتِلْكَ الْجَارِيَة السَّوْدَاء ، قَالَ لَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < أَيْنَ اللَّه ؟ >
قَالَتْ : فِي السَّمَاء .
قَالَ : < مَنْ أَنَا ؟ >
قَالَتْ : أَنْتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ : < أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَة > . أفاده ابن كثير .
لطيفتان :
الأولى : قال الزمخشريّ : التحرير : الإعتاق ، والحر والعتيق : الكريم ، لأن الكرم في الأحرار ، كما أن اللؤم في العبيد ، ومنه عتاق الخليل وعتاق الطير لكرامها وحر الوجه أكرم موضع منه ، وقولهم للئيم : عبد ، وفلان عبد الفعل ، أي : لئيم الفعل ، والرقبة عبارة عن النسمة ، كما عبر عنها بالرأس في قولهم : فلان يملك كذا رأساً من الرقيق .
الثانية : قيل في حكمة الإعتاق : إنه لما أخرج نفساً مؤمنة من جملة الأحياء ، لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار ، لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها ، من قبل أن الرقيق ملحق بالأموات ، إذ الرق من آثار الكفر ، والكفر موت حكماً : { أَوَمَنْ كَانَ ميتاً فَأَحْيَيْنَاه } [ الأنعام : من الآية 122 ] ، ولهذا منع من تصرف الأحرار ، وهذا مشكل ، إذ لو كان كذلك لوجب في العمد أيضاً ، لكن يحتمل أن يقال : إنما وجب عليه ذلك ، لأن الله تعالى أبقى للقتال نفساً مؤمنة حيث لم يوجب القصاص ، فأوجب عليه مثلها رقبة مؤمنة ، أفاده النسفي .
{ وَدِيَةٌ مّسَلمةٌ إِلَى أَهْلِهِ } أي : والواجب عليه أيضاً ، لحق ورثة المقتول ، عوضاً لهم عما فاتهم من قتيلهم ، دية مؤداة إلى ورثته ، يقتسمونها اقتسام الميراث .
وقد بينت السنة مقدارها ، وذلك فيما رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم ، عن أبي بكر بن محمد بن عَمْرو بن حزم عن أبيه عن جده ؛ أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كتب إلى أهل اليمن كتاباً ، وفيه : < إن في النفس الدية ، مائة من الإبل > ، وفيه : < وعلى أهل الذهب ألف دينار > .
وروى أبو داود عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أنه : < فرض في الدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الإِبِلِ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَىْ بَقَرَةٍ ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ أَلْفَىْ شَاةٍ ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَىْ حُلَّةٍ > .
وفي الموطأ أن عُمَر بن الخطاب قوّم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم ، وهذه الدية إنا تجب على عاقلة القاتل ، لا في ماله .
قَالَ الشَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّه - : لَمْ أَعْلَم مُخَالِفاً أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَة .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : اِقْتَتَلَتْ اِمْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْل ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا ، وَمَا فِي بَطْنهَا ، فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَضَى أَنَّ دِيَة جَنِينهَا غُرَّةٌ ، عَبْد أَوْ أَمَة ، وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَة عَلَى عَاقِلَتهَا .
ورواه أبو داود عَنْ جَابِرِ بلفظ : أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ قَتَلَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا زَوْجٌ وَوَلَدٌ ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِيَةَ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ ، وَبَرَّأَ زَوْجَهَا وَوَلَدَهَا .
قَالَ : فَقَالَ : عَاقِلَةُ الْمَقْتُولَةِ مِيرَاثُهَا لَنَا ، قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : < لاَ مِيرَاثُهَا لِزَوْجِهَا وَوَلَدِهَا > .
و ( العاقلة ) : القرابات من قبل الأب وهم عصبته ، وهم الذين كانوا يعقلون الإبل على باب ولي المقتول ، وسميت الدية عقلاً تسمية بالمصدر ، لأن الإبل كانت تعقل بفناء ولي المقتول ، ثم كثر الاستعمال حتى أطلق العقل على الدية ، ولو لم تكن إبلاً ، وتضمين العاقلة مخالف لظاهر قوله تعالى : { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [ فاطر : من الآية 18 ] ، فتكون الأحاديث القاضية بتضمين العاقلة مخصصة لعموم الآية ، لما في ذلك من المصلحة ، لأن القاتل لو أخذ بالدية لأوشك أن تأتي على جميع ماله ، لأن تتابع الخطأ لا يؤمن ، ولو ترك بغير تغريم لأهدر دم المقتول ، كذا في " نيل الأوطار " .
قال المهايمي : تجب الدية على كل عاقلة القاتل ، وهم عَصبَته غير الأصول والفروع ، لأنه لما عفي عن القاتل فلا وجه للأخذ منه ، وأصوله وفروعه أجزاؤه ، فالأخذ منهم أخذ منه ، ولا وجه لإهدار دم المؤمن ، فيؤخذ من عاقلته الذين يرثونه بأقوى الجهات وهي العصبية ، لأن الغُرم بالغنم ، فإن لم يكن له عاقلة ، أو كانوا فقراء ، فعلى بيت المال . انتهى .
وقد خالف أبو بكر الأصم وجمهور الخوارج ، فأوجبوا الدية على القاتل لا على عاقلته ، واحتجوا بوجوه خمسة عقلية ، ساقها الفخر الرازيّ ، هنا ، وكلها مما لا يساوي فلساً ، إذ هي من معارضة النص النبوي بالرأي المحض .
اللهم : إنا نبرا إليك من ذلك ، وقد غفلوا عن حكمة المشروعية على العاقلة التي بيناها
~دعوا كل قول عند قول محمد فما آمنٌ في دينه كمخاطر
تنبيه :
يشتمل قوله تعالى : { فَدِيَةٌ مّسَلمةٌ } تسليمها حالّة ومؤجلة ، إلا أن الإجماع قد وقع على أن دية الخطأ مؤجلة على العاقلة ، ولكن اختلفوا في مقدار الأجل ، فذهب الأكثر إلى أن الأجل ثلاث سنين ، وقال ربيعة : إلى خمس .
وحكى في " البحر " عن بعض الناس بعد حكايته للإجماع السابق : أنها تكون حالة : إذ لم يرو عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم تأجيلها ، قال في " البحر " قلنا : روي عن علي - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أنه قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين ، وقاله عُمَر وابن عباس ، ولم ينكر . انتهى .
قال الشافعيّ في " المختصر " : لا أعلم مخالفاً أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين .
قال الرافعي : تكلم أصحابنا في ورود الخبر بذلك ، فمنهم من قال : ورد ، ونسبه إلى رواية عليّ عليه السلام ، ومنهم من قال : ورد أنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قضى بالدية على العاقلة ، وأما التأجيل فلم يرد به الخبر ، وأخذ ذلك من إجماع الصحابة .
وقال ابن المنذر : ما ذكره الشافعيّ لا نعرفه أصلاً من كتاب ولا سنة ، وقد سئل عن ذلك أحمد بن حنبل فقال : لا نعرف فيه شيئاً ، فقيل : إن أبا عبد الله ، يعني الشافعي ، رواه عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فقال : لعله سمعه من ذلك المدني ، فإنه كان حسن الظن به ، يعني إبراهيم بن أبي يحيى ، وتعقبه ابن الرفعة : بأن من عرف حجة على من لم يعرف .
وروى البيهقيّ من طريق ابن لهيعة عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : من السنة أن تنجم الدية في ثلاث سنين ، وقد وافق الشافعيّ ، على نقل الإجماع ، الترمذيّ في " جامعه " وابن المنذر ، فحكى كل واحد منهما الإجماع . كذا في " نيل الأوطار " .
وقوله تعالى : { إِلاّ أَن يَصّدّقُواْ } أي : إلا أن يتصدق أولياء المقتول بالدية على القاتل فلا تجب عليه ، وسمي العفو عنها صدقة حثاً عليه وتنبيهاً على فضله .
قال السيوطيّ في " الإكليل " : فيها ( أي : هذه الآية ) تعظيم قتل المؤمن والإثم فيه ، ونفيه عن الخطأ ، وأن في قتل الخطأ كفارة ودية ، لا قصاص ، وأن الدية مسلمة إلى أهل المقتول ، إلا أن يصدقوا بها ، أي : يبرؤا منها ، ففيه جواز الإبراء من أهل الدية ، مع أنها مجهولة ، وفي قوله ( مسلمة ) دون ( يسلمها ) إشارة إلى أنها على عاقلة القاتل ، ذكره سعيد بن جبير ، أخرجه ابن أبي حاتم واستدل بقوله : { إِلَى أَهْلِهِ } على أن الزوجة ترث منها ، لأنها من جملة الأهل خلافاً للظاهرية ، واحتج بها من أجاز أرث القاتل منها ، لأنه من أهله ، واحتج الظاهرية بقوله : { إِلاّ أَن يَصّدّقُواْ } على أن المقتول ليس له العفو عن الدية ، لأن الله جعل ذلك لأهله خاصة ، وعموم الآية شامل للإمام إذا قتل خطأ ، خلافاً لمن قال : لا شيء عليه ولا على عاقلته ، واستدل بعمومها أيضاً من قال : إن في قتل العبد الدية والكفارة ، وإن على الصبي والمجنون ، إذا قتلا ، الكفارة ، وإن المشارك في القتل عليه كفارة كاملة . انتهى .
{ فَإِن كَانَ } أي : المقتول خطأ : { مِن قَوْمٍ عَدُوّ لّكُمْ } أي : محاربين .
{ وَهُوَ مْؤْمِنٌ } فلم يعلم به القاتل لكونه بين أظهر قومه ، بأن أسلم فيما بينهم ولم يفارقهم ، أو بأن أتاهم بعد ما فارقهم لمهمٍّ من المهمات .
{ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّؤْمِنَةٍ } أي : فعلى قاتله الكفارة ، لحق الله دون الدية ، فإنها ساقطة ، إذ لا إرث بينه وبين أهله ، لأنهم محاربون .
وقال الإمام زيد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام : لا تؤدى الدية إليهم لأنهم يتقوون بها ، ومعلوم أن سقوط الدية لمن هذه حاله أخذاً من إيجاب الله تعالى على قاتله الكفارة ، ولم يذكر الدية كما ذكرها في أول الآية وآخرها .
وقد روى الحاكم وغيره عن ابن عباس في هذه الآية قال : كان الرجل يأتي النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ثم يرجع إلى قومه وهم مشركون : فيصيبه المسلمون في سرية أو غزاة ، فيعتق الذي يصيبه رقبة .
{ وَإِن كَانَ } أي : المقتول خطأ : { مِن قَوْمٍ } أي : كفرة .
{ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثَاقٌ } أي : عهد من هُدْنَة أو أمان ، أي : كان على دينهم ومذهبهم .
{ فَدِيَةٌ } أي : فعلى قاتله دية .
{ مّسَلمةٌ إِلَى أَهْلِهِ } إذ هم كالمسلمين في الحقوق .
{ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّؤْمِنَةً } لحق الله تعالى ، وتقديم الدية ههنا مع تأخيرها فيما سلف ، للإشعار بالمسارعة إلى تسليم الدية تحاشياً عن توهم نقض الميثاق .
قال السيوطيّ : روى الحاكم وغيره عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ } إلخ : هو الرجل يكون معاهداً ويكون قومه أهل عهد ، فتسلم إليهم الدية ويعتق الذي أصابه رقبة .
قال السيوطيّ : ففيه أن المقتول إذا كان من أهل الذمة والعهد ففيه دية مسلمة إلى أهله مع الكفارة ، وفيه رد على من قال : لا كفارة في قتل الذميّ ، والذين قالوا ذلك قالوا : إن الآية في المؤمن الذي أهله أهل عهد ، وقالوا : إنهم أحق بديته لأجل عهدهم ، ويرده تفسير ابن عباس المذكور ، وأنه تعالى لم يقل فيه : وهو مؤمن ، كما قال في الذي قبله . انتهى .
تنبيه :
استدل بالآية من قال : إن دية المعاهد حربياً أو كتابياً ، كالمسلم ، لأنه تعالى ذكر في كل منهما الكفارة والدية ، فوجب أن تكون ديتهما سواء كما أن الكفارة عنهما سواء ، إذ إطلاق الدية يفيد أنها الدية المعهودة ، وهي دية المسلم .
وقد أخرج الترمذيّ عن ابن عباس وقال : غريب ؛ أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وَدَى العامريين اللذين قتلهما عَمْرو بن أمية الضمري ، وكان لهما عهد من النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لم يشعر به عَمْرو ، بدية المسلمين ، وأخرجه البيهقيّ عن الزهريّ أنها كانت دية اليهودي والنصراني في زمن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مثل دية المسلم ، وفي زمن أبي بكر وعمر وعثمان ، فلما كان معاوية أعطى أهل المقتول النصف وألقى النصف في بيت المال ، قال : ثم قضى عُمَر بن عبد العزيز بالنصف وألقى النصف وألقى ما جعل معاوية .
وأخرج أيضاً عن ابن عمر أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وَدَى ذمياً دية مسلم ، وفي أَثَرَي البيهقيّ المذكورين مقال ، إذ علل الأول بالإرسال ، والثاني بأن في إسناده أبا كرز ، وهو متروك .
وروى أحمد والنسائي والترمذيّ عن عَمْرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، قال : < عقل الكافر نصف دية المسلم > .
وأخرج أبو داود عنه بلفظ : < دية المعاهد نصف دية الحر > ، وفي لفظ : < قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين > : وهم اليهود والنصارى ، رواه أحمد والنسائي وابن ماجة .
وعندي : لا تنافي بين هذه الروايات المذكورة ، لأن الظاهر أن الفرض في دية الكافر إنما هو النصف ، ولا حرج في الزيادة عليه ، إلى أن يبلغ دية المسلم تبرعاً وتفضلاً ، وبه يحصل الجمع بين الروايات ، والاستدلال بالآية على تماثل ديني المسلم والكافر المتقدم - غير ظاهر ، لما في الدية من الإجمال المرجوع في بيانه إلى السنة ، وقد بينته وصح فيها أنه النصف فرضاً ، والله أعلم .
{ فَمَن لم يجدْ } أي : رقبة ليحررها ، بمعنى لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها .
{ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } أي : فعليه صيام شهرين متواصلين لا إفطار بينهما ، بحيث لو صام تسعة وخمسين ، وتعمد بإفطار يوم ، استأنف الجميع ، لأن الخطأ إنما نشأ من كدورة النفس ، وهذا القدر يزيلها ويفيد التزكية .
قال المهايمي : { تَوْبَةً مّنَ اللّهِ } أي : قبولاً من الله ورحمة منه ، من ( تاب عليه ) : إذا قبل توبته ، ( فتوبة ) منصوب على أنه مفعول له ، أي : شرع لكم ذلك توبة منه ، أو مصدر مؤكد لمحذوف ، أي : تاب عليكم توبة منه .
{ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً } بجميع الأشياء التي منها مقدار كدورة هذا الخطأ العظيم .
{ حَكِيماً } في دواء إزالتها ، قال المهايمي : وإذا كان للخطأ هذه الكدورة مع العفو عنه ، فأين كدورة العمد ؟ أي : وهي التي ذكرت في قوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } [ 93 ]
{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً } لقتله : { فَجَزَآؤُهُ جَهَنّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ } إذ قتل وليه عمداً .
{ وَلَعَنَهُ } أي : أبعده عن الرحمة : { وَأَعَدّ لَهُ } وراء ذلك : { عَذَاباً عَظِيماً } أي : فوق عذاب سائر الكبائر ، سوى الشرك .
قال الإمام ابن كثير : هذا تهديد شديد ووعد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم ، الذي هو مقرون بالشرك بالله ، في غير ما آية في كتاب الله ، حيث يقول سبحانه ي سورة ( الفرقان ) : { وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلّا بِالْحَق } [ الفرقان : من الآية 68 ] الآية ، وقال تعالى : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا } [ الأنعام : من الآية 151 ] الآية ، والآيات والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جداً .
فَمِنْ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < أَوَّل مَا يُقْضَى بَيْن النَّاس يَوْم الْقِيَامَة فِي الدِّمَاء > .
وَفِي الْحَدِيث الْآخَر الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عُبَادَة بْن الصَّامِت قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < لَا يَزَال الْمُؤْمِن مُعْنِقاً صَالِحاً مَا لَمْ يُصِبْ دَماً حَرَاماً ، فَإِذَا أَصَابَ دَماً حَرَاماً بَلَّحَ > .
وَفِي حَدِيث آخَر : < لَزَوَال الدُّنْيَا أَهْوَن عِنْد اللَّه مِنْ قَتْل رَجُل مُسْلِم > . قلت : رواه الترمذيّ والنسائي عن ابن عمرو
وَفِي الْحَدِيث الْآخَر : < لَوْ اِجْتَمَعَ أَهْل السَّمَوَات وَالْأَرْض عَلَى قَتْل رَجُل مُسْلِم لكَبَّهُمْ اللَّه فِي النَّار > .
قلت : رواه الترمذيّ عن أبي سعيد وأبي هريرة بلفظ : < لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله عز وجل في النار > .
وَفِي الْحَدِيث الْآخَر : < مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْل الْمُسْلِم وَلَوْ بِشَطْرِ كَلِمَة ، جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة مَكْتُوباً بَيْن عَيْنَيْهِ آيِس مِنْ رَحْمَة اللَّه > .
قلت : رواه ابن ماجة عن أبي هريرة .
وَقَدْ كَانَ اِبْن عَبَّاس يَرَى أَنّ لَا تَوْبَة لِقَاتِلِ الْمُؤْمِن عَمْداً .
وَقَالَ الْبُخَارِيّ : حَدَّثَنَا آدَم حَدَّثَنَا شُعْبَة حَدَّثَنَا الْمُغِيرَة بْن النُّعْمَان قَالَ : سَمِعْت اِبْن جُبَيْر ، قَالَ : اِخْتَلَفَ فِيهَا أَهْل الْكُوفَة ، فَرَحَلْت إِلَى اِبْن عَبَّاس فَسَأَلْته عَنْهَا .
فَقَالَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة : { وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم } هِيَ آخِر مَا نَزَلَ وَمَا نَسَخَهَا شَيْء .
وَكَذَا رَوَاهُ هُوَ أَيْضاً وَمُسْلِم وَالنَّسَائِيّ مِنْ طُرُق عَنْ شُعْبَة بِهِ .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَحْمَد بْن حَنْبَل عَنْ اِبْن مَهْدِيّ عَنْ سُفْيَان الثَّوْرِيّ عَنْ مُغِيرَة بْن النُّعْمَان عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله : { وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم } فَقَالَ : مَا نَسَخَهَا شَيْء .
وَقَالَ اِبْن جَرِير حَدَّثَنَا اِبْن بَشَّار قال حَدَّثَنَا اِبْن أبي عدي ، عَنْ سَعِيد عن أبي بشر عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر قَالَ : قَالَ لي عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبْزَى سُئِلَ اِبْن عَبَّاس ، عَنْ قَوْله : { وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً } الْآيَة .
فقَالَ : لَمْ يَنْسَخهَا شَيْء ، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَة : { وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّه إِلَهاً آخَر } إِلَى آخِرهَا ، قَالَ : نَزَلَتْ فِي أَهْل الشِّرْك .
وروى ابن جرير أيضاً عن سعيد بن جبير قال : سألت ابن عباس عن قوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنّمُ } قال : إن الرجل إذا عرف الإسلام ، وشرائع الإسلام ، ثم قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم ، ولا توبة له ، فذكرت ذلك لمجاهد فقال : إلا من ندم .
وروى الإمام أحمد عن سَالِم بْن أَبِي الْجَعْد عن ابن عباس أن رجلاً أتى إليه فقال : أرأيت رجلاً قتل رجلاً عمداً ؟ فقال : { جَزَآؤُهُ جَهَنّمُ خَالِداً فِيهَا } الآية ، قال : لقد نزلت من آخر ما نزل ، ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وما نزل وحي بعد رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، قال : أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ؟ قال : وأنى له بالتوبة ؟ وقد سمعت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقول : < ثَكِلَتْهُ أُمّه ، رَجُل قَتَلَ رَجُلاً مُتَعَمِّداً يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة آخِذاً قَاتِله بِيَمِينِهِ أَوْ بِيَسَارِهِ أَوْ آخِذاً رَأْسه بِيَمِينِهِ أَوْ بِشِمَالِهِ تَشْخَب أَوْدَاجه دَماً مِنْ قِبَل الْعَرْش يَقُول يَا رَبّ سَلْ عَبْدك فِيمَ قَتَلَنِي > . ورواه النسائي وابن ماجة .
وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة ، وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف ، زيد بن ثابت وأبو هريرة وعبد الله بن عُمَر وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعبيد ابن عمير والحسن وقتادة والضحاك بن مُزَاحم ، نقله ابن أبي حاتم ، وفي الباب أحاديث كثيرة ، فمن ذلك ما رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < يَجِيء الْمَقْتُول مُتَعَلِّقاً بِقَاتِلِهِ يَوْم الْقِيَامَة آخِذاً رَأْسه بِيَدِهِ الْأُخْرَى ، فَيَقُول : يَا رَبّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي ؟
قَالَ : فَيَقُول : قَتَلْته لِتَكُونَ الْعِزَّة لَك فَيَقُول فَإِنَّهَا لِي .
قَالَ : وَيَجِيء آخَر مُتَعَلِّقاً بِقَاتِلِهِ ، فَيَقُول : رَبّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي ؟
قَالَ : فَيَقُول : قَتَلْته لِتَكُونَ الْعِزَّة لِفُلَانٍ .
قَالَ : فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ بُؤْ بِإِثْمِهِ قَالَ فَيَهْوِي بهِ فِي النَّار سَبْعِينَ خَرِيفاً > ، ورواه النسائي .
وأخرج الإمام أحمد والنسائي عن معاوية قال : سمعت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقول : < كُلّ ذَنْب عَسَى اللَّه أَنْ يَغْفِرهُ إِلَّا الرَّجُل يَمُوت كَافِراً أَوْ الرَّجُل يَقْتُل مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً > .
وقال الإمام أحمد : حدثنا النضر ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، حدثنا حميد ، قال : أَتَانِي أَبُو الْعَالِيَة أَنَا وَصَاحِب لِي ، فَقَالَ لَنَا : هَلُمَّا فَأَنْتُمَا أَشَبّ سِنّاً مِنِّي ، وَأَوْعَى لِلْحَدِيثِ مِنِّي ، فَانْطَلَقَ بِنَا إِلَى بِشْر بْن عَاصِم ، فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَالِيَة : حَدِّثْ هَؤُلَاءِ حَدِيثك ، فَقَالَ : حَدَّثَنَا عُقْبَة بْن مَالِك اللَّيْثِيّ قَالَ : بَعَثَ النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّة فَأَغَارَتْ عَلَى قَوْم فَشَدَّ مَعَ الْقَوْم رَجُل فَاتَّبَعَهُ رَجُل مِنْ السَّرِيَّة شَاهِراً سَيْفه ، فَقَالَ الشَّادّ مِنْ الْقَوْم : إِنِّي مُسْلِم ، فَلَمْ يَنْظُر فِيمَا قَالَ ، فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ ، فَنَمَى الْحَدِيث إلى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ فِيهِ قَوْلاً شَدِيداً ، فَبَلَغَ الْقَاتِل ، فَبَيْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ يَخْطُب إِذْ قَالَ الْقَاتِل : وَاَللَّه مَا قَالَ الَّذِي قَالَ إِلَّا تَعَوُّذاً مِنْ الْقَتْل ، قَالَ فَأَعْرَضَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ عَنْهُ وَعَمَّنْ قَبْله مِنْ النَّاس ، وَأَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ ، ثُمَّ قَالَ أَيْضاً : يَا رَسُول اللَّه مَا قَالَ الَّذِي قَالَ إِلَّا تَعَوُّذاً مِنْ الْقَتْل ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَعَمَّنْ قَبْله مِنْ النَّاس وَأَخَذَ فِي خُطْبَته ، ثُمَّ لَمْ يَصْبِر حَتَّى قَالَ الثَّالِثَة : وَاَللَّه يَا رَسُول اللَّه مَا قَالَ الَّذِي قَالَ إِلَّا تَعَوُّذاً مِنْ الْقَتْل ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، تُعْرَف الْمَسَاءَة فِي وَجْهه ، فَقَالَ : < إِنَّ اللَّه أَبَى عَلَى مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً > ( ثَلَاث مرات ) .
ورواه النسائي ، ثم قال ابن كثير : والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها ، أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله عز وجل ، فإن تاب وأناب وخشع وخضع ، وعمل عملاً صالحاً ، بدل الله سيئاته حسنات ، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته ، قال الله تعالى : { وَالّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً } إلى قوله : { إِلّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } [ الفرقان : 68 - 70 ] الآية ، وهذا خبر لا يجوز نسخه ، وحمله على المشركين وحمل هذه الآية على المؤمنين - خلاف الظاهر ، ويحتاج حمله إلى دليل ، والله أعلم .
وقال تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ } [ الزمر : من الآية 53 ] الآية ، وهذا عام في جميع الذنوب : من كفر وشرك وشك ونفاق وقتل وفسق وغير ذلك ، كل من تاب من أي : ذلك تاب الله عليه ، قال الله تعالى : { إِنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمنْ يَشَاءُ } [ النساء : من الآية 48- 116 ] فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك ، وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها ، لتقوية الرجاء ، والله أعلم .
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ خَبَر الْإِسْرَائِيلِيّ الَّذِي قَتَلَ مِائَة نَفْس ، ثُمَّ سَأَلَ عَالِماً هَلْ لِي مِنْ تَوْبَة ؟ فَقَالَ : وَمَنْ يَحُول بَيْنك وَبَيْن التَّوْبَة ؟ ثُمَّ أَرْشَدَهُ إِلَى بَلَد يَعْبُد اللَّه فِيهِ فَهَاجَرَ إِلَيْهِ فَمَاتَ فِي الطَّرِيق ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَة الرَّحْمَة . . ) .
وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي بَنِي إِسْرَائِيل فَلَأَنْ يَكُون فِي هَذِهِ الْأُمَّة التَّوْبَة مَقْبُولَة بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى لِأَنَّ اللَّه وَضَعَ عَنَّا الْآصَار وَالْأَغْلَال الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ، وَبَعَثَ نَبِيّنَا بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَة . فَأَمَّا الْآيَة الْكَرِيمَة وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً } الْآيَة . فَقَدْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَة وَجَمَاعَة مِنْ السَّلَف : هَذَا جَزَاؤُهُ إِنْ جَازَاهُ .
وقد رواه ابن مردويه بإسناده مرفوعاً ، ولكن لا يصح ، ومعنى هذه الصيغة أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه ، وكذا كل وعيد على ذنب ، لكن قد لا يكون لذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه ، على قولي أصحاب الموازنة والإحباط ، وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد ، والله أعلم بالصواب ، وبتقدير دخول القاتل في النار ، إما على قول ابن عباس ومن وافقه ، أنه لا توبة له ، أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحاً ينجو به - فليس بمخلد فيها أبداً ، بل الخلود هو المكث الطويل ، وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من الإيمان ، ثم قال ابن كثير : وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه من حقوق الآدميين ، وهي لا تسقط بالتوبة ، ولكن لا بد من ردها إليهم ، ولا فرق بين المقتول والمسروق منه والمغصوب منه والمغبون والمقذوف وسائر حقوق الآدميين ، فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة ، ولكن لا بد من ردها إليهم في صحة التوبة ، فإن تعذر ذلك فلا بد من المطالبة يوم القيامة ، لكن لا يلزم من وقوع المطالبة وقوع المجازاة ، إذ قد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول ، أو بعضها ، ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة ، أو يعوض الله المقتول بما يشاء من فضله من قصور الجنة ونعيمها ورفع درجته فيها ونحو ذلك ، والله أعلم . انتهى .
وقال النووي في " شرح مسلم " في شرح حديث الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس : استدل به على قبول توبة القاتل عمداً ، وهو مذهب أهل العلم وإجماعهم ، ولم يخالف أحد منهم إلا ابن عباس ، وأما ما نقل عن بعض السلف من خلال هذا ، فمراد قائله الزجر والتوبة ، لا أنه يعتقد بطلان توبته ، وهذا الحديث وإن كان شرع من قبلنا ، وفي الاحتجاج به خلاف ، فليس هذا موضع الخلاف ، وإنما موضعه إذا لم يرد شرعنا بموافقته وتقريره ، فإن ورد كان شرعاً لنا بلا شك ، وهذا قد ورد شرعنا به ، وذلك قوله تعالى : { وَالّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النّفْسَ } إلى قوله : { إِلّا مَنْ تَابَ } [ الفرقان : 68 ] ، الآية ، وأما قوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً } الآية ، فالصواب في معناها : أن جزاءه جهنم ، فقد يجازى بذلك وقد يجازى بغيره ، وقد لا يجازى بل يعفى عنه ، فإن قتل عمداً مستحلاً بغير حق ولا تأويل فهو كافر مرتد ، يخلد في جهنم بالإجماع ، وإن كان غير مستحل بل معتقداً تحريمه فهو فاسق عاص ، مرتكب كبيرة ، جزاؤها جهنم خالداً فيها ، لكن تفضل الله تعالى وأخبر أنه لا يخلد من مات موحداً فيها ، فلا يخلد هذا ، ولكن قد يعفى عنه ولا يدخل النار أصلاً ، وقد لا يعفى عنه بل يعذب كسائر عصاة الموحدين ، ثم يخرج معهم إلى الجنة ، ولا يخلد في النار .
قال : فهذا هو الصواب في معنى الآية ، ولا يلزم من كونه يستحق أن يجازى بعقوبة مخصوصة ، أن يتحتم ذلك الجزاء ، وليس في الآية إخبار بأنه يخلد في جهنم ، وإنما فيها أنها جزاؤه ، أي : يستحق أن يجازى بذلك ، وقيل : وردت الآية في رجل بعينه ، وقيل : المراد بالخلود طول المدة ، لا الدوام ، وقيل : معناها : هذا جزاؤه ، إن جازاه ، وهذه الأقوال كلها ضعيفة أو فاسدة ، لمخالفتها حقيقة لفظ الآية ، فالصواب ما قدمناه . انتهى .
وقال علاء الدين الخازن : اختلف العلماء في حكم هذه الآية ، هل هي منسوخة أم لا ؟ وهل لمن قَتَلَ متعمداً توبة أم لا ؟ فروي عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : ألمن قتل مؤمناً متعمداً من توبة ؟ قال : لا ، فتلوت عليه الآية التي في الفرقان : { وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلّا بِالْحَقّ } [ الفرقان : من الآية 68 ] ، إلى آخر الآية ، قال : هذه آية مكية ، نسختها آية مدنية : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنّمُ } وفي رواية ، قال : اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن ، فرحلت إلى ابن عباس ، فقال : نزلت في آخر ما نزل ، ولم ينسخها شيء ، وفي رواية أخرى ، قال ابن عباس : نزلت هذه الآية بالمدينة : { وَالّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ } إلى قوله : { مُهَاناً } فقال المشركون : وما يغني عنا الإسلام ، وقد عدلنا بالله ، وقد قتلنا النفس التي حرم الله ، وأتينا الفواحش ؟ فأنزل الله تعالى : { إِلّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً } [ الفرقان : من الآية 70 ] ، إلى آخر الآية ، زاد في رواية : فأما من دخل في الإسلام وعقله ثم قتل فلا توبة له ، أخرجاه في الصحيحين ، وروي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه ناظر ابن عباس في هذه الآية فقال : من أين لك أنها محكمة ؟ فقال ابن عباس : تكاثف الوعيد فيها .
وقال ابن مسعود : إنها محكمة ، وما تزداد إلا شدة ، وعن خارجة بن زيد قال : سمعت زيد بن ثابت يقول : أنزلت هذه الآية : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنّمُ خَالِداً فِيهَا } بعد التي في الفرقان : { وَالّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلّا بِالْحَقّ } بستة أشهر ، أخرجه أبو داود والنسائي ، وزاد النسائي في رواية : بثمانية أشهر .
وقال زيد بن ثابت : لما نزلت هذه الآية في الفرقان : { وَالّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ } عجبنا من لينها ، فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة بعد اللينة فنسخت اللينة ، وأراد بالغليظة هذه الآية التي في سورة النساء ، وباللينة آية الفرقان ، وذهب الأكثرون من علماء السلف والخلف إلى أن هذه الآية منسوخة ، واختلفوا في ناسخها ، فقال بعضهم : نسختها التي في الفرقان ، وليس هذا بالقوي ، لأن آية الفرقان نزلت قبل آية النساء ، والمتقدم لا ينسخ المتأخر ، وذهب جمهور من قال بالنسخ إلى أن ناسخها الآية التي في النساء أيضاً ، وهي قوله تعالى : { إِنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمنْ يَشَاءُ } [ النساء : من الآية 48 ] وأجاب ، من ذهب إلى أنها منسوخة ، عن حديث ابن عباس المتقدم المخرج في الصحيحين : بأن هذه الآية خبر عن وقوع العذاب بمن فعل ذلك الأمر المذكور في الآية ، والنسخ لا يدخل الإخبار ، ولئن سلمنا أنه يدخلها النسخ ، لكن الجمع بين الآيتين ممكن بحيث لا يكون بينهما تعارض ، وذلك بأن يحمل مطلق آية النساء على تقييد آية الفرقان ، فيكون المعنى : فجزاؤه جهنم إلا من تاب .
وقال بعضهم : ما ورد عن ابن عباس إنما هو على سبيل التشديد والمبالغة في الزجر عن القتل ، فهو كما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال : إن لم يقتل يقال له : لا توبة لك ، وإن قتل ثم ندم وجاء تائباً يقال له : لك توبة .
وقيل : إنه قد روي عن ابن عباس مثله ، وروي عنه أيضاً أن توبته تُقبل ، وهو قول أهل السنة ، ويدل عليه الكتاب والسنة ، أما الكتاب فقوله تعالى : { وَإِنّي لَغَفّارٌ لمنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمّ اهْتَدَى } [ طه : 82 ] ، وقوله : { إِنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَميعا } [ الزمر : من الآية 53 ] .
وأما السنة فما روي عَنْ جَابِر بن عبد الله قَالَ : جَاءَ رَجُل إعرابي إِلَى النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه مَا الْمُوجِبَتَانِ ؟
قَالَ : < مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِك بِاَللَّهِ شَيْئاً دخل الْجَنَّة ، وَمَنْ مَاتَ يُشْرِك بِهِ شَيْئاً دخل النَّار > ، أخرجه مسلم .
وروى الشيخان عن عُبَاْدَة بن الصامت قال : كنا مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في مجلس فقال : < تُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئاً وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْس الَّتِي حَرَّمَ اللَّه إِلَّا بِالْحَقِّ > .
وفي رواية : < ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف ، فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك فسَتَرَه الله عليه فأمره إلى الله ، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه > ، فبايعناه على ذلك . انتهى .
وقال العلامة أبو السعود : تمسّكت الخوارج والمعتزلة بها في خلود من قتل المؤمن عمداً في النار ، ولا متمسَّك لهم فيها ، لا لما قيل من أنها في حق المستحل ، كما هو رأي عِكْرِمَة وأضرابه ، بدليل أنها نزلت في مَقِيس بن صُبَابَة الكِنَانِي المرتد ، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، بل لأن المراد بالخلود هو المكث الطويل لا الدوام ، لتظاهر النصوص الناطقة بأن عصاة المؤمنين لا يدوم عذابهم .
وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمداً ، وكذا ما روي عن سفيان : أن أهل العلم إذا سئلوا قالوا : لا توبة له - محمول على الاقتداء بسنة الله تعالى في التشديد والتغليظ ، وعليه يحمل ما روي عن أنس رضي الله تعالى عنه : أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : < أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمن توبة > ، وقال عَوْن بن عبد الله وبكر بن عبد الله وأبو صالح : المعنى هو جزاؤه إن جازاه ، قالوا : قد يقول لمن يزجره عن أمر : إن فعلته فجزاؤك القتل والضرب ، ثم إن لم يجازه بذلك لم يكن ذلك منه كذباً .
قال الواحدي : والأصل في ذلك أن الله عز وجل يجوز أن يخلف الوعيد ، وأن امتنع أن يخلف الوعد ، والتحقيق أنه لا ضرورة إلى تفريع ما نحن فيه على الأصل المذكور ، لأنه إخبار منه تعالى أن جزاءه ذلك ، لا بأنه يجزيه بذلك ، كيف لا ؟ وقد قال الله تعالى : { وَجَزَاءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مِثْلُهَا } [ الشورى : من الآية 40 ] ، ولو كان هذا إخباراً بأنه تعالى يجزي كل سيئة بمثلها ، لعارضه قوله تعالى : { وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [ الشورى : من الآية 30 ] . انتهى .
وقال العلامة الشوكاني في " نيل الأوطار " : وأما بيان الجمع بين هذه الآية وما خالفها فنقول : لا نزاع أن قوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً } من صيغ العموم الشاملة للتائب وغير التائب ، بل للمسلم والكافر ، والاستثناء لمذكور في آية الفرقان ، أعني قوله تعالى : { إِلّا مَنْ تَاب } [ مريم : من الآية 60 ] ، بعد قوله تعالى : { وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلّا بِالْحَقّ } [ الفرقان : من الآية 68 ] : مختص بالتائبين فيكون مخصصاً لعموم قوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً } أما على ما هو المذهب الحق من أنه ينبني العام على الخاص مطلقاً ، قد تقدم أو تأخر أو قارن : فظاهر ، وأما على مذهب من قال : إن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم ، فإذا سلمنا تأخر قوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً } على آية الفرقان ، فلا نسلم تأخرها من العمومات القاضية بأن القتل مع التوبة من جملة ما يغفره الله ، كقوله تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَميعاً } [ الزمر : من الآية 53 ] ، وقوله تعالى : { إِنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمنْ يَشَاءُ } [ النساء : من الآية 116 ] .
ومن ذلك ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة ، أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < مَنْ تَابَ قَبْلَ طْلُوعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ، تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ > .
وما أخرجه الترمذيّ وصححه من حديث صفوان بن عسال ، قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < بابٌ من قبل المغرب يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين سنة ، خلقه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض ، مفتوح للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها > .
وأخرج الترمذيّ أيضاً عن أن عمر ، أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، قال : < إِنَّ اللَّه عز وجل يَقْبَل تَوْبَة الْعَبْد مَا لَمْ يُغَرْغِر > .
وأخرج مسلم من حديث أبي موسى ؛ أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ ، لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ . وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ ، لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ . حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا > ، ونحو هذه الأحاديث مما يطول تعداده - لا يقال : إن هذه المعومات مخصصة بقوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً } الآية ، لأنا نقول : الآية أعم من وجه ، وهو شمولها للتائب وغيره ، وأخص من وجه ، وهو كونها في القاتل ، وهذه العمومات أعم من وجه ، وهو شمولها لمن كان ذنبه القتل ولمن كان ذنبه غير القتل ، وأخص من وجه ، وهو كونها في التائب ، وإذا تعارض عمومان لم يبق إلا الرجوع إلى الترجيح ، ولا شك أن الأدلة القاضية بقبول التوبة مطلقاً أرجح لكثرتها وهكذا أيضاً يقال : إن الأحاديث بخروج الموحدين من النار وهي متواترة المعنى ، كما يعرف ذلك من له إلمام بكتب الحديث ، تدل على خروج كل موحد ، سواء كان ذنبه القتل أو غيره ، والآية القاضية بخروج من قتل نفساً هي أم من أن يكون القاتل موحداً أو غير موحد ، فيتعارضان عمومان ، وكلاهما ظني الدلالة ، ولكن عموم آية القتل قد عورض بها سمعته ، بخلاف أحاديث خروج الموحدين ، فإنها إنما عورضت بما هو أعم منها مطلقاً ، كآيات الوعيد للعصاة الدالة على الخلود الشاملة للكافر والمسلم ، ولا حكم لهذه المعارضة ، أو بما هو أخص منها مطلقاً ، كالأحاديث القاضية بتخليد بعض أهل المعاصي ، نحو : من قتل نفسه ، وهو يبني العام على الخاص ، وبما قررناه يلوح لك انتهاض القول بقبول توبة القاتل إذا تاب ، وعدم خلوده في النار إذا لم يتب ويتبين لك أيضاً أنه لا حجة فيما احتج به ابن عباس من أن آية الفرقان مكية منسوخة بقوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً } الآية .
كما أخرج ذلك عنه البخاريّ ومسلم وغيرهما ، وكذلك لا حجة له فيما أخرجه النسائي والترمذيّ عنه : أنه سمع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقول : < يَجِيءُ الْمَقْتُولُ متعلقاً بِالْقَاتِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاصِيَتُهُ وَرَأْسُهُ بِيَدِهِ وَأَوْدَاجُهُ تَشْخُبُ دَماً يَقُولُ يَا رَبِّ قَتَلَنِي هَذَا حَتَّى يُدْنِيَهُ مِنَ الْعَرْشِ > .
وفي رواية للنسائي فيقول : < سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي ؟ > .
لأن غاية ذلك وقوع المنازعة بين يدي الله عز وجل ، وذلك لا يسلتزم أخذ التائب بذلك الذنب ، ولا تخليده في النار ، على فرض عدم التوبة ، والتوبة النافعة ، ههنا ، هي الاعتراف بالقتل عند الوارث ، إن كان له وارثٌ ، أو السلطان ، إن لم يكن له وارث ، والندم على ذلك الفعل ، والعزم على ترك العود إلى مثله ، لا مجرد الندم والعزم ، بدون اعتراف ، وتسليم للنفس أو الدية إن اختارها مستحقها ، لأن حق الآدمي لا بد فيه من أمر زائد على حقوق الله ، وهو تسليمه أو تسليم عوضه بعد الاعتراف به ، فإن قلت : فعلى ما تحمل حديث أبي هريرة وحديث معاوية المذكورين في أول الباب ؟ فإن الأول يقضي بأن القاتل أو المعين على القتل يلقى الله مكتوباً بين عينيه : الإياس من الرحمة ، والثاني يقضي بأن ذنب القتل لا يغفره الله - قلت هما محمولان على عدم صدور التوبة من القاتل ، والدليل على هذا التأويل ، ما في الباب من الأدلة القاضية بالقبول عموماً وخصوصاً ، ولو لم يكن من ذلك إلا حديث الرجل القاتل للمائة ، الذي تنازعت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، وحديث عُبَاْدَة بن الصامت المذكور قبله ، فإنهما يلجئان إلى المصير إلى ذلك التأويل ، ولا سيما مع ما قدمنا من تأخر حديث عبادة ، ومع كون الحديثين في الصحيحين ، بخلاف حديث أبي هريرة ومعاوية ، وأيضاً في حديث معاوية نفسه ما يرشد إلى هذا التأويل ، فإنه جعل الرجل القاتل عمداً مقترناً بالرجل الذي يموت كافراً ، ولا شك أن الذي يموت كافراً مصراً على ذنبه غير تائب منه ، من المخلدين في النار ، فيستفاد من هذا التقييد أن التوبة تمحو ذنب الكفر ، فيكون ذلك القرين الذي هو القتل أولى بقبولها .
وقد قال العلامة الزمخشريّ في " الكشاف " : إن هذه الآية فيها من التهديد والإبعاد والإبراق والإرعاد أمر عظيم وخطب غليظ ، قال : ومن ثم روي عن ابن عباس ما روي ، من أن توبة قاتل المؤمن عمداً غير مقبولة ، وعن سفيان : كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا : لا توبة له ، وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد : وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة ، وناهيك بمحو الشرك دليلاً .
ثم ذكر حديث : < لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم > ، وهو عند النسائي من حديث ابن عَمْرو ، أخرجه أيضاً الترمذيّ انتهى ، كلام الشوكاني .
وقال الإمام ابن القيم في " الجواب الكافي " : لما كان الظلم والعدوان منافيين للعدل الذي قامت به السماوات والأرض ، وأرسل الله سبحانه رسله عليهم الصلاة والسلام وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط - كان ( أي : الظلم ) من أكبر الكبائر عند الله ، وكانت درجته في العظمة بحسب مفسدته في نفسه : وكان قتل الإِنسَاْن المؤمن من أقبح الظلم وأشده ، ثم قال : ولما كانت مفسدة القتل هذه المفسدة قال الله تعالى : { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ النّاسَ جَميعاً } [ المائدة : من الآية 32 ] .
ثم قال : وفي صحيح البخاريّ عن سَمُرة بن جُنْدب قال : أول ما ينتن من الإِنسَاْن بطنه ، فمن استطاع منكم أن لا يأكل إلا طيباً فليفعل ، ومن استطاع أن لا يحول بينه وبين الجنة ملء كف من دم أهرقه فليفعل .
وفي جامع الترمذيّ عن نافع ، قال : نظر عبد الله بن عُمَر يوماً إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة منك ، قال الترمذيّ هذا حديث حسن .
وفي صحيح البخاريّ أيضاً عن ابن عمر قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً > ، وذكر البخاريّ أيضاً عن ابن عمر قال : من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها ، سفك الدم الحرام بغير حله .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة يرفعه : < سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر > .
وفيهما أيضاً عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض > .
وفي صحيح البخاريّ عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً > .
هذه عقوبة قاتل عدو الله ، إذا كان معاهداً في عهده وأمانه ، فكيف بعقوبة قاتل عبده المؤمن ؟ .
وإذا كانت امرأة قد دخلت النار ، في هرة حبستها حتى ماتت جوعاً وعشطاً ، فرآها النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في النار والهرة تخشدها في وجهها وصدرها ، فكيف عقوبة من حبس مؤمناً حتى مات بغير جرم ؟ وفي بعض السنن عن صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق > .
وقال ابن القيم أيضاً قبل ذلك : وقد جعل الله سبحانه وتعالى جزاء قتل النفس المؤمنة عمداً ، الخلود في النار وغضب الجبار ولعنته وإعداد العذاب العظيم له ، هذا موجب قتل المؤمن عمداً ما لم يمنع منه مانع ، ولا خلاف أن الإسلام الواقع بعد القتل ، طوعاً واختياراً ، مانع من نفوذ ذلك الجزاء ، وهل تمنع توبة المسلم منه بعد وقوعه ؟ فيه قولان للسلف والخلف ، وهما روايتان عن أحمد ، والذين قالوا : لا تمنع التوبة من نفوذه رأوا أنه حق لآدمي لم يستوفه في دار الدنيا وخرج منه بظلامته فلا بد أن يستوفي له في دار العدل ، قالوا : فما استوفاه الوارث فإنما استوفى محض حقه الذي خيره الله ، من استيفائه والعفو عنه ، وما ينفع المقتول من استيفاء وارثه ؟ وأي استدراك لظلامته حصل له باستيفاء وارثه ؟ وهذا أصح القولين في المسألة ، إن حق المقتول لا يسقط باستيفاء وارثه ؟ وهذا أصح القولين في المسألة ، إن حق المقتول لا يسقط باستيفاء الوارث ، وهي وجهان لأصحاب الشافعيّ وأحمد وغيرهما ، ورأت طائفة أنه يسقط بالتوبة واستيفاء الوارث ، فإن التوبة تهدم ما قبلها ، والذنب الذي قد جناه قد أقيم عليه حده ، قالوا : وإذا كانت التوبة تمحو أثر الكفر والسحر ، وهما أعظم إثماً من القتل ، فكيف تقصر عن محو أثر القتل ؟ وقد قبل الله توبة الكفار الذين قتلوا أولياءهم ، وجعلهم من خيار عباده ، ودعا الذين أحرقوا أولياءه وفتنوهم عن دينهم ودعاهم إلى التوبة .
وقال تعالى : { يَا عِبَادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رّحْمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَميعاً } وهذا في حق القاتل ، وهي تتناول الكفر فيما دونه ، قالوا : وكيف يتوب العبد من الذنب ويعاقب عليه بعد التوبة ؟ هذا معلوم انتفاؤه في شرع الله وجزائه ، قالوا : وتوبة هذا المذنب تسليم نفسه ، ولا يمكن تسليمها إلى المقتول ، فأقام الشارع وليه مقامه ، وجعل تسليم النفس إليه كتسليمها إلى المقتول ، بمنزلة تسليم المال الذي عليه لوارثه ، فإنه يقوم مقام تسليمه للموروث ، والتحقيق في المسألة أن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق : حق لله ، وحق للمظلوم المقتول ، وحق للولي ، فإذا سلم القاتل نفسه طوعاً واختياراً إلى الوليّ ، ندماً على ما فعل ، وخوفاً من الله ، وتوبة نصوحاً - فقطع حق الله بالتوبة ، وحق الولي بالاستيفاء أو الصلح أو العفو ، وبقي حق المقتول يعوضه الله عنه يوم القيامة عن عبده التائب المحسن ، ويصلح بينه وبينه ، فلا يبطل حق هذا ولا تبطل توبة هذا .
فصل
ومن العلماء من اختار التوقف في هذا المقام ، منهم الإمام أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليماني ، فإنه قال في كتابه : " إيثار الحق " في ( بحث الوعد والوعيد ) ، ما نصه : لا شك أن الاستثناء من الوعد والوعيد ، وتخصيص العمومات بالأدلة المتصلة والمنفصلة مقبول ، إما على جهة الجمع ، ولا شك في جوازه وصحته وحسنه ، والإجماع على ذلك وكثرة وقوعه من سلف الأمة وخلفها ، بل لا شك في تقديمه في الرتبة والبداية بذلك قبل الترجيح ، فإن تعذر الجمع فالترجيح ، فإن وضح عمل به ، فإن لم يتضح وجب الوقف لقوله تعالى : { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلم } [ الإسراء : 36 ] .
ولذلك اخترت الوقف في حكم قاتل المؤمن ، بعد الانتصاف منه للمظلوم والقطع على أنه فاسق ملعون ، واجب قتله والبراءة منه ، والقطع أن جزاءه جهنم خالداً فيه ، كما قال تعالى على ما أراد ، وإنما وقفت في محل التعارض الذي أوضحته في " العواصم " لا على حسب ما قيل في أن الله تعالى في هذه الآية ، هل بين جزاءه الذي له أن يفعله إن شاء ؟ أو بين جزاءه الذي تخير له في تنجيزه حين لم يبق إلا حقه بعد استيفاء حق المظلوم المقتول ؟ والله سبحانه أعلم .
فمن رجع الجمع بين وعيد القاتل وبين قوله تعالى : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمنْ يَشَاء } [ النساء : من الآية 48 ] .
وسائر آيات الرجاء وأحاديثه - قال بالأول ، ومن رجح [ ؟ ؟ ؟ كذا في المطبوع ] وعيد القاتل في هذه الآية ، وفي الأحاديث المخصصة لقتل المؤمن ، بقطع الرجاء ، كما أوضحته في " العواصم " - رجح وعيد القاتل ، ومن تعارضت عليه ولم ير في تنجيز الاعتقاد مصلحة ولا له موجباً ولا إليه ضرورة - رجح الوقف ، والله عند لسان كل قائل ونيته ، ولا شك في ترجيح النص الخاص على العموم وتقديمه ، وعليه عمل علماء الإسلام في أدلة الشريعة ، ومن لم يقدمه في بعض المواضع لم يمكنه الوفاء بذلك في كل موضع ، واضطر إلى التحكم والتلوّن من غير حجة بينة وقد أجمع من يعتد به من المسلمين على تخصيص الصغائر من آيات الوعيد العامة على جميع المعاصي ، متى كان أهل الصغائر من المسلمين ، ولمن يلزم من ذلك خلف في آيات الوعيد ولا كذب ولا تكذيب لشيء منها ، فكذلك سائر ما صح من أحاديث الرجاء ليس فيه مناقضة لعمومات آيات الوعيد ، ولا يستلزم تجويز الخلف على الله تعالى ، وذلك باب واحد ، ولذلك اشتهرت أحاديث الرجاء في عصر الصحابة والتابعين ، ولم ينكرها أحد ، بل رواتها أكابرهم وأئمتهم ، وفي " العواصم " من ذلك عن عليّ عليه السلام بضعة عشر أثراً ، بل المخصصات للعمومات في ذلك قرآنية ، وعمومات الوعد مانعة قبل تخصيص الوعيد من الجزم على وقوع عمومه دون عموم الوعد ، وعلى أن الخلف عند جماعات كثيرة لا يكون إلا في عدم الوفاء بالوعد بالخير ، وأما الوعيد بالشر فقد اختلف في تركه ، وأجمعوا على أنه يسمى عفواً ، كما قال كعب بن زهير .
~أنبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول
وإنما اختلفوا ، مع تسميته عفواً ، هل يسمى خلفاً أم لا ؟ ومن منع من ذلك ، منع صحة النقل له لغة ، واحتج على امتناعه بأنه لا يصح اجتماع اسم مدح واسم ذم على مسمى واحد . انتهى .
فصل
تشرع الكفارة في قتل العمد ، لما رواه الإمام أحمد عن وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ قَالَ : أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ ، فَقَالُوا : إِنَّ صَاحِباً لَنَا قَدْ أَوْجَبَ .
قَالَ : < فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً ، يَفْدِي اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْواً مِنْهُ مِنَ النَّارِ > .
ورواه أيضاً بسند آخر عنه ، قَالَ : أَتَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَوْجَبَ ، قَالَ : < أَعْتِقُوا عَنْهُ ، يُعْتِقِ اللَّهُ [ عَزَّ وَجَلَّ ] بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْواً مِنَ النَّارِ > .
وهذا رواه أبو داود والنسائي ، ولفظ أبي داود : < قد أوجب ( يعني النار ) بالقتل > .
قال الشوكانيّ في " نيل الأوطار " : في حديث وَاثِلة دليل على ثبوت الكفارة في قتل العمد ، وهذا إذا عفي عن القاتل أو رضي الوارث بالدية ، وأما إذا اقتصّ منه فلا كفارة عليه بل القتل كفارته ، لحديث عبادة المذكور في الباب ، ولما أخرجه أبو نعيم في " المعرفة " : أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، قال : < القتل كفارة > ، وهو من حديث خزيمة بن ثابت ، وفي إسناده ابن لهيعة .
قال الحافظ : لكنه من حديث ابن وهب عنه فيكون حسناً ، ورواه الطبراني في الكبير عن الحسن بن عليّ موقوفاً عليه .
ثم حذر تعالى عما يؤدي إلى القتل العمد من قلة المبالاة في الأمور بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لمنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مّن قَبْلُ فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيّنُواْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [ 94 ]
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ } أي : ذهبتم .
{ فِي سَبِيلِ اللّهِ } إلى أرض العدو للغزو .
{ فَتَبَيّنُواْ } أي : اطلبوا بيان كل ما تأتون وما تذرون ، ولا تعجلوا فيه بغير تدبر وروية .
{ وَلاَ تَقُولُواْ لمنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً } نهي عما هو نتيجة لترك المأمور به ، وتعيين لمادة مهمة من المواد التي يجب فيها التبيين ، أي : لا تقولوا ( لمن أظهر الانقياد لدعوتكم فقال : لا إله إلا الله ، أو سلّم عليكم فحياكم بتحية الإسلام ) : لست مؤمناً في الباطن ، وإنما قلته باللسان لطلب الأمان ، بل اقبلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه .
{ تَبْتَغُونَ } أي : تطلبون بقتله .
{ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا } أي : ماله الذي هو سريع النفاد ، والجملة حال من فاعل ( لا تَقُولوا ) منبئة عما يحملهم على العجلة وترك الثاني .
وقوله تعالى : { فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } تعليل للنهي عن ابتغاء ماله بما فيه من الوعد الضمني ، كأنه قيل : لا تبتغوا ماله ، فعند الله مغانم كثيرة يغنمكموها ، فيغنيكم عن ارتكاب ما ارتكبتموه ، أفاده أبو السعود ، ثم قال : وقوله تعالى : { كَذَلِكَ كُنتُم مّن قَبْلُ فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ } تعليل للنهي عن القول المذكور ، أي : مثل ذلك الذي ألقى إليهم السلام ، كنتم أنتم أيضاً ، في مبادئ إسلامكم ، لا يظهر منكم للناس غير ما ظهر منه لكم ، من تحية الإسلام ونحوها ، فمنّ الله عليكم ، بأن قبل منكم تلك المرتبة ، وعصم بها دماءكم وأموالكم ، ولم يأمر بالتفحص عن سرائركم .
والفاء في قوله تعالى : { فَتَبَيّنُواْ } فصيحة ، أي : إذا كان الأمر كذلك ، فاطلبوا بيان هذا الأمر البين وقيسوا حاله بحالكم ، وافعلوا به ما فعل بكم ، في أوائل أموركم ، من قبول ظاهر الحال ، من غير وقوف على تواطؤ الظاهر والباطن .
{ إِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } فلا تتهافتوا في القتل وكونوا محترزين محتاطين في ذلك .
قال ابن كثير ( في سبب نزولها ) أخرج الإمام أحمد عن عِكْرِمَة عن ابن عباس قال : مر جل من بني سُلَيم بنفر من أصحاب النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يرعى غنماً له ، فسلم عليهم ، فقالوا : ما يسلم علينا إلا ليتعوذ منا ، فعمدوا إليه فقتلوه ، وأتوا بغنمه النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فنزلت هذه الآية : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ } إلى آخرها ، ورواه الترمذيّ ثم قال : هذا حديث حسن صحيح ، وفي الباب عن أسامة بن زيد .
رواه الحاكم وصححه ، وروى البخاريّ عن عطاء عن ابن عباس في هذه الآية قال : كان رجل في غنيمة له ، فلحقه المسلمون فقال : السلام عليكم ، فقتلوه ، وأخذوا غنيمته ، فأنزل الله في ذلك . . . . إلى قوله : عرض الحياة الدنيا : ( تلك الغنيمة ) .
وقال البخاريّ : قال حبيب بن أبي عَمْرة عن سعيد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم للمقداد : < إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار ، فأظهر إيمانه فقتلته ، فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل > ، هكذا رواه البخاريّ معلقاً مختصراً .
ورواه الحافظ أبو بكر البزار مطولاً موصولاً عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : بعث رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم سرية فيها المقداد بن الأسود ، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا ، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأهوى إليه المقداد فقتله ، فقال له رجل من أصحابه : أقتلت رجلاً شهد أن لا إله الله الله ؟ والله ! لأذكرن ذلك للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فلما قدموا على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قالوا : يا رسول الله ! إن رجلاً شهد أن لا إله إلا الله ، فقتله المقداد ، فقال : < ادعوا لي المقداد ، يا مقداد ! أقتلت رجلاً يقول : لا إله إلا الله ! فكيف لك بـ ( لا إله إلا الله ) غداً ؟ > قال : فأنزل الله : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ } إلى قوله : { كَذَلِكَ كُنتُم مّن قَبْلُ } الآية ، فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم للمقداد : < كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار ، فأظهر إيمانه فقتلته ، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل > .
قال ابن كثير : فقوله تعالى : { كَذَلِكَ كُنتُم مّن قَبْلُ فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ } أي : قد كنت من قبل هذه الحال كهذا الذي يُسِرّ إيمانه ويخفيه من قومه ، كما تقدم في الحديث المرفوع ، وكما قال تعالى : { وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ } [ الأنفال : من الآية 26 ] الآية ، وهذا وجه آخر في مرجع الإشارة ، غير ما سلف ، وهو الأدق ، وبالقبول أحق .
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : يستفاد من هذه الرواية ( أي : رواية البزار ) تسمية القاتل ، وأما المقتول ، فروي الثعلبي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، وأخرجه عبد بن حميد من طريق قتادة نحوه ، واللفظ للكلبي : أن اسم المقتول مرداس بن نَهِيْك ، من أهل فدك ، وأن اسم القاتل أسامة بن زيد ، وأن اسم أمير السرية غالب بن فَضَالة الليثي ، وأن قوم مرداس لما انهزموا بقي هو وحده ، وكان ألجأ غنمه بجبل ، فلما لحقوه قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، السلام عليكم ، فقتله أسامة بن زيد ، فلما رجعوا نزلت الآية .
وكذا أخرج الطبري من طريق السدي نحوه ، وفي آخر رواية قتادة : لأن تحية المسلمين السلام ، بها يتعارفون .
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر قال : أُنزلت هذه الآية في مرداس ، وهذا شاهد حسن ، وأسند ابن أبي حاتم أن أسامة حلف لا يقتل رجلاً يقول : لا إله الله ، بعد ذلك الرجل ، وما لقي من رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فيه .
قال بعض المفسرين من أئمة الزيدية : وبهذا اعتذر إلى عليّ عليه السلام حتى تخلف عنه ، وإن كان عذراً غير مقبول ، لأن القتال مع الإمام واجب عند خروج البغاة ويكفر يمينه .
قال الحاكم : إلا أن أمير المؤمنين أذن له . انتهى .
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن أبي حدرد - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : بعثنا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إلى إضم ، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن رِبْعي ، ومحلِّم بن جثَّامة بن قيس ، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له ، معه مُتيع له ( تصغير متاع ، وهو السلعة ) ورطب من لبن ، لما مر بنا سلم علينا ، فأمسكنا عنه ، وحمل عليه محلم بن جَثَّامة فقتله ، لشيء كان بينه وبينه ، وأخذ بعيره ومتيعه ، فلما قدمنا على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأخبرناه الخبر ، نزل القرآن : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } إلى قوله تعالى : { خَبِيراً } .
ورواه ابن جرير عن ابن عمر وزاده : فجاء محلم في بردين ، فجلس بين يدي النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ليستغفر له فقال رسول الله : < لا غفر الله لك > ، فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه ، فما مضت له سابعة حتى مات ، ودفنوه في الأرض ، فلفظته الأرض ، فجاؤوا إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فذكروا ذلك له ، فقال : < إن الأرض تقبل من هو شرٌّ من صاحبكم ، ولكن الله أراد أن يعظكم > ، ثم طرحوه بين صَدَفي جبل ، وألقوا عليه الحجارة ونزلت .
وروى أئمة السير ؛ أنه لما كان عام خيبر ، جاء عيينة بن بدر يطلب بدم عامر وهو سيد قيس ، وكان الأقرع بن حابس يردّ عن محلِّم وهو سيد خندف فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لقوم عامر : < هل لكم أن تأخذوا منا الآن خمسين بعيراً ، وخمسين إذا رجعنا إلى المدينة ؟ >
فقال عيينة بن بدر : والله ! لا أدعه حتى أذيق نساءه من الحرّ مثل ما أذاق نسائي ، فلم يزل به حتى رضي بالدية .
قال ابن إسحاق : حدثني سالم بن النضر قال : لم يقبلوا الدية حتى قام الأقرع بن حابس فخلا بهم : فقال : يا معشر قيس ! سألكم رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قتيلاً تتركونه ليصلح به بين الناس فمنعتموه إياه ، أفأمنتم أن يغضب عليكم رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فيغضب عليكم الله لغضبه ؟ أو يلعنكم رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فيلعنكم الله بلعنته ؟ والله ! لتسلمنه إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، أو لآتين بخمسين من بني تميم كلهم يشهدون أن القتيل ما صلى قط ، فلأبطلن دمه ، فلما قال ذلك أخذوا الدية .
وأخرج ابن منده عن جزء بن الحدرجان قال : وَفَدَ أخي ، قدادٌ إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من اليمن فلقيته سرية النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فقال لهم : أنا مؤمن ، فلم يقبلوا منه وقتلوه ، فبلغني ذلك ، فخرجت إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فنزلت : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ } الآية ، فأعطاني النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم دية أخي .
قال القفال : ولا منافاة بين هذه الروايات ، فلعلها نزلت عند وقوعها بأسرها ، فكان كل فريق يظن أنها نزلت في واقعته . انتهى .
وتقدم لنا في مقدمة التفسير في سبب النزول ما يدفع التنافي في نحو هذا ، فارجع إليه .
تنبيه :
قال الرازيّ : اعلم أن المقصود من هذه الآية المبالغة في تحريم قتل المؤمنين ، وأمر المجاهدين بالتثبت فيه ، لئلا يسفكوا دماً حراماً بتأويل ضعيف .
وفي " الإكليل " : استدل بظاهره على قبول توبة الزنديق [ في المطبوع : التزنديق ] إذا أظهر الاستسلام ، وعلى أن الكافر يحكم له بالإسلام إذا أظهر ما ينافي اعتقاده ، على قراءة ( السلام ) وفي الآية وجوب التثبت في الأمور ، خصوصاً القتل ووجوب الدعوة قبل القتال . انتهى .
وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : في الآية دليل على أن من أظهر شيئاً من علامات الإسلام لم يحل دمه حتى يختبر أمره ، لأن السلام تحية المسلمين ، وكان تحيتهم في الجاهلية بخلاف ذلك ، فكان هذه علامة ، وأما على قراءة ( السلم ) بفتحتين ، أو بكسر فسكون ، فالمراد به الانقياد ، وهو علامة الإسلام . انتهى .
وقال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية الكريمة وجوب الثبت والتأني فيما يحتمل الحظر والإباحة ، لقوله : فَتَبَيَّنُوا ( بالنون ) وهذه قراءة الأكثر ، وحمزة والكسائي قراءتهما : ( فتثبتوا ) من ( الثبات ) ، ويدخل في هذا أحكام كثيرة من الاعتقادات والأخبار والأفعال من الأحكام وسائر الأعمال ، فهذا حكم ، والحكم الثاني أنه يجب الأخذ بالظاهر ، فمن أظهر الإسلام أو شيئاً من شعائر الإسلام ، لا يكذّب بل يقبل منه ، ويدخل ، في هذا ، الملحد والمنافق ، وهذا هو مذهبنا والأكثر ، ويدخل في هذا قبول توبة المرتد ، خلافاً لأحمد ، وقبول توبة الزنديق ، وهذا قول عامة الأئمة .
وقال مالك : لا تقبل ، لأن هذا عين مذهبهم أنهم يظهرون خلاف ما يبطنون .
قال الراضي بالله والإمام يحيى : إن أظهروا ما يعتادون إخفاءه قبلت توبتهم ، وإلا فلا ، قال عليّ خليل : تقبل توبتهم ، ولو عرفنا من باطنهم خلاف ما أظهروا ، كما قبل النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من المنافقين ، وقد أخبر الله تعالى بكفرهم .
وقال أبو مضر : تقبل ما لم يعرف كذبهم ، وهذا الخلاف في الظاهر ، وأما عند الله ، إذا صدق ، فهي مقبولة وفاقاً .
قال الحاكم : وتدل على التوصل بالسبب المحرم إلى المال لا يجوز و وقد ذكر العلماء صوراً في التوصل إلى المباح بالمحظور مختلفة ، ذكرت في غير هذا الموضع ، والحجة هنا من قوله تعالى : { تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا } لأن الذي قصد هنا أخذه ، محظور ، لأن إظهار الإسلام يحقن النفس والمال ، فذلك توصل بمحظور إلى محظور ، وقوله تعالى : { لمنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً } قرئ ( السلم ) وهذه قراءة نافع وحمزة وابن عامر بغير ألف وهو الاستسلام ، وقيل : إظهار الإسلام ، وقرأ الباقون : ( السلام ) بألف وهو التحية . انتهى .
وقال أبو منصور في " التأويلات " : فيه الأمر بالتثبت عند الشبهة ، والنهي عن الإقدام عندها ، وهكذا الواجب على المؤمن الوقف عند اعتراض الشبهة في كل فعل وكل خبر ، لأن الله تعالى أمر بالتثبت في الأعمال بقوله : { فَتَبَيّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لمنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً } وقال في الخبر : { إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيّنُوا } [ الحجرات : من الآية 6 ] ، أمر بالتثبت في الأخبار عند الشبهة ، كما أمر في الأفعال لنبيه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلم } [ الإسراء : من الآية 36 ] ، وفي الآية دليل فساد قول المعتزلة ، لأنه نهاهم أن يقولوا ( لمن قال : إني مسلم ) لست مؤمناً ، وهم يقولون صاحب الكبيرة ليس بمؤمن ، وهو يقول ألف مرة ( على المثل ) أني مسلم ، فإذا نهى أن يقولوا : ليس بمؤمن ، أمرهم أن يقولوا : هو مؤمن ، فيقال لهم : أنتم أعلم أم الله ؟ على ما قيل لأولئك . انتهى .
وقال الرازيّ : قال أكثر الفقهاء : لو قال اليهودي والنصراني : أنا مؤمن ، أو قال : أنا مسلم ، لا يحكم بهذا القدر بإسلامه ، لأن مذهبه أن الذي هو عليه هو الإسلام ، وهو الإيمان ، ولو قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فعند قوم لا يحكم بإسلامه ، لأن فيهم من يقول : إنه رسول الله إلى العرب ، لا إلى الكل ، ومنهم من يقول : إن محمداً الذي هو الرسول الحق ، بعدُ ما جاء ، وسيجيء بعد ذلك ، بل لا بد وأن يعترف بأن الدين الذي كان عليه باطل ، وأن الدين الموجود فيما بين المسلمين هو الحق والله أعلم . انتهى .
أقول : كل من قال : أنا مؤمن أو أنا مسلم ، من المحاربين ، مظهراً الانقياد لنا ، وأنه من ملتنا ، فإنه يحكم بإسلامه ، ويكف عن قتله وأخذ ماله ، كتابياً كان أو مشركاً ، وهذا هو المقصود من الآية ، وأما مسالة من أراد الدخول في الإسلام وهو على عقيدة فاسدة ، وأنه لا بد في صحة إسلامه من تبرئه عنها ، ونبذها ظهرياً ، وأنه لا يكتفي بقوله : أنا مسلم - فذاك بحث آخر مسلَّم ، لكن ليس مما تشمله الآية ، كما أن من أظهر الإسلام وأتى بالشهادتين ولم يَدِنْ بشرائع الإسلام وإقامة شعائره ، كبعض القبائل البادية الجافية ، فإن يجب على الإمام قتالهم ، ولا يقال : إن الآية تشملهم لما ذكرنا ، وظاهر أن مدار النهي في الآية إنما هو على سفك الدماء ابتغاء عرض الدنيا ، لقوله ( تبتغون ) ، وهو حال كما أسلفنا ، والحال قيد لعاملها ، فما ذكره الرازيّ عن الفقهاء ليس مما تشمله الآية ، لأن البحث ليس في القدر الذي يصير به الكافر مسلماً ، بل في الكف عن قتل المنقاد لنا ، فافهم ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ المؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضّرَرِ وَالمجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضّلَ اللّهُ المجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضّلَ اللّهُ المجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً } [ 95 ]
{ لاّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ المؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضّرَرِ وَالمجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ } بيان لتفاوت طبقات المؤمنين بحسب تفاوت درجات مساعيهم في الجهاد ، بعدما مر من الأمر به وتحريض المؤمنين عليه ، ليأنف القاعد عنه ويترفع بنفسه عن انحطاط رتبته ، فيهتز له رغبة في ارتفاع طبقته ، قاله أبو السعود .
وأصله للزمخشري حيث قال : فإن قلت : معلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان ، فما فائدة نفي الاستواء ؟ قلت : معناه الإذكار بما بينهما من التفاوت العظيم والبون البعيد ، ليأنف القاعد ويترفع بنفسه عن انحطاط منزلته ، فيهتز للجهاد ويرغب فيه ، وفي ارتفاع طبقته ، ونحوه : { هَلْ يَسْتَوِي الّذِينَ يَعْلمونَ وَالّذِينَ لا يَعْلمونَ } [ الزمر : من الآية 9 ] ، أريد به التحريك من حمية الجاهل وأنفته ليُهاب به إلى التعلم ولينهض بنفسه عن صفة الجهل إلى شرف العلم . انتهى .
والمراد بهم ، وقت النزول ، القاعدون عن غزوة بدر والخارجون إليها ، كما رواه البخاريّ والترمذيّ عن ابن عباس ، وقوله : { غَيْرُ أُوْلِي الضّرَرِ } مخرج لذوي الأعذار المبيحة لترك الجهاد : من العمى والعرج والمرض ، عن مساواتهم للقاعدين ، فإنهم مساوون المجاهدين بالنية ، ولا يعتد بزيادة أجر العمل لهم لعظم أمر النية .
كما روى الإمام أحمد والبخاريّ وأبو داود عن أنس ؛ أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إن بالمدينة أقواماً ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه > ، قالوا : وهم بالمدينة ؟ يا رسول الله ! قال : < نعم ، حبسهم العذر > ، وفي هذا المعنى قال الشاعر :
~يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحاً
~إنا أقمنا على عذر وعن قدر ومن أقام على عذر كمن راحا
وروى البخاريّ عن البراء قال : لما نزلت : { لاّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ المؤْمِنِينَ } دعا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم زيداً فكتبها ، فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته ، فأنزل الله : { غَيْرُ أُوْلِي الضّرَرِ } .
وفي رواية للبخاري عن زيد : فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها عليّ ، قال : يا رسول الله ! والله ! لو أستطيع الجهاد لجاهدت ، وكان أعمى ، فأنزل الله على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وكان فخذه على فخذي ، فثقلت عليّ حتى خفت أن ترضّ فخذي ، ثم سرّى عنه فأنزل الله : { غَيْرُ أُوْلِي الضّرَرِ } .
وقوله تعالى : { بِأَمْوَالِهِمْ } أي : التي ينفقونها على أنفسهم في الجهاد أو على مجاهد آخر .
{ وَأَنفُسِهِمْ } أي : التي هي أعز عليهم من كل شيء ، وإن أنفق عليهم غيرهم إذا لم يكن عندهم مال .
قال أبو السعود : وإيرادهم ، يعني الغزاة ، بعنوان المجاهدين ، دون الخروج المقابل لوصف المعطوف عليه ، كما وقع في عبارة ابن عباس رضي الله عنهما ، وكذا تقييد المجاهدة بكونها في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، - لمدحهم بذلك والإشعار بعلة استحقاقهم لعلوّ المرتبة ، مع ما فيه من حسن موقع السبيل في مقابلة القعود . انتهى .
وظاهر أن نفي المساواة يسلتزم التفضيل ، إلا أنه للاعتناء به ، وليتمكن أشدتمكن ، لم يكتف بما فهم ضمناً ، بل صرح به فقال : { فَضّلَ اللّهُ المجَاهِدِينَ } لأنهم رجحوا جانبه .
{ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ } أي : غير أولي الضرر .
{ دَرَجَةً } في القرب ممن رجحوا جانبه : { وَكُلاّ } أي : كل واحد من القاعدين والمجاهدين .
{ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى } أي : المثوبة الحسنى ، وهي الجنة ، لحسن عقيدتهم وخلوص نيتهم ، والجملة اعتراض جيء به تداركاً لما عسى يوهمه تفضيل أحد الفريقين على الآخر من حرمان المفضول .
{ وَفَضّلَ اللّهُ المجَاهِدِينَ } بالجهاد : { عَلَى الْقَاعِدِينَ } أي : بغير عذر .
{ أَجْراً عَظِيماً } أي : ثواباً وافراً في الجنة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً } [ 96 ]
{ دَرَجَاتٍ مّنْهُ } بدل من ( أجراً ) بدل الكل ، مبيّن لكمية التفضيل و ( مِنْهُ ) متعلق بمحذوف وقع صفة لـ ( دَرَجَاتٍ ) دالة على فخامتها وجلالة قدرها ، قاله أبو السعود .
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض > .
وقال الأعمش عن عَمْرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < من رمى بسهم فله أجره درجة > ، فقال رجل : يا رسول الله ! وما الدرجة ؟ فقال : < أما إنها ليست بعتبة أمك : ما بين الدرجتين مائة عام > .
{ وَمَغْفِرَةً } أي : لذنوبهم : { وَرَحْمَةً } فوق الأجر ودرجاته .
{ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً } تذييل مقرر لما وعد من المغفرة والرحمة ، وههنا فوائد :
الأولى : دلت الآية على أن الجهاد ليس بفرض عين ، إذ لو كان فرضاً من فروض الأعيان لم يكن للقاعد فضل ، ولكن تفاوت الفضل بينه وبين المجاهد ، وقال : وكلاً وعد الله الحسنى .
الثانية : دلت أيضاً على أن الجهاد أفضل من القرب التي يفعلها القاعد ، لأنه فضله على القاعد مطلقاً ، ويؤيد هذا قوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < الجهاد سنام الدين > .
وقد فرّع العلماء على هذا أن رجلاً لو وقف ما له على أحسن وجوه البر ، أو أوصى أن يصرف في أحسن وجوه البّر ، فإنه يصرف في الجهاد ، خلاف ما ذكر أبو عليّ أنه يصرف في طلب العلم ، كذا في بعض التفاسير .
الثالثة : قال السيوطيّ في " الإكليل " : في الآية تفضيل المجاهدين على غيرهم ، وأن المعذورين في درجة المجاهدين ، واستدل بقوله ( بِأَمْوالِهِم ) على تفضيل المجاهدين بمال نفسه على المجاهد بمال يعطاه من الديون أو نحوه .
الرابعة : قال الرازيّ : لقائل أن يقول : إنه تعالى قال : { إِنّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ المؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم } فقدم ذكر النفس على المال ، وفي الآية التي نحن فيها وهي قوله : { الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } قدم ذكر المال على النفس ، فما السبب ؟ وجوابه : أن النفس أشرف من المال ، فالمشتري قدم ذكر النفس تنبيهاً على أن الرغبة فيها أشد ، والبائع أخر ذكرها تنبيهاً على أن المضايقة فيها أشد ، فلا يرضى ببذلها إلا في آخر المراتب .
الخامسة : قال أبو السعود : لعل تكرير التفضيل بطريق العطف المنبئ عن المغايرة ، وتقييده تارة بدرجة وأخرى بدرجات ، مع اتحاد المفضل والمفضل عليه ، حسبما يقتضيه الكلام ويستدعيه حسن النظام - إما لتنزيل الاختلاف العنواني بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات منزلة الاختلاف الذاتي تمهيداً لسلوك طريق الإبهام ، ثم التفسير رَوماً لمزيد التحقيق والتقرير ، كما في قوله تعالى : { وَلما جَاء أَمْرُنَا نَجّيْنَا هُوداً وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنّا وَنَجّيْنَاهُم مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ هود : 58 ] ، كأنه قيل : فضل المجاهدين على القاعدين درجة لا يقادَرُ قدرها ، ولا يبلغ كنهها ، وحيث كان تحقيق هذا البون البعيد بينهما موهماً لحرمان القاعدين ، قيل : { وَكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى } ثم أريد تفسير ما أفاده التنكير بطريق الإبهام ، بحيث يقطع احتمال كونه للوحدة ، فقيل ما قيل ، ولله درّ شأن التنزيل ، وإما للاختلاف بالذات بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات ، على أن المراد بالتفضيل الأول ما خولهم الله تعالى عاجلاً في الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل الحقيق بكونه درجة واحدة ، وبالتفضيل الثاني ما أنعم به في الآخرة من الدرجات العالية الفائتة للحصر ، كما ينبئ عن تقديم الأول وتأخير الثاني ، وتوسيط الوعد بالجنة بينهما ، وقد وسط بينهما في الذكر ما هو متوسط بينهما في الوجود ، أعني الوعد بالجنة ، توضيحاً لحالهما ومسارعة إلى تسلية المفضول ، والله سبحانه أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الملآئِكَةُ ظَالمي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلم تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً } [ 97 ]
{ إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الملآئِكَةُ ظَالمي أَنْفُسِهِمْ } روى البخاريّ عن ابن عباس أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، يأتي السهم فيُرْمَى به فيصيب أحدهم فيقتله ، أو يُضرب فيُقتل ، فأنزل الله : { إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ } الآية .
وأخرجه ابن مردويه ، وسمى منهم ( في روايته ) قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبا قيس بن الفاكه بن المغيرة ، والوليد بن عُتْبَةُ بن ربيعة ، وعمرو بن أمية بن سفيان ، وعليّ بن أمية بن خلف ، وذكر في شأنهم أنهم خرجوا إلى بدر ، فلما رأوا قلة المسلمين دخلهم شك وقالوا : غر هؤلاء دينهم فقتلوا ببدر .
وأخرجه ابن أبي حاتم ، وزاد : منهم الحارث بن زَمْعَة بن الأسود ، والعاص بن منبه بن الحجاج .
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال : كان قوم بمكة قد أسلموا ، فلما هاجر رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كرهوا أن يهاجروا وخافوا ، فأنزل الله : { إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الملآئِكَةُ ظَالمي أَنْفُسِهِمْ } إلى قوله : { إِلاّ المسْتَضْعَفِينَ } .
وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس قال : كان قوم من أهل مكة قد أسلموا ، وكانوا يخفون الإسلام ، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر ، فأصيب بعضهم ، فقال المسلمون : هؤلاء كانوا مسلمين ، فأكرهوا فاستغفروا لهم ، فنزلت : { إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الملآئِكَةُ } الآية ، فكتبوا بها إلى من بقي منهم ، وإنه لا عذر لهم فخرجوا ، فلحق بهم المشركون ففتنوهم فرجعوا ، فنزلت : { وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ } [ العنكبوت : من الآية 10 ] ، فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزنوا ، فنزلت : { ثُمّ إِنّ رَبّكَ لِلّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا } [ النحل : من الآية 110 ] الآية ، فكتبوا إليهم بذلك فخرجوا ، فلحقوهم ، فنجا وقتل من قتل .
وأخرج ابن جرير من طرق كثيرة نحوه ، كذا في " لباب النقول " .
قال المهايميّ : ولما أوهم ما فُهِم مما تقدم ، من تساوي القاعدين أولي الضرر والمجاهدين ، أن من قعد عن الجهاد لكونه في دار الكفر محسوب منهم ، وإن عجز عن إظهار دينه ، فإن لم يحسب فلا أقل من أن يحسب من القاعدين غير أولي الضرر ، الموعود لهم الحسنى - أزيل ذلك الوهم بأنهم بترك الهجرة من مكان لا يمكنهم فيه إظهار دينهم ، مع إمكان الخروج عنه ، صاروا ظالمين مستحقين لتوبيخ الملائكة ، بل لعذاب جهنم ، فقال : { إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الملآئِكَةُ ظَالمي أَنْفُسِهِمْ } أي : في حال ظلمهم أنفسهم بترك الهجرة عن مكان لا يمكنهم فيه إظهار دينهم مع القدرة عليها وبموافقة الكفار .
( وتوفاهم ) يجوز أن يكون ماضياً كقراءة من قرأ : ( توفتهم ) ومضارعاً بمعنى تتوفاهم ، بمعنى أن الله يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها ، أي : يمكنهم من استيفائها فيستوفونها ، كذا في " الكشاف " .
و ( الظلم ) قد يراد به الكفر كقوله تعالى : { إِنّ الشّرْكَ لَظُلم عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] وقد يراد به المعصية كقوله : { فَمِنْهُمْ ظَالم لّنَفْسِهِ } [ فاطر : 32 ] ، ويصح إرادة المعنيين هنا كما أشرنا ، روى أبو داود عن سَمُرة بن جُنْدب قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله > .
{ قَالُواْ } أي : الملائكة للمتوفين ، تقريراً بتقصيرهم وتوبيخاً لهم .
{ فِيمَ كُنتُمْ } أي : في أي : شيء كنتم من أمور دينكم .
{ قَالُواْ كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ } أي : أرض الأعداء ، قال الزمخشريّ : كيف صح وقوع قوله : { كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ } جواباً عن قولهم : { فِيمَ كُنتُمْ } وكان حق الجواب : كنا في كذا أو لم نكن في شيء ؟ قلت : معنى : { فِيمَ كُنتُمْ } التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا ، فقالوا : كنا مستضعفين اعتذاراً مما وبخوا به ، واعتلالاً بالاستضعاف ، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء ، فبكتتهم الملائكة بقولهم : { قَالْوَاْ أَلم تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } أرادوا : إنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم ، ومن الهجرة إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة ، وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلاد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب لبعض الأسباب ، والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر ، أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله وأدوم على العبادة - حقت عليه المهاجرة . انتهى .
{ فَأُوْلَئِكَ } أي : النفر المذكور : { مَأْوَاهُمْ } أي : مصيرهم .
{ جَهَنّمُ } لأنهم الذين ضعفوا أنفسهم إذ لم يلجئهم الأعداء إلى مساكنة ديارهم .
{ وَسَاءتْ مَصِيراً } أي : جهنم ، بدل المصير إلى دار الهجرة ، ثم استثنى سبحانه من أهل الوعيد ما بينه بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلاّ المسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } [ 98 ]
{ إِلاّ المسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ } لعمى أو عرج أو مرض أو هرم أو فقر .
{ وَالنّسَاء وَالْوِلْدَانِ } أي : الصبيان فإنهم معذورون في ترك الهجرة لأنهم : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } في الخروج ، إذ لا قوة لهم على الخروج ولا نفقة .
{ وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } أي : لا يعرفون طريقاً إلى دار الهجرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّا غَفُوراً } [ 99 ]
{ فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ } أي : يتجاوز عنهم بترك الهجرة .
قال الرازيّ : ههنا سؤال ، وهو أن القوم لما كانوا عاجزين عن الهجرة ، والعاجز عن الشيء غير مكلف به ، وإذا لم يكن مكلفاً به لم يكن عليه في تركه عقوبة - فِلَم قال : عسى الله أن يعفو عنهم ؟ والعفو لا يتصور إلا مع الذنب ، وأيضاً ( عسى ) كلمة الإطماع ، وهذا يقتضي عدم القطع بحصول العفو في حقهم ، والجواب عن الأول : أن المستضعف قد يكون قادراً على ذلك الشيء مع ضرب من المشقة ، وتمييز الضعيف الذي يحصل عنده الرخصة ، عن الحد الذي لا يحصل عنده الرخصة ، شاق ومشتبه ، فربما ظن الإِنسَاْن بنفسه أنه عاجز عن المهاجرة ولا يكون كذلك ، ولا سيما في الهجرة عن الوطن ، فإنها شاقة في النفس ، وبسبب شدة النفرة قد يظن الإِنسَاْن كونه عاجزاً ، مع أنه لا يكون كذلك ، فلهذا المعنى كانت الحاجة إلى العفو شديدة في هذا المقام ، والجواب عن الثاني : بأن الفائدة في ( عسى ) الدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه ، حتى إن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول : عسى الله أن يعفو عني ، فكيف الحال في غيره ؟ هذا ما ذكره صاحب : " الكشاف " .
والأولى في الجواب ما قدمناه ، وهو أن الإِنسَاْن لشدة نفرته عن مفارقة الوطن ، ربما ظن نفسه عاجزاً عنها ، مع أنه لا يكون كذلك في الحقيقة ، فلهذا المعنى ذكر العفو بكلمة ( عسى ) لا بالكلمة الدالة على القطع . انتهى .
وقال أبو السعود : جيء بكلمة ( الإطماع ) ولفظ ( العفو ) إيذاناً بأن الهجرة من تأكيد الوجوب بحيث ينبغي أن يعد تركها ، ممن تحقق عدم وجوبها عليه ، ذنباً يجب طلب العفو عنه ، رجاء وطمعاً ، لا جزماً وقطعاً .
وقال المهايميّ : فيه إشعار بأن ترك الهجرة أمر خطير ، حتى إن المضطر حقه أن يترصد الفرصة ويعلق قلبه بها ، وإن الصبي إذا قدر فلا محيص له عنه ، وإن قوّامهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم ، ثم أكد الإطماع لئلا ييأسوا فقال : { وَكَانَ اللّهُ عَفُوّا غَفُوراً } وفي إقحام ( كان ) إشارة إلى اتصافه تعالى بهذه الصفة قبل خلق الخلق ، أو أن هذه عادته تعالى ، أجراها في حق خلقه ، ووعده بالعفو والمغفرة مطلقاً مما يدل على أنه تعالى قد يعفوا عن الذنب قبل التوبة .
تنبيه :
قال السيوطيّ في " الإكيل " : استدل بالآية على وجوب الهجرة من دار الكفر ، إلا على من لم يطقها ، وعن مالك : الآية تقتضي أن كل من كان في بلد تُغَيَّرُ فيه السنن ، فينبغي أن يخرج منه . انتهى .
وقال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية وجوب الهجرة من دار الكفر ، ولا خلاف أنها كانت واجبة قبل الفتح ، ولذلك قال الله تعالى في سورة الأنفال : { وَالّذِينَ آمَنُوا وَلم يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } [ الأنفال : من الآية 72 ] ، قيل : ونسخت بعد الفتح ، والصحيح عدم النسخ ، وقوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < لا هجرة بعد الفتح > ، معناه من مكة .
قال جار الله : وهذا يدل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب ، لبعض الأسباب ، وعلم أنه في غير بلده أقوم بحق الله ، حقت عليه الهجرة ، ثم قال رحمه الله : قال في التهذيب : وعن القاسم بن إبراهيم : إذا ظهر الفسق في دار ، ولا يمكنه الأمر بالمعروف ، فالهجرة واجبة ، وهذا بناء على أن الدور ثلاث : دار إسلام ، ودار فسق ، ودار حرب ، وهذا التقسيم هو مذهب الهادي والقاسم وابن أبي النجم في كتاب " الهجرة والدور " عن الراضي بالله وجعفر بن مبشر وأبي عليّ .
وذهب الأخوان وعامة الفقهاء وأكثر المعتزلة إلى النفي لدار الفسق ، واعلم أن من حُمِل على معصية أو ترك واجب أو طالبه الإمام بذلك فالمذهب وجوب الهجرة مع حصول الشروط المعتبرة ، وقد قال الراضيّ بالله : إن من سكن دار الحرب مستحلاً ، كَفَرَ ، لأن ذلك رد لصريح القرآن ، واحتج بهذه .
وقد حكى الفقيه حسام الدين حميد بن أحمد عن القاسم والهادي والراضي بالله : التكفير لمن ساكن الكفار في ديارهم .
وفي ( مذهب الراضي بالله ) يكفر إذا جاورهم سنة .
قال الفقيه شرف الدين محمد بن يحيى ، حاكياً عن الراضي بالله : إنه يكفر بسكنى دار الحرب وإن لم يستحل ؛ لأن ذلك منه إظهار الكفر على نفسه ، الحكم بالتكفير محتمل هنا ، ثم قال : وإنما استثنى تعالى الولدان ، وإن كانوا غير داخلين في التكليف ، بياناً لعدم حيلتهم ، والهجرة إنما تجب على من له حيلة . انتهى .
وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : الهجرة الترك ، والهجرة إلى الشيء الانتقال إليه عن غيره ، وفي الشرع : ترك ما نهى الله عنه ، وقد وقعت في الإسلام على وجهين :
الأولى : الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن ، كما في هجرتي الحبشية وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة .
الثاني : الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان ، وذلك بعد أن استقر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بالمدينة ، وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين ، وكانت الهجرة ، إذ ذاك ، تختص بالانتقال إلى المدينة ، إلى أن فتحت مكة فانقطع الاختصاص ، وبقي عموم الانتقال من دار الكفر ، لمن قدر عليه ، باقياً . انتهى .
وقد أفصح ابن عمر بالمراد ، فيما ، فيما أخرجه الإسماعيلي بلفظ : انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار ، أي : ما دام في الدنيا دار كفر .
فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشي أن يفتن على دينه ، وقد روي في معنى الآية أحاديث كثيرة ، أخرجها مجد الدين بن تيمية في " منتقى الأخبار " في ترجمة ( باب بقاء الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام ، وأن لا هجرة من دار أسلم أهلها ) ثم قال : عن سَمُرة بن جُنْدب قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ >
، رواه أبو داود .
وعن جرير بن عبد الله أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بعث سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود ، فأسرع فيهم القتل ، فبلغ النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فأمر لهم بنصف العقل ، وقال : < أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين > ، قالوا : يا رسول الله ! لم ؟ قال : < لا تراءى ناراهما > ، رواه أبو داود والترمذيّ .
وعن معاوية قال : سمعت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقول : < لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها > ، رواه أحمد وأبو داود .
وعن عبد الله بن السَّعدِي أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو > ، رواه أحمد والنسائي ، عن ابن عباس عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية > ، رواه الجماعة إلا ابن ماجة .
وعن عائشة ، وسئلت عن الهجرة ، فقالت : لا هجرة اليوم ، كان المؤمن يفر بدينه إلى الله ورسوله مخالفة أن يفتن ، فأما اليوم مفقد أظهر الله الإسلام ، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء ، رواه البخاريّ .
وعن مجاشع بن مسعود أنه جاء بأخيه مجالد بن مسعود إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقال : هذا مجالد ، جاء يبايعك على الهجرة فقال : لا هجرة بعد فتح مكة ، ولكن أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد ، متفق عليه ، ولما تضمنت ترجمة المجد ، رحمه الله ، شقين ، أورد لكلٍ أحاديث ، فمن قوله : لا هجرة بعد الفتح . . . . إلخ ، جميعه للشق الثاني ، وهو قوله : وأن لا هجرة من دار أسلم أهلها ، إشارة للجمع بين هذه الأحاديث ، وهو ظاهر ، ثم رغب تعالى في المهاجرة بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يجدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ الموْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً } [ 100 ]
{ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } في طاعته .
{ يجدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً } أي : طريقاً يراغم فيه أنوف أعدائه القاصدين إدراكه .
{ كَثِيراً وَسَعَةً } أي : في الرزق ، أو في إظهار الدين ، أو في الصدر ، لتبدل الخوف بالأمن .
{ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ } بمكة : { مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ } إلى طاعته ، أو إلى مكان أمر الله .
{ وَ } إلى : { رَسُولِهِ } بالمدينة : { ثُمّ يُدْرِكْهُ الموْتُ } أي : في الطريق قبل أن يصل إلى المقصد .
{ فَقَدْ وَقَعَ } أي : ثبت : { أَجْرُهُ عَلى اللّهِ } أي : فلا يخاف فوات أجره الكامل ، لأنه نوى مع الشروع في العمل ، ولا تقصير منه في عدم إتمامه .
{ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً } فيغفر له ما فرط منه من الذنوب التي جملتها القعود عن الهجرة إلى وقت الخروج ، ويرحمه بإكمال ثواب هجرته .
تنبيهات :
الأول : فيما روي في نزول الآية ، أخرج ابن أبي حاتم وأبو يعلى بسند جيد عن ابن عباس قال : خرج ضَمْرَة بن جُنْدب من بيته مهاجراً ، فقال لأهله : احملوني فأخرجوني من أرض المشركين إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فنزل الوحي : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ } الآية .
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن أبي ضَمْرَة الزرقيّ ، الذي كان مصاب البصر ، وكان بمكة ، فلما نزلت : { إِلاّ المسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } فقال : إني لغني وإني لذو حيلة ، فتجهز يريد النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فأدركه الموت بالتنعيم ، فنزلت هذه الآية : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ } إلى آخرها .
وأخرج ابن جرير نحو ذلك من طرق ، عن سعيد بن جرير وعكرمة وقتادة والسدي والضحاك وغيرهم ، وسمي في بعضها ضَمْرَة بن العيص ، أو العيص بن ضَمْرَة ، وفي بعضها جُنْدب بن ضَمْرَة الجندعي ، وفي بعضها الضمري ، وفي بعضها رجل من بني ضَمْرَة ، وفي بعضها رجل من خزاعة ، وفي بعضها رجل من بني ليث ، وفي بعضها من بني كنانة ، وفي بعضها من بني بكر .
وأخرج ابن سعد في الطبقات عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ؛ أن جندع بن ضَمْرَة الضمري كان بمكة ، فمرض ، فقال لبنيه : أخرجوني من مكة فقد قتلني غمها ، فقالوا : إلى أين ؟ فأومأ بيده نحو المدينة ، يريد الهجرة ، فخرجوا به ، فلما بلغوا أضاة بني غفار ، مات ، فأنزل الله فيه : { وَمَن يَخْرُجْ } الآية .
وأخرج الأموي في " مغازيه " عن عبد الملك بن عمير قال : لما بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، أراد أن يأتيه ، فأبى قومه أن يَدَعوه ، قال : فليأت من يبلغه عني ويبلغني عنه ، فانتدب له رجلان ، فأتيا النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقالا : نحن رسل أكثم بن صيفي وهو يسألك : من أنت ؟ وما أنت ؟ وبم جئت ؟ قال : < أنا محمد بن عبد الله ، وأنا عبد الله ورسوله ، ثم تلا عليهم : { إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ } [ النحل : من الآية 90 ] الآية > ، فأتيا أكثم فقالا له ذلك ، قال : أي : قوم ! إنه يأمر بمكارم الأخلاق ، وينهى عن ملائمها ، فكونوا في هذا الأمر رؤوساً ولا تكونوا فيه أذناباً ، فركب بعيره متوجهاً إلى المدينة ، فمات في الطريق ، فنزلت فيه : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ } الآية ، قال السيوطيّ : مرسل ، إسناده ضعيف .
وأخرج أبو حاتم في كتاب " المعمرين " من طريقين من ابن عباس ، أنه سئل عن هذه الآية ؟ فقال : نزلت في أكثم بن صيفي ، قيل : فأين الليثي ؟ قال : هذا قبل الليثي بزمان ، وهي خاصة عامة .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن منده والباوردي في ( الصحابة ) عن هشام بن عروة ، عن أبيه ؛ أن الزبير بن العوام قال : هاجر خالد بن حرام إلى أرض الحبشة ، فنهشته حية في الطريق فمات ، فنزلت فيه : { وَمَن يَخْرُجْ } الآية .
قال الزبير : فكنت أتوقعه وأنظر قدومه وأنا بأرض الحبشة ، فما أحزنني شيء حَزْن وفاته حين بلغتني ، لأن قلَّ أحدٌ هاجر من قريش إلا ومعه بعض أهله ، أو ذوي رحمه ، ولم يكن معي أحد من بني أسد بن عبد العزى ولا أرجو غيره .
قال الحافظ ابن كثير : وهذا الأثر غريب جداً ، فإن هذه القصة مكية ، ونزول الآية مدني ، فلعله أراد أنها تعم حكمه مع غيره ، وإن لم يكن ذلك سبب النزول ، والله أعلم .
الثاني : ثمرة الآية ، أن من خرج للهجرة ، ومات في الطريق فقد وجب أجره على الله ، قال الحاكم : لكن اختلف العلماء ، فقيل : أجر قصده ، وقيل : أجر عمله دون أجر الهجرة ، وقيل : بل له أجر المهاجرة ، وهو ظاهر في سبب نزول الآية .
قال الحاكم : وقد استدل بعض العلماء أن الغازي يستحق السهم وإن مات في الطريق قال : وهو بعيد ، لأن المراد بالآية أجر الثواب .
قال الزمخشريّ ، حكاية عن المفسرين : إن كل هجرة لغرض ديني من طلب علم أو حج أو جهاد ، أو فراراً إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة ، أو زهداً في الدنيا ، وابتغاء رزق طيب ، فهي هجرة إلى الله ورسوله ، وإن أدركه الموت في طريقه فأجره واقع على الله .
ووقع في كلام الزمخشريّ على الآية السابقة هذا الدعاء ، وهو : اللهم ! إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني ، فاجعلها سبباً في خاتمة الخبر ، ودرك المرجو من فضلك ، والمبتغى من رحمتك ، وصِلْ جواري لك بعكوفي عند بيتك ، بجوارك في دار كرامتك ، يا واسع المغفرة .
وكلامه ، رحمة الله ، بناه على أنه يستحب للإنسان أن يدعو الله بصالح عمله .
وقد ذكر البخاريّ ومسلم حديث الثلاثة الذين دخلوا الغار وانسد عليهم بصخرة ، وصوبهم رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وقد دعا كل واحد منهم بصالح عمله ، وانفرجت عنهم الصخرة .
وقد اقتضت الآية لزوم الهجرة ولو ببذل مال كالحج ، وفيما سبق من حديث الذي حمل من مكة وقد قال : احملوني فإني لست من المستضعفين - إشارة إلى أنها تجب الهجرة إذا تمكن من الركوب ولو مضطجعاً في المحمل ، لأنه حمل على سرير ، وقد ذكر المتأخرون ( في الحج ) أن الصحيح الذي يلزمه أن يمكنه الثبات على المحمل ، قاعداً لا مضطجعاً ، لأن أحداً لا يعجز عن ذلك ، فيحتمل أن يسوى بين المسألتين ، وأنه يجب الحج ولو مضطجعاً ، وأنهما لا يجبان مع الاضطجاع ، وفعل ضَمْرَة على سبيل الشذوذ ، ويحتمل أن يفرق بينهما وتجعل الهجرة أغلظ ، لأن فعل المحظور ، وهو الإقامة ، أغلظ من ترك الواجب ، وهذا يحتاج إلى تحقيق ، كذا في تفسير بعض الزيدية .
الثالث : روي في معنى هذه الآية أحاديث وافرة ، منها ما في الصحيحين والسنن والمسانيد : عن عُمَر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : < إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ > .
قال ابن كثير : وهذا عام في الهجرة وفي جميع الأعمال .
وَمِنْهُ الْحَدِيث الثَّابِت فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي الرَّجُل الَّذِي قَتَلَ تِسْعَة وَتِسْعِينَ نَفْساً ، ثُمَّ أَكْمَلَ بِذَلِكَ الْعَابِد الْمِائَة ، ثُمَّ سَأَلَ عَالِماً : هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَة ؟ فَقَالَ لَهُ : وَمَنْ يَحُول بَيْنك وَبَيْن التَّوْبَة ؟ ثُمَّ أَرْشَدَهُ إِلَى أَنْ يَتَحَوَّل مِنْ بَلَده إِلَى بَلَد أُخْرَى يَعْبُد اللَّه فِيهِ فَلَمَّا اِرْتَحَلَ مِنْ بَلَده مُهَاجِراً إِلَى الْبَلَد الْأُخْرَى أَدْرَكَهُ الْمَوْت فِي أَثْنَاء الطَّرِيق .
فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَة الرَّحْمَة وَمَلَائِكَة الْعَذَاب ، فَقَالَ هَؤُلَاءِ : إِنَّهُ جَاءَ تَائِباً ، وَقَالَ هَؤُلَاءِ : إِنَّهُ لَمْ يَصِلْ بَعْد ، فَأُمِرُوا أَنْ يَقِيسُوا مَا بَيْن الْأَرْضَيْنِ ، فَإِلَى أَيّهمَا كَانَ أَقْرَب فَهُوَ مِنْهَا ، فَأَمَرَ اللَّه هَذِهِ أَنْ تَقْتَرِب مِنْ هَذِهِ وَهَذِهِ أَنْ تَبْعُد ، فَوَجَدُوهُ أَقْرَب إِلَى الْأَرْض الَّتِي هَاجَرَ إِلَيْهَا بِشِبْرٍ ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَة الرَّحْمَة .
وَفِي رِوَايَة : أَنَّهُ لَمَّا جَاءَهُ الْمَوْت نَأىَ بِصَدْرِهِ إِلَى الْأَرْض الَّتِي هَاجَرَ إِلَيْهَا .
وَرَوَى الْإِمَام أَحْمَد عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَتِيك - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : < مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً فِي سَبِيلِ اللَّهِ [ عَزَّ وَجَلَّ ] ، فَخَرَّ عَنْ دَابَّته فَمَاتَ ، فَقَدْ وَقَعَ أَجْره عَلَى اللَّه ، أَوْ مَاتَ حَتْف أَنْفه فَقَدْ وَقَعَ أَجْره عَلَى اللَّه > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ إِنّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّا مّبِيناً } [ 101 ]
وقوله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ } أي : سافرتم : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أي : إثم .
{ أَن تَقْصُرُواْ } أي : تنقصواً شيئاً : { مِنَ الصّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ } أي : يقاتلكم .
{ الّذِينَ كَفَرُواْ } في الصلاة : { إِنّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّا مّبِيناً } ظاهر العداوة ، فلا يراعون حرمة الصلاة لعدواتهم .
تنبيه : في مسائل تتعلق بالآية :
الأولى : ذهب الجمهور إلى أن الآية عني بها تشريع صلاة السفر ، وإن معنى قوله تعالى : { أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصّلاَةِ } هو قصر الكمية ، وذلك بأن تجعل الرباعية ثنائية ، قالوا : وحكمها لمسافر في حال الأمن كحكمها في حال الخوف لتظاهر السنن على مشروعيتها مطلقاً .
روى الترمذيّ والنسائي وابن أبي شيبة عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة لَا يَخَاف إِلَّا رَبّ الْعَالَمِينَ ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ .
وروى البخاريّ وبقية الجماعة عن حارثة بن وهب قال : صَلَّى بِنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمَن مَا كَانَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ .
وروى البخاريّ والبقية عن أنس قال : خرجنا مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من المدينة إلى مكة ، فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة ، قلت : أقمتم بمكة شيئاً ؟ قال : أقمنا بها عشراً .
وحينئذ فقوله تعالى : { إِنْ خِفْتُمْ } خرج مخرج الغالب ، حال نزول الآية إذ كانت أسفارهم بعد الهجرة في مبدئها مخوفة ، بل ما كانوا ينهضون لا إلى غزو عام ، أو سرية خاصة ، وسائر الأحياء حرب للإسلام وأهله ، والمنطوق ، إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له كقوله : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصّناً } [ النور : من الآية 33 ] وكقوله تعالى : { وَرَبَائِبُكُمُ اللّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ } [ النساء : 23 ] الآية
قالوا : ويدل على أن المراد بالآية صلاة السفر ما رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن عن يعلى بن أمية قال : سألت عُمَر بن الخطاب ، قلت له : قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ } وقد أمن الناس ؟ فقال لي عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : < صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ > .
وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أَبِي حَنْظَلَة الْحَذَّاء قال : سَأَلْت اِبْن عُمَر عَنْ صَلَاة السَّفَر فَقَالَ : رَكْعَتَانِ ، فقلت : أَيْنَ قَوْله : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا } وَنَحْنُ آمِنُونَ فَقَالَ : سُنَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وروى اِبْن مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي الْوَدَّاك قَالَ : سَأَلْت اِبْن عُمَر عَنْ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَر ؟ فَقَالَ : هِيَ رُخْصَة نَزَلَتْ مِنْ السَّمَاء فَإِنْ شِئْتُمْ فَرُدُّوهَا .
قالوا : فهذا يدل على أن القصر المذكور في الآية هو القصر في عدد الركعات ، وإن ذلك كان مفهوماً عندهم عن معنى الآية ، قالوا : ومما يدل على أن لفظ ( القصر ) كان مخصوصاً في عرفهم بنقص عدد الركعات ، ولهذا المعنى ، لما صلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم الظهر ركعتين ، قال له ذو اليدين : < أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ >
هذا ، وذهب كثير من السلف ، منهم مجاهد والضحاك والسديّ ، إلى أن هذه الآية نزلت في صلاة الخوف ، وأن المعنيّ بالقصر هو قصر الكيفية لا الكمية ، لأن عندهم كمية صلاة المسافر ركعتان ، فهي تمام غير قصر ، كما قاله عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم ، قالوا : ولهذا قال تعالى : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ } وقال تعالى بعدها : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصّلاَةَ } الآية ، فبين المقصود من القصر ههنا ، وذكر صفته وكيفيته ، ولهذا لما عقد البخاريّ ( كتاب صلاة الخوف ) صدره بقوله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصّلاَةِ إ } إلى قوله : { أَعَدّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً } وهكذا قال جويبر عن الضحاك في قوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصّلاَةِ } قال : ذاك عند القتال ، يصلي الراجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه .
وقال أسباط عن السدي ، في هذه الآية : إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام التقصير ، لا يحل إلا أن يخاف من الذين كفروا أن يفتنوه عن الصلاة فالتقصير ركعة .
وقال ابن أبي نَجِيْح عن مجاهد : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصّلاَةِ } يوم كان النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأصحابه بعسفان ، والمشركون بضجنان فتوافقوا ، فصلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات ، بركوعهم وسجودهم وقيامهم معاً جميعاً ، فهمّ بهم المشركون أن يُغيروا على أمتعتهم وأثقالهم ، روى ذلك أبن أبي حاتم .
ورواه ابن جرير عن مجاهد والسدي ، وعن جابر وابن عمر ، واختار ذلك أيضاً ، فإنه قال ، بعد ما حكاه من الأقوال في ذلك : وهو الصواب ، ثم روي عن أمية أنه قال لعبد الله بن عُمَر : إنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف ولا نجد قصر صلاة المسافر : فقال عبد الله : إنا وجدنا نبينا صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يعمل عملاً عملنا به ، فقد سمى صلاة الخوف مقصورة ، وحمل الآية عليها ، لا على قصر صلاة المسافر ، وأقره ابن عمر على ذلك ، واحتج على قصر الصلاة في السفر بفعل الشارع ، لا بنص القرآن ، وأصرح من هذا ما رواه أيضاً عن سِمَاك الحنفي قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر ؟ فقال : ركعتان تمام غير قصر ، إنما القصر في صلاة المخافة ، فقلت : وما صلاة المخافة ؟ فقال : يصلي الإمام بطائفة ركعة ، ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، فيصلي بهم ركعة ، فيكون للإمام ركعتان ، ولكل طائفة ركعة ركعة .
هذا ما نقله ابن كثير ، وهو موافق لما نقله بعض مفسري الزيدية عن الهادوية والقاسمة ؛ أن الآية واردة في صلاة الخوف ، وأن المراد بالقصر في الآية قصر الصفة ، بمعنى أن المأموم يقصر ائتمامه فيأتم بركعة ، ويصلي منفرداً في ركعة . انتهى .
قال العلامة أبو السعود : إن هذه الآية الكريمة مجملة في حق مقدار القصر وكيفيته ، وفي حق ما يتعلق به من الصلوات ، وفي مقدار مدة الضرب الذي نيط به القصر ، فكل ما ورد عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من القصر في حال الأمن ، وتخصيصه بالرباعيات على وجه التنصيف ، وبالضرب في المدة المعينة - بيان لإجمال الكتاب .
المسألة الثانية : إذا حمل القصر على قصر العدد ، وأن الرباعية تكون ركعتين ، فما حكم هذا القصر ؟ قلنا : في هذا مذاهب أربعة :
الأول : أن القصر رخصة والإتمام أفضل .
الثاني : أنه حَتْمٌ .
الثالثة : أنه سنة غير حتم .
الرابع : أنه مخير كما يخير في الكفارات ، وأنهما ، أعني القصر والإتمام واجبان .
وهناك بيان متعلق هذه المذاهب :
تعلق أهل القوم الأول بقوله تعالى : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصّلاَةِ } وهذه الكلمة تستعمل فيما هو مباح جائز ، لا فيما هو فرض ، نحو : { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا } [ البقرة : من الآية 230 ] و : { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلّقْتُمُ النّسَاء } [ البقرة : من الآية 236 ] : { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } [ البقرة : من الآية 229 ] ، إن قيل : قد يستعمل ذلك في الواجب مثل : { فَمَنْ حَجّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطّوّفَ بِهِمَا } [ البقرة : من الآية 158 ] ، أجابوا بأن ذلك على سبيل المجاز .
ومن جهة السنة ، ما روي عَنْ عَائِشَةَ قالت : [ أَنَّهَا ] اعْتَمَرَتْ مَعَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى إِذَا قَدِمَتْ مَكَّةَ ، قَلَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ! قَصَرْتَ وَأَتْمَمْتُ وَصُمْتُ وَأَفْطَرْتَ . فَقَالَ : < أَحْسَنْتِ يَا عَائِشَةُ > . وَمَا عَابَ عَلَيَّ .
وكان عثمان يقصر ويتم .
ومن جهة المعنى ، أو المعقول والمفهوم من لفظ ( القصر ) إنما هو الرخصة لأجل مشقة المسافر ، كما خص له في الإفطار ، وفي الحديث : < تلك صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ > .
تعلق أهل المذهب الثاني بأن قالوا : حملنا لفظ الجناح على الفرض ، وإن كان مجازاً ، لما روي عن ابن عباس قال : فرضت الصلاة في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين .
وعن عمر : صلاة الجمعة ركعتان وصلاة السفر ركعتان ، تمام غير قصر ، على لسان نبيكم ، وكانت صلاة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في أسفاره ركعتين ، وأقام بمكة ثمانية عشر يوماً يقصر ويقول : < أَتِمُّوا ، يا أَهْلُ مَكَّةَ ! فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ > .
وعن الشعبي : من أتم في السفر فقد رغب عن ملة إبراهيم .
وروي أن عثمان أتم الصلاة بمنى ، فأنكر عليه عبد الله بن مسعود ، وقال : صليتُ خلف رسول لله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ركعتين ، وخلف أبا بكر ركعتين ، منفصلتين ، فاعتذر عثمان بضروب من الأعذار ، منها أنه قد تأهل ، وقيل : أتم لأن مذهبه أن القصر لمن لم يكن له زاد ولا راحلة ، وهو مذهب سعد بن أبي وقاص ، فيكون قولنا : قصرت الصلاة ، مجازاً ، لأنها تامة إذا نقص من الأربع ، ويقولون : هذه الأخبار تعرض ما يفهم من معقولية التسهيل ، ومتعلق أهل القول الثالث والرابع بالجمع بين الروايات ، وسائر الوجوه التي تعلق بها أهل القولين الأولين ، فكان واجباً مخيراً ، ومن قال : إنه سنة فلأن المشهور عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في القصر في الأسفار ، كذا في تفسير بعض الزيدية .
أقول : حديث عائشة المذكور ، رواه النسائي والدارقطني والبيهقيّ ، واختلف قول الدارقطني فيه ، فقال في " السنن " : إسناده حسن ، وقال في " العلل " : المرسل أشبه ، وقال ابن حزم : هذا حديث لا خير فيه ، وطعن فيه ، وقال ابن النحوي " في البدر المنير " : في متن هذا الحديث نكارة ، وهو كون عائشة خرجت مع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في عَمْرة رمضان ، والمشهور أن عمره كلهن في ذي القعدة ، وأطال في ذلك .
وقال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " : وكان صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقصر الرباعية ، فيصليها ركعتين من حين خرج مسافراً إلى أن يرجع إلى المدينة ، ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في سفره البتة ، وأما حديث عائشة أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كان يقصر في السفر ويتم ، ويفطر ويصوم فلا يصح ، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : هو كذب على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم . انتهى .
وقد روي ( كان يقصر وتتم ) الأول بالياء آخر الحروف ، والثاني بالتاء المثناة من فوق ، وكذلك ( يفطر وتصوم ) أي : تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين .
قال شيخنا ابن تيمية : وهذا باطل : ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وجميع أصحابه ، فتصلي خلاف صلاتهم ، كيف ؟ والصحيح عنها ؛ أن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين ، فلما هاجر رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إلى المدينة زيدت في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر ، فكيف يظن بها ، مع ذلك ، أن تصلي بخلاف صلاة النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم والمسلمين معه ؟
ثم قال ابن القيم : قلت : وقد أتمت عائشة بعد موت النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، قال ابن عباس وغيره : إنها تأولت كما تأول عثمان ، وإن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كان يقصر دائماً ، فركب بعض الرواة من الحديثين حديثاً وقال : فكان رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقصر وتتم هي ، فغلط في بعض الرواة فقال : كان يقصر ويتم ، أي : هو ، والتأويل الذي تأولته قد اختلف فيه ، فقيل : ظننت أن القصر مشروط بالخوف والسفر ، فإذا زال سبب الخوف زال سبب القصر ، وهذا التأويل غير صحيح ، فإن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم سافر آمناً ، وكان يقصر الصلاة ، والآية قد أشكلت على عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - وغيره ، فسأل عنها رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فأجابه بالشفاء ، وأن هذا صدقة من الله وشرع شرعه للأمة ، وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد ، وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف ، وغايته أنه نوع تخصيص للمفهوم ، أو رفع له ، وقد يقال : إن الآية اقتضت قصراً يتناول الأركان بالتخفيف ، وقصر العدد بنقصان ركعتين ، وقيد ذلك بأمرين : الضرب في الأرض والخوف ، فإذا وجد الأمران ، أبيح القصر ، فيصلون صلاة تامة كاملة ، وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده ، فإذا وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفي العدد ، وهذا نوع من قصر وليس بالقصر المطلق ، وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة ، باعتبار نقصان العدد ، وقد تسمى تامة ، باعتبار إتمام أركانها ، وأنها لم تدخل في قصر الآية ، والأول اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين ، والثاني : يدل عليه كلام الصحابة ، كعائشة وابن عباس وغيرهما .
قالت عائشة : فرضت الصلاة ركعتين ، فلما هاجر رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر ، فهذا يدل على أن صلاة السفر عدها غير مقصورة من أربع ، وإنما هي مفروضة كذلك ، وأن فرض المسلم ركعتان .
وقال ابن عباس : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة ، متفق على حديث عائشة ، وانفرد مسلم بحديث ابن عباس .
وقال عُمَر بن الخطاب : صلاة السفر ركعتان ، والجمعة ركعتان ، والعيد ركعتان ، تمام غير قصر على لسان محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وقد خاب من افترى ، وهذا ثابت عن عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ، وهو الذي سأل النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : ما بالنا نقصر وقد أمنّا ؟ فقال له رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته > ، ولا تناقض بين حديثيه ، فإن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لما أجابه بأن هذه صدقة الله عليكم ، ودينه اليسر السمح ، علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد ، كما فهمه كثير من الناس ، فقال : صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر ، وعلى هذا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح ، منفي عنه الجناح ، فإن شاء المصلي فعله وإن شاء أتم ، وكان رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يواظب في سفره على ركعتين ركعتين ولم يربع قط إلا شيئاً فعله في بعض صلاة الخوف ، كما سنذكره هناك ، وتبين ما فيه إن شاء الله تعالى ، وقال أنس : خرجت مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من المدينة إلى مكة ، وكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة ، متفق عليه .
ولما بلغ عبد الله بن مسعود أن عثمان بن عفان صلى بمنى أربع ركعات ، قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، صليت مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بمنى ركعتين ، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر ركعتين ، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان متفق عليه ، ولم يكن ابن مسعود ليسترجع من فعل عثمان أحد الجائزين المخير بينهما ، بلى الأولى على قول وإنما استرجع لما شاهداه من مداومة النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وخلفائه على ركعتين .
وفي صحيح البخاريّ عن ابن عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : صحبت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فكان في السفر لا يزيد على ركعتين ، وأبا بكر وعمر وعثمان ( يعني في صدر خلافة عثمان ) ، وإلا فعثمان قد أتم في آخر خلافته ، وكان ذلك أحد الأسباب التي نكرت عليه ، وقد خرج لفعله تأويلات :
أحدها : أن الأعراب كانوا قد حجوا تلك السنة ، فأراد أن يعلمهم أن فرض الصلاة أربع ، لئلا يتوهموا أنها ركعتان في الحضر والسفر ، ورد هذا التأويل بأنهم كانوا أحرى بذلك في حج النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فكانوا حديثي عهد بالإسلام ، والعهد بالصلاة قريب ، ومع هذا فلم يربع بهم النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .
الثاني : أنه كان إماماً للناس ، والإمام حيث نزل فهو عمله ومحل ولايته .
فكأنه وطنه : ورد هذا التأويل بأن إمام الخلائق على الإطلاق رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، كان هو أولى بذلك ، وكان هو الإمام المطلق ولم يربّع .
التأويل الثالث : أن منى كانت قد بنيت وصارة قرية كثر فيها المساكن في عهده ، ولم يكن ذلك في عهد رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، بل كانت فضاء ، ولهذا قيل له : يا رسول الله ! ألا تبني لك بمنى بيتاً يظلك من الحر ؟ فقال : < لا ، منى مناخ من سبق > ، فتأول عثمان أن القصر إنما يكون في حال السفر ، ورد هذا التأويل بأن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أقام بمكة عشراً يقصر الصلاة .
التأويل الرابع : أنه أقام بها ثلاثاً ، وقد قال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < يقيم المهاجر بعد نسكه ثلاثاً > ، فسماه مقيماً ، والمقيم غير مسافر ، ورد هذا التأويل بأن هذه إقامة مقيدة في أثناء السفر ، ليست بالإقامة التي هي قسيم السفر ، وقد أقام صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بمكة عشراً يقصر الصلاة ، وأقام بمنى بعد نسكه ، أيام الجمار الثلاث ، يقصر الصلاة .
التأويل الخامس : أنه كان قد عزم على الإقامة والاستيطان بمنى ، واتخاذها دار الخلافة ، فلهذا أتم ، ثم بدا له أن يرجع إلى المدينة ، وهذا التأويل أيضاً مما لا يقوى ، فإن عثمان - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - من المهاجرين الأولين ، وقد منع صَلّى اللهُ عليّه وسلّم المهاجر من الإقامة بمكة بعد نسكه ، ورخص له ثلاثة أيام فقط ، فلم يكن عثمان ليقيم بها وقد منع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من ذلك ، وإنما رخص فيها ثلاثاً ، وذلك لأنهم تركوها لله ، وما ترك الله فإنه لا يعاد فيه ولا يسترجع ، ولهذا منع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من شراء المتصدق لصدقته ، وقال لعمر : لا تشترها ولا تعد في صدقتك ، فجعله عائداً في صدقته مع أخذها بالثمن .
التأويل السادس : أنه كان قد تأهل بمنى ، والمسافر إذا قام في موضع وتزوج فيه أو كان له به زوجة ، أتم ، ويروى في ذلك حديث مرفوع عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فروى عِكْرِمَة عن إبراهيم الأزديّ عن أبي ذياب عن أبيه قال : صلى عثمان بأهل منى أربعاً وقال : يا أيها الناس ! لما قدمت تأهلت بها وإني سمعت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقول : < إذا تأهل الرجل ببلدة فإنه يصلي بها صلاة مقيم > رواه الإمام أحمد في " مسنده " وعبد الله بن الزبير الحميدي في " مسنده " أيضا ، وقد أعله البيهقيّ بانقطاعه وتضعيف عِكْرِمَة .
قال أبو البركات ابن تيمية : ويمكن المطالبة بسبب الضعف ، فإن البخاريّ ذكره في تاريخه ولم يطعن فيه ، وعادته ذكر الجرح والمجروحين ، وقد نص أحمد ، وابن عباس قبله ، أن المسافر إذا تزوج لزمه الإتمام ، وهذا قول أبي حنيفة ومالك وأصحابهما ، وهذا أحسن من اعتذر به عن عثمان ، وقد اعتذر عن عائشة أنها كانت أم المؤمنين ، فحيث نزلت فكان وطنها ، وهو أيضاً اعتذار ضعف ، فإن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أبو المؤمنين ، وأمومة أزواجه فرع على أبوته ، ولم يكن يتم لهذا السبب ، وقد روى هشام بن عروة عن أبيه أنها كانت تصلي في السفر أربعاً ، فقلت لها : لو صليت ركعتين ؟ فقالت : يا ابن أختي ! لا يشق عليّ .
قال الشافعيّ رحمه الله : لو كان فرض المسافر ركعتين ، لما أتمها عثمان ولا عائشة ولا ابن مسعود ، ولم يجز أن يتمها مسافر مع مقيم ، وقد قالت عائشة : كل ذلك قد فعله رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، أتم وقصر ، ثم روي عن إبراهيم عن محمد عن طلحة بن عُمَر عن عطاء بن أبي رَبَاح عن عائشة قالت : كل ذلك فعل النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، قصر الصلاة في السفر ، وأتم .
قال البيهقيّ : وكذلك رواه المغيرة عن زياد عن عطاء ، وأصح إسناد فيه ما أخبرنا أبو بكر الحازمي عن الدارقطني عن المحامليّ : حدثنا سعيد بن محمد بن أيوب ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا عُمَر بن سعيد عن عطاء ، عن عائشة ، أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كان يقصر الصلاة في السفر ويتم ، ويفطر ويصوم ، قال الدارقطني : وهذا إسناد صحيح ، ثم ساق من طريق أبي بكر النيسابوري عن عباس الدوري : أنا أبو نعيم ، حدثنا العلاء بن زهير ، حدثني عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة ، أنها اعتمرت مع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من المدينة إلى مكة ، حتى إذا قدمت مكة قالت : يا رسول الله ! بأبي أنت وأمي ! قصرتَ وأتممتُ وصمتُ وأفطرتَ ، قال : < أحسنت ، يا عائشة ! > .
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : هذا الحديث كذب على عائشة ولم تكن عائشة لتصلي بخلاف صلاة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وسائر الصحابة ، وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم وحدها بلا موجب ، كيف وهي القائلة : فرضت الصلاة ركعتين ، فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر ، فكيف يظن أنها تزيد على ما فرض الله ؟ وتخالف رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأصحابه ؟
قال الزهريّ لعروة ، ( لما حدثه عن أبيه عنها بذلك ) : فما شأنها ؟ كانت تتم الصلاة ، فقالت : تأولت كما تأول عثمان ، فإذا كان النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قد حسن فعلها وأقرها ، فما للتأويل حينئذ وجه ، ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير ، وقد أخبر ابن عمر أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبو بكر ولا عمر ، أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهي تراهم يقصرون ؟ وأما بعد موته صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فإنها أتمت ، كما أتم عثمان ، وكلاهما تأول تأويلاً ، والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم ، مع مخالفة غيره له ، والله أعلم .
وقد قال أمية بن خالد لعبد الله بن عُمَر : إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن ، ولا نجد صلاة السفر في القرآن ، فقال له ابن عمر : يا أخي ! إن الله بعث محمداً صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ولا نعلم شيئاً ، فإنما نفعل كما رأينا محمداً صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يفعل ، وقد قال أنس : خرجنا مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إلى مكة ، فكان يصلي ركعتين ركعتين ، حتى رجعنا إلى المدينة ، وقال ابن عمر : صحبت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين ، وأبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، وهذه كلها أحاديث صحيحة . انتهى كلام ابن القيم .
قال الإمام الشوكاني في " نيل الأوطار " : وقد استدل ، بحديثي عائشة ، القائلون بأن القصر رخصة ، ويجاب عنهم بأن الحديث الثاني لا حجة لهم فيه ، لما تقدم من أن لفظ ( تتم وتصوم ) بالفوقانية ، لأن فعلها ، على فرض عدم معارضته لقوله وفعله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، لا حجة فيه ، فكيف إذا كان معارضاً للثابت عنه من طريقها وطريق غيرها من الصحابة ؟ وأما الحديث الأول ، فلو كان صحيحاً ، لكان حجة ، لقوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في الجواب عنها : < أحسنت > ، ولكنه لا ينتهض لمعارضة ما في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة ، وهذا بعد تسليم أنه حسن ، كما قال الدارقطني ، فكيف ؟ وقد طعن فيه بتلك المطاعن المتقدمة ، فإنها بمجردها توجب سقوط الاستدلال به عند عدم المعارض . انتهى .
المسألة الثالثة : استدل بعموم الآية من جوّز القصر في كل سفر طويلاً أو قصيراً ، ووجهه أن قوله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ } يصدق على كل ضرب ، ولكنه خرج الضرب أي : المشي لغير السفر ، لما كان يقع منه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من الخروج إلى بقيع الغرقد ونحوه ، ولا يقصر ، ولم يأت في تعيين قدر السفر الذي يقصر فيه المسافر شيء ، فوجب الرجوع إلى ما يسمى سفراً لغة وشرعاً ، ومن خرج من بلده قاصداً إلى محل ، يعد في ميسره إليه مسافراً ، قصر الصلاة ، وإن كان ذلك المحل دون البريد ، ولم يأت من اعتبر البريد واليوم واليومين والثلاث وما زاد على ذلك ، بحجة نيرة ، وغاية ما جاؤوا به حديث : < لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام بغير ذي محرم > .
وفي رواية : < يوماً وليلة > .
وفي رواية : < بريداً > .
وليس في هذا الحديث ذكر القصر ولا هو في سياقه ، والاحتجاج به مجرد تخمين ، وأحسن ما ورد في التقدير ما رواه شعبة عن يحيى بن زيد الهنائي قال : سألت أنساً عن قصر الصلاة ؟ فقال : كان رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ ، صلى ركعتين ، والشك من شعبة ، أخرجه مسلم وغيره .
فإن قلت : محل الدليل في نهي المرأة عن السفر تلك المسافة بدون محرم ، هو كونه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم سمى ذلك سفراً ، قلت : تسميته سفراً لا تنافي تسميته ما دونه سفراً ، فقد سمى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مسافة الثلاث سفراً ، كما سمى مسافة البريد سفراً ، في ذلك الحديث باعتبار اختلاف الرواية .
وتسمية البريد سفراً لا ينافي تسمية ما دونه سفراً ، فإن قلت : أخرج الدارقطني والبيهقيّ والطبراني من حديث ابن عباس أنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < يا أهل مكة ! لا تقصروا في أقل من أربعة برد > ، من مكة إلى عسفان - قلت : هو ضعيف لا تقوم به الحجة ، فإن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر ، وهو متروك ، وفي المسألة مذاهب هذا أرجحها ، والحاصل أن الواجب هو الرجوع إلى ما يصدق عليه اسم السفر شرعاً أو لغة ، كذا في " الروضة الندية " .
وفي " المصباح " : سفر الرجل سفراً مثل طلب ، خرج للارتحال .
وفي " القاموس " : قوم سفر وسافرة وأسفار وسفار : ذوو سفَر ، لضدّ الحضر .
هذا وللقصر مباحث مقررة في شروح السنة .
ولما كان النص السابق الوارد في مشروعية القصر مجملاً بَيِّن كيفيته بصورة في مزيد الحاجة إليها ، ويكتفي فيما عداها ببيان السنة ، فقال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مّنْهُم مّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لم يُصَلّواْ فَلْيُصَلّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَميلُونَ عَلَيْكُم ميلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذىً مّن مّطَرٍ أَوْ كُنتُم مّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنّ اللّهَ أَعَدّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً } [ 102 ]
{ وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } أي : مع أصحابك شهيداً وأنتم تخافون العدو .
{ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصّلاَةَ } أي : أردت أن تقيم بهم الصلاة بالجماعة التي ، لوفور أجرها ، بتحمل مشاقها .
{ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مّنْهُم مّعَكَ } في الصلاة ، أي : بعد أن جعلتم طائفتين ، ولتقف الطائفة الأخرى بإزاء العدو ليحرسوكم منهم ، وإنما لم يصرح به لظهوره .
{ وَلْيَأْخُذُواْ } أي : الطائفة التي قامت معك : { أَسْلِحَتَهُمْ } معهم لأنه أقرب للاحتياط .
{ فَإِذَا سَجَدُواْ } أي : القائمون معك ، سجدتي الركعة الأولى وأتموا الركعة ، فارقوك وأتموا صلاتهم ، وتقوم إلى الثانية منتظراً ، فإذا فرغوا .
{ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ } أي : فلينصرفوا إلى مقابلة العدو للحراسة .
{ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لم يُصَلّواْ } وهي الطائفة الواقعة تجاه العدو .
{ فَلْيُصَلّواْ } ركعتهم الأولى : { مَعَكَ } وأنت في الثانية ، فإذا جلست منتظراً ، قاموا إلى ثانيتهم وأتمنوها ثم جلسوا ليسلموا معك ، ولم يبين في الآية الكريمة حال الركعة الرابعة الباقية لكل من الطائفتين اكتفاء ببيانه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لهم ، كما يأتي .
{ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ } أي : تيقظهم ، لأن العدو يتوهمون في الأولى كون المسلمين قائمين في الحرب ، فإذا قاموا إلى الثانية ظهر لهم أنهم في الصلاة فههنا ينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم ، فلذا خص هذا الموضع بزيادة تحذير فقال : وليأخذوا حذرهم وجعله كالآلة ، فأمر بأخذه وعطف عليه .
{ وَأَسْلِحَتَهُمْ } قال الواحدي : فيه رصخة للخائف في الصلاة بأن يجعل بعض فكره في غير الصلاة ، قال أبو السعود : وتكليف كل من الطائفتين بما ذكر ، لما أن الاشتغال بالصلاة مظنة لإلقاء السلاح والإعراض عن غيرها ، ومئنّة لهجوم العدو ، كما ينطق به قوله تعالى : { وَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ } أي : تمنوا .
{ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ } فتضعونها : { وَأَمْتِعَتِكُمْ } أي : حوائجكم التي بها بلاغكم .
{ فَيَميلُونَ عَلَيْكُم ميلَةً وَاحِدَةً } أي : يحملون حملة واحدة فيقتلوكم ، فهذا علة الأمر بأخذ السلاح ، والأمر بذلك للوجوب ، لقوله تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أي : لا حرج ولا إثم عليكم .
{ إِن كَانَ بِكُمْ أَذىً مّن مّطَرٍ } يثقل معه حمل السلاح .
{ أَوْ كُنتُم مّرْضَى } يثقل عليكم حمله : { أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ } أخرج البخاريّ عن ابن عباس قال : نزلت : { إِن كَانَ بِكُمْ أَذىً مّن مّطَرٍ أَوْ كُنتُم مّرْضَى } في عبد الرحمن بن عوف كان جريحاً ، ثم أمروا مع ذلك بالتيقظ والاحتياط ، فقيل : { وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ } لئلا يهجم عليكم العدو غيلة .
{ إِنّ اللّهَ أَعَدّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً } أي : يهانون به ، ويقال : شديداً ، قال أبو السعود : هذا تعليل الأمر بأخذ الحذر ، أي : أعد لهم عذاباّ مهيناً ، بأن يخذلهم وينصركم عليهم ، فاهتموا بأموركم ولا تهملوا في مباشرة الأسباب كي يحل بهم عذابه بأيديكم ، وقيل : لما كان الأمر بالحذر من العدو موهماً لتوقع غلبته واعتزامه ، نفي ذلك الإبهام بأنه الله تعالى ينصرهم ويهين عدوهم لتقوى قلوبهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ إِنّ الصّلاَةَ كَانَتْ عَلَى المؤْمِنِينَ كِتَاباً مّوْقُوتاً } [ 103 ]
{ فَإِذَا قَضَيْتُمُ } أي : أتممتم : { الصّلاَةَ } أي : صلاة الخوف ، على ما فصّل .
{ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ } أي : فداوموا على ذكره تعالى في جميع الأحوال ، فإن ما أنتم عليه من الخوف واحذر مع العدو جدير بالمواظبة على ذكر الله والتضرع إليه ، قاله الرازيّ .
وقال ابن كثير : أمر تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف ، وإن كان مشروعاً مرغباً فيه أيضاً بغد غيرها ، ولكن هنا آكد لما وقع فيها من التخفيف في أركانها ، ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب ، وغير ذلك مما ليس يوجد غيرها كما قال تعالى ( في الأشهر الأحرم ) : { فَلاَ تَظْلمواْ فِيهِنّ أَنفُسَكُمْ } [ التوبة : 36 ] ، وإن كان هذا منهياً عنه في غيرها ، ولكن فيها آكد لشدة حرمتها وعظمها .
{ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ } أي : سكنت قلوبكم بالأمن : { فَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ } أي : على الحالة التي كنتم تعرفونها ، فلا تغيرا شيئاً من هئياتها : { إِنّ الصّلاَةَ كَانَتْ عَلَى المؤْمِنِينَ كِتَاباً مّوْقُوتاً } أي : فرضاً موقتاً ، لا يجوز إخراجها عن أوقاتها وإن لزمها نقائص في رعايتها .
فصل
في أحكام تتعلق بهذه الآية :
الأول : في هذه الآية مشروعية صلاة الخوف وصفتها ، وأنه لا يجب قضاؤها ، وأنه يطلب فيها حمل السلاح إلا لعذر .
الثاني : تَعَلَّقَ بظاهر قوله تعالى : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } من لم ير صلاة الخوف بعد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم زاعماً أنها خاصة بعهده صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، لاشتراطه كونه فيهم ، ولا يخفى أن الأئمة بعده نوّابه قوّام بما كان يقوم به ، فيتناولهم حكم الخطاب الوارد له صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، كما في قوله تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } [ التوبة : 103 ] ، وقد قال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي > .
وعموم منطوق هذا الحديث مقدم على ذلك المفهوم ، وقد روى أبو داود والنسائي والحاكم وابن أبي شيبة وغيرهم ، عن سعيد بن العاص أنه قال ( في غزوة ومعه حذيفة ) : أيكم شهد مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم صلاة الخوف ؟ فقال حذيفة : أنا ، فأمرهم حذيفة فلبسوا السلاح ثم قال : إن هاجمكم هيج فقد حل لكم القتال ، فصلى بإحدى الطائفتين ركعة ، والأخرى مواجهة العدو ثم انصرف هؤلاء ، فقاموا مقام أولئك ، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة أخرى ، ثم سلم عليهم ، وكانت الغزوة بطبرستان ، قال بعضهم : وكان ذلك بحضرة الصحابة رضي الله عنهم ، فلم ينكره أحد ، فحل محلّ الإجماع .
وروى أبو داود أن عبد الرحمن بن سمرة صلى ، بكابل ، صلاة الخوف .
الثالث : روى الإمام أحمد وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وأبو داود والنسائي وغيرهم ( في نزول الآية عن ابن عباس - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ) قال : كنا مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بعسفان ، فاستقبلنا المشركون ، عليهم خالد بن الوليد ، وهم بيننا وبين القبلة ، فصلى بنا النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم الظهر ، فقالوا : قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم ، ثم قالوا : تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم ، فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصّلاَةَ } فحضرت الصلاة ، فأمرهم رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بأخذ السلاح ، فصفنا خلفه صفين ، ثم ركع فركعنا جميعاً ، ثم رفع فرفعنا جميعاً ، ثم سجد النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما سجدوا وقاموا ، جلس الآخرون ، ثم سلم عليهم .
وروى عبد الرزاق عن الثوري عن هشام ، مثل هذا ، عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، إلا أنه قال : نكص الصف المقدم القهقرى حين يرفعون رؤوسهم من السجود ، ويتقدم الصف المؤخر فيسجدون في مصاف الأولين .
وروى عبد الرزاق وابن المنذر وابن جريج عن ابن أبي نَجِيْح قال : قال مجاهد ( في قوله تعالى : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ } ) : نزلت يوم كان النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بعسفان والمشركون بضجنان فتواقفوا ، فصلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بأصحابه صلاة الظهر أربعاً ، ركوعهم وسجودهم وقيامهم معاً جميعهم ، فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم ويقاتلوهم ، فأنزل الله عليهم : { فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ } فصلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم العصر وصف أصحابه صفين وكبر بهم جميعاً فسجد الأولون بسجوده والآخرون قيام لم يسجدوا ، حتى قام النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم والصف الأول ، ثم كبر بهم وركعوا جميعاً ، فقدموا الصف الآخر واستأخروا ، فتعاقبوا السجود كما فعلوه أول مرة ، وقصر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم صلاة العصر ركعتين ، وفي هذه الأحاديث أن صلاة الطائفتين مع الإمام جميعاً ، واشتراكهم في الحراسة ، ومتابعته في جميع أركان الصلاة إلا السجود ، فتسجد معه طائفة وتنتظر الأخرى حتى تفرغ الطائفة الأولى ، ثم تسجد وإذا فرغوا من الركعة الأولى تقدمت الطائفة المتأخرة مكان الطائفة المتقدمة ، وتأخرت المتقدمة ، ( فإن قلت ) : لا نطبق ما في الآية على هذه الروايات التي حكت سبب نزولها ، وذلك لأن قيل في الآية : { فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مّنْهُم مّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لم يُصَلّواْ } الآية ، وفي هذه الروايات أنهم قاموا جميعاً معه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في الصلاة ، وإنما ينطبق ما فيهم على ما رواه الشيخان عن اِبْن عُمَر رضي الله عنهما قَالَ : [ صَلَّى ] رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاة الْخَوْف بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَة ، وَالطَّائِفَة الْأُخْرَى مُوَاجِهَة الْعَدُوّ ، ثُمَّ اِنْصَرَفُوا وَقَامُوا مَقَام أَصْحَابهمْ مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوّ ، وَجَاءَ أُولَئِكَ ، ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَة ثُمَّ سَلَّمَ [ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] ، ثُمَّ قَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَة وَهَؤُلَاءِ رَكْعَة .
وما روياه عن صالح بن خَوّات عمن صلى مع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يوم ذات الرقاع ؛ أن الطائفة صف معه وطائفة وجاه العدو ، فقضى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائماً ، فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو ، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ، فأتموا لأنفسهم فسلم بهم .
( قلت ) : بمراجعة ما أسلفناه في المقدمة من قاعدة سبب النزول يندفع الإشكال ، وعن أبي هريرة - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : نزل رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بين ضجنان وعسفان فقال المشركون : لِهَؤُلاَء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم ، وهي العصر ، فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلة واحدة ، وإن جبريل عليه السلام أتى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فأمره أن يقسم أصحابه ، شطرين ، فيصلي بهم وتقوم طائفة أخرى وراءهم ، وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ، فتكون لهم ركعة وللنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ركعتان ، أخرجه أصحاب السنن .
ثم رأيت القرطبيّ بحث في " تفسيره " نحو ما سبق لي حيث قال : وما ذكرناه من سبب النزول في قصة خالد بن الوليد ، لا يلائم تفريق القوم إلى طائفتين ، ثم قال ( بعد رواية حديث أبي هريرة المذكور ) قلت : ولا تعارض بين هذه الروايات ، فلعله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم صلى بهم صلاة أخرى مفترقين . انتهى .
الرابع : ظاهر الآية الكريمة الترخيص لكل طائفة بركعة واحدة ، لأنه لم يبين فيها حال الركعة الباقية ، وقد روى النسائي عن ابن عباس أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم صلى بذي قَرَد فصف الناس خلفه صفين : صفاً خلفه وصفاً موازي العدو ، فصلى بالذين خلفه ركعة ، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا ركعة .
وكذا روى أبو داود والنسائي أيضاً عن حذيفة أنه صلى بطبرستان بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا .
وروى أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : فرض الله الصلاة على نبيكم صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، في الحضر ، أربعاً ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة ، فهذه الأحاديث تدل على أن من صفة صلاة الخوف ، الاقتصار على ركعة لكل طائفة .
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : وبالاقتصار على ركعة واحدة في الخوف ، يقول الثوري وإسحاق ومن تبعهما ، وقال به أبو هريرة وأبو موسى الأشعري وغير واحد من التابعين ، ومنهم من قيّد بشدة الخوف .
وقال الجمهور : قصر الخوف قصر هيئة لا قصر عدد ، وتأولوا هذه الأحاديث بأن المراد بها ركعة من الإمام وليس فيها نفي الثانية ، ويرد ذلك قوله في حديث ابن عباس وحذيفة : ( ولم يقضوا ركعة ) وكذا قوله في حديث ابن عباس الثاني : ( وفي الخوف ركعة ) وأما تأويلهم قوله : ( لم يقضوا ) بأن المراد منه لم يعيدوا الصلاة بعد الأمن - بعيد جداً ، كذا في " نيل الأوطار " نعم .
وقع في حديث ابن عمر المتفق عليه وقد قدمناه : ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة ، وعند أبي داود من حديث ابن مسعود : ثم سلم ، وقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة ، ثم سلموا ذم ذهبوا ، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ، وبالتحقيق ، كل ما روي هو من صورها الجائزة ، ولما ذكر الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " هديه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في أدائها ، قال في آخر صورة : وتارة كان يصلي بإحدى الطائفتين ركعة فتذهب ولا تقضي شيئاً ، وتجيء الأخرى فيصلي بهم ركعة ولا تقضي شيئاً ، فيكون له صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ركعتان ، ولهم ركعة ركعة ، وهذه الأوجه كلها يجوز الصلاة بها .
قال الإمام أحمد : كل حديث يروى في باب صلاة الخوف فالعمل به جائز . انتهى .
وقال ابن كثير : صلاة الخوف أنواع كثيرة ، فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة ، وتارة يكون في غير صوبها ، ثم تارة يصلون جماعة وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة ، بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، ورجالاً وركباناً ، ولهم أن يمشوا والحالة هذه ، ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة ، ومن العلماء من قال : يصلون والحالة هذه ركعة واحدة لحديث ابن عباس المتقدم ، وبه قال أحمد بن حنبل .
قال المنذري : وبه قال عطاء وجابر والحسن ومجاهد والحكم وقتادة وحماد ، وإليه ذهب طاوس والضحاك ، وقد حكى أبو عاصم العبادي عن محمد بن نُصَيْر المروزي أنه يرى ردّ الصبح إلى ركعة في الخوف ، وإليه ذهب ابن حزم أيضاً ، وقال إسحاق بن راهويه : أما عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدة تومئ بها إيماءً ، فإن لم تقدر فسجدة واحدة ، لأنها ذكر الله ، وقال آخرون : يكفي تكبيرة واحدة ، فلعله أراد ركعة واحدة ، كما قاله الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه ، وبه قال جابر بن عبد الله وعبد الله بن عُمَر وكعب وغير واحد من الصحابة والسدي ، ورواه ابن جرير ، ولكن الذين حكوه إنما حكوه على ظاهر في الاجتزاء والسدي بتكبيرة واحدة ، كما هو مذهب إسحاق بن راهويه ، وإليه ذهب الأمير عبد الوهاب بن بخت المكي حتى قال : فإن لم يقدر على التكبير فلا يتركها في نفسه ، يعني بالنية ، رواه سعيد بن منصور في " سننه " عن إسماعيل بن عياش عن شعيب بن دينار عنه ، فالله أعلم ، ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال والمناجزة ، كما أخر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يوم الأحزاب الظهر والعصر ، فصلاهما بعد الغروب ، ثم صلى بعدهما المغرب ثم العشاء ، وكما قال بعدها ، يوم بني قريظة حين جهز إليهم الجيش : < لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة > ، فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق ، فقال منهم قائلون : لم يرد منا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إلا تعجيل المسير ، ولم يرد منا تأخير صلاة العصر فصلوها في بني قريظة بعد الغروب ، ولم يعنف رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أحداً من الفريقين ، فاحتج في عذرهم في تأخير الصلاة لأجل الجهاد والمبادرة إلى حصار الناكثين للعهد من الطائفة الملعونة ، اليهود .
وأما الجمهور فقالوا : هذا كله منسوخ بصلاة الخوف فإنها لم تكن نزلت بعد ، فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك ، وهذا أبين في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه الشافعيّ رحمه الله وأهل السنن ، ولكن يشكل عليه ما حكاه البخاريّ في " صحيحه " حيث قال ( باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو ) وقال الأوزاعي : إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماءً ، كل امرئ لنفسه ، فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال أو يأمنوا فيصلوا ركعتين ، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين ، فإن لم يقدروا فلا يجزئهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا ، وبه قال مكحول ، وقال أنس بن مالك : حضرت عند مناهضة حصن تُستر عند إضاءة الفجر واشتد اشتعال القتال فلم يقدوا على الصلاة ، فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار ، فصلينا ونحن مع أبي موسى ، ففُتِحَ لنا ، وقال أنس : وما يسرني ، بتلك الصلاة ، الدنيا وما فيها . انتهى .
ثم أتبعه بحديث تأخير الصلاة يوم الأحزاب ثم بحديث أمره إياهم أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة وكأنه كالمختار لذلك ، والله أعلم .
ولمن جنح له أن يحتج بصنيع أبي موسى وأصحابه يوم فتح تستر فإنه يشتهر غالباً ، وكان ذلك في إمارة عُمَر بن الخطاب ، ولم ينقل أنه أنكر عليهم ولا أحد من الصحابة ، والله أعلم ، قال هؤلاء : وقد كانت صلاة الخوف مشروعة في الخندق لأن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق في قول جمهور علماء السير والمغازي ، وممن نص على ذلك محمد بن إسحاق وموسى بن عقبة والواقدي ومحمد بن سعد ، كاتبه وخليفة بن الخياط وغيرهم .
وقال البخاريّ وغيره : كانت ذات الرقاع بعد الخندق ، لحديث أبي موسى ، وما قدم إلا في خيبر ، والله اعلم .
الحكم الخامس : استدل بقوله تعالى : { طَآئِفَةٌ } على أنه لا يشترط استواء الفريقين في العدد ، لكن لا بد أن تكون التي تحرس تحصل الثقة به في ذلك .
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : الطائفة تطلق على القليل والكثير حتى على الواحد ، فلو كانوا ثلاثة ووقع لهم الخوف ، جاز لأحدهم أن يصلي بواحد ويحرس واحد ، ثم يصلي الآخر ، وهو أقل ما يتصور في صلاة الخوف جماعة .
السادس : استدل بالآية على عظم أمر الجماعة بل على ترجيح القول بموجبها ، لارتكاب أمور كثيرة لا تغتفر في غيرها ، ولو صلى كل امرئ منفرداً لم يقع الاحتياج إلى معظم ذلك ، أفاده الحافظ ابن حجر في " الفتح " .
قال ابن كثير : وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة ، حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة ، فلولا أنها واجبة ما ساغ ذلك .
السابع : قال بعض المفسرين : اختلف في المأمور بأخذ السلاح في قوله تعالى : { وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ } فقيل : هم الطائفة الذين يواجهون العدو ، وهذا ظاهر ، وقيل : بل هم الطائفة المصلون ، وأراد ما لا يشغل عن الصلاة من الدرع والخنجر والسيف ونحو ذلك ، وقيل : للطائفتين ، وهو قول القاسم . انتهى .
قال الناصر في " الانتصاف " : والظاهر أن المخاطب يأخذ الأسلحة المصلون ، إذ من لم يصل إنما أعد للحرس ، فالظاهر الاستغناء عن أمرهم بذلك وتنبيههم عليه ، وهم إنما أخروا الصلاة لذلك ، أما المصلون فيهم في مظنة طرح الأسلحة لأنهم لم يعتادوا حملها في الصلاة ، فنبهوا على أنهم لا ينبغي لهم طرح الأسلحة وإن كانوا في الصلاة ، لضرورة الخوف وخشية الغرة ، وأيضاً فصنيع الآية يعطي ذلك ، لأنه قال : { فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مّنْهُم مّعَكَ } وعقل ذلك بقوله : { وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ } فالظاهر رجوع الضمير إليهم ، وحيث يعاد إلى غي المصلين يحتاج إلى تكلف في صحة العود إليهم ، بدلالة قوة الكلام عليهم ، وإن لم يذكروا ، وناقش الناصر أيضاً الزمخشريّ في جعله المارد بقوله تعالى : { فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ } غير المصلين ، فقال : الظاهر أن معنى السجود ههنا الصلاة ، وقد عبر عنها بالسجود كثيراً ، والمراد : فإذا صلت الطائفة ، ( أي : أتمت صلاتها ) فليكونوا من ورائكم . انتهى .
الثامن : قال أبو عليّ الجرجاني صاحب النظم : وله تعالى : { وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ } يدل على أنه كان يجوز للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أن يأتي بصلاة الخوف على جهة يكون بها حاذراً ، غير غافل من كيد العدو ، والذي نزل به القرآن في هذا الموضع هو وجه الحذر ، لأن العدو يومئذ بذات الرقاع كان مستقبل القبلة ، فالمسلمون كانوا مستدبرين القبلة ، ومتى استقبلوا القبلة صاروا مستدبرين لعدوهم ، فلا جرم ، أمروا بأن يصيروا طائفتين : طائفة في وجه العدو ، وطائفة مع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مستقبل القبلة ، وأما حين كان النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بعسفان وببطن نخل ، فإنه لم يفرق أصحابه طائفتين ، وذلك لأن العدو كان مستدبر القبلة ، والمسلمين كانوا مستقبلين لها ، فكانوا يرون العدو حال كونهم في الصلاة ، فلم يحتاجوا إلى الاحتراس إلا عند السجود ، فلا جرم ، لما سجد الصف الأول بقي الصف الثاني يحرسونهم ، فلما فرغوا من السجود ، وقاموا ، تأخروا وتقدم الصف الثاني وسجدوا ، وكان الصف الأول حال قيامهم يحرسون الصف الثاني ، فثبت بما ذكرنا أن قوله تعالى : { خُذُواْ حِذْرَكُمْ } يدل على جواز كل هذه الوجوه ، والذي يدل على أن المراد من هذه الآية ما ذكرناه ، أنا لو لم نحملها على هذا الوجه لصار تكراراً محضاً من غير فائدة ، ولوقع فعل الرسول بعسفان وببطن نخل على خلاف نص القرآن ، وإنه غير جائز ، نقله الرازيّ .
وقال الخطابي : صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في أيام مختلفة وأشكال متباينة ، يتحرى في ذلك كله ما هو الأحوط للصلاة والأبلغ في الحراسة ، فهي مع اختلاف صورها متفقة المعنى . انتهى .
وأنواعها مبينة في شروح السنة ، ثم حثهم تعالى على الجهاد بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلمونَ فَإِنّهُمْ يَأْلمونَ كَمَا تَأْلمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [ 104 ]
{ وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ } أي : لا تضعفوا فحيث طلب عدوكم بالقتال بل جدوا فيهم واقعدوا لهم كل مرصد ، ثم ألزمهم الحجة بقوله سبحانه : { إِن تَكُونُواْ تَأْلمونَ فَإِنّهُمْ يَأْلمونَ كَمَا تَأْلمونَ } أي : ليس ما تجدون من الألم بالجرح والقتل مختصاً بكم بل هو مشترك بينكم وبينهم ، كما قال تعالى : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ } [ آل عِمْرَان : 140 ] ، ثم زاد في تقرير الحجة ، وبيّن أن المؤمنين أولى بالمصابرة على القتال من المشركين بقوله تعالى : { وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ } يعني وتأملون من القرب من الله واستحقاق الدرجات من جناته وإظهار دينه ، كما وعدكم إياه في كتابه وعلى لسان رسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ما لا يأملونه ، فأنتم أولى بالجهاد منهم وأجدر بإقامة كلمة الله .
{ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } أي : فلا يكلفكم إلا بما يعلم أنه سبب لصلاحكم في دينكم ودنياكم ، فجدوا في الامتثال بذلك فإنه فيه عواقب حميدة .
قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة وجوب الجهاد وأنه لا يسقط لما يحصل من المضرة بالجراح ونحوه ، وأن التجلد وطلب ما يقوّى لازم ، وما يحصل به الوهن لا يجوز فعله ، وتدل على جواز المعارضة والحجاج لقوله : { فَإِنّهُمْ يَأْلمونَ } وتدل على أن للمجاهد أن يجاهد لطلب الثواب لقوله : { وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ } فجعل هذا سبباً باعثاً على الجهاد ، هذا معنى كلام الحاكم ، ونظير هذا : لو صلى لطلب الثواب أو السلامة من العقاب ، وقد ذكر في ذلك خلاف .
فعن الراضي بالله : يجزي ذلك ، وقواه الفقيه يحيى بن أحمد ، وعن أبي مضر : لا يجزي ، لأنه لم ينو الوجه الذي شرع الواجب له . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ خَوّاناً أَثِيماً يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا فَمَن يجادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } [ 105 - 109 ]
{ إِنّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ خَوّاناً أَثِيماً يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا فَمَن يجادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً }
رَوَى الحافظ اِبْن مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيق الْعَوْفِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس : أَنَّ نَفَراً مِنْ الْأَنْصَار غَزَوْا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْض غَزَوَاته ، فَسُرِقَتْ دِرْع لِأَحَدِهِمْ ، فَأُظِنّ ( أي : اتهم ) بِهَا رَجُل مِنْ الْأَنْصَار ، فَأَتَى صَاحِب الدِّرْع رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنَّ طُعْمَة بْن أُبَيْرِق سَرَقَ دِرْعِي ، فَلَمَّا رَأَى السَّارِق ذَلِكَ عَمَدَ إِلَيْهَا فَأَلْقَاهَا فِي بَيْت رَجُل بَرِيء ، وَقَالَ لِنَفَرٍ مِنْ عَشِيرَته : إِنِّي غَيَّبْت الدِّرْع وَأَلْقَيْتهَا فِي بَيْت فُلَان وَسَتُوجَدُ عِنْده ، فَانْطَلَقُوا إِلَى نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلاً فَقَالُوا : يَا نَبِيّ اللَّه ، إِنَّ صَاحِبنَا بَرِيء وَإِنَّ صَاحِب الدِّرْع فُلَان ، وَقَدْ أَحَطْنَا بِذَلِكَ عِلْماً ، فَاعْذُرْ صَاحِبنَا عَلَى رُءُوس النَّاس وَجَادِلْ عَنْهُ فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَعْصِمهُ اللَّه بِك يَهْلِك ، فَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَرَّأَهُ وَعَذَرَهُ عَلَى رُءُوس النَّاس فَأَنْزَلَ اللَّه : { إِنّا أَنزَلْنَا } الْآيَة ثُمَّ قَالَ تَعَالَى ، لِلَّذِينَ أَتَوْا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِينَ بِالْكَذِبِ : { يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاس وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّه } .
يَعْنِي الَّذِينَ أَتَوْا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِينَ يُجَادِلُونَ عَنْ الْخَائِنِينَ ، ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { وَمَنْ يَعْمَل سُوءاً } الْآيَة .
يَعْنِي الَّذِينَ أَتَوْا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِينَ بِالْكَذِبِ ، ثُمَّ قَالَ : { وَمَنْ يَكْسِب خَطِيئَة أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدْ اِحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً } .
يَعْنِي السَّارِق وَاَلَّذِينَ جَادَلُوا عَنْ السَّارِق .
قال ابن كثير : وَهَذَا سِيَاق غَرِيب وَقَدْ ذَكَرَ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَقَتَادَة وَالسُّدِّىّ وَابْن زَيْد وَغَيْرهمْ ( فِي هَذِهِ الْآيَة ) أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي سَارِق بَنِي أُبَيْرِق عَلَى اِخْتِلَاف سِيَاقَاتهمْ وَهِيَ مُتَقَارِبَة .
وَقَدْ رَوَى هَذِهِ الْقِصَّة مُحَمَّد بْن إِسْحَاق مُطَوَّلَة ، ورواها عنه ، من طريقه ، أبو عيسى الترمذيّ في " جامعه " في كتاب التفسير ، عَنْ قَتَادَة بْن النُّعْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : كَانَ أَهْل بَيْت مِنَّا يُقَال لَهُمْ بَنُو أُبَيْرِق : بِشْر وَبَشِير ( قال أبو ذر الخُشَنِي : بشير بن أبيرق ، كذا وقع هنا : بشير بفتح الباء ، وقال الدارقطني : إنما هو بشير بضم الباء ) وَمُبَشِّر ، وَكَانَ بَشِير رَجُلاً مُنَافِقاً ، وَكان يَقُول الشِّعْر يَهْجُو بِهِ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَنْحَلهُ لِبَعْضِ الْعَرَب ثُمَّ يَقُول : قَالَ فُلَان كَذَا وَكَذَا وَقَالَ فُلَان كَذَا ، فَإِذَا سَمِعَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الشِّعْر قَالُوا : وَاَللَّه مَا يَقُول هَذَا الشِّعْر إِلَّا هَذَا [ الرَّجُل ] الْخَبِيث ، فقال :
~أَوْ كَلمَا قَالَ الرَّجُال قصيدة أضِمُوا وَقَالُوا : اِبْن الْأُبَيْرِق قَالَهَا !
قَال : وَكَانُوا أَهْل بَيْت فَاقَة وَحَاجَة فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام ، وَكَانَ النَّاس إِنَّمَا طَعَامهمْ بِالْمَدِينَةِ التَّمْر وَالشَّعِير ، وَكَانَ الرَّجُل إِذَا كَانَ لَهُ يَسَار ، فَقَدِمَتْ ضَافِطَة مِنْ الشَّام مِنْ بالدَّرْمَك ، اِبْتَاعَ الرَّجُل مِنْهَا فَخَصَّ بِهَا نَفْسه ، فأَمَّا الْعِيَال فَإِنَّمَا طَعَامهمْ التَّمْر وَالشَّعِير ، فَقَدِمَتْ ضَافِطَة مِنْ الشَّام فَابْتَاعَ عَمِّي رِفَاعَة بْن زَيْد حِمْلاً مِنْ الدَّرْمَك فَجَعَلَهُ فِي مَشْرُبَة لَهُ وَفِي الْمَشْرُبَة سِلَاح له : درعان وسيفان وما يصلحهما ، فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنْ تَحْت الْبَيْت فَنُقِبَتْ الْمَشْرُبَة وَأُخِذَ الطَّعَام وَالسِّلَاح ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَانِي عَمِّي رِفَاعَة فَقَالَ : يَا اِبْن أَخِي إِنَّهُ قَدْ عُدِيَ عَلَيْنَا فِي لَيْلَتنَا هَذِهِ فَنُقِبَتْ مَشْرُبَتنَا فَذُهِبَ بِطَعَامِنَا وَسِلَاحنَا .
قال : فتحسست في الدار وسألنا فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ، ولا نرى ، فيما نراه ، إلا على بعض طعامكم .
قال : وقد كان بنو أبيرق قالوا : ونحن نسأل في الدار : والله ! ما نرى صاحبكم إلا لَبِيد بن سهل ، رجل منا له صلاح وإسلام ، فلما سمع بذلك لَبِيد اخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق فقال : وَاَللَّه لَيُخَالِطَنكُمْ هَذَا السَّيْف أَوْ لَتُبَيِّنُنَّ السرقة ، قالوا : إليك عنا أيها الرجل ، فوالله ما أنت بصاحبها ، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها ، فقال عمي : يا ابن أخي ! لو أتيت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فذكرت ذلك له .
قال قتادة : فأتيت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فذكرت ذلك له ، فقلت : يا رسول الله ! إن أهل بيت منا أهل جفاء ، عمدوا إلى عمي رِفاعة فنقبوا مشربة له ، وأخذوا سلاحه وطعامه ، فليردوا علينا سلاحنا ، وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه .
فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < أنظر في ذلك > ، فلما سمع بذلك بنو أبيرق ، أتوا رجلاً منهم يقال له أسير بن عروة ، فكلموه في ذلك ، واجتمع إليه ناس من أهل الدار ، فأتوا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقالوا : يا رسول الله ! إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا ، أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة في غير بينة ولا ثَبَت ، قال قتادة : فأتيت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فكلمته ، فقال عمدت إلى أهل بيت ذُكر منه إسلام وصلاح ، ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثَبَت ؟ قال فرجعت ، لوددتُ أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في ذلك ، فأتيت عمي رِفاعة ، فقال : يا ابن أخي ! ما صنعت ؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فقال : الله المستعان :
فلم نلبث أن نزل القرآن : { إِنّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } يعني : بني أبيرق .
{ وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ } أي : مما قلت لقتادة : { إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ } أي : بني أبيرق : { إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ خَوّاناً أَثِيماً يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ } إلى قوله : { ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يجدِ اللّهَ غَفُوراً رّحِيماً } أي : إنهم إن يستغفروا الله يغفر لهم : { وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مّبِيناً } قولهم للبيد : { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمّت طّآئِفَةٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلّوكَ } يعني : أسيراً وأصحابه : { وَمَا يُضِلّونَ إِلاّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } إلى قوله : { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } .
فلما نزل القرآن : آتي رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بالسلاح فرده إلى رِفاعة .
قال قتادة : فلما أتيت عمي بالسلاح ، وكان شيخاً قد عسا في الجاهلية ، وكنت أرى إسلامه مدخولاً ، فلما أتيته بالسلاح ، قال : يا أبن أخي ! هو في سبيل الله ، قال فعرفت أن إسلامه صحيحاً .
فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين ، فنزل على سلافة ابنة سعد بن شُهَيْد ، فأنزل الله فيه : { وَمَن يُشَاقِقِ الرّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤْمِنِينَ } إلى قوله : { وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً بَعِيداً } .
فَلَمَّا نَزَلَ عَلَى سُلَافَة ، رمَاها حَسَّان بْن ثَابِت بِأَبْيَاتٍ مِنْ شِعْر ، فَأَخَذَتْ رَحْله فَوَضَعَتْهُ عَلَى رَأْسهَا ، ثُمَّ خَرَجَتْ بِهِ فَرَمَتْهُ فِي الْأَبْطُح ، ثُمَّ قَالَتْ : أَهْدَيْت لِي شِعْر حَسَّان مَا كُنْت تَأْتِينِي بِخَيْرٍ .
وقال الترمذيّ : هذا حديث غريب لا نعلم أحداً أسنده غير محمد بن سلمة الحراني ، وروى يونس بن بكير وغير واحد هذا الحديث عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عُمَر بن قتادة مرسلاً ، لم يذكروا فيه : عن أبيه عن جده .
ورواه ابن أبي حاتم عن هاشم بن القاسم الحراني عن محمد بن سلمة به ، ببعضه ، ورواه ابن المنذر في " تفسيره " بسنده عن محمد بن سلمة ، فذكره بطوله .
ورواه أبو الشيخ الأصفهاني في " تفسيره " بسنده عن محمد بن سلمة به ، ثم قال في آخره : قال محمد بن سلمة : سمع مني هذا الحديث يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إسرائيل .
ورواه الحاكم في كتابه " المستدرك " بسنده عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق بمعناه ، أتم منه ، وفيه الشعر ، ثم قال : وهذا الحديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، كذا نقله ابن كثير .
قال السيوطيّ في " اللباب " : وأخرج ابن سعد في الطبقات بسنده عن محمود بن لَبِيد قال : عدا بشير بن الحارث على علِّيّة رِفاعة بن زيد ، عم قتادة بن النعمان ، فنقبها من ظهرها وأخذ طعاماً له ودرعين بأداتهما ، فأتى قتادة النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فأخبره بذلك ، فدعا بشيراً فسأله فأنكر ، ورمى بذلك لَبِيد بن سهل ، رجلاً من أهل الدار ذا حسب ونسب ، فنزل القرآن بتكذيب بشير وبراءة لَبِيد : { إِنّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ } الآيات ، فلما نزل القرآن في بُشير وعثر عليه ، هرب إلى مكة مرتداً ، فنزل على سلافة بنت سعد ، فجعل يقع في النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وفي المسلمين ، فنزل فيه : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرّسُولَ } [ النساء : من الآية 115 ] الآية ، وهجاه حسان بن ثابت حتى رجع ، وكان ذلك في شهر ربيع سنة أربع من الهجرة . انتهى .
وأما إيضاح ألفاظ الآيات وثمراتها فنقول : قوله تعالى : { لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ } أي : بما عرفك وأعلمك وأوحى به إليك ، سمي ذلك العلم بالرؤية ، لأن العلم اليقيني المبرأ عن جهات الريب يكون جارياً مجرى الرؤية ، في القوة والظهور .
قال الزمخشريّ : وعن عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله ، فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ولكن ليجتهد رأيه ، لأن الرأي من رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كان مصيباً ، لأن الله كان يريه إباه ، وهو منا الظن والتكلف .
قلت : روى هذا الأثر البيهقيّ في " المدخل " وابن عبد البر ، بنحو ما ذكر .
قال ابن الفرس : في هذه الآية إثبات الرأي والقياس ، وتعقبه السيوطيّ بما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال : إياكم والرأي ، فإن الله تعالى قال لنبيه : { لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ } ولم يقل : بما رأيت .
ثم قال السيوطيّ : وقال غيره : يحتمل قوله : { بِمَا أَرَاكَ اللّهُ } الوحي والاجتهاد معاً . انتهى .
وقال ابن كثير : احتج من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان صَلّى اللهُ عليّه وسلّم له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية ، وبما ثبت في الصحيحين عَنْ أُمّ سَلَمَة ، أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ جَلَبَة خَصْم بِبَابِ حُجْرَته ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ : < أَلَا إِنَّمَا أَنَا بَشَر ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوٍ مِمَّا أَسْمَع ، وَلَعَلَّ أَحَدكُمْ أَنْ يَكُون أَلْحَن بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْض ، فَأَقْضِي لَهُ ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِحَقِّ مُسْلِم فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَة مِنْ النَّار ، فَلْيَحْمِلْهَا أَوْ لِيَذَرهَا > .
ورواه الإمام أحمد عنها أيضاً بلفظ : جَاءَ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَار يَخْتَصِمَانِ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَارِث بَيْنهمَا قَدْ دُرِسَتْ ، لَيْسَ بينهمَا بَيِّنَة ، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَر ، وَلَعَلَّ بَعْضكُمْ أَلْحَن بِحُجَّتِهِ ( أو قد قال : لحجته ) مِنْ بَعْض ، فَإني أَقْضِي بَيْنكُمْ عَلَى نَحْو مَا أَسْمَع ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقّ أَخِيهِ شَيْئاً فَلَا يَأْخُذهُ ، فَإِنَّمَا أَقْطَع لَهُ قِطْعَة مِنْ النَّار ، يَأْتِي بِهَا إِسطَاماً فِي عُنُقه يَوْم الْقِيَامَة > .
فَبَكَى الرَّجُلَانِ وَقَالَ كُلّ مِنْهُمَا : حَقِّي لِأَخِي ، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < أَمَا إِذَا قُلْتُمَا ، فَاذْهَبَا فَاقْتَسِمَا ثُمَّ تَوَخَّيَا الْحَقّ بَيْنكُمَا ، ثُمَّ اِسْتَهِمَا ، ثُمَّ لِيَحْلِل كُلّ مِنْكُمَا صَاحِبه > .
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَزَادَ : < إِنِّي إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنكُمَا بِرَأْيِي ، فِيمَا لَمْ يَنْزِل عَلَيَّ فِيهِ > . انتهى .
قال السيوطيّ : وفي الآية الرد على من أجاز أن يكون الحاكم غير عالم ، لأن الله تعالى فوّض الحكم إلى الاجتهاد ، ومن لا علم عنده كيف يجتهد ؟ انتهى .
وقوله تعالى : { وَلاَ تَكُن لّلْخَآئِنِينَ } أي : لأجلهم والذب عنهم ، وهم طعمة و من يعينه من قومه على ما تقدم .
{ خَصِيماً } أي : مخاصماً ، وفيه أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق .
وقوله تعالى : { وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ } أي : مما قلت لقتادة ، كما تقدم مفسراً .
قال الرازيّ : تمسك بهذه الآية من يرى جواز صدور الذنب من الأنبياء ، وقالوا : لو لم يقع من الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ذنب لما أمر بالاستغفار ، ثم أجاب عن ذلك بوجوه .
وقال القاضي عياض في " الشفا " : إن تصرف الأنبياء عليهم السلام بأمور لم ينهوا عنها ولا أمروا بها ، ثم عوتبوا بسببها ، أو أتوها على وجه التأويل - إنما هي ذنوب بالإضافة إلى عليّ منصبهم وإلى كمال طاعتهم ، لا أنها كذنوب غيرهم ومعاصيهم ، وأطال في هذا المقام وأطاب ، ثم قال : وأيضاً ، فإن في التوبة والاستغفار معنى آخر لطيفاً أشار إليه بعض العلماء ، وهو استدعاء محبة الله ، قال الله تعالى : { إِنّ اللّهَ يُحِبّ التّوّابِينَ وَيُحِبّ المتَطَهّرِينَ } [ البقرة : من الآية 222 ] . انتهى .
وقوله تعالى : { وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ } أي : يخونونها بالمعصية ، جعلت معصية العصاة خيانة منهم لأنفسهم ، كما جعلت ظلماً لها لرجوع ضررها إليهم .
قال الرازيّ : واعلم أن في الآية تهديداً شديداً ، وذلك لأن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لما مال طبعه قليلاً إلى جانب طعمة ، وكان في علم الله أن طعمة كان فاسقاً ، فالله تعالى عاتب رسوله على ذلك القدر من إعانة المذنب ، فكيف حال من يعلم من الظالم كونه ظالماً ، ثم يعينه على ذلك الظلم ، بل يحمله عليه ويرغبه فيه أشد الترغيب ؟ وإنما قيل للخائنين ( ويختانون ) مع أن الخائن واحد ، لأن المراد به هو ومن عاونه من قومه ، وهم يعلمون أنه سارق ، أو ذكر بلفظ الجمع ليتناوله وكل من خانه خيانته ، كما أنه إنما ذكر بلفظ المبالغة في قوله تعالى : { إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ خَوّاناً أَثِيماً } لأنه تعالى علم منه أنه مفرط في الخيانة وركوب المآثم ، ويدل له أنه هرب إلى مكة وارتد ، كما أسلفنا ، قيل : إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أنها لها أخوات ، وعن عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ، أنه أمر بقطع يد سارق ، فجاءت أمه تبكي وتقول : هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه ، فقال : كذبتِ ، إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة .
وقوله تعالى : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ } أي : يستترون حياءً منهم وخوفاً من ضررهم .
{ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ } فلا يستحيون منه : { وَهُوَ مَعَهُمْ } أي : وهو عالم بهم مطلع عليهم لا يخفى عليهم خافٍ من سرهم .
قال الزمخشريّ : وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياء والخشية من ربهم ، مع علمهم ، إن كانوا مؤمنين ، أنهم في حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة ، وليس إلا الكشف الصريح والافتضاح .
وقوله تعالى : { إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ } أي : يدبرون ويزورون الحلف الكاذب ورمي البريء وشهادة الزور .
وقوله تعالى : { هَاأَنتُمْ هَؤُلاء } ، الآية .
المجادلة : أشد المخاصمة ، والمعنى هَبُوا أنكم خاصمتم عن السارق وقومه في الدنيا ، فمن يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه ؟ .
وقوله تعالى : { أَم مّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } حافظاً ومحامياً من بأس الله تعالى وانتقامه .
قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة هذه الآيات وجوب الحكم من غير محاباة ولا ميل ، والنهي عن التعصب والمجادلة عن كل خائن وعاص ، ويدل تقييد النهي عن الجدل بالذين يختانون أنفسهم ، على إباحة المجادلة . انتهى .
واعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد في هذا الباب ، أتبعه بالدعوة إلى التوبة بقوله سبحانه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلم نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يجدِ اللّهَ غَفُوراً رّحِيماً } [ 110 ]
{ وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً } أي : قبيحاً متعدياً ، يسوء به غيره ، كما في القصة .
{ أَوْ يَظْلم نَفْسَهُ } فيخصها بالمعصية .
{ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ } بالتوبة الصادقة : { يجدِ اللّهَ غَفُوراً } لذنوبه كائنة ما كانت : { رّحِيماً } أي : متفضلاً عليه .
قال أبو السعود : وفيه مزيد ترغيب لطعمة وقومه في التوبة والاستغفار ، لما أن مشاهدة التائب لآثار المغفرة والرحمة نعمة زائدة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [ 111 ]
{ وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ } أي : فليتحرز عن تعريضها للعقاب : { وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مّبِيناً } [ 112 ]
{ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً } الخطيئة الذنب ، أو ما تعمد منه ، والإثم الذنب أيضاً ، وأن يعلم ما لا يحل له ، كذا في " القاموس " .
قال الراغب : الإثم أعم من العدوان ، وقال غيره : هو فعل مبطئ عن الثواب .
{ ثُمّ يَرْمِ بِهِ } أي : يقذف به : { بَرِيئاً } أي : مما رماه به ، كما اتهم بنو أبيرق بصنيعهم القبيح ، ذلك الرجل الصالح ، وهو لَبِيد بن سهل ، كما تقدم ، وقد كان بريئاً .
{ فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً } وهو الكذب على الغير بما يبهت منه .
{ وَإِثْماً مّبِيناً } أي : بَيِّناً فاحشاً ، لأنه بكسب الإثم ، آثم ، وبرمي البريء ، باهت ، فهو جامع بين الأمرين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمّت طّآئِفَةٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلّوكَ وَمَا يُضِلّونَ إِلاّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلمكَ مَا لم تَكُنْ تَعْلم وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } [ 113 ]
{ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ } بإعلامك ما هم عليه بالوحي وتنبيهك على الحق .
{ لَهَمّت طّآئِفَةٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلّوكَ } برمي البريء والمجادلة عن الخائنين ، يعني أسير بن عروة وأصحابه ، يعني بذلك لما أثنوا على بني أبيرق ولاموا قتادة بن النعمان في كونه اتهمهم وهم صلحاء برءاء ، ولم يكن الأمر كما أنهوه إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .
{ وَمَا يُضِلّونَ إِلاّ أَنفُسَهُمْ } لأن وباله عليهم .
{ وَمَا يَضُرّونَكَ مِن شَيْءٍ } لأنك إنما عملت بظاهر الحال وما كان يخطر ببالك أن الحقيقة على خلاف ذلك ، ولما أنزل تعالى فصل القضية وجلاها لرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، امتن عليه بتأييده إياه في جميع الأحوال بقوله : { وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } أي : القرآن والسنة .
{ وَعَلمكَ } من أمور الدين والشرائع : { مَا لم تَكُنْ تَعْلم } أي : قبل نزول ذلك عليك ، كقوله : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ } [ الشورى : من الآية 52 ] الآية ، وقال تعالى : { وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلّا رَحْمَةً مّن رّبّكَ } [ القصص : 86 ] ، ولهذا قال تعالى : { وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } أي : فيما علمك وأنعم عليك .
قال الرازيّ : هذا من أعظم الدلائل على أن العلم أشرف الفضائل والمناقب ، ثم أشار تعالى إلى ما كانوا يتناجون فيه حين يبيتون ما لا يرضى من القول ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نّجْوَاهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } [ 114 ]
{ لاّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نّجْوَاهُمْ } أي : مساررتهم ، والسياق ، وإن دل على مناجاة بعض قوم ذلك السارق مع بعض ، إلا أنها في المعنى عامة ، والمراد : لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث ، ثم استثنى النجوى في أعمال الخير بقوله سبحانه وتعالى : { إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ } أي : إلا في نجوى من أمر ، بخفية عن الحاضرين ، بصدقة ليعطيها سراً ، يستر به عار المتصدق عليه .
{ أَوْ مَعْرُوفٍ } أي : بطاعة الله وأعمال البر كلها معروف ، وسر التناجي فيه أن لا يأنف المأمور عن قبوله لو جهر به .
{ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النّاسِ } يعني الإصلاح بين المتخاصمين ليتراجعا إلى ما كانا فيه من الألفة والاجتماع ، على ما أذن الله فيه وأمر به ، وسر النجوى فيه أنه لو ظهر أولاً ربما لم يتم .
قال المهايمي : قيل في الحصر : الخير إما نفع جسماني وهو في الأمر بالصدقة ، أو روحاني وهو في الأمر بالمعروف ، وإما دفع وهو في الإصلاح ويمكن أن يقال : الخير إما نفع متعد من المأمور وهو الصدقة : أو لازم له وهو المعروف ، أو دفع ضرر متعد أو لازم له ، وهو الإصلاح ، وإنما تتم خيريتها إذا ابتغى بها رضاء الله تعالى كما قال : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء } أي : طلب .
{ مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ } يعني في الآخرة .
{ أَجْراً عَظِيماً } يساوي أجر الفاعل أو يفوقه ، وقد دلت الآية على الترغيب في الصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس ، وقد أكد تعالى الترغيب بقوله : { عَظِيماً } وأن النية فيها شرط لنيل الثواب ، لقوله تعالى : { ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ } وعلى أن كلام الإِنسَاْن عليه لا له ، إلا ما كان في هذا ونحوه ، كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مردويه بسنده إلى مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ خُنَيْسٍ [ في المطبوع حنيش ] قَالَ : دَخَلْنَا عَلَى سُفْيَان الثَّوْرِيّ نَعُودهُ فَدَخَلَ عَلَيْنَا سَعِيد بْن حَسَّان ، فَقَالَ لَهُ الثَّوْرِيّ : الْحَدِيث الَّذِي كُنْت حَدَّثْتنِيهِ عَنْ أُمّ صَالِح ارَدَّدَهُ عَلِيّ فَقَالَ : حَدَّثَتْنِي أُمّ صَالِح عَنْ صَفِيَّة بِنْت شَيْبَة عَنْ أُمّ حَبِيبَة قَالَتْ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < كَلَام اِبْن آدَم كُلّه عَلَيْهِ لَا لَهُ ، إِلَّا ذِكْر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ، أَوْ أَمْر بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْي عَنْ مُنْكَر > .
فَقَالَ سُفْيَان : أَوَمَا سَمِعْت اللَّه فِي كِتَابه يَقُول : { لَا خَيْر فِي كَثِير مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوف أَوْ إِصْلَاح بَيْن النَّاس } فَهُوَ هَذَا بِعَيْنِهِ ، أَوَمَا سَمِعْت اللَّه يَقُول : { يَوْم يَقُوم الرُّوح وَالْمَلَائِكَة صَفّاً لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن وَقَالَ صَوَاباً } [ النبا : 38 ] ، فَهُوَ هَذَا بِعَيْنِهِ ، أَوَمَا سَمِعْت اللَّه يَقُول فِي كِتَابه : { وَالْعَصْر إِنَّ الْإِنْسَان لَفِي خُسْر } إِلَخْ [ العصر : 1 - 2 ] فَهُوَ هَذَا بِعَيْنِهِ .
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيث التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَهْ مِنْ حَدِيث ابْنِ خُنَيْسٍ عَنْ سَعِيد بْن حَسَّان بِهِ ، وَلَمْ يَذْكُر أَقْوَال الثَّوْرِيّ إِلَى آخِرهَا .
ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ : حَدِيث غَرِيب [ حسن ] لَا يُعْرَف إِلَّا مِنْ حَدِيث اِبْن خُنَيْس
قلت : هو مقبول ، كما في " التقريب " لابن حجر ، فحسن حديثه .
وروى الجماعة عن أُمّ كُلْثُوم بِنْت عُقْبَة أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : < لَيْسَ الْكَذَّاب الَّذِي يُصْلِح بَيْن النَّاس فَيَنْمِي خَيْراً أَوْ يَقُول خَيْراً > .
وَقَالَتْ : لَمْ أَسْمَعهُ يُرَخِّص فِي شَيْء مِمَّا يَقُولهُ النَّاس إِلَّا فِي ثَلَاث : فِي الْحَرْب ، وَالْإِصْلَاح بَيْن النَّاس ، وَحَدِيث الرَّجُل اِمْرَأَته ، وَحَدِيث الْمَرْأَة زَوْجهَا .
وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذيّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < أَلَا أُخْبِركُمْ بِأَفْضَل مِنْ دَرَجَة الصِّيَام وَالصَّلَاة وَالصَّدَقَة ؟ >
قَالُوا : بَلَى يَا رَسُول اللَّه .
قَالَ : < إِصْلَاح ذَات الْبَيْن > .
قَالَ : < وَفَسَاد ذَات الْبَيْن هِيَ الْحَالِقَة > .
قال الترمذيّ : حسن صحيح .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يُشَاقِقِ الرّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً } [ 115 ]
{ وَمَن يُشَاقِقِ الرّسُولَ } أي : يخالفه ويعاديه .
{ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَى } أي : اتضح له الحق .
{ وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤْمِنِينَ } أي : غير ما هم مستمرون عليه من عقد وعمل ، وهو الدين القيّم .
{ نُوَلّهِ مَا تَوَلّى } أي : نجعله والياً مرجحاً ما تولاه من المشاقة ومتابعة غير سبيلهم فنزينه له تزين الكفر على الكفرة ، استدراجاً له ليكون دليلاً على شدة العقوبة في الآخرة ، كما قال تعالى : { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لَا يَعْلمونَ } [ القلم : 44 ] ، وقال تعالى : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } [ الصف : 5 ] وقال سبحانه : { وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأنعام : 110 ] .
{ وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ } أي : ندخله إياها .
{ وَسَاءتْ مَصِيراً } وجعل النار مصيره في الآخرة ، لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا النار يوم القيامة ، كما قال تعالى : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } [ سورة الصافات : 22 ] ، وقال تعالى : { وَرَأَى المجْرِمُونَ النّارَ فَظَنّوا أَنّهُم مّوَاقِعُوهَا وَلم يجدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً } [ الكهف : 53 ] .
قال الإمام ابن كثير : قوله تعالى : { وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤْمِنِينَ } هذا ملازم للصفة الأولى ، ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقاً ، فإنه قد ضمنت لهم العصمة ، في اجتماعهم ، من الخطأ ، تشريفاً لهم وتعظيماً لنبيهم ، وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك ، ومن العلماء من ادعى تواتر معناها ، والذي عوّل عليه الشافعيّ رحمه الله في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته ، هذه الآية الكرمية ، بعد التروّي والفكر الطويل ، وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها ، وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة منها على ذلك . انتهى .
وقال بعض مفسري الزيدية : الآية دلت على أن مشاقة الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كبيرة ، وقد تبلغ إلى الكفر ، ودلت على أن الجهل عذر ، لقوله : { مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَى } ودلت على أن مخالفة الإجماع كبيرة ، وأنه دليل كالكتاب والسنة لكن إنما يكون كبيرة إذا كان نقله قطعياً ، لا آحادياً . انتهى .
وقال المهايمي : في الآية دليل على حرمة مخالفة الإجماع ، لأنه عز وجل رتب الوعيد الشديد على مشاقة الرسول ومخالفة الإجماع ، فهو إما لحرمة أحدهما وهو باطل ، إذ يقبح أن يقال من شرب الخمر وأكل الخبز استوجب الحد ، إذ لا دخل لأكل الخبز فيه ، أولحرمة الجمع بينهما وهو أيضاً باطل ، لأن مشاقة الرسول حرام وإن لم يضم إليها غيرها ، أو لحرمة كل واحد منهما وهو المطلوب . انتهى .
ونقل الخفاجي قصة استدلال الشافعيّ من هذه الآية عن الإمام المزني قال : كنت عند الشافعيّ يوماً ، فجاءه شيخ عليه لباس صوف وبيده عصا ، فلما رآه ذا مهابة استوى جالساً ، وكان مستنداً لأسطوانة ، فاستوى وسوى ثيابه ، فقال له : ما الحجة في دين الله ؟ قال : كتابه قال : وماذا ؟ قال : سنة نبيه ، قال وماذا ؟ قال : اتفاق الأمة ، قال : من أين هذا الأخير ؟ أهو في كتاب الله ؟ فتدبر ساعة ساكتاً ، فقال له الشيخ : أجّلتك ثلاثة أيام بلياليهن ، فإن جئت بآية ، وإلا فاعتزل الناس .
فمكث ثلاثة أيام لا يخرج وخرج في اليوم الثالث بين الظهر والعصر ، وقد تغير لونه ، فجاءه الشيخ وسلم عليه وجلس ، وقال : حاجتي ، فقال : نعم ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم ، قال الله عز وجل : { وَمَن يُشَاقِقِ الرّسُولَ } - إلى آخر الآية ، لَمْ ُيصله جهنم ، على خلاف المؤمنين ، إلا واتباعهم فرض ، قال : صدقت ، وقام وذهب .
وروي عنه أنه قال : قرأت القرآن في يوم وفي كل ليلة ثلاث مرات ، حتى ظفرت بها .
وأورد الراغب عليه ، أنه لا حجة فيها على ما ذكره ، بأن كل موصوف علق به ، حكم فالأمر باتباعه يكون في مأخذ ذلك الوصف ، فإذا قيل اقتد بالمصلي فالمراد في صلاته ، فكذا سبيل المؤمنين ، يعني به سبيلهم في الإيمان ، لا غير ، فلا دلالة في الآية على اتباعهم في غيره .
ورُدَّ بأنه تخصيص بما يأباه الشرط الأول ، ثم إنه إذا كان مألوف الصائمين الاعتكاف ، تناول الأمر باتباعهم ذلك أيضاً ، فكذلك يتناول ما هو مقتضى الإيمان فيما نحن فيه ، فسبيل المؤمنين ، وإن فسر بما هم عليه من الدين ، يعمّ الأصول والفروع ، الكل والبعض ، على أن الجزاء مرتب على كل من الأمرين المذكورين في الشرط ، لا على المجموع ، للقطع بأن مجرد مشاقة الرسول كافية في استحقاق الوعيد ، معنى على أن ترك اتباع سبيل المؤمنين اتباع لغير سبيل المؤمنين ، لأن المكلف لا يخلو من اتباع سبيل ، البتة . انتهى .
ورأيت للإمام تقي الدين ابن تيمية في كتابه " الفرقان بين الحق والباطل " مقالة بديعة في هذه الآية والإجماع ، أجال فيها جواد قلمه وأجاد ، وأطال وأطاب ، قال رحمه الله : ما يسميه ناس الفروع والشرع والفقه ، فهذا قد بينه الرسول أحسن بيان ، فما بقي مما أمر الله به أو نهى عنه أو حلله أو حرمه إلا بيّن ذلك ، وقد قاله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [ المائدة : 3 ] .
وقال تعالى : { مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ يوسف : 111 ] ، وقال تعالى : { وَنَزّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لّكُلّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلمسْلمينَ } [ النحل : 89 ] ، وقال تعالى : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللّهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّي عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ الشورى : 10 ] ، وقال تعالى : { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتّى يُبَيّنَ لَهُم مّا يَتّقُونَ } [ التوبة : 115 ] ، فقد بين للمسلمين جميع ما يتقونه ، كما قال : { وَقَدْ فَصّلَ لَكُم مّا حَرّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } [ الأنعام : 119 ] ، وقال تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ } [ النساء : 59 ] ، وهو الرد إلى كتاب الله ، أو إلى سنة الرسول ، بعد موته .
وقوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ } شرط ، والفعل نكرة في سياق الشرط ، فأي شيء تنازعوا فيه ردُّوه إلى الله والرسول ، ولو لم يكن بيان الله والرسول فاصلاً للنزاع لم يؤمروا بالرد إيه ، وقد جاء عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال : < تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك > .
وعن عُمَر بن الخطاب - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - كلام نحو هذا ، والحاصل أن الكتاب والسنة وافيان بجميع أمور الدين ، وأما إجماع الأمة فهو في نفسه حق ، لا تجتمع الأمة على ضلالة ، وكذلك القياس الصحيح حق ، فإن الله بعث رسله بالعدل وأنزل الميزان مع الكتاب ، والميزانُ يتضمن العدل وما يعرف به العدل ، وقد فسروا إنزال ذلك بأن ألهم العباد معرفة ذلك ، والله ورسوله يسوي بين المتماثلين ويفرق بين المختلفين وهذا هو القياس الصحيح ، وقد ضرب الله في القرآن من كل مثل ، وبين بالقياس الصحيح وهي الأمثال المضروبة ، ما بينه من الحق ، لكن القياس الصحيح يطابق النص ، فإن الميزان يطابق الكتاب ، والله أمر نبيه أن يحكم بالعدل ، فهو أنزل الكتاب ، وإنما أنزل الكتاب بالعدل ، قال تعالى : { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ } [ المائدة : 49 ] .
{ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } [ المائدة : 42 ] .
وأما إجماع الأمة فهو حق ، لا تجتمع الأمة ، ولله الحمد ، على ضلالة ، كما وصفها الله بذلك في الكتاب والسنة ، فقال تعالى : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } [ آل عِمْرَان : 110 ] ، وهذا وصف لهم بأنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر ، فلو قالت الأمة في الدين بما هو ضلال لكانت لم تأمر بالمعروف في ذلك ، ولم تنه عن المنكر فيه ، وقال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] ، والوسط العدل الخيار وقد جعلهم الله شهداء على الناس وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول .
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مُرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها خيراً ، فقال : < وجبت > .
ثم مُرّ عليه بجنازة فأثنوا عليها شراً ، فقال : < وجبت > .
قالوا : يا رسول الله ! ما قولك وجبت ؟ قال : < هذه الجنازة أثنيتم عليها خيراً ، فقلت : وجبت لها الجنة ، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شراً ، فقلت : وجبت لها النار أنتم شهداء الله في الأرض > .
فإذا كان الرب قد جعلهم شهداء لم يشهدوا بباطل ، فإذا شهدا أن الله أمر بشيء فقد أمر به ، وإذا شهدوا أن الله نهى عن شيء فقد نهى عنه ، ولو كان يشهدون بباطل أو خطأ لم يكونوا شهداء الله في الأرض .
وقال تعالى : { وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيّ } [ لقمان : 15 ] ، والأمة منيبة إلى ربها فيجب اتباع سبيله . وقال تعالى : { وَالسّابِقُونَ الأَوّلُونَ مِنَ المهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [ التوبة : 100 ] ، فرضي عمن اتبع السابقين إلى يوم القيامة ، فدل على أن متابعتهم عامل بما يرضي الله ، والله لا يرضى إلا بالحق لا بالباطل ، وقال تعالى : { وَمَن يُشَاقِقِ الرّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً } والشافعي ، - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ، لما جرد الكلام في أصول الفقه احتج بهذه الآية على الإجماع ، كما كان يسمع هو وغيره من مالك ، ذكر ذلك عن عُمَر بن عبد العزيز ، والآية دلت على أن متبع غير سبيل المؤمنين ، مستحق للوعيد كما أن مشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ، مستحق للوعيد ، ومعلوم أن هذا الوصف يوجب الوعيد بمجرده ، فلو لم يكن الوصف الآخر يدخل في ذلك لكان لا فائدة في ذكره ، وهنا للناس ثلاثة أقوال :
قيل : اتباع غير سبيل المؤمنين هو بمجرده مخالفة الرسول المذكورة في الآية .
وقيل : بل مخالفة الرسول مستقلة بالذم ، فكذلك اتباع غير سبيلهم مستقل بالذم .
وقيل : بل اتباع غير سبيل المؤمنين يوجب الذم كما دلت عليه الآية .
لكن هذا لا يقتضي مفارقته للأول بل قد يكون مستلزماً له ، فكل متابع غي سبيل المؤمنين هو نفس الأمر مشاق للرسول مبتغ غير سبيل المؤمنين ، وهذا كما في طاعة الله والرسول ، فإن طاعة الله واجبة وطاعة الرسول واجبة ، وكل واحد من معصية الله ومعصية الرسول موجب للذم ، وهما متلازمان ، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله ، وفي الحديث الصحيح عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن عصى أميري فقد عصاني > .
ثم قال تقي الدين رحمه الله ( بعد ثلاثة أوراق ) : ومن الناس من يقول : إنها لا تدل على مورد النزاع ، فإن الذم فيها لمن جمع الأمرين ، وهذا لا نزاع فيه ، أو لمن اتبع غير سبيل المؤمنين التي بها كانوا مؤمنين ، وهي متابعة الرسول ، وهذا لا نزاع فيه ، أو إن سبيل المؤمنين هو الاستدلال بالكتاب والسنة ، وهذا لا نزاع فيه ، فهذا ونحوه قول من يقول : لا تدل على محل النزاع ، وآخرون يقولون : بل تدل على وجوب اتباع المؤمنين مطلقاً ، وتكلفوا لذلك ما تكلفوه ، كما قد عرف كلامهم ولم يجيبوا عن أسئلة أولئك بأجوبة شافية ، والقول الثالث الوسط : إنها تدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين وتحريم اتباع غير سبيلهم ، ولكن مع تحريم مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى ، وهو يدل على ذم كل من هذا وهذا ، كما تقدم ، لكن لا ينفي تلازمهما ، كما ذكر في طاعة الله والرسول ، وحينئذ يقول : الذم إما أن يكون حقاً لمشاقة الرسول فقط ، أو باتباع غير سبيلهم فقط ، أو أن يكون الذم لا يلحق بواحد منهما ، بل بهما إذا اجتمعا ، أو لحق الذم بكل منهما وإن انفرد عن الآخر ، أو بكل منهما لكونه مستلزماً للآخر ، والأولان باطلان ، لأنه لو كان المؤثر بأحدهما فقط ، كان ذكر الآخر ضائعاً لا فائدة فيه ، وكون الذم لا يلحق بواحد منهما باطل قطعاً ، فإن مشاقة الرسول موجبة للوعيد مع قطع النظر عمن اتبعه ، ولحوق الذم بكل منها وإن انفرد عن الآخر لا تدل عليه الآية ، فإن الوعيد فها إنما هو على المجموع ، بقي القسم الآخر ، وهو أن كلاً من الوصفين يقتضي الوعيد ، لأنه مستلزم للآخر ، كما يقال مثل ذلك في معصية الله والرسول ومخالفة القرآن والإسلام ، فيقال : من خالف القرآن والإسلام أو من خرج عن القرآن والإسلام فهو من أهل النار ، ومثله قوله : { وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً بَعِيداً } فإن الكفر بكل واد من هذه الأصول يستلزم الكفر بغيره ، فمن كفر بالله كفر بالجميع ، ومن كفر بالملائكة كفر بالكتب والرسل ، فكان كافراً بالله ، إذ كذب رسله وكتبه ، وكذلك إذا كفر باليوم الآخر كذب الكتب والرسل ، فكان كافراً ، وكذلك قوله : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لم تَلْبِسُونَ الْحَقّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقّ وَأَنتُمْ تَعْلمونَ } [ آل عِمْرَان : 71 ] ذمهم على الوصفين ، وكل منهما مقتض للذم ، وهما متلازمان ، ولهذا نهى عنهما جميعاً في قوله : { وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقّ وَأَنتُمْ تَعْلمونَ } فإن من لبس الحق بالباطل فغطاه به ، فغلط به ، لزم أن يكتم الحق الذي تبين أن هذا باطل ، إذ لو بينه زال الباطل الذي لبس به الحق ، فهكذا مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين ، من شَاقَّهُ ، فقد اتبع غير سبيلهم ، وهذا ظاهر ، ومن اتبع غير سبيلهم فقد شاقه أيضاً فإنه قد جعل له مدخلاً في الوعيد ، فدل على أنه وصف مؤثر في الذم ، فمن خرج عن إجماعهم فقد اتبع غير سبيلهم قطعاً ، والآية توجب ذم ذلك ، وإذا قيل : هي إنما ذمته مع مشاقة الرسول ، قلنا : لأنهما متلازمان ، وذلك لأن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصاً عن الرسول ، فالمخالف لهم مخالف للرسول .
كما أن المخالف للرسول مخالف لله ، ولكن هذا يقتضي أن كل ما أجمع عليه الرسول قد بينه الرسول ، وهذا هو الصواب ، فلا يوجد مسألة قط مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس ، ويعلم الإجماع فيستدل به ، كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص ، وهو دليل ثان مع النص ، كالأمثال المضروبة في القرآن ، وكذلك الإجماع دليل آخر ، كما يقال : قد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع فقد دل عليه الكتاب والسنة ، وما دل عليه القرآن فعن الرسول أخذ ، فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه ، ولا توجد مسالة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص ، وقد كان بعض الناس يذكر فيها الإجماع بلا نص كالمضاربة ، وليس كذلك بل المضاربة كانت مشهورة بينهم في الجاهلية ، لا سيما قريش ، فإن الأغلب كان عليهم التجارة ، وكان أصحاب الأموال يدفعونها إلى العمال ، ورسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قد سافر بمال غير مضاربة مع أبي سفيان وغيره ، فلما جاء الإسلام أقرها رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وكان أصحابه يسافرون بمال غيرهم مضاربة ، ولم ينه عن ذلك ، والسنة قوله وفعله وإقراره ، فلما أقرها كانت ثابتة بالسنة ، والأثر المشهور فيها عن عمر الذي رواه مالك في الموطأ ، ويعتمد عليه الفقهاء ، لما أرسل أبو موسى بمال أقرضه لا بنيه واتّجرا فيه وربحا ، وطلب عمر أن يأخذ الربح كله للمسلمين لكونه خصهما بذلك دون سائر الجيش ، فقال له أحدهما : لو خسر المال لكان علينا ، فكيف يكون الربح وعلينا الضمان ؟ فقال له بعض الصحابة : اجعله مضاربة ، فجعله مضاربة
وإنما قال ذلك لأن المضاربة كانت معروفة بينهم ، والعهد بالرسول قريب ، لم يحدث بعده ، فعلم أنها كانت معروفة بينهم على عهد الرسول ، كما كانت الفلاحة وغيرها من الصناعات كالخياطة والخرازة ، وعلى هذا فالمسائل المجمع عليها قد تكون طائفة من المجتهدين لم يعرفوا فيها نصاً فقالوا فيها باجتهاد الرأي الموافق للنص ، لكن كان النص عند غيرهم ، وابن جرير وطائفة يقولون : لا ينعقد الإجماع إلا من نص نقلوه عن الرسول ، مع قولهم بصحة القياس ، ونحن لا نشترط أن يكونوا كلهم علموا النص فنقلوه بالمعنى ، كما نقل الأخبار ، ولكن استقرينا موارد الإجماع فوجدنا كلها منصوصة ، وكثر من العلماء لم يعلم النص وقد وافق الجماعة ، كما أنه قد يحتج بقياس ، وفيها إجماع لم يعلمه فيوافق الإجماع ، كما يكون في المسألة نص خاص وقد استدل فيها بعموم ، كاستدلال ابن مسعود وغيره بقوله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ } [ الطلاق : 4 ] وقال ابن مسعود : سورة النساء القصرى نزلت بعد الطولى ، أي : بعد البقرة .
وقوله : { أَجَلُهُنّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ } يقتضي انحصار الأجل في ذلك ، فلو أوجب عليها أن تعتد بأبعد الأجلين لم يكن أجلها أن تضع حملها ، وعليّ وابن عباس وغيرهما أدخلوها في عموم الآيتين ، وجاء النص الخاص في قصة سبيعة الأسلمية بما يوافق قول ابن مسعود ، وكذلك ، لما تنازعوا في المفوضة إذا ما تزوجها هل لها مهر المثل ، أفتى ابن مسعود فيها برأيه أن لها مهر المثل ، ثم رووا حديث بروع بنت واشق بما يوافق ذلك ، وقد خالفه عليّ وزيد وغيرهما ، فقالوا : لا مهر لها ، فثبت أن بعض المجتهدين قد يفتي بعموم أو قياس ، ويكون في الحادثة نص خاص لم يعلمه فيوافقه ، ولا يُعلم مسألة واحدة اتفقوا على أنه لا نص فيها ، بل عامة ما تنازعوا فيه كان بعضهم يحتج فيه بالنصوص وأولئك يحتجون بنص ، كالمتوفى عنها الحامل ، هؤلاء احتجوا بشمول الآيتين لها ، والآخرون قالوا : إنما تدخل في آية الحمل فقط ، وإن آية الشهور في غير الحامل ، كما أن آية القروء في غير الحامل ، وكذلك لما تنازعوا في الحرام احتج من جعله يميناً بقوله : { لم تُحَرّمُ مَا أَحَلّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلّةَ أَيْمَانِكُمْ } [ التحريم : 1 - 2 ] .
وكذلك تنازعوا في المبتوتة هل لها نفقة أو سكنى ، احتج هؤلاء بحديث فاطمة وبأن السكنى التي في القرآن للرجعية ، وأولئك قالوا : بل هي لهما ، ودلالات النصوص قد تكون خفية ، فخص الله بفهمها بعض الناس ، كما قال عليّ : إلاّ فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه ، وقد يكون النص بيّناً ويذهل المجتهد عنه ، كتيمم الجنب ، فإنه بيّن في القرآن في آيتين ، ولما احتج أبو موسى على ابن مسعود بذلك قال الحاضر : ما درى عبد الله ما يقول ، إلا أنه قال : لو أرخصنا لهم في هذا لأوشك أحدهم إذا وجد البرد أن يتيمم ، وقد قال ابن عباس وفاطمة بنت قيس وجابر : إن المطلقة في القرآن هي الرجعية بدليل قوله : { لَا تَدْرِي لَعَلّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } [ الطلاق : 1 ] وأي أمر يحدثه بعد الثلاثة ؟ وقد احتج طائفة على وجوب العمرة بقولهن : { وأتموا الحج والعمرة لله } [ البقرة : 196 ] ، واحتج بهذه الآية من منع الفسخ ، وآخرون يقولون : إنما أمر بالإتمام فقط ، وكذلك أمر الشارع أن يتم ، وكذلك في الفسخ قالوا : من فسخ العمرة إلى غير حج فلم يتمها ، أما إذا فسخها ليحج من عامه فهذا قد أتى بما تم مما شرع فيه فإنه شرع صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أصحابه عام حجة الوداع ، وتنازعوا في الذي بيده عقدة النكاح وفي قوله : { أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاء } [ النساء : 43 ] ، ونحو ذلك مما ليس هذا موضع استقصائه ، وأما مسألة مجردة اتفقوا على أنه لا يستدل فيها بنص جلي ولا خفي ، فهذا ما أعرفه ، والجدّ ، لما قال أكثرهم : إنه أب ، واستدلوا على ذلك بالقرآن بقوله : { كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الْجَنّةِ } [ الأعراف : 27 ] ، وقال ابن عباس : لو كانت الجن تظن أن الإنس تسمى أبا الأب جداً لما قالت : { وَأَنّهُ تَعَالَى جَدّ رَبّنَا } [ الجن : 3 ] ، نقول : إنما هو أب ، لكن أب أبعد من أب .
وقد روي عن عليّ وزيد أنهما احتجا بقياس ، فنم ادعى إجماعهم على ترك العمل بالرأي والقياس مطلقاً فقط غلط ، ومن ادعى أن المسائل ما لم يتكلم أحد منهم إلا بالرأي والقياس فقد غلط ، بل كان كل منهم يتلكم بحسب ما عنده من العلم ، فمن رأى دلالة الكتاب ذكرها ، ومن رأى دلالة الميزان ذكرها ، والدلائل الصحيحة لا تتناقض ، لكن قد يخفى وجه اتفاقهما أو ضعف أحدهما على بعض العلماء ، وللصحابة فهم في القرآن يخفى على أكثر المتأخرين ، كما أن لهم معرفة بأمور من السنة وأحوال الرسول لا يعرفها أكثر المتأخرين ، فإنهم شهدوا التنزيل وعاينوا الرسول ، وعرفوا من أقواله وأفعاله وأحواله ما يستدلون به على مرادهم ، ما لم يعرفه أكثر المتأخرين الذين لم يعرفوا ذلك فطلبوا الحكم مما اعتقدوه من إجماع أو قياس ، ومن قال من المتأخرين : إن الإجماع مستند معظم الشريعة ، فقد أخبر عن حاله ، فإنه لنقص معرفته بالكتاب والسنة احتاج إلى ذلك ، وهذا كقوله : إن أكثر الحوادث يحتاج فيها إلى القياس لعدم دلالة النصوص عليها ، فإنما هذا من قول من لا معرفة له بالكتاب والسنة ودلالتهما على الأحكام .
وقد قال الإمام أحمد - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : إنه ما من مسألة إلا وقد تكلم فيها الصحابة أو في نظيرها ، فإنه لما فتحت البلاد وانتشر الإسلام ، حدثت جميع أجناس الأعمال ، فتكلموا فيها بالكتاب والسنة ، وإنما تكلم بعضهم بالرأس في مسائل قليلة ، والإجماع لم يكن يحتج به عامتهم ولا يحتاجون إليه ، إذ هم أهل الإجماع ، فلا إجماع قبلهم ، لكن لما جاء التابعون كتب عمر إلى شريح : اقض بما في كتاب الله ، فإن لم تجد ، فبما في سنة رسول الله ، فإن لم تجد ، فبما قضى به الصالحون قبلك ، وفي رواية : فبما أجمع عليه الناس .
فقدّم عمر الكتاب ثم السنة : وكذلك ابن مسعود قال مثل ما قال عمر ، قدّم الكتاب ثم السنة ، ثم الإجماع ، وكذلك ابن عباس كان يفتي بما في الكتاب ثم بما في السنة ثم بسنة أبي بكر وعمر ، لقوله : < اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر > .
وهذه الآثار ثابتة عن عمر وابن مسعود وابن عباس ، وهم من أشهر الصحابة بالفتيا والقضاء ، وهذا هو الصواب ، ولكن طائفة من المتأخرين قالوا : يبدأ المجتهد ينظر أولاً في الإجماع ، فإن وجده لم يلتفت إلى غيره ، وإن وجد نصاً خالفه اعتقد أنه منسوخ لم يبلغه ، وقال بعضهم : الإجماع نسخه .
والصواب طريقة السلف ، وذلك لأن الإجماع إذا خالفه نص فلا بد أن يكون مع الإجماع نص معروف به أن ذاك منسوخ ، فأما أن يكون النص المحكم قد ضيعته الأمة ، وحفظت النص المنسوخ ، فهذا لا يوجد قط ، وهو نسبة الأمة إلى حفظ ما نهيت عن اتباعه ، وإضاعة ما أمرت باتباعه ، وهي معصومة عن ذلك ، ومعرفة الإجماع قد تتعذر كثيراً أو غالباً ، فمن الذي يحيط بأقوال المجتهدين ؟ بخلاف النصوص ، فإن معرفتها ممكنة متيسرة ، وهم إنما كانوا يقضون بالكتاب أولاً ، لأن السنة لا تنسخ الكتاب ، فلا يكون في القرآن شيء منسوخ بالسنة ، بل إن كان فيه منسوخ ، كان في القرآن ناسخه ، فلا يقدم غير القرآن عليه ، ثم إذا لم يجد ذلك طلبه في السنة ، ولا يكون في السنة شيء منسوخ إلا والسنة نسخته ، لا ينسخ السنة إجماع ولا غيره ، ولا تعارَض السنة بإجماع ، وأكثر ألفاظ الآثار ، فإن لم يجد فالطالب قد لا يجد مطلوبه في السنة ، مع أنها فيها ، وكذلك في القرآن ، فيجوز له إذا لم يجده في القرآن أن يطلبه في السنة ، وإذا كان في السنة لم يكن ما فيه السنة معارضاً لما في القرآن ، وكذلك الإجماع الصحيح لا يعارض كتاباً ولا سنة . انتهى كلامه قدس الله روحه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً بَعِيداً } [ 116 ]
{ إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمن يَشَاء } قد مر الكلام على هذه الآية الكريمة في أوائل هذه السورة مطولاً ، قالوا : تكريرها إما تأكيداً وتشديداً أو لتكميل قصة طعمة ، وقد مر موته كافراً ، أو إن لها سبباً آخر في النزول ، على ما رواه الثعلبي عن ابن عباس قال : جاء شيخ ، إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وقال : إني شيخ منهمك في الذنوب ، إلا أني لم أشرك بالله شيئاً منذ عرفته وآمنت به ، ولم أتخذ من دونه ولياً ، ولم أوقع المعاصي جراءة ، وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هرباً ، وإني لنادم تائب ، فما ترى حالي عند الله سبحانه وتعالى ؟ فنزلت ، واستظهر بعضهم الوجه الأخير قال : لأن التأكيد ، مع بعد عهده ، لا يقتضي تخصص هذا الموضع ، فلا بد له من مخصص .
وأغرب المهايميّ حيث جعلها مشيرة إلى شقي الآية الكريمة ، حيث قال : ثم أشار إلى أن وعيد مشاقة الرسول جازم دون مخالفة الإجماع ، لأن مشاقة الرسول دليل تكذيبه ، وهو مستلزم للشرك بالله ، إذ خلق المعجزات لا يكون إلا لكامل القدرة ، ولا يكون إلا لإله ، فإذا نفاها عن الله فقد أثبت له شريكاً وأن الله لا يغفر أن يشرك به ، ومخالفة الإجماع يجوز أن تكون مغفورة ، لأنه يغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، إذا لا تنتهي إلى الشرك ، وكل هذه المناسبات دالة دون ذلك قطعاً على دلالة هذه الآية ، على أن ما سوى الشرك مغفور قطعاً ، سواء حصلت التوبة أو لم تحصل .
وقد روى الترمذيّ عن علي - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أنه قال : ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية : { إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } - الآية : { وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً بَعِيداً } أي : عن الحق ، فإن الشرك أعظم أنواع الضلالة وأبعدها عن الصواب والاستقامة ، وإنما ذكر في الآية الأولى : { فَقَدِ افْتَرَى } لأنها متصلة بقصة أهل الكتاب ، ومنشأ شركهم كان نوع افتراء ، وهو دعوى التبني على الله تعالى بقولهم : { نحن أبناؤ الله وأحباؤه } قاله القاضي .
وفي ( السمين ) : ختمت الآية المتقدمة بقوله : { فَقَدِ افْتَرَى } وهذه بقوله : : { فَقَدْ ضَلّ } لأن الأولى في شأن أهل الكتاب وهم عندهم علم بصحة نبوته ، وأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع ، ومع ذلك فقد كابروا في ذلك وافتروا على الله ، وهذه في شأن قوم مشركين ليس لهم كتاب ولا عندهم علم ، فناسب وصفهم بالضلال ، وأيضاً قد تقدم هنا ذكر الهدى وهو ضد الضلال . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاّ شَيْطَاناً مّرِيداً } [ 117 ]
{ إن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } ما يعبد مشركو مكة ونحوهم من دون الله .
{ إِلاّ إِنَاثاً } قال الرازيّ : ( يدعون ) بمعنى ( يعبدون ) لأن من عبد شيئاً فإنه يدعوه عند احتياجه إليه . انتهى .
وقد روى الإمام أحمد وابن أبي شيبة وأصحاب السنن وغيرهم ، عن النعمان بن بشير ؛ أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَة > ، ورواه أبو يعلى عن البراء ، ورواه الترمذيّ عن أنس بلفظ : < الدُّعَاءَ مُخ الْعِبَادَة > .
وفي قوله تعالى : { إِلاّ إِنَاثاً } وجوه :
الأولى : ما رواه ابن أبي حاتم عن عائشة قالت : يعني أوثاناً ، وعليه فمرجع التسمية بالإناث كون أسماء غالبها مؤنثة ، كمناة والعزى واللات ونحوها ، ولأنهم كانوا يلبسونها أنواع الحلي ويزينونها على هيئات النسوان .
وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير ومجاهد وأبي مالك والسدي ومقاتل نحو ما لعائشة .
الوجه الثاني : أنه عنى الملائكة ، لأن بعضهم كان يعبد الملائكة ويقولون عنها : بنات الله .
روى ابن جرير عن الضحاك في الآية : قال المشركون ، للملائكة : بنات الله ، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ، قال : فاتخذوهن أرباباً وصوروهن جواري فحكوا وقلدوا وقالوا : هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نبعده ، يعنون الملائكة .
قال ابن كثير : وهذا التفسير شبيه بقول الله تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ اللّاتَ وَالْعُزّى } [ النجم : 27 ] الآيات وقال تعالى : { وَجَعَلُوا الملَائِكَةَ الّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرّحْمَنِ إِنَاثاً } [ الزخرف : 19 ] . . . . الآية ، وقال : { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنّةِ نَسَباً } [ الصافات : 137 ] انتهى .
وقال تعالى : { إِنّ الّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمّونَ الملَائِكَةَ تَسْميةَ الْأُنثَى } .
الوجه الثالث : ما رواه ابن أبي حاتم عن أُبي بن كعب في الآية قال : مع كل صنم جنية .
الرابع : قال عليّ بن أبي طلحة والضحاك عن ابن عباس والحسن : إناثاً يعني موتى ، قال الحسن : الإناث كل شيء ميت ليس فيه روح ، إما خشبة يابسة وإما حجر يابس .
رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، وفي " القاموس ، وشرحه " : الإناث جمع الأنثى ، وهو خلاف الذكر من كل شيء ، والموات الذي هو خلاف الحيوان ، كالشجر والحجر والخشب ، عن اللحياني ، وعن الفراء : تقول العرب اللات والعزى وأشباههما من الآلهة المؤنثة . انتهى .
وقال الإمام أبو البقاء : قوله تعالى : { إِلاّ إِنَاثاً } هو جمع أنثى على ( فعال ) ويراد به كل ما روح فيه من صخرة ومس ونحوهما ، ويقرأ ( أنثى ) على الإفراد ، ودل الواحد على الجمع ، ويقرأ ( أُنُثَاً ) مثل رسل يجوز أن تكون صفة مفردة مثل امرأة جنب ، ويجوز أن يكون جمع أنيث كقليب وقُلُب ، وقد قالوا : حديد أنيث ، من هذا المعنى ، ويقرأ أُنُثاً والواحد وثن وهو الصنم وأصله وثن ، في الجمع كما في الواحد إلا أن الواو قلبت همزة لما انضمت ضماً لازماً وهو مثل أسَد وأسُد ، ويقرأ بالواو على الأصل جمعاً ، ويقرأ بسكون الثاء مع الهمزة والواو . انتهى .
قال البيضاوي : ولعله تعالى ذكرها بهذا الاسم تنبيهاً على أنهم يعبدون ما يسمونه إناثاً ، لأنه ينفعل ولا يفعل ، ومن حق المعبود أن يكون فاعلاً غير منفعل ، ليكون دليلاً على تناهي جهلهم وفرط حماقتهم .
{ وَإِن يَدْعُونَ } أي : ما يعبدون من دون الله .
{ إِلاّ شَيْطَاناً مّرِيداً } وهو إبليس لعنه الله لطاعتهم له في عبادتها ، وإذا أطاعوه فيما سوّل لهم فقد عبدوه ، كما قال تعالى : { أَلم أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لّا تَعْبُدُوا الشّيْطَانَ } [ يس : 60 ] وقال تعالى : { بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنّ أَكْثَرُهُم بِهِم مّؤْمِنُونَ } [ سبأ : 41 ] والمريد المتمرد العاتي الطاغي .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتّخِذَنّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مّفْرُوضاً } [ 118 ]
{ لّعَنَهُ اللّهُ } صفة ثانية لـ ( شيطاناً ) أي : أبعده الله عن رحمته ، فأراد إبعاد مَنْ أبعد بسببه .
{ وَقَالَ } حين أُبْعَد : { لَأَتّخِذَنّ مِنْ عِبَادِكَ } أي : الذي أبعدتني بسببهم أي : لأجعلن لي منهم : { نَصِيباً } أي : حظاً .
{ مّفْرُوضاً } أي : مقطوعاً ومقدراً من عبادتهم بأن يعبدوا غيرك ، أو يراؤا فيها ، أو يعجبوا بها ، أو يتلفوها في المظالم ، أو يحبطوها بالكفر بعدها .
قال العلامة أبو السعود ، قوله تعالى : { وَقَالَ } إلخ عطف على الجملة المتقدمة : أي : شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنة الله ، وهذا القول الشنيع الصادر عنه عند اللعن ، ولقد برهن على أن عبادة الأصنام غاية الضلال بطريق التعليل بأن ما يعبدونها ينفعل ولا يفعل فعلاً اختيارياً ، وذلك ينافي الألوهية غاية المنافاة ، ثم استدل عليه بأن ذلك عبادة للشيطان وهو أفظع الضلال من وجوه ثلاثة :
الأول : أنه منهمك في الغي لا يكاد يعلق بشيء من الخير والهدى ، فتكون طاعته ضلالاً بعيداً عن الحق .
والثاني : أنه ملعون لضلاله ، فلا تستتبع مطاوعته سوى اللعن والضلال .
والثالث : أنه في غاية السعي في إهلاكهم وإضلالهم ، فموالاة من هذا شأنه غاية الضلال ، فضلاً عن عبادته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلأُضِلّنّهُمْ وَلأُمَنّيَنّهُمْ وَلآمُرَنّهُمْ فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتّخِذِ الشّيْطَانَ وَلِيّا مّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مّبِيناً } [ 119 ]
{ وَلأُضِلّنّهُمْ } أي : عن الهدى .
{ وَلأُمَنّيَنّهُمْ } أي : الأماني الباطلة من طول الأعمار وبلوغ الآمال ، قال الرازيّ : إن الشيطان لما ادعى أنه يضل الخلق قال : { وَلأُمَنّيَنّهُمْ } وهذا يشعر بأنه لا حيلة له في الإضلال أقوى من الأماني في قلوب الخلق ، وطلب ما يورث شيئين : الحرص والأمل ، والحرص والأمل يستلزم أكثر الأخلاق الذميمة ، وهما كالأمرين اللازمين لجوهر الإِنسَاْن ، قال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان : الحرص والأمل > .
والحرص يستلزم ركوب أهوال الدنيا وأهوال الدين ، فإنه إذا اشتد حرصه على الشيء فقد لا يقدر على تحصيله إلا بمعصية الله وإيذاء الخلق ، وإذا طال أمله نسي الآخرة وصار غريقاً في الدنيا ، فلا يكاد يقدم على التوبة ولا يكاد يؤثر فيه الوعظ فيصير قلبه كالحجارة أو أشد قسوة .
{ وَلآمُرَنّهُمْ } أي : على خلاف أمرك إضلالاً لهم .
{ فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأَنْعَامِ } أي : فليقطعنها ويشقنها سِمَة وعلامة للبحائر والسوائب ليحرموها ، بعدما أحللتها ، قال الواحدي رحمه الله : التبتيك : ههنا هو قطع آذان البحيرة ، بإجماع المفسرين ، وذلك أنهم كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن ، وجاء الخامس ذكراً ثم تسيب وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها ، فأعفوا ظهرها من الركوب والحمل والذبح ، ولا يردونها عن ماء ولا مرعى ، وإذا لقيها المعيى المنقطع به لم يركبها ، وسوّل لهم إبليس أن هذا قربة وهي البحيرة .
قال ابن سيده : بحر الناقة والشاة يبحرها : شق أذنها بنصفين ، وقل بنصفين طولاً .
{ وَلآمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } أي : دين الله عز وجل ، ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وكثيرين ، وهذا كقوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ } [ الروم : 30 ] على قول من جعل ذلك أمراً ، أي : لا تبدلوا فطرة الله ، ودعوا الناس على فطرتهم .
كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ ، كَمَا تولد الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ ، هَلْ تُجدُّونَ بهَا مِنْ جَدْعَاءَ ؟ > .
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : قال : الله عز وجل : < إِنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاء فَجَاءَتْهُمْ الشَّيَاطِين فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينهمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْت لَهُمْ > .
وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < رأيت عَمْرو بن عامر الخُزَاعِي يجر قُصْبَه في النار ، وكان أول من سيّب السوائب وَبَحَر البحيرة > .
وروى الطبراني عن ابن عباس مرفوعاً : < أول من غير دين إبراهيم عَمْرو بن لُحيّ بن قمعة بن خندف ، أبو خزاعة > .
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس : أنه عنى بالآية خصي الدواب ، وقال أنس : منه الخصا .
وقد روى ابن عساكر عن ابن عمر قال : نهى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عن الإخصاء .
ورواه الإمام أحمد أيضاً عنه بلفظ : نهى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عن خصاء الخيل والبهائم .
وروى الطبراني عن ابن مسعود : نهى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أن يخصى أحد من ولد آدم .
وروى البيهقيّ عن ابن عباس : نهى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عن صبر الروح وخصاء البهائم .
وقال الحسن : عنى بالآية الوشم ( بالشين المعجمة ) أخرجه ابن أبي حاتم .
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة : نهى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عن الوشم .
وفي الصحيح عن ابن مسعود : < لَعَنَ اللَّه الْوَاشِمَات وَالْمُسْتَوْشِمَات وَالنَّامِصَات وَالْمُتَنَمِّصَات وَالْمُتَفَلِّجَات لِلْحُسْنِ ، الْمُغَيِّرَات خَلْق اللَّه عَزَّ وَجَلَّ > ثُمَّ قَالَ : أَلَا أَلْعَن مَنْ لَعَنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَعْنِي قَوْله : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } .
قال السيوطيّ في " الإكليل " : فيستدل بالآية على تحريم الخصاء والوشم وما يجري مجراه ، من الوصل في الشعر ، والتفلج ، وهو تفريق الأسنان ، والتنميص ، وهو نتف الشعر في الوجه . انتهى .
قال بعض الزيدية : ويحلق بالوشر ما يفعل في الخد من الشرط للزينة ، وحكى الزجاج عن بعضهم ، في معنى الآية : إن الله تعالى خلق الأنعام ليركبوها ويأكلوها ، فحرموها على أنفسهم كالبحائر والسوائب والوصائل ، وخلق الشمس والقمر والنجوم مسخرة للناس ينتفعون بها ، فعبدها المشركون فغيروا خلق الله ، ولا يخفى أن عموم الآية يصدق على جميع المعاني ، إذ كلها من تغيير خلق الله ، فلا مانع من حمل الآية عليها .
قال البيضاوي : قوله : { فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } أي : عن وجهه وصورته ، أو صفته ، ويندرج فيه ما قيل من فقء عين الحامي ، وخصاء العبيد ، والوشم والوشر ، واللواط ، والسحق ، ونحو ذلك ، وعبادة الشمس والقمر ، وتغيير فطرة الله تعالى التي هي الإسلام ، واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالاً ، ولا يوجب لها من الله سبحانه وتعالى زلفى . انتهى .
وهذه الجملة المحكية عن اللعين مما نطق به لسانه مقالاً أو حالاً ، وما فيها من ( اللامات ) كلها للقسم ، والمأمور به في الموضعين محذوف ، ثقة بدلالة النظم عليه ، ثم حذر تعالى عن متابعته فقال : { وَمَن يَتّخِذِ الشّيْطَانَ وَلِيّا مّن دُونِ اللّهِ } بإيثار ما يدعو إليه ، مجاوزاً ولاية الله ، بترك ما يدعو إليه .
{ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مّبِيناً } أي : بيناً لمصيره إلى النار المؤبدة عليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشّيْطَانُ إِلاّ غُرُوراً } [ 120 ]
{ يَعِدُهُمْ } بأنهم الفائزون .
{ وَيُمَنّيهِمْ } أي : ما لا ينالونه .
{ وَمَا يَعِدُهُمُ الشّيْطَانُ إِلاّ غُرُوراً } باطلاً وضلالاً ، وإيهام نفعٍ مما ليس فيه إلا الضرر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَلاَ يجدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً } [ 121 ]
{ أُوْلَئِكَ } أي : أولياء الشيطان : { مَأْوَاهُمْ } مصيرهم ومآلهم يوم القيامة .
{ جَهَنّمُ وَلاَ يجدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً } معدلاً ومفَرّاً ، ثم ذكر تعالى حال السعداء والأتقياء ومآلهم من الكرامة فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللّهِ حَقّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً } [ 122 ]
{ وَالّذِينَ آمَنُواْ } أي : صدقت قلوبهم .
{ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ } أي : عملت جوارحهم بما أمروا به من الخيرات .
{ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا } أي : من تحت غرفها ومساكنها .
{ الأَنْهَارُ } أنهار الخمر والماء واللبن والعسل .
{ خَالِدِينَ فِيهَا } مقيمين في الجنة ، لا يموتون ولا يخرجون منها .
{ أَبَداً وَعْدَ اللّهِ حَقّا } صدقاً واقعاً لا محالة ، وكيف لا يكون وعد الله حقاً .
{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً } وعد وخيراً ، وهو استفهام بمعنى النفي ، أي : لا أحد أصدق منه قيلاً ، لا إله إلا هو لا رب سواه ، وكان رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقول في خطبته : < إِنَّ أَصْدَق الْحَدِيث كَلَام اللَّه ، وَخَيْر الْهَدْي هَدْي مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَشَرّ الْأُمُور مُحْدَثَاتهَا ، وَكُلّ مُحْدَثَة بِدْعَة ، وَكُلّ بِدْعَة ضَلَالَة ، وَكُلّ ضَلَالَة فِي النَّار > .
والمقصود من الآية معارضة المواعيد الشيطانية الكاذبة لقرنائه ، بوعد الله الصادق لأوليائه ، والمبالغة في توكيده ترغيباً للعباد في تحصيله ، و ( القيل ) مصدر ، كالقال والقول .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلا أَمَانِيّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يجزَ بِهِ وَلاَ يجدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّا وَلاَ نَصِيراً } [ 123 ]
{ لّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ } أي : ليس الأمر على شهواتكم وأمانيكم أيها المشركون أن تنفعكم الأصنام .
{ وَلا أَمَانِيّ أَهْلِ الْكِتَابِ } ولا على شهوات اليهود والنصارى حيث قالوا : { نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] : { لَن تَمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مّعْدُودَةً } [ البقرة : 80 ] : { مَن يَعْمَلْ سُوءاً يجزَ بِهِ } أي : من المشركين وأهل الكتاب بدليل قوله : { وَلاَ يجدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّا وَلاَ نَصِيراً } وهذا وعيد للكفار لأنه قال بعده :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ وَلاَ يُظْلمونَ نَقِيراً } [ 124 ]
{ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } جملة حالية ، و ( من ) الأولى زائدة عند الأخفش ، وصفة عند سيبويه ، أي : شيئاً من الصالحات .
{ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ وَلاَ يُظْلمونَ نَقِيراً } أي : لا ينقص من حسناتهم قدر نقير ، وهو النقرة التي على ظهر النواة ، وهذا على سبيل المبالغة في نفي الظلم ، ووعد بتوفية جزاء أعمالهم من غير نقصان ، والراجع في : { وَلاَ يُظْلمونَ } لعمال السوء وعمال الصالحات جميعاً ، وجاز أن يكون ذكره عند أحد الفريقين دليلاً على ذكره عند الآخر ، وقوله تعالى : { مَن يَعْمَلْ سُوءاً يجزَ بِهِ } وقوله : { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتَ } بعد ذكر تمني أهل الكتاب كقوله سبحانه : { بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } [ البقرة : 81 ] وقوله : { وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ } عقيب قوله : { وَقَالُواْ لَن تَمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مّعْدُودَةً } .
تنبيه :
ما قدمناه من أن الخطاب في قوله تعالى : { لّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ } للمشركين وأن قوله تعالى : { مَن يَعْمَلْ سُوءاً } أي : من أهل الكتاب والمشركين - هو الذي يدل عليه سياق الآية ونظمها الكريم كما بينا .
ورواه الطبري عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ، قال الأولان رضي الله عنهما : ( السوء ) ههنا هو الشرك .
وقال الحسن : { مَن يَعْمَلْ سُوءاً } هو الكافر ، ثم قرأ : { وَهَلْ نُجَازِي إِلّا الْكَفُورَ } .
ولما كان لعموم هذا الخطاب روعة ، وأيّ روعة ، أشفق كثير من الصحابة لأجله .
قال ابن كثير : وقد روي أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على كثير من الصحابة .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن نمير ، حدثنا إسماعيل عن أبي بكر بن أبي زهير قال : أُخْبِرْت أَنَّ أَبَا بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : يَا رَسُول اللَّه كَيْف الْفَلَاح بَعْد هَذِهِ الْآيَة : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيّ أَهْل الْكِتَاب مَنْ يَعْمَل سُوءاً يُجْزَ بِهِ } ، فَكُلّ سُوء عَمِلْنَا جُزِينَا بِهِ ؟ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < غَفَرَ اللَّه لَك ، يَا أَبَا بَكْر ، أَلَسْت تَمْرَض ؟ أَلَسْت تَنْصَب ؟ أَلَسْت تَحْزَن ؟ أَلَسْت تُصِيبك اللَّأْوَاء > . قَالَ : بَلَى قَالَ : < هُوَ مِمَّا تُجْزَوْنَ بِهِ > .
وعن أبي هريرة - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال : لما نزلت : { مَن يَعْمَلْ سُوءاً يجزَ بِهِ } شق ذلك على المسلمين ، فقال لهم رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < سَدِّدُوا وَقَارِبُوا ، فَإِنَّ فِي كُلّ مَا يُصَاب بِهِ الْمُسْلِم كَفَّارَة حَتَّى الشَّوْكَة يُشَاكهَا ، وَالنَّكْبَة يُنْكَبهَا > ، رواه سعيد بن منصور وأحمد ومسلم والترمذيّ والنسائي .
وقال عطاء بن يسار عَنْ أَبِي سَعِيد وَأَبِي هُرَيْرَة إِنَّهُمَا سَمِعَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : < مَا يُصِيب الْمُسْلِم مِنْ نَصَب ، وَلَا وَصَب ، وَلَا سَقَم ، وَلَا حَزَن ، حَتَّى الْهَمّ يُهِمّهُ إِلَّا كَفَّرَ اللَّه عنْ سَيِّئَاته > . أَخْرَجَاهُ .
وروى ابن مردويه عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : قِيلَ يَا رَسُول اللَّه : مَنْ يَعْمَل سُوءاً يُجْزَ بِهِ . قَالَ : < نَعَمْ ، وَمَنْ يَعْمَل حَسَنَة يُجْزَ بِهَا عَشْراً ، فَهَلَكَ مَنْ غَلَبَ وَاحِدَتُهُ عَشَرَاتِهِ > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مّمّنْ أَسْلم وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتّبَعَ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } [ 125 ]
{ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مّمّنْ أَسْلم وَجْهَهُ لله } أي : أخلص نفسه له تعالى فلم يتخذ رباً سواه .
{ وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي : آت بالحسنات تارك للسيئات ، أو آت بالأعمال الصالحة على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفيّ المستلزم لحسنها الذاتيّ ، وقد فسر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم الإحسان بقوله : < أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ > .
{ واتّبَعَ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ } الموافقة لدين الإسلام ، المتفق على صحتها وقبولها .
{ حَنِيفاً } أي : مائلاً عن الشرك قصداً ، أي : تاركاً له عن بصيرة ، ومقبل على الحق بكليته ، لا يصده عنه صادّ ، ولا يرده عنه رادّ .
قال الرازي : اعلم أنه تعالى لما شرط حصول النجاة والفوز بالجنة بكون الإنسان مؤمناً ، شرح الإيمان وبين فضله من وجهين :
أحدهما : أنه الدين المشتمل على إظهار كمال العبودية والخضوع والانقياد لله تعالى .
والثاني : أنه الدين الذي كان عليه إبراهيم عليه [ الصلاة ] والسلام ، وكل واحد من هذين الوجهين سبب مستقل بالترغيب في دين الإسلام .
أما الوجه الأول : فاعلم أن دين الإسلام مبنيّ على أمرين : الاعتقاد ، والعمل .
أما الاعتقاد [ في المطبوع : العتقاد ] : فإليه الإشارة بقوله : { أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } وذلك لأن الإسلام هو الانقياد والخضوع ، والوجه أحسن أعضاء الإنسان ، فالإنسان إذا عرف بقلبه ربه ، وأقر بربوبيته وعبودية نفسه ، فقد أسلم وجهه لله .
وأما العمل : فإليه الإشارة بقوله : { وَهُوَ مُحْسِنٌ } ويدخل فيه فعل الحسنات وترك السيئات ، فتأمل في هذه اللفظة المختصرة واحتوائها على جميع المقاصد والأغراض ، وأيضاً فقوله : { أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } يفيد الحصر ، معناه أنه أسلم نفسه لله ، وما أسلم لغير الله ، وهذا تنبيه على أن كمال الإيمان لا يحصل إلا عند تفويض جميع الأمور إلى الخالق ، وإظهار التبرئ من الحول والقوة ، وأيضاً ففيه تنبيه على فساد طريقة من استعان بغير الله ، فإن المشركين كانوا يستعينون بالأصنام ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، والدهرية والطبيعيون يستعينون بالأفلاك والكواكب والطبائع وغيرها .
واليهود كانوا يقولون في دفع عقاب الآخرة عنهم : إنهم من أولاد الأنبياء ، والنصارى كانوا يقولون : ثالث ثلاثة ، فجميع الفرق استعانوا بغير الله .
وأما الوجه الثاني : في بيان فضيلة الإسلام فهو أن محمداً صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إنما دعا الخلق إلى دين إبراهيم عليه [ الصلاة ] والسلام ، وقد اشتهر عند كل الخلق أن إبراهيم ما كان يدعو إلا إلى الله تعالى كما قال : { وَإِنّنِي بَرِيءٌ مّمّا تُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 19 ] ، وما كان يدعو إلى عبادة فلك ولا طاعة كوكب ، ولا سجدة لصنمٍٍ ، ولا استعانة بطبيعةٍٍ ، بل كان ديدنه الدعوة إلى الله والإعراض عن كل ما سوى الله ، وهكذا دعوة محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ثم إن شرع إبراهيم مقبول عند الكل ، وذلك لأن العرب لا يفتخرون بشيء كافتخارهم بالانتساب إلى إبراهيم ، وأما اليهود والنصارى فلا شك في كونهم مفتخرين به ، وإذا ثبت هذا لزم أن يكون شرع محمد مقبولاً عند الكل .
{ وَاتّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } أي : صفيّاً خالص المحبة له ، وإظهاره ، عليه السلام ، في موضع الإضمار ، لتفخيم شأنه والتنصيص على أنه الممدوح ، وسر هذه الجملة الترغيب في اتباع ملته عليه الصلاة والسلام ، فإن من بلغ من الزلفى عند الله تعالى مبلغاً مصححاً لتسميته خليلاً ، حقيق بأن يكون اتّباع طريقته أهم ما يمتد إليه أعناق الهمم ، وأشرف ما يرمق نحوه أحداق الأمم ، فإن درجة الخلة أرفع مقامات المحبة ، وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه ، كما وصفه [ صفه ] به في قوله : { وَإِبْرَاهِيمَ الّذِي وَفّى } [ النجم : 37 ] .
قال كثير من علماء السلف : أي : قام بجميع ما أمر به ، وفي كل مقام من مقامات العبادة ، فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير ، ولا كبير عن صغير ، وقال تعالى : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلماتٍٍ فَأَتَمّهُنّ } [ البقرة : 124 ] الآية ، وقال تعالى : { إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلم يَكُ مِنَ المشْرِكِينَ } [ النحل : 120 ] الآية .
والخليل ، لغةً : الصديق المختص ، وقال ابن الأعرابيّ : الخليل الصادق .
وقال الزجاج : هو المحب الذي لا خلل في محبته ، وبه فسر الآية ، أي : أحبه محبة تامة لا خلل فيها .
وقال ابن دريد : الخليل من أصفى المودة وأصحّها ، قال : ولا أزيد فيه شيئاً لأنها في القرآن . انتهى .
قال الرازيّ : ذكروا في اشتقاق الخليل وجوهاً :
منها أن خليل الإِنْسَاْن هو الذي يدخل في خلال أموره وأسراره ، والذي دخل حبه في خلال أجزاء قلبه ، ولا شك أن ذلك هو الغاية في المحبة ، قيل : لما أطلع الله إبراهيم عليه السلام على الملكوت الأعلى والأسفل ، ودعا القومَ مرة بعد أخرى إلى توحيد الله ، ومنعهم عن عبادة النجم والقمر والشمس ، ومنعهم عن عبادة الأوثان ، ثم سلّم للنيران ، وولده للقربان ، وماله للضيفان ، جعله الله إماماً للخلق ورسولاً إليهم ، وبشره بأن الملك والنبوة في ذريته ، فلهذه الاختصاصات سماه خليلاً ، لأن محبة الله لعبده عبارة عن إرادته لإيصال الخيرات والمنافع إليه . انتهى .
وقوله : ( لأن محبة الله لعبده إلخ منزع كلاميّ لا سلفيّ ) .
ثم قال الرازيّ : وعندي وجه آخر ، وهو أن جوهر الروح ، إذا كان مضيئاً مشرقاً علوياً قليل التعلق بالذات الجسمانية والأحوال الجسدانية ، ثم انضاف إلى مثل هذا الجوهر المقدس الشريف ، أعمال تزيده صقالة عن الكدورات الجسماني ، أفكار تزيده استنارة بالمعارف القدسية والجلايا الإلهية ، صار مثل هذا الإِنسَاْن متوغلاً في عالم القدس والطهارة ، متبرئاً عن علائق الجسم والحسّ ، ثم لا يزال هذا الإِنسَاْن يتزايد في هذه الأحوال الشريفة إلى أن يصير بحيث لا يرى إلا الله ، ولا يسمع إلا الله ، ولا يتحرك إلا بالله ، ولا يسكن إلا بالله ، ولا يمشي إلا بالله ، فكأن نور جلال الله قد سرى في جميع قواه الجسمانية ، وتخلل فيها وغاص في جواهرها ، وتوغل في ماهياتها ، فمثل هذا الإِنسَاْن هو الموصوف ، حقاً ، بأنه خليل ، لما أنه تخللت محبة الله في جميع قواه ، وإليه الإشارة بقول النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، في دعائه : < اللَّهُمَّ ! اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُوراً ، وَفِي سَمْعِي نُوراً ، وَفِي بَصَرِي نُوراً ، وفي عَصبي نوراً > . انتهى .
قال الإمام العلامة شمس الدين بن القيّم في كتابه " الجواب الكافي " : الخُلَّة تتضمن كمال المحبة ونهايتها ، بحيث لا يبقى في القلب سعة لغير محبوبه ، وهي منصب لا يقبل المشاركة بوجهٍٍ ما ، وهذا المنصب خاص للخليلين صلوات الله وسلامه عليهما : إبراهيم ومحمد ، كما قال صلى الله عليه وسلم : < إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً > .
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : < لو كنتُ متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ولكن صاحبكم خليل الله > .
وفي حديث آخر : < إني أبرأ إلى كل خليل من خلته > .
ولما سأل إبراهيم عليه السلام الولد ، فأُعْطِيه ، فتعلق حبه بقلبه ، فأخذ منه شعبة ، غار الحبيب على خليله أن يكون في قلبه موضع لغيره ، فأمر بذبحه ، وكان الأمر في المنام ليكون تنفيذ المأمور به أعظم ابتلاءً وامتحاناً ، ولم يكن المقصود ذبح الولد ، ولكن المقصود ذبحه من قلبه ، ليخلص القلب للرب ، فلما بادر الخليل عليه الصلاة والسلام إلى الامتثال ، وقدم محبة الله على محبة ولده ، حصل المقصود ، فرفع الذبح وفدي بذبح عظيم ، فإن الرب تعالى ما أمر بشيء ثم أبطله رأساً ، بل لا بد أن يبقى بعضه أو بدله ، كما أبقى شريعة الفداء ، وكما أبقى استحباب الصدقة بين يدي المناجاة ، وكما أبقى الخمس الصلوات بعد رفع الخمسين ، وأبقى ثوابها ، وقال : { مَا يُبَدّلُ الْقَوْلُ لَدَيّ } [ ق : 29 ] ، هي خمس في الفعل وخمسون في الأجر .
ثم قال ابن القيّم قدس سره : وأما ما يظنه بعض الظانين ؛ أن المحبة أكمل من الخلة وأن إبراهيم خليل الله ومحمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم حبيب الله ، فمن جهله ، فإن المحبة عامة والخلة خاصة ، والخلة نهاية المحبة ، وقد أخبر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أن الله اتخذ إبراهيم خليلاً ، ونفى أن يكون له خليل غير ربه ، مع إخباره بحبه لعائشة ولأبيها ولعمر بن الخطاب وغيرهم .
وأيضاً فإن الله سبحانه : { يُحِب التّوّابِينَ } [ البقرة : 222 ] ، { وَيُحِبّ المتَطَهّرِينَ } [ البقرة : 222 ] ، و : { يُحِبّ الصّابِرِينَ } [ آل عِمْرَان : 146 ] و : { يُحِبّ المحْسِنِينَ } [ البقرة : 195 ] ، و : { يُحِبّ المتّقِينَ } [ آل عِمْرَان : 76 ] ، و : { يُحِبّ المقْسِطِينَ } [ الممتحنة : 8 ] ، وخلته خاصة بالخليلين عليهما الصلاة والسلام ، والشاب التائب حبيب الله ، وإنما هذا عن قلة العلم والفهم عن الله ورسوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم . انتهى .
وقد تمسك من زعم أن المحبة أصفى من الخلة بما رواه ابن مردويه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍٍ رضي الله عنهما قَالَ : جَلَسَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَهُ ، فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُمْ سَمِعَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ ، فَسَمِعَ حَدِيثَهُمْ ، وإذا بَعْضُهُمْ يَقُولَ : عَجَباً إِنَّ اللَّهَ [ عَزَّ وَجَلَّ ] اتَّخَذَ مِنْ خَلْقِهِ خَلِيلاً ، فإِبْرَاهِيمَ خَلِيلهُ .
وَقَالَ آخَرُ : مَاذَا بِأَعْجَبَ مِنْ أن كَلمِ مُوسَى تَكْلِيماً .
وَقَالَ الآخَرُ : فَعِيسَى رُوح اللَّهِ وَكَلِمَته .
وَقَالَ آخَرُ : آدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ وَقَالَ : < قَدْ سَمِعْتُ كَلاَمَكُمْ وَتعَجَبَكُمْ ، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَمُوسَى كَليمه ، وَعِيسَى رُوحُه وَكَلِمَتُه ، وَآدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، وكذلك محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : أَلاَ وَأَني حَبِيبُ اللَّهِ ، وَلاَ فَخْرَ ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍٍ وَلاَ فَخْرَ ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حِلَقَة الْجَنَّةِ فَيَفْتَحُ اللَّهُ لِيَ وَيُدْخِلُنِيهَا وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَلاَ فَخْرَ وَأَنَا أَكْرَمُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ يوم القيامة وَلاَ فَخْرَ > .
قال ابن كثير : وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها . انتهى .
قلت : ورواه الترمذيّ أيضاً في جامعه في فضائله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ثم قال : هذا حديث غريب .
وظاهر أن قوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : ألا وإني حبيب الله ، لا يدل على أن درجة المحبة أرفع ، لأنه لم يورد للتفاضل بينهما ، وإنما سيقت هذه الجملة مع ما بعدها للتعريف بقدره الجسيم ، وفضله العظيم ، وبيان خصائصه التي لم تجتمع قبلُ في مخلوق ، وما يُدان الله تعالى به من حقه الذي هو أرفع الحقوق : { لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً } [ المدثر : 31 ] .
وروى ابن أبي حاتم عن إسحاق بن يسار قال : " لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً ألقى في قلبه الوجل ، حتى إن خفقان قلبه ليسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء" ، وهكذا جاء في صفة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، أنه كان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل ، إذا اشتد غليانها ، من البكاء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ بِكُلّ شَيْءٍٍ مّحِيطاً } [ 126 ]
{ وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } جملة مبتدأة ، سبقت لتقرير وجوب طاعة الله تعالى على أهل السماوات والأرض ، ببيان أن جميع ما فيهما من الموجودات ، له تعالى خلقاً وملكاً ، لا يخرج عن ملكوته شيء منها ، فيجازي كلاًّ بموجب أعماله خيراً وشرّاً .
وقيل : لبيان أن اتخاذه عز وجل لإبراهيم عليه السلام خليلاً ليس لاحتياجه سبحانه إلى ذلك في شأن من شؤونه كما هو دأب الآدميين ، فإن مدار خلتهم افتقار بعضهم إلى بعض في مصالحهم ، بل لمجرد تكرمته وتشريفه عليه السلام .
وقيل : لبيان أن الخلة لا تخرجه عن رتبة العبودية .
وقيل : لبيان أن اصطفاءه عليه السلام للخلة ، بمحض مشيئته تعالى ، أي : له تعالى ما فيهما جميعاً ، يختار منهما ما يشاء لمن يشاء ، ، أفاده أبو السعود .
{ وَكَانَ اللّهُ بِكُلّ شَيْءٍٍ مّحِيطاً } يعني عالماً عِلْمَ إحاطة ، لا تخفى عليه خافية من عباده : { لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرّةٍٍ فِي السّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ } [ يونس : 61 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النّسَاء الّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنّ مَا كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنّ وَالمسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍٍ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً } [ 127 ]
{ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّسَاء } أي : ويسألونك الإفتاء في النساء ، والإفتاء تبيين المبهم .
{ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ } ذكروا في ( ما ) وجوهاً : المختار منها أنها في موضع رفع بالعطف على المبتدأ ، وهو لفظ الجلالة ، أي : والمتلوّ في الكتاب يفتيكم فيهن أيضاً ، أو بالعطف على ضميره في : { يُفْتِيكُمْ } وساغ ، لمكان الفصل بالمفعول والجار والمجرور ، وذلك المتلوّ في الكتاب هو قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مّنَ النّسَاء } .
قال الرازي : وحاصل الكلام أنهم كانوا قد سألوا عن أحوال كثيرة من أحوال النساء ، فما كان منها غير مبين الحكم ، ذكر أن الله يفتيهم فيها ، وما كان منها مبين الحكم في الآيات المتقدمة ، ذكر أن تلك الآيات المتلوة تفتيهم فيها ، وجعل دلالة الكتاب على هذا الحكم إفتاءً من الكتاب ، ألا ترى أنه يقال في المشهور : إن كتاب الله بيّن لنا هذا الحكم ، وكما جاز هذا ، جاز أيضاً أن يقال : إن كتاب الله أفتى بكذا .
قال أبو السعود : وإيثار صيغة المضارع للإيذان باستمرار التلاوة ودوامِهَا ، وفي " الكتاب " إما متعلق بـ ( يتلى ) أو بمحذوف وقع حالاً من المستكنّ فيه ، أي : يتلى كائناً فيه : { فِي يَتَامَى النّسَاء } متعلق بـ ( يتلى ) أي : ما يتلى عليكم في شأنهن ، وهذه الإضافة بمعنى ( من ) لأنها إضافة الشيء إلى جنسه ، وقيل : من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي : النساء اليتامى .
{ الّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنّ مَا كُتِبَ لَهُنّ } أي : ما وجب لهن من الميراث وغيره .
{ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنّ } روى البخاريّ ومسلم عن عائشة - رَضِي اللّهُ عَنْهَا - قالت ، في هذه الآية : هُوَ الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْيَتِيمَةُ ، هُوَ وَلِيُّهَا وَوَارِثُهَا ، فَأَشْرَكَتْهُ في مَالِهِ حَتَّى في الْعِذْقِ ، فَيَرْغَبُ أَنْ يَنْكِحَهَا ، وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا رَجُلاً ، فَيَشْرَكُهُ في مَالِهِ بِمَا شَرِكَتْهُ فَيَعْضُلَهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ .
وعنها أيضاً قالت : وقول الله عز وجل : { وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنّ } رَغْبَةُ أَحَدِكُمْ عن يَتِيمَتِهِ الَّتِي تَكُونُ في حَجْرِهِ ، حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا رَغِبُوا في مَالِهَا وَجَمَالِهَا مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ إِلاَّ بِالْقِسْطِ مِنْ ، أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ .
وهذا المروي عن عائشة يدل على أن الآية نزلت في المعدمة ، وأن الجار المقدّر مع ( أن ) هنا هو ( عن ) ، وقد تأولها سعيد بن جبير على المعنيين ، أي : تقدير ( عن ) و ( في ) فقال نزلت في المعدمة والغنية .
قال الحافظ ابن حجر : والمرويّ عن عائشة أوضح ، في أن الآية الأولى ، أي : التي في أول السورة ، نزلت في الغنية ، وهذه الآية نزلت في المعدمة .
قال ابن كثير : وَالْمَقْصُود أَنَّ الرَّجُل إِذَا كَانَ فِي حِجْره يَتِيمَة يَحِلّ لَهُ تَزْوِجهَا ، فَتَارَة يَرْغَب فِي أَنْ يَتَزَوَّجهَا ، فَأَمَرَهُ اللَّه أَنْ يُمْهِرهَا ، أُسْوَة أَمْثَالهَا مِنْ النِّسَاء ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل فَلْيَعْدِلْ إِلَى غَيْرهَا مِنْ النِّسَاء ، فَقَدْ وَسَّعَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ .
وَهَذَا الْمَعْنَى فِي الْآيَة الْأُولَى الَّتِي فِي أَوَّل السُّورَة ، وَتَارَة لَا يَكُون له فِيهَا رَغْبَة ، لِدَمَامَتِهَا عِنْده ، أَوْ فِي نَفْس الْأَمْر ، فَنَهَاهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَعْضُلهَا عَنْ الْأَزْوَاج خَشْيَة أَنْ يُشْرِكُوهُ فِي مَاله الَّذِي بَيْنه وَبَيْنهَا ، كَمَا قَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي الْآيَة ، وَهِيَ قَوْله : { فِي يَتَامَى النِّسَاء } الْآيَة : كَانَ الرَّجُل فِي الْجَاهِلِيَّة تَكُون عِنْده الْيَتِيمَة فَيُلْقِي عَلَيْهَا ثَوْبه ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَقْدِر أَحَد أَنْ يَتَزَوَّجهَا أَبَداً ، فَإِنْ كَانَتْ جَمِيلَة وَهَوِيَهَا تَزَوَّجَهَا وَأَكَلَ مَالهَا ، وَإِنْ كَانَتْ دَمِيمَة مَنَعَهَا الرِّجَال أَبَداً حَتَّى تَمُوت ، فَإِذَا مَاتَتْ وَرِثَهَا ، فَحَرَّمَ اللَّه ذَلِكَ وَنَهَى عَنْهُ .
تنبيه
ما ذكرناه عن ابن جبير من حمل الآية على المعنيين ، أي : أن حرف الجر المقدرّ مع ( أن ) هو ( عن ) و ( في ) ، وأن كلاًّ منهما مراد منها على سبيل البدل لصلاحيتها لهما بالاعتبارين المتقدمين .
قال الخفاجيّ : مثله لا يعدّ لبساً بل إجمالاً ، كما ذكره بعض المحققين . انتهى .
قلت : وهذا بناء على أن اللبس هو أن يدل اللفظ على غير المراد ، والإجمال أن لا تتضح الدلالة ، وبعبارة أخرى : إيراد الكلام على وجه يحتمل أموراً متعددة ، وقد نظم بعضهم الفرق بينهما فقال :
~والفرق بين اللِّبس والإجمال مما به يُهتم في الأقوال
~فاللفظ ، إن أفهم غير القصد فاحكم على استعماله بالرد
~لأنه اللِّبس ، وأما المجمل فربما يفهمه من يعقل
~وذاك أن لا تفهم المخالفا ولا سواه بل تصير واقفا
~وحكمه القبول في الموارد فحفظه نظماً أعظم الفوائد
{ وَالمسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ } عطف ( على يتامى النساء ) ، وما يتلى في حقهم : قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللّهُ } إلخ ، وقد كانوا في الجاهلية لا يورثونهم ، كما لا يورثون الرجال القوّام .
قال ابن عباس ، في الآية : كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات ، وذلك قوله : { لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } فنهى الله عن ذلك ، وبيّن لكل ذي سهم سهمه .
فقال : { لِلذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنثَيَيْنِ } صغيراً أو كبيراً ، وكذا قال سعيد بن جُبير .
{ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ } بالجر ، عطف على ما قبله ، وما يتلى في حقهم : قوله تعالى : { وَلاَ تَتَبَدّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطّيّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] ونحو ذلك مما لا يكاد يحصر .
قال سعيد بن جبير : المعنى : كما أنها إذا كانت ذات جمال ومال نكحتها واستأثرت بها ، كذلك إذا لم تكن ذات مال وجمال ، فأنكحها واستأثر بها ، والخطاب للولاة ، أو للأولياء أو الأوصياء .
تنبيه :
استنبط من آية أحكام :
الأول : جواز نكاح الصغيرة ، لأن اليتيم : الصغير الذي لم يبلغ ، وفي الحديث عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال : < لا يُتْمَ بَعْدَ احتِلام > ، رواه أبو داود .
وعن الأصم : أراد البوالغ قبل التزوج ، وسماهن باليتم لقرب عهدهن باليتم ، والأول أظهر ، لأنه الحقيقة ، قالوا : قد يطلق اليتيم على البالغة ، وبدليل قوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < تُستأمر اليتيمة في نفسها ، فإن سكتت فهو إِذنها ، وإن أبت فلا جواز عليها > ، رواه أهل السنن ، والاستئمار لا يكون إلا من البالغة ، وقد ورد قول الشاعر :
~إن القبور تنكح الأيامى النسوة الأرامل اليتامى
فسمى البالغات يتامى ، لانفرادهن عن الأزواج ، وكل شيء منفرد لا نظير له يقال له يتيم ، كقولهم : درة يتيمة ، وهذه المسألة فيها أقوال للعلماء :
الأولى : جواز نكاح الصغيرة لجميع الأولياء ، وهذا مذهب الهادوية ومالك وأبي حنيفة وصاحبيه .
الثاني : للناصر والشافعي : لا يجوز ذلك إلا للأب والجد .
والثالث : لا يجوز ذلك إلا للأب فقط ، وهذا قول الأوزاعي ، ومروي عن القاسم ، دليل الأولين ، ما اقتضاه قوله تعالى : { وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } وهي نزلت في شأن اليتيمة بنكحها وليها ولا يقسط لها في المهر ، فنهوا عن ذلك وأمروا أن يقسطوا في المهر بقوله في سورة النساء : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مّنَ النّسَاء } واليتم الحقيقيّ مع الصغر ، وغيره مجاز ، وأدنى الأولياء الذي يجوز له النكاح ، ابن العم ، فإذا صح فيه صح ، وحجة القول الثاني قوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < تُستأمر اليتيمة > ، الحديث المتقدم ، والإذن لا يكون إلا بعد البلوغ .
وروى الإمام أحمد والدارقطنيّ : أن قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍٍ زوج ابنة أخيه ، وكان وصيها ، ممن أبته ، فرفع ذلك إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فقال : < هِيَ يَتِيمَةٌ وَلاَ تُنْكَحُ إِلاَّ بِإِذْنِهَا > ، كذا ذكره بعض مفسري الزيدية .
وتخريج الأحاديث من زيادتي ، وما نقله من أن الإذن لا يكون إلا بعد البلوغ يحتاج إلى دليل ، إذ لا يدل عليه الخبر بمنطوقه ولا مفهومه .
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : وفي حديث : < لاَ تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ ، وَلاَ تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ > : ظاهر الحديث اشتراط رضاء المزوجة ، بكراً كانت أو ثيباً ، صغيرةً أو كبيرةً . انتهى .
قال الترمذيّ في " جامعه " : وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لاَ يَجُوزُ نِكَاحُ الْيَتِيمَةِ حَتَّى تَبْلُغَ .
وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ : إِذَا بَلَغَتِ الْيَتِيمَةُ تِسْعَ [ في المطبوع سبع ] سِنِينَ فَزُوِّجَتْ فَرَضِيَتْ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ ، وَلاَ خِيَارَ لَهَا إِذَا أَدْرَكَتْ . وَاحْتَجَّا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَى بِهَا وَهِىَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ . وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ : إِذَا بَلَغَتِ الْجَارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَهِيَ امْرَأَةٌ . انتهى .
الحكم الثاني : أنه يجوز أن يتولى طرفي العقد واحد في النكاح ، لقوله : { وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنّ } وقد روى ابن سعد من طريق ابن أبي ذئب عن سعيد بن خالد ، أن أُمِّ حَكِيمٍٍ بِنْتِ قَارِظٍٍ قالت لعبد الرحمن بن عوف : إنه قد خطبني غير واحد ، فزوجني أيّهم رأيت ، قال : وتجعلين ذلك إليّ ؟ فقالت : نعم ، قال : قد تزوجتك ، قال ابن أبي ذئب : فجاز نكاحه .
وروى عبد الرزاق ووكيع والبيهقيّ أن المغيرة بن شعبة أراد أن يتزوج امرأة وهو وليّها ، فأمر أبعد منه ، فزوجه .
وروى عبد الرزاق أيضاً عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : امرأة خطبها ابن عم لها ، لا رجل لها غيره ، قال : فلتشهد أن فلاناً خطبها ، وإني أشهدكم أني قد نكحته ، ولتأمر رجلاً من عشيرتها .
أخرج هذه الآثار الثلاثة البخاريّ في " صحيحه " تعليقاً في ( باب إذا كان الولي هو الخاطب ) أي : هل يزوج نفسه أو يحتاج إلى وليّ آخر .
قال ابن المنير : ذكر في الترجمة ما يدل على الجواز والمنع معاً ، ليكل الأمر في ذلك إلى نظر المجتهد .
قال الحافظ ابن حجر : لكن الذي يظهر من صنيعه أنه يرى الجواز ، فإن الآثار التي فيها أسر الوليّ غيره أن يزوجه - ليس فيها التصريح بالمنع من تزويجه نفسه .
ثم قال : وقد اختلف السلف في ذلك ، فقال الأوزاعي وربيعة والثوري ومالك وأبو حنيفة وأكثر أصحابه : يزوج الوليّ نفسه : ووافقهم أبو ثور .
وعن مالك : لو قالت الثيب لوليها : زوجني بمن رأيت ، فزوجها من نفسه ، أو ممن اختار ، لزمها ذلك ، ولو لم تعلم عين الزوج .
وقال الشافعيّ : يزوجهما السلطان أو وليّ آخر مثله ، أو أقعد منه ، ووافقه زفر وداود ، وحجتهم أن الولاية شرط في العقد ، فلا يكون الناكح منكحاً ، كما لا يبيع من نفسه . انتهى .
الحكم الثالث : أنه يجوز للأولياء التصرف في المال ، لأن القيام بالقسط لا يتم إلا بذلك .
{ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍٍ } لا سيما في حق الضعفاء من حفظ أموالهم والقيام بتدبيرهم والإقساط لهم .
{ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً } فيجزيكم به .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشّحّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتّقُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [ 128 ]
{ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا } أي : زوجها .
{ نُشُوزا } : أي : تجافياً عنها وترفعاً عن صحبتها ، بترك مضاجعتها والتقصير في نفقتها .
{ أَوْ إِعْرَاضاً } أي : تطليقاً ، أو أن يقلّ محادثتها ومجالستها ، كراهة لها أو لطموح عينه إلى أجمل منها .
{ فَلاَ جُنَاْحَ } أي : لا إثم : { عَلَيْهِمَا } حينئذ .
{ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً } بحطِّ شيء من المهر أو النفقة : أو هبة شيء من مالها أو قَسْمِها ، طلباً لبقاء الصحبة إن رضيت بذلك ، وإلا فعلى الزوج أن يوفيها حقها أو يفارقها .
قال في " الإكليل " : الآية أصل في هبة الزوجة حقها من القَسْم وغيره ، استدل به من أجاز لها بيع ذلك .
{ وَالصّلْحُ خَيْرٌ } أي : من الفرقة والنشوز والإعراض .
قال ابن كثير : بَلْ الطَّلَاق بَغِيض إِلَيْهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَهْ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < أَبْغَض الْحَلَال إِلَى اللَّه الطَّلَاق > .
قال بعض مفسري الزيدية : وفي هذه الآية حث على الصبر على نفس الصحبة ، لقوله تعالى : { وَالصّلْحُ خَيْرٌ } أي : من الفرقة وسوء العشرة ، أو خير من الخصومة ، أو خير من الخيور ، كما أن الخصومة شر من الشرور ، وقد كان من كرم أخلاقه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه كان يكرم صواحب خديجة بعد موتها ، وعنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إنَّه مِنْ أبَرَّ البِرِّ أنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أهْلُ وُدِّ أبيه > ، وهذا فيه صبر ، وفي الصبر ما لا يحصر من المحاسن والفضائل ، والصلح فيه من أنواع الترغيب .
روى عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < من أصلح بين اثنين استوجب ثواب شهيد > ، وعن أنس : < من أصلح بين اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة > . انتهى .
وفي " الإكليل " قوله تعالى : { وَالصّلْحُ خَيْرٌ } عام في كل صلح ، أصل فيه .
وفي الحديث : < الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، إلاَّ صُلْحاً ، أحلّ حراماً ، أو حرَّمَ حلالاً > .
واستدل بعموم الآية من أجاز الصلح على الإنكار والمجهول : { وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشّحّ } بيان لما جبل عليه الإِنسَاْن ، أي : جعلت حاضرة له مطبوعة عليه ، لا تنفك عنه أبداً ، فلا تكاد المرأة تسمح بالنشوز ، والإعراض ، وحقوقها من الرجل ، ولا الرجل في إمساكها مع القيام بحقوقها على ما ينبغي ، إذا كرهها أو أحب غيرها ، والجملة الأولى للترغيب في المصالحة ، والثانية لتمهيد العذر في المشاحة وللحث على الصلح ، فإن شح نفس الرجل وعدم ميلها عن حالتها الجبليّة بغيرها استمالة ، مما يحمل المرأة على بذل بعض حقوقها إليه لاستمالته ، وكذا شح نفسها بحقوقها مما يحمل الرجل على أن يقتنع من قِبَلِهَا بشيء يسير ، ولا يكلفها بذل الكثير ، فيتحقق بذلك الصلح .
{ وَإِن تُحْسِنُواْ } في العشرة .
{ وَتَتّقُواْ } النشوز والإعراض ونقص الحق .
{ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ } من تحمل المشاق في ذلك .
{ خَبِيراً } فيجازيكم ويثيبكم ، قال أبو السعود : وفي خطاب الأزواج بطريق الالتفات ، والتعبير عن رعاية حقوقهن بالإحسان ، ولفظ : ( التقوى ) المنبئ عن كون النشوز والإعراض مما يتوقى منه ، وترتيب الوعد الكريم عليه - من لطف الاستمالة والترغيب في حسن المعاملة ، ما لا يخفى .
وما قدمنا في تفسير الآية هو زبدة ما نقل عن السلف ، صحابة وتابعين في معناها .
قال ابن كثير : ولا أعلم في ذلك خلافاً .
وفي البخاريّ عن عائشة ، في هذه الآية قَالَتِ : الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ المُسنة ، لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍٍ مِنْهَا ، يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَهَا ، فَتَقُولُ : أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِي في حِلٍٍّ . فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ .
وروى ابن أبي حاتم عن خالد بن عرعرة قال : جاء رجل إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام فسأله عن قول الله عز وجل : { وَإِنِ امْرَأَةٌ } الآية ، قَالَ عَلِيّ : يَكُون الرَّجُل عِنْده الْمَرْأَة ، فَتَنْبُو عَيْنَهُ عَنْهَا مِنْ دَمَامَتهَا ، أَوْ كِبَرهَا ، أَوْ سُوء خُلُقهَا ، أَوْ قُذَذهَا ، فَتكَرِهَ فِرَاقه ، فَإِنْ وَضَعَتْ لَهُ مِنْ مَهْرهَا شَيْئاً حَلَّ لَهُ ، وَإِنْ جَعَلَتْ لَهُ مِنْ أَيَّامهَا فَلَا حَرَج .
وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ واِبْن جَرِير .
وَرَوَى اِبْن جَرِير أيضاً عن عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أنه سئل عن هذه الآية فقال : هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها ، فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها ، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز ، وروى سَعِيد بْن مَنْصُور عَنْ عُرْوَة قَالَ : أَنْزَلَ فِي سَوْدَة وَأَشْبَاههَا : { وَإِنْ اِمْرَأَة } الآية ، وَذَلِكَ أَنَّ سَوْدَة كَانَتْ اِمْرَأَة قَدْ أَسَنَّتْ ، فَفَرَقَتْ أَنْ يُفَارِقهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَضَنَّتْ بِمَكَانِهَا مِنْهُ وَعَرَفَتْ مِنْ حُبّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَة وَمَنْزِلَتهَا مِنْهُ ، فَوَهَبَتْ يَوْمهَا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَة فَقَبِلَ ذَلِكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وروى نحوه أبو داود الطيالسي والترمذيّ عن ابن عباس .
وروى الحاكم عن عروة عن عائشة أنها قالت له : يا ابن أختي ! كان رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لا يُفضِّل بعضَنا على بعض في القَسْم من مُكثه عندنا ، وكان قلَّ يوم إلا وهو يطوف علينا ، فيدنو من كل امرأة من غير مَسيس ، حتى يبلغ إلى من هو يومها ، فيبيت عندها ، ولقد قالت سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ ، حين أَسَنَّت وفَرَقَتْ أن يُفارقها رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : يا رسول الله ! يومي هذا لعائشة ، فَقَبِلَ ذلك رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم منها ، قالت : نقول في ذلك أنزل الله تعالى ، وفي أشباهها ، أراه قال : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً } الآية .
وكذلك رواه أبو داود ، وفي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : لَمَّا كَبِرَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ ، وَهَبَتْ يَوْمَهَا لعائشة ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لِها بِيَوْمِ سَوْدَة .
ولا يخفى أن قبوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ذلك من سودة ، إنما هو لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه ، فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام .
وقول بعض المفسرين في هذه القصة : أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كان عزم على طلاق سودة - باطل وسوء فهم من القصة ، إذ لم يُرْوَ عزمه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم على ذلك ، لا في الصحاح ولا في السنن ولا في المسانيد ، غاية ما روي في السنن ؛ أن سودة خشيت الفراق لكبرها ، وتوهمته ، وجلي أن للنساء في باب الغيرة أوهاماً منوعة ، فتقدمت للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بقبول ليلتها لعائشة ، فقبل منها .
وما رواه ابن كثير عن بعض المعاجم من كونه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بعث إليها بطلاقها ، ثم ناشدته فراجعها - فهو ( زيادة عن إرساله وغرابته ، كما قاله ) فيه نكارة لا تخفى .
لطيفة :
حكى الزمخشري هنا ؛ أن عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ الخارجيّ كان من أدمّ بني آدم ، وامرأتهُ من أجملهم ، فأجالت في وجهه نظرها يوماً ، ثم تابعت الحمد لله ، فقال : مالكِ ؟ قال : حمدت الله على أني وإياك من أهل الجنة ، قال : كيف ؟ قالت : لأنك رزقت مثلي فشكرتَ ، ورزقت مثلك فصبرتُ ، وقد وعد الله الجنة ، عباده الشاكرين والصابرين . انتهى .
قلت : عِمْرَان المذكور ممن خرج له البخاريّ في صحيحه ، ولما مات سئلت زوجته عن ترجمته ؟ فقالت : أوجز أم أطنب ؟ فقيل : أوجزي ، فقالت : ما قدمت له طعاماً بالنهار ، وما مهدت له فراشاً بالليل ، تعني أنه كان صواماً قواماً رحمه الله تعالى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَميلُواْ كُلّ الميلِ فَتَذَرُوهَا كَالمعَلّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتّقُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً } [ 129 ]
{ وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَاء } أي : تساووا بينهن في جميع الوجوه ، بحيث لا يقع ميل ما إلى جانب إحداهن ، في شأن من الشؤون ، فإنه وإن وقع القسم الصوري ليلة وليلة ، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع ، كما قاله ابن عباس وغيره .
{ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } أي : على إقامة العدل ، وبالغتم في ذلك ، لأن الميل يقع بلا اختيار في القلب .
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنه قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ ، ثم يَقُولُ : < اللَّهُمَّ ! هَذِهِ قِسْمَِي فِيمَا أَمْلِكُ ، فَلاَ تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ > . يعني القلب ، رواه الإمام أحمد وأهل السنن .
{ فَلاَ تَميلُواْ كُلّ الميلِ } أي : إذا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا في الميل إليها ، وقال المهايميّ : فلا تميلوا ، أي : عن امرأة كل الميل فتتركوا المستطاع من القسط .
{ فَتَذَرُوهَا } أي : التي ملتم عنها .
{ كَالمعَلّقَةِ } بين السماء والأرض ، لا تكون في إحدى الجهتين ، لا ذات زوج ولا مطلقة .
وروى أبو داود الطيالسي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : < مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فمال إلى إِحْدَاهُمَا ، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وأَحَدَ شِدقَّيْهِ سَاقِط > .
كذا رأيته في ( ابن كثير ) شدقيه ، بشين معجمة ثم دال .
ورواية أصحاب السنن المنقولة : وشقه ( بمعجمة ثم قاف ) ساقط ، وفي رواية : مائل .
{ وَإِن تُصْلِحُواْ } أي : نفوسكم بالتسوية والقسمة والعدل فيما تملكون : { وَتَتّقُواْ } الحيف والجور : { فَإِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً } فيغفر لكم ما سلف من ميلكم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن يَتَفَرّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاّ مّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً حَكِيماً } [ 130 ]
{ وَإِن يَتَفَرّقَا } أي : الزوج والمرأة بالطلاق ، بأن لم يتفق الصلح بينهما ، فاختاروا الفرقة .
{ يُغْنِ اللّهُ كُلاّ } أي : منهما ، أي : يجعله مستغنياً عن الآخر .
{ مّن سَعَتِهِ } أي : غناه وجوده وقدرته ، وفيه زجر لهما عن المفارقة رغماً لصاحبه ، وتسلية لهما بعد الطلاق .
{ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً } أي : واسع الفضل : { حَكِيماً } في جميع أفعاله وأقداره وشرعه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصّيْنَا الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيّاكُمْ أَنِ اتّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنّ لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّا حَميداً } [ 131 ]
{ وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } جملة مستأنفة منبهة على كمال سعته وعظم قدرته أي : كيف لا يكون واسعاً وله ما فيهما من الخلائق والأرزاق وغيرهما ؟ فله أن يعطي ما شاء منهما لمن شاء من عبيده ، وعلى هذا ، فهي متعلقة بما قبلها ، أو أتى بها تمهيداً لما بعدها من العمل بوصيته ، إعلاماً بأنه مالك ما في السماوات والأرض والحاكم فيهما ، ولهذا قال : { وَلَقَدْ وَصّيْنَا الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } أي : من الأمم السابقة .
و : { الْكِتَابَ } اسم جنس يتناول الكتب السماوية : { وَإِيّاكُمْ } معطوف على ( الذين ) .
{ أَنِ اتّقُواْ اللّهَ } أي : وصينا كلاً منكم ومنهم بالتقوى ، وهي عبادته وحده ، لا شريك له ، والمعنى : أن وصيته قديمة ما زال يوصي الله بها عباده ، ولستم بها مخصوصين ، لأنهم بالتقوى يسعدون عنده .
{ وَإِن تَكْفُرُواْ } أي : بالله .
{ فَإِنّ لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } أي : فهو مالك الملك كله ، لا يضره كفركم ، لغناه المطلق ، فما الوصية إلا لفلاحكم رحمة بكم ، كما في الآية الأخرى .
{ إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَميعاً فَإِنّ اللّهَ لَغَنِيّ حَميدٌ } [ إبراهيم : 8 ] ، وقال تعالى : { فَكَفَرُوا وَتَوَلّوا وّاسْتَغْنَى اللّهُ } [ التغابن : 6 ] : { وَكَانَ اللّهُ غَنِيّا } عن عباده : { حَميداً } أي : محموداً في ذاته ، حمدوه أو لم يحمدوه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً } [ 132 ]
{ وَلِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } ذكره ثالثاً ، إما لتقرير كونه تعالى غنياً حميداً فإن جميع المخلوقات تدل ، بحاجتها على غناه ، وبما أفاض عليها من الوجود وأنواع الخصائص والكمالات ، على كونه حميداً ، وإما تمهيداً للاحقه من الشرطية ، وهو بيان كونه تعالى قادراً على جميع المقدورات ، أي : له سبحانه ما فيهما من الخلائق خلقاً وملكاً ، فهو قادر على الإفناء والإيجاد ، فإن عصيتموه ، أيها الناس ، فهو قادر على إعدامكم وإفنائكم بالكلية ، وعلى أن يُوجِدَ قوماً آخرين يشتغلون بعبادته وتعظيمه ، فذكر هذه الكلمات في هذا المقام ثلاث مرات لتقرير ثلاثة أمور في سياقها ، كما بيّنا .
قال الرازيّ : إذا كان الدليل الواحد دليلاً على مدلولات كثيرة ، فإنه يحسن ذكر ذلك الدليل ليستدل له على المدلول الثالث ، وهذه الإعادة أحسن وأولى من الاكتفاء بذكر الدليل مرة واحدة ، لأن عند إعادة ذكر الدليل يخطر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول ، فكان العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجلى ، فظهر أن هذا التكرير في غاية الحسن والكمال ، وأيضاً ، فإذا أعدته ثلاث مرات ، وفرعّت عليه في كل مرة إثبات صفة أخرى من صفات جلال الله ، تنبِّه الذهن حينئذ لكون تخليق السماوات والأرض دالاً على أسرار شريفة ومطالبه جليلة ، فعند ذلك يجتهد الإِنسَاْن في التفكر فيها والاستدلال بأحوالها وصفاتها على صفات الخالق سبحانه وتعالى ، ولما كان الغرض الكلي من هذا الكتاب الكريم صرف العقول والأفهام ، عن الاشتغال بغير الله ، إلى الاستغراق في معرفة الله ، وكان هذا التكرير مما يفيد حصول هذا المطلوب ويؤكده ، لا جرم كان في غاية الحسن والكمال . وانتهى .
{ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً } أي : رباً حافظاً توكل بالقيام بجميع ما خلق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيّهَا النّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً } [ 133 ]
{ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } أي : يُفْنِكم ويستأصلكم بالمرّة .
{ أَيّهَا النّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ } أي : ويوجد ، دفعة مكانكم ، قوماً آخرين من البشر ، أو خلقاً آخرين مكان الإنس ، يعني أن إبقائكم على ما أنتم عليه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم ، ولعدم تعلق مشيئته المبنية على الحكم بالبالغة بإفنائكم ، لا لعجزه سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً .
{ وَكَانَ اللّهُ عَلَى ذَلِك } أي : إهلاككم بالمرة وتخليق غيركم : { قَدِيراً } بليغ القدرة ، كما قال تعالى : { وَإِن تَتَوَلّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [ محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : 38 ] ، وقال تعالى : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍٍ جَدِيدٍٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللّهِ بِعَزِيزٍٍ } [ إبراهيم : 19 ] ، ففيه تقرير لغناه وقدرته ، وتهديد لمن كفر به ، قال بعض السلف : ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره !(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللّهُ سَميعاً بَصِيراً } [ 134 ]
{ مّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدّنْيَا } كالمجاهد يجاهد للغنيمة : { فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدّنْيَا وَالآخِرَةِ } أي : فما له يطلب أخسهما ، فيطلبهما ، أو الأشرف منهما ، كما قال تعالى : { فَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ رَبّنَا آتِنَا فِي الدّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍٍ وِمِنْهُم مّن يَقُولُ رَبّنَا آتِنَا فِي الدّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ البقرة : 200 - 202 ] ، وقال تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } [ الشورى : 20 ] الآية ، وقال تعالى : { مّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لمن نّرِيدُ } [ الإسراء : 18 ] الآية ، قال بعضهم : عُني بالآية مشركو العرب ، فإنهم كانوا يقرون بالله تعالى ، خالقهم ، ولا يقرون بالبعث يوم القيامة ، وكانوا يتقربون إلى الله تعالى ليعطيهم من خير الدنيا ويصرف عنهم شرها .
{ وَكَانَ اللّهُ سَميعاً بَصِيراً } فلا يخفى عليه خافية ، ويجازي كلاً بحسب قصده .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّا أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [ 135 ]
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامينَ بِالْقِسْطِ } أي : مقتضى إيمانكم المبالغة والاجتهاد في القيام بالعدل والاستقامة ، إذ به انتظام أمر الدارين الموجب لثوابهما ، ومن أشده القيام بالشهادة على وجهها ، فكونوا : { شُهَدَاء لِلّهِ } أي : مقيمين للشهادة بالحق ، مؤدين لها لوجهه تعالى .
{ وَلَوْ } كانت الشهادة : { عَلَى أَنفُسِكُمْ } فاشهدوا عليها بأن تقروا بالحق عليها ولا تكتموه .
{ أَوِ } على : { الْوَالِدَيْنِ } أي : الأصول : { وَالأَقْرَبِينَ } أي : الأولاد والإخوة وغيرهم ، فلا تراعهم فيها بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم ، فإن الحق حاكم على كل أحد .
{ إِن يَكُنْ } أي : من تشهدون عليها : { غَنِيّا } يبتغي في العادة رضاه ويتقي سخطه .
{ أَوْ فَقَيراً } يترحم عليه غالباً ، أو يخاف من الشهادة عليه أن يلجئ الأمر إلى أن يعطي ما يكفيه .
{ فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا } أي : من المشهود عليه ، واعلم بما فيه صلاحهما ، فلولا أن الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها ، لأن أنظر لعباده من كل ناظر .
{ فَلاَ تَتّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ } أي : إرادة العدول عن أمر الله الذي هو مصلح أموركم ، وأمور المشهود عليهم ، لو نظرتم ونظروا إليه .
قال ابن كثير : أي : لَا يَحْمِلَنكُمْ الْهَوَى وَالْعَصَبِيَّة وَبُغْض النَّاس إِلَيْكُمْ ، عَلَى تَرْك الْعَدْل فِي شُؤُونكُمْ ، بَلْ اِلْزَمُوا الْعَدْل عَلَى أي : حَال كَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَجْرِمَنكُمْ شَنَآن قَوْم عَلَى أَنْ لَا تَعْدِلُوا اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَب لِلتَّقْوَى } [ المائدة : 8 ] .
وَمِنْ هَذَا قَوْل عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُص عَلَى أَهْل خَيْبَر ثِمَارهمْ وَزَرْوعهمْ ، فَأَرَادُوا أَنْ يُرْشُوهُ لِيَرْفُق بِهِمْ ، فَقَالَ : وَاَللَّه ! لَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْد أَحَبّ الْخَلْق إِلَيَّ ، وَلَأَنْتُمْ أَبْغَض إِلَيَّ مِنْ أَعْدَائكُمْ مِنْ الْقِرَدَة وَالْخَنَازِير ، وَمَا يَحْمِلنِي حُبِّي إِيَّاهُ ، وَبُغْضِي لَكُمْ عَلَى أَنْ لَا أَعْدِل فِيكُمْ ، فَقَالُوا : بِهَذَا قَامَتْ السَّمَوَات وَالْأَرْض .
{ وَإِن تَلْوُواْ } أي : تحرفوا ألسنتكم عن الشهادة على وجهها : { أَوْ تُعْرِضُواْ } أي : عنها بكتمها .
{ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } فيجازيكم على ذلك ، قال تعالى : { وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [ البقرة : 283 ] .
تنبيه :
قال بعض مفسري الزيدية : لهذه الآية ثمرات ، هي أحكام :
الأول : وجوب العدل على القضاة والولاة ، وأن لا يعدل عن القسط لأمر تميل إليه النفوس وشهوات القلوب من غنى أو فقر أو قرابة ، بل يستوي عنده الدنيء والشريف والقريب والبعيد ، ويروى أن عمر أقام حداً على ولد له ، فذاكره في حق القرابة ، فقال : إذا كان يوم القيامة شهدت عند الله أن أباك كان يقيم عليك الحدود .
الحكم الثاني : أنه يجب الإقرار على من عليه الحق ولا يكتمه ، لقوله تعالى : { وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ } والمراد بالشهادة على النفس الإقرار ، وهذا ظاهر .
وقيل المعنى : ولو كانت الشهادة وبالاً ومضرة على أنفسكم وآبائكم ، بأن تكون الشهادة على سلطان ظالم ، وهذه المسألة فيها خلاف بين الفقهاء إذا خشي مضرة دون القتل ، هل يجب عليه الشهادة أم لا ؟ فقيل : يجب لأنه لا يحفظ ماله بتلف مال غيره .
وعن الشافعية والمتكلمين ، وصحح للمذهب ، أنه لا يجب ، لأن الشهادة أمر بمعروف ، وشرطه أن لا يؤدي إلى منكر ، ولكن إنما يسقط عنه أداء الشهادة بحصول الظن لمضرته ، لا بمجرد الخشية ، وقد قال المؤيد بالله في " الإفادة " : على الشاهد أن يشهد وإن خشي على نفسه وماله ، لأن الذي يخشاه مظنون ، ولعله غير كائن ، يؤول على أن مراده مجوَّز لا أنه قد ظن حصول المضرة ، وهذا يجوز له الشهادة مع الخشية على نفسه ، قال في " شرح الإبانة " : يجوز إذا كان قتله إعزازاً للدين ، كالنهي عن المنكر ، أما لو كتم لغير عذر فلا إشكال في عصيانه ، وعن ابن عباس : ذلك من الكبائر .
الحكم الثالث : يتعلق بقوله تعالى : { شُهَدَاء لِلّهِ } أي : تشهدون لوجه الله كما أمركم ، وفي هذا دلالة على أن أخذ الأجرة على تأدية الشهادة لا يجوز ، لأنه لم يقمها لله ، وقد استثنى أهل الفقه صوراً جوزوا أخذ الأجرة على تأدية الشهادة ، منها : إذا طلب إلى موضع ، لأن الخروج غير واجب عليه ، ومنها : إذا كان غيره يشهد ويحصل به الحق ، فإن شهادته غير لازمة . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِي نَزّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً بَعِيداً } [ 136 ]
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ } أي : اثبتوا على إيمانكم : { بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِي نَزّلَ عَلَى رَسُولِهِ } محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، يعني القرآن : { وَالْكِتَابِ الّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ } على الرسل ، بمعنى الكتب : { وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً بَعِيداً } أي : خرج عن الهدى وبعد عن القصد كل البعد ، ما الكفر بالله فظاهر ، وأما بالملائكة فلأنهم المقربون إليه ، وأما بالكتب فلأنها الهادية إليه ، وأما بالرسل فلأنهم الداعون ، وأما باليوم الآخر فلأن فيه نفع إقامته وضرر تركه ، فإذا أنكر لزم إنكار النفع الحقيقي والضرر الحقيقي فهو الضلال البعيد ، ثم الكفر بالملائكة كفر بمظاهر باطنة ، وبالكتب كفر بمظاهر صفة كلامه ، وبالرسل كفر بأتم مظاهره ، وباليوم الآخر كفر بدوام ربوبيته وعدله ، ثم الكفر بالملائكة يدعو إلى الإيمان بالشياطين ، ويكتب الله إلى الإيمان بكتب الكفرة ، وبالرسل إلى تقليد الآباء ، وباليوم الآخر إلى الاجتراء على القبائح ، وكل ذلك ضلال بعيد ، أفاده المهايميّ .
ولما أمر تعالى بالإيمان ورغب فيه ، بين فساد طريقة من يكفر بعد الإيمان ، فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ ازْدَادُواْ كُفْراً لم يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } [ 137 ]
{ إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ ازْدَادُواْ كُفْراً لم يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } في الآية وجوه :
الأول : أن المراد الذين تكرر منهم الارتداد ، وعهد منهم ازدياد الكفر والإصرار عليه ، يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة ويستوجبون اللطف ، من إيمان صحيح ثابت يرضاه الله ، لأن قول أولئك الذين هذا ديدنهم ، قلوب قد ضربت بالكفر ومرنت على الردة ، وكان الإيمان أهون شيء عندهم وأدونه ، حيث يبدو لهم فيه كرة بعد أخرى ، وليس المعنى أنهم لو أخلصوا الإيمان بعد تكرار الردة ، ونصحت توبتهم ، لم يقبل منهم ولم يغفر لهم ، لأن ذلك مقبول ، حيث هو بذلٌ للطاقة واستفراغ الوسع ، ولكنه استبعاد له واستغراب ، وإنه أمر لا يكاد يكون ، وهكذا نرى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع ، ثم يتوب ثم يرجع ، فإنه لا يكاد يرجى منه الثبات ، والغالب أنه يموت على الفسق ، فكذا هنا .
الثاني : قال بعضهم : هم اليهود ، آمنوا بالتوراة وبموسى ثم كفروا حين عبدوا العجل ، ثم آمنوا بعد عوده إليهم ثم كفروا بعيسى والإنجيل ، ثم ازدادوا كفراً بمحمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وقد أورد على هذا الوجه أن الذين ازدادوا كفراً بمحمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ليسوا مؤمنين بموسى ، ثم كافرين بالعجل ، ثم مؤمنين بالعود ، ثم كافرين بعيسى ، بل هم إما مؤمنون بموسى وغيره ، أو كفار لكفرهم بعيسى والإنجيل ، والجواب : أن هذا إنما يرد لو أريد قوم بأعيانهم للموجودين وقت البعثة ، أما لو أريد جنس ونوع ، باعتبار عدّ ما صدر من بعضهم كأنه صدر من كلهم ، فلا إيراد ، والمقصود حينئذ استبعاد إيمانهم لما استقر منهم ومن أسلافهم .
الثالث : قال آخرون : المراد المنافقون ، فالإيمان الأول إظهارهم الإسلام ، وكفرهم بعد ذلك هو نفاقهم ، وكون باطنهم على خلاف ظاهرهم ، والإيمان الثاني هو أنهم كلما لقوا جمعاً من المسلمين قالوا إنا مؤمنون ، والكفر الثاني هو أنهم : { إِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنّا مَعَكْمْ إِنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ } [ البقرة 14 ] ، وازديادهم في الكفر هو جدهم واجتهادهم في استخراج أنواع المكر والكيد في حق المسلمين ، وإظهار الإيمان قد يسمى إيماناً ، قال تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ المشْرِكَاتِ حَتّى يُؤْمِنّ } [ البقرة : 221 ] .
قال القفال رحمه الله : وليس المراد بيان هذا العدد ، بل المراد ترددهم ، كما قال : { مّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء } قال : والذي يدل عليه ، قوله تعالى بعد هذه الآية : { بَشّرِ المنَافِقِينَ } .
الرابع : قال قوم : المراد طائفة من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المسلمين فكانوا يظهرون الإيمان تارة والكفر تارة أخرى ، على ما أخبر الله تعالى عنهم : { آمِنُواْ بِالّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ آل عِمْرَان : 72 ] ، وقوله : { ثُمّ ازْدَادُواْ كُفْراً } معناه أنهم بلغوا في ذلك إلى حد الاستهزاء والسخرية بالإسلام .
نقل هذه الوجوه الزمخشريّ والرازيّ وغيرهما ، وكلها مما يشمله لفظ الآية .
تنبيه :
في الآية مسائل :
الأولى : قال في " الإكليل " : استدل بها من قال : تقبل توبة المُرتد ثلاثاً ، ولا تقبل في الرابعة .
وقال بعض الزيدية ( تفسيره ) : دلت على أن توبة المرتد تُقبل ، لأنه تعالى أثبت إيماناً بعد كفر ، تقدمه إيمان .
وأقول : دلالتها على ذلك في صورة عدم تكرار الردة ، وأما معه ، فلا ، كما لا يخفى .
ثم قال : وعن إسحاق : إذا ارتد في الدفعة الثالثة لم تقبل توبته ، وهي رواية الشعبيّ عن عليّ عليه السلام . انتهى .
وذهبت الحنابلة إلى أن من تكررت ردته لم تقبل توبته ، كما أسلفنا ذلك في آل عِمْرَان في قوله تعالى : { كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً } [ آل عِمْرَان : 86 ] ، الآية .
وقوله بعدها : { إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُواْ كُفْراً } [ آل عِمْرَان : 90 ] ، وذكرنا ثمةَ ، أن هذه الآية كتلك الآية ، وأن ظاهرهما يشهد لما ذهب إليه إسحاق وأحمد ، وأما الوجوه المسوقة هنا فهي من تأويل أكثر العلماء القائلين بقبول توبة المرتد ، وإن تكررت ، وبعد ، فالمقام دقيق ، والله أعلم .
الثانية : دلت على أن الكفر يقبل الزيادة والنقصان ، فوجب أن يكون الإِيمَان نصّاً كذلك ، لأنهما ضدان متنافيان ، فإذا قبل أحدهما التفاوت ، قبله الآخر ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَشّرِ المنَافِقِينَ بِأَنّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ 138 ]
{ بَشّرِ المنَافِقِينَ } من باب التَّهَكُّمِ : { بِأَنّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } فإنهم آمنوا بالظاهر وكفروا بالباطن ، ويدل على مقارنة إيمانهم للكفر ترجيحهم جانب الكفرة في المحبة إذ هم :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الّذِينَ يَتّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزّةَ فَإِنّ العِزّةَ لِلّهِ جَميعاً } [ 139 ]
{ الّذِينَ يَتّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤْمِنِينَ } أي : يتخذونهم أنصاراً مجاوزين موالاة المؤمنين .
{ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزّةَ } أي : أيطلبون بموالاتهم القوة والغلبة ، وهذا إنكار لرأيهم وإبطال له ، وبيان لخيبة رجائهم ، ولذا علله بقوله : { فَإِنّ العِزّةَ لِلّهِ جَميعاً } أي : له الغلبة والقوة ، فلا نصرة لهم من الكفار ، والنصرة والظفر كله من الله تعالى ، وهذا كما قال تعالى في آية أخرى : { وَلِلّهِ الْعِزّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] .
قال ابن كثير : وَالْمَقْصُود مِنْ هَذَا التَّهْيِيجُ عَلَى طَلَب الْعِزَّة مِنْ جَنَاب اللَّه ، وَالْإِقْبَال عَلَى عُبُودِيَّته ، وَالِانْتِظَام فِي جُمْلَة عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ ، الَّذِينَ لَهُمْ النُّصْرَة فِي هَذِهِ الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيَوْم يَقُوم الْأَشْهَاد ، وَيُنَاسِب هُنَا أَنْ نَذْكُر الْحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَام أَحْمَد عَنْ أَبِي رَيْحَانة ، أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : < مَنْ اِنْتَسَبَ إِلَى تِسْعَة آبَاء كُفَّار ، يُرِيد بِهِمْ عِزّاً وكرماً ، فَهُوَ عَاشِرهمْ فِي النَّار > . تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَد .
وَأَبُو رَيْحَانَة هَذَا : هُوَ أَزْدِيّ وَاسْمه ( شَمْعُونَ ) بِالْمُعْجَمَةِ فِيمَا قَالَهُ الْبُخَارِيّ ، وَقَالَ غَيْره : بِالْمُهْمَلَةِ وَاَللَّه أَعْلَم .
تنبيه :
قال الحاكم : دلت الآية على وجوب موالاة المؤمنين ، والنهي عن موالاة الكفار ، قال : والمنهي عن موالاتهم في الدين فقط ، وقد ذكر المؤيد بالله ، قدس الله روحه ، معنى هذا ، وهي : أن تحبه لما هي عليه ، وهذا ظاهر ، وهو يرجع إلى الرضا بالكفر ، وما أحبه لأجله .
فأما الخلطة فليست موالاة ، وقد جوز العلماء رحمهم [ في المطبوع رحمه ] الله نكاح الفاسقة ، وكذلك الإحسان ، فقد مدح الله من أطعم الأسارى ، وجوّز كثير منهم الوصية لأهل الذمة ، وكذلك الاغتمام بغمه في أمر ، كاغتمام المسلمين لغلب فارس للروم ، كذا في تفسير بعض الزيدية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَدْ نَزّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍٍ غَيْرِهِ إِنّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ إِنّ اللّهَ جَامِعُ المنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنّمَ جَميعاً } [ 140 ]
{ وَقَدْ نَزّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ } قال المفسرون : إن المشركين بمكة كانوا في مجالسهم يخوضون في ذكر القرآن ويستهزئون به ، فنهى الله تعالى المسلمين عن القعود معهم بقوله : { وَإِذَا رَأَيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍٍ غَيْرِهِ } [ الأنعام : 68 ] ، وهذه الآية من سورة الأنعام وهي مكية ، فامتنع المسلمون عن القعود معهم ، ولما قدموا المدينة كانوا يجلسون مع اليهود والمنافقين ، وكان اليهود يستهزئون بالقرآن ، فنزلت هذه الآية : { وَقَدْ نَزّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ } يعني في سورة الأنعام .
{ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا } يعني يجحد بها .
{ وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍٍ غَيْرِهِ } وفيها دلالة على أن المنزل على النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وإن خوطب به خاصة ، منزل على الأمة وأن مدار الإعراض عنهم ، هو العلم بخوضهم في الآيات ، ولذلك عبّرَ عن ذلك تارة بالرؤية وأخرى بالسماع ، وأن المراد بالإعراض إظهار المخالفة بالقيام عن مجالسهم ، لا الإعراض بالقلب أو بالوجه فقط .
{ إِنّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ } أي : إذا قعدتم معهم دل على رضاكم بالكفر بالآيات والاستهزاء بها ، فتكونون مثلهم في الكفر واستتباع العذاب ، فاجتماعكم بهم ههنا سبب اجتماعكم في جهنم ، كما قال : { إِنّ اللّهَ جَامِعُ المنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنّمَ جَميعاً } لأنهم لما شاركوهم في الكفر ، واجتمعوا على الاستهزاء بالآيات في الدنيا ، جمعهم الله في عذاب جهنم يوم القيامة .
تنبيه :
قال بعض مفسري الزيدية : اعلم أنه لا خلاف في تحريم القعود والمخالطة ، إذا كان ذلك يوهم بأن القاعد راضٍٍ ، ولا خلاف أنه يحرم إذا خشي الافتتان ، ولا خلاف أنه يجوز القعود للتنكير عليهم والدفع لهم .
قال الحاكم : ولذلك يحضر العلماء مع أهل الضلالة يناظرونهم ، ولهم بذلك الثواب العظيم ، وأما إذا خلا عما ذكرنا ، وكان لا يوهم بالرضا ولا يفتتن ولا ينكر عليهم ، فاختلف العلماء في ذلك ، فمنهم من أوجب المثل ، لظاهر الآية .
قال الحاكم : روي أن قوماً أُخذوا على شراب في عهد عُمَر بن عبد العزيز ، فأمر بضربهم الحدّ ، فقيل : فيهم صائم ، فتلا قوله تعالى : { فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ } إلى قوله : { إِنّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ } وهذا أيضاً ظاهر حديث : < لا يحل لعين ترى الله يُعصى ، فتطرف حتى تغير وتنتقل > .
وقال أبو عليّ وأبو هاشم : إن أنكر بقلبه لم يجب عليه أكثر من ذلك ، وجاز له القعود ، يعني مع عجزه عن الإنكار باليد أو باللسان ، وعدم تأثير ذلك .
أقول : ما قالاه مخالف لظاهر الآية ، فلا عبرة به .
وقال القاضي والحاكم : أما لو كان له حق في تلك البقعة ، فله أن لا يفارق ، كمن يحضر الجنائز مع النوح ، أو الولائم ، فيسمع المنكر فيسعه أن يقعد ، والنكير على قدر الإمكان واجب عليه .
وعن الحسن : لو تركنا الحق للباطل لبطل الشرع ، وقد كان خرج إلى جنازة ، خرجت النساء فيها فلم يرجع ، ورجع ابن سيرين . انتهى .
أقول : من له حق في البقعة ، فعليه أن يفارق كغيره ، إذ ليس في مفارقته ضياع حقه ، وعموم الآية يشمله ، ولا تخصيص إلا بمخصص ، والمسألة المقيس عليها غير ما نحن فيه ، على ما فيها من الخلاف ، كما حَكَى ، ولا قياس مع النص ، وقد حكى الحاكم أقوالاً كلها ترجع إلى تخصيص الآية ، ولا مستند فيها إلا الرأي ، والاحتمال ، فلذا أعرضنا عنها .
قال أبو عليّ : تحريم القعود في المجلس لما فيه من الإبهام ، فإذا أظهر الكراهة جاز القعود في مكان آخر ، وإن قرب ، وإما إذا خاضوا في حديث غيره ، جاز القعود ، بمفهوم الآية ثم إن الآية محكمة عند الجمهور .
وروي عن الكلبي ، أنها منسوخة بقوله تعالى : { وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابهمْ مِنْ شَيْء } [ الأنعام : 69 ] ، وهو مردود ، فإن من التقوى اجتناب مجالس هؤلاء الذين يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها .
قال الحاكم : دلت الآية على أن الراضي بالاستهزاء بالرسول والدين ، كافر ، لأنه تعالى قال : { إِنّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ } ودلت على أن الرضا بالكفر كفر .
وقال السمرقندي : في هذه الآية دليل على أن من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم ، فيكون معهم في الوزر سواء ، وينبغي أن ينكر عليهم ، إذا تكلموا بالمعصية أو عملوا بها ، فإن لم يقدر أن ينكر عليهم ينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية .
وروى ابن جرير عن الضحاك أنه قال : دخل في هذه الآية كل محدث في الدين ، وكل مبتدع إلى يوم القيامة .
وقال في " فتح البيان " : وفي هذه الآية باعتبار عموم لفظها الذي هو المعتبر دون خصوص السبب ، دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقيص والاستهزاء ، للدلالة الشرعية ، كما يقع كثيراً من أُسراء التقليد الذين استبدلوا آراء الرجال بالكتاب والسنة ، ولم يبق في أيديهم سوى ( قال إمام مذهبنا : كذا ) و ( قال فلان من أتباعه بكذا ) أو إذا سمعوا من يستدل على تلك المسألة بآية قرآنية أو بحديث نبوي ، سخروا منه ، ولم يرفعوا إلى ما قاله رأساً ، ولا بالوا به بالة ، وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع وخطب شنيع ، وخالف مذهب إمامهم الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع ، مع أن الأئمة ، الذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم ، برءاء من فعلهم ، فإنهم قد صرحوا في مؤلفاتهم بالنهي عن تقليدهم . انتهى .
وفي " الإكليل " : قال ابن الفرس ، واستدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب اجتناب أهل المعاصي والأهواء ، وفي هذه الآية أصل لما يفعله المصنفون من الإحالة على ما ذكر في مكان آخر ، والتنبيه عليه . انتهى .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الّذِينَ يَتَرَبّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلم نَكُن مّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلم نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مّنَ المؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يجعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤْمِنِينَ سَبِيلاً } [ 141 ]
{ الّذِينَ يَتَرَبّصُونَ بِكُمْ } إما بدل من : { الّذِينَ يَتّخِذُونَ } وإما صفة للمنافقين : أي : ينتظرون بكم ما يتجدد لكم من ظفر أو هزيمة .
{ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ اللّهِ } أي : نصر وتأييد وظفر وغنيمة : { قَالُواْ } لكم : { أَلم نَكُن مّعَكُمْ } أي : مظاهرين لكم ، فَلَنَا دخل في فتحكم ، فليكن لنا شركة في غنيمتكم .
{ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ } أي : [ إدالة ] على المؤمنين في بعض الأحيان ، كما وقع يوم أحد ، فإن الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة .
{ قَالُواْ } أي : الكفرة تودداً إليهم ، ومصانعة لهم ، ليحظوا عندهم ويأمنوا كيدهم لضعف إيمانهم .
{ أَلم نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } أي : ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم .
{ وَنَمْنَعْكُم مّنَ المؤْمِنِينَ } بأن ثبطناهم عنكم ، وتَوَاَنَيْنَا في مظاهرتهم حتى انتصرتم عليهم ، وإلا لكنتم نهبة للنوائب ، وتسمية ( ظفر المسلمين ) فتحاً ، و ( ما للكافرين ) نصيباً ؛ لتعظيم شأن المسلمين وتخسيس حظ الكافرين .
قال في " الانتصاف " : وهذا من محاسن نكت القرآن ، فإن الذين كان يتفق للمسلمين فيه ، استئصالٌ لشأفة الكفار واستيلاء على أرضهم وديارهم وأموالهم وأرض لم يطؤها ، وأما ما كان يتفق للكفار فمثل الغلبة والقدرة التي لا يبلغ شأنها أن تسمى فتحاً ، فالتفريق بينهما أيضاً مطابق للواقع ، والله أعلم .
قال بعض الزيدية : في الآية دلالة على وجوب محبة نصرة المؤمنين وكراهة أن تكون اليد عليهم ، وتحريم خذلانهم ، وإن المنافق لا سهم له ، لأن في الآية إشارة إلى أنهم طلبوا لما منعوا ، فقالوا : ألم نكن معكم ؟ ثم قال ، يجوز التأليف من الغنيمة للمنافقين ، كما فعل الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يوم حنين ، حتى أعطى الواحد منهم مائة ناقة ، والواحد من المسلمين الشاة أو البعير .
{ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : حكماً يليق بشأن كل منكم من الثواب والعقاب ، أي : فلا يغتر المنافقون بحقن دمائهم في الدنيا لتلفظهم بالشهادة ، لما له تعالى في ذلك من الحكمة ، فيوم القيامة لا ينفعهم ظواهرهم .
وقوله تعالى : { وَلَن يجعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤْمِنِينَ سَبِيلاً } ردٌّ على المنافقين فيما أمَّلُوُه ورجوه وانتظروه من زوال دولة المؤمنين ، وفيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين خوفاً على أنفسهم منهم ، إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم ، كما قال تعالى : { فَتَرَى الّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ } إلى قوله : { نَادِمينَ } [ المائدة : 52 ] ، أي : لن يسلط الله الكافرين على المؤمنين فيستأصلوهم بالكية ، وإن حصل لهم ظفر حيناً ما ، أفاده ابن كثير .
وهذا التأويل روعي فيه سابق الآية ولاحقها ، وأن السياق في ( المنافقين ) وهو جيد ، ويقرب منه ما في تفسير ابن عباس من حمل ( الكافرين ) على يهود المدينة ، ومن وقف مع عمومها ، قال : المراد بالسبيل الحجة ، وتسميتها ( سَبيلاً ) لكونها موصلاً للغلبة ، أو المراد : ما دام المؤمنون عاملين بالحق غير راضين بالباطل ولا تاركين للنهي عن المنكر ، كما قال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُم مّن مّصِيبَةٍٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] قال : فلا يراد أنه قد يُدال للكافرين .
تنبيه :
قد يستدل بهذه الآية على أن الكافر لا ينكح مؤمنة ، وأنه لا يلي على مؤمنة في نكاح ولا سفر ، وأن الكافر لا يشفع المؤمن ، وهذا قول الهادي في " الأحكام " والنفس الزكية والراضي بالله ، وروي مثله عن الحسن الشعبي وأحمد .
وقال في " المنتخب " والمؤيد بالله والحنفية والشافعية : له الشفعة ، لعموم أدلة الشفعة ، وبالقياس على رد المعيب فيما شرى من مسلم ، ويستدل بأن المرتد تبين منه امرأته المسلمة ، والخلاف : هل بنفس الردة كما يقول الحنفية ، أو بانقضاء العدة كما يقول المؤيد بالله والشافعية ؟ وكذلك بيع العبد المسلم من الذمي ، أجازه الحنفية ومنعه المؤيد والشافعية ، لكن على الأول ، يجبر على بيعه ، فلا يستخدمه ، قيل : أو الأمة مجمع على تحريم بيعها من الكافر إذا كانت مسلمة .
ولا خلاف أن الآية مخصوصة بأمور ، منها : الدَّين يثبت للكافر على المؤمن ، ومنها : أنه ينفق المؤمن على أبويه الكافرين ونحو ذلك ، وإذا خص العموم فقد اختلف الأصوليون : هل تبقى دلالته على الباقي حقيقة أم مجازاً ؟ انتهى .
وزاد بعض المفسرين : إن الكافر لا يرث المسلم ، وإن المسلم لا يقتل بالذمي .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّ المنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاّ قَلِيلاً } [ 142 ]
{ إِنّ المنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } أي : يفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان ، وإبطان الكفر ، والله يفعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع ، حيث تركهم معصومي الدماء والأموال في الدنيا ، وأعد لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة .
{ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصّلاَةِ } أي : أتوها : { قَامُواْ كُسَالَى } أي : متثاقلين كالمكر على الفعل ، قال ابن كثير : هَذِهِ صِفَة الْمُنَافِقِينَ فِي أَشْرَف الْأَعْمَال وَأَفْضَلهَا وَخَيْرهَا وَهِيَ الصَّلَاة ، إِذَا قَامُوا إِلَيْهَا قَامُوا وَهُمْ كُسَالَى عَنْهَا لِأَنَّهُمْ لَا نِيَّة لَهُمْ فِيهَا ، وَلَا إِيمَان لَهُمْ بِهَا ، وَلَا خَشْيَة وَلَا يَعْقِلُونَ مَعْنَاهَا .
كَمَا رَوَى اِبْن مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : يُكْرَه أَنْ يَقُوم الرَّجُل إِلَى الصَّلَاة وَهُوَ كَسْلَان ، وَلَكِنْ يَقُوم إِلَيْهَا طَلْق الْوَجْه ، عَظِيم الرَّغْبَة ، شَدِيد الْفَرَح ، فَإِنَّهُ يُنَاجِي اللَّه ، وَإِنَّ اللَّه تُجَاهه يَغْفِر لَهُ ، وَيُجِيبهُ إِذَا دَعَاهُ ، ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَة : { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاة قَامُوا كُسَالَى } . انتهى .
قال الحاكم : وفي الآية دلالة على أن من علامات المنافق الكسل في الصلاة ، والكسل : التثاقل عن الشيء لمشقته ، فهذه الآية في صفة ظواهرهم كما قال : { وَلاَ يَأْتُونَ الصّلاَةَ إِلاّ وَهُمْ كُسَالَى } [ التوبة : 54 ] ثم ذكر تعالى صفة بواطنهم الفاسدة : { يُرَآؤُونَ النّاسَ } أي : يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة ليحسبوهم مؤمنين ، لا لإخلاصه ومطاوعة أمر الله ، ولهذا يتخلفون كثيراً عن الصلاة التي لا يرون فيها غالباً ، كصلاة العشاء في وقت العتمة وصلاة الصبح في وقت الغلس ، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < إن أَثْقَلُ الصَّلاَةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِما ، لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍٍ ، إِلَى قَوْمٍٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ > .
وفي رواية : < وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقاً سَمِيناً أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ ، وَلَوْلَا مَا فِي الْبُيُوت مِنْ النِّسَاء وَالذُّرِّيَّة لَحَرَّقْت عَلَيْهِمْ بُيُوتهمْ [ بِالنَّارِ ] > .
وروى الْحَافِظ [ في المطبوع زيادة واو ] أَبُو يَعْلَى : عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < مَنْ أَحْسَن الصَّلَاة حَيْثُ يَرَاهُ النَّاس ، وَأَسَاءَهَا حَيْثُ يَخْلُو ، فَتِلْكَ اِسْتِهَانَة ، اِسْتَهَانَ بِهَا رَبّه عَزَّ وَجَلَّ > .
وقوله : { وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاّ قَلِيلاً } فيه وجوه :
الأول : معناه ولا يصلون إلا قليلاً لأنهم إنما يصلون رياءً ما دام من يرقبهم ، فإذا خلوا بأنفسهم لم يصلوا وتأويل ( الذكر ) بالصلاة ، روي في غير ما آيةٍٍ عن السلف .
الثاني : ولا يذكرون الله في صلاتهم إلا قليلاً ، لأنهم لا يخشعون ولا يدرون ما يقولون ، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون ، وقد روى الإمام مَالِكٍٍ عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍٍ قَالَ : قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : < تِلْكَ صَلَاة الْمُنَافِق ، تِلْكَ صَلَاة الْمُنَافِق ، تِلْكَ صَلَاة الْمُنَافِق : يَجْلِس يَرْقُب الشَّمْس حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْن قَرْنَيْ الشَّيْطَان ، قَامَ فَنَقَرَ [ في المطبوع فقر ] أَرْبَعاً لَا يَذْكُر اللَّه فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً > . وكذا رَوَاهُ مُسْلِم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ .
الثالث : معناه : ولا يذكرون الله بالتهليل والتسبيح إلا ذكراً قليلاً في الندرة ، على أن الذكر بمعناه المتبادر منه ، وعليه ، فمن علامات النفاق استغراق الأوقات بحديث الدنيا ، وقلة ذكره تعالى بتحميد أو تهليل أو تسبيح ، كما أن من صفات المؤمنين ذكر الله تعالى كثيراً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } [ 143 ]
{ مّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ } حال من فاعل ( يراؤن ) أو منصوب على الذم و ( ذلك ) إشارة إلى الإيمان والكفر ، المدلول عليهما بمعونة المقام ، أو إلى ( المؤمنين والكافرين ) ، فيكون ما بعده تفسيراً له ، أي : مرددين بينهما متحيرين قد ذبذبهم الشيطان والهوى ، وحقيقة المذبذب الذي يُذب عن كلا الجانبين ، أي : يذاد ويدفع ، فلا يقر في جانب واحد ، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب ، كأن المعنى كلما مال إلى جانب ذُبّ عنه .
{ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء } أي : لا منضمين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين ، ليسوا بمؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرحين ، وقال مجاهد : { لاَ إِلَى هَؤُلاء } يعني أصحاب محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : { وَلاَ إِلَى هَؤُلاء } يعني اليهود .
{ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ } عن دينه وحجته : { فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } أي : طريقاً إلى الصواب والهدى ، روى الشيخان عَنْ اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : < مَثَل الْمُنَافِق كَمَثَلِ الشَّاة الْعَائِرَة بَيْن الْغَنَمَيْنِ ، تُعِير إِلَى هَذِهِ مَرَّة ، وَإِلَى هَذِهِ مَرَّة > .
والعائرة المتحيرة المترددة لا تدري لأي الغنمين تتبع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مّبِيناً } [ 144 ]
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مّبِيناً } هذا نهي عن موالاة الكفرة ، يعني مصاحبتهم ، ومصادقتهم ، ومناصحتهم ، وإسرار العودة إليهم ، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم ، كما قال تعالى : { لاّ يَتّخِذِ المؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ المؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍٍ إِلاّ أَن تَتّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ } [ آل عِمْرَان : 28 ] ، أي : يحذركم عقوبته في ارتكابكم نهيه ، ولهذا قال ههنا : { أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مّبِيناً } أي : حجة عليكم في عقابكم بموالاتكم إياهم ، وقد دلت الآية على تحريم موالاة المؤمنين للكافرين .
قال الحاكم : وهي الموالاة في الدين والنصرة فيه ، لا المخالفة والإحسان .
قال الزمخشري : وعن صعصعة بن صوحان أنه قال لابن أخ له : خالص المؤمن وخالق الكافر والفاجر ، فإن الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن ، وأنه يحق عليك أن تخالص المؤمن .
قال أبو السعود : وتوجيه توجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها بأن يقال : أتجعلون . . . . إلخ ، للمبالغة في إنكار ذلك ، وتهويل أمره ببيان أنه مما لا يصدر على العاقل إرادته ، فضلاً عن صدور نفسه ، كما في قوله عز وجل : { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ } [ البقرة : 108 ] .
لطيفة :
اِبْن أَبِي حَاتِم عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : كُلّ سُلْطَان فِي الْقُرْآن حُجَّة ، وكذا قال غيره من أئمة التابعين .
قال محمد بن يزيد : هو من ( السليط ) ، وهو دهن الزيت لإضاءته ، أي : فإن الحجة من شأنها أن تكون نيرة ، وفي " البصائر " إنما سمي الحجة سلطاناً لما يلحق من الهجوم على القلوب ، لكن أكثر تسلطه على أهل العلم والحكمة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّ المنَافِقِينَ فِي الدّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } [ 145 ]
{ إِنّ المنَافِقِينَ فِي الدّرْكِ } قرئ بسكون الراء وفتحها : { الأَسْفَلِ مِنَ النّارِ } أي : الطبق الذي في قعر جهنم ، والدرك كالدرج ، إلا أنه يقال باعتبار الهبوط ، والدرج باعتبار الصعود ، وإنما عوقبوا بذلك لأنهم أخبث الكفرة ، إذ ضموا إلى الكفر استهزاءً بالإسلام وخداعاً للمسلمين .
قال الرازي : وبسبب أنهم لمَّا كانوا يظهرون الإسلام ، يمكنهم الاطلاع على أسرار المسلمين ثم يخبرون الكفار بذلك ، فكانت تتضاعف المحنة من هؤلاء المنافقين ، فلهذه الأسباب عوقبوا بذلك .
ونقل عن ابن الأنباريّ أنه قال : إنه تعالى أخبر عن آل فرعون بقوله : { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ الْعَذَابِ } [ غافر : 46 ] ، وعن المنافقين بما في هذه الآية ، فأيهما أشد عذاباً ؟
فأجاب : بأنه يحتمل أن أشد العذاب إنما يكون في الدرك الأسفل ، وقد اجتمع فيه الفريقان ، والله أعلم .
روى الترمذيّ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ : قَالَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ عَلَى مِنْبَرِ الْبَصْرَةِ ، إِنّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : < إِنَّ الصَّخْرَةَ الْعَظِيمَةَ لَتُلْقَى مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ فَتَهْوِى فِيهَا سَبْعِينَ عَاماً ، وَمَا تُفْضِي إِلَى قَرَارِهَا > .
وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَقُولُ : أَكْثِرُوا ذِكْرَ النَّارِ ، فَإِنَّ حَرَّهَا شَدِيدٌ ، وَإِنَّ قَعْرَهَا بَعِيدٌ ، وَإِنَّ مَقَامِعَهَا حَدِيدٌ .
وروى الترمذيّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < وَيْلٌ وَادٍٍ في جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الْكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفاً قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ > .
{ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } : أي : ينقذهم مما هم فيه ويخرجهم من أليم العذاب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ المؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ المؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً } [ 146 ]
{ إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ } أي : عن النفاق : { وَأَصْلَحُواْ } أي : أعمالهم .
{ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ } أي : وثقوا به بترك موالاة الكفار : { وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ } فلم يبق لهم فيه تردد ، ولم يريدوا بطاعتهم إلا وجهه سبحانه ، لا رياء الناس كما كانوا قبل .
{ فَأُوْلَئِكَ مَعَ المؤْمِنِينَ } إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيّز الصلة ، وما فيه من معنى البعد ، للإيذان ببعد المنزلة وعلو الطبقة ، أي : لعلو رتبتهم بهذه الأمور لا يكونون في درك من النار فضلاً عن الأسفل ، بل مع المؤمنين المستمرين على الإيمان بلا نفاق ، أي : معهم في درجات الجنان ، وقد بيّن ذلك بقوله سبحانه : { وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ المؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً } ثواباً وافراً في الجنة ، فيشاركونهم فيه ويساهمونهم ، وحذفت ( الياء ) في الخط هنا اتباعاً للفّظ ، لسكونها وسكون اللام بعدها ، ومثله : { يَوْمَ يَدْعُ الدّاعِ } [ القمر : 6 ] ، و : { سَنَدْعُ الزّبَانِيَةَ } [ العلق : 18 ] ، و : { يَوْمَ يُنَادِ المنَادِ } [ ق : 41 ] ونحوها ، فإن الحذف في الجميع لالتقاء الساكنين ، فجاء الرسم تابعاً للفظ ، والقراء يقفون عليه دون ياء ، اتباعاً للخط الكريم ، إلا يعقوب والكسائيّ وحمزة ، فإنهم يقفون بالياء نظراً إلى الأصل ، كذا في " الفتح " .
تنبيه :
قال الزمخشري : فإن قلت : من المنافق ؟ قلت : هو في الشريعة من أظهر الإيمان وأبطن الكفر ، وأما تسميته من ارتكب ما يفسق به بـ ( المنافق ) فللتغليظ ، كقوله : من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر جهاراً ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : < ثلاث من كن فيه فهو منافق ، وإن صام وإن صلى وزعم أنه مسلم : من إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان > .
وقيل لحذيفة - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : من المنافق ؟ فقال : الذي يصف الإسلام ولا يعمل به .
وقيل لابن عمر : ندخل على السلطان ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه ، فقال : كنا نعده من النفاق . انتهى كلامه .
أقول : قول الزمخشري ( فللتغليظ ) يوجد مثله لثّلة من شراح الحديث وغيرهم ، وقد بحث فيه بعض محققي مشايخنا بقوله : هذا الجواب لا يرتضيه من عرف قدر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، وكأنهم غفلوا عما يستلزمه هذا الجواب مما لا يرتضيه أدنى عالم أن ينسب إليه ، وهو الإخبار بخلاف الواقع لأجل الزجر . انتهى .
وقال بعض المحققين : عليك أن تقر الأحاديث كما وردت ، لتنجوا من معرة الخطر ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً } [ 147 ]
{ مّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ } قال أبو السعود : هو استئناف مسوق لبيان أن مدار تعذيبهم ، وجوداً وعدماً ، إنما هو كفرهم ، لا شيء آخر ، فيكون مقرراً لما قبله من إثابتهم عند توبتهم .
و ( ما ) استفهامية مفيدة للنفي على أبلغ وجه وآكده ، أي : أي : شيء يفعل الله سبحانه بتعذيبكم ؟ أيتشفى به من الغيظ ؟ أم يدرك به الثار ؟ أم يستجلب به نفعاً ؟ أم يستدفع به ضرراً ؟ كما هو شأن الملوك ، وهو الغني المتعالي عن أمثال ذلك ، وإنما هو أمر يقتضيه كفركم ، فإذا زال ذلك بالإيمان والشكر ، انتفى التعذيب لا محالة ، وتقديم ( الشكر ) على ( الإيمان ) لما أنه طريق موصل إليه ، فإن الناظر يدرك أولاً ما عليه من النعم الأنفسية والآفاقية فيشكر شكراً مبهماً ، ثم يترقى إلى معرفة المنعم فيؤمن به ، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه .
{ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً } الشكر منه تعالى المجازاة والثناء الجميل ، كما في " القاموس " ويرحم الله ابن القيم حيث يقول في " الكافية الشافية " :
~وهو الشكور ، فلن يضيّع سعيهم لكن يضاعفه بلا حِسْبان
~ما للعباد عليه حق واجب هو أوجب الأجر العظيم الشان
~كلا ولا عملٌ لديه ضائع إن كان بالإخلاص والإحسان
~إن عذّبوا فبعدله أو نعِّموا فبفضله ، والحمدُ للرحمن(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاّ يُحِبّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَن ظُلم وَكَانَ اللّهُ سَميعاً عَلِيماً } [ 148 ]
{ لاّ يُحِبّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ } أي : لا يحب الله تعالى أن يجهر أحد بالقبيح من القول .
{ إِلاّ مَن ظُلم } إلا جهر المظلوم بأن يدعو على ظالمه ، أو يتظلم منه ويذكره بما فيه من السوء ، فإن ذلك غير مسخوط عنده سبحانه ، حتى إنه يجيب دعاءه ، ومعلوم أن أنواع الظلم كثيرة .
فما نقل عن السلف هنا من ذكر نوع منه ، فليس المراد حصر معنى الآية فيه ، بل القصد تنبيه المستمع على النوع ، فمن ذلك ما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية ، يقول : لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوماً ، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه ، وذلك قوله : { إِلاّ مَن ظُلم } وإن صبر فهو خير له .
ومن ذلك ما رواه عبد الرزاق وابن إسحاق وهنّاد بن السري عن مجاهد قال : هي في رجل أضاف رجلاً فأساء قِراه ، فتحول عنه ، فجعل يثني عليه بما أولاه ، فرخص له أن يثني عليه بما أولاه .
وفي رواية عنه : وهو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته فيخرج فيقول : أساء ضيافتي ولم يحسن .
وفي رواية : هو الضيف المحول رحله ، فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول .
قال ابن كثير : وقد روى الجماعة ( سوى النسائي والترمذيّ ) عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍٍ [ رضى الله عنه ] قَالَ : قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍٍ فَلاَ يَقْرُونَنَا فَمَا تَرَى ؟ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : < إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ > .
وروى الإمام أحمد عَنِ الْمِقْدَامِ أَبِي كَرِيمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ : < أَيُّمَا مُسْلِمٍٍ ضَافَ قَوْماً فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُوماً ، فَإِنَّ حَقّاً عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍٍ نَصْرُهُ حَتَّى يَأْخُذَ بِقِرَى لَيْلَتِهِ مِنْ زَرْعِهِ وَمَالِهِ > .
وروى هو وأبو داود عنه أيضاً ، سمع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقول : < لَلَيْلَةُ الضَّيْفِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍٍ ، فَإِنْ أَصْبَحَ بِفِنَائِهِ مَحْرُوماً كَانَ دَيْناً عَلَيْهِ ، فإِنْ شَاءَ اقْتَضَاه ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَه > .
ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الحافظ أبو بَكْر الْبَزَّار عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : إِنَّ لِي جَاراً يُؤْذِينِي ، فَقَالَ لَهُ : < أَخْرِج مَتَاعَكَ فَضَعْهُ عَلَى الطَّرِيقِ > .
فَأَخَذَ الرَّجُل مَتَاعه فَطَرَحَهُ عَلَى الطَّرِيق ، فَكُلّ مَنْ مَرَّ بِهِ قَالَ : مَا لَك ؟ قَالَ : جَارِي يُؤْذِينِي ، فَيَقُول : اللَّهُمَّ ! اِلْعَنْهُ ، اللَّهُمَّ ! أَخْزِهِ .
قَالَ : فَقَالَ الرَّجُل : اِرْجِعْ إِلَى مَنْزِلك ، وَاَللَّه ! لَا أُوذِيك أَبَداً .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي كِتَاب الْأَدَب .
وقال عبد الكريم بن مالك الجزريّ ، في هذه الآية ، هو الرجل يشتمك فتشتمه ، ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه ، لقوله تعالى : { وَلمنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلمهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مّن سَبِيلٍٍ } [ الشورى : 41 ] .
وقال قطرب : معنى الآية : إلا من أكره على أنه يجهر بسوء من القول ، من كفر أو نحوه ، فهو مباح له ، وسئل المرتضى عنها فقال : لا يحب الله ذلك ولا يجيزه لفاعله ، إلا من ظلم وذلك مثل ما كان من مردة قريش وفعله بأصحاب رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، من العقاب والضرب ، ليشتموا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ويتبرؤا منه ، ففعل ذلك عمار ، فخلوه وصلبوا صاحبه ، فأطلق لمن فعل به هكذا أن يتكلم بما ليس في قلبه ، وفي عمار وصاحبه نزل قول الله في سورة النحل : { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النحل : 106 ] ، فكانت هذه الآية مبينة لما في قلب عمار من شحنة بالإيمان . انتهى .
وكل هذا مما تشمله الآية بعمومها ، وما نقله السمرقندي وغيره عن الفراء في قوله تعالى : { إِلاّ مَن ظُلم } أن : { إِلاّ } بمعنى ( لا ) يعني : ولا من ظلم - فهذا من تحريف الكلم عن مواضعه : فإن الآية صريحة في أنه في أنه يجوز للمظلوم أن يتكلم بالكلام الذي هو من السوء في جانب من ظلمه ، ويؤيده الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجد والحاكم ، عن الرشيد بن سويد عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال : لي الواجد يحل عرضه وعقوبته ، وأما من لم يظلم فجهره بالسوء داخل في الغيبة المحظورة .
فوائد :
قال بعض مفسري الزيدية : أفادت الآية جواز الجهر بالدعاء على الظالم والجهر بمساويه ، ودلت على أن من جهر بكلمة الكفر مكرها ، لم يكفر ، لأنه مظلوم ، وإذا ثبت بطلان حكم لفظ ( الكفر ) مع الظلم ، فكذا يلزم في سائر الأحكام من البيع والعتاق والطلاق والإقرار ، ثم قال : والمحبة ههنا بمعنى الإباحة ، لا أن ذلك يريده الله تعالى .
أقول : هذه نزعة اعتزالية .
ثم قال : وتسميته سوءاً ، لكونه يسوء المقول فيه ، وإلا فليس بقبيح في هذه الحال .
ثم قال : وقول من قال ( إلا ) هنا بمعنى ( الواو ) أي : ومن ظلم ، مثل :
~وكلُّ أَخٍٍ مُفَارِقُهُ أَخوهُ لعَمْرُ أَبِيكَ إِلا الفَرْقَدَانِ
فخلاف الظاهر . انتهى .
وقد نقل في معنى هذه الآية حكم ونوادر بديعة ، قال الشعبيّ : يعجبني الرجل إذا سيم هوناً ، دعته الأنفة إلى المكافأة ، وجزاء سيئة سيئة مثلها ، فيلغ كلامه الحجاج فقال : لله دره ! أي : رجل بين جنبيه ! وتمثل :
~ولا خير في عرض امرئ لا يصونه ولا خير في حلم امرئ ذل جانبه
وقال أعرابي لابن عباس رضي الله عنهما : أتخاف عليّ جناحاً إن ظلمني رجل فظلمته ؟ فقال له : العفو أقرب للتقوى ، فقال : { وَلمنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلمهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مّن سَبِيلٍٍ } .
وقال المتنبي :
~مِنَ الحِلم أن تستعمل الجهل دُونهُ إذا اتَّسَعَتْ في الحِلمِ طُرْقُ المَظَالِمِ
لطيفة :
الاستثناء في قوله تعالى : { إِلاّ مَن ظُلم } إما متصل أو منقطع ، فعلى الأول فيه وجهان :
الأول : قول أبي عبيدة : هذا من باب حذف المضاف ، أي : إلا جهر من ظلم ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه .
والثاني : قول الزجاج : المصدر ههنا بمعنى الفاعل ، أي : لا يحب الله المجاهر بالسوء إلا من ظلم ، وعلى أنه منقطع ، فالمعنى لكن المظلوم له أن يجهر بظلامته .
وقوله تعالى : { وَكَانَ اللّهُ سَميعاً عَلِيماً } فيه وعد للمظلوم بأنه تعالى يسمع شكواه ودعاءه ويعلم ظلم ظالمه ، كما قال تعالى : { وَلاَ تَحْسَبَنّ اللّهَ غَافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظّالمونَ } [ إبراهيم : 42 ] ، ووعيد له أيضاً بأن يتعدى في الجهر المأذون فيه ، بل ليقل الحق ولا يقذف بريئاً بسوء فإنه يصير عاصياً لله بذلك ، ثم حث سبحانه على العفو بعد ما جوّز الجهر بالسوء وجعله محبوباً ، حثاً على الأحب إليه والأفضل عنده ، وإلا دخل في الكرم والتخشع والعبودية ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍٍ فَإِنّ اللّهَ كَانَ عَفُوّا قَدِيراً } [ 149 ]
{ إِن تُبْدُواْ خَيْراً } أي : طاعة وبراً : { أَوْ تُخْفُوهُ } أي : تعملوه سراً : { أَوْ تَعْفُواْ } أي : تتجاوزوا .
{ عَن سُوَءٍٍ } أي : ظلم : { فَإِنّ اللّهَ كَانَ عَفُوّا قَدِيراً } أي : يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام ، فعليكم أن تقتدوا بسنة الله بالعفو مع القدرة ، فثمرة هذه الآية الحث على العفو ، وأن لا يجهر أحد لأحد بسوء ، وإن كان على وجه هذه الانتصار ، حملاً على مكارم الأخلاق ، وإنما كان المقصود العفو لأن ما قبلها في ذكر السوء والجهر به ، فمقتضى السياق ، لا يحب الله الجهر بالسوء إلا من ظلم ، فإن عفا المظلوم عنه ، ولم يدعُ على ظالمه ويتظلم منه ، فإن الله عفو قدير ، وإنما ذكر قبله إبداء الخير وإخفاءه توطئة للعفو عن السوء ، لأنه يعلم من مدح حالَيِ الخير : السر والعلانية ، أن السوء ليس كذلك جهراً وإخفاءً ، فينبغي العفو عنه وتركه ، وإنما عطف ( العفو ) بـ ( أو ) مع دخوله في الخير بقسمية ، للاعتداد به ، والتنبيه على منزلته ، وكونه من الخير بمكان مرتفع ، وليس المراد أنه حينئذ هو المقصود وأنه من قبيل : { وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } [ البقرة : 98 ] ، لأن مثله يعطف بالواو لا بـ ( أو ) ولذا حمل الخير على الطاعة والبر مما هو عبادة وقربة فعلية ، لتغاير العفو ، فالمراد بالتوطئة ذكر ما هو مناسب وقدم عليه ، كذا في " العناية " .
قال ابن كثير : وَرَدَ فِي الْأَثَر : < أَنَّ حَمَلَة الْعَرْش يُسَبِّحُونَ اللَّه ، فَيَقُول بَعْضهمْ : سُبْحَانك عَلَى حِلْمك بَعْد عِلْمك ، وَيَقُول بَعْضهمْ : سُبْحَانك عَلَى عَفْوك بَعْد قُدْرَتك > .
وَفِي الْحَدِيث الصَّحِيح : < مَا نَقَصَت صَدَقَة مِنْ مَال ، وَمَا زَادَ اللَّه عَبْداً بَعْفُو إِلَّا عِزّاً ، وَمَا تَوَاضَعَ أحد لِلَّهِ إلا رَفَعَهُ الِلَّهِ > .
وقال الرازي : اعلم أن معاقد الخير على كثرتها محصورة في أمرين : صدق مع الحق وخُلق مع الخلق ، والذي يتعلق مع الخلق محصور في قسمين : إيصال نفع إليهم ، ودفع ضرر عنهم ، ققوله : { إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ } إشارة إلى إيصال النفع إليهم .
وقوله : { أَوْ تَعْفُواْ } إشارة إلى دفع الضرر عنهم ، فدخل في هاتين الكلمتين جميع أنواع الخير وأعمال البر .
ثم نزل في اليهود إلى أواخر السورة قوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً } [ 150 ]
{ إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ } قال ابن عباس : يعني كعباً وأصحابه .
{ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ } أي : في الإيمان : { وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍٍ } من الرسل .
{ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍٍ } منهم ، كما قالوا : نؤمن بموسى والتوراة ، ونكفر بما وراء ذلك ، وما ذاك إلا كفر بالله تعالى ورسله وتفريق بين الله تعالى ورسله في الإيمان ، لأنه تعالى قد أمرهم بالإيمان بكل نبي يأتي مصدقاً لما معهم ، ونصره ، ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل ، وبالله تعالى من حيث لا يحتسب ، لأنهم لما تساووا في المعجزات والدعوة إلى الحق ، والقيام بالخيرات في أنفسهم ، كان الكفر بواحد منهم كفراً بالكل ، بل وبالله ، إذ يعتقدون فيه أنه صدق الكاذب بخلق المعجزات ، كذا في " التبصير " .
{ وَيُرِيدُونَ } بقولهم ذلك : { أَن يَتّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ } أي : بين الإيمان ببعض ، والكفر ببعض : { سَبِيلاً } ديناً يسلكونه ، مع أنه لا واسطة بينهم قطعاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً } [ 151 ]
{ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّا } أي : الذين كفروا كفراً ثابتاً لا ريب فيه ، فلا عبرة بمن ادعوا الإيمان به ، لأنه ليس شرعياً ، إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله ، لآمنوا بنظيره ، وبمن هو أوضح دليلاً وأقوى برهاناً منه .
{ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً } يهانون به ، وهو عذاب جهنم ، أي : كما استهانوا بمن كفروا به ، إما لعدم نظرهم فيما جاءهم به من الله وإعراضهم عنه ، وإقبالهم على جمع حطام الدنيا ، وإما حيث جسدوه على ما أتاه الله من النبوة العظيمة ، وخالفوه وكذبوه وعادوه وقاتلوه ، فسلط الله عله الذل الدنيوي الموصول بالذل الأخرويّ ، وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله في الدنيا والآخرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلم يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍٍ مّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً } [ 152 ]
{ وَالّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ } كلهم : { وَلم يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍٍ مّنْهُمْ } يعني بهم أمة محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فإنهم يؤمنون بكل نبي بعثه الله ، ولا يفرقون بين أحد منهم ، بأن يؤمنوا ببعضهم ويكفروا بآخرين ، كما فعله الكفرة .
{ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ } أي : يعطيهم : { أُجُورَهُمْ } ثواب إيمانهم بالله ورسله في الآخرة : { وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً } أي : لما فرط منهم : { رّحِيماً } مبالغاً في الرحمة عليهم ، بتضعيف حسناتهم .
ثم بين تعالى ما جُبِل عليه اليهود من اللجاج والعناد ، والبعد عن طريق الحق ، بقوله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مّنَ السّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلمهِمْ ثُمّ اتّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مّبِيناً } [ 153 ]
{ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ } قال ابن عباس : كعب وأصحابه .
{ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مّنَ السّمَاء } أي : كما أنزلت التوراة على موسى جملة في الألواح ، مع أنه لا حاجة لهم إلى طلب ذلك بعد ما وضحت البراهين على نبوتك ، لا سيما بإعجاز ما نزل عليك من الفرقان ، إلا أن الذي حملهم على سؤالهم هو التعنت والكفر ، كما قال قبلهم كفار قريش نظير ذلك : { وَقَالُواْ لَن نّؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] الآيات .
ولهذا قال تعالى : { فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ } أي : مما سألوك .
{ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً } أي : رؤية ظاهرة : { فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ } أي : النار النازلة من السماء : { بِظُلمهِمْ } أي : جراءتهم على الله وعتوهم وعنادهم ، إذ لا يرون آية إلا يطلبون أكبر منها ، حتى يروا آية ملجئة إلى الإيمان ، بحيث لا يفيد الإيمان معها ، فلا يكادون يؤمنون إيماناً يفيدهم أصلاً ، ولا يبعد منهم الكفر ، بعد رؤية الآيات ، فإنهم رأوا آيات موسى .
{ ثُمّ اتّخَذُواْ الْعِجْلَ } أي : إلهاً وعبدوه : { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيّنَاتُ } أي : الدلائل القاطعة على نفي الشرك ، ثم تابوا عنه .
{ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ } أي : تركناهم ولم نستأصلهم : { وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مّبِيناً } أي : حجة بينة وتسلطاً ظاهراً على إهلاك من خالفه ، وفي ذلك بشارة للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بنصره ، وإن بالغوا في العناد والإلحاد ، ثم أشار إلى أنهم مع رؤيتهم الآيات ، لم ينقادوا لأوامر موسى ، كما قال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطّورَ بِميثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم ميثَاقاً غَلِيظاً } [ 154 ]
{ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطّورَ } أي : الجبل ليتحملوا التكليف : { بِميثَاقِهِمْ } أي : بسبب أخذ ميثاقهم ، ليخافوا فلا ينقضوه .
قال ابن كثير : وذلك حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة ، وظهر منهم إباءً على ما جاءهم به موسى عليه الصلاة والسلام ، رفع الله على رؤوسهم جبلاً ، ثم ألزموا وسجدوا ، وجعلوا ينظرون إلى ما فوق رؤوسهم ، خشية أن يقسط عليهم ، كما قال تعالى : { وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنّهُ ظُلّةٌ وَظَنّواْ أَنّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوّةٍٍ } [ الأعراف : 171 ] الآية .
{ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجّداً } أي : ادخلوا باب إيلياء مطأطئين - عند الدخول - رؤوسكم ، فخالفوا ما أمروا به ، وقد تقدم في سورة البقرة إيضاح هذه الآيات مفصلاً .
{ وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السّبْتِ } أي : وصيناهم بحفظ السبت والتزام ما حرم الله عليهم مادام مشروعاً لهم .
{ وَأَخَذْنَا مِنْهُم ميثَاقاً غَلِيظاً } أي : عهداً شديداً ، فخالفوا وعصوا وتحيلوا على ارتكاب ما حرم الله عز وجل ، كما هو مبسوط في سورة الأعراف عند قوله : { واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ } [ الأعراف : 163 ] ، ثم بين تعالى ما أوجب لعنهم وطردهم ومسخهم من مخالفتهم بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَبِمَا نَقْضِهِم ميثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً } [ 155 ]
{ فَبِمَا نَقْضِهِم ميثَاقَهُمْ } ( ما ) مزيدة للتأكيد ، أو نكرة تامة ، و ( نقضهم ) بدل منها ، والباء متعلقة بفعل محذوف ، أي : فبسبب نقضهم ميثاقهم الذي أخذ عليهم ، فعلنا بهم ما فعلنا من اللعن والمسخ وغيرهما من العقوبات النازلة عليهم ، أو على أعقابهم .
{ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ } أي : حججه وبراهينه والمعجزات التي شاهدوها على يد الأنبياء عليه السلام : { وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء } كزكريا ويحيى عليهما السلام .
قال العلامة البقاعي : وهو أعظم من مطلق كفرهم ، لأن ذلك سدٌّ لباب الإيمان عنهم وعن غيرهم ، لأن الأنبياء سبب الإيمان ، ولما كان الأنبياء معصومين من كل نقيصة ، ومبرأين من كل رزية ، لا يتوجه عليهم حق لا يؤدونه ، قال تعالى : { بِغَيْرِ حَقّ } أي : كبير ولا صغير أصلاً ، وهذا الحرف لكونه في سياق طعنهم في القرآن ، الذي هو أعظم الآيات ، وقع التعبير فيه بأبلغ مما في آل عِمْرَان ، لأن هذا مع جمع الكثرة ، وتنكير الحق ، عبر فيه بالمصدر ، المفهم لأن الاجتراء على القتل صار لهم خلقاً وصفة راسخة ، بخلاف ما مضى ، فإنه بالمضارع الذي ربما دل على العروض ، ثم ذكر أعظم من ذلك كله وهو إسنادهم عظائمهم إلى الله تعالى فقال : { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } جمع ( أغلف ) أي : هي مغشاة بأغشية جبلّية لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، كما قال تعالى : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنّةٍٍ مّمّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } [ فصلت : 5 ] أي : فلا ذنب لنا : لأن قلوبنا خلقت بعيدة عن فهم ما يقول الأنبياء ، وذلك سبب قتلهم ورد قولهم ، وهذا بعد أن كانوا يقرون بهذا النبي الكريم ويشهدون له بالرسالة ، وبأنه خاتم الأنبياء ، ويصفونه بأشهر صفاته ويترقبون إتيانه ، لا جرم رد الله عليهم بقوله ، عطفاً على ما تقديره ( وقد كذبوا ) لأنهم ولدوا على الفطرة كسائر الولدان فلم تكن قلوبهم في الأصل غلفاً .
{ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } أي : ليس كفرهم ، وعدم وصول الحق إلى قلوبهم لكونها غلفاً بحسب الجبلّة ، بل الأمر بالعكس ، حيث ختم الله عليها بسبب كفرهم ، لأنه خلقها أولاً على الفطرة متمكنة من اختيار الخير والشر ، فلما أعرضوا بما هيأ قلوبهم له من قبول النقص عن الخير ، واختاروا الشر باتباع شهواتهم الناشئة من نفوسهم ، وتركوا ما تدعو إليه عقولهم ، طبع سبحانه عليهم فجعلها قاسية محجوبة ، ولذا سبب عنه قوله : { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً } منهم ، كعبد الله بن سلام وأضرابه ، أو : إلا إيماناً قليلاً لا يعبأ به لتمرن قلوبهم على الكفر والطغيان .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } [ 156 ]
{ وَبِكُفْرِهِمْ } أي : بعيسى عليه السلام ، وهو عطف على ( قولهم ) وإعادة الجار لطول ما بينهما ، وقد جوز عطفه على ( بكفرهم ) فيكون هو وما عطف عليه من أسباب الطبع ، وقيل هذا المجموع معطوف على مجموع ما قبله ، تكرير الكفر للإيذان بتكرر كفرهم ، حيث كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد عليهم الصلاة والسلام ، كذا في أبي السعود .
{ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } أي : مع قولهم الذي يجترئون به على مريم عليها السلام ، بعد ظهر كراماتها وإرهاصات ولدها ومعجزاته ، يبهتونها به .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا المسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبّهَ لَهُمْ وَإِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّ مّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلم إِلاّ اتّبَاعَ الظّنّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } [ 157 ]
{ وَقَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا المسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ } .
قال أبو السعود : نظم قولهم هذا في سلك سائر جناياتهم التي نُعيِتَ عليهم ليس لمجرد كونه كذباً بل لتضمنه لابتهاجهم بقتل النبي عليه السلام والاستهزاء به ، فإن وصفهم له عليه السلام بعنوان الرسالة إنما هو بطريق التهكم به عليه السلام ، كما في قوله تعالى : { وَقَالُواْ يَا أَيّهَا الّذِي نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ } [ الحجر : 6 ] ، ولإنبائه عن ذكرهم له عليه السلام بالوجه القبيح ، على ما قيل من أن ذلك وضع للذكر الجميل من جهته تعالى ، مكان ذكرهم القبيح ، وقيل : هو نعت له عليه الصلاة والسلام من جهته تعالى ، مدحاً له ، ورفعاً لمحله ، وإظهاراً لغاية جراءتهم ، في تصديهم لقتله ، ونهاية وقاحتهم في افتخارهم بذلك .
لطيفة :
قال الراغب : سمي عيسى بالمسيح لأنه مسحت عنه القوة الذميمة ، من الجهل والشره والحرص وسائر الأخلاق الذميمة ، كما أن الدجال مسحت عنه القوة المحمودة من العلم والعقل والحلم والأخلاق الحميدة ، وقال شمر : لأنه مسح بالبركة ، وهو قوله تعالى : { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنْتُ } [ مريم : 31 ] ، أو لأن الله مسح عنه الذنوب .
وذكر المجد في كتابه " البصائر " في اشتقاقه ستة وخمسين قولاً ، وتطرّق شارح القاموس لبعضها ، فانظره .
{ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبّهَ لَهُمْ } أي : لا يصح لهم الفخر بقتله ، لأنهم ما قتلوه ، ولا متمسك لهم فيما يزعمونه من صلبهم إياه ، لأنهم ما صلبوه ولكن قتلوا وصلبوا من ألقى عليه شبهه .
{ وَإِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ } أي : في شأن عيسى : { لَفِي شَكّ مّنْهُ } أي : من قتله ، وسنبينه بعد .
{ مَا لَهُم بِهِ } أي : بقتله : { مِنْ عِلم إِلاّ اتّبَاعَ الظّنّ } استثناء منقطع ، أي : لكن يتبعون فيه الظن الذي تخيلوه .
{ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } أي : قتلاً يقيناً بمعنى متيقنين أنه عيسى عليه السلام ، بل فعلوه شاكين فيه ، أو المعنى : انتفى قتله انتفاء يقيناً بمعنى انتفائه على سبيل القطع .
قال البرهان البقاعي : وهو أولى لقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَل رّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } [ 158 ]
{ بَل رّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ } ردٌّ وإنكار لقتله ، وإثبات لرفعه ، أي : اليقين إنما هو في رفعه إليه .
{ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } أي : لا يبعد رفعه على الله ، لأنه عزيز لا يغلب على ما يريده ، وحكيم اقتضت حكمته رفعه ، فلا بد أن يرفعه ، وهي حفظه لتقوية دين محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، حين انتهائه إلى غاية الضعف بظهور الدجال ، فيقتله ، أفاده المهايمي .
تنبيه :
لا خفاء في أن هذه الآية الكريمة لتكذيب اليهود في دعوى الصلب التي تابعهم عليها أكثر النصارى ، ولتبرئة ساحة مقام عيسى عليه السلام مما توهموه في ذلك ، ولما كانت هذه الآية من مباحث الأمتين ، ومعارك الفرقتين - أردت بسط الكلام في هذا المقام ، انتهاجاً للحق ، وأخذاً بناصر الصدق ، ورد أباطيل المكذبين ، وتزييف أقوال الملحدين ، نورد أولاً ما زعموه ورَوَوْه ، مما نفاه التنزيل الكريم ، ثم بطلان المرويّ عندهم وتهافته بالحجج الدامغة ، ثم ما رواه أئمة سلفنا رضي الله عنهم في هذه القصة ، ثم رد زعمهم أن إلقاء الشبه سفسطة ، ثم سقوط دعواهم التواتر في الصلب ، ثم تزييف تفسير بعض النصارى لهذه الآية ، وأنها مطابقة لمعتقدهم على زعمه ، مع ذكر من رفض عقيدة المسلمين ، ويطابق هذه الآية ، ونختم هذه المباحث بما قاله شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - في هذه الآية ، وأبدع ، على عادته قدس سره ، فهذا المطالب ينبغي معرفتها لكل طالب ، إذ تفرعت إلى مباحث فائقة ، وفوائد شائقة ، فنقول وبالله التوفيق :
ذكر ما زعموه ورووه مما نفاه التنزيل الكريم
جاء في الفصل الثاني والعشرين من إنجيل لوقا ما نصه :
2 - كان رؤساء الكهنة والكتبة يلتمسون كيف يقتلون يسوع لكنهم كانوا يخافون من الشعب .
38 - أي : لأن الشعب كلهم كانوا يبكرون إليه في الهيكل ( وهو الكنيسة ) ليستمعوه .
إنجيل لوقا
الإصحاح الحادي والعشرون
( 37 ) وكان في النهار يعلم في الهيكل وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل الذي يدعى جبل الزيتون .
( 38 ) وكان كل الشعب يبكرون إليه في الهيكل ليسمعوه .
37 - وكان في النهار يعلم في الهيكل وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل المسمى جبل الزيتون ، كما ذكر لوقا قبل الفصل .
3 - فدخل الشيطان في يهوذا الملقب بالأسخريوطيّ وهو أحد الاثني عشر .
4 - فمضى وفاوض رؤساء الكهنة والولاة كيف يُسْلمه إليهم .
5 - ففرحوا وعاهدوه أن يعطوه فضة .
6 - فواعدهم وكان يطلب فرصة ليسلمه إليهم بمعزل عن الجميع .
7 - وبلغ يومُ الفطير الذي كان ينبغي أن يذبح فيه الفِصح .
8 - فأرسل بطرس ويوحنا قائلاً : امضيا فأَعِدَّا لنا الفِصح لنأكل .
9 - فقالا له : أين تريد أن نعِِدَّ .
10 - فقال لهما : إذا دخلتما المدينة يلقاكما رجل حامل جرة ماء ، فاتبعاه إلى البيت الذي يدخله .
الإصحاح الثاني والعشرون
1 - وقرب عيد الفطير الذي يقال له : الفصح .
2 - وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يقتلونه ، لأنهم خافوا الشعب .
3 - فدخل الشيطان في يهوذا الذي يدعى الإسخريوطي وهو من جملة الاثني عشر .
4 - فمضى وتكلم مع رؤساء الكهنة وقواد الجند كيف يسلمه إليهم .
5 - ففرحوا وعاهدوه أن يعطوه فضة .
6 - فواعدهم ، وكان يطلب فرصة ليسلمه إليه خِلْواً من جمع .
7 - وجاء يوم الفطير الذي كان ينبغي أن يذبح فيه الفصح .
8 - فأرسل بطرس ويوحنا قائلاً : اذهبا وأعدّا لنا الفصح لنأكل .
9 - فقالا له : أين تريد أن نُعِدّ .
10 - فقال لهما إذا دخلتما المدينة يستقبلكما إنسان حامل جَرّة ماء ، اتبعاه إلى البيت حيث يدخل .
11 - وقولا لرب البيت : المعلم يقول لك أين المنزل الذي آكل فيه الفِصح مع تلاميذي .
12 - فهو يريكما غرفة كبيرة مفروشة ، فأعِدَّا هناك .
13 - فانطلقا فوجدا كما قال لهما وأعدا الفِصح .
14 - ولما كانت الساعة اتكأ هو والرسل الاثنا عشر معه .
15 - فقال لهم : لقد اشتهيتُ شهوة أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم .
16 - فإني أقول لكم : إني لا آكله بعد حتى يتم في ملكوت الله .
17 - ثم تناول كأساً وشكر وقال : خذوا فاقتسموا بينكم .
18 - فإني أقول لكم : إني لا أشرب من عصير الكرمة حتى يأتي ملكوت الله .
19 - وأخذ خبزاً وشكر وكسر وأعطاهم قائلاً : هذا هو جسدي الذي يُبْذَل لأجلهم ، اصنعوا هذا لذكري .
20 - وكذلك الكاس من بعد العشاء قائلاً : هذه هي الكأس العهد الجديد بدمي الذي يسفك من أجلكم .
21 - ومع ذلك فها إن يَدَ الذي يُسلمني معي على المائدة .
22 - وابن البشر ماضٍٍ كما هو محدود ولكن الويل لذلك الرجل الذي يسلمه .
23 - فطفقوا يسألون بعضهم بعضاً : من كان منهم مزمعاً أن يفعل ذلك .
24 - ووقعت بينهم مجادلة في أيهم يُحسب الأكبر .
25 - فقال لهم : إن ملوك الأمم يسودونهم والمسلطين عليهم يدعون محسنين .
26 - وأما أنتم فلستم كذلك ، ولكن ليكن الأكبر فيكم كالأصغر ، والذي يتقدم كالذي يَخْدُم .
27 - وأنتم الذي ثبتُّم معي في تجاربي .
28 - فأنا أُعِدُّ لكم الملكوت كما أعده لي أبي .
29 - لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط بني إسرائيل الاثني عشر .
30 - وقال يسوع : سمعان سمعانُ هو ذا الشيطان سأل أن يُغربلكم مثل الحنطة .
31 - لكني صليت من أجلك لئلا ينقص إيمانك وأنت متى رجعت فَثَبِّتْ إخوتك .
32 - فقال له : أنا مستعد أن أمضي معك إلى السجن وإلى الموت .
33 - قال : إني أقول لك يا بطرس إنه لا يصيح الديك اليوم حتى تنكر ثلاث مرات أنك تعرفني .
34 - ثم خرج ومضى على عادته إلى جبل الزيتون وتبعه التلاميذ .
35 - فلما انتهى إلى المكان قال لهم : صلوا لئلا تدخلوا في تجربة .
36 - ثم فَصَل عنهم نحو رمية حجر وخر على ركبتيه وصلى .
37 - قائلاً : يا رب إن شئت فأجِزْ عني هذه الكأس لكي لا تكن مشيئتي بل مشيئتك .
38 - وتراءى له ملاك من السماء يشدّده .
39 - ولما أخذ في النزاع أطال في الصلاة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض .
40 - ثم قام من الصلاة وجاء إلى تلاميذه فوجده نياماً من الحزن .
41 - فقال لهم : ما بالكم نائمين ، قوموا فصلوا لئلا تدخلوا في تجربة .
42 - وفيما هو يتكلم إذ بجمع يتقدمهم المسمى يهوذا أحد الاثني عشر فدنا من يسوع ليقبله .
43 - فقال له يسوع : يا يهوذاً أبقبلةٍٍ تُسلم ابن البشر .
44 - فما رأى حوله ما سيحدث قالوا له : أنضرب بالسيف .
45 - وضرب أحدهم عبدَ رئيس الكهنة فقط أذنه اليمنى .
46 - فأجاب يسوع وقال : قفوا لا تزيدوا ، ثم لمس أذنه فأبرأه .
47 - ثم قال يسوع للذين جاؤوا إليه من رؤساء الكهنة وولاة الهيكل والشيوخ : كأنما خرجتم إلى لص بسيوف وعصي .
48 - إني كل يوم كنت معكم في الهيكل ولم تمدوا عليّ أيديكم ولكن هذه ساعتكم وهذا سلطان الظلمة .
حينئذ تركه تلاميذه وهربوا .
49 - فارتموا على يسوع قبضوا عليه وقادوه إلى بيت رئيس الكهنة .
وكان الكتبة والرؤساء مجتمعين ، وهناك أعطى يهوذا الحواري الثلاثين درهماً التي أخذها رشوة على تسليم المسيح .
وكان بطرس يتبعه من بعيد . . .
50 - وأضرموا ناراً في وسط الدار وجلسوا حولها فجلس بطرس بينهم .
51 - فرأته جارية جالساً عند الضوء فتفرست فيه ثم قالت : إن هذا أيضاً كان معه .
52 - فكفر أمام الجميع وأنكره قائلاً : إني لست أعرفه .
53 - وبعد قليل رآه آخر فقال : أنت أيضاً منهم ، فأخذ بطرس يحلف لا أعرف هذا الرجل ولست منهم .
54 - وبعد نحو ساعة أكد عليه آخر قائلاً : في الحقيقة هذا أيضاً كان معه فإني جليلي .
55 - فقال بطرس : يا رجل لا أدري ما تقول .
قال مفسروهم : إن خطأ بطرس هذا كان ثقيلاً : لأن المسيح قال : من ينكرني أمام الناس أنكره أمام أبي الذي في السماوات .
60 - وفي الحال بينما هو يتكلم صاح الديك .
61 - فالتفت يسوع ونظر إلى بطرس فتذكر كلامه إذ قال : إنك قبل أن يصيح الديك ، تنكرني ثلاث مرات .
62 - فخرج بطرس وبكى بكاءً مراً .
63 - وكان الرجال الذين قبضوا عليه يهزؤون به ويضربونه .
64 - وغطوه وطفقوا يلطمونه ويسألونه قائلين : تنبأ من الذي ضربك .
65 - وأشياء آخر كانوا يقولونها عليه مجدفين .
66 - ولما كان النهار اجتمع شيوخ الشعب ورؤساء الكهنة عليه ليميتوه وأحضروا إلى محفلهم .
67 - وقالوا : إن كنت أنت المسيح فقل لنا ، فقال لهم : إن قلت لكم لا تؤمنون .
68 - وإن سألتكم لا تجيبوني ولا تطلقوني .
69 - ولكن من الآن يكون ابن البشر جالساً عن يمين قدرة الله .
70 - فقال الجميع : أفأنت ابن الله ، فقال لهم : أنتم تقولون إني أنا هو .
71 - فقالوا ما حاجتنا إلى شهادة إنا قد سمعنا من فمه .
فأوثقوه ، وأما يهوذا الأسخريوطي الدافع ، لما رأى يسود قد دِينَ ندم ومضى فأعاد الثلاثين الفضة إلى رؤساء الكهنة قائلاً : لقد أخطأت بتسليم دماً زكياً ، فقالوا له : ما علينا أنت أخبر ، فطرح الفضة في الهيكل وذهب فخنق نفسه ، وأما رؤساء الكهنة فأخذوا الفضة وقالوا لا يحل لنا أن نضعها في بيت التقدمة لأنها ثمن دم .
1 - ثم ذهب جميع جمهورهم ومضوا بيسوع إلى بيلاطُسَ .
2 - وطفقوا يشكونه قائلين : إنا وجدنا هذا يفسد أمتنا ويمنع من أداء الجزية لقيصر ويدعي أنه هو المسيح الملك .
3 - فسأله بيلاطُس قائلاً : هل أنت ملك اليهود ؟ فأجابه قائلاً : أنت قلت .
4 - فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة وللجموع : إني لم أجد على هذا الرجل علة .
5 - فلجّوا وقالوا : إنه يهيج الشعب إذ يعلم في اليهودية كلها مبتدئاً من الجليل إلى هنا .
6 - فلما سمع ببلاطس ذكر الجليل سأل : هل الرجل جليلي .
7 - ولما علم أنه من إيالة هيرؤدس أرسله إلى هيرؤدس وكان في تلك الأيام في أورشليم .
8 - فلما رأى هيرؤدس يسوع فرح جداً لأنه من زمان طويل كان يشتهي أن يراه لسماعه عنه أشياء كثيرة ويرجو أن يعاين آية يصنعها .
9 - فسأله بكلام كثير فلم يجبه بشيء .
10 - وكان رؤساء الكهنة والكتبة واقفين يشكونه بلجاجة .
11 - فازدراه هيرؤدس مع جنوده وهزأ به وألبسه ثوباً لامعاً وردّه إلى بيلاطيس .
12 - وتصادق هيردؤس وبيلاطُس في ذلك اليوم ، وقد كانا من قبل متعاديين .
13 - فدعا بيلاطس رؤساء الكهنة والعظماء والشعب .
14 - وقال لهم : قد قدمتم إليّ هذا الرجل كأنه يفتن الشعب ، وها أنا قد فحصته أمامكم فلم أجد على هذا الرجل علة مما تشكونه به .
15 - ولا هيرؤدس أيضاً لأني أرسلتكم إليه وهو ذا لم يُصنع به شيء من حكم الموت .
16 - فأنا أؤدبه وأطلقه .
17 - وكان لا بد له أن يطلق لهم في كل عيد رجلاً .
18 - فصاحوا كلهم جملة قائلين : ارفع هذا وأطلق لنا بَرْأبّا .
19 - كان ذاك قد ألقي في السجن لأجل فتنة حدثت في المدينة وقتلٍٍ .
20 - فنادم بيلاطس مرة أخرى وهو يريد أن يطلق يسوع .
21 - فصرخوا قائلين : اصلبه ، اصلبه .
22 - فقال لهم مرة ثالثة : وأي شر صنع هذا ؟ إني لم أجد عليه علة للموت فأنا أؤدبه وأطلقه .
23 - فألحوا عليه بأصوات عالية طالبين أن يصلب واشتدت أصواتهم .
24 - فحكم بيلاطس أن يُجْرَي مطلبهم .
25 - فأطلق لهم الذي طلبوه ذاك الذي ألقي في السجن لأجل فتنة وجلد يسوع بالسياط وأسلمه ليصلب .
قال مفسروهم : ولذا يظهر أن اللصين اللذين صلبا معه جلدا أيضاً ، والجلادون كانوا ستين نفراً ، وأرشاهم اليهود ليميتوه بالجلد خشية أن يطلقه بيلاطس ونزعوا ثيابه وألبسوه لباساً قرمزياً وضفروا إكليلاً من شوك العوسج ، ووضعوه على رأسه ، وأنشبوا في رأسه عنفاً أشواكه الحادة ، ومن هنا أخذت الكنيسة العادة على إبقاء إكليلاً من شعر في رأس الكهنة تذكاراً لإكليل المسيح الشوكي ، ثم جثوا على ركبهم مستهزئين به وقائلين : السلام يا ملك اليهود وتناولوا قصبة يضربون بها رأسه ، ولما هزؤا به نزعوا ذلك اللباس وألبسوه ثيابه واستقاوه ليصلب ، وكان يتقدمه مُبَوّق يدعو الشعب إلى هذا المنظر بحسب عادة اليهود ، وخشبة الصلب على منكبيه .
32 - وانطلق معه بآخرين مجرمين ليُقتلا .
ولما بلغوا إلى المكان المسمى الجمجمة صلبوه هناك هو والمجرمين ، أحدهما عن اليمين والآخر عن اليسار . . . . .
وناولوه خلّاً بمرارة أو خمراً ممزوجاً بعلقم بعد أن طلب الماء فذاقه ولم يشرب .
ولما صلبوه بالمسامير وبالحبال معها ، وكانت المسامر في راحة اليدين والرجلين ، ضربوا جنبه بالحرية فنفذت من صدره ، وفي الصليب محل يسند إليه رجليه ، واقتسموا ثيابه بالقرعة وهي ثلاثة : القميص والرداء والجبة ، ولم يكن يلبس السروال كعادة تلك البلاد ، وجلسوا هناك يحرسون لئلا يسرقه أحد .
وكان الشعب واقفين ينظرون ، والرؤساء يسخرون منه معهم قائلين : قد خلص آخرين فليخلص نفسه إن كان هو مسيح الله المختار .
36 - وكان الجند أيضاً يهزؤون به .
37 - وقائلين : إن كنت أنت ملك اليهود فخلص نفسك .
38 - وكان عنوان فوقه مكتوباً بالحروف اليونانية واللاتينة والعبرانية : هذا هو ملك اليهود .
44 - ولما كان نحو الساعة السادسة حدثت ظلمة على الأرض كلها إلى الساعة التاسعة .
45 - وأظلمت الشمس وانشق حجاب الهيكل من وسطه .
46 - ونادى يسوع بصوت عظيم قائلاً : إيل إيل لِمَ شبقتني ؟ أي : إلهي إلهي لم ذا تركتني ؟ فكان أناس من القائمين يقولون : دعوا ننظر هل يإتي إيليا فيخلصه ، ثم صرخ أيضاً بصوت عالٍٍ وأسلم الروح .
47 - فلما رأى قائد المئة ما حدث مجد الله قائلاً : في الحقيقة كان هذا الرجل صديقاً .
48 - وكل الجموع الذين كانوا مجتمعين على هذا المنظر ، لما عاينوا ما حدث ، رجعوا وهم يقرعون صدروهم .
49 - وكان جميع معارفه والنساء اللواتي تبعنه من الجليل واقفين من بعيد ينظرون ذلك .
50 - وإذا برجل اسمه يوسف وهو صالح صديق .
51 - ولم يكن موافقاً لرأيهم وعملهم .
52 - فدنا إلى بيلاطس وسأله جسد يسوع فأعطاه إياه .
53 - فأنزله ولفه في كتان ووضعه في قرب منحوت لم يكن وضع فيه أحد .
54 - وكان يوم التهيئة أي : الجمعة وقد أخذ السبت يلوح . . . . .
وفي يوم السبت اجتمع عظماء الكهنة عند بيلاطس قائلين له : قد تذكرنا أن ذاك المضل كان يقول وهو حيّ : إني أقوم بعد ثلاثة أيام ، فمر أن يحرسوا القبور حتى اليوم الثالث ، لئلا يأتي تلاميذه فيسرقوه ليلاً ويقولوا للشعب : إنه قام من بين الأموات ، فتكون الضلالة الأخيرة شراً من الأولى ، فأمر لهم بجنود يحرسونه وحصنوا القبر وختموا الحجر مع الجنود ، وفي عشية السبت المسفر صباحه عن الأحد أتت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظر القبر .
قال مفسروهم : إن هذه الآية أتعبت العلماء في تفسيرها والتوفيق بين أجزائها وبين أقوال باقي الإنجيلين . انتهى .
وإذا بزلزلة عظيمة قد ضارت لأن ملك الرب انحدر من السماء ، وكان الملك جبريل ظهر بهيئة شاب وجاء فدحرج الحجر عن باب القبر وجلس فوقه ، وكان منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج ، ومن الخوف منه اضطرب الحراس وصاروا كالأموات .
فقال للنسوة : لا تخفن ، فقد عرفت أنكن تطلبن يسوع المصلوب ، إنه ليس ههنا ، فإنه قد قام .
وقال لوقا :
55 - كانت النساء اللواتي أتين معه من الجليل ، يتبعن ، فأبصرن القبر وكيف وضع فيه جسده .
56 - ثم رجعن وأعددن حنوطاً وأطياباً ، وفي السبت قررن على حسب الوصية .
1 - وفي أول الأسبوع باكراً جداً أتين إلى القبر وهن يحملن الحنوط الذي أعددناه .
2 - فوجدن الحجر قد دحرج عن القبر .
3 - فدخلن فلم يجدن جسد يسوع .
4 - وبينما هن متحيرات في ذلك إذا برجلين قد وقفا عندهن بلباس برّاق .
5 - وإذ كن خائفات ونكسن وجوههن إلى الأرض قالا لهن : لماذا تطلبن الحي بين الأموات .
6 - إنه ليس ههنا لكنه قام ، اذكرن كيف كلمكن وهو في الجليل .
7 - إذ قال إنه ينبغي لابن البشر أن يُسلم إلى أيدي أناس خطأة ويصلب ويقوم في اليوم الثالث .
فذكرن كلامه .
ورجعن من القبر وأخبرن الأحد عشر وجميع الباقين بهذا كله .
وقلن لهم : قد أخذوا يسوع من القبر ولا نعلم أين وضعوه .
10 - ومريم المجدلية وحنة ومريم أم يعقوب وأخر معهن هن اللواتي أخبرن الرسل بهذا .
فكان عندهم عند الكلام كالهذيان ولم يصدقوهن .
12 - فقام بطرس وأسرع إلى القبر وتطلع فرأى الأكفان موضوعة على حدة فانصرف متعجباً في نفسه مما كان .
13 - وإن اثنين منهم كانا سائرين في ذلك اليوم إلى قرية اسمها عِمّاوْسُ بعيدة عن أورشليم ستين غلوة .
14 - وكانا يتحادثان عن تلك الحوادث كلها .
15 - وفيما هما يتحادثان ويتساءلان دنا منهما يسوع نفسه وكان يسير معهما .
16 - ولكن أمسكت أعينهما عن معرفته .
17 - فقال لهما : ما هذا الكلام الذي تتحاوران فيه وأنتما سائران مكتئبين .
18 - فأجاب أحدهما : أفأنت غريب في أورشليم ولم تعلم ما حدث بها في هذه الأيام .
19 - فقال لهما : وما هو ؟ قالا له : ما يخص يسوع الناصري الذي كان رجلاً نبياً ذا قوة في العمل والقول أما الله والشعب كله .
20 - وكيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه .
21 - واليوم هو اليوم الثالث لحدوث ذلك .
22 - إلا أن نساء منا أدهشننا لأنهن بكرن إلى القبر .
23 - فلم يجدن جسده فأتين وقلن : إنهن رأين مظهر ملائكة قالوا إنه حي .
24 - فمضى قوم من الذين معنا إلى القبر فوجدوا كما قالت النساء لكنهم لم يروه .
25 - فقال لهما : يا قليلي الفهم وبطيئي القلب في الإيمان بكل ما نطقت به الأنبياء .
26 - أما كان ينبغي للمسيح أن يتألم هذه الآلام ثم يدخل إلى مجده .
27 - ثم أخذ يفسر لهما ، من موسى ومن جميع الأنبياء ، ما يختص به في الأسفار كلها .
28 - فلما اقتربوا من القرية التي كانا يقصدانها تظاهر بأنه منطلق إلى مكان أبعد .
29 - فألزماه قائلين : امكث معنا لأن المساء مقبل وقد مال النهار ، فدخل ليمكث معهما .
30 - ولما اتكأ معهما أخذ خبزاً وبارك وكسر وناولهما .
31 - فانفتحت أعينهما وعرفاه فغاب عنهما .
32 - فقال أحدهما للآخر : أما كانت قلوبنا مضطرمة فينا حين كان يخاطبنا في الطريق ويشرح لنا الكتب .
34 - وقاما في تلك الساعة ورجعا إلى أورشليم فوجدا الأحد عشر والذين معهم مجتمعين .
وهم يقولون : لقد قام يسوع في الحقيقة وتراءى لسِمعان .
35 - فأخذا يخبران بما حدث في الطريق وكيف عرفاه عند كسر الخبز .
36 - وبينما هم يتحدون بهذه وقف يسوع في وسطهم وقال لهم : السلام لكم ، أنا هو لا تخافوا .
37 - فاضطربوا وخافوا وظنوا أنهم يرون روحاً .
38 - فقال لهم : ما بالكم مرتعدين ولماذا ثارت الأوهام في قلوبكم .
39 - انظروا يديّ ورجليّ إني أنا هو جسُّوني وانظروا فإن الروح لا لحم له ولا عظام كما ترون لي .
40 - ثم أراهم يديه ورجليه .
41 - وإذ كانوا غير مصدقين بعدُ من الفرح ومتعجبين قال : أعندكم ههنا طعام .
42 - فأعطوه قطعة من سمك مشوي وشهد عسل .
43 - فأخذ وأكل أمامهم .
ثم أخذ الباقي وأعطاهم .
وبعد مفاوضته معهم .
50 - خرج بهم إلى بيت عَنْيَا ورفع يديه وباركهم .
51 - وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وصعد إلى السماء .
هذا ما جاء في إنجيل لوقا ممزوجاً ببعض تفاسيرهم ، وإنما آثرت النقل عنه لزعمهم أن كلامه أصح وأفصح ، وأشد انسجاماً من كلام باقي مؤلفي العهد الجديد ، كما في " ذخيرة الألباب " من كتبهم .
فصل
في بطلان ما رووه وتهافته بالحجج الدامغة
اعلم أن في كتبهم الموجودة من التضارب في هذه القفصة ما يقضي بالعجب ويبرهن على عدم الوثوق بها ، كما قال تعالى : { مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلم إِلاّ اتّبَاعَ الظّنّ } [ النساء : 157 ] .
قال البرهان البقاعي رحمه الله في " تفسيره " بعد ( أن ساق أزيد مما سقناه عن أناجيلهم ، وقال : أحسن ما رُدّ على الإِنسَاْن بما يعتقده ) ما نصه : فقد بان لك أن أناجيلهم كلها أتفقت على أن علمهم في أمره انتهى إلى واحد ، وهو الأسخريوطي ، وأما غيره من الأعداء فلم يكن يعرفه ، وإنه إنما وضع يده عليه ولم يقل بلسانه إنه هو ، وأن الوقت كان ليلاً ، وأن عيسى نفسه قال لأصحابه : كلكم تشكون فيّ هذه الليلة ، وأن تلاميذه كلهم هربوا فلم يكن لهم علم بعد ذلك بما اتفق في أمره ، وإن بطرس [ في المطبوع : بطس ] إنما تبعه من بعيد ، وإن الذي دل عليه خنق نفسه ، وإن الناقل لأن الملك قال إنه قام من الأموات ، إنما هو نسوة كن عند القبر في مدى بعيد ، وما يدري النسوة الملك من غيره ، ونحو ذلك من الأمور التي لا تفيد غير الظن ، وأما الآيات التي وقعت على تقدير تسليمها لا يضرنا التصديق بها . . . . وتكون لجراءتهم على الله بصلب من يظنونه المسيح ، وهذا كله يصادق القرآن في أنهم في شك منه ، ويدل على أن المصلوب ، إن صح أنهم صلبوه ، من ظنوه إياه ، هو الذي دل عليه .
قال بعض العلماء ، إنه ألقى شبهه عليه ، ويؤيد ذلك قولهم إنه خنق نفسه ، فالظاهر أنهم لما لم يروه بعد ذلك ظنوا أنه خنق نفسه : فجزموا به ، والله أعلم . انتهى .
وقال العلامة خير الدين الآلوسي في " الجواب الفسيح " : اعلم أن ما ذكره هذا النصراني من أن المسيح عليه السلام مات بجسده ، وأقام على الصليب إلى وقت الغروب من يوم الجمعة ، ثم أنزل ودفن ، وأقام في القبر إلى صبيحة يوم الأحد ، ثم انبعث حياً بلاهوته وتراءى للنسوة اللاتي جئن إلى قبره زائرات ، وظهر بعد لحواربيه . . . . إلى آخر ما قاله - هو ما أجمع عليه النصارى ، ويرد ذلك العقل والنقل ، وإن صدقتهم اليهود في قتله ، فاستمع من المنقول ما يتلى عليك بأذن واعية ، وخذ ما يأتيك من المعقول بالدلائل الهادية ، على أن المقتول هو الشبه ، وأن الحال عند صالبيه اشتبه ، وأن المسيح رفعه الله تعالى ، قبل القتل ، إليه ، لشرفه عنده ومكانته لديه ، قال الله تعالى في بيان حال اليهود : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ } الآية ، وفي الإنجيل أن رئيس الكهنة أقسم على المأخوذ بالله أءنت المسيح بن الله ؟ فقال له : أنت قلت ، ولم يجبه بأنه المسيح ، فلو كان المقسم عليه هو المسيح لقال له : نعم ، ولم يُوَرّ ولم يتلعثم ، وهو محلف بالله ، لا سيما وهو بزعمهم الإله ، الذي نزل لخلاص عباده بإفداء نفسه ودخول الجحيم ولأواه .
وقال لوقا في الفصل التاسع من إنجيله .
28 - إن المسيح صعد قبل الصليب إلى جبل الخليل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا .
29 - فبينما هو يصلي إذ تغير منظر وجهه عما كان عليه وابيضت ثيابه وصارت تلمع كالبرق .
30 - وإذا موسى بن عِمْرَان وإيليا .
31 - قد ظهرا له وجاءت سحابة فأظلتهم .
32 - وأما الذين كانوا مع المسيح فوقع عليهم النوم فناموا .
وهذا من أوضح الدلالة على رفعه وحصول الشبه الذي نقول به ، إذ لا معنى لظهور موسى وإيليا ووقوع النوم على أصحابه إلا رفعه ، ألا ترى أن اليهود كانوا يسمعون منه ، عليه السلام ؛ أن إيليا يأتي ، فلما رفعوه على الخشبة ، كما في الأناجيل ، قالوا : دعوه حتى نرى أن إيليا يأتي فيخلصه ، فصاروا في شك يريدون تحقيقه ، فإن أتى إيليا فما رفعوه هو المسيح ، وإن لم يأت فهو غيره كما في ظنهم ، فلما لم يأت ازدادوا ريبة في أمره ، ومن رآه الحواريون بعد يقظتهم ، يجوز أن يكون طوراً من أطوار روحه ، لأنه عليه السلام لا يبعد أن يكون له قوة التطور ، وتشكل الروح بعد الموت أمر ممكن ، لا سيما وقد صدرت على يديه معجزات أعظم من ذلك ، كإحياء الموتى وكثرة الخبز والحيتان وإبراء الأكمه والأبرص .
وقال يوحنا التلميذ :
1 - كان يسوع مع تلاميذه بالبستان فجاء اليهودي في طلبه .
4 - فخرج إليهم يسوع وقال لهم : من تريدون ؟
قالوا : يسوع ( وقد خفي شخصه عنهم ) ، قال : أنا يسوع ، وفعل ذلك مرتين وقد أنكروا صورته .
فانظر أيها العاقل كيف اعترف هنا أنه يسوع لما علم أن الله تعالى تولى حراسته منهم ، وأنهم لا يقدرون أن ينالوه بسوء ، وكيف لم يعترف بأنه المسيح لما سأله رئيس الكهنة عن نفسه ، فعدم اعترافه هناك واعترافه هنا دليل واضح أيضاً على ما قاله الله سبحانه في القرآن العظيم هو الحق .
ثم من الأدلة على عدم قتله ما اشتملت عليه الأناجيل من اختلاف المباني والمعاني والمقاصد والاضطراب في حكاية هذه الواقعة والتناقض في ألفاظها ، كدعواهم الألوهية مع قوله عليه الصلاة والسلام ( عند صلبه بزعمهم ) : إلهي ! إلهي ! لم تركتني ، وقوله كما في الفصل السادس والعشرين من نجيل متى :
يا أبتاه إن كان لا يمكنك أن تفوتني هذه الكأس أي : الموت ولا بد لي أن أشربها فلتكن مشيئتك ، وقام يصلي ، وقوله لرئيس الكهنة : إنكم من الآن لا ترون ابن الإِنسَاْن حتى ترونه جالساً عن يمين القوة وآتياً في سحاب السماء ، يريد بالقوة البارئ تعالى شأنه ، وفي الفصل السابع من إنجيل يوحنا : إن المريسيين ورؤساء الكهنة أرسلوا شرطاً ليقبضوا على المسيح ( يعني ليقتلوه كما قال مفسروهم ) قال : أنا ماكث أيضاً معكم زماناً ، ثم انطلق إلى من أرسلني وتطلبوني فلا تجدونني ، وحيثما أكن فلا تستطيعون إليه سبيلاً ، قال اليهود في ذواتهم : فإلى أين ؟ هذا عتيد أن ينطلق حتى لا نجده نحن ، قال مفسروهم أي : يصعد إلى السماء ، وغير ذلك مما لو أردنا ذكره والتنقير عنه لطال البحث .
ثم نقل خير الدين نحواً مما أسلفناه عن أناجيلهم وقال بعض ذلك : فَأجِل في تناقضها قداح فكرك ، وفي تهافتها خيول ذهنك ، لترى في هذه القصة ما يدلك على وقوع الشبه ونجاة المسيح عقلاً ونقلاً ، كما قال تعالى : { وَلَكِن شُبّهَ لَهُمْ } وليتبين لك عبوديته ورسالته عليه السلام ، فإن ذلك ظاهر من العبارات ، ولنزدك في البيان وضوحاً بما ننبهك عليه بكلمات يسيرة مقدوحاً ومشروحاً .
منها : قولهم إنه صلب قبل غروب يوم الجمعة ودفن مساءها ، ولما جاءت النسوة عشية السبت المفسر صباحه عن الأحد ، وجدنه فارغاً ، وقد قام منه المدفون ، مع أن النصارى يزعمون كما في أناجيلهم ، أنه يبقى في قبره ثلاثة أيام ، كما بقي يونان ، أي : يونس في بطن الحوت ثلاثة أيام بليالهيا ، فما هذا إلا دليل على الاختلاف والتهافت في الأمر .
ومنها : سؤالة اليهود مرتين من تطلبون ؟ وهم يقولون : يسوع الناصري ، فلم يعرفوه وهو يقول لهم : أنا .
ومنها : أن يهوذا ارتشى ليدلهم عليه ، وجعل العلامة على تعيينه لهم تقبيل يده ، فلو كان معلوماً لهم لعرفوه بلا دلالة وبلا سؤال ، مع أنه كان بين أظهرهم وفي غالب الأيام في هيكلهم .
ومنها : أنه لما أقسم عليه رئيس الكهنة أنه هو المسيح لم يقل له : أنا المسيح ، بل قال له : أنت قلت .
ومنها : إنكار بطرس له وهو من أعظم رسله ، وإنكاره كفر .
ومنها : أنه لما سأله الوالي : أنت هو ؟ لم يردّ له جواباً ، فلو كان هو لاعترف وأقرّ .
ومنها : أنه لما كان أخذه ليلاً ، وقد شوهت صورته وتغيرت محاسنه بالضرب والنكال ، فهي حالة توجب اللبس بين الشيء وخلافه ، فكيف بين الشيء وشبهه ؟ فمن أين يحصل القطع بأنه هو ؟ لا سيما والنصارى قد حكموا أن المسيح عليه السلام قد أعطي قوة التحول من صورة إلى صورة ، ويحتمل أن المسيح ذهب من الجماعة الذين أطلقهم الأعوان ، وكان المتكلم معهم تلميذ أراد أن يبيع نفسه من الله تعالى وقاية للمسيح ، فألقى الله تعالى عليه الشبه ، واتباع الأنبياء يفدون أنفسهم لأنبيائهم ، وهذا فدى نفسه لإلهه ، بزعم النصارى .
ومنها : أنه يحتمل أن الأعوان ارتشوا على إطلاقه كما ارتشى يهوذا على الدلالة عليه ، وأخذوا غيره ممن يريد أن يفدي نفسه للمسيح ، والدليل عليه عدم اعترافه بأنه المسيح .
ومنها : قوله عليه السلام الذي تقدم آنفاً : أنا ماكث معكم زماناً ، ثم أنطلق إلى من أرسلني ، فتطلبوني فلا تجدوني ، وحيثما أكن فلا تستطيعون إلي سبيلاً ، فهذا صريح في الثاني عشر من " إنجيل يوحنا " ما لفظه : قال له الجموع : نحن سمعنا من الناموس أن المسيح يمكث إلى الأبد ، فكيف تقول أنت أن ابن البشر سوف يرتفع من هو هذا ابن البشر ؟ قال لهم يسوع : إن النور معكم زماناً آخر يسيراً ، امشوا ما دام لكم النور ، لئلا يدرككم الظلام ، ومن يمش في الظلام فلا يدري أين يذهب ، آمنوا بالنور ما دام لكم النور ، قال يسوع هذا وذهب متوارياً عنهم . انتهى .
ففي هذا الكلام أدلة كثيرة مؤيدة لقوله تعالى : { بَل رّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ } [ النساء : 158 ] .
منها : أن اليهود قالوا لعيسى : إن المسيح المذكور في العهد القديم يمكث إلى الأبد .
أي : فإن كنت أنت المسيح فأنت لا تموت في هذا الزمان ، بل تبقى إلى قيام الساعة ، ولم يكذبهم في نقلهم ذلك ، والمسلمون يقولون : إنه رفع حياً إلى السماء وهو الآن حي فيها ، وسينزل آخر الزمان عند قرب الساعة ، ويقتل الدجال ويحكم بالشريعة المحمدية ، ويتوفى ويدفن عند النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فهو حي إلى الأبد ، يعني إلى قرب قيام الساعة ونزوله وموته من أمارات الساعة الكبرى ، وفي هذا القول دلالات ظاهرات أيضاً على أنه ليس بإله :
أحدها : أنه قال : ابن البشر ، يعني لا تظنوا أني أدعي الألوهية وإن أحييت الموتى ، لأن ذلك معجزة خلقها الله تعالى على يديه للإيمان بنبوته .
ثانيها : لو كان إلهاً لما توارى منهم خائفاً من قتلهم له ، لأن الإله هو خالق لهم ولعملهم ، وعالم بزمن قدرتهم عليه ، فكيف يفر وهو يعلم وقت موته ؟ وهو خالق الموت والحياة ؟ ثم إنه يحتمل أن الله تعالى ألقى شبهه على شيطان أو مارد من مردة الجن ليخلص نبيه ورسوله من أيدي أعدائه ، ويرفعه إليه محفوظاً مكرماً ، كما أجري عليه يديه إحياء الموتى ، وخلقه من غير أب ، وأبرأ الأكمه والأبرص ، لا سيما وهو بزعمهم إنه العالم وخالق الإنس والجن وبني آدم ، فأي ضرورة تدعو لإثبات أنواع الإهانة والعذاب ، على ما زعموا ، لرب الأرباب ، مع وجود التناقض فيما نقلته أناجيلهم في هذا الفصل والباب .
~عجباً للمسيح بين النصارى وإلى أي : والد نسبوه
~أسلموه إلى اليهود وقالوا إنهم بعد ضربه صلبوه
~فإذا كان ما يقولون حقاً وصحيحاً ، فأين كان أبوه ؟
~حين خلى ابنه رهين الأعادي أتراهم أرضوه أم أغضبوه ؟
~فلئن كان راضياً بأذاهم فاحمدوهم لأنهم عذبوه
~ولئن كان ساخطاً فاتركوه واعبدوهم لأنهم غلبوه
وفي كتاب " الفاصل بين الحق والباطل " ما نصه : وفي الذي اتخذتموه شهيداً على صلبه من كلام عاموص النبي ، أن الله تعالى قال على لسانه : ثلاثة ذنوب أقبل لبني إسرائيل ، والرابعة لا أقبلها ، بيعهم الرجل الصالح - حجة عليكم لا لكم ، لأنه لم يقل بيعهم إياي ، ولا قال بيعهم إلها متساوياً معي .
ويجري تأويل ذلك على وجهين : إما أن يكون عنى بالمبيع عيسى كما تزعمون فقولوا حينئذ إنه ( الرجل الصالح ) كما قال عاموص ، وليس بالإله المعبود ، وإما أن يريد بالمبيع غيره وهو الذي شبه لليهود فابتاعوه وصلبوه ، ويلزمكم وقتئذ إنكار صلوبية عيسى عليه السلام ، كيف لا ونصوص الإنجيل والكتب النصرانية متضافرة دالة على عدم الصلب لعيسى عليه السلام ، ووقوع الشبه على غيره ، وذلك من وجوه :
أحدها : يوجد في الإنجيل أن عيسى عليه السلام صعد إلى جبل الجليل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا ، فبينما هو يصلي إذ تغير منظر وجهه عما كان عليه وابيضت ثيابه فصارت تلمع كالبرق ، وإذا بموسى بن عِمْرَان وإيليا قد ظهرا له وجاءت سحابة فأظلتهم ، فوقع النوم على الذين معه ، فأي مانع يمنع من أن يكون ذلك قد وقع في اليوم الذي طلبته فيه اليهود ، وإنما قد اختلفتم في نقلها كما اختلفتم وتناقضتم في غير ذلك ، وغيرتم الكلم عن مواضعه ، وظهور الأنبياء عليه السلام وتظليل السحابة ، ووقوع النوم على التلاميذ ، يكون حينئذ دليلاً ظاهراً على الرفع إلى السماء وعدم الصلب ، وإلا فلا معنى لظهور هذه الآيات .
وثانيها : ما في الإنجيل أيضاً أن المصلوب قد استسقى اليهود فأعطوه خلاً مضافاً بمر ، فذاقه ولم يشربه ، فنادى : إلهي إلهي لم خذلتني ؟ والأناجيل كلها مصرحة بأنه عليه السلام كان يطوي أربعين يوماً وأربعين ليلة ، ويقول للتلاميذ : إني لي طعاماً لستم تعرفونه ، ومن يصبر على العطش والجوع أربعين يوماً وليلة كيف يظهر الحاجة والمذلة لأعدائه بسبب عطش يوم واحد ؟ هذا لا يفعله أدنى الناس فكيف بخواص الأنبياء ؟ أو كيف بالرب على ما تدعونه ؟ فيكون حينئذ المدعي للعطش غيره ، وهو الذي شبه لكم .
وثالثها : قوله : إلهي إلهي لم خذلتني وتركتني ؟ هو كلام يقتضي عدم الرضا بالقضاء ، وعدم التسليم لأمر الله تعالى ، وعيسى عليه السلام منزه عن ذلك ، فيكون المصلوب غيره ، لا سيما وأنتم تقولون : إن المسيح عليه السلام إنما نزل ليؤثر العالم على نفسه ، ويخلّصه من الشيطان ورجسه ، فكيف تروون عنه ما يؤدي إلى خلاف ذلك ، مع روايتكم في توراتكم أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون ، عليهم السلام ، لما حضرهم الموت كانوا مستبشرين بلقاء ربهم ، فرحين بانقلابهم إلى سعيهم ، لم يجزعوا من الموت ولم يستقيلوا منه ، ولم يهابوا مذاقه ، مع أنهم عبيده ، والمسيح بزعمكم وَلَدٌ وَرَبٌّ ، فكان ينبغي أن يكون أثبت منهم ، ولما لم يكن كذلك دل على أن المصلوب غيره ، وهو الذي شبه لكم .
فصل
فيما روي عن سلفنا الكرام رضي الله عنهم في تفسير هذه الآية .
قال الإمام الحافظ ابن كثير الدمشقي رحمه الله تعالى في " تفسيره " هنا ما نصه : وَكَانَ مِنْ خَبَر الْيَهُود عَلَيْهِمْ لَعَائِن اللَّه وَسَخَطه وَغَضَبه وَعِقَابه ، أَنَّهُ لَمَّا بَعَثَ اللَّه عِيسَى اِبْن مَرْيَم بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ، حَسَدُوهُ عَلَى مَا آتَاهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ النُّبُوَّة وَالْمُعْجِزَات الْبَاهِرَات ، الَّتِي كَانَ يُبْرِئ بِهَا الْأَكْمَه وَالْأَبْرَص وَيُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّه ، وَيُصَوِّر مِنْ الطِّين طَائِراً ثُمَّ يَنْفُخ فِيهِ فَيَكُون طَائِراً يُشَاهِد طَيَرَانه بِإِذْنِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْمُعْجِزَات الَّتِي أَكْرَمَهُ اللَّه بِهَا وَأَجْرَاهَا عَلَى يَدَيْهِ ، وَمَعَ هَذَا كَذَّبُوهُ وَخَالَفُوهُ وَسَعَوْا فِي أَذَاهُ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهُمْ حَتَّى جَعَلَ نَبِيّ اللَّه عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَا يُسَاكِنهُمْ فِي بَلْدَة بَلْ يُكْثِر السِّيَاحَة هُوَ وَأُمّه عَلَيْهِمَا السَّلَام ، ثُمَّ لَمْ يُقْنِعهُمْ ذَلِكَ حَتَّى سَعَوْا إِلَى مَلِك دِمَشْق فِي ذَلِكَ الزَّمَان ، وَكَانَ رَجُلاً مُشْرِكاً مِنْ عَبَدَة الْكَوَاكِب وَكَانَ يُقَال لِأَهْلِ مِلَّته الْيُونَان ، وَأَنْهَوْا إِلَيْهِ أَنَّ فِي بَيْت الْمَقْدِس رَجُلاً يَفْتِن النَّاس وَيُضِلّهُمْ وَيُفْسِد عَلَى الْمَلِك رَعَايَاهُ فَغَضِبَ الْمَلِك مِنْ هَذَا وَكَتَبَ إِلَى نَائِبه بِالْقُدْسِ أَنْ يَحْتَاط عَلَى هَذَا الْمَذْكُور ، وَأَنْ يَصْلُبهُ وَيَضَع الشَّوْك عَلَى رَأْسه ، وَيَكُفّ أَذَاهُ عَنْ النَّاس ، فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَاب اِمْتَثَلَ وَالِي بَيْت الْمَقْدِس ذَلِكَ ، وَذَهَبَ هُوَ وَطَائِفَة مِنْ الْيَهُود إِلَى الْمَنْزِل الَّذِي فِيهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام ، وَهُوَ فِي جَمَاعَة مِنْ أَصْحَابه اِثْنَيْ عَشَر أَوْ ثَلَاثَة عَشَر وَقَيلَ سَبْعَة عَشَر نَفَراً .
وَكَانَ ذَلِكَ يَوْم الْجُمُعَة بَعْد الْعَصْر لَيْلَة السَّبْت فَحَصَرُوهُ هُنَالِكَ . فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ ، وَأَنَّهُ لَا مَحَالَة مِنْ دُخُولهمْ عَلَيْهِ ، أَوْ خُرُوجه إِلَيْهِمْ ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ : أَيّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّة ؟ فَانْتُدِبَ لِذَلِكَ شَابّ مِنْهُمْ ، فَكَأَنَّهُ اِسْتَصْغَرَهُ عَنْ ذَلِكَ ، فَأَعَادَهَا ثَانِيَة وَثَالِثَة ، وَكُلّ ذَلِكَ لَا يُنْتَدَب إِلَّا ذَلِكَ الشَّابّ ، فَقَالَ : أَنْتَ هُوَ ، وَأَلْقَى اللَّه عَلَيْهِ شَبَه عِيسَى حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ ، وَفُتِحَتْ رَوْزَنَة مِنْ سَقْف الْبَيْت ، وَأَخَذَتْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام سِنَةٌ مِنْ النَّوْم فَرُفِعَ إِلَى السَّمَاء ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : { إِذْ قَالَ اللَّه يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيك وَرَافِعك إِلَيَّ } الْآيَة .
فَلَمَّا رُفِعَ خَرَجَ أُولَئِكَ النَّفَر ، فَلَمَّا رَأَى أُولَئِكَ ذَلِكَ الشَّابّ ظَنُّوا أَنَّهُ عِيسَى فَأَخَذُوهُ فِي اللَّيْل وَصَلَبُوهُ وَوَضَعُوا الشَّوْك عَلَى رَأْسه ، وَأَظْهَرَ الْيَهُود أَنَّهُمْ سَعَوْا فِي صَلْبه وَتَبَجَّحُوا بِذَلِكَ وَسَلَّمَ لَهُمْ طَوَائِف مِنْ النَّصَارَى ذَلِكَ لِجَهْلِهِمْ وَقِلَّة عَقْلهمْ ، مَا عَدَا مَنْ كَانَ فِي الْبَيْت مَعَ الْمَسِيح فَإِنَّهُمْ شَاهَدُوا رَفْعه .
وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَّ الْيَهُود أَنَّ الْمَصْلُوب هُوَ الْمَسِيح اِبْن مَرْيَم حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّ مَرْيَم جَلَسَتْ تَحْت ذَلِكَ الْمَصْلُوب وَبَكَتْ ، وَيُقَال إِنَّهُ خَاطَبَهَا وَاَللَّه أَعْلَم .
وَهَذَا كُلّه مِنْ اِمْتِحَان اللَّه عِبَاده لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَة الْبَالِغَة ، وَقَدْ أَوْضَحَ اللَّه الْأَمْر وَجَلَّاهُ وَبَيَّنَهُ وَأَظْهَرَهُ فِي الْقُرْآن الْعَظِيم الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُوله الْكَرِيم ، الْمُؤَيَّد بِالْمُعْجِزَاتِ وَالْبَيِّنَات ، وَالدَّلَائِل الْوَاضِحَات ، فَقَالَ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَق الْقَائِلِينَ ، وَرَبّ الْعَالَمِينَ الْمُطَّلِع عَلَى السَّرَائِر وَالضَّمَائِر ، الَّذِي يَعْلَم السِّرّ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض ، الْعَالِم بِمَا كَانَ وَمَا يَكُون ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْف يَكُون : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ } أي : رَأَوْا شَبَهه فَظَنُّوهُ إِيَّاهُ وَلِهَذَا قَالَ : { وَإِنَّ الَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْم إِلَّا اِتِّبَاع الظَّنّ } يَعْنِي بِذَلِكَ مَنْ اِدَّعَى أَنَّهُ قَتَلَهُ مِنْ الْيَهُود وَمَنْ سَلَّمَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ جُهَّال النَّصَارَى ، كُلّهمْ فِي شَكّ مِنْ ذَلِكَ وَحَيْرَة وَضَلَال وَسُعُر وَلِهَذَا قَالَ : { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } أي : وَمَا قَتَلُوهُ مُتَيَقِّنِينَ أَنَّهُ هُوَ بَلْ شَاكِّينَ مُتَوَهِّمِينَ .
{ بَلْ رَفَعَهُ اللَّه إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّه عَزِيزاً } أي : مَنِيع الْجَنَاب لَا يُرَام جَنَابه ، وَلَا يُضَام مَنْ لَاذَ بِبَابِهِ { حَكِيماً } أي : فِي جَمِيع مَا يُقَدِّرهُ وَيَقْضِيه مِنْ الْأُمُور الَّتِي يَخْلُقهَا ، وَلَهُ الْحِكْمَة الْبَالِغَة وَالْحُجَّة الدَّامِغَة وَالسُّلْطَان الْعَظِيم وَالْأَمْر الْقَدِيم .
قَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن سِنَان حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَنْ الْأَعْمَش عَنْ الْمِنْهَال بْن عَمْرو عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : لَمَّا أَرَادَ اللَّه أَنْ يَرْفَع عِيسَى إِلَى السَّمَاء خَرَجَ عَلَى أَصْحَابه ، وَفِي الْبَيْت اِثْنَا عَشَر رَجُلاً مِنْ الْحَوَارِيِّينَ ، يَعْنِي فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَيْن فِي الْبَيْت وَرَأْسه يَقْطُر مَاء ، فَقَالَ : إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يَكْفُر بِي اِثْنَيْ عَشْر مَرَّة بَعْد أَنْ آمَنَ بِي ، قَالَ : ثُمَّ قَالَ : أَيّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَل مَكَانِي وَيَكُون [ يكن في المطبوع ] مَعِي فِي دَرَجَتِي ؟ فَقَامَ شَابّ مِنْ أَحْدَثهمْ سِنّاً فَقَالَ لَهُ : اِجْلِسْ . ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ فَقَامَ ذَلِكَ الشَّابّ فَقَالَ : اِجْلِسْ . ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ فَقَامَ الشَّابّ فَقَالَ : أَنَا فَقَالَ : هُوَ أَنْتَ ذَاكَ ، فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَه عِيسَى ، وَرُفِعَ عِيسَى مِنْ رَوْزَنَة فِي الْبَيْت إِلَى السَّمَاء .
قَالَ : وَجَاءَ الطَّلَب مِنْ الْيَهُود فَأَخَذُوا الشَّبَه فَقَتَلُوهُ ثُمَّ صَلَبُوهُ ، فَكَفَرَ بِهِ بَعْضهمْ اِثْنَتَيْ [ اثني ] عَشْرَة مَرَّة بَعْد أَنْ آمَنَ بِهِ ، وَافْتَرَقُوا ثَلَاث فِرَق :
فَقَالَتْ فِرْقَة : كَانَ اللَّه فِينَا مَا شَاءَ ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاء وَهَؤُلَاءِ الْيَعْقُوبِيَّة .
وَقَالَتْ فِرْقَة : كَانَ فِينَا اِبْن اللَّه مَا شَاء ثُمَّ رَفَعَهُ [ اللَّه ] إِلَيْهِ ، وَهَؤُلَاءِ النَّسْطُورِيَّة .
وَقَالَتْ فِرْقَة : كَانَ فِينَا عَبْد اللَّه وَرَسُوله مَا شَاءَ اللَّه ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّه إِلَيْهِ ، وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ .
فَتَظَاهَرَتْ الْكَافِرَتَانِ عَلَى الْمُسْلِمَة فَقَتَلُوهَا ، فَلَمْ يَزَلْ الْإِسْلَام طَامِساً حَتَّى بَعَثَ اللَّه مُحَمَّداً صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح إِلَى اِبْن عَبَّاس ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي كُرَيْب عَنْ أَبِي مُعَاوِيَة ِنَحْوِهِ .
وَكَذَا ذَكَرَهُ غَيْر وَاحِد مِنْ السَّلَف أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ : أَيّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَل مَكَانِي وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّة ؟ .
وَقَالَ اِبْن جَرِير : حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد حَدَّثَنَا يَعْقُوب الْقُمِّيّ عَنْ هَارُون بْن عَنْتَرَة عَنْ وَهْب بْن مُنَبِّه قَالَ : أَتَى عِيسَى وَمَعَهُ سَبْعَة عَشَر مِنْ الْحَوَارِيِّينَ فِي بَيْت ، فَأَحَاطُوا بِهِمْ ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ صَوَّرَهُمْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ كُلّهمْ عَلَى صُورَة عِيسَى ، فَقَالُوا لَهُمْ : سَحَرْتُمُونَا ، لَتَبْرُزَن لَنَا عِيسَى أَوْ لنقْتُلَنكُمْ جَمِيعاً ، فَقَالَ عِيسَى لِأَصْحَابِهِ : مَنْ يَشْرِي نَفْسه مِنْكُمْ الْيَوْم بِالْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ رَجُل مِنْهُمْ : أَنَا ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ ، وَقَالَ : أَنَا عِيسَى ، وَقَدْ صَوَّرَهُ اللَّه عَلَى صُورَة عِيسَى ، فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ ، فَمِنْ ثَمَّ شُبِّهَ لَهُمْ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ قَتَلُوا عِيسَى ، وَظَنَّتْ النَّصَارَى مِثْل ذَلِكَ أَنَّهُ عِيسَى ، وَرَفَعَ اللَّه عِيسَى مِنْ يَوْمه ذَلِكَ .
قال ابن كثير : وَهَذَا سِيَاق غَرِيب جِدّاً .
ثَم قَالَ اِبْن جَرِير : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ وَهْب نَحْو هَذَا الْقَوْل وَهُوَ مَا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى ، حدثنا إسحاق حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل عَنْ عَبْد الْكَرِيم حَدَّثَنِي عَبْد الصَّمَد بْن مَعْقِل أَنَّهُ سَمِعَ وَهْباً يَقُول : إِنَّ عِيسَى اِبْن مَرْيَم لَمَّا أَعْلَمَهُ اللَّه أَنَّهُ خَارِج مِنْ الدُّنْيَا جَزِعَ مِنْ الْمَوْت ، وَشَقَّ عَلَيْهِ ، فَدَعَا الْحَوَارِيِّينَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَاماً فَقَالَ : اُحْضُرُونِي اللَّيْلَة فَإِنَّ لِي إِلَيْكُمْ حَاجَة ، فَلَمَّا اِجْتَمَعُوا إِلَيْهِ مِنْ اللَّيْل عَشَّاهُمْ وَقَامَ يَخْدُمهُمْ ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ الطَّعَام أَخَذَ يَغْسِل أَيْدِيهمْ وَيُوَضِّئهُمْ بِيَدِهِ وَيَمْسَح أَيْدِيهمْ بِثِيَابِهِ فَتَعَاظَمُوا ذَلِكَ وَتَكَارَهُوهُ .
فَقَالَ : أَلَا مَنْ رَدَّ عَلَيَّ اللَّيْلَة شَيْئاً مِمَّا أَصْنَع فَلَيْسَ مِنِّي ، وَلَا أَنَا مِنْهُ ، فَأَقَرُّوهُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ : أَمَّا مَا صَنَعْت بِكُمْ اللَّيْلَة مِمَّا خَدَمْتُكُمْ عَلَى الطَّعَام وَغَسَلْت أَيْدِيكُمْ بِيَدِي ، فَلْيَكُنْ لَكُمْ بِي أُسْوَة ، فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ أَنِّي خَيْركُمْ فَلَا يَتَعَاظَم بَعْضكُمْ عَلَى بَعْض ، وَلْيَبْذُلْ بَعْضكُمْ لِبَعْضٍٍ نَفْسه كَمَا بَذَلْت نَفْسِي لَكُمْ ، وَأَمَّا حَاجَتِي اللَّيْلَة الَّتِي اِسْتَعَنْتُكُمْ عَلَيْهَا ، فَتَدْعُونَ اللَّه لِي ، وَتَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاء أَنْ يُؤَخِّر أَجَلِي ، فَلَمَّا نَصَبُوا أَنْفُسهمْ لِلدُّعَاءِ ، وَأَرَادُوا أَنْ يَجْتَهِدُوا ، أَخَذَهُمْ النَّوْم حَتَّى لَمْ يَسْتَطِيعُوا دُعَاء ، فَجَعَلَ يُوقِظهُمْ وَيَقُول : سُبْحَان اللَّه ! أَمَا تَصْبِرُونَ لِي لَيْلَة وَاحِدَة تُعِينُونَي فِيهَا ، فَقَالُوا : وَاَللَّه مَا نَدْرِي مَا لَنَا ، لَقَدْ كُنَّا نَسْمُر فَنُكْثِر السَّمَر ، وَمَا نُطِيق اللَّيْلَة سَمَراً ، وَمَا نُرِيد دُعَاء إِلَّا حِيلَ بَيْننَا وَبَيْنه ، فَقَالَ : يَذْهَب بالرَّاعِي وَتتُفَرَّق الْغَنَم ، وَجَعَلَ يَأْتِي بِكَلَامٍٍ نَحْو هَذَا يَنْعِي [ بِهِ ] نَفْسه .
ثُمَّ قَالَ : الْحَقّ ، لَيَكْفُرَن بِي أَحَدكُمْ قَبْل أَنْ يَصِيح الدِّيك ثَلَاث مَرَّات ، وَلَيَبِيعَنِّي أَحَدكُمْ بِدَرَاهِم يَسِيرَة وَلَيَأْكُلَن ثَمَنِي ، فَخَرَجُوا فَتَفَرَّقُوا ، وَكَانَتْ الْيَهُود تَطْلُبهُ ، وَأَخَذُوا شَمْعُونَ أَحَد الْحَوَارِيِّينَ وَقَالُوا : هَذَا مِنْ أَصْحَابه فَجَحَدَ وَقَالَ : مَا أَنَا بِصَاحِبِهِ ، فَتَرَكُوهُ . ثُمَّ أَخَذَهُ آخَرُونَ فَجَحَدَ كَذَلِكَ ، ثُمَّ سَمِعَ صَوْت دِيك فَبَكَى وَأَحْزَنَهُ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى أَحَد الْحَوَارِيِّينَ إِلَى الْيَهُود ، فَقَالَ : مَا تَجْعَلُونَ لِي إِنْ دَلَلْتُكُمْ عَلَى الْمَسِيح ؟ فَجَعَلُوا لَهُ ثَلَاثِينَ دِرْهَماً ، فَأَخَذَهَا وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ ، وَكَانَ شُبِّهَ عَلَيْهِمْ قَبْل ذَلِكَ ، فَأَخَذُوهُ فَاسْتَوْثَقُوا مِنْهُ ، وَرَبَطُوهُ بِالْحَبْلِ ، وَجَعَلُوا يَقُودُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ : أَنْتَ كُنْت تُحْيِي الْمَوْتَى وَتَنْتهَر الشَّيْطَان ، وَتُبْرِئ الْمَجْنُون ، أَفَلَا تُنْجِي نَفْسك مِنْ هَذَا الْحَبْل ؟ وَيَبْصُقُونَ عَلَيْهِ وَيُلْقُونَ عَلَيْهِ الشَّوْك ، حَتَّى أَتَوْا بِهِ الْخَشَبَة الَّتِي أَرَادُوا أَنْ يَصْلُبُوهُ عَلَيْهَا ، فَرَفَعَهُ اللَّه إِلَيْهِ وَصَلَبُوا مَا شُبِّهَ لَهُمْ فَمَكَثَ سَبْعاً ، ثُمَّ إِنَّ أُمّه وَالْمَرْأَة الَّتِي كَانَ يُدَاوِيهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَأَبْرَأهَا اللَّه مِنْ الْجُنُون ، جَاءَتَا تَبْكِيَانِ حَيْثُ الْمَصْلُوب فَجَاءَهُمَا عِيسَى فَقَالَ : عَلامَا تَبْكِيَانِ ؟ فَقَالَتَا عَلَيْك ، فَقَالَ : إِنِّي قَدْ رَفَعَنِي اللَّه إِلَيْهِ ، وَلَمْ يُصِبْنِي إِلَّا خَيْراً ، وَإِنَّ هَذَا شَيء شُبِّهَ لَهُمْ ، فَأْمُرِا الْحَوَارِيِّينَ أن يَلْقَوْنِي إِلَى مَكَان كَذَا وَكَذَا ، فَلَقُوهُ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَان أَحَد عَشَر ، وَفَقَدُوا [ وفقد في المطبوع ] الَّذِي كَانَ بَاعَهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْيَهُود فَسَأَلَ عَنْهُ أَصْحَابه ، فَقَالَوَا : إِنَّهُ نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ ، فَاخْتَنَقَ وَقَتَلَ نَفْسه ، فَقَالَ : لَوْ تَابَ لَتَابَ اللَّه عَلَيْهِ . ثُمَّ سَأَلَهُمْ عَنْ غُلَام يتَبِعَهُمْ يُقَال لَهُ يُحَنَّى ، فَقَالَ : هُوَ مَعَكُمْ فَانْطَلِقُوا فَإِنَّهُ َيُصْبِحُ كُلّ إِنْسَان يُحَدِّث بِلُغَةِ قَوْمه ، فَلْيُنْذِرهُمْ وَلْيَدْعُهُمْ .
قال ابن كثير : سِيَاق غَرِيب جِدّاً .
وقال ابن جريج عن مجاهد : صلبوا رجلاً شبه بعيسى ، ورفع الله عز وجل عيسى إلى السماء حياً .
فصل
في رد زعم النصارى أن إلقاء الشبه يفضي إلى السفسطة
قال خير الدين في " الجواب الفسيح " قال النصارى : القول بإلقاء الشبه على عيسى عليه السلام قول يفضي إلى السفسطة ، والدخول في الجهالات ، وما لا يليق بالعقلاء ، لأنا إذا جوزنا ذلك فينبغي إذا رأى الإِنسَاْن ولده أو زوجته لم يثق بأنه ولده أو زوجته ، وكذلك سائر المعارف ، لا يثق الإِنسَاْن بأحد منهم ولا يسكن إليه ، ونحن نعلم بالضرورة أن الإِنسَاْن يقطع بأن ولده هو ولده ، وإن كل واحد من معارفه هو ، من غير شك ولا ريبة ، بل القول بالشبه يمنع من الوثوق بمدينة الإِنسَاْن ووطنه إذا دخله ، ولعله مكان آخر ألقي عليه الشبه ، بل إذا غمض الإِنسَاْن عينيه عن صديقه بين يديه لحظة ، ثم فتحها ، ينبغي أن لا يقطع بأنه صديقه ، لجواز إلقاء الشبه على غيره ، وكل ذلك خلاف الضرورة ، فالقول بإلقاء الشبه على غير عيسى خلاف الضرورة ، كالقول بأن الواحد نصف العشرة مثلاً ، فلا يسمع .
والجواب عنه من وجوه :
أحدهما : أن هذا تهويل ليس عليه تعويل ، بل البراهين القاطعة ، والأدلة لساطعة قائمة على أن الله تعالى خلق الإِنسَاْن وجملة أجزاء العالم ، وإن حكم الشيء حكم مثله : فما من شيء خلقه الله تعالى في العالم إلا هو قادر على خلق مثله ، لتعذر خلقه في نفسه ، فيلزم أن يكون خلق الإِنسَاْن مستحيلاً ، بل جملة العالم ، وهو محال بالضرورة ، وإذا ثبت أن الله تعالى قادر على خلق مثل لكل شيء في العالم ، فجميع صفات جسد عيسى عليه السلام لها أمثال في حيز الإمكان في العدم ، يمكن خلقها في محل آخر غير جسد المسيح ، فيحصل الشبه قطعاً ، فالقول بالشبه قول بأمر ممكن ، لا بما هو خلاف الضرورة ، ويؤنس ذلك أن التوراة مصرحة بأن الله تعالى خلق جميع ما للحية في عصا موسى عليه السلام ، وهو أعظم من الشبه ، فإن جَعْلَ حيوان يشبه حيواناً ، وإنسان يشبه إنساناً - أقرب من جعل نبات يشبه حيواناً ، وقلب العصا مما أجمع عليه اليهود والنصارى ، كما أجمعوا على قلب النار برداً وسلاماً ، وعلى قلب لون يد موسى عليه السلام ، وعلى انقلاب الماء خمراً وزيتاً للأنبياء عليهم السلام ، وإذا جوزوا مثل هذا فيجوز إلقاء الشبه من غير استحالة ، على أن عيسى عليه السلام قد خولفت عادة الله تعالى الأغلبية في خلقه من ماءٍٍ واحدٍٍ ، ونفخ جبريل في جيب مريم ، فجعلُ شبهه على غيره ليس بأبعد من العادة ، من خلقه ، على أن إحياءه للموتى ، وإبراءَه للأبرص والأكمه أعظم من إلقاء شبهه على غيره ، على أن عروجه إلى السماء بناسوته وخرق السماء والتئامها ، ليس بأهون من ذلك ، على أن رد الشمس ليوشع بن نون ، ومشي عيسى وحواريّه على الماء ، وسائر معجزات أنبياء بني إسرائيل ، ليس بأهون مما هنالك ، وإذا صح عند النصارى انقالب الخبز إلى جسد المسيح ، والخمر إلى دمه في العشاء السرّي ، لِمَ لا يمكن أن يوقع شبهه على أحدهم ؟ كما لا يخفى .
وثانيها : أن الإنجيل ناطق بأن المسيح عليه السلام نشأ بين ظهراني اليهود ، وحضر مراراً عديدة في مواسمهم وأعيادهم وهياكلهم ، يعظهم ويعلمهم ويناظرهم ، ويتعجبون من براعته وكثرة تحصيله ، حتى إنهم ( كما في الإنجيل ) يقولون : أليس هذا ابن يوسف ؟ أليست أمه مريم ؟ أليس إخوته عندنا ؟ فمن أين له هذه الحكمة ؟ وإذاً ، كان في غاية الشهرة والمعرفة عندهم .
وقد نص الإنجيل على أنهم عند إرادة الصلب لم يحققوه ، حتى دفعوا لتلميذه ثلاثين درهماً ليدلهم عليه ، فما حاجتهم حينئذ أن يكتروا رجلاً من تلاميذه ليعرفهم شخصه ؟ لولا وقوع الشبه الذي نقول به .
وثالثها : أنه كما تقدم في الأناجيل ، أخذ في حندس من الليل المظلم في حالة شُوِّهت صورته وغُيّرت محاسنه وهيئته ، بالضرب والسحب وأنواع النكال الموجبة لتغير الحال ، ومثل ذلك يوجب اللبس بين الشيء وخلافه ، فكيف بين الشيء وشبهه ؟ حتى إن رئيس الكهنة عند إحضاره أقسم عليه هل هو يسوع المسيح ابن الله ؟ فلم يجبه ، ولو كان هو لأجابه ، فمن أين للنصارى واليهود القطع بأن المصلوب هو عين عيسى عليه السلام دون شبهه ؟ بل إنما يحصل الظن والتخمين كما قال تعالى في كتابه المبين : { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ } .
رابعها : قد تقدم في الأناجيل أنه لما جاء اليهود إلى محله خرج إليهم وقال : من تريدون ؟ قالوا : يسوع ، وقد خفي شخصه عليهم ، ففعل ذلك مرتين وهم ينكرون صورته ، وهذا دليل الشبه ، ورفع عيسى عليه السلام ، ولا سيما وقد نقل غير واحد من العلماء عن بعض النصارى القول بأن المسيح عليه السلام كان قد أعطي قوة التحول من صورة إلى صورة .
خامسها : قول متى في ( الفصل الخامس والعشرين ) من ( إنجيله ) ما لفظه : حينئذ قال لهم يسوع كلكم تشكون فيّ هذه الليلة ، لأنه مكتوب أني أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية ، ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل ، فأجاب بطرس وقال له : وإن شك فيك الجميع فأنا لا أشك أبداً ، قال له يسوع : الحق أقول لك ، إنك هذه الليلة ، قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات . انتهى .
فقد شهد عليهم بالشك ، بل خيّرهم بطرس الذي هو خليفة عليهم ، شك فقد انخرمت الثقة بأقوالهم ، وصح قوله تعالى : { وَإِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّ مّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلم إِلاّ اتّبَاعَ الظّنّ } .
سادسها : إن في ( الفصل السابع والعشرين ) من " إنجيل متى " ما لفظه : حينئذ لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دِينَ ، ندم ورد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ ، قائلاً : قد أخطأت إذ سلمت دماً بريئاً ، فقالوا : ما علمنا ، أنت أبصر ، فطرح الفضة في الهيكل وانصرف ، ثم مضى وخنق نفسه . انتهى .
فهذه الأناجيل ليست قاطعة في صلبه ، بل فيها اختلافات ، فيحتمل أن يهوذا كذب عليهم في قوله ( هو هذا ) ويدل على وقوع ذلك ، ويقربه ظهور ندمه بعد هذا ، ولا سيما وهو من جملة الاثني عشر الذين شهد لهم المسيح بالسعادة الأبدية ، والسعيد لا يتم منه مثل هذا الفساد العظيم ، فيلزم إما أن يهوذا ما دل عليه ، أو كون المسيح ما شهد لهم بالسعادة الدائمة ، أو أن أناجيلهم محرفة مبدلة ، ويحتمل أن أحد أتباع المسيح باع نفسه من الله تعالى وقاية للمسيح عليه السلام ، وادعى أنه هو ، ومثل هذا كثير في أتباع الأنبياء ، حيث يريدون أن يفدوا أنفسهم بدل أنبيائه ، ويحتمل أن الأعوان أخذوا عليه رشوة وأطلقوه ، وأخذوا بدله ، كما أن يهوذا ، مع أنه صديقه ورسوله ، أخذ رشوة ودلهم عليه ، ويحتمل أن الله تعالى أرسل شيطاناً على صورته وصلبوه ، ويحتمل أن الملك الذي نزل عليه ليقويه ، كما تقدم في إنجيل لوقا بزعمهم ، صار فداء له ، ويحتمل أن هذا الذي نزل إنما نزل لرفعه ، لأنه لو كان نازلاً لتقويته لقواه ، فلما لم نر أنه قواه فيقتضي أنه رفعه إلى السماء ، أو فدى نفسه له .
وقال بعض الأفاضل : ومن الأدلة على رفعه وصلب شبهه ما في الفصل التاسع من " إنجيل لوقا " ما لفظه : أن المسيح صعد إلى جبل ليصلي ، وأخذ بطرس ويوحنا ويعقوب معه ، وفيما هو يصلي صارت هيئته ووجه متغيرة ، ولباسه مضيئاً لامعاً . . . . إلخ .
فهذا فيه دلالة على رفعه وحصول الشبه الذي نقول به ، إذ لا معنى لظهور موسى وإيلياء ، ووقوع النوم على أصحابه ، وتغير وجهه وإضاءة لباسه ، إلا رفعه . . . .
ورؤيتهم له بعد ذلك ، إنما هو من تطور روحه ، لأنه عليه السلام كان له قوة التطور : وهذا من أحكام الروح والنفس .
ولئن قلنا إنه لا يدل على الرفع بالوجه التام ، غير أنا نتنزل ونقول : ما دام في هذه المرة تغيرت هيئته ووجه ولباسه ، واجتمع بالأنبياء وسمع من الغمامة هذا الصوت ، فلا أقل من أن يكون ذلك مقدمة لرفعه ومقياساً ، ومبدأ لتقويته وإيناساً ، واليهود لم يتحققوا من أنفسهم أنه هو المسيح ، بل اعتمدوا على قول يهوذا كما تقدم لك ، ويهوذا قوله قول فرد ، وغير صالح للاحتجاج ، للاحتمالات والأدلة التي ذكرناها لك ، فلم يبق في قول الفرقتين حجة أن المصلوب هو المسيح عليه السلام ، لا شبهه ، وأناجيلهم حالها معلوم لديك ، وبيان اشتباههم المحكي لك في القرآن ، لا يخفى عليك . انتهى .
وهنا سؤال يورده بعض النصارى وهو : أن عيسى عليه السلام إذا كان لم يصلب حقيقة ، وإنما صلب رجل ألقي عليه شبهه ، ورفع هو إلى السماء ، فلم لم يخبر الحواريين بذلك قبل رفعه أو بعده ؟
والجواب : أن عيسى عليه السلام لم يخبر بذلك لعلمه بأن أناساً سيفترون عليه ويقولون بألوهيتيه ، فأبهم الأمر ليكون ذلك أدل على كونه عبداً من عبيد الله ، لا يقر على جلب نفع ولا دفع ضر ، بخلاف ما لو أخبر [ في المطبوع : أخير ] بأنه لا يصلب ، أو لم يصلب ، وأن المصلوب شبهه ، فإنه ربما كان ذلك مقوياً لشبهة أولئك الجماعة ، ولعدم كون هذه المسألة من المسائل الاعتقادية في الأصل ، إذ لو اعتقد أحدٌ ، قبل إرسال نبينا عليه الصلاة والسلام ، بصلب عيسى ، لم يضره ذلك ، لكن لما ورد نبينا الذي لا ينطق عن الهوى ، أَبَان خطأ النصارى في الوجهين :
أحدهما : اعتقاد أن عيسى إله .
والآخر : اعتقاد أنه قد قتل وصلب .
وأبان أنه عبد من عبيد الله تعالى تولاه بالرسالة ، واصطفاه وحفظه من أيدي أعدائه وحماه ، كذا في " منية الأذكياء في قصص الأنبياء " .
فصل
في سقوط دعواهم التواتر في أمر الصلب
قال القرافي : اعلم أن النصارى قالوا : إنهم واليهود أمتان عظيمتان طبقوا مشارق الأرض ومغاربها ، وكلهم يخبر أن المسيح عليه السلام صلب ، وهم عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب ، والإنجيل أيضاً مخبر عن الصلب ، فإن جوزتم كذبهم ، وكذب ما يدعي أنه الإنجيل ، وإن مثل هؤلاء ممكن تواطؤهم على الكذب - لزم المحال من وجوه :
أحدها : أنه يتعذر عليكم أيها المسلمون ، جعل القرآن متواتراً .
وثانيها : أن قاعدة التواتر تبطل بالكلية .
فإن غاية خبر التواتر يصل إلى مثل هذا .
وثالثها : أن إنكار الأمور المتواترة ، جحد للضرورة فلا يسمع ، فلو قال إنسان : الخبر عن وجود بغداد ودمشق كذب ، لم يسمع ذلك منه ، وعدّ خارجاً عن دائرة العقلاء ، وحينئذ يتعين أن القول بالصلب حق ، وأن إخبار المسلمين والقرآن عن عدم ذلك ، مشكل .
والجواب من وجوه :
أحدها : أن جميع النصارى واليهود يوردون هذا السؤال ولا يعلمون حقيقة التواتر ولا شروطه ، وإنما فهم ذلك وغيره هذه الأمة المحمدية والملة الإسلامية لعلو قدرها وشرفها واختصاصها بمعاقد العلوم وأزمتها ، دون غيرها ، كما هو مسلم عند كل دريّ ( كذا ) مصنف ، وها نحن نوضح ذلك إن شاء الله تعالى فنقول : إن التواتر له شروط :
الشرط الأول : أن يكون المخبر عنه أمراً محسوساً ، ويدل على اعتبار هذا الشرط ، أن الأمة العظيمة قد تخبر عن القضايا الجسيمة وهي باطلة ، كإخبار المعطلة عن عدم الصانع والفلاسفة عن قدم العالم ، مع بطلان ذلك عند أمم كثيرة ، وسببه أن مجال النظر يكثر فيه وقوع الخطأ ، فلا يثق الإِنسَاْن بالخير عن العقليات ، حتى ينظر فيجد البرهان العقلي يعضد ذلك الخبر ، فحينئذ يقطع بصحة ذلك الخبر ، أما الأمور المحسوسة ، مثل المبصرات ونحوها فشديدة البعد على الخطأ ، وإنما يقع الخلل من التواطؤ على الكذب ، فإذا كان المخبرون يستحيل تواطئهم على الكذب حصل القطع بصحة الخبر .
الشرط الثاني : استواء الطرفين والواسطة ، وتحرير هذا الشرط أن المخبرين لنا ، إذا كانوا يستحيل تواطؤهم على الكذب وكانوا هم المباشرين لذلك الأمر المحسوس ، المخبر عنه ، حصل العلم بخبرهم ، وإن لم يكن المخبر لنا هو المباشر لذلك الأمور المحسوس ، بل ينقلون عن غيرهم أنه أخبرهم بذلك ، فلا بد أن يكون الغير المباشر عدداً يستحيل تواطؤهم على الكذب ، فإنه إن جاز الكذب عليه ، وهو أصل هؤلاء المخبرين لنا ، فإذا لم يبق الأصل لم يبق المفرع عليه ، فلا يلزم من كون المخبر لنا يستحيل تواطؤهم على الكذب حصول العلم بخبرهم ، لجواز فساد أصلهم المعتمدين عليه ، فيتعين أن يكون الأصل عدداً يستحيل تواطؤهم [ في المطبوع : توطؤهم ] على الكذب ، فهذا معنى قولنا : ( استواء الطرفين ) في كونهما عدداً يستحيل تواطؤهما على يستحيل تواطؤهم على الكذب ، وأصلهم الذي ينقلون عنه كذلك ، لكن أصلهم لم يباشر ذلك الأمر المحسوس ، بل ينقل عن غيره أيضاً ، فأصل ذلك الأصل يجب أن يكون عدداً يستحيل تواطؤهم على الكذب أيضاً ، لما تقدم ، وفي هذه الصورة حمل طرفان وواسطة ، فالطرفان المخبر لنا ، والمباشر الأول الواسطة الذي بينهما ، فيجب استواء الطرفين والواسطة ، والوسائط تكثرت في كونهم عدداً يستحيل تواطؤهم على الكذب ، فينقسم ، بهذا التحرير ، التواتر إلى طرف فقط ، وإلى طرفين بلا وساطة ، وإلى طرفين وواسطة ، والثلاثة أقسام مشتركة في هذا الشرط ، فإذا تقرر حقيقة التواتر فنقول : الحس إنما يتعلق بأن هذا مصلوب على هذه الخشبة ، وأما أنه عيسى عليه السلام نفسه أو غيره ، فهذا لا يفيده الحس البتة ، بل إنما يعلم بقرائن الأحوال إن وجدت ، أو بأخبار الأنبياء عليهم السلام عن الله تعالى الذي أحاط بكل شيء علماً ، وأحصى كل شيء عدداً ، والذي يدل على أن الحس لا يفرق بين المتماثلات ، أنا لو وضعنا في إناء رطلاً من الماء مثلاً ، وأريناه لإنسان ، ثم رفعنا ذلك الماء ووضعنا فيه رطلاً آخر من ذلك الماء ثم أريناه ذلك الإِنسَاْن ، وقلنا له : هذا الماء هو عين الماء الأول أو مثله ؟ فإنه إذا أنصف يقول : الذي أدركه بحسي أن هذا ماء بالضرورة ، أما أنه عين الأول أو غيره مماثلاً له ، فلا أعلم ، لكونه الحس لا يحيط بذلك ، هذا في المائعات ، وكذلك كف من تراب أو أوراق الأشجار أو أنواع الحبوب ، كالحنطة مثلاً ، إذا أخص منها حفنتان ونحو ذلك ، وكذلك الحيوانات الوحشية والطيور شديدة الالتباس على الحس ، إذا اتحد النوع في اللون والسن والغلظ ، وإنما كثرت الفروق في الحيوانات الإنسية كالفرس ونحوها .
مطلب :
وسر ذلك أن أسباب النشأة في الوحشية مشتركة بالمياه والمراعي والبراري ، والحيوان الإنسي يختلف ذلك فيه ، بحسب مقتنيه ، اختلافاً كثيراً ، فينشأ بحسب دواعي بني آدم في السعة والضيق ، وإيثار نوع من العلف على غيره ، ومكان مخصوص على غيره ، وإلزام الحيوان أنواعاً من الأعمال والرياضة دون غيرها ، فيختلف الحيوان الإنسي بحسب ذلك ، ثم يتصل ذلك بالنُّطف في التوليد ، مضافاً إلى ما يحصل للولد من داعية مريبة فيعظم الاختلاف ، والحيوان الوحشي سلم عن جميع ذلك ، فتشابهت أفراد نوعه ، ولا يكاد الحس يفرق بين اثنين منه البتة ، فإذا تقرر أن الحس لا سلطان له على الفرق بين المثلين ، ولا التمييز بين الشيئين ، فيجب القطع أن كون المصلوب هو خصوص عيسى عليه السلام دون شبهه أو مثله - ليس مدركاً بالحس ، وإذا لم يكن مدركاً بالحس ، جاز أن يخرق الله تعالى العادة لعيسى عليه السلام شبهه في غيره ، كما خرق له العادة في إحيائه الموتى وغيرها ، ثم يرفعه ويصونه عن إهانة أعدائه ، وهو اللائق بكريم آلائه ، في إحسانه لخاصة أنبيائه وأوليائه وإذا جوز العقل مثل هذا مع أن الحس لا مدخل له في ذلك ، بقي إخبار القرآن الكريم عن عدم الصلب سالماً عن المعارض ، مؤيداً بكل حجة ، وسقط السؤال بالكلية .
وثانيها : سلمنا أن الحس يتعلق بالتفرقة بين المثلين ، والتمييز بين الشبهين ، ولكن لا نسلم أن العدد المباشر للصلب كانوا بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب ، ويدل على أنهم ليسوا كذلك ، أن الحواريين فروا عنه ، لأنه لو وجد أحد منهم لقتله اليهود ، فحينئذ عدد التواتر متعذر من جهة شيعة النصارى عن أسلافهم ، لا يفيد علماً بل هو ظن وتخمين لا عبرة به ، لذلك قال الله سبحانه في قرآنه المبين : { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ } أي : هم لا يتيقنون ذلك ، بل يحزرون بالظن والتخمين ، وأما من جهة الملة اليهودية ، فلأن المباشر منهم للصلب إنما هو الوزعة وأعوان الولاة ، وذلك في مجرى العادة يكون نفراً قليلاً ، كالاثنين أو الثلاثة ونحوها ، يجوز عليهم الكذب ولا يفيد خبرهم العلم بكون العادة وخرج الصلب عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب يفتقر إلى نقل متواتر ، فإنه لو وقع ونقل بأخبار الآحاد لم يحصل لنا علم بالصلب فإن المتواترات إذا نقلت بأخبار الآحاد ، سقط اعتبارها في إفادة العلم ، لجواز كذب الناقل ، فلا يكون عدد التواتر حاصلاً في نفس الأمر ، والنصارى واليهود إنما يعتمدون على التوراة والإنجيل ، ولا يوجد يهودي ولا نصراني على وجه الأرض يروي التوراة والإنجيل ، عدلاً عن عدل ، إلى موسى وعيسى عليهما السلام ، وإذا تعذرت عليهم رواية العدل عن العدل ، فأولى أن يتعذر التواتر ، ولم يبق في الكتابين إلا أخبار وتواريخ بعيدة الزمان جداً ، بحيث إن التواريخ الإسلامية أصح منها ، لقرب عهدها ، مع أنه لا يجوز الاعتقاد في فروع الديانات على شيء من التواريخ ، فضلاً عن أصول الأديان ، وإذا ظهر أن مستند هاتين الأمتين العظيمتين في العدد ، في غاية الضعف - كانت أخبارها في نفسها في غاية الضعف ، لأن الفرع لا يزيد على الأصل .
وثالثها : أن نصوص الإنجيل مُشعرة بعدم صلب عيسى عليه السلام بخصوصه ، كما نقلنا بعضاً آنفاً .
وقال في " تخجيل الأناجيل " : فيقال للنصارى : ما ادعيتموه من قتل المسيح وصلبه ، أتنقلونه من تواتر أم آحاداً ؟ فإن زعموا أنه آحاد لم يقم بذلك حجة ، ولم يثبت العلم الضروري ، إذ الآحاد لم يأمن عليهم فيها السهو والغفلة والتواطؤ على الكذب ، وإذا كان الآحاد يعرض عليهم ذلك ، فلا يحتج بهم في القطعيات ، وإن عزوا ذلك إلى التواتر قلنا لهم : شرط التواتر استواء الطرفين فيه والوسط ، وهو أن ينقل الجم الغفير عن الجم الغفير الذين شاهدوا المشهود به ، وهو المصلوب ، وعلموا أنه هو ضرورة ، فإن اختل شيء من ذلك فلا تواتر ، فإن زعم النصارى أن خبرهم في قتل المسيح وصلبه بهذه الصفة ، أكذبتم نصوص أناجيلهم التي بأيديهم ، إذ قال لهم نقلتها الذين دوّنوها لهم وعليها معولهم : إنه لما أخذ فقتل كان في شرذمة يسيرة من تلاميذه ، فلما أقبل عليه هربوا بأسرهم ، ولم يتبعه إلا بطرس من بعيد ، ولما دخل الدار اجتمعوا نظرت جارية منهم إلى بطرس فعرفته ، فقالت : هذا كان مع يسوع ، فحلف أنه لا يعرف يسوع بقوله ، وخادعهم حتى تركوه ، وذهب ولم يكد يذهب ، وأن شاباً آخر تبعه وعليه إزار فتعلقوا به ، فترك إزاره بأيديهم وذهب عرياناً ، فهؤلاء أصحابه وأتباعه ، لم يحضر منهم ولا رجل واحد بشهادة أناجيلهم ، وأما أعداؤه اليهود ، الذين تزعم النصارى أنهم حضروا الأمر ، فلم يبلغوا عدد التواتر ، بل كانوا آحاداً وأفراداً ، لأن عموم الناس الذين حضروا لا يرون إلا شخصاً على خشبة ومعه لصان مصلوبان ، ولا شك أن هيئتهم وصفتهم متغيرة عن الحالة التي قبل أخذهم ، وأما المشايخ ونحوهم فلم يعرفوه أيضاً ، ففي الإصحاح الثاني والعشرين من " إنجيل لوقا " ما لفظه : فلما كان النهار اجتمع مشايخ الشعب ورؤساء الكهنة وأدخلوه إلى مجمعهم ، وقالوا له : إن كنت أنت المسيح فقل لنا : فقال لهم : إن قلت لكم لم تؤمنوا لي ، وإن سألتكم لم تجيبوني ولم تخلوني . انتهى .
وهذا يحتمل أنهم يسألونه عن ذاته أو عن رسالته ، على أنا لو سلمنا كثرة عددهم وصدق معرفتهم يمكن تواطؤهم على الكذب ، لأنهم لما لم يجدوه هو ، ولم يعلموا محل المسيح ، وكان ذلك من تلاميذه ، واستحلوا قتله أيضاً ، أشاعوا أنه هو المسيح ليترك الناس متابعته ، ولئلا يتخذوا المسيح نبياً ، وصمموا ، أنهم إذا وجدوا المسيح بعد هذا أيضاً ، يعملون به كما عملوا بصاحبه ، ويؤيد هذا أنهم جعلوا على القبر حراساً لئلا ينبش القبر ويُرى أنه غير المسيح ، ومما يزيد الأمر وضوحاً قول " إنجيل متى " في ( الإصحاح الثامن والعشرين ) : أن مريم لما جاءت لزيارة القبر رأت ملكاً قد نزل من السماء برّجة عظيمة ، فدحرج الحجر عن فم القبر ، وجلس عنده ، فكاد الحراس أن يموتوا من هيبته ، وبادروا من فورهم إلى المشايخ فأعلموهم بالقصة ، فأرشاهم المشايخ برشوة أن يستروا القصة وأن يشيعوا أن التلاميذ سرقوه ونحن نيام ، فما يؤمنكم أن تكون هذه العصابة من اليهود ، كما أنهم ستروا الآية التي ذكرتم ، صلبوا شخصاً من أتباعه وأوهموا الناس أنه المسيح ، فإذا تبين عدم الاحتجاج بإجماع اليهود ، والنصارى الآن على صلبه ، فنرجع إلى القرائن العقلية والنقلية ، فأما العقل فلا يجوز أن الإله القادر على كل شيء يقتله أذل عباده ، وهم اليهود ، ويضربونه ويعملون به ما هو محرر في أناجيل النصارى المضطربة المحرفة المكتوبة بعد رفعه بسنين عديدة وأعوام مديدة ، مع أنه يفرّ منهم مرات كثيرة ويستغيث ويطلب من الله تعالى تأخير أجله بقوله : أجز عني هذه الكاس ، ويصرخ ويقول : إلهي ! إلهي ! لم تركتني ؟ ويسلم روحه ، وعند الصلب يطلب منهم الماء لكثرة عطشه ، فيعطوه خلاً بدله ، وأي خلاص لعباده في هذه الحالة ، وهو بزعمهم أتى ليخلص العالم من الخطيئة ، بل صار موقعاً لهم في الإثم بسبب عدم إيمانهم به ، فكيف يكون مخلصاً بنفسه ؟
وأما النقل ، فقد تبين لك تهافت أناجيلهم واضطرابها ، والدلالة على عدم المعرفة به ، وعدم وجوده في قبره ، والأعظم من ذلك عند كل ذي عقل سُلَيم قوله تعالى : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبّهَ لَهُمْ } وأما قول متى في ( الإصحاح السابع والعشرين ) : فصرخ يسوع أيضاً بصوت عظيم واسلم الروح ، وإذا حجاب الهيكل قد انشقت إلى اثنين من فوق إلى أسفل ، والأرض تزلزلت ، والصخور تشققت والقبور تفتحت ، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين ، وخرجوا من القبور بعد قيامته ، ودخلوا المدينة المقدسة ، وظهروا للكثيرين - فهو قول بهت ومحال ، لا يخفى بطلانه على ذوي العقول من النساء والرجال ، لأنه لو كان صحيحاً لأطبق الناس على نقله ، ولم يتفق إخفاء مثله ، ولزال الشك عن تلك الجموع في أمر يسوع ، فحيث داموا على الجحد له والتكذيب ، دلّ على كذب ما نقله عَبَّاد الصليب ، وإذا كان اليهود أعطوا دراهم رشوة ، كما علمت سابقاً ، لحراس القبر حتى لا يخبروا القائد وسائر الناس بملك نزل من السماء على قبر يسوع ، كي لا يظن براءته مما نسب إليه أعداؤه ، فكيف تكون هذه الآيات العظيمة ؟ وتقوم الأموات من قبورها ؟ ويدخلون المدينة ؟ ولا يكون ذلك حجة على من لا يؤمن به إذ ذاك ؟ وأيضاً ، ما معنى تفتح القبور وقيام القديسين من قبورهم ؟ فهل كان استبشاراً بمصابه ؟ فهم إذ ذاك ليسوا من أحبابه ، أو كان جزعاً على مماته ؟ وخرجوا إعانة له قبل فواته ؟ فواعجباً لرب أحياهم بعد أن كانوا رفات ، ولم يعينوه حتى قضى ومات ، وأحيي الرمم ، وصرخ عند تسليم الروح ، ولم يقدر على إبراء ما فيه من جروح ، وليت شعري ما عمل هؤلاء القديسون ؟ أبقوا في المدينة المقدسة ؟ أم كروا إلى قبورهم فهم راجعون ؟ وهل التأم الهيكل والصخور ؟ أم دامت على انشقاقها إلى كثير من الدهور ؟
فإن قيل : إنما لم يشتهر ذلك ، لأن أصحاب المسيح لم يحضر منهم أحد خوفاً من اليهود ، والذين شاهدوا هذه الآيات من اليهود تواطؤوا على الكتمان حسداً وبغياً ، قلنا : مثل هذه الآيات العظيمة إذا وقعت ، علمها من حضر ومن غاب ، من الأعداء والأحباب ، لأنها آيات نهارية ، ومعجزات تشتهر في البرية ، ويتناقلها أهل البلدان ، وتبقى مؤرخة بكل لسان ، في سائر الملل بكل أرض وزمان ، فعلم بالضرورة أن هذه الأقوال ، مما اخترعها وحررها أئمة الضلال ، ليخدعوا بها ضعفاء العقول ، ويتوصلوا إلى جذب الدنيا بالكذب على هذا الرسول . انتهى .
وقال الإمام ابن حزم رحمه الله فكتابه " الملل " عند الكلام على النصارى : وممّا يعترض به علينا اليهود والنصارى ومن ذهب إلى إسقاط الكوافّ ( جمع كافة ) من سائر الملحدين : أن قال قائلهم : قد نقلت اليهود والنصارى أن المسيح عليه السلام قد صلب وقتل ، وجاء القرآن بأنه ( ص ) لم يقتل ولم يصلب . فقولوا لنا كيف كان هذا ؟
فإن جوّزتم على هذه الكواف العظام المختلفة الأهواء والأديان والأزمان والبلدان والأجناس نقل الباطل ، فليست بذلك أولى من كافتكم التي نقلت أعلام نبيكم وشرائعه وكتابه .
فإن قلتم : اشتبه عليهم ، فلم يتعمدوا نقل الباطل ، فقد جوّزتم التلبيس على الكواف ، فلعل كافتكم أيضاً ملتبس عليها . فليس سائر الكواف أولى بذلك من كافتكم .
وقولوا لنا : كيف فرض الإقرار بصلب المسيح عندكم قبل ورود الخبر عليكم ببطلان صلبه وقتله ؟ فإن قلتم : كان الفرض على الناس الإقرار بصلبه ، وجب من قولكم الإقرار أن الله تعالى فرض على الناس الإقرار بالباطل ، وأن الله تعالى فرض على الناس تصديق الباطل والتدّين به ، وفي هذا ما فيه .
وإن قلتم كان الفرض عليكم الإنكار لصلبه ، فقد أوجبتم أن الله تعالى فرض على الناس تكذيب الكواف ، وفي هذا إبطال قول كافتكم ، بل إبطال جميع الشرائع ، بل إبطال كل خبر كان في العالم عن كل بلد وملك ونبي وفيلسوف وعالم ؛ ووقعتم ، وفي هذا ما فيه .
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذه الإلزامات كلها فاسدة في غاية الحوالة والاضمحلال بحمد الله تعالى . ونحن مبينون ذلك بالبراهين الضرورية بياناً لا يخفى على من له أدنى فهم بحول الله تعالى وقوته .
فنقول وبالله التوفيق : إن صلب المسيح عليه السلام لم يقله قط كافَّةٌ ، ولا صحَّ بالخبر قط ؛ لأن الكافّة التي يلزم قبول نقلها هي : إمَّا الجماعة التي يوقن أنها لم تتواطأ لِتَنَابُذِ طرقهم ، وعدم التقائهم ، وامتناع اتفاق خواطرهم على الخبر الذي نقلوه عن مشاهدة ، أو رجع إلى مشاهدة ولو كانوا اثنين فصاعداً .
وإمّا أن يكون عدد كثير يمتنع منه الاتفاق في الطبيعة على التمادي على سنن ما تواطؤوا عليه ، فأخبروا بخبر شاهدوه ولم يختلفوا فيه ، فما نقله [ في المطبوع : نقلوه ] أحد أهل هاتين الصفتين عن مثل إحداهما ، وهكذا حتى يبلغ إلى مشاهدة ، فهذه صفة الكافة التي يلزم قبول نقلها ، ويضطر خبرها سامعها إلى تصديقه ، وسواء كانوا عدولاً أو فساقاً أو كفَّاراً [ وما عدا هذا من الخبر فليس كافة ، ولا يضطر سامعه إلى تصديقه ، وسواء أكانوا عدولاً أم غير عدول زيادة في الأصل ] ولا يقطع على صحته إلا ببرهان . فلما صح ذلك نظرنا فيمن نقل خبر صلب المسيح عليه السلام فوجدناه كواف عظيمة صادقة بلا شك في نقلها جيلاً بعد جيل إلى الذين ادّعوا مشاهدة صلبه ، فإنَّ هنالك تبدّلت الصفة ورجعت إلى شُرَطٍٍ مأمورين مجتمعين مضمون منهم الكذب وقبول الرشوة على قول الباطل .
والنصارى مقرّون بأنهم لم يقدموا على أخذه نهاراً خوف العامة ، وإنما أخذوه ليلاً عند افتراق الناس عن الفصح ، وأنه لم يبق في الخشبة إلاَّ ست ساعات من النهار ، وأنه أنزل إثر ذلك ، وأنه لم يصلب إلاَّ في مكان نازح عن المدينة في بستان فخار متملك للفخار ، ليس موضعاً معروفاً بصلب من يصلب ، ولا موقوفاً لذلك ، وأنه بعد هذا كله رُشِيَ الشُّرط على أن يقولوا إن أصحابه سرقوه ففعلوا ذلك ، وإن مريم المجدلانية وهي امرأة من العامة ، لم تقدم على حضور موضع صلبه ، بل كانت واقفة على بعد تنظر ، هذا كله في نص الإنجيل عندهم ، فبطل أن يكون صلبه منقولاً بكافة ، بل بخبر يشهد ظاهره على أنه مكتوم متواطأ عليه .
وما كان الحواريون ليلتئذ بنص الإنجيل إلا خائفين على أنفسهم ، غُيَّباً عن ذلك المشهد ، هاربين بأرواحهم مستترين . وأنَّ "شمعون الصفا" غُرِّر ودخل دار "قيقان" الكاهن أيضاً بضوء النهار فقال له : أنت من أصحابه ؟ فانتفى وجحد ، وخرج هارباً عن الدار . فبطل أن ينقل خبرَ صلبه أحدٌ تطيب النّفس عليه على أن تظن به الصدق ، فكيف أن ينقله كافة ؟ وهذا معنى قوله تعالى : { وَلَكِن شُبّهَ لَهُمْ } إنما عنى تعالى أن أولئك الفساق ، الذين دبروا هذا الباطل ، وتواطؤوا عليه ، هم شبهوا على من قلدهم ، فأخبروهم أنهم صلبوه وقتلوه ، وهم كاذبون في ذلك ، عالمون أنهم كذبة ، ولو أمكن أن يشبه ذلك على ذي حاسة سليمة ، لبطلت النبوات كلها ، إذ لعلها شبهت على الحواس السليمة ، ولو أمكن ذلك لبطلت الحقائق كلها ، لأمكن أن يكون كل واحد مما يشبه عليه فيما يأكل ويلبس ، وفيمن يجالس ، وفي حين هو فلعله نائم ، أو مشبه على حواسه ، وفي هذا خروج إلى السخف وقول السفسطائية والحماقة ، وقد شاهدنا نحن مثل ذلك ، وذلك أننا أنذرنا للجبل لحضور دفن المؤيد هشام بن الحكم المستنصر ، فرأيت أنا وغيري نعشاً فيه شخص مكفن ، وقد شاهد غسله شيخان جليلان حكمان من حكام المسلمين ومن عدول القضاة ، في بيت ، وخارج البيت أبي رحمه الله وجماعة عظماء البلد ، ثم صلينا في ألوف من الناس عليه ، ثم لم يلبث شهوراً نحو السبعة حتى ظهر حياً ، وبويع بعد ذلك بالخلافة ، ودخلت عليه أنا وغيري وجلست بين يديه ، ورأيته ، وبقي ثلاثة أعوام غير شهرين وأيام .
قال أبو محمد - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : وأما قوله : قد جوزتم التمويه على الكافة ، فقد بينا أنها لم تكن كافة قط ، وحتى لو صح أنها كافة فكيف لا يجوز ذلك في كل آية تحيل الطبائع والحواس ؟ فهو ضرورة لا يحمل على الممكنات ، فلو صح أنها كانت كافة ، لكان خبر الله تعالى أنه شبه لهم ، حاكماً على حواسهم ومحيلاً لها ، كخروج النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ليلة هاجر بحضرة مائة رجل من قريش ، وقد حجب الله سبحانه أبصارهم عنه فلم يروه ، وأما ما لم يأت خبر عن الله عز وجل بأنه شبه على الكافة ، فلا يجوز أن يقال ذلك ، لأنه قطع على المحال وإحالة طبيعية ، وحالة الطبائع لا تدخل في الممكن ، إلا أن يأتي بذلك يقين عن الله عز وجل ، فيلزم قبوله ، وأما التشبيه على الواحد والاثنين ونحو ذلك فإنه جائز ، وكذلك فقد العقل والسخافة يجوز ذلك على الواحد والاثنين ونحو ذلك ، ولا يجوز على الجماعة كلها ، وقوله تعالى : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبّهَ لَهُمْ } إنما هو إخبار عن الذين يقولون تقليداً لأسلافهم من النصارى واليهود أنه عليه السلام قتل وصلب ، فهؤلاء شبه لهم القول ، أي : أدخلوا في شبهة منه ، وكان المشبهون لهم شيوخ السوء في ذلك الوقت ، وشُرَطهم المدَّعون أنهم قتلوه ، وهم يعلمون أنه لم يكن ذلك ، وإنما أخذوا من أمكنهم فقتلوه وصلبوه في استتار ومع من حضور الناس ، ثم أنزلوه ودفنوه تمويهاً على العامة التي شبه الخبر لها .
ثم نقول لليهود النصارى ، بعد أن بينا بحول الله وقوته بيان ما شنعوه في هذه المسالة : إن كوافكم قد نقلت عن بعض أنبيائكم فسوقاً ووطء إماء ، وهو حرام عندكم ، وعن هارون عليه السلام أنه هو الذي عمل العجل لبني إسرائيل وأمرهم بعبادته والرقص أمامه ، وقد نزه الله تعالى الأنبياء عليهم السلام عن عبادة غيره ، وعن الأمر بذلك ، وعن كل معصية ورذيلة ، فإذا جوزوا كلهم هذا على أنبياء ، منهم موسى عليه السلام وسائر أنبيائهم - كان كل ما أمروهم به ، مع جنس عمل العجل والرقص والأمر بعبادته ، ومن جنس وطء الإماء وسائر ما نسبوه إلى داود وسليمان عليهما السلام وسائر أنبيائهم ، لا سيما وهم يقرون بأن العجل كان يحور بطبعه ، وأما نحن فجوابنا في هذا كله بأن ليس شيء منه كافة ، ولكن نقل آحاد كذبوا فيه ، وأما خوار العجل فإنما هو على ما روينا عن ابن عباس - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ، من أنه إنما كان صفير الريح تدخل من فيه وتخرج من دبره ، لا أنه خار بطبعه قط ، وحتى لو صح أنه خار بطبعه ، لكان ذلك من أجل القوة التي كانت في القبضة التي قبضها السامري من أثر جبريل عليه السلام ، والذي يعتمد فهو قول ابن عباس - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - الذي ذكرناه ، وبالله تعالى التوفيق .
وأما قوله : كيف كان الفرض قبل ورود النص ببطلان صلبه ؟ الإقرار بصلبه أم الإنكار له ؟ فهذه قسمة فاسدة شغبية ، قد حذر منها الأوائل كثيراً ، ونبه عليها أهل المعرفة بحدود الكلام ، وذلك أنهم أوجبوا فرضاً ثم قسموه على قسمين : إما فرض بإنكار ، وإما فرض بإقرار ، وأضربوا عن القسم الصحيح فلم يذكروه ، وهذا لا يرضى به لنفسه إلا جاهل أو سخيف مغابط غابن لنفسه ، غاش لمن اغتر به ، وإن الحقيقة ههنا أن يقول ، هل يلزم الناس ، قبل ورود القرآن فرض بالإقرار بالصلب المسيح ، أو بإنكار صلبه ، أو لم يلزمهم فرض بشيء من ذلك ؟ فهذه هي القسمة الصحيحة والسؤال الصحيح ، وحق الجواب أنه لم يلزم الناس قط ، قبل ورود القرآن فرض بشيء من ذلك ، لا بإقرار ولا بإنكار ، وإنما كان خبراً لا يقطع العذر ولا يوجب العلم الضروري ، ممكن صدق قائله ، فقد قتل أنبياء كثيرة وممكن أن يكون ناقله كذب في ذلك ، وهو بمنزلة شيء مغيب في دار ، فيقال لهذا المعرض بهذا السؤال الفاسد : ما الفرض على الناس فيما في هذه الدار ؟ الإقرار بأن فيها رجلاً أم الإنكار لذلك ؟ فهذا كله لا يلزم منه شيء ، ولم ينزل الله عز وجل كتاباً قبل القرآن بفرض إقرار بصلب المسيح صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ولا بإنكاره ، وإنما ألزم الفرض بعد نزول القرآن بتكذيب الخبر بصلبه ، فإن قالوا : قد نقل الحواريون صلبه وهم أنبياء وعدول ، قيل لهم وبالله التوفيق : الناقلون لنبوتهم وأعلامهم ولقولهم بصلبه عليه السلام ، هم الناقلون عنهم الكذب في نسبه والقول بالتثليث الذي من قال به فهو كاذب على الله تعالى ، مفتر عليه ، كافر به ، فإن كان الناقل لذلك عنهم صادقاً أو كانوا كافة ، فما كان "يوحنا" و"متّى" و"بولس" إلاَّ كفاراً كاذبين ، وما كانوا قط من صالحي الحواريين .
وإن كان ناقل ما ذكرنا عنهم كاذباً ، فالكاذب لا يقوم بنقله حجة ، فبطل التمويه المتقدم ، والحمد لله رب العالمين .
فصل
أخذ بعض نصارى هذا العصر يتذبذب في الاعتقاد ، فطفق يرد على المسيحيين قوله بتثليث الآلهة ، وأنه مضاد لصريح نصوص الوحي ، أخذ يسلم بحقية القرآن وكذا التوراة والإنجيل الموجودين وأنهما لم يحرفا تحريفاً جوهرياً ، واعتقد بصلب المسيح يقيناً ، وصار بناقش المفسرين فيما فسروا به الآية المذكورة ، أعني آية الصلب ، زاعماً أن المنفي عن اليهود فيها هو نسبه الفعل لهم توبيخاً لتهكمهم وازدرائهم ، وَرَدَّ فعل الصلب إليه تعالى ، وقد توسع في هذا الموضوع وألف كتاباً سماه " المعتقد الصحيح في صلب السيد المسيح " ولما كان مبحثه غريباً جداً ، أردت أن أورد هنا بعض تمويهاته في رسالته ، وأعقبها بما فوِّق عليه من سهام ردود تهافته .
قال في أول رسالته : إن التباس فهم آية الصلب هو غالباً في تقدير نائب الفاعل لفعل ( شبه لهم ) فإنا إن قدرنا نائب الفاعل مصدراً مأخوذاً من الفعل السابق المذكور في الآية : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ } وكان التقدير شبه لهم أنهم قتلوه وأنهم صلبوه ، أو شبه لهم قتلهم له وصلبهم إياه ، والمعنى أنه مثل أو خيل لهم أنهم كانوا هم القاتلين وهم الصالبين - انحلت المسألة تقريباً ، وزالت كل صعوبة تأويل ، حيث إن السيد المسيح لم يقتل أصلاً ، ولا صلب قهراً ، أو مات جبراً ، أو اضطراراً ، بل هو من نفسه ( على زعمه ) قدم ذاته للصلب عن رغبته واختياره ورضاه ، فكأن اليهود لم يفعلوا شيئاً بقدرتهم ومجرد إرادتهم ، حتى يحق لهم الافتخار بأنهم قتلوه ، وأما إن قدِّر المسيح نائب الفاعل لـ ( شبه ) تعقدت المسألة وضاع السياق اللغوي ، لأنه لا وجه ، لغوياً ، في الآية يثبت وقوع الصلب على رجل آخر غيره ، إذ لم يذكر صريحاً ولا إشارة .
ثم ذكر في الفصل السادس أن القرآن العزيز لم يؤنب النصارى ، ولا مرة ، على ضلال اعتقادهم بصلب المسيح وموته وقيامته ، ولا كذب الإنجيل أو الحواريين ، ولا لام الذين آمنوا بصلب المسيح ، حال كونه نبههم مراراً على غير ضلالات عندهم .
وذكر فيه أيضاً : لم ترد أحاديث صحيحة عن الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بنفي صلبه ، وفيه أيضاً : أن هذه الآية يصح تأويلها إيجابياً طبقاً لما في الإنجيل ، بما أن عدة آيات أخرى قرآنية مجانسة لها أولت بخلاف ظاهرها اللفظي ، كأفعال المبايعة والرمي والموت والحياة وما أشبه ذلك ، التي نسبت صريحاً لغيرها فاعلها الظاهر .
وقال في الفصل العاشر : أما قولنا إن القرآن العزيز قصد نفي نسبة فعل الصلب لليهود وإسناده لله حقيقة ، فهو استناد على قوله : { فَلم تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَميتَ إِذْ رَميتَ وَلَكِنّ اللّهَ رَمَى } [ الأنفال : 17 ] ، وقوله : { إِنّ الّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [ الفتح : 10 ] ، فهنا الفاعل الظاهر حساً وفعلاً إنما هو الرسول محمد عليه الصلاة والسلام ، ولكن الفاعل الحقيقي إنما هو الله الفاعل كل شيء في الكل .
ثم قال : وربما يعترض أنه ذكر في الآية نفسها أن الله رمى ، وإنه تعالى هو المبايع ، فنقول : كذلك في آي الصلب وإخباره مراراً عديدة صرح في الإنجيل أن الفاعل والمسلم والبازل والحاكم والآذن في أمر الصلب إنما هو الله جل جلاله .
ثم قال : نقول أخيراً : إن آية الصلب القرآنية هي صحيحة في ذاتها تماماً وكمالاً ، ومطابقة أشد المطابقة لما ورد في نفس القرآن بهذا الشأن ، ولكل فّحْوى أسفار الميثاقين أو العهدين ، بكل بيان ، إنما تفسيرها بمطلق النفي كان وما زال غلطاً وضد الحقيقة والذوق اللغوي ، وضد ما جانسها في الآي الأخرى من نفس القرآن ، ومن نصوص سائر الكتب المنزلة ، ولا سيما الإنجيل ، الذي زبدته وروحه وقوامه وخلاصته هي كون المسيح صلب ومات وقام وعرج إلى السماء ، وأرسل البارقليط الآخر الرسول محمداً مبلغ القرآن العظيم ، الحاوي روح الصدق والحق ، والمذكر بكل ما قال المسيح في الإنجيل الشريف .
ثم قال : إن إنكار أمر الصلب أو إثباته ليس من الأركان في الدين عند المحمديين ، ولا هو محرِّم قطعاً الاختلاف في تفسير بعض آيات ، وقد وجد ويوجد عدة اختلافات عند اليهود والنصارى والمسلمين ، وليس ذلك محرماً إلا إذا آل لإنكار أو لإفساد نفس الآيات ، أو إيقاع الشبهة على ذات نصوص الوحي ، ففي آية الصلب ليس شيء من ذلك ، بل بالعكس تأييد كل النصوص الإلهية .
هذا خلاصة ما أورده في رسالته ، وقد رد عليه من الفضلاء المسلمين عدد وافر ، في تآليف بديعة ، منها كتاب " السيوف البتارة " اعتمد مؤلفها في إيراد حججها على التواريخ الإفرنجية المعول عليها ، فإن الإفرنج أعرف من غيرهم بحقيقة ما يهمهم ، وأبعد من مظنة التشيّع في شهادتهم على أنفسهم ، في أمر دينهم .
قال رعاه الله : يعلم الواقف على حقائق التاريخ أن مسألة الصلب من أهم المسائل التي ولدت الشقاق والنفرة فيما بين النصارى عموماً ونصارى مصر والشام في الأجيال الأولى خصوصاً ، فإنهم كانوا غالباً يرفضون حصول الصلب رفضاً باتاً ، لأن بعضهم كان يعتبره إهانة لشرف المسيح ، ونقصاً فاضحاً ، والبعض الآخر كان يجحده ارتكاناً على الأدلة التاريخية ، وهؤلاء الجاحدون للصلب طوائف كثيرة ، منها : الساطر نيوسيون والمركيونيون والبارديسيانيون والتاتيانيسيون والكاربو كراتيون والمانيسيون والبارسكاليونيون والبوليسيون ، إذ كلهم اعتقدوا ، مع كثيرين غيرهم ، بأنه لا يمكنهم أن يسلموا بنوع من الأنواع ، أن المسيح سمر فعلاً ، أو مات على الصليب حقيقة ، حتى استَخَفُّوا بالصليب والصلب ، وقال بعض المؤرخين الأفاضل : إن الخلاف الذي وقع بين النصارى في مبدأ الأمر الذي كان سبباً في انسلاخ جملة طوائف وتشتتها واعتبارها في رأي آخرين مارقة من الدين ، ولكن هذه الطوائف المضطهدة الهضومة كانت أفكارها منطبقة على الأصول النصرانية عقلاً ونقلاً ، بخلاف أفكار مضطهديهم ، فإن هذه الطوائف بنت على ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام أنهلا يجوز أن يمتهن ، واستنتجت من هذا أنه لم يصلب قطعاً ، وأن ألفاظ التوجع والتضجر ، التي نسبتها إليه كتب النصارى المتأخرين ، لم يتفوه بها ولا تصح نسبتها إليه ، وبالجملة إن الشخص المصلوب غير عيسى قطعاً ، وأنه عليه الصلاة والسلام لم تسلط عليه أيدي مضطهديه ، بل رفع إلى السماء ، ومن القائلين ، بهذه الأفكار الدوسيتية والمرسيونية والفلنطانيائية ، وغير خاف أنه حتى على فرض البنوة فقط ، لا يمكن عقلاً أن يتصور صلبه . انتهى .
ويؤيد هذا ما قاله الباحث الشهير الموسيو إدوار سيوس ، أحد أعضاء " الانستيتو دي فرنس " في باريس ، المشهور بمعارضته المسلمين في كتابه ( عقيدة المسلمين في بعض المسائل النصرانية ) صحيفة ( 49 ) : إن القرآن ينفي قتل عيسى وصلبه ، ويقول بأنه ألقي شبهه على غيره فغلط اليهود فيه وظنوا أنهم قتلوه ، وإن ما قاله القرآن موجود عند طوائف النصرانية منه الباسيليديون ، كانوا يعتقدون ، بغاية السخافة ، أن عيسى وهو ذاهب لمحل الصلب ، ألقي شبهه على سيمون السيرناي تماماً ، وألقي شبه سيمون عليه ، ثم أخفى نفسه ليضحك استهزاء على مضطهديه الغالطين ، ومنهم السيرنتيون ، فإنهم قرروا أن أحد الحواريين صلب بدل عيسى ، وقد عثر على فصل من كتب الحواريين ، وإذا كلامه نفس كلام الباسيليديين ، وقد صرح " إنجيل القديس برنابا " باسم الذي صلب بدل عيسى قال : إنه يهوذا . انتهى .
ولم يردّ المؤرخ ، المترجم كلامه ، على هذا الإنجيل ، إلا بدعوى أنه كلام لا يعول عليه ، وهذا الرد من رجل صدر نفسه للرد على المسلمين غير كاف ، فيستفاد من جميع ما ذكر أن جماً غفيراً من طوائف النصارى ذوات البال والأهمية ، كانت تنبذ عقيدة صلب المسيح نبذاً ، وتفندها تفنيداً وما زالوا كذلك حتى جاء الإسلام فدخلوا فيه أفواجاً ، لإنكار القرآن ، وما أنكروه من الصلب وغيره ، وبالجملة إن أغلب الشعوب الشرقية ، قبل الفتح الإسلامي ، رفضت القتل والصلب ، حتى قال ياسيليوس الباسليدي : إن نفس حادثة القيامة ، المدعى بها بعد الصلب الموهوم ، هي من ضمن البراهين الدالة على عدم حصول الصلب ، ومن المعلوم أن نصارى الشام هم الذين وقعت هذه الحادثة بينهم ، فهم أقرب الناس إلى العمل بحقيقتها ، وكذلك من جاورهم من نصارى المصريين وغيرهم ، لحصول الجواز وقرب المسافة ، فكيف لا تكون شهادتهم هي عين الصواب ؟ وبذلك يتبين أن دعوى ( صاحب جريدة شهادة الحق ) الإجماع على الصلب وانفراد القرآن الشريف بنفيه - غير مسلمة ، مع وجود هذه الطوائف المنازعة في الصلب ، وقد صرح القرآن بأن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إنما بعث لتصديق ما بين يديه من الحق وتبيين ما اختلف فيه طوائف النصارى مع اليهود ، والنصارى مع بعضهم بعضاً ، ولو حكمنا التاريخ لشهد لهؤلاء الناس وبرز أقوالهم ، وذلك أن أهل فلسطين كانوا يعبدون الأوثان ويخالفون بني إسرائيل في ديانتهم ، فكان من مبادئهم ، العاملين عليها في سياستهم العمومية ، بذل المجهود وإفراغ الوسع في معاكسة عقائد اليهود ، لإدخالهم في الديانة الوثنية وتقويض دعائم الشريعة الموسوية ، والضغط على شعائرهم الملية ، يشهد لهذا أقوال الكاتب الشهير ( أرنست رنان ) العضو في ( الأكاديمية الفرنساوية ) المنفرد بالإجادة والشهرة في رسالة نشرت في جريدة العاملين في 15 مارس 1893 ، معنونة بـ ( اليهود تحت حكم الرومان ) حيث قال : إن كل المناصب ذوات المرتب الباهظ كانت تعطى غنيمة باردة لليهود الذين يطرحون دينهم ظهرياً ، ويجعلون شعائرهم الملية شيناً ، ويعتنقون ديانة الرومان الوثنية ، فكان من ضغط الرومان ومن تزلف اليهود إليهم ، ومن أطماعهم إلى الرتب والألقاب ، أن ارتد غالب سواد اليهود وعبدوا جوبيتر الألومبي ، وكان الواحد منهم يخف الاختتان بعملية شاقة جداً ( ذكرها سلسل المؤرخ الروماني الشهير ) ثم يتزيى بزي الرومان ويسحب ذيوله تيهاً وإعجاباً بنفسه وبعوائد الرومان ، وازدراء واحتقاراً لبني جلدته وذوي ملته ، فرحاً بلقمة يلتقمها ، أو مرتبة يتربع في دستها ، وما زالت اليهود تَتَرَوْمَنُ حتى أن الأحبار غادروا الهيكل والمجامع ، واشتغلوا بملاعب الرومان الرياضية ، وأخيراً آل الأمر ، قبل وجود عيسى عليه السلام ، إلى إدخال صنمهم الأكبر ووضعه في محل تقريب القربان نفسه ، بحيث أن القربانات كانت تعمل أمامه ، حتى كادت معالم اليهودية أن تنمحي من صحيفة الوجود ، ووقع ذلك سيء الوقع وأثر أردأ تأثير في نفوس البقية القليلة من اليهود التي اعتصمت بدينها . انتهى .
وبهذا يعلم مقدار ضغط الرومان على اليهود لمحو آثار دينهم من الوجود ، فليس من المعقول أن الحكومة ، وهي ما ترى من الكراهة الدينية لليهود ، تجيبهم إلى ما طلبوا من تنفيذ أمر الصلب ، أو تعيره أدنى ذرة من الأهمية ، خصوصاً والحاكم الروماني على فلسطين في ذلك الوقت ، كان يكره اليهود كما يكره أن يلقى في النار ، وهم يكرهونه أشد من ذلك ، دليلنا على ذلك ما كتبه المسيو رنان المذكور في كتابه المشهور المسمى " حياة المسيح " حينما تكلم على شكاية اليهود من عيسى بدعوى أنه غيّر التوراة ، وكان ذلك على زعمهم ليستوجب قتله ، حيث قال : إن حاكم فلسطين المسمى ( بونسيوس ) الملقب ( بيلاطس ) - أظهر عدم عنايته بمنازعات اليهود الداخلية وشكاويهم وخصوماتهم ، بل كان يعتبر أن هذه الأعمال صادرة عن عقول مختلفة وأفكار معتلة ، وبالإجمال ، كان يكره اليهود وهم يكرهونه أشد من كراهته لهم ، لأنهم كانوا يجدونه قاسياً ذا أنفة وكبر ، غير مكترث بهم ، ولقد رموه وعابوه بجنايات لا يسعها عقل عاقل ، والمتمسكون بدينهم منهم رأوا أن غرض بيلاطس هذا ، سحق أثر الشريعة الموسوية سحقاً ومحوها محواً ، وتعصبهم الأعمى وكراهتهم الدينية له جعلاه يأنف من أفكارهم ، فإنه كان يميل كل الميل إلى الأحكام الوضعية الرومانية ، التي كانت نهاية فخر كل رومانيّ في ذلك الحين ، وكان يرى أفكار اليهود سخيفة تقهقرية ، لأنه كلما هي بجلب النافع العام ، وسن مشروع يضمن الراحة والرفاهية ، قام الأحبار عن آخرهم وعارضوه بتفسير التوراة التي كانت تسد في وجهه أبواب التحسين والتغيير ، فلم يعتن بجرح حواسهم ومس شرفهم ومعالمهم الدينية ، وعاملهم بالقسوة والكبر وعدم تنفيذ رغباتهم ، فانشغب الأمر ودام الفشل ، وأخيراً اضطرت الحكومة إلى إقالته من منصبه بسبب قيامة اليهود عليه ، ولقد كانت نفس بيلاطس تضيق ، وصدره يحرج عند مجيء شكوى ضد عيسى عليه الصلاة والسلام ، حيث كان لا يسمح بتنفيذ أمر القتل عليه ، وعيسى ضد اليهود ، ويعيب التوراة كما يقولون ، فكان ذلك عن رغبة الحاكم ، وجل ما يتمنى ، فكيف يكون هو الآمر والمنفذ لقتله ؟ مع أنه كان قادراً على تنفيذ رغباته المضادة لليهود على خط مستقيم ، والحقيقة أن بيلاطس كان ميالاً كل الميل لخلاص السيد المسيح من هؤلاء الظلمة ، ولعله رأى ما فيه من جميل الشيم والأخلاق الكريمة الطاهرة ، فَرَاقه ذلك ، زيادة عن كراهته لليهود ، فعمل على خلاصه من الصلب ، كما يتضح من " إنجيل متى " 27 و 24 ، " ولوقا " 23 و 12 ، " ويوحنا " 13 - 23 وفي بعض آيات الإنجيلين أن عيسى سوعد من زوجة بيلاطس الحاكم القائلة ( كما هو مذكور في " إنجيل متى " 27و 19 ) : إياك وهذا البارّ ، لأني تألمت اليوم كثيراً في حلم من أجله ، ولعلها رأته فبهرها كماله ووقاره وحشمته وبلوغه الغاية في الأدب والشمائل الطاهرة ، والظاهر أنها رأت هذا الشاب البريء المبجل من إحدى نوافذ قضرها المطلة على أفنية هيكل سليمان عليه السلام ، فظهر لها بكماله الحقيقي فاستفظعت إهدار دم هذا البريء الوقور ، وكيفما كان السبب فالذي لا يشك فيه أحد ، أن بيلاطس كان محباً لعيسى عليه السلام حباَ شديداً ، ولذلك سأله بكمال اللطف والأدب ليفرغ ما في وسعه لتبرئته . انتهى .
فيؤخذ من كلام ( رنان ) أن الحاكم المنوط به الأمر والتنفيذ ، كان مضاداً للصلب ، فلا غرابة في عدم حصوله للمسيح عليه السلام ، وتبديله بآخر ، وكراهة هذا الحاكم لليهود مشهورة لا تحتاج لزيادة إيضاح ، حتى إن ترتوليانوس ، أحد آباء الكنيسة النصرانية ، جزم بأن بيلاطس الحاكم كان نصرانياً في الباطن ، وفي الجزء الأول من تاريخ الديانة النصرانية لمؤلف ( ملمن ) : إن تنفيذ الحكم كان في وقت الغلس وإسدال ثوب الظلام ، فيستنتج من ذلك أيضاً إمكان استبدال السيد المسيح بأحد المجرمين الذين كانوا في سجون القدس ، منتظرين تنفيذ حكم القتل عليهم ، كما اعتقد بعض الطوائف ، وصدقهم القرآن ، ولقد جرى على هذا الرأي جماعة من المؤرخين المهمين ( كالمسيوشارل بيكار ) و ( أرنست دي بونس ) وغيرهما ، فإن الأول قال : إن مسألة صلب المسيح كلها مبتكرة مخترعة لا غير ، لتوافق اعتقادات قديمة ، مآلها أن الله لا يسكن غضبه إلا بسفك دم القربان من بني آدم ، وكانت اليهود تقدم أولادها قرباناً للذبح استجلاباً لإسكان غضب الخالق وجلب رضاه ويقول : إنهم ربما أكلوا لحوم القربان الآدمي وشربوا دمه ، ولما قامت الأنبياء في بني إسرائيل واضطهدت هذه العادة الشنعاء ، بدل ذبح الآدمي قرباناً بذبح الحيوان ، وأطال المسيو ( بيكار ) في شرح ارتباط تضحية سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام مع هذه العوائد القديمة ، فأفاد أن نفس الصليب كان مستعملاً رمزاً عن شيء عندهم اسمه ( اللنجام ) وهو عبارة عن خشبتين متصلبتين متداخلتين في بعضهما .
وأما المسيو ( أرنست دي بونس الألماني ) فإنه قال في كتابه المسمى بـ " النصرانية الحقة " صحيفة 142 ما معناه : إن جميع ما يختص بمسائل الصلب والفداء ، هو من مبتكرات ومخترعات بولس ومن شابهه ، من الذين لم يروا المسيح عليه الصلاة والسلام ، لا من أصول النصرانية الأصلية .
فوضح وضوح الشمس لذي عينين أن التاريخ ، فضلاً عن كونه لم يثبت مسألة الصلب والقتل ، يرجح نفي حصوله رجحاناً لا يكاد يفارق اليقين الحقيقي ، ومعلوم أن أخذ الأمور التاريخية في هذا الصدد عن طوائف مصر والشام أولى ، لأنهم أبناء جلدتها ، وأدرى بحوادث بلادهم الحقيقية ، فيؤخذ من كل ذلك :
أولاً : أن كافة الظروف التي حصل فيها تنفيذ الحكم كانت مساعدة لتخليص المسيح عليه الصلاة والسلام ، وبالأخص اضطهاد الحكومة الرومانية للعقائد الموسوية ، وعدم الاعتناء بها لا يسهل تنفيذها .
ثانياً : وقت الغلس الذي حصل فيه ذلك الصلب الموهوم .
وكان يمكننا لدرس هذا الموضوع التكلم على جملة مسائل تفند دعوى الصلب تفنيداً لا مزيد عليه ، ومن ضمنها ، أن نصارى اليوم تدعي أن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام حكم عليه من مجمع اليهود بالقتل بسبب تغييره لأحكام التوراة ، ومن المعلوم أن الحكم ، في ذلك الموضوع ، الرجم لا الصلب ، فهذا مما يرتكن عليه مثل المرسيو ( شارل بيكار ) في ادعائه أن النصارى الحديثين احتاجوا لعلامة الصليب رمزاً لبعض عقائد كانوا يريدون إدخالها في الديانة وهي مسألة الفدا . انتهى كلام صاحب السيوف البتارة .
ولما اطلع عليها ذلك النصراني المذبذب المردود عليه ، أعياه الرد من الطريقة التاريخية ، فأخذ يرد عليها تشبثاً بأسباب واهية فعدّ ، كل من رفض الصلب من نصارى الأيام الأول ، هرطوقياً ، أي : مارقاً من الدين ، ورمى أصحاب التواريخ من أهل أوروبا الذين وافقوا المسلمين في عدم حصول الصلب بأنهم كفرة الإفرنج ، ثم تمسك بالأناجيل الأربعة الرسمية وقال : أنه لا يمكنه أن يزيف شيئاً منها ما دامت شاهدة من أولها إلى آخرها بحصول الصلب حقيقة ، وأنه يلزم حينئذ تأويل ما جاء في القرآن المجيد حتى يصل للوفاق .
فعاد صاحب " السيوف البتارة " وألف رسالة ثانية في شهادة علماء الإفرنج بحفظ القرآن وتحريف ما سواه ، تكملة للأول ، فتوسع جزاه لله خيراً في هذا الموضوع ثم قال ( في الكلام على الإنجيل ) ما لفظه : أما الإنجيل فإنه أبعد عن الصحة من التوراة بكثير ، إذ لا يفهم أحد للآن كيف تعدد الإنجيل الأصلي إلى نسخ شتى متباينة ، ولأي مرجح استحسنت منها النصارى الحاليون أربعة أناجيل ، مختلفة كل الاختلاف ، متضاربة كل التضارب ، ولا يدري لماذا عدلوا عن " إنجيل برنابا " مثلاً الذي وافق القرآن قبل ظهوره في المسائل التي أبتها الكتب الحالية ، فإنا نجد هذا الإنجيل يخبر أن السيد المسيح نبي ، عبد ، مخلوق ، ليس بإله ، وأنه لم يصلب ، وفيه البشارة بسيدنا محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مذكوراً بلفظه ( كذا ) ، وهاك ما قاله السيد المسيح في الإنجيل المذكور ( وإني وإن كنت برياً ، لكن بعض الناس لما قالوا في حقي إنه الله وابن الله ، كره الله هذا القول واقتضت مشيئه بأن لا تضحك الشياطين يوم القيامة عليّ ولا يستهزؤون ، فاستحسن بمقتضى لطفه ورحمته أن يكون الضحك والاستهزاء في الدنيا بسبب موت يهوذا ، ويظن كل شخص أني صلبت ، لكن هذه الإهانة والاستهزاء تبقيان إلى أن يجيء محمد رسول الله ، فإذا جاء في الدنيا ينبه كل مؤمن على هذا الغلط ، وترتفع هذه الشبهة من قلوب الناس ) .
وقد استشهد العلامة ( سيل ) الإنكليزي ، المشهور في أوروبا بترجمة المصحف الشريف ، بهذه الآية الإنجيلية ، تفسيراً لقوله تعالى في سورة آل عِمْرَان : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الماكِرِينَ } [ آل عِمْرَان : 54 ] وإنجيل برنابا أثبته العلماء قبل الإسلام بنحو ثلاثمائة سنة ، حتى أن العالم الإنكليزي ( تولاند ) قال : وعلى النصرانية السلام ، بمجرد رؤيته هذا الإنجيل ، ثم قال : قال العلامة ( هيردر ) وجماعة آخرون : إن الإنجيل الأصلي كان واحداً ، إلا أنه لم يكتب ، بل قال المسيح مشافهة ، وروه الحواريون عنه للناس شفاهياً أيضاً ، فحفظ الخلق منه بعض أقوال أضافوا إليها ما استحسنوه من السير والقصص ، ونقصوا منها ما لم يوافق أذواقهم ، وما زالت تنتقل الروايات المختلفة من شخص إلى آخر ، ومن زمن إلى غيره حتى تشعبت ، وكتب أخيراً منها أناجيل شتى ، فاختارت الكنائس منها أربعة جعلتها الرسمية .
ثم قال مؤلف " السيوف البتارة " : فوضح وضوحاً تاماً لذي بصيرة ، أن الحجة على دعوى صلب المسيح قد سقطت سقوطاً لا تقوم بعده أبداً ، سواء من جهة التاريخ الصحيح الذي دحضها وخذل مدعيها بأجلى برهان ، أو من جهة الأناجيل المعتبرة عندهم ، لذهاب أصلها أدراج الرياح ، بثبوت التحريف والتغيير لها .
ثم قال : وأما قوله ( يعني المذبذب ) ، بأن طوائف النصارى الرافضة للصلب هراقطة - فغريب ، لأنهم مثله في العقيدة لا يمتازون إلا بإنكارهم الصلب الحقيقي للمسيح ، وهل الاقتصار ، في الرد من باحث ، على قوله ( كفرة ) يعد من باب نقض الدليل بالدليل وتزييف الحجة بالحجة ؟ أو من باب المكابرة في المحسوس والانقطاع عن المناظرة للعجز الواضح ، وإذا جاز إطلاق ( كفرة ) على هؤلاء وهم أمناء النصرانية واليهودية - جاز أن تصف بهذه الصفة كل يهودي ونصراني ، وحينئذ لا يصح احتجاجك بإجماعهم ولا بشيء من آرائهم ، وتكون في ردك بكلمة ( هراقطة ، كفرة ) أشبه لمن اقتصر في مناظرة خصمه على كلمة ( لا ) فقط ، فهو يكررها ولا يسأم من الرد بها ، ثم قال : فقد برح الخفاء وانكشف الغطاء وبان للقراء أن لا إجماع بين النصارى أنفسهم على حصول الصلب منذ تكلم الناس فيه حتى الآن ، وتفرقت فيه آراؤهم أيدي سبا ، وذهبوا فيه كل مذهب ، فلا تكاد تجد قولاً لأحدهم في أي : عصر إلا وهو مضاد لأقوال آخرين منهم على خط مستقيم ، حتى لا ترى إلا غوغاء وجلبة المناقضات ، فلم يتفقوا على كيفية الصلب ولا على معناه ولا على المراد منه ، ولا اجتمع فيه رأيان ، كان ذلك من باب التقليد والتسليم ، الذي لا يقام عليه دليل أعظم من أن يقال : إن الدين ينبغي أن لا يفهم ولا يدخل معناه السري تحت تصورٍٍ ، هذا مع أن الصلب عند النصارى هو قلب دينهم ( كما يقولون ) وأساس معتقدهم ، حتى كأنه بمنزلة التوحيد عند المسلمين ، ومع أن نفي الصلب عندنا ليس من الأصول التي انبنى علها ديننا في شيء ، بل لا تخرج مسألته عن كونها من قصص الأولين ، كالإخبار عن نوح وإبراهيم وموسى ، مما سبق لنحو الوعظ والاعتبار - فلم يهجس بخلد مسلم منذ وجد الإسلام إلى يومنا هذا أن عيسى صَلّى اللهُ عليّه وسلّم صلب أو قتل ، ولم يخرق إجماع المسلمين على ذلك واحدٌ منهم في كل عصر ومكان ، وما ذلك إلا لضبط القرآن الكريم وصيانته ، ولو حكّمنا غير متدين في هذه المسالة ، ونظر لأهميتها عند النصارى ، مع عدم قدرتهم على إثباتها ، ولفرعيتها عند المسلمين ، مع إجماعهم على نفيها إجماعاً لا مثيل له في العالم - لا نبهر من همة المسلمين في ضبط وحفظ كتابهم ، وثباتهم في صغير الأمر وكبيره ، وتمنى أن تتدلى الأنجم الزهر ليصوغ منها عقود ثناء ومدح لهم ، على عنايتهم بدينهم إلى هذا الحد الذي لا نظير له ، ولم يسعه إلا أن يقلب أكف الأسف ، ويعض بنان الندم على تزعزع دين غيرهم ، لدرجة أن أعظم أصل فيه لا يثبت إلا في مخيلات بعض المقلدين ، من غير استناد على دليل نقلي صحيح ، أو عقلي مسلم ، حتى قام عقلاؤهم نافضين غبار التقليد ، ناشدين الحقيقة ، فانجلت ، لكثير منهم ، عن تدمير هذا البناء التقليدي ، والرجوع إلى ما ثبت بالدليل في ديانة غيرهم ، ومما هو جدير بالتنبه له أن بولس الذي عزا إليه كل محققي التاريخ من الإفرنج وغيرهم ، أنه وحده المخترع لمسائل الصلب والفداء ، وألوهية عيسى إلى غير ذلك - قد أَبَان أن الصلب والقتل ليسا حقيقيين ، كما جاء في رسالته لأهل غلاطية ، حيث قال : أنتم الذين رسم يسوع المسيح بينكم مصلوباً ، وقال في رسالته لأهل رومية : نحن نقوم بشبه موته ، إلى أن قال : فدفنا معه بالمعمودية ، لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته ، نصيراً أيضاً بارتفاعه ، عالمين أن إنساننا العتيق قد صلب معه إلخ ، فيستفاد من مجموع أقوال بولس هذه أن المسيح لم يصلب ولم يقتل حقيقة ، وإنما ذلك مجاز عن الشبه المقتول المصلوب ، كما جاء في إنجيل برنابا ، وقد يدعوك حب التمسك بهذه المسألة إلى أن تؤول كلام بولس بما لا يحتمله اللفظ والسياق ، وأنت لاهٍٍ عن أنه متى وقع الاحتمال سقط الاستدلال ، وإنما أتينا بكلامه تنزلاً معك على التسليم الجدلي بصحة ما روي عنه في رسالته لأهل غلاطية ، فنقول : حتى على فرض صحة ما روي عن بولس نفسه ، فإنه يشهد لنفي الصلب والقتل ، لا لحصولهما حقيقة ، هذا ولو قارنت دعوى الصلب والفداء بما جاء في التوراة من قولها ( الشرير فدية الصديق ) لكان معناه ، على مقتضى زعمك ، أن عيسى شرّ بالإضافة لكل أحد ، وهذا لا يجوز لا عقلاً ولا شرعاً ، فوجب ، أخذاً من عبارة التوراة ، أن يكون المصلوب شريراً فداءً لصديق ، هو عيسى عليه الصلاة والسلام ، كما جاء في إنجيل برنابا انتهى ملخصاً .
ولن يعدم الحق أنصاراً ، والباطل خزياً وانكساراً .
فصل
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - في كتابه " الفرقان " وهو من آخر مصنفاته ، صنفه بقلعة دمشق ، ما لفظه : ( فإن قيل ) فإذا كان في كتب الأناجيل التي عندهم أن المسيح صلب ، وأنه بعد الصلب بأيام أتى إليهم ، وقال لهم : أنا المسيح ، ولا يقولون إن الشيطان تمثل على صورته - فالشيطان ليس هو لحم وعظم ، وهذا أثر المسامير ، أو نحو هذا الكلام - فأين الإنجيل الذي قال الله عز وجل فيه : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ } [ المائدة : 47 ] ، وقال قبل هذا : { وَقَفّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدّقاً لما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدّقاً لما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لّلمتّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لم يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ المائدة : 46 - 47 ] ، وقال قبل هذا : { وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمّ يَتَوَلّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالمؤْمِنِينَ إِنّا أَنزَلْنَا التّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النّبِيّونَ الّذِينَ أَسْلمواْ لِلّذِينَ هَادُواْ وَالرّبّانِيّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء } [ المائدة : 43 - 44 ] وقال أيضاً : { وَلَوْ أَنّهُمْ أَقَامُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مّن رّبّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } [ المائدة : 66 ] ، وقال أيضاً : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍٍ حَتّى تُقِيمُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مّن رّبّكُمْ وَلَيَزِيدَنّ كَثِيراً مّنْهُم مّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [ ألمائدة : 68 ] ، وهذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لأهل الكتاب ، الذين بعث إليهم ، وهو من كان في وقتهم ، ومن يأتي من بعدهم إلى يوم القيامة ، لم يؤمر أن يقول ذلك لمن قد تاب منهم ، وكذلك قوله : { وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ } [ المائدة : 43 ] ، إخبار عن اليهود الموجودين ، وأن عندهم التوارة فيها حكم الله ، وكذلك قوله : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ الله فيه } [ المائدة : 47 ] ، هو أمر من الله على لسان محمد لأهل الإنجيل ، ومن لا يؤمر على لسان محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، قيل قبل هذا : إنه قد قيل ليس في العالم نسخة بنفس ما أنزل الله في التوراة والإنجيل بل ذلك مبدّل ، فإن التوراة انقطع تواترها ، والإنجيل إنما أخذ عن أربعة ، ثم من هؤلاء من زعم أن كثيراً مما في التوراة والإنجيل باطل ليس من كلام الله ، ومنهم من قال : بل ذلك قليل ، وقيل : لم يحرف أحد شيئاً من حروف الكتب وإنما حرَّفوا معانيها بالتأويل ، وهذان القولان ، قال كلاً منهما كثير من المسلمين ، والصحيح القول الثالث ، وهو أن في الأرض نسخاً صحيحة ، وبقيت إلى عهد النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ونسخاً كثيرة محرّفة ، ومن قال : إنه لا يحرف شيء من النسخ فقد قال ما لا يمكنه نفيه .
ومن قال : جميع النسخ بعد النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم حرفت فقد قال ما يعلم أنه خطأ ، والقرآن يأمرهم أن يحكموا بما أنزل الله في التوراة والإنجيل ويخبر أن فيهما حكمه ، وليس في القرآن خبر أنهم غيّروا جميع النسخ ، وإذا كان كذلك فنقول : هو سبحانه قال : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ الله فيه } [ المائدة : 47 ] ، وما أنزله الله هو ما تلقوه عن المسيح ، فأما حكايته لحاله بعد أن رفع فهو مثلها في التوراة ذكر وفاة موسى عليه السلام ، ومعلوم أن هذا الذي في التوراة والإنجيل ، من الخبر عن موسى وعيسى بعد توفيهما ، ليس هو مما أنزله الله ومما تلقوه عن موسى وعيسى ، بل هو مما كتبوه [ في المطبوع : كبتوه ] مع ذلك التعريف بحال توفيهما ، وهذا خبر محض من الموجودين بعدهما عن حالهما ، ليس هو مما أنزله الله عليهما ، ولا هو مما أمرا به في حياتهما ، ولا مما أخبرا به الناس وكذلك : { لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍٍ حَتّى تُقِيمُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مّن رّبّكُمْ } [ المائدة : 68 ] ، وقوله : { وَلَوْ أَنّهُمْ أَقَامُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مّن رّبّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } [ المائدة : 66 ] ، فإن إقامة الكتاب ، العمل بما أمر الله به في الكتاب ، ومن التصديق بما أخبر به على لسان الرسول .
وما كتبه الذين نسخوه من بعد وفاة الرسول ومقدار عمره ونحو ذلك ، ليس هو مما أنزله الله على الرسول ، ولا مما أمر به ، ولا أخبر به ، وقد يقع مثل هذا في الكتب المصنفة ، يصنف الشخص كتاباً فيذكر ناسخه ، في آخره ، عمر المصنف ونسبه وسنه ، ونحو ذلك مما ليس هو من كلام المصنف ، ولهذا أمر الصحابة والعلماء بتجريد القرآن ، وأن لا يكتب في المصحف غير القرآن ، فلا يكتب أسماء السور ولا التخميس والتعشير ولا ( آمين ) ، ولا غير ذلك .
والمصاحف القديمة والتي كتبها أهل العلم ، على هذه الصفة ، وفي المصاحف من قد كتب ناسخها أسماء السور والتخميس والتعشير والوقف والابتداء ، وكتب في آخر المصحف تصديقه ، ودعا وكتب اسمه ونحو ذلك ، وليس هذا من القرآن ، فهكذا ما في الإنجيل من الخبر عن صلب المسيح وتوفيه ومجيئه بعد رفعه إلى [ في المطبوع : إلي ] الحواريين ، ليس هو مما قاله المسيح ، وإنما هو مما رآه من بعده ، والذي أنزله الله هو ما سمع من المسيح المبلغ عن الله ، فإن قيل : فإذا كان الحواريون قد اعتقدوا أن المسيح صلب ، وأنه أتاهم بعد أيام ، وهم الذين نقلوا عن المسيح الإنجيل والدين ، فقد دخلت الشبهة .
قيل : الحواريون وكل من نقل عن الأنبياء ، إنما يجب أن يقبل منهم ما نقلوه عن الأنبياء ، فإن الحجة في كلام الأنبياء ، وما سوى ذلك فموقوف على الحجة ، إن كان حقّاً قُبِلَ وإِلاَّ رُدّ ، ولهذا كان ما نقله الصحابةُ عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من القرآن والحديث يجب قبوله ، لا سيما المتواتر ، كالقرآن وكثير من السنن .
وأما ما قالوه ، فما أجمعوا عليه فإجماعهم معصوم ، وما تنازعوا فيه ، رُدَّ إلى الله والرسول ، وعُمَرُ قد كانَ أَوَّلاً أنكر موت النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، حتى ردَّ ذلك عليه أبو بكر ، وقد تنازعوا في دفنه حتى فصل أبو بكر بالحديث الذي رواه ، وتنازعوا في تجهيز جيش أسامة ، وتنازعوا في قتال مانعيّ الزكاة ، فلم يكن هذا قادحاً فيما نقلوه عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، والنصارى ليسوا متفقين على صلب المسيح ، ولم يشهد أحد منهم صلبه ، فإن الذي صُلِبَ إنما صلبه اليهود ، ولم يكن أحد من أصحاب المسيح حاضراً ، وأولئك اليهود الذين صلبوه ، قد اشتبه عليهم المصلوب بالمسيح ، وقد قيل إنهم عرفوا أنه ليس هو المسيح ، ولكن هم كذبوا وشبهوا على الناس ، والأول هو المشهور ، وعليه جمهور الناس ، وحينئذ فليس عند النصارى خبر عمن يصدقونه بأنه صلب ، ولكن عمدتهم على ذلك ، الشخص الذي جاء الشيطان بعد أيام وقال ، أنا المسيح ، وذاك شيطان ، وهم يعترفون بأن الشياطين كثيراً ما تجيء ويدّعي ( كذا ) إنه نبي أو صالح ، ويقول ، أنا فلان النبي والصالح ، ويكون شيطاناً ، وفي ذلك حكايات متعددة مثل حكاية الراهب الذي جاءه جاءٍٍ وقال : أنا المسيح جئت لأهديك ، فعرف أنه الشيطان ، فقال : أنت قد بلغت الرسالة ، ونحن نعمل بها ، فإن جئت اليوم بشيء يخالف ذلك لم نقبل منك ، فليس عند النصارى واليهود علم بأن المسيح صلب ، كما قال تعالى : { وَإِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّ مّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلم إِلاّ اتّبَاعَ الظّنّ } [ النساء : 157 ] ، وأضاف الخبر عن قتله ، إلى اليهود بقوله : { وَقَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا المسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ } [ النساء : 157 ] ، فإنهم بهذا الكلام يستحقون العقوبة ، إذ كانوا يعتقدون جواز قتل المسيح .
ومن جوز قتله فهو كمن قتله ، فهم في هذا القول كاذبون ، وهم آثمون ، وإذا قالوه فخراً لم يحصل لهم الفخر ، لأنهم لم يقتلوه ، وحصل الوزر لاستحلالهم ذلك وسعيهم فيه ، وقد قال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إذا التقى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ > ، قالوا : يا رسول [ الله ] ! فما بال المقتول ؟ قال : < إِنَّهُ كان حريصاً عَلى قَتْلَ صَاحِبِهِ > .
وقوله : { وَإِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّ مّنْهُ } : قيل هم اليهود والنصارى والآية تعم الطائفتين .
وقوله : { لَفِي شَكّ مّنْهُ } من قتله ، وقيل : منه ، أي : في شك منه ، هل صلب أم لا ؟ كما اختلفوا فيه ، فقالت اليهود : هو ساحر ، وقالت النصارى : إنه إله ، فاليهود والنصارى اختلفوا هل صلب أم لا ؟ وهم في شك من ذلك ما لهم به من علم ، فإذا كان هذا في الصلب فكيف في الذي جاء بعد الرفع وقال إنه هو المسيح ؟
فإن قيل : كان الحواريون الذين أدركوه قد حصل هذا في إيمانهم ، فأين المؤمنون به الذي قال فيهم : { وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُواْ } [ آل عِمْرَان : 55 ] ، وقوله : { فَأَيّدْنَا الّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } [ الصف : 14 ] ، قيل : ظنٌّ من ظن منهم أنه صلب لا يقدح في إيمانه ، إذا كان لم يحرف ما جاء به المسيح ، بل هو مقر بأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه - فاعتقاده بعد هذا أنه صلب لا يقدح في إيمانه ، فإن هذا اعتقاد موته على وجه معين ، وغاية الصلب أن يكون قتلاً له ، وقتل النبي لا يقدح في نبوته ، وقد قتل بنو إسرائيل كثيراً من الأنبياء ، قال تعالى : { وَكَأَيّن مّن نّبِيّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ } [ آل عِمْرَان : 146 ] الآية ، وقال تعالى : { وَمَا مُحَمّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفَإِن مّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } [ آل عِمْرَان : 143 ] ، وكذلك اعتقاد من اعتقد منهم أنه جاء بعد الرفع وكلمهم ، هو مثل اعتقاد كثير من مشايخ المسلمين أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم جاءهم في اليقظة ، فإنهم لا يكفرون بذلك ، بل هذا كان يعتقده من هو أكثر الناس اتباعاً للسنة وأتباعاً لها ، وكان في الزهد والعبادة أعظم من غيره ، وكان يأتيه من يظن أنه رسول الله فهذا غلط منه لا يوجب كفره ، فكذلك ظنُّ من ظن من الحواريين أن ذلك هو المسيح ، لا يوجب خروجهم عن الإيمان بالمسيح ، ولا يقدح فيما نقلوه عنه ، وعُمَرُ - لما كان يعتقد أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لم يمت ، ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى ، وأنه لا يموت حتى يموت أصحابه - لم يكن هذا قادحاً في إيمانه ، وإنما كان غلطاً ورجع عنه ، وقوله تعالى : { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلم } هو ذم لهم على اتباع الظن بلا علم . انتهى كلام ابن تيمية رضي الله عنه .
ولإمام الأدباء شرف الدين البوصيري رحمه الله ، قصيدة في هذا المقام ، نظمها في سلك ما تقدم تكملة للمرام ، قال قدس سره :
~جاء المسيح من الإله رسولاً فأبى أقل العالمين عقولا
~قوم رأوا بشراً كريماً فادعوا من جهلهم لله فيه حلولا
~وعصابة ما صدقته وَأكثرت ، بالإفك والبهتان ، فيه القيلا
~لم يأت فيه مُفْرِط ومُفَرِّط بالحق تجريحاً ولا تعديلا
~فكأنما جاء المسيح إليهم ليكذبوا التوراة والإنجيلا
~فاعجب لأمته التي قد صيرت تنزيهها لإلهها التنكيلا
~وإذا أراد الله فتنة معشر وأضلهم ، رَأوُا القبيح جميلا
~هم بجّلوه بباطل فابتزّه أعداؤه بالباطل التبجيلا
~وتقطعوا أمر العقائد بينهم زمراً ، ألَمْ تَرَ عقدها محلولا
~هو آدم في الفضل إلا أنه لمن يُعْطَ حال النفخة التكميلا
~أسمعتموا أنه الإله لحاجة يتناول المشروب والمأكولا ؟
~وينام من تعب ويدعو ربه ويروم من حر الهجير مقيلا
~ويمسُّه الألم الذي لم يستطع صرفاً له عنه ولا تحويلا
~يا ليت شعري ، حين مات بزعمهم من كان بالتدبير عنه كفيلا ؟
~هل كان هذا الكون دبر نفسه من بعده أم آثر التعطيلا ؟
~زعموا الإله فدى العبيد بنفسه وأراه كان القاتل المقتولا
~أجْزُوا اليهود بصلبه خيراً ، ولا تجزوا ( يهوذا ) الآخذ البرطيلا
~أيكون قوم في الجحيم ويصطفى منهم كليماً ربُّنا ، وخليلا
~وإذا فرضتم أن عيسى ربكم ، أفلم يكن لفدائكم مبذولاً ؟
~وأجل روحاً قامت الموتى به عن أن يرى بيد اليهود قتيلا
~فدعوا حديث الصلب عنه ودونكم من كتبكم ما وافق التنزيلا
~شهد الزبور بحفظه ونجاته ، أفتجعلون دليله مدخولاً ؟
~أيكون من حفظ الإله مضيعاً أو من أشيد بنصره مخذولاً ؟
~أيجوز قول منزه لإلهه سبحان قاتل نفسه مقتولا ؟
~أو جل ّمن جعل اليهودُ بزعمكم شوك القتاد لرأسه إكليلا
~ومضى لحبل صليبه مستسلماً للموت مكتوف اليدين ذليلا
~كم ذا أبكتكم ولم تستنكفوا أن تسمعوا التبكيت والتخجيلا
~ضل النصارى في المسيح وأقسموا لا يهتدون إلى الرشاد سبيلاً
وهي سابغة الذيل ، كلها من هذا النفس البديع .
واعلم أنه تعالى لما ذكر فضائح اليهود وقبائح أفعالهم ، وشرح أنهم قصدوا قتل عيسى عليه السلام ، وبيّن أنه ما حصل لهم ذلك المقصود ، وأنه حصل لعيسى أعظم المناصب وأجلُّ المراتب - بيّن تعالى تحقيق ما أثبته في الآية السابقة ، من القطع بكذبهم ، مثبتاً أنهم في مبالغتهم في عداوته ، سيكونون من أتباعه المصدقين بجميع أمره ، الذي منه التصديق بمحمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، مؤكداً له أشد تأكيد لما عندهم من الإنكار له ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } [ 159 ]
{ وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } أي : ما أحد من أهل الكتاب يدرك نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان ، إلا ليؤمنن به قبل موته ، أي : موت عيسى عليه السلام ، أي : لا يموت حتى ينزل في آخر الزمان يؤيد الله به دين الإسلام ، حتى يدخل فيه جميع أهل الملل ، إشارة إلى أن موسى عليه السلام ، إن كان قد أيده الله تعالى بأنبياء كانوا يجددون دينه زماناً طويلاً ، فالنبي الذي ينسخ شريعة موسى ، وهو عيسى عليهما السلام ، هو الذي يؤيد الله به هذا النبي العربيّ ، في تجديد شريعته ، وتمهيد أمره ، والذود عن دينه ، ويكون من أمته بعد أن كان صاحب شريعة مستقلة ، وأتباع مستكثرة ، أمر قضاه الله تعالى في الأزل ، فاقصروا أيها اليهود ، فمعنى الآية إذن ، والله أعلم : إنه ما من أحد من أهل الكتاب المختلفين في عيسى عليه السلام على شك ، إلا وهو يوقن بعيسى عليه السلام قبل موته ، بعد نزوله من السماء ، أنه ما قتل وما صلب ، ويؤمن به عند زوال الشبهة ، أفاده البقاعي .
روى البخاريّ عن أبي : < وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَماً عَدلاً فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ ، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْراً لَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا > .
ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } .
وأخرجه مسلم أيضاً وابن مردويه وزاد بعد قوله ( قبل موته ) : موت عيسى ابن مريم ، ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات .
ورواه الإمام أحمد عَنْ حَنْظَلَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيضاً مَرفوعاً وَلفظه : < يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَمْحُو الصَّلِيبَ وَتُجْمَعُ لَهُ الصَّلاَةُ وَيُعْطَى الْمَالُ حَتَّى لاَ يُقْبَلَ وَيَضَعُ الْخَرَاجَ وَيَنْزِلُ الرَّوْحَاءَ فَيَحُجُّ مِنْهَا أَوْ يَعْتَمِرُ أَوْ يَجْمَعُهُمَا > .
قَالَ : وَتَلاَ أَبُو هُرَيْرَةَ : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } فَزَعَمَ حَنْظَلَةُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ : يُؤْمِنُ بِهِ قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى ، فَلاَ أَدْرِي هَذَا كُلُّهُ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَوْ شَىْءٌ قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ .
ورواه حامد أيضاً عن عبد الرحمن عن أبي هريرة وفيه : < وَيُهْلِكَ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا غَيْرَ الإِسْلاَمِ ، وَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يُتَوَفَّى وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ > .
وفي حديث النواس بن سمعان عند مسلم : < فينزل عند المنارة شرقي دِمشق > .
وقد ذكر الحافظ ابن كثير ، هنا الأَحَادِيث المُتَوَاتِرَة في نزوله عليه السلام وَسَلَّمَ ، مِنْ رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة وَابْن مَسْعُود وَعُثْمَان بْن أَبِي الْعَاصِ وَأَبِي أُمَامَة وَالنَّوَّاس بْن سَمْعَان وَعَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ وَمُجَمِّع بْن جَارِيَة وَأَبِي سَرِيحَة وَحُذَيْفَة بْن أُسَيْد رَضي الله عنهم ، وَفِيهَا دِلَالَة عَلَى صِفَة نُزُوله وَمَكَانه مِنْ أَنَّهُ بِالشَّامِ بَلْ بِدِمَشْق عِنْد الْمَنَارَة الشَّرْقِيَّة ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَكُون عِنْد إِقَامَة صَلَاة الصُّبْح .
قَال ابن كَثير : وَقَدْ بُنِيَتْ فِي هَذِهِ الْأَعْصَار ، فِي سَنَة إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعمِائَةِ ، مَنَارَة لِلْجَامِعِ الْأُمَوِيّ بَيْضَاء مِنْ حِجَارَة مَنْحُوتَة عِوَضاً عَنْ الْمَنَارَة الَّتِي هُدِمَتْ بِسَبَبِ الْحَرِيق الْمَنْسُوب إِلَى صَنِيع النَّصَارَى ، عَلَيْهِمْ لَعَائِن اللَّه الْمُتَتَابِعَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ، وَكَانَ أَكْثَر عِمَارَتهَا مِنْ أَمْوَالهمْ ، وَقَوِيَتْ الظُّنُون أَنَّهَا هِيَ الَّتِي يَنْزِل عَلَيْهَا الْمَسِيح عِيسَى اِبْن مَرْيَم عَلَيْهِما السَّلَام ، وَهَذَا إِخْبَار مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ .
قلت : وقد اشتهرت هذه المنارة بمئذنة عيسى .
وَذَكَرَ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم بْن عَسَاكِر فِي " تَارِيخه " عَنْ بَعْض السَّلَف أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام ، بَعدَ نزولهِ ، يُدْفَن مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُجْرَته ، فَاَللَّه أَعْلَم .
والتأويل المذكور في الآية رواه ابن جرير عن سعيد بن جبير والعوفي ، كلاهما عن ابن عباس .
وروى ابن أبي حاتم بسنده عن الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس في الآية قال : يعني الْيَهُود خَاصَّة ، وبه إلى الْحَسَن : يعني النجاشي [ و ] أصحابه .
وبه إليه قال : إِنَّ اللَّه رَفَعَ إِلَيْهِ عِيسَى وَهُوَ بَاعِثه قَبْل يَوْم الْقِيَامَة مَقَاماً يُؤْمِن بِهِ الْبَرّ وَالْفَاجر .
وكذا قال قَتَادَة وعبد الرحمن بن زَيْد بْن أَسْلَم وغير واحد .
قال ابن كثير : وهذا القول هو الحق .
وروي عن ابن عباس أيضاً ومحمد بن الحنفية ومجاهد وعكرمة ومحمد بن سيرين والضحاك وجُوَيْبِر ؛ أن المعنى : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت ذلك الكتابيّ عند الغرغرة ، حين لا ينفعه الإيمان ، ذهاباً إلى أنه إذا عاين عَلِمَ الحق من الباطل ، لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه .
قال عِكْرِمَة : قال ابن عباس : لا يموت اليهوديّ حتى يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله ، ولو عجل بالسلاح .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما فائدة الإخبار بإيمانهم بعيسى قبل موتهم ؟ قلت : فائدته الوعيد ، وليكون علمهم بأنهم لا بد لهم من الإيمان به عن قريب عند المعاينة ، وأن ذلك لا ينفعهم - بعثاً لهم وتنبيهاً على معاجلة الإيمان به في أوان الانتفاع به ، وليكون إلزاماً للحجة لهم انتهى .
قال الأصبهانيُّ : ويدل على صحة هذا التأويل قراءة أُبَيّ بْن كَعْب - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : ( إلا ليؤَمُننَّ به قبل موتهم ) بضم النون وإلحاق ميم الجمع .
والأسانيد إلى ابن عباس في هذا التأويل كلها [ في المطبوع : كلهم ] صحيحة ، كما قاله ابن كثير .
وثمة وجه آخر ، وهو أن الضمير الأول : للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، والثاني : للكتابيّ . رواه ابن جرير : عن عِكْرِمَة قال : لَا يَمُوت النَّصْرَانِيّ وَلَا الْيَهُودِيّ حَتَّى يُؤْمِن بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتلا الآية .
قال ابن جرير : وأولى هذه الأقوال بالصحة القول الأول ، وهو أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب ، بعد نزول عيسى عليه السلام ، إلا آمن به قبل موته أي : قبل موت عيسى عليه السلام .
قال ابن كثير : ولا شك أن الذي قاله ابن جرير هو الصحيح ، لأنه المقصود من سياق الْآي ، في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه ، وتسليم من سَلَّمَ لهم من النصارى الجهلة ذلك ، فأخبر الله تعالى أنه لم يكن الأمر كذلك ، وإنما شُبِّهَ لهم فقتلوا الشَّبَه ، وهم لا يَتَبَيَّنُونَ ذلك ، ثم إنه رفعه إليه ، وإنه باق حيٌّ ، وإنه سينزل قبل يوم القيامة ، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة ، فيقتل مَسِيح [ في المطبوع : مسح ] الضَّلَالَة ، ويكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ( يعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان ، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف ) .
فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ ، ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم .
ثم قال : فأما من فسر هذه الآية بأن المعنى : أن كل كتابيّ لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد عليهما السلام - فهذا هو الواقع ، وذلك أن كل أحد عند احتضاره ينجلي له ما كان جاهلاً به فيؤمن به ، ولكن لا يكون ذلك إيماناً نافعاً له ، إذا كان قد شاهد الملك ، كما قال تعالى : في أول هذه السورة : { وَلَيْسَتِ التّوْبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ حَتّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموْتُ قَالَ إِنّي تُبْتُ الآنَ } [ النساء : 18 ] ، وقال تعالى : { فَلما رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ } الآية .
{ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ } أي : عيسى عليه السلام : { عَلَيْهِمْ } أي : على أهل الكتاب : { شَهِيداً } أي : بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء ، وبعد نزوله إلى الأرض .
قال قَتادة : يشهد عليهم أنه قد بلَّغهم الرسالة من الله ، وأقرّ بعبوديته لله عز وجل ، وهكذا كقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ } إلى قوله : { الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ المائدة : 116 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَبِظُلم مّنَ الّذِينَ هَادُواْ حَرّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍٍ أُحِلّتْ لَهُمْ وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً } [ 160 ]
{ فَبِظُلم } أي : بسبب ظلم عظيم ؛ فالتنوين للتفخيم ، وهو جامع لتفصيل نقض الميثاق وما عطف عليه مما استحلوه ، بعد أن حرمته التوراة .
{ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ } أي : تلبسوا باليهودية ، وفيه تعظيم ظلمهم أيضاً ، إذ صدر عنهم بعدما ادعوا أنهم من أهل التوراة والرجوع إلى الحق .
{ حَرّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍٍ أُحِلّتْ لَهُمْ } قال ابن كثير : هَذَا التَّحْرِيم قَدْ يَكُون قَدَرِيّاً ، بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى قَيَّضَهُمْ لِأَنْ تَأَوَّلُوا فِي كِتَابهمْ ، وَحَرَّفُوا وَبَدَّلُوا أَشْيَاء كَانَتْ حَلَالاً لَهُمْ ، فَحَرَّمُوهَا عَلَى أَنْفُسهمْ تَضْيِيقاً وَتَنَطُّعاً ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون شَرْعِيّاً ، بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاة أَشْيَاء كَانَتْ حَلَالاً لَهُمْ قَبْل ذَلِكَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كُلّ الطَّعَام كَانَ حِلّاً لِبَنِي إِسْرَائِيل إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيل عَلَى نَفْسه مِنْ قَبْل أَنْ تُنَزَّل التَّوْرَاة قُلْ فَأْتُواْ بِالتّوْرَاةِ } [ آل عِمْرَان : 93 ] ، أي : ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ، من لحوم الإبل وألبانها ، ثم إنه تعالى حرم أشياء كثيرة في التوراة ، كما قال في سورة الأنعام : { وَعَلَى الّذِينَ هَادُواْ حَرّمْنَا كُلّ ذِي ظُفُرٍٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنّا لَصَادِقُونَ } [ الأنعام : 146 ] ، أي : إنما حرمنا عليهم ذلك ، لطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه .
ولما ذكر ظلمهم ذكر مجامع من جزئياته بقوله تعالى : { وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ } أي : الذي لا أوضح منه ولا أسهل ولا أعظم : { كَثِيراً } أي : ناساً كثيراً ، أو صَداً كثيراً ، فهم صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق ، وهذه سجية لهم متصفون بها من قديم الدهر وحديثه ، ولهذا كانوا أعداء الرسل وقتلوا خلقاً من الأنبياء ، وكفروا بعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَخْذِهِمُ الرّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ 161 ]
{ وَأَخْذِهِمُ الرّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ } أي : في التوراة : { وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النّاسِ بِالْبَاطِلِ } بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة .
{ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ } أي : من اليهود المصرّين على الكفر ، لا لمن تاب وآمن من بينهم : { عَذَاباً أَلِيماً } وجيعاً يخلص إلى قلوبهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لّكِنِ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلم مِنْهُمْ وَالمؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالمقِيمينَ الصّلاَةَ وَالمؤْتُونَ الزّكَاةَ وَالمؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } [ 162 ]
{ لّكِنِ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلم مِنْهُمْ } أي : الثابتون في العلم المستبصرون فيه ، كَعَبْد اللَّه بْن سَلَام [ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ] .
قال الرازي : الثابتون فيه ، وهم في الحقيقة المستدلون ، لأن المقلد يكون بحيث إذا شُكِّكَ يَشُكُّ ، وأما المستدل فإنه لا يتشكك البتة ، فالراسخون هم المستدلون .
{ وَالمؤْمِنُونَ } أي : من الأميين اللاحقين بهم في الرسوخ بصحبة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : { يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ } من القرآن .
{ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } على سائر الأنبياء لاطلاعهم على كمالات المنزل عليك ، وأنه صدق ما أنزل من قبلك ، فلا بد من الإيمان به أيضاً .
{ وَالمقِيمينَ الصّلاَةَ } قال ابن كثير : هكذا هو في مصاحف الأئمة ، وكذا هو في مصحف أُبَيّ بْن كَعْب .
قال الزمخشري : ارتفاع ( الراسخون ) على الابتداء ، و : { يُؤْمِنُونَ } خبره و : { وَالْمُقِيمِينَ } نصب على المدح ، لبيان فضل الصلاة ، وهو باب واسع وقد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد . ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً في خط المصحف . وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ، ولم يعرف مذاهب العرب ، وما لهم في النصْبِ على الاختصاص من الافتنان ، وغبي عليه أن السابقين الأولين الذين مَثَلُهُمُ في التوراة ومَثَلُهُم في الإنجيل ، كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام ، وذب المطاعن عنه ، من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم ، وخرقاً يرفوه من يلحق بهم .
وقيل : هو عطف على : { بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } أي : يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء .
وفي مصحف عبد الله ( والمقيمون ) بالواو وهي قراءة مالك بن دينار والجحدريّ وعيسى الثقفيّ .
وجوز عطف ( المقيمين ) على الضمير في ( منهم ) وعطفه على الضمير في و ( إليك ) ، والكتاب أنزل للنبيّ ولأتباعه ، قال تعالى : { يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مّوْعِظَةٌ مّن رّبّكُمْ } [ يونس : 57 ] كذا في حواشي الشذور ، وقد أشار الزمخشري بقوله ( كانوا أبعد همة ) إلى ردّ ما نقل ، أن عثمان - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - ، لما فرغ من المصحف أتى به إليه ، فقال : قد أحسنتم وأجملتم ، أرى شيئاً من لحن ستقيمه العرب بألسنتها ، ولو كان المُمْلي من هذيل والكاتب من قُريش ، لم يوجد فيه هذا .
قال الحافظ السخاوي : هذا الأثر ضعيف ، والإسناد فيه اضطراب وانقطاع ، لأن عثمان - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - جُعَلَ للناس إماماً يقتدون به ، فكيف يرى فيه لحناً ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها ؟ وقد كتب مصاحف سبعة وليس فيها اختلاف قط ، إلا فيما هو من وجوه القراءات ، وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع ، كيف يقيمه غيرهم ؟
وتأول قوم اللحن في كلامه ( على تقدير صحته عنه ) بأن المراد الرمز والإيماء كما في قوله :
~مَنْطِقٌ رائع وتلحن أحيا ناً ، وخير الكلام ما كان لحنَا
أي : المراد به الرمز ، بحذف بعض الحروف خطّاً ، كألف ( الصابرين ) مما يعرفه القراء إذا رأوه ، وكذا زيادة بعض الحروف ، كذا في " عناية الراضي " .
{ وَالمؤْتُونَ الزّكَاةَ } رفعه بالعطف على : { الرّاسِخُونَ } أو على الضمير في : { يُؤْمِنُونَ } أو على أنه مبتدأ ، والخبر : { أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ } والوجوه المذكورة تجري في : { المقِيمينَ } على قراءة الرفع : { وَالمؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } يعني : والمصدقون بوحدانية الله تعالى وبالبعث بعد الموت وبالثواب والعقاب ، وإنما قدم الإيمان بالأنبياء والكتب وما يصدقه من اتباع الشرائع ، لأنه المقصود في هذا المقام ، لأنه لبيان حال أهل الكتاب وإرشادهم ، وهم كانوا يؤمنون ببعض ذلك ويتركون بعضه ، فبيّن لهم ما يلزمهم ويجب عليهم .
{ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } يعني الجنة ، لجمعهم بين الإيمان الصحيح والعمل الصالح .
لطيفة :
في الآية وجوه من الإعراب ، أحسنها ما اعتمده أبو السعود ، من أن جملة : { أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ } إلخ ، خبر للمبتدأ الذي هو : { الرّاسِخُونَ } وما عطف عليه ، وأن جملة : { يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ } إلخ حال من : { المؤْمِنُونَ } مبينة لكيفية إيمانهم ، أو اعتراض مؤكد لما قبله .
قال : وهذا أنسب بتجاوب طرفي الاستدراك حيث أُوعِد الأولون بالعذاب الأليم ووُعِد الآخرون بالأجر العظيم ، كأنه قيل إِثْرَ قوله تعالى : : { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } لكن المؤمنون منهم سنؤتيهم أجراً عظيماً ، وأما ما جنح إليه الجمهور من جعل قوله تعالى : { يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ } إلخ خبراً للمبتدأ ، ففي كمال السداد ، خلا أنه غير متعرض لتقابل الطرفين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍٍ وَالنّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } [ 163 ]
{ إِنّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍٍ وَالنّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ } اعلم أنه تعالى لما حكى أن اليهود سألوا رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء ، وذكر تعالى بعده أنهم لا يسألون استرشاداً ، ولكن للتعنت واللجاج ، وبيّن أنواعاً من فضائحهم - أشار إلى رد شبهتهم ، فاحتج عليهم بأنه ليس بدعاً من الرسل ، وأمرُه في الوحي كسائر الأنبياء الذين يوافقون على نبوتهم ، ولم ينزل على كل واحد منهم كتاب بتمامه مثل ما أنزل على موسى ، وإذا لم يكن هذا من شرط النبوة ، وَضَحَ أن سؤالهم محض تعنت .
تنبيه :
قيل : بدأ بنوح لأنه أول نبي شرع الله تعالى على لسانه الأحكام ، والحلال والحرام ، وفي " العناية " بدأ به تهديداً لهم ، لأنه أول نبيّ عوقب قومه ، لا أنه أول مشرع ، كما توهم ، وظاهر الآية يدل على أن من قبل نوح لم يكن يوحى له كما أوحي لنبينا صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، لا أنه غير موحى إليه أصلاً ، كما قيل . انتهى .
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ } وهم أولاد يعقوب عليهم السلام .
{ وَعِيسَى وَأَيّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لم نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلم اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } [ 164 ]
{ وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ } أي : في السور المكية .
{ وَرُسُلاً لم نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } أي : لم نسمهم لك في القرآن ، وقد أحصى بعض المدققين أنبياء اليهود والنصارى ورسلهم فوجد عددهم لا يتجاوز الخمسين .
روي في عدتهم أحاديث تُكُلِّم في أسانيدها ، منها :
حديث أَبِي ذَرّ : < إن الْأَنْبِيَاء مِائَة أَلْف وَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ أَلْفاً ، والرُّسُل ثَلَاثمِائَةٍ وَثَلَاثَة عَشَر > ، صححه ابن حبان ، وخالفه ابن الجوزي فذكره في " موضوعاته " واتهم به إبراهيم بن هاشم ، وقد تكلم فيه غير واحد .
{ وَكَلم اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } يعني خاطبه مخاطبة من غير واسطة ، لأن تأكيد ( كلَّم ) بالمصدر يدل على تحقيق الكلام ، وأن موسى عليه السلام سمع كلام الله بلا شك ، لأن أفعال المجاز لا تؤكد بالمصادر ، فلا يقال : أراد الحائط يسقط إرادة ، وهذا رد على من يقول : إن الله خلق كلاماً في محلٍ ، فسمع موسى ذلك الكلام .
قال الفراء : العرب تسمي كل ما يوصل إلى الإِنسَاْن كلاماً ، بأي طريق وصل ، لكن لا تحققه على أن موسى قد سمع كلام الله حقيقة من غير واسطة .
قال بعضهم : كما أن الله تعالى خص موسى عليه السلام بالتكليم وشرفه به ولم يكن ذلك قادحاً في نبوة غيره من الأنبياء ، فكذلك إنزال التوراة عليه جملة واحدة لم يكن قادحاً في نبوة من أنزل عليه كتابه منجماً من الأنبياء ، كذا في " اللباب " .
تنبيه :
يحسن في هذا المقام إيراد عقيدة السلف الكرام في مسألة الكلام ، فإنها من أعظم مسائل الدين ، وقد تحيرت فيها آراء أهل الأهواء من المتقدمين والمتأخرين ، واضطربت فيها الأقوال ، وكثرت بسببها الأهوال ، وأثارت فتناً وجلبت محناً ، وكم سجنت إماماً ، وبكت أقواماً ، وتشعبت فيها المذاهب ، واختلفت فهيا المشارب ، ولم يثبت إلا قول أهل السنة والجماعة ، المقتفين لأثر الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وصحابته الكرام رضي الله عنهم ، فنقول : قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية عليه رحمة الرحيم السلام ، في كتابه إلى جماعة العارف عدي بن مسافر ما نصه :
فصل
ومن ذلك الاقتصاد في السنة واتباعها كما جاءت بلا زيادة ولا نقصان ، مثل الكلام في القرآن وسائر الصفات ، فإن مذهب سلف الأمة وأهل السنة : أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ، منه بدا وإليه يعود ، هكذا قال غير واحد من السلف .
روي عن سفيان بن عيينة عن عَمْرو بن دينار وكان من التابعين الأعيان قال : ما زلت أسمع الناس يقولون ذلك ، القرآن الذي أنزله الله على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم هو هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم ، وهو كلام الله لا كلام غيره ، وإن تلاه العباد وبلّغوه بحركاتهم وأصواتهم ، فإن الكلام لمن قاله مبتدئاً ، لا لمن قاله مبلغاً مؤدباً ، قال الله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ } [ التوبة : 6 ] وهذا القرآن في المصاحف كما قال تعالى : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مّجِيدٌ فِي لَوْحٍٍ مّحْفُوظٍٍ } [ البروج : 21 - 22 ] ، وقال تعالى : { يَتْلُو صُحُفاً مّطَهّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَةٌ } [ البينة : 2 - 3 ] ، وقال : { إِنّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍٍ مّكْنُونٍٍ } [ الواقعة : 77 - 78 ] .
والقرآن : كلام الله بحروفه ونظمه ومعانيه .
كل ذلك يدخل في القرآن وفي كلام الله ، وإعرابُ الحروف هو من تمام الحروف ، كما قال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < مَنْ قَرَأَ الْقُرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات > .
وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما : حفظ إعراب القرآن أحبُّ إلينا من حفظ بعض حروفه .
ثم قال رحمه الله : والتصديق بما ثبت عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : أن الله يتكلم بصوت وينادي آدم عليه السلام بصوت ، إلى أمثال لك من الأحاديث ، فهذه الجملة كان عليها سلف الأمة وأئمة السنة .
وقال أئمة السنة : القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق ، حيث تلي ، وحيث كتب ، فلا يقال لتلاوة العبد بالقرآن إنها مخلوقة ، لأن ذلك يدخل فيه القرآن المنزل ، ولا يقال غير مخلوقة ، لأن ذلك يدخل فيه أفعال العباد ، ولم يقل أحد قط من أئمة السلف : إن أصوات العباد بالقرآن قديمة ، بل أنكروا على على من قال ( لفط العبد بالقرآن مخلوق ) .
وأما من قال : إن المداد قديم - فهذا من أجهل الناس وأبعدهم عن السنة ، قال الله تعالى : { قُل لّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لّكَلماتِ رَبّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلماتُ رَبّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } [ الكهف : 109 ] ، فأخبر أن المداد يكتب به كلماته ، وكذلك من قال ( ليس القرآن في المصحف ، وإنما في المصحف مداد وورق وحكاية وعبارة ) فهو مبتدع ضال ، بل القرآن الذي أنزله الله على محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم هو ما بين الدفتين ، والكلام في المصحف على الوجه الذي يعرفه الناس ، له خاصة يمتاز بها عن سائر الأشياء ، وكذلك من زاد على السنة فقال : إن ألفاظ العباد وأصواتهم قديمة ، مبتدع ضال ، كمن قال : إن الله لا يتكلم بحرف ولا صوت - فإنه أيضاً مبتدع منكر للسنة ، وكذلك من زاد وقال : إن المداد قديم - فهو ضال ، كمن قال : ليس في المصاحف كلام الله ، وأما من زاد على ذلك من الجهال الذين يقولون : إن الورق والجلد والوتد وقطعة من الحائط ، كلام الله - فهو بمنزلة من يقول : ما تكلم الله بالقرآن ولا هو كلامه ، هذا الغلو من جانب الإثبات يقابل التكذيب من جانب النفي ، وكلاهما خارج عن السنة والجماعة .
وكذلك إفراد الكلام في النقطة والشكلة بدعة ، نفياً وإثباتاً ، وإنما حدثت هذه البدعة من مائة سنة أو أكثر بقليل .
فإن من قال : إن المداد الذي تنقط به الحروف وتشكل به قديمٌ ، فهو ضال جاهل .
ومن قال : إن إعراب حروف القرآن ليس من القرآن - فهو ضال مبتدع .
بل الواجب أن يقال : هذا القرآن العربيّ هو كلام الله ، وقد دخل في ذلك حروفه بإعرابها ، كما دخلت معانيه ، ويقال : وما بين اللوحين جميعه كلام الله ، فإن كان المصحف منقوطاً مشكولاً أطلق على ما بين اللوحين جميعه أنه كلام الله ، فإن كان غير منقوط ولا مشكول ، كالمصاحف القديمة التي كتبها الصحابة ، كان أيضاً ما بين اللوحين هو كلام الله ، فلا يجوز أن تلقى الفتنة بين المسلمين بأمر محدث ونزاعٍ لفظيّ لا حقيقة له ، ولا يجوز أن يحدث في الدين ما ليس منه .
وسئل رحمه الله تعالى عن رجلين تباحثا فقال أحدهما : القرآن حرف وصوت ، وقال الآخر ليس هو بحرف ولا صوت ، وقال أحدهما : النقط التي في المصحف والشكل من القرآن ، وقال الآخر : ليس ذلك من القرآن ، فما الصواب في ذلك ؟
فأجاب - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - : الحمد لله رب العالمين ، هذه المسألة يتنازع فيها كثير من الناس ، ويخلطون الحق بالباطل ، فالذي قال : إن القرآن حرف وصوت ، إن أراد بذلك أن هذا القرآن الذي يُقرأ للمسلمين هو كلام الله ، الذي نزل به الروح الأمين على محمد خاتم النبيين والمرسلين ، وأن جبرئيل سمعه من الله ، والنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم سمعه من جبرئيل ، والمسلمون سمعوه من النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، كما قال تعالى : { قُلْ نَزّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رّبّكَ بِالْحَقّ } [ النحل : 102 ] ، وقال : { وَالّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلمونَ أَنّهُ مُنَزّلٌ مّن رّبّكَ بِالْحَقّ } [ الأنعام : 114 ] - فقد أصاب في ذلك ، فإن هذا مذهب من سلف الأمة وأئمتها ، والدلائل على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع .
ومن قال : إن القرآن العربيّ لم يتكلم الله به ، وإنما هو كلام جبرئيل أو غيره ، عبّر به عن المعنى القائم بذات الله ، كما يقول ذلك ابن كلاّب والأشعريّ ومن وافقهما - فهو قول باطل من وجوه كثيرة .
فإن هؤلاء يقولون : إنه معنى واحد قائم بالذات ، وإن معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحد ، وإنه لا يتعدد ولا يتبعض ، وإنه إن عبر عنه بالعربيّة كان قرآناً ، وبالعبرانية كان توراة ، وبالسريانية كان إنجيلاً ، فيجعلون معنى آية الكرسي ، وآية الدَّين ، و : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [ سورة الإخلاص : 1 ] ، و : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } [ سورة المسد : 1 ] ، والتوراة والإنجيل وغيرهما - معنى واحداً ، وهذا قولٌ فاسدٌ بالعقل والشرع ، وهو قول أحدثه ابن كلّاب ، لم يسبقه إليه غيره من السلف ، وإن أراد قائل بالحرف والصوت ، أن الأصوات المسموعة من القراء ، والمِداد الذي في المصاحف قديم أزلي - أخطأ وابتدع ، وقال ما يخالف العقل والشرع ، فإن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ > ، فبيّن أن الصوت صوت القارئ ، والكلام كلام الباري ، كما قال تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ } [ التوبة : 6 ] .
فالقرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله لا كلام غيره ، كما ذكر الله ذلك .
وفي السنن عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ في الْمَوْقِفِ فَقُال : < أَلاَ رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ ؟ فَإِنَّ قُرَيْشاً قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلاَمَ رَبِّي > .
قالوا لأبي بكر الصديق لما قرأ عليهم : { الم غُلِبَتِ الرّومُ } : هذا كلامك أم كلام صاحبك ؟ فقال : ليس بكلامي ولا كلام صاحبي ، ولكنه كلام الله تعالى .
والناس إذا بلّغوا كلام النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كقوله : < إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ > - يعلمون أن الحديث الذي يسمعونه حديث النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، تكلم به بصوته وبحروفه ومعانيه ، والمحدّث بلَّغه عنه بصوت نفسه لا بصوت النبيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، فالقرآن أولى أن يكون كلام الله [ في المطبوع : اللله ] ، إذا بلَّغته الرسل عنه ، وَقَرَأهُ الناس بأصواتهم ، والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه بصوت نفسه ، ونادى موسى بصوت نفسه ، كما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف ، وصوت العبد ليس هو صوت الرب ، ولا مثل صورته ، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله .
وقد نص أئمة الإسلام - أحمد ، ومن قبله من الأئمة - على ما نَطق به الكتاب والسنة : من أن الله ينادي بصوت ، وإن القرآن كلامه تكلم بحروفٍ وصوتٍ ، ليس منه شيء كلاماً لغيره ، لا جبرئيل ولا غيره ، وأن العباد يقولونه بأصوات أنفسهم وأفعالهم ، فالصوت المسموع من العبد صوت القارئ ، والكلام الباري ، وكثير من الخائضين في هذه المسألة لا يميز بين صوت العبد وصوت الرب ، بل يجعل هذا هو هذا ، فينفيهما جميعاً ، ويثبتهما جميعاً ، فإذا نفى الحرف والصوت نفى أن يكون القرآن العربيّ كلام الله ، وأن يكون منادياً لعباده بصوته ، وأن يكون القرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله ، كما نفى أن يكون صوت العبد صفة لله ، ثم جعل كلام الله المتنوع شيئاً واحداً ، لا فرق بين القديم والحادث ، وهذا مصيب في هذا الفرق دون ذاك الثاني ، الذي فيه نوع من الإلحاد والتعطيل ، حيث جعل كلام الله المتنوع شيئاً واحداً لا حقيقة له عند التحقيق ، وإذا أثبت ، جَعَلَ صوت الرب هو صوت العبد ، أو سكت عن التمييز بينهما ، مع قوله : إن الحروف متعاقبة في الوجود ، مقترنة في الذات ، قديمة أزلية الأعيان ، فجعل عين صفة الرب تحل في العبد ، ويتحد بصفته ، فقال في نوع من الحلول والاتحاد يفضي إلى نوع من التعطيل ، وقد علم أن نفي الفرق والمباينة ، بين الخالق وصفاته ، والمخلوق وصفاته ، خطأ وضلال ، لم يذهب إليه أحد من سلف الأئمة وأئمتها ، بل هم متفقون على التمييز بين صوت الرب وصوت العبد ، ومتفقون أن الله تكلم بالقرآن الذي أنزله على نبيه محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، حروفه ومعانيه ، وأنه ينادي عباده بصوته ، ومتفقون على أن الأصوات المسموعة من القراء أصوات العباد ، وعلى أنه ليس بشيء من أصوات العباد ، ولا مداد المصاحف ، قديماً ، بل القرآن مكتوب في مصاحف المسلمين ، مقروء بألسنتهم ، محفوظ بقلوبهم ، وهو كلام الله ، والصحابة كتبوا المصاحف لما كتبوها بغير شكل ولا نقط ، لأنهم كانوا عرباً لا يلحنون ، ثم لما حدث اللحن نقط الناس المصاحف وشكلوها ، فإن كتبت بلا شكل ولا نقط جاز ، وإن كتبت بنقط وشكل جاز ، ولم يكره ، في أظهر قولي العلماء ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، وحكم النقط والشكل حكم الحروف فإن الشكل يبين إعراب القرآن ، كما يبين النقط الحروف ، والمدادُ الذي يكتب به الحروف ويكتب به الشكل والنقط ، مخلوق ، وكلام الله العربيّ الذي أنزله وكتب في المصاحف بالشكل والنقط ، وبغير شكل ونقط ، ليس بمخلوق ، وحكم الإعراب حكم الحروف ، لكن الإعراب لا يستقل بنفسه ، بل هو تابع للحروف المنقوطة ، والشكل والنقط لا يستقل بنفسه ، بل هو تابع للحروف المرسومة ، فلهذا لا يحتاج لتجريدهما وإفرادهما بالكلام ، بل القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله : معانيه وحروفه وإعرابه ، والله تكلم بالقرآن العربيّ الذي أنزله على محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، والناس يقرؤونه بأفعالهم وأصواتهم ، والمكتوب في مصاحف المسلمين هو كلام الله ، وهو القرآن العربيّ الذي أنزل على نبيه ، سواء كتب بشكل ونقط ، أو بغير شكل ونقط ، والمداد الذي كتب به القرآن ليس بقديم بل هو مخلوق ، والقرآن الذي كتب في المصحف بالمداد هو كلام الله منزل ، غير مخلوق ، والمصاحف يجب احترامها باتفاق المسلمين ، لأن كلام الله مكتوب فيها ، واحترام النقط والشكل ، إذا كتب المصحف مشكلاً منقوطاً ، كاحترام الحروف باتفاق علماء المسلمين ، كما أن حرمة إعراب القرآن كحرمة حروفه المنقوطة باتفاق المسلمين ، ولهذا قال أبو بكر وعمر : حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه ، والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه ، فجميعه كلام الله .
فلا يقال : بعضه كلام الله وبعضه ليس بكلام الله ، وهو سبحانه نادى موسى ، بصوت سمعه موسى ، فإنه قد أخبر أنه نادى موسى في غير موضع من القرآن ، كما قال تعالى : { هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبّهُ بِالْوَادِ المقَدّسِ طُوىً } [ النازعات : 15 - 16 ] ، والنداء لا يكون إلا صوتاً باتفاق أهل اللغة ، وقد قال تعالى : { إِنّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍٍ وَالنّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لم نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلم اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } [ النساء : 163 - 164 ] ، فقد فرق الله بين إيحائه إلى النبيين وبين تكليمه لموسى ، فمن قال : إن موسى لم يسمع صوتاً ، بل أُلهم معناه - لم يفرق بين موسى وغيره ، وقد قال تعالى : { تِلْكَ الرّسُلُ فَضّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍٍ مّنْهُم مّن كَلم اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍٍ } [ البقرة : 253 ] ، وقال تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍٍ أَن يُكَلمهُ اللّهُ إِلّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنّهُ عليّ حَكِيمٌ } [ الشورى : 51 ] ، فقد فرّق بين الإيحاء والتكلم من وراء حجاب ، كما كلم الله موسى ، فمن سوّى بين هذا وهذا ، كان ضالاً ، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره : لم يزل الله متكلماً إذا شاء ، وهو يتكلم بمشيئته وقدرته ، يتكلم بشيء بعد شيء ، كما قال تعالى : { فَلما أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى } [ طه : 11 ] فناداه حين أتاها ولم يناده قبل ذلك ، وقال تعالى : { فَدَلاّهُمَا بِغُرُورٍٍ فَلما ذَاقَا الشّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنّةِ وَنَادَاهُمَا رَبّهُمَا أَلم أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشّجَرَةِ وَأَقُل لّكُمَا إِنّ الشّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوّ مّبِينٌ } [ الأعراف : 22 ] ، فهو سبحانه ناداهما حين ذاقا الشجرة ، ولم ينادهما قبل ذلك ، وكذلك قال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمّ صَوّرْنَاكُمْ ثُمّ قُلْنَا لِلملآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ } [ الأعراف : 11 ] ، بعد أن خلق آدم وصوّره ، ولم يأمرهم قبل ذلك ، وكذا قوله : { إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍٍ ثِمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عِمْرَان : 59 ] ، فأخبر أنه قال له : { كُن فَيَكُونُ } [ آل عِمْرَان : 59 ] ، بعد أن خلقه من تراب ، ومثل هذا الخبر في القرآن كثير ، يخبر أنه تكلم في وقت معين ، ونادى في وقت معين ، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أنه لما خرج إلى الصفا قرأ قوله تعالى : { إِنّ الصّفَا وَالمرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ } [ البقرة : 158 ] ، قال : < نبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ > ، فأخبر أن الله بدأ بالصفا قبل المروة .
والسلف اتفقوا على أن كلام الله منزل غير مخلوق ، منه بدأ وإليه يعود ، فظن بعض الناس أن مرادهم أنه قديم العين .
ثم قالت طائفة : هو معنى واحد ، وهو الأمر بكل مأمور والنهي عن كل منهي ، والخبر بكل مُخْبَر ، إن عبر عنه بالعربيّة كان قرآناً ، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة ، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً ، وهذا القول مخالف للشرع والعقل .
وقالت طائفة : هو حروف وأصوات قديمة الأعيان ، لازمة لذات الله ، لم تزل لازمة لذاته ، وأن الباء والسين والميم موجودة مقترنة بعضها ببعض معاً ، أزلاً وأبداً ، لم تزل ولا تزال ، لم يسبق منها شيء شيئاً ، وهذا أيضاً مخالف للشرع والعقل .
وقالت طائفة : إن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته ، وإنه في الأزل كان متكلماً بالنداء الذي سمعه موسى ، وإنما تجدد استماع موسى ، لا أنه ناداه حين أتى الوادي المقدس ، بل ناداه قبل ذلك بما لا يتناهى ، ولكن تلك الساعة سمع النداء ، وهؤلاء وافقوا الذين قالوا : إن القرآن مخلوق ، في أصل قولهم ، فإن أصل قولهم : إن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية ، فلا يقوم به كلام ولا فعل باختياره ومشيئته ، وقالوا : هذه حوادث ، والرب لا تقوم به الحوادث ، فخالفوا صحيح المنقول وصريح المعقول .
واعتقدوا أنهم بهذا يردون على الفلاسفة ويثبتون حدوث العالم ، وأخطأوا في ذلك ، فلا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا ، وادعوا أن الرب لم يكن قادراً في الأزل على كلام يتكلم به ، ولا فعل يفعله ، وأنه صار قادراً بعد أن لم يكن قادراً ، بغير أمر حدث ، أو يغيّرون العبارة فيقولون : لم يزل قادراً ، لكن يقولون : إن المقدور كان ممتنعاً ، وإن الفعل صار ممكناً له ، بعد أن صار ممتنعاً عليه ، من غير تجدد شيء ، وقد يعبرون عن ذلك بأن يقولوا : كان قادراً في الأزل على ما يمكن ، فيما لا يزال على ما لا يمكن في الأزل ، فيجمعون بين النقيضين ، حيث يثبتونه قادراً في حال كونه المقدور عليه ممتنعاً عندهم ، ولم يفرقوا بين نوع الكلام والفعل ، وبين عينيه كما لم يفرّق الفلاسفة بين هذا وهذا ، بل الفلاسفة ادعوا أن مفعوله المعين قديم بقدمه ، فضلّوا في ذلك وخالفوا صريح المعقول وصحيح المنقول ، فإن الأدلة لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم ، بل تدل على أن ما سوى الله مخلوق حادث ، بعد أن لم يكن ، إذ هو فاعل بقدرته ومشيئته ، كما تدل على ذلك الدلائل القطعية ، والفاعل بمشيئته لا يكون شيء من مفعوله لازماً ، بصريح العقل واتفاق عامة العقلاء ، بل وكل فاعل لا يكون شيء من مفعوله لازماً لذاته ، ولا يتصور مقارنة مفعوله المعين له ، ولو قدر أنه فاعل بغير إرادة ، فكيف بالفاعل بالإرادة ؟ وما يذكر بأن المعلول يقارن علته ، إنما يصح فما كان من العلل يجري مجرى الشروط ، فإن الشرط لا يجب أن يتقدم على المشروط ، بل قد يقارنه ، كما تقارن الحياة العلم ، وأما ما كان فاعلاً ، سواء سمي علة أو لم يسم ، فلا بد أن يتقدم على الفعل المعين ، والفعل المعين لا يجوز أن يقارنه شيء من مفعولاته ، ولا يعرف العقلاء فاعلاً قط يلتزمه مفعول معين ، وقول القائل ( حركت يدي فتحرك الخاتم ) هو من باب الشروط لا من باب الفاعلين ، ولأنه لو كان العالم قديماً لكان فاعله موجباً بذاته في الأزل ، ولم يتأخر عنه موجبه ومقتضاه ، ولو كان كذلك لم يحدث شيئاً من الحوادث ، وهذا خلاف المشاهدة ، وإن كان هو سبحانه لم يزل قادراً على الكلام والفعل ، بل لم يزل متكلماً إذ شاء ، فاعلاً لما يشاء ، ولم يزل موصوفاً بصفات الكمال ، منعوتاً بنعوت الجلال والإكرام ، والعالم فيه من الإحكام والإتقان ما دل على علم الرب ، وفيه من الاختصاص ما دَل على مشيئته ، وفيه من الإحسان ما دل على رحمته ، وفيه من العواقب الحميدة ما دل على حكمته ، وفيه من الحوادث ما دل على قدرة الرب تعالى ، مع أن الرب مستحق لصفات الكمال لذاته ، فإنه مستحق لكل كمال ممكن للوجود ، لا نقص فيه ، منزه عن كل نقص ، وهو سبحانه ليس له كفؤ في شيء من أموره ، فهو موصوف بصفات الكمال على وجه التفصيل ، منزه فيها ، عن التشبيه والتمثيل ، ومنزه عن النقائص مطلقاً ، فإن وصفه بها من أعظم الأباطيل ، وكماله من لوازم ذاته المقدسة ، لا يستفيده من غيره ، بل هو المنعم على خلقه بالخلق والإنشاء ، وما جعله فيهم من صفات الأحياء ، وخالقُ صفات الكمال أحق بها من لا كفؤ له فيها وأصل اضطراب الناس في مسألة كلام الله ، أن الجهمية والمعتزلة ، لما ناظرت الفلاسفة في مسألة حدوث العالم ، اعتقدوا أن ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة لا يكون إلا حادثاً ، بناء على أن ما لا يتناهى لا يمكن وجوده ، والتزموا أن الرب كان في الأزل غير قادر على الفعل والكلام ، بل كان ذلك ممتنعاً عليه ، وكان معطلاً عن ذلك ، وقد يعبرون عن ذلك بأنه كان قادراً في الأزل على الفعل فيما لا يزال ، مع امتناع الفعل عليه في الأزل ، فيجمعون بن النقيضين حيث يصفونه بالقدرة في حال امتناع المقدور لذاته ، إذ كان الفعل يستلزم أن يكون له أولاً ، والأزل لا أول له ، والجمع بين إثبات الأولية ونفيها جمع بين النقيضين ، ولم يهتدوا إلى الفرق بين ما يستلزم ذلك وهو نوع الفعل والكلام ، بل هذا يكون دائماً ، وإن كان كلٌّ من آحاده حادثاً ، كما يكون دائماً في المستقبل ، وإن كان كل من آحاده فانياً : بخلاف خالق يلزمه مخلوقه المعين دائماً ، فإن هذا هو الباطل في صريح العقل وصحيح النقل ، ولهذا اتفقت فطر العقلاء على إنكار ذلك ، لم ينازع فيه إلا شرذمة من المتفلسفة ، كابن سينا وأمثاله الذين زعموا أن الممكن المفعول قد يكون قديماً واجب الوجود بغيره ، فخالفوا في ذلك جماهير العقلاء ، مع مخالفتهم لسلفهم ، أرسطو وأتباعه ، فإنهم لم يكونوا يقولون ذلك ، وإن قالوا بقدم الأفلاك ، وأرسطوا أول من قال بقدمها من الفلاسفة المشائين ، بناءً على إثبات علة غاية لحركة الفلك ، بتحرك الفلك للنسبة بها ، لم يثبتوا له فاعلاً مبتدعاً ، ولم يثبتوا ممكناً قديماً واجباً بغيره ، وهم ، وإن كانوا أجهل بالله وأكفر من متأخريهم ، فهم يسلمون لجمهور العقلاء ، أن ما كان ممكناً بذاته فلا يكون إلا محدثاً مسبوقاً بالعدم ، فاحتاجوا أن يقولوا : كلامه مخلوق منفصل عنه .
وطائفة وافقتهم على امتناع وجود ما لا نهاية له ، لكن قالوا : تقوم به الأمور الاختيارية ، فقالوا : إنه في الأزل لم يكن متكلماً ، بل ولا كان الكلام مقدوراً له ، ثم صار متكلماً بلا حدوث حادث ، بكلام يقوم به ، وهو قول الهاشمية والكرامية وغيرهم .
وطائفة قالت : إذا كان القرآن غير مخلوق ، فلا يكون إلا قديم العين ، لازماً لذات الرب ، فلا يتكلم بمشيئته وقدرته ، ثم منهم من قال : هو معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض ، ومنهم من قال : إنه حروف وأصوات مقترنة لازمة للذات ، وهؤلاء أيضاً وافقوا الجهمية والمعتزلة في أصل قولهم أنه متكلم بكلام لا يقوم بنفسه ومشيئته وقدرته ، وأنه لا تقوم به الأمور الاختيارية ، وأنه لم يستو على عرشه بعد أن خلق السماوات والأرض ، ولن يأتي يوم القيامة ، ولم يناد موسى حين ناداه ، ولا تغضبه المعاصي ولا ترضيه الطاعات ، ولا تفرحه توبة التائبين ، وقالوا في قوله : { وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمؤْمِنُونَ } [ التوبة : 105 ] ، ونحو ذلك ، أنه لا يراها إذا وجدت ، بل إما أنه لم يزل رائياً لها ، وإمَّا أنه لم يتجدد شيء موجود ، بل تعلق معدوم ، إلى أمثال هذه المقالات التي خالفوا فيها نصوص الكتاب والسنة ، مع مخالفة صريح العقل ، والذي ألجأهم لذلك ، موافقتهم للجهمية على أصل قولهم : في أنه سبحانه لا يقدر في الأزل على الفعل والكلام ، وخالفوا السلف والأئمة في قولهم : لم يزل الله متكلماً إذا شاء ، ثم افترقوا أحزاباً أربعة كما تقدم : الخلقية ، والحدوثية ، والاتحادية والاقترانية ، وشر من هؤلاء الصائبة والفلاسفة الذين يقولون : إن الله لم يتكلم لا بكلام قائم بذاته ، ولا بكلام يتكلم به بمشيئته وقدرته ، لا قديم النوع ولا قديم العين ، ولا حادث ولا مخلوق ، بل كلامه عندهم ما يفيض على نفوس الأنبياء ، ويقولون : إنه كلم موسى من سماء عقله ، وقد يقولون إنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات ، فإنه إنما يعلمها على وجه كلي ، ويقولون ، مع ذلك : أنه يعلم نفسه ويعلم ما يفعله ، وقولهم ( يعلم نفسه ومفعولاته ) حق ، كما قال تعالى : { أَلَا يَعْلم مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ } [ الملك : 14 ] ، لكن قولهم ، من ذلك ( إنه لا يعلم الأعيان المعينة ) جهل وتناقض ، فإن نفسه المقدسة معينة ، والأفلاك معينة ، وكل موجود معين ، فإن لم يعلم المعينات لم يعلم شيئاً من الموجودات ، إذ الكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان ، فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئاً من الموجودات : تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً ، وهم ، إنما ألجأهم إلى هذا الإلحاد فرارهم من تجدد الأحوال للباري تعالى ، إن هؤلاء يقولون : إن الحوادث تقوم بالقديم ، وإن الحوادث لا أول لها ، لكن نفوا ذلك عن الباري ، لاعتقادهم أنه لا صفة له ، بل هو وجود مطلق ، وقالوا : إن العلم نفس عين العالِمْ ، والقدرة نفس عين القادر ، والعلم والعالم شيء واحد ، والمريد والإرادة شيء واحد ، فجعلوا هذه الصفة هي الأخرى ، وجعلوا الصفات هي الموصوف ، ومنهم من يقول : بل العلم كل المعلوم ، كما يقوله الطوسي صاحب " شرح الإشارات " فإنه أنكر على ابن سينا إثبات لعلمه بنفسه وما يصدر عن نفسه ، وابن سينا أقرب إلى الصواب ، لكنه تناقض مع ذلك حيث نفى قيام الصفات به ، وجعل الصفة عين الموصوف ، وكل صفة هي الأخرى ، ولهذا كان هؤلاء هم أوغل في الاتحاد والإلحاد ممن يقول : معاني الكلام شيء واحد ، لكنهم ألزموا قولهم لأولئك فقالوا : إذا جاز أن تكون المعاني المتعددة شيئاً واحداً ، جاز أن يكون العلم هو القدرة ، والقدرة على الإرادة ، فاعترف حذاق أولئك بأن هذا الإلزام لا جواب عنه ، ثم قالوا : وإذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى ، جاز أن تكون الصفة هي الموصوف ، فجاء ابن عربي وابن سبعين والقونوي ونحوهم ، فقالوا : إذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى والصفة هي الموصوف ، جاز أن يكون الموجود الواجب القديم الخالق ، هو الموجود الممكن المحدث المخلوق ، فقالوا : إن وجود كل مخلوق هو عين وجود الخالق ، وقالوا : الوجود واحد ، ولم يفرّقوا بين الواحد بالنوع والواحد بالعين ، كما لم يفرّق أولئك بين الكلام الواحد بالعين ، والكلام الواحد بالنوع ، وكان منتهى أمر أهل الإلحاد في الكلام ، إلى هذا التعطيل والكفر والاتحاد ، الذي قاله أهل الوحدة والحلول والاتحاد في الخالق والمخلوقات ، كما أن الذين لم يفرقوا بين نوع الكلام وعينه ، وقالوا : هو يتكلم بحرف وصوت قديم ، قالوا : أولاً إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته ، ولا تسبق الباء السين ، بل لما نادى موسى فقال : { إِنّنِي أَنَا اللّهُ لَا إِلَهَ إِلّا أَنَا فَاعْبُدْني إِنّي أَنَا اللّهُ رَبّ الْعَالمينَ } كانت الهمزة والنون وما بينهما موجوداً في الأزل ، يقارن بعضها بعضاً ، لم تزل ولا تزال لازمة لذات الله ، ثم قال فريق منهم : إن ذلك القديم هو نفس الأصوات المسموعة من القراء .
وقال بعضهم : بل المسموع صوتان : قديم ومحدث ، وقال بعضهم : أشكال المداد قديمة أزلية ، وقال بعضهم : محل المداد قديم أزليّ ، وحكي عن بعضهم أنه قال : المداد قديم أزليّ وأكثرهم يتكلمون بلفظ القديم ، ولا يفهمون معناه ، بل منهم من يظن أنه قديم في علمه ، ومنهم من يظن أن معناه متقدم على غيره ، ومنهم من يظن أن معنى اللفظ أنه غير مخلوق ، ومنهم من لا يميز بين ما يقول ، فصار هؤلاء حلولية اتحادية في الصفات ، ومنهم من يقول بالحلول والاتحاد في الذات والصفات ، وكان منتهى أمر هؤلاء وهؤلاء إلى التعطيل .
والصواب في هذا الباب وغيره ، مذهب سلف الأمة وأئمتها : أنه سبحانه لم يزل متكلماً إذا شاء ، وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته ، وأن كلماته لا نهاية لها ، وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى ، وإنما ناداه حين أتى ، لم يناده قبل ذلك ، وأن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد ، كما أن علمه لا يماثل علمهم ، وقدرته لا تماثل قدرتهم ، وأنه سبحانه بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته ، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته وصفاته القائمة بذاته ، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته ، وأن أقوال أهل التعطيل والاتحاد الذين عطلوا الذات أو الصفات أو الكلام أو الأفعال - باطلة ، وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات والصفات - باطلة ، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع ، وقد بسطناها في " الواجب الكبير " ، والله أعلم بالصواب .
( وقال تقي الدين أيضاً في مقالة له في هذا البحث ) : أول من أظهر إنكار التكليم والمُخَالَّة الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية ، وأمر علماء الإسلام ، كالحسن البصري وغيره ، بقتله ، فضحّى به خالد بن عبد الله القسريّ ، أمير العراق بواسط ، فقال : أيها الناس ضحوا ، تقبل الله ضحاياكم ، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم ، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ، ولم يكلم موسى تكليماً ، تعالى الله عما يقول الجعد علوّاً كبيراً .
ثم نزل فذبحه ، وأخذ ذلك عنه الجهم بن صفوان ، فأنكر أن يكون الله يتكلم ، ثم نافق المسلمين فأقر بلفظ الكلام ، وقال : كلامه يخلق في محل كالهواء وورق الشجر ، ودخل بعض أهل الكلام أو الجدل ، من المنتسبين إلى الإسلام ، من المعتزلة ونحوهم ، في بعض مقالة الصابئة والمشركين ، متابعة [ في المطبوع : متاقبعة ] للجعد والجهم ، وكان مبدأ ذلك أن الصابئة في الخلق على قولين : منهم من يقول : إن السماوات مخلوقة بعد أن لم تكن ، كما أخبرت بذلك الرسل وكتب الله تعالى ، ومنهم من ابتدع فقال : بل هي قديمة أزلية ، لم تزل موجودة بوجود الأول واجب الوجود بنفسه ، ومنهم من قد ينكر الصانع بالكلية ، ولهم مقالات كثيرة الاضطراب ، في الخلق والبعث والمبدأ والمعاد ، لأنهم لم يكونوا معتصمين بحبل من الله تعالى يجمعهم ، والظنون لا تجمع الناس في مثل هذه الأمور ، التي تعجز الآراء عن درك حقائقها إلا بوحي من الله تعالى ، وهم إنما يناظر بعضهم بعضاً بالقياس المأخوذ مقدماته من الأمور الطبيعية السفلية ، وقوى الطبائع الموجودة في التراب والماء والهواء ، والحيوان والمعدن والنبات ، ويريدون بهذه المقدمات السفلية أن ينالوا معرفة الله ، وعلم ما فوق السماوات ، أول الأمر وآخره ، وهذا غلط بيّن ، اعترف أساطينُهم بأن هذا غير ممكن ، وأنهم لا سبيل لهم إلى إدراك اليقين ، وأنهم إن يتبعون إلا الظن ، فلما كان حال هذه الصائبة المبتدعة الضالة ومن أضلوه من اليهود والنصارى ، وكان قد اتصل كلامهم ببعض من لم يهتد بهدى الله الذي بعث به رسله ، من أهل الكلام والجدل - صاروا يريدون أن يأخذوا مآخذهم ، كما أخبر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بقوله : < لتأخذن مأخذ الأمم قبلكم شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع > ، قالوا : يا رسول الله ! فارس الروم ؟ قال : ومَن الناس إلا فارس والروم ؟ فاحتجوا على حدوث العالم بنحو من مسالك هذه الصابئة ، وهو الكلام في الأجسام والأعراض ، بأن تثبت الأعراض ثم يثبت لزومها للأجسام ، ثم حدوثها ، ثم يقال ما لا يسبق الحوادث فهو حادث ، واعتمد كثير من أهل الجدل على هذا في إثبات حدوث العالم ، فلما رأوا أن الأعراض ، التي هي الصفات ، تدل عندهم على حدوث الموصوف الحامل للأعراض - التزموا نفيها عن الله ، لأن ثبوتها مستلزم حدوثه ، وبطلان دليل حدوث العالم الذي اعتقدوا أن لا دليل سواه بل ربما اعتقدوا أنه لا يصح إيمان أحد إلا به معلوم بالاضطرار من دين الإسلام ، وهؤلاء يخالفون الصابئة الفلاسفة الذين يقولون بقدم العالم وبأن النبوة كمال يفيض على نفس النبي ، لأن هؤلاء المتكلمين أكثر حقاً وأتبع للأدلة العقلية والسمعية ، لما تنورت به قلوبهم من نور الإسلام والقرآن ، وإن كانوا قد ضلوا في كثير مما جاء به الرسل ، لكن هم خير من أولئك من وجوه أخرى وافقوا فيها ، فوافقوا أولئك على أن الله لم يتكلم ، كما وافقهوهم على أنه لا علم له ولا قدرة ولا صفة من الصفات ، ورأوا أن إثباته متكلماً يقتضي أن يكون جسماً ، والجسم حادث ، لأنه من الصفات الدالة على حدوث الموصوف ، بل هو عندهم أدل على حدوث المتكلم من غيره ، لأنه يفتقر من المخارج إلى ما لا يفتقر إليه غيره ، ولأن فيه من الترتيب والتقديم والتأخير ما ليس في غيره ، ولما رأوا أن الرسل اتفقت على أنه متكلم ، والقرآن مملوء من إثبات ذلك صاروا تارة يقولون : متكلم مجازاً لا حقيقة ، وهذا قولهم الأول لما كانوا في بدعتهم على الفطرة ، قبل أن يدخلوا في المعاندة والجحود ، ثم إنهم رأوا هذا شنيعاً فقالوا : بل هو متكلم حقيقة ، وربما حكى بعض متكلميهم الإجماع ، وليس عندهم كذلك ، بل حقيقة قولهم وأصله ، عند من عرفه وابتدعه : إن الله ليس بتمكلم ، وقالوا المتكلم من فعل الكلام ، ولو في محل منفصل عنه ، ففسروا المتكلم في اللغة بمعنى لا يعرف في لغة العرب ولا غيرهم ، لا حقيقة ولا مجازاً ، وهذا قول من يقول : القرآن مخلوق : وهو أحد قولي الصابئة الذين يوافقون الرسل في حدوث العالم ، وهو وإن كفر بما جاءت به الرسل ، فليس هو في الكفر مثل القول الأول ، لأن هؤلاء لا يقولون : إن الله أراد أن يبعث رسولاً معيناً ، وأن ينزل عليه هذا الكلام الذي خلقه ، وأنكروا أن يكون متكلماً على الوجه الذي دلت عليه الكتب الإلهية ، واتفقت عليه أهل الفطرة السليمة ، ونشأ بين هؤلاء الذين هم فروع الصابئة ، وبين المؤمنين أتباع الرسل ، الخلاف ، فكفر هؤلاء ببعض ما جاءت به الرسل من وصف الله بالكلام والتكليم ، واختلفوا في كتاب الله فآمنوا ببعض وكفروا ببعض ، واتبع المؤمنون ما أنزل إليهم من ربهم من أن الله تكلم بالقرآن ، وأن كلم موسى تكليماً ، وأنه يتكلم ، ولم يحرفوا الكلم عن مواضعه كم فعل الأولون ، بل ردوا تحريف أولئك ببصائر الإيمان ، الذي علموا به مراد الرسل من أخبارهم برسالة الله وكلامه ، وتبعوا هذا القرآن والحديث وإجماع السلف من الصحابة والتابعين وسائر أتباع الأنبياء ، وعلموا أن قول هؤلاء أخبث من قول اليهود والنصارى ، حتى كان ابن المبارك إمام المسلمين يقول : إنا لنحكي ، كلام اليهود والنصارى ، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية ، وكان قد كثر ظهور هؤلاء ، الذين هم فروع المشركين ، ومن اتبعهم ، من مبدلة الصابئين ثم مبدلة اليهود والنصارى في أوائل المائة الثانية وأوائل الثالثة ، في إمارة أبي العباس الملقب بالمأمون بسبب تعريب كتب الروم المشركين الصابئين ، الذين كانوا قبل النصارى ، ومن أشبههم من فارس والهند ، وظهرت علوم الصابئين المنجمين ونحوهم ، وقد تقدم أن أهل الكلام المبتدع في الإسلام هم من فروع الصابئين ، كما يقال : المعتزلة مخانيث الفلاسفة ، فظهرت هذه المقالة في أهل العلم والكلام ، وفي أهل السيف والإمارة ، وصار في أهلها من الخلفاء والأمراء والوزراء والقضاة والفقهاء ، ما امتحنوا به المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات ، الذين اتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم ، ولم يبدلوا ويبتدعوا ، وذلك لقصورٍٍ وتفريطٍٍ من أكثرهم ، في معرفة حقيقة ما جاء به الرسول وأتباعه .
فصل
فجاء قوم من متكلمي الصفاتية الذين نصروا أن الله له علم وقدرة وبصر وحياة ، بالمقاييس العقلية المطابقة للنصوص النبوية ، وفرقوا بين الصفات القائمة بالجواهر فجعلوها أعراضاً وبين الصفات القائمة بالرب فلم يسموها أعراضاً ، لأن العرض ما لا يدوم وما لا يبقى ، أو ما يقوم بمتحيز أو جسم وصفات الرب لازمة دائمة ليست من جنس الأعراض القائمة بالأجسام ، وهؤلاء أهل الكلام القياسي من الصفاتية ، فارقوا أولئك المبتدعة المعطلة الصابئة في كثير من أمورهم ، وأثبتوا الصفات التي قد يستدل بالقياس العقلي عليها ، كالصفات السبع ، وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام ، ولهم نزاع في السمع والبصر والكلام ، هل هو من الصفات العقلية أو الصفات النبوية الخبرية السمعية ؟ ولهم اختلاف في البقاء والقدم ، وفي الإدراك الذي هو إدراك المشمومات والمذوقات والملموسات ، ولهم أيضاً اختلاف في الصفات السمعية القرآنية الخبرية ؟ كالوجه واليد ، فأكثر متقدميهم أو كلهم يثبتها ، وكثير من متأخريهم لا يثبتها ، وأما ما لا يرد إلا في الحديث فأكثرهم لا يثبتها ، ثم منهم من يصرف النصوص عن دلالتها لأجل ما عارضها من القياس العقلي عنده ، ومنهم من يفوض معناها ، وليس الغرض هنا تفصيل مقالات الناس فيما يتعلق بسائر الصفات ، وإنما المقصود القول في رسالة الله وكلامه الذي بلغته رسله ، فكان هؤلاء بينهم وبين أهل الوراثة النبوية ، قدر مشترك بما ملكوه من الطرق الصائبة في أمر الخالق وأسمائه وصفاته ، فصار في مذهبهم في الرسالة تركيب من الوراثتين ، لبسوا حق ورثة الأنبياء بباطل ورثة أتباع الصابئة ، كما كان في مذهب أهل الكلام المحض المبتدع كالمعتزلة ، تركيب ، وليس بين الأثارة النبوية وبين الأثارة الصابئة ، لكن أولئك أشد اتباعاً للأثارة النبوية ، وأقرب إلى مذاهب أهل السنة ، من المعتزلة ونحوهم ، من وجوه كثيرة ، ولهذا وافقهم في بعض ما ابتدعوه كثير من أهل الفقه والحديث والتصوف ، لوجوه :
أحدها : كثرة الحق الذي يقولونه وظهور الأثارة النبوية عندهم .
الثاني : لبسهم ذلك بمقاييس عقلية بعضهما موروث عن الصابئة وبعضها مما ابتدع في الإسلام ، واستيلاء ما في ذلك من الشبهات عليهم ، وظنهم أنه لم يكن التمسك بالأثارة النبوية من أهل العقل والعلم إلا على هذا الوجه .
الثالث : ضعف الأثارة النبوية الدافعة لهذه الشبهات والموضحة لسبيل الهدى عندهم .
الرابع : العجز والتفريط الواقع في المنتسبين إلى السنة والحديث ، تارة يرون ما يعلمون صحته ، وتارة يكونون كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني ، ويعرضون عن بيان دلالة الكتاب والسنة على حقائق الأمور .
فلما كان هذا منهاجهم ، وقالوا : إن القرآن غير مخلوق ، لما دل على ذلك من النصوص وإجماع السلف ، ولما رأوا أنه مستقيم على الأصل الذي قرروه في الصفات ، ورأوا أن التوفيق بين النصوص النبوية السمعية ، وبين القياس العقلي ، لا يستقيم إلا أن يجعلوا القرآن معنى قائماً بنفس الله تعالى كسائر الصفات ، كما جعله الأولون من باب المصنوعات المخلوقات ، لا قديماً كسائر الصفات ، ورأوا أنه ليس إلا مخلوقاً أو قديماً ، فإن إثبات قسم ثالث قائم بالله يقتضي حلول الحوادث بذاته ، وهو دليل على حدوث الموصوف ، ويبطل لدلالة حدوث العالم ، ثم رأوا أنه لا يجوز أن يكون معاني كثيرة ، بل إما معنى واحداً عند طائفة ، أو معاني أربعة عند طائفة ، والتزموا على هذه أن حقيقة الكلام هي المعنى القائم بالنفس ، وأن الحروف والأصوات ليست من حقيقة الكلام ، بل دالة عليه ، فتسمى باسمه إما مجازاً عند طائفة أو حقيقة بطريق الاشتراك عند طائفة ، وإما مجازاً في كلام الله ، حقيقة في غيره عند طائفة ، وخالفهم الأولون وبعض من يستن أيضاً ، وقالوا : لا حقيقة للكلام إلا الحروف والأصوات ، وليس وراء ذلك معنى إلا العلم ونوعه ، أو الإرادة ونوعها ، فصار النزاع بين الطائفتين ، وادعى هؤلاء أن الأمر والنهي والخبر صفات للكلام إضافية ، ليست أنواعاً له وأقساماً ، وأن كلام الله معنى واحد ، إن عبر عنه بالعربيّة فهو قرآن ، وبالعبرية فهو توارة ، وبالسريانية فهو إنجيل ، وقال لهم أكثر الناس : هذا معلوم الفساد بالضرورة ، كما قال الأولون : إنه خلق الكلام في الهواء فصار متكلماً به ، وإن المتكلم من أحدث الكلام ولو في ذاتٍٍ غير ذاته ، وقال لهم أكثر الناس : إن هذا معلوم الفساد بالضرورة ، وقال الجمهور من جميع الطوائف : إن الكلام اسم للفظ والمعنى جميعاً ، كما أن الإِنسان المتكلم اسم للروح والجسم جميعاً ، وإنه إذا أطلق على أحدهما فبقرينة ، وإن معاني الكلام متنوعة ليست منحصرة في العلم والإرادة ، كتنوّع ألفاظه ، وإن كانت المعاني أقرب إلى الاتحاد والاجتماع ، والألفاظ أقرب إلى التعدد والتفرق ، والتزم هؤلاء أن حروف القرآن مخلوقة ، وإن لم يكن عندهم المعنى الذي هو كلام الله مخلوقاً ، وفرّقوا بين كتاب الله وكلامه ، فقالوا : كتاب الله هو الحروف وهو مخلوق ، وكلام الله هو معناها غير مخلوق ، وهؤلاء والأولون متفقون على خلق القرآن الذي قال الأولون : إنه مخلوق ، واختلف هؤلاء أين خلقت هذه الحروف ؟ هل خلقت في الهواء أو في نفس جبرئيل ، أو أن جبرئيل هو الذي أحدثها أو محمد ؟ .
وأما جمهور الأمة وأهل الحديث والفقه والتصوف فعلى ما جاءت به الرسل وما جاء عنهم من الكتب والأثارة من العلم ، وهم المتبعون للرسالة اتباعاً محضاً ، لم يشوبوه بما يخالفه من مقالة الصابئين ، وهو أن القرآن كله كلام الله ، لا يجعلون بعضه كلام الله وبعضه ليس كلام الله ، والقرآن هو القرآن الذي يعلم المسلمون أنه القرآن ، حروفه ومعانيه ، والأمر والنهي ، هو الفظ والمعنى جميعاً ، ولهذا كان الفقهاء المصنفون في أصول الفقه من جميع الطوائف : الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية ، إذا لم يخرجوا عن مذاهب الأئمة والفقهاء ، إذا تكلموا في الأمر والنهي ، ذكروا ذلك ، وخالفوا من قال : إن الأمر هو المعنى المجرد ، ويعلمون أهل الأثارة النبوية أهل السنة والحديث وعامة المسلمين الذين هم جماهير أهل القبلة ؛ أن قوله تعالى : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لّلمتّقِينَ } [ البقرة : 1 - 2 ] ، ونحو ذلك هو كلام الله لا كلام غيره ، وكلام الله هو ما تكلم به ، لا ما خلقه في غيره ولم يتكلم هو به .
( وسئل تقي الدين أيضاً ) : ما تقول السادة العلماء الجهابذة أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين ، فيمن يقول : الكلام غير المتكلم ، والقول غير القائل ، والقرآن والمقروء والقارئ كل واحد منها له معنى ، بينوا لنا ذلك بياناً شافياً ليصل إلى ذهن الحاذق والبليد ، أثابكم الله بمنه .
( فأجاب رحمه الله ) : الحمد لله ، من قال : إن الكلام غير المتكلم ، والقول غير القائل ، وأراد أنه مبائن له ومنفصل عنه ، فهذا خطأ وضلال ، وهو من يقول : إن القرآن مخلوق ، فإنهم يزعمون أن الله لا تقوم به صفة من الصفات لا القرآن ولا غيره ، ويهمون الناس بقولهم : العلم غير العالم ، والقدرة غير القادر ، والكلام غير المتكلم .
ثم يقولون : وما كان غير الله فهو مخلوق ، وهذا تلبيس منهم ، فإن لفظ ( الغير ) يراد به ما يجوز مبائنته للآخر ومفارقته له ، وعلى هذا فلا يجوز أن يقال : علم الله غيره ولا كلامه غيره ، ولا يقال : إن الواحد من العشرة غيرها ، وأمثال ذلك ، وقد يقال بلفظ ( الغير ) ما ليس هو الآخر ، وعلى هذا فتكون الصفة غير الموصوف ، ولكن على هذا المعنى ، لا يكون ما هو غير ذات الله الموصوفة بصفاته - مخلوقاً ، لأن صفاته ليست هي الذات ، لكن قائمة بالذات ، والله سبحانه وتعالى هو الذات المقدسة الموصوفة بصفات كماله ، وليس الاسم اسماً لذات لا صفات لها ، بل يمتنع وجود ذات لا صفات لها ، والصواب في مثل هذا أن يقال : الكلام صفة المتكلم .
والقول صفة القائل ، وكلام الله ليس مبائناً منه ، بل أسمعه لجبرئيل ونزّله به على محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، كما قال تعالى : { وَالّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلمونَ أَنّهُ مُنَزّلٌ مّن رّبّكَ بِالْحَقّ } ولا يجوز أن يقال : إن كلام الله فَاَرق ذَاَته وانتقل إلى غيره .
بل يقال كما قال السلف : إنه كلام الله غير مخلوق ، منه بدا وإليه يعود .
فقولهم ( منه بدا ) رد على من قال ( إنه مخلوق في بعض الأجسام ، ومن ذلك المخلوق ابتدأ ) فبينوا أنه الله هو المتكلم به ، ومنه بدا ، لا من بعض المخلوقات .
( وإليه يعود ) أي : فلا يبقى في الصدور منه آية ، ولا في المصاحف حرف ، وأما القرآن فهو كلام الله ، فمن قال : إن القرآن ، الذي هو كلام الله ، غير الله - فخطؤه وتلبيسه كخطأ من قال : إن الكلام غير المتكلم .
وكذلك من قال : إن الله له مقروء غير القرآن الذي تكلم به ، فخطؤه ظاهر .
وكذلك : أن القرآن الذي يقرؤه المسلمون غير المقروء الذي يقرؤه المسلمون - فقد أخطأ ، وإن أراد بالقرآن مصدر ( قرأ يقرأ قراءة وقرآناً ) وقال : أردت القراءة غير المقروء ، فلفظ القراءة مجمل قد يراد بالقراءة القرآن ، وقد يراد بالقراءة المصدر ، فمن جعل القراءة التي هي المصدر ، قال : القارئ غير المقروء ، كما يجعل التكلم الذي فعله غير الكلام الذي هو يقول ، وأراد بـ ( الغير ) أنه ليس هو إياه - فقد صدق ، فإن الكلام الذي يتكلم به الإِنسَاْن يتضمن فعلاً كالحركة ، ويتضمن ما يقترن بالفعل من الحروف والمعاني ، ولهذا يجعل القول قسيماً للفعل تارة ، وقسيماً منه أخرى ، فالأول كما يقال : الإيمان قول وعمل .
ومنه قوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم : < إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا ، مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ ، أَوْ تَكَلَّمْ > .
ومنه قوله تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلم الطّيّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ } .
[ فاطر : 10 ] .
ومنه قوله تعالى : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍٍ } [ يونس : 61 ] .
وأمثال ذلك فيما يفرق فيه بين القول والعمل .
وأما دخول القول في العمل ففي مثل قوله تعالى : { فَوَرَبّكَ لَنَسْأَلَنّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الحجر : 92 - 93 ] ، وقد فسروه بقوله : لا إله إلا الله .
ولما سئل : أي : الأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قال : < الإِيمَانٌ بِاللَّهِ > .
مع قوله : < الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً [ شُعْبَةً كذا في البخاري ] ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ ، أَفْضَلُهَا وأعلاها قَوْلُ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ . وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ > .
ونظائر ذلك متعددة ، وقد تتوزع فيمن حلف لا يعمل عملاً ، إذا قال قولاً كالقراءة ، هل يحنث ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره ، بناء على هذا ، فهذه الألفاظ التي فيها إجمال واشتباه إذا فصلت معانيها ، وإلا وقع فيها نزاع واضطراب ، والله سبحانه وتعالى أعلم . انتهى كلام تقي الدين رحمه الله تعالى .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب " الرد على الجهمية " : سألت أبي عن قوم يقولون ( لما كلم الله موسى ) : لم يتكلم بصوت ، فقال أبي : بلى ، تكلم جل ثناؤه بصوت ، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت ، وقال أبي : حديث ابن مسعود : إذا تكَلَّمَ اللّه تَعَالى سَمِعَ لَهُ صوت كمر السّلْسِلَةِ على الصَّفَوان .
قال : وهذه الجهمية تنكره ، وهؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس ، ثم قال : حدثنا المحاربي عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبيد الله قال : إذا تكلم الله تبارك وتعالى بالوحي ، سمع صوته أهل السماء فيخرون سجداً .
وقال السفاريني في " شرح العقيدة " : روى في إثبات الحرف والصوت أحاديث تزيد على أربعين حديثاً ، وأخرج الإمام أحمد غالبها ، واحتج به .
وأخرج الحافظ ابن حجر أيضاً في " شرح البخاريّ " واحتج بها البخاريّ وغيره من أئمة الحديث ، على أن الحق سبحانه يتكلم بحرف وصوت ، وقد صححوا هذا الأصل واعتقدوه ، واعتمدوا على ذلك ، منزهين الله تعالى عما لا يليق بجلاله ، من شبهات الحدوث وسمات النقص ، كما قالوا في سائر الصفات ، معتمدين على ما صح عندهم من صاحب الشريعة المعصوم في أقواله ، الذي لا ينطق عن الهوى صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .
وقال الإمام الواسطي ابن شيخ الحرمين الشافعيّ في " عقيدته " : إنني : كنت برهة من الدهر متحيراً في ثلاث مسائل : مسألة الصفات ، ومسألة الفوقية ، ومسألة الحرف والصوت في القرآن المجيد ، وكنت متحيراً في الأقوال المختلفة الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك ، من تأويل الصفات وتحريفها ، أو إمرارها والوقوف فيها ، أو إثباتها بلا تأويل ولا تعطيل ، ولا تشبيه ولا تمثيل ، فأجد النصوص في كتاب الله وسنة رسوله ناطقة مبينة لحقائق هذه الصفات ، وكذلك في إثبات العلو والفوقية ، وكذلك في الحرف والصوت ، ثم أجد المتأخرين من المتكلمين في كتبهم ، منهم من تأول الاستواء بالقهر والاستيلاء ، وتأول النزول بنزول الأمر ، وتأول اليدين بالنعمتين والقدرتين ، وتأول القدم بقدم صدق عند ربهم ، وأمثال ذلك ، ثم أحدهم مع ذلك يجلون كلام الله معنى قائماً بالذات ، بلا حرف ولا صوت ويجعلون هذه الحروف عبارة عن ذلك المعنى القائم ، ومعنى ذلك إلى هذه الأقوال أو بعضها قوم لهم في صدري منزلة ، مثل بعض فقهاء الأشعرية الشافعيين ، لأني على مذهب الشافعي رحمه الله تعالى ، عرفت فرائض ديني وأحكامه ، فأجد مثل هؤلاء الأجلة يذهبون إلى مثل هذه الأقوال ، وهم شيوخي ، ولي فيهم الاعتقاد التام ، لعلمهم وفضلهم ، ثم إنني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات حزازات لا يطمئن قلبي إليها ، وأجد الكدر والظلمة منها ، وأجد ضيق الصدر وعدم انشراحه مقروناً بها ، فكنت كالمتحير ، المضطرب في تحيره ، المتململ من قلبه في تقلبه وتغيره ، وكنت أخاف من إطلاق القول بإثبات العلو والاستواء والنزول ، مخافة الحصر والتشبيه ، ومع ذلك ، فإذا طالعت النصوص والواردة في كتاب الله وسنة رسوله أجدها نصوصاً تشير إلى حقائق هذه المعاني ، وأجد الرسول صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قد صرح بها مخبراً عن ربه ، واصفاً له بها ، ثم لا أجد شيئاً يعقب تلك النصوص ويؤولها كما تأولها هؤلاء الفقهاء المتكلمون ، ثم قال : والذين أولوا ما أولوا ، هو أنهم ما فهموا في صفات الرب إلا ما يليق بالمخلوقين ، فلذلك حرفوا الكلم عن مواضعه ، وعطلوا ما وصفه الحق به نفسه ، ولو علموا أن هذه الصفات هي كلها ثابتة له ، كما يليق بجلاله وعظمته ، لا على ما نعقل من صفات المخلوقين ، لسلموا من التشبيه والتأويل المؤدي إلى التعطيل .
ثم قال : ومسألة الحرف والصوت تساق هذا المساق ، فإن الله تعالى قد تكلم بالقرآن المجيد بجميع حروفه ، فقال تعالى : { آلمص } [ الأعراف : 1 ] وقال : { ق وَالْقُرْآنِ المجِيدِ } [ ق : 1 ] ، وكذلك جاء في الحديث : فينادي يوم القيامة بصوت يسمعه من بُعد كما يسمعه من قرب ، وفي الحديث : < لاَ أَقُولُ : { الم } حَرْفٌ ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلاَمٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ > .
فهؤلاء ما فهموا من كلام الله إلا ما فهموه من كلام المخلوقين ، قالوا : إذا قلنا بالحرف فإن ذلك يؤدي إلى القول بالجوارح واللهوات ، وكذلك إذا قلنا بالصوت أدى ذلك إلى الحلق والحنجرة ، فعملوا بهذا من التخبيط كما عملوا فيما تقدم من الصفات ، والتحقيق هو أن الله تعالى تكلم بالحروف كما يليق بجلاله وعظمته فإنه قادر - والقادر لا يحتاج إلى جوارح ولا إلى لهوات ، وكذلك له صوت يليق به يسمع ، ولا يفتقر ذلك الصوت المقدس إلى الحلق والخنجرة ، فكلام الله كما يليق به ، وصوته كما يليق به ، ولا ننفي الحرف والصوت عن كلامه سبحانه ، لافتقارهما منا إلى الجوارح واللهوات ، فإنهما في جناب الحق لا يفتقران إلى ذلك ، وهذا ينشرح الصدر له ويستريح الإِنسَاْن به من التعسف والتكلف بقوله : هذا عبارة عن ذلك ، فإن قيل : هذا الذي يقرؤه القارئ هو عين قراءة الله وعين تكلمه هو ؟ قلنا : لا ، بل القارئ يؤدي كلام الله ، والكلام إنما ينسب إلى من قاله مبتدئاً ، لا إلى من قاله مؤدياً مبلغاً ، ولفظ القارئ في غير القرآن مخلوق ، وفي القرآن لا يتميز اللفظ المؤدي عن الكلام المؤدى عنه ، ولهذا منع السلف من قول ( لفظي بالقرآن مخلوق ) لأنه لا يتميز ، كما منعوا عن قول ( لفظي بالقرآن غير مخلوق ) فإن لفظ العبد في غير التلاوة مخلوق وفي التلاوة مسكوت عنه ، كيلا يؤدي الكلام في ذلك إلى القول بخلق القرآن ، وما أمر السلف بالسكوت عنه ، يجب السكوت عنه ، والله الموفق والمعين .
تنبيه :
قال في " العناية " : القراءة المشهورة في الآية رفع الجلالة الشريفة ، وقرئ بنصبها في الشواذ . انتهى .
قال الحافظ ابن كثير : روى الْحَافِظ أَبُو بَكْر بْن مَرْدَوَيْهِ أن رجلاً جَاءَ إِلَى أَبِي بَكْر بْن عَيَّاش ، فَقَالَ : سَمِعْت رَجُلاً يَقْرَأ : { وَكَلَّمَ اللَّه مُوسَى تَكْلِيماً } ، فَقَالَ أَبُو بَكْر : مَا قَرَأَ هَذَا إِلَّا كَافِر ، قَرَأْت عَلَى الْأَعْمَش ، وَقَرَأَ الْأَعْمَش عَلَى يَحْيَى بْن وَثَّاب ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْن وَثَّاب عَلَى أَبِي عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ ، وَقَرَأَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ عَلَى عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب ، وَقَرَأَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَكَلم اللهُ موسَى تَكْلِيماً } .
وَإِنَّمَا اِشْتَدَّ غَضَب أَبِي بَكْر بْن عَيَّاش رَحِمَهُ اللَّه عَلَى مَنْ قَرَأَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّهُ حَرَّفَ لَفْظ الْقُرْآن وَمَعْنَاهُ ، وَكَانَ هَذَا مِنْ الْمُعْتَزِلَة الَّذِينَ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُون اللَّه كَلَّمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ، أَوْ يُكَلِّم أَحَداً مِنْ خَلْقه ، كَمَا رُوِّينَاهُ عَنْ بَعْض الْمُعْتَزِلَة أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى بَعْض الْمَشَايِخ : { وَكَلَّمَ اللَّه مُوسَى تَكْلِيماً } ، فَقَالَ لَهُ : يَا اِبْن اخْنَا ! كَيْف تَصْنَع بِقَوْله تَعَالَى : { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبّه } [ الأعراف : 143 ] يَعْنِي أَنَّ هَذَا لَا يَحْتَمِل التَّحْرِيف وَلَا التَّأْوِيل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رّسُلاً مّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجّةٌ بَعْدَ الرّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } [ 165 ]
{ رّسُلا } أي : كل هؤلاء النبيين أرسلناهم رسلاً : { مّبَشّرِينَ } بالجنة لمن آمن .
{ وَمُنذِرِينَ } من النار لمن كفر : { لِئَلاّ } لكيلا .
{ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجّةٌ } يوم القيامة أي : معذرة يعتذرون بها قائلين : لولا أرسلت إلينا فيبين لنا شرائعك ، ويعلمنا ما لم نكن نعلم من أحكامك ، لقصور القوة البشرية عن إدراك جزئيات المصالح ، وعجز أكثر الناس عن إدراك كلياتها ، كما في قوله عز وجل : { وَلَوْ أَنّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتّبِعَ آيَاتِكَ } [ طه : 134 ] الآية .
وإنما سميت حجة ، مع استحالة أن يكون لأحد عليه ، سبحانه ، حجة في فعل من أفعاله ، بل له أن يفعل ما يشاء كما يشاء - للتنبيه على أن المعذرة في القبول عنده تعالى ، بمقتضى كرمه ورحمته لعباده ، بمنزلة الحجة القاطعة التي لا مرد لها ، ولذلك قال تعالى : { وَمَا كُنّا مُعَذّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] ، ، أفاده أبو السعود .
وفي الصحيحين عن المغيرة : < لاَ أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ المرسلين مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ > .
وقوله تعالى : { بَعْدَ الرّسُلِ } أي : بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب .
متعلق بـ ( حجة ) أو بمحذوف وقع صفة لها ، وفيه دليل على أن الله تعالى لا يعذب الخلق قبل بعثة الرسل ، كما قال تعالى : { وَمَا كُنّا مُعَذّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] ، وفيه دليل لمذهب أهل السنة على أن معرفة الله تعالى ، لا تثبت إلا بالسمع : { وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً } يعني في انتقامه ممن خاف أمره وعصى رسله : { حَكِيماً } في بعث الرسل للإنذار .
تنبيه :
أشارت الآية إلى بيان حاجة البشر إلى إرسال الرسل ، وإلى وظيفتهم عليه السلام ، قال العلامة السيد محمد عبده ، مفتي مصر في " رسالة التوحيد " في هذا المبحث : أفليس من حكمة الصانع الحكيم الذي أقام أمر الإِنسَاْن على قاعدة الإرشاد والتعليم ، الذي خلق الإِنسَاْن وعلمه البيان ، علمه الكلام للتفاهم والكتاب للتراسل - أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يُعِدّ لها ، بمحض فضله ، بعض من يصطفيه من خلقه ؟ وهو أعلم حيث يجعل رسالته ، يميزهم بالفطر السليمة ويبلغ بأرواحهم من الكمال ما يلقون معه للاستشراق بأنوار علمه ، والأمانة على مكنون سره ، مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم ، لفاضت له نفسه أو ذهبت بعقله جلالته وعظمه ، فيشرفون على الغيب بإذنه ، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه ، ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العاملين ، نهاية الشاهد وبداية الغائب ، فهم في الدنيا كأنهم ليسوا من أهلها ، وهم وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها ثم يتلقون من أمره عن جلاله ، وما خفي على العقول من شؤون حضرته الرفيعة ، بما يشاء أن يعتقده العباد فيه ، وما قدر أن يكون له مدخل في سعادتهم الأخروية ، وأن يبينوا للناس من أحوال الآخرة ما لا بد لهم من علمه ، معبرين عنه بما تحتمله طاقة عقولهم ، ولا يبعد عن متناول أفهامهم ، وأن يبلغوا عنه شرائع عامة ، تحدد لهم سيرهم في تقويم نفوسهم ، وكبح شهواتهم ، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم ، في ذلك الكون المغيب عن مشاعرهم بتفصيله ، اللاصق علمه بأعماق ضمائرهم في إجماله ، ويدخل في ذلك جميع الأحكام المتعلقة بكليات الأعمال ظاهرة وباطنة ، ثم يؤيدهم بما لا تبلغه قوى البشر من الآيات ، حتى تقوم بهم الحجة ويتم الإقناع بصدق الرسالة ، فيكونون بذلك رسلاً من لدنه إلى خلقه ، مبشرين ومنذرين .
لا ريب أن الذي أحسن كل شيء خلقه ، وأبدع في كل كائن صنعه ، وجاد على كل حي بما إليه حاجته ، ولم يحرم من رحمته حقيراً ولا جليلاً من خلقه - يكون من رأفته بالنوع الذي أجاد صنعه ، وأقام له من قبول العلم ما يقوم مقام المواهب التي اختص بها غيره - أن ينقذه من حيرته ، ويخلصه من التخبط في أهم حياتيه والضلال في أفضل حاليه .
يقول قائل : ولِمَ لَمْ يودع في الغرائز ما تحتاج إليه من العلم ، ولم يضع فيها الانقياد إلى العمل ، وسلوك الطريق والمؤدية إلى الغاية في الحياة الآخرة ؟ وما هذا النحو من عجائب الرحمة في الهداية والتعليم ؟ وهو قول يصدر عن شطط العقل ، والغفلة عن موضوع البحث وهو النوع الإِنسَاْني ، ذلك النوع ، على ما به ، وما دخل في تقويم جوهره من الروح المفكر ، وما اقتضاه ذلك من الاختلاف في مراتب الاستعداد باختلاف أفراده ، وأن لا يكون كل فرد منه مستعداً لكل حال بطبعه ، وأن يكون وضع وجوده على عماد البحث والاستدلال ، فلو أُلْهِمَ حاجاته كما تلهم الحيوانات ، لم يكن هو ذلك النوع ، بل كان إما حيواناً آخر ، كالنحل والنمل ، أو مَلَكاً من الملائكة ، ليس من سكان هذه الأرض .
ثم قال : إن كان الإِنسَاْن قد فطر على أن يعيش في جملة ، ولم يمنح مع تلك الفطرة ما منحه النحل وبعض أفراد النمل مثلاً ؛ من الإلهام الهادي إلى ما يلزم لذلك ، وإنما ترك إلى فكره يتصرف فيه ، كما فطر على الشعور بقاهر تنساق نفسه بالرغم عنها إلى معرفته ، ولم يفض عليه ، مع ذلك الشعور ، عرفانه بذات ذلك القاهر ولا صفاته ، وإنما ألقي به في مطارح النظر تحمله الأفكار في مجاريها ، وترمي به إلى حيث يدري ولا يدري ، وفي كل ذلك الويل على جامعته ، والخطر على وجوده ، أفهل مني هذا النوع بالنقص ، ورزئ بالقصور عن مثل ما بلغه أضعف الحيوانات وأحطها في منازل الوجود ؟ أنعم ، هو كذلك ، لولا ما أتاه الصانع الحكيم من ناحية ضعفه .
الْإِنْسَاْن عجيب في شأنه : يصعد بقوة عقله إلى أعلى مراتب الملكوت ؛ ويطاول بفكره أرفع معالم الجبروت ، ويسامي بقوته ما يعظم عن أن يسامي من قوى الكون الأعظم ، ثم يصغر ويتضاءل وينحط إلى أدنى درك من الاستكانة والخضوع ، متى عرض له أمرٌ ما ، لم يعرف سببه ولم يدرك منشأه ، ذلك لسر عرفه المستبصرون ، واستشعرته نفوس الناس أجمعين .
من ذلك الضعف قيد إلى هواه ، ومن تلك الضعة أخذ بيده إلى شرف سعادته ، أكمل الواهب الجواد لجملته ، ما اقتضته حكمته في تخصيص نوعه ، بما يميزه عن غيره أن ينقص من أفراده ، وكما جاد على كل شخص بالعقل المصرف للحواس ، لينظر في طلب اللقمة ، وستر العورة والتوقي من الحر والبرد - جاد على الجملة بما هو أمس بالحاجة في البقاء ، وآثر في الوقاية من غوائل الشقاء ، وأحفظ لنظام الاجتماع الذي هو عماد كونه بالإجماع ، من عليه بالنائب الحقيقي عن المحبة ، بل الراجع بها إلى النفوس التي أقفرت منها ، لم يخالف سنته فيه ، من بناء كونه على قاعدة التعليم والإرشاد ، غير أنه أتاه مع ذلك من أضعف الجهات فيه ، وهي جهة الخضوع والاستكانة ، فأقام له من بين أفراده مرشدين هادين ، وميزهم من بينها بخصائص في أنفسهم لا يشركهم فيها سواهم ، وأيد ذلك ، زيادة في الإقناع ، بآيات باهرات تملك النفوس ، وتأخذ الطريق على سوابق العقول ، فيستخذي الطامح ، ويذل الجامح ، ويصطدم بها عقل العاقل فيرجع إلى رشده ، وينبهر لها بصر الجاهل فيرتد عن غيه ، يطرقون القول بقوارع من أمر الله ، ويدهشون المدارك ببواهر من آياته ، فيحيطون العقول بما لا مندوحة من الإذعان له ، ويستوي في الركون لما يجيئون به المالك والمملوك ، والسطلان والصعلوك ، والعاقل والجاهل ، والمفضول والفاضل ، فيكون الإذعان لهم أشبه بالاضطراري منه بالاختياري النظري ، يعلمونهم ما شاء الله أن يصلح به معاشهم ومعادهم ، وما أراد أن يعلموه من شؤون ذاته وكمال صفاته وأولئك هم الأنبياء والمرسلون ، فبعثه الأنبياء ، صلوات الله عليهم ، من متممات كون الإِنسَاْن ، ومن أهم حاجاته في بقائه ، ومنزلتها من النوع منزلة العقل من الشخص ، نعمة أتمها الله : { لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجّةٌ بَعْدَ الرّسُلِ } .
ثم قال ، في الكلام على وظيفة الرسل عليهم السلام : تبين مما تقدم في حاجة العالم الْإِنْسَاْني إلى الرسل ، أنهم من الأمم بمنزلة العقول من الأشخاص ، وأن بعثتهم حاجة من حاجات العقول البشرية ، قضت رحمة المبدع الحكيم بسدادها ، ونعمة من واهب الوجود ميز بها الإِنسَاْن عن بقية الكائنات من جنسه ، ولكنها حاجة روحية ، وكل ما لامس الحس منها ، فالقصد فيه إلى الروح وتطهيرها من دنس الأهواء الضالة وتقديم ملكاتها ، أو إيداعها ما فيه سعادتها في الحياتين ، أما تفضيل طرق المعيشة ، والحذق في وجوه الكسب ، وتطاول شهوات العقل إلى درك ما أُعد للوصول إليه ، من أسرار العلم - فذلك مما لا دخل للرسالات فيه ، إلا من وجه العظة العامة ، والإرشاد إلى الاعتدال فيه ، وتقرير أن شرط ذلك كله أن لا يُحدث ريباً في الاعتقاد بأن للكون إلهاً واحداً قادراً عالماً حكيماً متصفاً بما أوجب الدليل أن يتصف به ، وباستواء نسبة الكائنات إليه في أنها مخلوقة له وصنع قدرته ، وإنما تفاوتها فيما اختص به بعضها من الكمال ، وشرطه أن لا ينال شيء من تلك الأعمال السابقة أحداً من الناس بشرٍ في نفسه أو عرضه أو ماله ، بغير حق يقتضيه نظام عامة الأمة ، على ما حدد في شريعتها .
يرشدون العقل إلى معرفة الله وما يجب أن يعرف من صفاته ، ويبينون الحد الذي يجب أن يقف عنده في طلب ذلك العرفان ، على وجه لا يشق عليه الاطمئنان إليه ، ولا يرفع ثقته بما آتاه الله من القوة ، يجمعون كلمة الخلق على إله واحد لا فرقة معه ، ويخلون السبيل بينهم وبينه وحده ، وينهضون نفوسهم إلى التعلق به في جميع الأعمال والمعاملات ؛ ويذكرونهم بعظمته ، بفرض ضروب من العبادات ، فيما اختلف من الأوقات ، تذكرة لمن ينسى ، وتزكية مستمرة لمن يخشى ، تُقوي ما ضعف منهم ، وتزيد المستيقن يقيناً .
يبينون للناس ما اختلفت عليه عقولهم وشهواتهم وتنازعته مصالحهم ولذاتهم ، فيفصلون في تلك المخاصمات بأمر الله الصادع ، ويؤيدون ، بما يبلغون عنه ، ما تقوم به المصالح العامة ، ولا تفوت به المنافع الخاصة ، يعودون بالناس إلى الألفة ، ويكشفون لهم سر المحبة ، ويستلفتونهم إلى أن فيها انتظام شمل الجماعة ، ويقرضون عليهم مجاهدة أنفسهم ، ليستوطنوها قلوبهم ، ويشعروها أفئدتهم ، يعلمونهم لذلك أن يرعى كلٌّ حق الآخر ، وإن كان لا يغفل حقه ، وأن لا يتجاوز في الطلب حده ، وأن يعين قويهم ضعيفهم ، ويمد غنيهم فقيرهم ، ويهدي راشدهم ضالهم ، ويعلم عالمهم جاهلهم :
يضعون لهم بأمر الله حدوداً عامة ، يسهل عليهم أن يردوا إليها أعمالهم ، كاحترام الدماء البشرية إلا بحق ، مع بيان الحق الذي يبيح تناوله ، واحترام الأعراض ، مع بيان ما يباح وما يحرم من الأبضاع ، ويشرعون لهم مع ذلك أن يقوموا أنفسهم بالملكات الفاضلة كالصدق والأمانة والوفاء بالعقود والمحافظة على العهود والرحمة بالضعفاء والإقدام على نصيحة الأقوياء والاعتراف لكل مخلوق بحقه بلا استثناء .
يحملونهم على تحويل أهوائهم عن اللذائذ الفانية ، إلى طلب الرغائب السامية ، آخذين في ذلك كله بطرف من الترغيب والترهيب والإنذار والتبشير حسبما أمرهم الله جل شأنه .
يفضلون في جميع ذلك للناس ما يؤهلهم لرضا الله عنهم ، وما يعرضهم لسخطه عليهم .
ثم يحيطون بيانهم بنبأ الدار الآخرة ، وما أعد الله فيها من الثواب وحسن العقبى ، لمن وقف عند حدوده ، وأخذ بأوامره ، وتجنب الوقوع في محظوراته ، يعلمونهم من أنباء الغيب ما أذن الله لعباده في العلم به ؛ مما لو صعب على العقل اكتناهه ، لم يشق عليه الاعتراف بوجوده .
بهذا تطمئن النفوس وتثلج الصدور ، ويعتصم المرزوء بالصبر ، انتظاراً لجزيل الأجر ، أو إرضاء لمن بيده الأمر ، وبهذا ينحل أعظم مشكل في الاجتماع الْإِنْسَاْني ، لا يزال العقلاء يجهدون أنفسهم في حله إلى اليوم .
ليس من وظائف الرسل ما هو عمل المدرسين ومعلمي الصناعات ، فليس مما جاءوا له تعليم التاريخ ، ولا تفصيل ما يحويه عالم الكواكب ، ولا بيان ما اختلف من حركاتها ، ولا ما استكن من طبقات الأرض ؛ ولا مقادير الطول فيها والعرض ، ولا ما تحتاج إليه النباتات في نموها ، ولا ما تفتقر إليه الحيوانات في إبقاء أشخاصها وأنواعها . . . . وغير ذلك مما وضعت له العلوم ، وتسابقت في الوصل إلى دقائقه الفهوم ، فإن ذلك كله من وسائل الكسب وتحصيل طرق الراحة ، هدى الله إليه البشر بما أودع فيهم من الإدراك ، يزيد في سعادة المخلصين ، ويقضي فيه بالنكد على المقصرين ، ولكن كانت سنة الله في ذلك ، أن يتبع طريقة التدرج في الكمال ، وقد جاءت شرائع الأنبياء بما يحمل على الإجماع بالسعي فيه ، وما يكفل التزامه بالوصول إلى ما أعد الله له الفطر الْإِنْسَاْنية من مراتب الارتقاء .
أما ما ورد في كلام الأنبياء من الإشارة إلى شيء مما ذكرنا في أحوال الأفلاك أو هيئة الأرض - فإنما يقصد منه ، النظر إلى ما فيه من الدلالة على حكمة مبدعه ، أو توجيه الفكر إلى الغوص لإدراك أسراره وبدائعه ، وحالهم ، عليه الصلاة والسلام ، في مخاطبة أممهم ، لا يجوز أن تكون فوق ما يفهمون ، وإلا ضاعت الحكمة في إرسالهم ، ولهذا قد يأتي التعبير الذي سيق إلى العامة ، بما يحتاج إلى التأويل والتفسير عند الخاصة ، وكذلك ما وجه إلى الخاصة ، يحتاج إلى الزمان الطويل حتى يفهمه العامة ، وهذا القسم أقل ما ورد في كلامهم ، على كل حال ، لا يجوز أن يقام الدين حاجزاً بين الأرواح ، وبين ما ميزها الله به من الاستعداد للعلم بحقائق الكائنات الممكنة بقدر الإمكان ، بل يجب أن يكون الدين باعثاً على طلب العرفان ، مطالباً لها باحترام البرهان ، فارضاً عليها أن تبذل ما تستطيع من الجهد في معرفة ما بين يديه من العوالم ، ولكن مع التزام القصد ، والوقوف في سلامة الاعتقاد عند الحد ، ومن قال غير ذلك فقد جهل الدين ، وجنى عليه جناية لا يغفرها له رب الدين . انتهى .
ولما تضمن قوله تعالى : { إِنّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } الآية ، إثبات نبوته والاحتجاج على تعنتهم عليه ، بسؤال كتاب نزل عليهم من السماء ، كأنه قيل : إنهم لا يشهدون ذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلمهِ وَالملآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً } [ 166 ]
{ لّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ } من القرآن المعجز الناطق بنبوتك ، قال الزمخشري : معنى شهادة الله بما أنزل إليه ، إثباته لصحته ، بإظهار المعجزات ، كما تثبت الدعاوي بالبينات ، إذ الحكيم لا يؤيد الكاذب ، بالمعجزة .
{ أَنزَلَهُ بِعِلمهِ } أي : وهو عالم به ، رقيب عليه ، فالظرف حال من الفاعل ، والجملة كالتفسير لما قبلها .
{ وَالملآئِكَةُ يَشْهَدُونَ } أي : بذلك : { وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً } على صحة نبوتك وإن لم يشهد غيره ، وفيه تسلية للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ قَدْ ضَلّواْ ضَلاَلاً بَعِيداً } [ 167 ]
{ إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ } أي : بما شهد الله بإنزاله ، مع اطلاعهم على إعجازه .
{ وَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ } وهو دين الإسلام ، من أراد سلوكه : { قَدْ ضَلّواْ } أي : بما فعلوا : { ضَلاَلاً بَعِيداً } لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلمواْ لم يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً } [ 168 ]
{ إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلمواْ } أي : الخلائق بإضلالهم .
{ لم يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً } لعدم استعدادهم للهداية إلى الحق والأعمال الصالحة ، التي هي طريق الجنة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلاّ طَرِيقَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً } [ 169 ]
{ إِلاّ طَرِيقَ جَهَنّمَ } أي : المؤدي إليها وهو اكتسابهم الأعمال السيئة .
{ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً } أي : هيناً لا يعسر عليه ولا يستعظمه ، ولما قرر أمر النبوة ، وبين الطريق الموصل إلى العلم بها ، ووعيد من أنكرها ، خاطب الناس عامة بالدعوة وإلزام الحجة والوعيد على الرد ، فقال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرّسُولُ بِالْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنّ لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [ 170 ]
{ يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرّسُولُ بِالْحَقّ مِن رّبّكُمْ } أي : بالهدى ودين الحق والبيان الشافي الذي يجب قبوله .
{ فَآمِنُواْ خَيْراً لّكُمْ } أي : إيماناً خيراً لكم ، أو ائتوا أمراً خيراً لكم من تقليد المعاندين .
{ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنّ لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } : أي : فهو قادر على تعذيبكم لعظم ملكوته ، أو فهو غني عنكم لا يتضرر بكفركم كما لا ينتفع بإيمانكم ، كما قال تعالى : { إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَميعاً فَإِنّ اللّهَ لَغَنِيّ حَميدٌ } [ إبراهيم : 8 ] .
{ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } في صنعه ، ولما أجاب تعالى عن شبهات اليهود وألزمهم الحجة ، جرد الخطاب للنصارى ، زجراً لهم عما هم عليه من الكفر والضلال ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاّ الْحَقّ إِنّمَا المسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلمتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لّكُمْ إِنّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لّهُ مَا فِي السّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً } [ 171 ]
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ } أي : بالإفراط في رفع شأن عيسى عليه السلام وادعاء ألوهيته ، فإنه تجاوزٌ فوق المنزلة التي أُوتِيَهَا ، وهي الرسالة ، واستفيد حرمة الغلو في الدين وهو مجاوزة الحد .
وفي الصحيح عن عُمَرَ - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال : < لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ ، فَقُولُوا : عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ > .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حماد بن لمة ، عن ثابت البُناني ، عن أنس بن مالك أن رجلاً قال : يَا مُحَمَّدُ ! يَا سَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا ! وَخَيْرَنَا وَابْنَ خَيْرِنَا ! .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : < أَيُّهَا النَّاسُ ! عَلَيْكُمْ بِتَقْوَاكُمْ [ في المطبوع : بِقَوْلِكُمْ ] وَلاَ يَسْتَهْوِيَنَّكمُ الشَّيْطَانُ ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ، وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ > ، قال ابن كثير : تفرد به من هذا الوجه .
{ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاّ الْحَقّ } أي : لا تصفوه بما يستحيل اتصافه به من الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد ، بل نزهوه عن جميع ذلك .
{ إِنّمَا المسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } صفة له مفيدة لبطلان ما وصفوه به من كونه ابناً لله تعالى .
{ رَسُولُ اللّهِ } خبر المبتدأ أعني المسيح ، أي : مقصود على مقام الرسالة لا يتخطاه .
{ وَكَلمتُهُ } أي : مكون بكلمته وأمره الذي هو ( كن ) من غير واسطة أب ولا نطفة .
{ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ } أي : أوصلها إليها وحصلها فيها بنفخ جبريل عليه السلام .
{ وَرُوحٌ مّنْهُ } أي : بتخليقه وتكوينه كسائر الأرواح المخلوقة ، وإنما أضافَهُ إلى نفسه على سبيل التشريف والتكريم كما يقال : بيت الله ، وناقة الله .
وقيل : الروح هو نفخ جبريل عليه السلام في جيب درع مريم ، فحملت بإذن الله ، سمى النفخ روحاً لأنه ريح تخرج من الروح ، وإنما أضافه إلى نفسه لأنه وجد بأمره تعالى وإذنه .
قال أبو السعود : ( من ) لابتداء الغاية مجازاً ، لا تبعيضية ، كما زعمت النصارى ، يحكى أن طبيباً نصرانياً للرشيد ، ناظَرَ عليّ بن حسين الواقديّ المروزيّ ذات يوم ، فقال له : إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى ، وتلا هذه الآية ، فقرأ الواقدي : { وَسَخّرَ لَكُم مّا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَميعاً مّنْهُ } [ الجاثية : 13 ] ، فقال : إذن يلزم أن يكون جميع تلك الأشياء جزءاً منه ، تعالى علواً كبيراً ، فانقطع النصراني واسلم ، وفرح الرشيد فرحاً شديداً ، ووصل الواقدي بصلة فاخرة .
وقيل : سمي روحاً ، لإحياءه الموتى بإذن الله ، وقيل : لإحيائه القلوب ، كما سمى به القرآن لذلك ، في قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] .
وقيل : أريد بالروح الوحي الذي أوحي إلى مريم بالبشارة .
وقيل : جرت العادة بأنهم إذا أرادوا وصف شيء بغاية الطهارة والنظافة ، قالوا : إنه روح ، فلما كان عيسى عليه السلام متكوناً من النفخ ، لا من النطفة ، وصف بالروح ، وتقديم كونه عليه السلام رسول الله في الذكر ، مع تأخره عن كونه كلمته تعالى وروحاً منه ، في الوجود - لتحقيق الحق من أول الأمر بما هو نص فيه غير محتمل للتأويل ، وتعيين مآل ما يحتمله ، وسدّ باب التأويل الزائغ . انتهى .
{ فَآمِنُواْ بِاللّهِ } وخصوه بالألوهية : { وَرُسُلِهِ } أي : جميعهم وصفوهم بالرسالة ولا تخرجوا بعضهم عن سلكهم بوصفه بالألوهية .
{ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ } أي : الآلهة ثلاثة : الله ، والمسيح ، ومريم ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَأُمي إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ } [ المائدة : 116 ] .
وقد ذكر السيد عبد الله الهندي في مناظرته مع قسيس الهند حكاية عن مناظره ؛ أنه حكى أن فرقة من النصارى تسمى ( كولى ري دينس ) كانت تقول : الآلهة ثلاثة : الأب والابن ومريم ، قال : ولعل هذا الأمر كان مكتوباً في نسخهم ، لأن القرآن كذبهم . انتهى .
أو التقدير : ولا تقولوا : الله ثلاثة ، أي : ثلاثة أقانيم ، وفي تعاليمهم المدرسية المطبوعة الآن ما نصه : أخص أسرار المسيحية سر الثالوث ، وهو إله واحد في ثلاثة أقانيم : الأب والابن وروح القدس .
والأب هو الله ، والابن هو الله ، وروح القدس هو الله ، وليسوا ثلاثة آلهة ، بل إله واحد موجود في ثلاثة أقانيم متساوين في الجوهر ومتميزين فيما بينهم بالأقنومية ، وذلك لأن لهم جوهراً واحداً ولاهوتاً واحداً ، وذاتاً واحدةً ، وليس أحد هذه الأقانيم الثلاثة أعظم أو أقدم أو أقدر من الآخرين ، لكون الثلاثة متساوية في العظمة والأزلية والقدرة وفي كل شيء ، ما عدا الأقنومية ، ولا نقدر أن نفهم جيداً هذه الحقائق لأنها أسرار فائقة العقل والإدراك البشري . انتهى كلامهم في تعليمهم المدرسيّ المطبوع في بيروت سنة ( 1876 ) مسيحية .
فانظر إلى هذا التناقض والتمويه ، يعترفون بأن الثلاثة آلهة ، ثم يناقضون قولهم وينكرون ذلك .
ونقل العلامة الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه " إظهار الحق " عن صاحب " ميزان الحق " النصراني أنه قال : نحن لا نقول : إن الله ثلاثة أشخاص أو شخص واحد ، بل نقول بثلاثة أقانيم في الوحدة ، وبين الأقانيم الثلاثة وثلاثة أشخاص بُعد السماء والأرض . انتهى .
قال رحمة الله : وهذه مغالطة صرفة ، لأن الموجود لا يمكن أن يوجد بدون التشخص ، فإذا فرض أن الأقانيم موجودون وممتازون بالامتياز الحقيقي ، كما صرح هو بنفسه في كتبه ، فالقول بوجود الأقانيم الثلاثة هو بعينه القول بوجود الأشخاص الثلاثة ، على أنه وقع في الصحيفة التاسعة والعشرين من كتاب الصلاة ، الرائج في كنيسة انكلترة ، المطبوع سنة ( 1818 ) ما ترجمته : أيها الثلاثة المقدسون والمباركون والعالون منزلةً ، الذين هم واحد .
يعني ثلاثة أشخاص وإلهاً واحداً ، فوقع فيه ثلاثة أشخاص صريحاً ، وكذلك مملوءة بعبارات مصرحة بأن عيسى ابن الله ، وأنه الله ، وأن مريم أم لله وزوجه الله ، ويسجدون لها ولصورتها السجود المحرَّم في كتبهم لغير الله ، كما يسجدون لله ، نسأله سبحانه وتعالى الحفظ ، ونعوذ به من الخذلان وتسويلات الشيطان .
ولقد شفى الغليل الأستاذ الجليل الشيخ رحمة الله في " إظهار الحق " فساق ، في الباب الرابع منه ، إبطال التثليث بالبراهين الدامغة والحجج البالغة ، كما رد عليهم من المسلمين وممن أسلم منهم عدد وافر يفوت الحصر ، وقد انتشر ، والله الحمد ، في ذلك مؤلفات نافعة ، بل رد عليهم فرق كثيرة منهم .
فقد جاء في كتاب " الرأي الصواب وفصل الخطاب " للقس جبارة ما صورته : إن المسيحيين الموحدين الذين ظهروا منذ ( 80 ) سنة في أميركا ولهم الآن ثلاثمائة كنيسة والدرجة الأولى في المعارف والمدارس والاجتماعات الأدبية ، وكذلك لهم في انكلترا ثلاثمائة كنيسة وتآليف عديدة معتبرة ، ويعتبرون القرآن كما يعتبرون الإنجيل والتوراة كتباً إلهية - لا يؤمنون بتثليث الآلهة ، أي : أنهم لا يعتقدون بكون السيد المسيح أو الروح القدس هو إله حقيقي ، كالله الواجب الوجود ، بل يعتقدون أن الله وحده هو الإله الحق . انتهى .
وفيه أيضاً ما لفظه : كل الكتب المنزلة تعلم بالوحدانية وتنفي تثليث الآلهة ، أو كون الله ثلاثة ، وتعلن صريحاً بأوضح العبارة ؛ أن الله واحد أحد ، وأنه لا إله حقاً سواه . انتهى .
وفي كتاب " سوسنة سليمان " ذكر فرق منهم متعددة صارت إلى إنكار ألوهية المسيح والروح القدس ، وهذا الكتاب ساق من فرقهم العتيقة والحديثة واختلافهم ما يقضي بالعجب ، مما يؤيد ما قاله الحافظ ابن كثير ، من أن لهم آراء مختلفة وأقوالاً غير مؤتلفة ، ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال : لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا عن أحد عشر قولاً . انتهى .
قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في " الرسالة القبرصية " : فتفرق النصارى في التثليث والاتحاد تفرقاً وتشتتوا تشتيتاً لا يقر به عاقل ، ولم يجيء نقل ، إلا كلمات متشابهات في الإنجيل وما قبله من الكتب ، قد بينتها كلمات محكمات في الإنجيل وما قبل ، كلها تنطلق بعبودية المسيح وعبادته لله وحده ، ودعائه وتضرعه ، ولما كان أصل الدين هو الإيمان بالله ورسله ، كان أمر الدين توحيد الله والإقرار برسله ، فأرباب التثليث في الوحدانية ، والاتحاد في الرسالة ، قد دخل في أصل دينهم من الفساد ما هو بيّن بفطرة الله التي فطر الناس عليها ، وبكتب الله التي أنزلها . انتهى .
وقد اجتمع لديّ ، بحمده تعالى ، حين كتابة هذه السطور عشرون مؤلفاً في الرد عليهم ، وكلها ، ولله الحمد ، مطبوعة منتشرة ، فلا حاجة للإطالة بالنقل عنها ، لسهولة الوقوف عليها .
قال الماردوي في " أعلام النبوة " : فأما النصارى فقد كانوا ، قبل أن تنصر قسطنطين الملك ، على دين صحيح في توحيد الله تعالى ونبوة عيسى عليه السلام ، ثم اختلفوا في عيسى بعد تنصر قسطنطين ، وهو أول من تنصر من ملوك الروم ، أي : لأن الروم كانت صابئة ، ثم قهرهم على التنصر قسطنطين لما ملكهم .
فقال أوائل النسطورية : إن عيسى هو الله .
وقال أوائل اليعاقبة : إنه ابن الله .
وقال أوائل الملكانية : إن الآلهة ثلاثة : أحدهم عيسى .
ثم عدل أواخرهم عن التصريح بهذا القول المستنكر ، حين استنكرته النفوس ، ودفعته العقول ، فقالوا : إن الله تعالى جوهر واحد ، هو ثلاثة أقانيم : أقنوم الأب ، وأقنوم الابن ، وأقنوم روح القدس ، وأنها واحدة في الجوهرية ، وأن أقنوم الأب هو الذات ، وأقنوم الابن هو الكلمة ، وأقنوم روح القدس هو الحياة ، واختلفوا في الأقانيم ، فقال بعضهم : هي خواص ، وقال بعضهم : هي أشخاص ، وقال بعضهم : هي صفات ، وقالوا : إن الكلمة اتحدت بعيسى ، واختلفوا في الاتحاد .
ثم قال : وليس لهذه المذاهب شبهة تقبلها العقول ، وفسادها ظاهر في المعقول .
وقوله تعالى : { انتَهُواْ } أي : عن التثليث : { خَيْراً لّكُمْ } أي : انتهاء خيراً ، أو اقصدوا خيراً من التثليث وهو التوحيد .
{ إِنّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ } أي : بالذات ، لا تعدد فيه بوجه ما .
وبقوله : { سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } تنزيه لمقامه جل شأنه ، عما زعموه من نبوة عيسى ، حيث قالوا : إنه الله وابن الله ، والذي أوقعهم في هذه المهلكة الوخيمة ، والورطة الجسيمة ، ما ورد موهماً من ألفاظ الإنجيل كالأب والابن ، فلم يحملوها على ما أريد منها ، وحملوها على ظاهرها ، فضلُّوا وأضلُّوا .
وفي " منية الأذكياء " ما نصه : وأما ما ورد في الإنجيل الموجود الآن ، من إطلاق ابن الله على عيسى عليه السلام ، فهو - إن لم يكن مما حرف ، يكون مجازاً ، بمعنى ابن المحبة ، كما يقال : فلان من أبناء الدنيا ، ونظير ذلك قول عيسى عليه السلام لليهود ، حين ادعوا أن لهم أباً واحداً هو الله : ( لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني ) ، ثم قال لهم ، ( أنتم من أب هو إبليس ، وشهوات أبيكم تريدون أن تعلموا ) ادعت اليهود أن الله تعالى أبوهم ، أي : أنهم مطيعون له إطاعة الابن للأب ، فكذبهم عيسى عليه السلام وجعلهم أبناء الشيطان ، أي : أنهم مطيعون له ، ولا يخفي أن الابن والأب هنا مجازان .
وقد كثر إطلاق اسم الأب على الله تعالى ، واسم الابن على العبد الصالح ، ي الكتب السالفة ، فهو إما من الخبط في الترجمة ، وإما مؤول بما ذكرنا ، فلا تغفل ، لكن قد منع من هذا الإطلاق في الملة المحمدية بالكلية ، تحرزاً من الإيهام والوقوع في شرك الأوهام ، وهذا هو الطريق الرشد .
وقوله تعالى : { لّهُ مَا فِي السّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ } تعالى للتنزهه مما نسب إليه ، بمعنى أن كل ما فيهما خلقه وملكه ، فكيف يكون بعض ملكه جزءاً منه ؟ إذ البنوة والملك لا يجتمعان .
{ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً } أي : إليه يكل كل الخلق أمورهم ، وهو غنيّ عنهم ، فأَنَّى يتصور في حقه اتخاذ الولد ، الذي هو شأن العجزة المحتاجين في تدبير أمورهم إلى من يخلفهم ويقوم مقامهم ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لّن يَسْتَنكِفَ المسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لّلّهِ وَلاَ الملآئِكَةُ المقَرّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَميعاً } [ 172 ]
{ لّن يَسْتَنكِفَ المسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لّلّهِ } جملة مستأنفة لتقرير ما سبق من التنزيه ، أي : لن يأنف من أن يكون عبداً لله ، فإن عبوديته شرف يتباهى به .
{ وَلاَ الملآئِكَةُ المقَرّبُونَ } من أن يكونوا عبيداً له تعالى ، واحتج بالآية من زعم فضل الملائكة على الأنبياء .
قال الزمخشري : أي : ولا من هو أعلى منه قدراً وأعظم منه خطراً ، وهم الملائكة الكروبيون ، الذين حول العرش ، كجبريل وميكائيل وإسرافيل ، ومَن في طبقتهم .
ثم قال : فإن قلت : من أين دل قوله : { وَلاَ الملآئِكَةُ المقَرّبُونَ } على أن المعنى : ولا من فوقه ؟ قلت : من حيث إن علم المعاني لا يقتضي غير ذلك ، وذلك أن الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع المسيح عن منزلة العبودية ، فوجب أن يقال لهم : لن يترفع عيسى عن العبودية ، ولا من هو أرفع منه درجة ، كأنه قيل : لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية ، فكيف بالمسيح ؟ ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة ، تخصيص المقربين ، لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة ، ومثاله قول القائل :
~وما مثله من يُجَاِوِدُ حَاتِمٌ ولا البحر ذو الأمواج يَلْتَجُّ زَاخِرُهْ
لا شبهة في أنه قصد بالبحر ذي الأمواج ، ما هو فوق حاتم في الجود ، ومن كان له ذوق فليذق ، مع هذه الآية قوله : { وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النّصَارَى } [ البقرة : 120 ] ، حتى يعترف بالفرق البين . انتهى .
قال البيضاوي : وجوابه أن الآية : للرد على عَبْدة المسيح والملائكة ، فلا يتجه ذلك ، وإن سلم اختصاصها بالنصارى فلعله أراد بالعطف المبالغة باعتبار التكثير دون التكبير ، كقولك : أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرؤوس ، وإن أراد به التكبير فغايته تفضيل المقربين من الملائكة ، وهم الكروبيون الذين هم حول العرش ، أو من أعلى منهم رتبة من الملائكة ، على المسيح من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقاً والنزاع فيه . انتهى .
قال ناصر الدين في " الانتصاف " : وقد كثر الاختلاف في تفضيل الأنبياء على الملائكة ، فذهب جمهور الأشعرية إلى تفضيل الأنبياء ، وذهب القاضي أبو بكر ، منّا ، والحليمي وجماعة المعتزلة إلى تفضيل الملائكة ، واتخذ المعتزلة هذه الآية عمدتهم في تفضيل الملائكة ، من حيث الوجه الذي استدل به الزمخشريّ ، ونحن بعون الله نشبع القول في المسألة من حيث الآية ، فنقول : أورد الأشعرية على الاستدلال بها أسئلة :
أحدها : أن سيدنا محمداً عليه أفضل الصلاة والسلام أفضل من عيسى عليه الصلاة والسلام ، فلا يلزم من كون الملائكة أفضل من المسيح ، أن تكون أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام ، وهذا السؤال إنما يتوجه إذ لم يدّع مورده أن كل واحد من آحاد الأنبياء ، أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة ، وبين طائفتنا في هذه الطرف خلاف ( السؤال الثاني ) أن قوله : { وَلاَ الملآئِكَةُ المقَرّبُونَ } صيغة جمع ، تتناول مجموع الملائكة ، فهذا يقتضي كونه مجموع الملائكة أفضل من المسيح .
ولا يلزم أن يكون كل واحد منهم أفضل من المسيح ، وفي هذا السؤال أيضاً نظر ، لأن مورده إذا بنى على أن المسيح أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة ، فقد يقال يلزمه القول بأنه أفضل من الكل ، كما أن النبيّ عليه الصلاة والسلام ، لما كان أفضل من كل واحد من آحاد الأنبياء ، كان أفضل من كلهم ، ولم يفرق بين التفضيل على التفضيل ، والتفضيل على الجملة أحدٌ ممن صنف في هذا المعنى .
وقد كان بعض المعاصرين يفصل بين التفضيلين ، وادعى أنه لا يلزم منه ، على التفصيل ، تفضيل على الجملة ، ولم يثبت عنه هذا القول ، ولو قاله أحد فهو مردود بوجه لطيف ، وهو : أن التفضيل المراد ، جل أماراته رفع درجة الأفضل في الجنة ، والأحاديث متوافرة بذلك ، وحينئذ لا يخلوا إما أن ترفع درجة واحد من المفضولين على من اتفق على أنه أفضل من كل واحد منهم ، أو لا ترفع درجة أحد منهم عليه ، لا سبيل إلى الأول ، لأنه يلزم منه رفع المفضول على الأفضل ، فتعين الثاني وهو ارتفاع درجة الأفضل على درجات المجموع ، ضرورة ، فيلزم ثبوت أفضليته على المجموع من ثبوت أفضليته على كل واحد منهم ، قطعاً ، الثالث : أنه عطف الملائكة على المسيح بالواو ، وهي لا تقتضي ترتيباً ، وأما الاستشهاد بالمثال المذكور على أن الثاني أبداً يكون أعلى رتبة ، فمعارض بأمثلة لا تقتضي ذلك ، كقول القائل : ما عابني على هذا الأمر زيد ولا عَمْرو ، قلت : وكقولك لا تؤذ مسلماً ولا ذمياً ، فإن هذا الترتيب وجه الكلام ، والثاني أدنى وأخفض درجة ، ولو ذهبت تعكس هذا ، فقلت لا تؤذ ذمياً ولا مسلماً ، ليجعل الأعلى ثانياً ، لخرجت عن حد الكلام وقانون البلاغة ، وهذا المثال بين ما يورد في نقض القانون المقرر ، ولكن الحق أولى من المراء ، وليس بين المثالين تعارض ، ونحن نمهد تمهيداً يرفع اللبس ويكشف الغطاء ، فنقول : النكتة في الترتيب في المثالين الموهوم تعارضهما واحدة ، وهي توجب في مواضع تقديم الأعلى ، وفي مواضع تأخيره ، وتلك النكتة مقتضى البلاغة التنائي عن التكرار والسلامة عن النزول ، فإذا اعتمدت ذلك فمهما أدى إلى أن يكون آخر كلامك نزولاً بالنسبة إلى أوله ، أو يكون الآخر مندرجاً في الأول ، قد أفاده ، وأنت مستغن عن الآخر فأعدل عن ذلك إلى ما يكون ترقياً من الأدنى إلى الأعلى ، واستئنافاً لفائدة لم يشتمل عليها الأول ، مثاله الآية المذكورة ، فإنك لو ذهبت فيها إلى أن يكون المسيح أفضل من الملائكة وأعلى رتبة ، لكان ذكر الملائكة بعده كالمستغنى عنه ، لأنه إذا كان الأفضل وهو المسيح ، على هذا التقدير ، عبداً لله غير مستنكف من العبودية - لزم من ذلك أن من دونه في الفضيلة أولى أن لا يستنكف عن كونه عبداً لله ، وهم الملائكة على هذا التقدير ، فلم يتجدد إذاً بقوله : { وَلاَ الملآئِكَةُ المقَرّبُونَ } إلا ما سلف أول الكلام ، وإذا قدرت المسيح مفضولاً بالنسبة إلى الملائكة ، فإنك ترقيت من تعظيم الله تعالى بأن المفضول لا يستنكف عن كونه عبداً له ، إلا أن الأفضل لا يستنكف عن ذلك ، وليس يلزم من عدم استنكاف المفضول عدم استنكاف الأفضل ، فالحاجة داعية إلى ذكر الملائكة ، إذ لم يستلزم الأول الآخر ، فصار الكلام على هذا التقدير تتجدد فوائده وتتزايد ، وما كان كذلك تعين أن يحمل عليه الكتاب العزيز ، لأن الغاية في البلاغة ، وبهذه النكتة يجب أن نقول : لا تؤذ مسلماً ولا ذمياً ، فتؤخر الأدنى على عكس الترتيب في الآية ، لأنك إذا نهيته عن إيذاء المسلم ، فقد يقال ذاك من خواصه احتراماً للإسلام ، فلا يلزم من ذلك نهيه عن الكافر المسلوبة عنه هذه الخصوصية ، فإذا قلت : ولا ذميّاً - فقد جددت فائدة لم تكن في الأول ، وترقيت من النهي عن بعض أنواع الأذى ، إلى النهي عن أكثر منه ، ولو رتبت هذا المثال كترتيب الآية ، فقلت : لا تؤذ ذمياً ، فهم المنهي أن أذى المسلم أدخل في النهي ، إذ يساوي الذمي في سبب الاحترام وهو الْإِنْسَاْنية مثلاً ، ويمتاز عنه بسبب أجل وأعظم وهو الإسلام ، فيقنعه هذا النهي عن تجديد نهي آخر عن أذى المسلم .
فإن قلت : ولا مسلماً ، لم تجدد له فائدة ، ولم تعلمه غير ما علمه أولاً ، فقد علمت أنها نكتة واحدة ، توجب أحياناً تقديم الأعلى ، وأحياناً تأخيره ، ولا يميز لك ذلك إلا السياق ، وما أشك أن سياق الآية يقتضي تقديم الأدنى وتأخير الأعلى ، ومن البلاغة المرتبة على هذه النكتة قوله تعالى : { فَلاَ تَقُل لّهُمَآ أُفّ } [ الإسراء : 23 ] ، استغناء عن نهيه عن ضربهما فما فوقه ، بتقدير الأدنى ، ولم يلق ببلاغة الكتاب العزيز أن تريد نهياً عن أعلى من التأفيف والإنهار ( كذا ) ، لأنه مستغني عنه ، وما يحتاج المتدبر لآيات القرآن مع التأييد شاهداً سواها ، { مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍٍ } [ الأنعام : 38 ] ولما اقتضى الإنصاف تسليم مقتضى الآية لتفضيل الملائكة ، وكانت الأدلة على تفضيل الأنبياء عتيدة عند المعتقد لذلك ، جمع بين الآية وتلك الأدلة بحمل التفضيل في الآية على غير محل الخلاف ، وذاك أن تفضيل الملائكة في القوة وشدة البطش وسعة التمكن والاقتدار ، قال : وهذا النوع من الفضيلة هو المناسب لسياق الآية ، لأن المقصود الرد على النصارى في اعتقادهم ألوهية عيسى عليه السلام ، مستندين إلى كونه أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص ، وصدرت على يديه الخوارق ، لا يستنكف عن عبادة الله ، بل من هو أكثر خوارق وأظهر آثاراً ، كالملائكة المقربين الذين من جملتهم جبريل عليه السلام ، وقد بلغ من قوته وإقدار الله له أن اقتلع المدائن واحتملها على ريشة من جناحه ، فقلب عاليها سافلها ، فيكون تفضيل الملائكة ، إذاً ، بهذا الاعتبار ، لا خلاف أنهم أقوى وأبطش وأن خوارقهم أكثر ، وإنما الخلاف في التفضيل باعتبار مزيد الثواب والكرامات ورفع الدرجات في دار الجزاء ، وليس في الآية عليه دليل ، ولما كان أكثر ما لبس على النصارى في ألوهية عيسى كونه مخلوقاً ، أي : موجوداً من غير أب ، أنبأنا الله تعالى أن هذا الموجود من غير أب ، لا يستنكف من عبادة الله ، بل ولا الملائكة المخلوقون من غير أب ولا أم ، فيكون تأخير ذكرهم لأن خلقهم أغرب من خلق عيسى ، ويشهد لذلك أن الله تعالى نظر عيسى بآدم عليهما السلام ، فنظر الغريب بالأغرب ، وشبه العجيب من قدرته بالأعجب ، إذ عيسى مخلوق من أم ، وآدم من غير أم ولا أب ، ولذلك قال : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍٍ ثِمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عِمْرَان : 59 ] ، ومدار هذا البحث على النكتة التي نبهت عليها ، فمتى استقام اشتمال المذكور أياماً على فائدة ، لم يشتمل عليها الأول بأي طريق كان ، من تفضيل أو غيره ، من الفوائد - فقد استدّ النظر وطابق صيغة الآية والله أعلم ، وعلى الجملة فالمسألة سمعية ، والقطع فيها معروف بالنصر الذي لا يحتمل تأويلاً ، ووجوده عسر ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين . انتهى .
{ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ } أي : يأنف منها ويمتنع .
{ وَيَسْتَكْبِرْ } أي : يتعظم عنها ويترفع .
{ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَميعاً } أي : فيجمعهم يوم القيامة لموعدهم الذي وعدهم ، ويفصل بينهم بحكمه العدل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مّن فَضْلِهِ وَأَمّا الّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يجدُونَ لَهُم مّن دُونِ اللّهِ وَلِيّا وَلاَ نَصِيراً } [ 173 ]
{ فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ } فلم يستكبروا عن عبودتيه : { وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ } فلم يستنكفوا عن عبادته .
{ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ } أي : ثواب أعمالهم من غير أن ينقص منها شيء .
{ وَيَزيدُهُم } أي : على أجورهم شيئاً عظيماً : { مّن فَضْلِهِ } بتضعيفها أضعافاً مضاعفة ، مبالغة في إعزازهم .
{ وَأَمّا الّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ } أي : عن عبادة الله عز وجل : { فَيُعَذّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً } هو عذاب النار .
{ وَلاَ يجدُونَ لَهُم مّن دُونِ اللّهِ وَلِيّا } يواليهم ليعزهم : { وَلاَ نَصِيراً } ينصرهم ويدفع عنهم العذاب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مّن رّبّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مّبِيناً } [ 174 ]
{ يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مّن رّبّكُمْ } لما بيّن تعالى بطلان ما عليه الكفرة على طبقاتهم من فنون الكفر والضلال ، عمم الخطاب ودعا جميع الناس إلى الاعتراف برسالة محمد عليه الصلاة والسلام ، وسماه برهاناً لما أوتيه من البراهين القاطعة التي شهدت بصدقه ، ففيه تنبيه لهم على أن الحجة قد تمت ببعثته ، فلم يبق بعد ذلك علة لمتعلل .
قال أبو السعود : التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين ، لإظهار اللطف بهم والإيذان بأن مجيئه إليه لتربيتهم وتكميلهم .
{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مّبِيناً } أي : ضياء واضحاً على الحق ، يهتدي به من ظلمات الضلال ، وهو القرآن .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍٍ مّنْهُ وَفَضْلٍٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً } [ 175 ]
{ فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ } أي : عصموا به أنفسهم مما يُردِيها من زيغ الشيطان .
{ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍٍ مّنْهُ } وهي الجنة : { وَفَضْلٍٍ } يتفضل به عليهم بعد إدخالهم الجنة ، كالنظر إلى وجهه الكريم وغيره من مواهبه الجليلة .
{ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً } فيسلكهم ، بتمسكهم بالبرهان والنور المبين ، الطريق الواضح القصد ، وهو الإسلام ، وتقديم ذكر الوعد بإدخال الجنة ، على الوعد بالهداية إليها ، على خلاف الترتيب في الوجود بين الموعودين - للمسارعة إلى التبشير بما هو المقصد الأصليّ ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لم يَكُن لّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثّلُثَانِ مِمّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلّواْ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍٍ عَلِيمٌ } [ 176 ]
{ يَسْتَفْتُونَكَ } : أي : في ميراث الكلالة ، استغنى عن ذكره لوروده في قوله سبحانه : { قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ } وقد مر تفسيرها في مطلع السورة الكريمة .
والمستفتي جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنهما - .
روى الشيخان وغيرهما عَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنهما - قَالَ : دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مَرِيضٌ ، فَتَوَضَّأَ فَصَبَّ عَلَيَّ - أَوْ قَالَ : صُبُّوا عَلَيْهِ - فَعَقَلْتُ فَقُلْتُ : لاَ يَرِثُنِى إِلاَّ كَلاَلَةٌ ، فَكَيْفَ الْمِيرَاثُ ؟ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ .
{ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ } أي : مات ، واختصاص الهلاك بميتة السوء عُرْفٌ طارئ لا يعتد به ، بدليل ما لا يحصى من الآي والأحاديث ، ولطروّ هذا العرف قال الشهاب في " شرح الشفاء " : إنه يمنع إطلاقه في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ولا يعتد بأصل اللغة القديمة ، كما لا يخفى عمن له مساس بالقواعد الشرعية والله أعلم ، كذا في " تاج العروس " .
{ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } أي : الميت ، من المال .
قال ابن كثير : تمسك به من ذهب إلى أنه ليس من شرط الكلالة انتفاء الوالد ، بل يكفي في وجود الكلالة انتفاء الولد ، وهو رواية عن عُمَر بن الخطاب ، رواها ابن جرير عنه بإسناد صحيح ، ولكن الذي يرجع إليه ، قول الجمهور .
وقضى الصديق رضي الله عنه ؛ أنه الذي لا ولد له ولا والد ، ويدل على ذلك قوله : ( وَلَهُ أُخْتٌ ) ولو كان معها أب لم ترث شيئاً ، لأنه يحجبها بالإجماع ، فدل على أنه من لا ولد له بنص القرآن ، ولا والد بالنص أيضاً ، عند التأمل أيضاً ، لأن الأخت لا يفرض لها النصف مع الوالد ، بل ليس لها ميراث بالكلية .
وروى الإمام أحمد عَنْ زَيْد بْن ثَابِت أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ زَوْج وَأُخْت لِأَبٍ وَأُمّ ؟ فَأَعْطَى الزَّوْج النِّصْف ، وَالْأُخْت النِّصْف .
فَكُلِّمَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : حَضَرْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِذَلِكَ .
وَقَدْ نَقَلَ اِبْن جَرِير وَغَيْره عَنْ اِبْن عَبَّاس وَابْن الزُّبَيْر أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ ( فِي الْمَيِّت تَرَكَ بِنْتاً وَأُخْتاً ) : إِنَّهُ لَا شَيْء لِلْأُخْتِ لِقَوْلِهِ : { إِنْ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَد وَلَهُ أُخْت فَلَهَا نِصْف مَا تَرَكَ } ، قَالَ : فَإِذَا تَرَكَ بِنْتاً فَقَدْ تَرَك وَلَداً فَلَا شَيْء لِلْأُخْتِ .
وَخَالَفَهُمَا الْجُمْهُور فَقَالُوا ( فِي الْمَسْأَلَة ) : لِلْبِنْتِ النِّصْف بِالْفَرْضِ ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْف الْآخَر بِالتَّعْصِيبِ ، بِدَلِيلٍ غَيْر هَذِهِ الْآيَة ، وَهَذِهِ الْآيَة نَقصَّتْ أَنْ يُفْرَض لَهَا فِي هَذِهِ الآية ، وَأَمَّا وِرَاثَتهَا بِالتَّعْصِيبِ ، فَلِمَا [ في المطبوع : فما ] رَوَاهُ الْبُخَارِيّ مِنْ طَرِيق سُلَيْمَان عَنْ إِبْرَاهِيم عَنْ الْأَسْوَد قَالَ : قَضَى فِينَا مُعَاذ بْن جَبَل ، عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، النِّصْف لِلْبِنْتِ وَالنِّصْف لِلْأُخْتِ ، ثُمَّ قَالَ سُلَيْمَان ( قَضَى فِينَا ) وَلَمْ يَذْكُر ( عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) .
وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ أَيْضاً عَنْ هُزَيْل بْن شُرَحْبِيل قَالَ : سُئِلَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَنْ ِبْنت ، وبْنت اِبْن ، وَأُخْت ؟ فَقَالَ : لِلبْنَت النِّصْف ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْف ، وَائتِ اِبْن مَسْعُود فَسَيُتَابِعُنِي ، فَسُئِلَ اِبْن مَسْعُود فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى فأخبرناه بقول ابن مسعود فَقَالَ : لَقَدْ ضَلَلْت إِذاً ، وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ ، أَقْضِي فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : النِّصْف لِلْبِنْتِ [ في المطبوع اللبنت ] ، وَلِبِنْتِ الِابْن السُّدُس تَكْمِلَة للثُّلُثَيْنِ ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ ، فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسَى فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَوْلِ اِبْن مَسْعُود فَقَالَ : لَا تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الْحَبْر فِيكُمْ .
وَقَوْله : { وَهُوَ يَرِثهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَد } أي : وَالْأَخ يَرِث جَمِيع مَا لَهَا إِذَا مَاتَتْ كَلَالَة وليس لها ولد أي : ولا والد ، لأنها لو كان لها ولد لم يرث الأخ شيئاً ، فإن فرض أن معه من له فرض ، صرف إليه فرضه ، كزوج أو أخ من أم ، وصرف الباقي إلى الأخ .
لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : < أَلْحِقُوا الْفَرَائِض بِأَهْلِهَا ، فَمَا أَبْقَتْ الْفَرَائِض فَلِأَوْلَى رَجُل ذَكَر > .
وقوله تعالى : { فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثّلُثَانِ مِمّا تَرَكَ } أي : فإن كان ، لمن يموت كلالة ، أختان - فرض لهما الثلثان ، وكذا ما زاد على الأختين في حكمهما ، ومن ههنا أخذ الجماعة حكم البنتين ، كما استفيد حكم الأخوات من البنات في قوله : { فَإِن كُنّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } [ النساء : 11 ] .
قوله تعالى : { وَإِن كَانُواْ } أي : من يرث بطريق الأخوة : { إِخْوَةً } أي : مختلطة .
{ رّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذّكَرِ } أي : منهم : { مِثْلُ حَظّ الأُنثَيَيْنِ } أي : مثل نصيب اثنتين من أخواته الإناث .
{ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلّواْ } أي : كراهة أن تضلوا في ذلك ، أو على تقدير ( اللام ولا ) في طرفي ( أن ) أي : لئلا تضلوا ، وقيل : ليس هناك حذف ولا تقدير ، وإنما هو مفعول ( يبين ) أي : يبين لكم ضلالكم الذي هو من شأنكم إذا خليتم وطباعكم ، لتحترزوا عنه وتتحروا خلافه ، ورجحه بعضهم بأنه من حسن الختام ، والالتفات إلى أول السورة وهو : { يَا أَيّهَا النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمْ } [ النساء : 1 ] فإنه أمرهم بالتقوى ، وبين لهم ما كانوا عليه في الجاهلية ، ولما تم تفصيله قال لهم : إني بينت لكم ضلالكم فاتقوني كما أمرتكم ، فإن الشر إذا عرف اجتنب ، والخير إذا عرف ارتكب .
قال العلامة أبو السعود : وأنت خبير بأن ذلك إنما يليق بما إذا كان بيانه تعالى على طريقة تعيين مواقع الخطأ والضلال ، من غير تصريح بما هو الحق والصواب وليس كذلك .
{ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍٍ } من الأشياء التي من جملتها أحوالكم المتعلقة بمحياكم ومماتكم .
{ عَلِيمٌ } مبالغ في العلم ، فيبين لكم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم .
تنبيهات :
الأول : اعلم أنه تعالى لما بيّن في أول السورة أحكام الأموال ، ختم آخرها بذلك أيضاً ليكون الآخر مشاكلاً للأول ، وأما وسط السورة فقد اشتمل على المناظرة مع الفرق المخالفة للدين .
الثاني : أنزل في الكلالة آيتان : إحداهما في الشتاء ، وهي التي في أول هذه السورة ، والأخرى في الصيف وهي هذه الآية ، ولهذا تسمى هذه الآية آية الصيف .
الثالث : روى البخاريّ ومسلم عن الْبَرَاءَ بْنَ عَازِب رضي الله عنهما قال : آخِرَ سُورَةٍ نزِلَتْ بَرَاءَة ، وَآخِرَ آيَةٍ نزِلَتْ : يَسْتَفْتُونَكَ ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، وهو الموفق والمعين .
وقد تم بحمده تعالى ما تيسر من " محاسن تأويل " هذه السورة الكريمة ضحوة الجمعة ، غرة صفر الخير عام ( 1320 ) في السدّة اليمنى العليا من جامع السنانية ، على يد كاتبه وجامع العبد الضعيف الذليل الجهول ، محمد جمال الدين القاسميّ ، غفر المولى له وأعانه على الإتمام .
بمنه وكرمه
ويليه الجزء الرابع ، وأوله : ( سورة المائدة ) .(/)
سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } [ 1 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } روى ابن أبي حاتم ؛ أن رجلاً أتى عبد الله بن مسعود فقال : اعهد إليّ ! فقال : إذا سمعت الله يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فأرعها سمعك ، فإنه خير يُأمر به ، أو شر يُنهى عنه .
و ( الوفاء ) ضد الغدر ، كما في " القاموس " وقال غيرة : هو ملازمة طريق المواساة ومحافظة عهود الخلطاء . يقال : وفى بالعهد وأوفى به .
قال ناصر الدين في " الانتصاف " : ورد في الكتاب العزيز : { وَفَّى } بالتضعيف في قوله تعالى : { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [ االنجم : 37 ] ، ورد : { أَوْفَى } كثيراً . ومنه : أوفوا العقود . وأما : { وَفَّى } ثلاثياً ، فلم يرد إلا في قوله تعالى : { وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ } [ التوبة : 111 ] ، لأنه بنى أفعل التفضيل من : { وَفَّى } إذ لا يبنى إلا من ثلاثيّ .
و ( العقود ) جمع عقد وهو العهد الموثق . شبه بعقد الحبل ونحوه ، وهين عقود الله التي عقدها على عباده وألزمها إياهم من مواجب التكليف .
قال عليّ بن طلحة : قال ابن عباس : يعني بالعهود ما أحل الله وما حرم ، وما فرض ، وما حدّ في القرآن كلّه ، ولا تغدروا ولا تنكثوا . وقال زيد بن أسلم : العقود ستة : عهد الله وعقد الحلف وعقد الشركة وعقد البيع وعقد النكاح وعقد اليمين . قال الزمخشريّ : والظاهر أنها عقود الله عليهم في دينه ، من تحليل حلاله وتحريم حرامه . وأنه كلام قديم مجملاً . ثم عقب بالتفصيل . وهو قوله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ } البهيمة ما لا عقل له مطلقاً ، من ذوات الأرواح أو ذوات الأربع .
قال الراغب : خص في المتعارف بما عدا السباع والطير ، وإضافتها للأنعام ، للبيان كثوب الخز . وإفرادها لإرادة الجنس . أي : أحل لكم أكل البهيمة من الأنعام . جمع ( نَعَم ) محركة وقد تسكن عينه . هي الإبل والبقر والشاء والمعز : { إِلَّا مَا يُتْلَى } يعني : رخصت لكم الأنعام كلها . إلا ما حرم عليكم في هذه السورة ، وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك .
وذلك أنهم كانوا يحرمون السائبة والبَحيرة .
فأخبر الله تعالى أنهما حلالان ، إلا ما بين في هذه السورة ، ثم قال : { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُم ْحُرُم } يعني : أحلت لكم هذه الأشياء . من غير أن تستحلوا الصيد وأنتم محرمون . فـ : { غَيْرَ } صب على الحالية من ضمير ( لكم ) . قال في " لعناية " : ولا يرد ما قيل : إنه يلزم تقيد إحلال بهيمة الأنعام بحال انتفاء حل الصيد هم حرم . وهي قد أحلت لهم مطلقاً . ولا يظهر له فائدة ، إلاَّ إذا عنى بالبهيمة الظباء وحمر الوحش وبقره ، لأنه - عدم اطراد اعتبار المفهوم - يعلم منه غيره بالطريق الأولى . لأنها إذا أحلت في عدم الإحلال لغيرها ، وهم محرمون لدفع الحرج عنهم ، فكيف في غير هذه الحال ؟ فيكون بياناً لإنعام الله عليهم بما رخص لهم من ذلك .
وبياناً لأنهم في غنيةٍ عن الصيد وانتهاك حرمة الحرم . وفي " الإكليل " : في الآية تحريم الصيد في الإحرام والحرم . لأن : { حُرُماً } بمعنى محرمين ، ويقال : أحرم أي : بحجٍّ وعمرةٍ . وأحرمََ : دخل في الحرم . انتهى .
قال بعض الزيدية : والمراد بالصيد المحرّم على المحرم . هو صيد البر . لقوله في هذه السورة : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } [ المائدة : 96 ] ، هذا إذا جعل ( حرم ) جمع ( محرم ) وهو الفاعل للإحرام ، وإن جعل للداخل في الحرم ، استوى تحريم البحريّ والبرّي . وذلك حيث يكون في الحرم نهر فيه صيد فيحرم ، لقوله تعالى : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا } [ آل عِمْرَان : 97 ] . لأنه يقال لمن دخل الحرم ، أنه محرم . كما يقال : أعرق وأنجد : إذا دخل العراق ونجداً . ويكون التحريم في مكة وحرم المدينة لما ورد من الأخبار في النهي عن صيد المدينة وأخذ شجرها . نحو : المدينة حرم من عير إلى ثور . انتهى . : { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } من تحليل وتحريم . وهو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ 2 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ } أي : معالم دينه . وهي المناسك . وإحلالها أن يتهاون بحرمتها ، وأن يُحال بينها وبين المتنسكين بها . وقد روى ابن جرير عن عِكْرِمَة والسّدّي قالا : نزلت في الحُطَم ، واسمه شريح بن هند البكريّ . أتى المدينة وَحْدَهُ . وخَلّفَ خيله خارج المدينة . ودخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له : إلامَ تدعو الناس ؟ قال صلى الله عليه وسلم : إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة . فقال : حسن . إلا أن لي أمراء لا أقطع أمراً دونهم . ولعلي أُسْلِمُ وآتي بهم . فخرج من عنده ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان . فلما خرج شريح قال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد دخل بوجه كافر ، وخرج بقفا غادر ، وما الرجل بمسلم ، فمر بسرح من سراح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز ويقول :
~قد لَفَّهَا الليلُ بِسَوَّاقٍ حُطَمْ لَيْسَ بِرَاعيِ إِبلٍ وَلاَ غَنَمْ
~وَلاَ بِجَزَّارٍ عَلَى ظَهْرِ الْوَضَمْ بَاتُوا نيَاماً وَابنُ هِنْدٍ لَمْ يَنَمْ
~بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلاَمٌ كَالزَّلَمْ خَدَلَّجُ السَّاقَيْنِ مَمْسُوحُ الْقَدَمْ
فتبعوه فلم يدركوه . فلما كان العام القابل ، خرج شريح حاجاً مع حُجاج بكر ابن وائل ، من اليمامة . ومعه تجارة عظيمة . وقد قلّد الهدي . فقال المسلمون : يا رسول الله ! هذا الحطم قد خرج حاجَّاً فَخَلِّ بيننا وبينه . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : إنه قد قلّد الهدي . فقالوا : يا رسول الله ! هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية . فأبى النبيّ صلى الله عليه وسلم . فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ } . قال ابن عباس : هي المناسك . كان المشركون يحجون ويهدون . فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم . فنهاهم الله عن ذلك .
وعن ابن عباس أيضاً : لا تحلوا شعائر الله : هي أن تصيد وأنت محرم . ويقال : شعائر الله ، شرائع دينه التي حدها لعباده . وإخلالها الإخلال بها . وظاهر أن عموم اللفظ يشمل الجميع .
{ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ } المراد به الجنس . فيدخل في ذلك جميع الأشهر الحرم .
وهي أربعة : ذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم ، ورجب . أي : لا تحلوها بالقتال فيها . وقد كانت العرب تحرم القتال فيها في الجاهلية . فلما جاء الإسلام لم يَنْقُضْ هذا الحكم . بل أكده . كذا في " لباب التأويل " .
قال ابن كثير : يعني بقوله : { وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ } ، تحريمه والاعتراف بتعظيمه ، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه ، من الابتداء بالقتال . كما قال تعالى : { يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } [ البقرة : 217 ] . وقال تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً } [ التوبة : 36 ] . وفي صحيح البخاريّ عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، في حجة الوداع : < إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض . السنة اثنا عشر شهراً . منها أربعة حرم . . . > الحديث ، وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آ خر وقت . كما هو مذهب طائفة من السلف .
وقال عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنه ، في قوله تعالى : { وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ } : يعني لا تستحلوا القتال فيه . وكذا قال مقابل وعبد الكريم بن مالك الجزري . واختاره ابن جرير أيضاً . وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ . وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم . واحتجوا بقوله تعالى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] . والمراد أشهر التسيير الأربعة .
قالوا : فلم يستثن شهراً حراماً من غيره . انتهى . وفي كتاب " الناسخ والمنسوخ " لابن حزم : إن الآية نسخت بآية السيف . ونقل بعض الزيدية في " تفسيره " عن الحسن أنه ليس في هذه السورة منسوخ . وعن أبي ميسرة : فيها ثماني عشرة فريضة . وليس فيها منسوخ . ( انتهى ) .
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عوف قال : قلت للحسن : نسخ من المائدة شيء ؟ قال : لا .
وقال الإمام ابن القيّم في " زاد المعاد " في " فصل سرية الخبط " كان أميرها أبا عبيدة بن الجراح ، وكانت في رجب ، فيما ذكره الحافظ بن سيد الناس في " عيون الأثر " .
ثم قال ، في فقه هذه القصة : إن فيها جواز القتال في الشهر الحرام . إن كان ذِكْرُ التاريخ فيها برجب ، محفوظاً . والظاهر ، والله أعلم ، أنه وهم غير محفوظ . إذ لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غزا في الشهر الحرام ، ولا أغار فيه ، ولا بعث فيه سرية . وقد عيرّ المشركون المسلمين لقتالهم فيه في أول رجب ، في قصة العلاء بن الحضرمي ، فقالوا : استحل محمد الشهر الحرام . وأنزل الله في ذلك : { يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } [ البقرة : 217 ] . ولم يثبت ما ينسخ هذا بنص يجب المصير إليه ، ولا اجتمعت الأمة على نسخه . وقد استدل على تحريم القتال في الأشهر الحرام بقوله تعالى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] . ولا حجة في هذا . لأن الأشهر الحرم هاهنا هي أشهر التسيير التي سيّر الله فيها المشركين في الأرض يأمنون فيها . وكان أولها يوم الحج الأكبر ، عاشر ذي الحجة . وآخرها عاشر ربيع الآخر . هذا هو الصحيح في الآية لوجوه عديدة ، ليس هذا موضعها . انتهى . وقوله تعالى : { وَلاَ الْهَدْيَ } أي : لا تحلوه بأن يُتعرض له بالغصب أو بالمنع عن بلوغ محله . والهدي : ما أهدي إلى الكعبة من إبل أو بقر أو شاء . وفي " الإكليل " : هذا أصل في مشروعية الإهداء إلى البيت . وتحريم الإغارة عليه . وذبحه قبل بلوغ محله . واستبدل بالآية أيضاً على منع لأكل منه .
{ وَلاَ الْقَلآئِدَ } جمع قلادة . وهي ما يقلد به الهدي . من نعل أو لحاء شجر ، ليعلم أنه هدي ، فلا يتعرض له . والمراد النهي عن التعرض لذوات القلائد من الهدي . وهي البدن . وعطفها على ( الهدي ) مع دخولها فيه ، لمزيد التوصية بها ، لمزيتها على ما عداها . إذ هي أشرف الهدي . كقوله تعالى : { وَجِبْريلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] عطفاً على الملائكة . كأنه قيل : والقلائد منه ، خصوصاً . أو النهي عن التعرض لنفس القلائد ، مبالغة في النهي عن التعرض لأصحابها . على معنى : لا تحلوا قلائدها فضلاً أن تحلوها . كما نهى عن إبداء الزينة بقوله تعالى : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُن } [ النور : 31 ] . مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها . كذا لأبي السعود .
وقال الحافظ ابن كثير : يعني لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام . فإن فيه تعظيم شعائر الله . ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام .
وليعلم أنه هدي إلى الكعبة . فيجتنبها من يريدها بسوء . وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها . فإن من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء . ولهذا لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم بات بذي الحُليَفة . وهو وادي العقيق . فلما أصبح طاف على نسائه ، وكن تسعاً . ثم اغتسل وتطّيب وصلى ركعتين . ثم أشعر هديه وقلّده . وأهلّ للحج والعمرة ، وكان هديه إبلاً كثيرة تُنيف على الستين ، من أحسن الأشكال والألوان كما قال تعالى : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } [ الحج : 32 ] .
قال بعض السلف : إعظامها استحسانها واستسمانها . قال عليّ بن أبي طالب : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن . رواه أهل السنن . وقال مقاتل : ولا القلائد ، فلا تستحلوه . وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم . قلدوا أنفسهم بالشعر والوبر . وتقلد مشركوا الحرم من لحاء شجره ، فيأمنون به . رواه أبي حاتم .
وقال عطاء : كانوا يتقلدون من شجر الحرم فيأمنون . فنهى الله عن قطع شجره وكذا قال مُطَرِّف بن عبد الله . وأمانهم بذلك منسوخ . كما روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : نُسخ من هذه السورة آيتان : آية القلائد وقوله : { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } [ المائدة : 42 ] . وبسنده إلى ابن عوف قال : قلت للحسن : نسخ من المائدة شيء ؟ قال : لا { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } أي : لا تحلوا قوماً قاصدين زيارة المسجد الحرام بأن تصدوهم أو تقاتلوهم أو تؤذوهم ، لأنه من دخله كان آمناً . وقوله تعالى : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } حال من المستكن في : { آمِّينَ } أي : قاصدين زيارته حال كونهم طالبين التجارة ورضوان الله بحجهم . ونقل ابن كثير عن ثمانية من سلف المفسرين أنه عنى بالفضل طلب الرزق بالتجارة . قال : كما تقدم في قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } [ البقرة : 198 ] . وقد ذكر عِكْرِمَة والسدي وابن جرير أن الآية نزلت في الحُطَم بن هند البكري . وتقدمت قصته . وقال ابن طلحة عن ابن عباس : كان المؤمنون والمشركون يحجون ، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحداً من مؤمن أو كافرٍ . ثم أنزل الله بعده : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } [ التوبة : 28 ] الآية . وقال تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ } [ التوبة : 17 ] . وقال : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِرِ } [ التوبة : 18 ] . فنفى المشركين من المسجد الحرام . وقال عبد الرزاق : حدثنا معمر عن قتادة في قوله : { وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } قال : منسوخ . كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج ، تقلد من الشجر ، فلم يعرض له أحد . فإذا رجع تقلد قلادة من شعر ، فلم يعرض له أحد ، وكان المشرك يومئذ لا يُصدّ عن البيت ، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت . فنسخها قوله : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] . وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله : { وَلاَ الْقَلآئِدَ } يعني أن من تقلد قلادة من الحرم ، فأمنوه . قال : ولم تزل العرب تعيِّر من أخفر ذلك . قال الشاعر :
~ألمْ تقتلا الْحِرجَيْنِ إِذْ أَعْوَرَاكُمَا يُمِرَّانِ بِالأَيْدِي اللَّحَاءَ الْمُضَفَّرَا
أفاده ابن كثير . وهذه الروايات توضح أنه عنى : ( الآمين ) : المشركين خاصة . إذا هم المحتاجون إلى نهي المؤمنين عن إحلالهم وما يفيده التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم . وكذا الرضوان من تشريفهم ، والإشعار بحصول مبتغاهم . فالسر فيه تأكيد النهي والمبالغة في استنكار المنهيّ عنه . قال الزمخشري وأبو السعود : قد كانوا يزعمون أنهم على سداد من دينهم ، وأن الحج يقربهم إلى الله تعالى . فوصفهم الله تعالى بظنهم . وذلك الظن الفاسد ، وأن كان بمعزل من استتباع رضوانه تعالى ، لكن لا بُعْدَ في كونه مداراً لحصول بعض مقاصد الدنيوية ، وخلاصهم عن المكاره العاجلة . لا سيما في ضمن مراعاة حقوق الله تعالى وتعظيم شعائره . ونقل الرازي عن أبي مسلم الأصفهاني ، أن المراد بالآية ، الكفار الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم . فلما زال العهد بسورة براءة ، زال ذلك الخطر ، ولزم المراد بقوله تعالى : { فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } . انتهى . : { و وَإِذَا حَلَلْتُمْ } أي : خرجتم من الإحرام ، أو خرجتم من الحرم إلى الحل : { فَاصْطَادُواْ } أي : فلا جناح عليكم في الاصطياد : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ } أي : لا يحملنكم على الجريمة ، شدةُ بغض قوم : { أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } . أي : لأن صدوكم عن زيارته والطواف به للعمرة . وقرئ بكسر الهمزة من ( إِن ) على أنها شرطية : { أَن تَعْتَدُواْ } أي : عليهم . قال أبو السعود : وإنما حذف ، تعويلاً على ظهوره ، وإيماء إلى أن المقصد الأصلي من النهي ، منع صدور الاعتداء عن المخاطبين ، محافظة على تعظيم الشعائر . لا منع وقوعه على القوم ، مراعاة لجانبهم ، وهو ثاني مفعولي : { يَجْرِمَنَّكُمْ } أي : لا يكسبنكم شدة بغضكم لهم ، لصدهم إياكم عن المسجد الحرام ، اعتداءكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفّي .
تنبيهات :
الأول - قال ابن كثير : لا يحملنكم بغض قوم ، قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وذلك عام الحديبية ، على أن تعتدوا حكم الله فيهم ، فتقتصوا منهم ظلماً وعدواناً ، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد . وهذه الآية كما سيأتي من قوله : { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [ المائدة : 8 ] . أن : لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل . فإن العدل واجب على كل أحد ، في كل أحد ، في كل حال .
وقال بعض السلف : ما عاملتَ من عصى الله فيك ، بمثل أن تطيع الله فيه . والعدل ، به قامت السماوات والأرض . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا سهل بن عفان ، حدثنا عبد الله بن جعفر عن زيد بن أسلم ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأصحابه ، حين صدهم المشركون عن البيت . وقد اشتد ذلك عليهم . فمر بهم ناس من المشركين من أهل المشرق ، يريدون لعمرة . فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم . فأنزل إليه هذه الآية .
الثاني : قوله : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } نهيٌ عن إحلال قوم من الآمين ، خصوا به مع اندراجهم في النهي عن إحلال الكل كافة ، لاستقلالهم بأمور ربما يتوهم كونها مصححة لإحلالهم ، داعية إليه .
الثالث - لعل تأخير هذا النهي عن قوله تعالى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ } ، مع ظهور تعلقه بما قبله ، للإيذان بأن حرمة الاعتداد لا تنتهي بالخروج عن الإحرام ، كانتهاء حرمة الاصطياد به ، بل هي باقية ما لم تنقطع علامتهم عن الشعائر بالكلية . وبذلك يعلم بقاء حرمة التعرض بسائر الآمّين ، بالطريق الأول . أفاده أبو السعود .
الرابع - دلت الآية على أن المضارّة ممنوعة . ومثله قوله عليه الصلاة والسلام : < لا ضرر ولا ضرار في الإسلام > . وقوله عليه الصلاة والسلام : < أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك > . ذكره بعض الزيدية . وفي " الإكليل " : في الآية النهي عن الاعتداء وأنه لا يُؤخذ أحد بذنب أحد .
الخامس - ( جرم ) جار مجرى ( كسب ) في المعنى وفي التعدي إلى مفعول واحد ، وإلى اثنين ، يقال : جرم ذنباً ، نحو كسبه . وجرمته ذنباً ، نحو كسبته إياه ، خلا أن ( جرم ) يستعمل غالباً في كَسْب ما لا خير فيه . وهو السبب في إيثاره ههنا على الثاني . وقد ينقل الأول من كل منها بالهمزة إلى معنى الثاني . فيقال : أخرجته ذنباً وأكسبته إياه . وعليه قراءة من قرأ : { يَجْرِمَنَّكُمْ } بضم الياء . أفاده أبو السعود .
{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } لما كان الاعتداء غالباً بطريق التظاهر والتعاون ، أمروا ، إِثر ما نهوا عنه ، بأن يتعاونوا على كل ما هو من باب البر والتقوى . ومتابعة الأمر ومجانبة الهوى . فدخل فيه ما نحن بصدده من التعاون على العفو والإغضاء عما وقع منهم ، دخولاً أولياً . ثم نهوا عن التعاون في كل ما هو من مقولة الظلم والمعاصي . فاندرج فيه النهي عن التعاون على الاعتداء والانتقام بالطريق البرهاني : أفاده أبو السعود .
قال ابن جرير : الإثم : ترك ما أمر الله بفعله . والعدوان : جواز ما حدّ الله في الدين ، ومجاوزة ما فرض الله في النفس والغير . وفي معنى الآية أحاديث كثيرة . منها عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < الدال على الخير كفاعله > . رواه البزار . وعن أبي مسعود البدريّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من دل على خير فله مثل أجر فاعله > . رواه مسلم . وعن أبي هريرة : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه . لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً . ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه . لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً > . رواه مسلم . وعن سهل بن سعد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعليّ عليه السلام ، يوم خيبر : < فوالله ! لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً ، خير لك من حمر النعم > ، متفق عليه .
وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً . قيل : يا رسول الله هذا ! نَصَرْتُه مظلوماً ، فكيف أنصره إذا كان ظالماً ؟ قال : تحجزه وتمنعه من الظلم . فذاك نصرك إِياه > . رواه الإمام أحمد والشيخان . وعن يحيى بن وثاب عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : < المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، أعظم أجراً من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم > ، رواه الإمام أحمد . وروى الطبراني والضياء المقدسي عن أوس بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < من مشى مع ظالم ليعينه ، وهو يعلم أنه ظالم ، فقد خرج من الإسلام > ، وعن النوّاس ابن سمعان قال : < سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم ؟ فقال : البر حسن الخلق . والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس > . رواه مسلم .
تنبيه : في فروع مهمة .
قال بعض الزيدية : من ثمرات الآية وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وأنه لا يجوز إعانة متعدّ ولا عاص ، فيدخل في ذلك تكثير سواد الظلمة بوجه ، من قولٍ أو فعلٍ أو أخذ ولايةٍ أو مساكنةٍ . وفي " الإكليل " : استدل المالكية بالآية على بطلان إجارة الإنسان نفسه ، لحمل خمر ونحوه ، وبيع العنب لعاصره خمراً والسلاح لمن يعصي به ، وأشباه ذلك . انتهى وهو مُتّجِهٌ . و قال شيخ الإسلام تقيّ الدين بن تيمية في كتابه " السياسة الشرعية " : ولا يحل للرجل أن يكون عوناً على ظلم . فإن التعاون نوعان : نوع على البر والتقوى ، من الجهاد وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين ، فهذا ما أمر الله به ورسوله . ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة ، فقد ترك فرضاً على الأعيان أو على الكفاية ، متوهم أنه متورع . وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع ، إذا كان كل منهما وإمساك .
والثاني - تعاون على الإثم والعدوان ، كالإعانة على دم معصوم ، أو أخذ مال معصوم ، وضرب من لا يستحق الضرب ، ونحو ذلك . فهذا الذي حرمه الله ورسوله . نعم ، إذا كانت الأموال قد أخذت بغير حق ، وتعذر ردها إلى أصحابها ، ككثير من الأموال السلطانية ، فالإعانة على صرف هذه الأموال في مصالح المسلمين ، كسداد الثغور ونفقة المقاتلة ، ونحو ذلك ، من الإعانة على البر والتقوى ، إذ الواجب على السلطان في هذه الأموال ، إذا لم يمكن معرفة أصحابها وردها عليهم ولا على ورثتهم - أن يصرفها مع التوبة ، إن كان هو الظالم ، إلى مصالح المسلمين . وإن كان غيره قد أخذها فعليه أن يفعل بها ذلك . وكذلك لو امتنع السلطان من ردها ، كان الإعانة على المسلمين . فإن مدار الشريعة على قوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] . المفسر لقوله : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عِمْرَان : 102 ] . وعلى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : < إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم > . أخرجاه في الصحيحين .
وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها ، وتبطيل المفاسد وتقليلها ، فإذا تعارضت ، كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما - هو المشروع ، والمعين على الإثم والعدوان من أعان ظالماً على ظلمه . أما من أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه ، أو على أداء المظلوم ، فهو وكيل المظلوم لا وكيل الظالم . بمنزلة الذي يقرضه أو الذي يتوكل في حمل المال له إلى الظالم . مثال ذلك : وليّ اليتيم والوقف ، إذا طلب منه مالاً ، فاجتهد في دفع ذلك بدفع ما هو أقل منه إليه أو إلى غيره بعد الاجتهاد التام في الدفع - فهو محسن ، وما على المحسنين من سبيل . وكذلك وكيل المالك من المتأدبين والكتّاب وغيرهم ، الذي يتوكل لهم في العقد والقبض ودفع ما يطلب منهم ، لا يتوكل للظالمين في الأخذ . وكذلك لو وضعت مظلمة على أهل قرية أو درب أو سوق أو مدينة ، فتوسط رجل محسن في الدفع عنهم بغاية الإمكان ، وقسّطها بينهم على قدر طاقتهم ، من غير محاباة لنفسه ولا لغيره ، ولا ارتشاء ، بل توكل لهم في الدفع عنهم والإعطاء -كان محسناً . لكن الغالب أن من يدخل في ذلك يكون وكيل الظالمين محابياً مرتشياً مخفراً لمن يريد ، وآخذاً ممن يريد وهذا من أكبر الظلمة الذين يحشرون في توابيت من نارٍ هم وأعوانهم وأشباههم ، ثم يقذفون في النار ، انتهى .
{ وَاتَّقُواْ اللّهَ } أي : اخشوه فيما أمركم ونهاكم : { إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } . يعني لمن خالف أمره . ففيه وعيد وتهديد عظيم . ثم بين تعالى المحرمات التي أشير إليها بقوله تعالى : { إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 3 ]
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } وهي ما فارقه الروح بغير سبب خارجيّ . لأنها تنجست بمفارقته من غير مطهر ، من ذكر اسم الله تحقيقاً أو تقديراً ، كإسلام الذابح . كذا في " التبصير " . وقد خص من ( الميتة ) السمك بالسنّة : فإنه حلال . مات بتذكية أو غيرها . لما رواه مالك في موطئه ، والشافعي وأحمد في مسنديهما ، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة في سننهم ، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء البحر ؟ فقال : < هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته > . وهكذا الجراد . لما سيأتي . قال الرازيّ : تحريم الميتة موافق لما في العقول . لأن الدم جوهر لطيف جداً . فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه ، وتعفن وفسد ، وحصل من أكله مضار عظيمة . انتهى .
اخرج ابن منده في كتاب ( الصحابة ) من طريق عبد الله بن جبلة بن حبان بن حجر عن أبيه عن جده حبان قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا أوقد تحت قدر فيها لحم ميتة . فأنزل تحريم الميتة فاكفأت القدر : { وَالدَّمَ } أي : المسفوح منه . لقوله تعالى في الأنعام : { أَوْ دَماً مَسْفُوحاً } [ الأنعام : 145 ] . وقد روى ابن أبي حاتم عن عِكْرِمَة عن ابن عباس أنه سئل عن الطحال ؟ فقال : كلوه . فقالوا : إنه دم . فقال إنما حرم عليكم الدم المسفوح . وكذا رواه حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد بن القاسم عن عائشة قالت : إنما نهى عن الدم السافح .
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ : حدثنا عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم عن أبيه عن بن عُمَر مرفوعاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أحل لنا ميتتان ودمان . فأما الميتتان فالسمك والجراد . وأما الدمان فالكبد والطحال > . وكذا رواه أحمد بن حنبل وابن ماجة والدار قطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم . وهو ضعيف . قال الحافظ البيهقيّ : ورواه إسماعيل بن أبي إدريس ، عن أسامة ، وعبد الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر ، مرفوعاً . قال الحافظ ابن كثير : وثلاثتهم كلهم ضعفاء . ولكن بعضهم أصلح من بعض . وقد رواه سليمان ابن بلال ، أحد الأثبات ، عن زيد بن أسلم عن ابن عمر ، فوقفه بعضهم عليه ، قال الحافظ أبو زرعة الرازي : وهو أصح . نقله ابن كثير .
أقول : أقوى مما ذكر في الحجة ، ما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن أبي أوفي قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد . وفيهما أيضاً من حديث جابر ، إن البحر ألقى حوتاً ميتاً فأكل منه الجيش . فلما قدموا قالوا للنبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال : كلوا رزقاً أخرج الله لكم . أطعمونا منه إن كان معكم . فأتاه بعضهم بشيء . وفي البخاري عن عمر في قوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ } [ المائدة : 96 ] . قال : صيده ما اصطيد . وطعامه ما رمي به . وفيه عن أبن عباس قال : طعامه ميتته .
قال ابن كثير : روى ابن أبي حاتم عن أبي أمامة وهو صُدَيّ بن عجلان قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله ، وأعرض عليهم شرائع الإسلام ، فأتيتهم . فبينما نحن كذلك ، إذ جاءوا بقصعة من دم فاجتمعوا عليها يأكلونها . فقالوا : هلم ، يا صديّ ! فكل . قال ، قلت : ويحكم ، إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم ، فأقبلوا عليه ، قالوا : وما ذاك ؟ فتلوت عليهم هذه الآية : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ } الآية . ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه . وزاد بعد هذا السياق قال : فجعلت أدعوهم إلى الإسلام ويأبون علي . فقلت : ويحكم ! اسقوني شربة من ماء فإني شديد العطش . قال ، وعلي عباءتي فقالوا : لا . ولكن ندعك حتى تموت عطشاً . قال : فاغتممت وضربت برأسي في العباء . ونمت على الرمضاء في حرّ شديد . قال ، فأتاني آت في منامي بقدح من زجاج . لم ير الناس أحسن منه . وفيه شراب لم ير الناس ألذ منه . فأمكنني منه فشربته . فلما فرغت من شرابي استيقظت ، فلا ، والله ! ما عطشت ولا عربت ( عرب كفرح فسدت معدته . قاموس ) بعد تيك الشربة .
ورواه الحاكم في مستدركه عن علي بن حماد ، عن أحمد بن حنبل بسنده إلى أبي أمامة . واد بعد قوله ( بعد تيك الشربة ) : فسمعتهم يقولون : أتاكم رجل من سراة قومكم فلم تُمْجِعُوهُ بمذقة ؟ فأتوني بمذقة فقلت : لا حاجة لي فيها . إن الله أطعمني وسقان . وأريتهم بطني ، فأسلموا عن آخرهم . انتهى .
قال الزمخشري : كان أهل الجاهلية يأكلون هذه المحرمات : البهيمة التي تموت حتف أنفها . والفصيد ، وهم الدم في المباعر ، يشوونها ويقولون : لك يُحْرَمْ من فُزْدَ لَهُ . وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة في قوله تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ } [ البقرة : 173 ] الآية .
قال المهايمي : حرم الدم لأنه متعلق الروح بلا واسطة . فأشبه النجس بالذات ، ، لا يؤثر فيه المطهر { وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } لأنه نجس في حياته بصفاته الذميمة وهي ، وإن زالت بالموت ، فهو منجَّس ولم يقبل التطهير . لأنه لما كان نجساً حال الحياة والموت ، أشبه النجس بالذات ، فكأنه زيد تنجيسه بالموت . وإنما ذكر اللحم إشارة إلى أنه ، وإن لم يكن موصوفاً في الحياة بالصفات المنجسة لروحه ، كان متنجساً بنجاسة روحه ، ثم بزوال الروح . انتهى .
قال ابن كثير : وقوله تعالى : { وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } يعني إنسيّه ووحشيه ، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم ، كما هو المفهوم من لغة العرب ومن العرف المطَّرد . وفي صحيح مسلم عن بُرَيْدَةَ بن الخَصِيب الأسلمي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم < من لعب بالنردشير ، فكأنما صبغ يده بلحم الخنزير ودمه > ، فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس ، فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به ؟ وفيه دلالة على شمول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره . وفي الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام : فقيل : يا رسول الله ! أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس ؟ فقال : لا هو حرام > : { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ } أي : نودي عليه غير اسم الله ، كما في " الصحاح " وأصل الإهلال رفع الصوت ، وكان العرب في الجاهلية يذكرون أسماء أصنامهم عند الذبح ، فحرم الله ذلك بهذه الآية .
وبقوله : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْه } [ الأنعام : 121 ] .
قال ابن كثير في الآية : أي : ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله ، فهو حرام . لأن الله تعالى أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه العظيم . فمن عدل بها عن ذلك ، وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك من سائر المخلوقات ، فإنها حرام بالإجماع . وإنما اختلف العلماء في متروك التسمية ، إما عمداً أو نسياناً ، كما سيأتي تقريره في سورة الأنعام ، إن شاء الله تعالى . وروى ابن أبي حاتم عن الجارود بن أبي سَبْرة قال : كان رجل من بني رياح يقال له : ابن نائل . وكان شاعراً . نافر غالباً ، جدَّ الفرزدق بماء بظهر الكوفة . على أن يعقر هذا مائة من إبله ، إذا وردت الماء . قاما بسيفيهما فجعلا يكشفان عراقيبها . قال : فخرج الناس على الحمرات والبغال يريدون اللحم . وعليّ بالكوفة . قال : فخرج عليّ . على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء ، وهو ينادي : يا أيها الناس ! لا تأكلوا من لحومها . فإنما أهل بها لغير الله . هذا أثر غريب . يشهد له بالصحة ما رواه أبو داود عن ابن عباس قال : < نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معاقرة الأعراب > . ثم أسند عن عِكْرِمَة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل . أفاده ابن كثير .
وفي " القاموس وشرحه " : وعاقره : فاخره وكارمه في عقر الإبل . ويقال : تعاقرا إذا عقرا إبلهما ، يتباريان بذلك ، ليرى أيهما أعقر لها . ومن ذلك معاقرة غالب بن صعصعة . أبي الفرزدق وسحيم بن وثيل الرياحيّ لما تعاقرا بصوأر . فعقر سُحَيم خمساً ثم بدا له . وعقر غالب مائة .
وفي حديث ابن عباس : لا تأكلوا من تعاقر الأعراب . فإني لا آمن أن يكون مما أهل به لغير الله .
قال ابن الأثير : هو عقرهم الإبل ، كان الرجلان يتباريان في الجود والسخاء . فيعقر هذا وهذا . حتى يعجز أحدهما الآخر . وكانوا يفعلونه رياء وسمعة وتفاخراً . ولا يقصدون به وجه الله تعالى . فشبهه بما ذبح لغير الله تعالى . انتهى .
وروى الإمام مسلم عن عليّ رضي الله عنه قال : حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات : < لعن الله من ذبح لغير الله . لعن الله من لعن والديه . لعن الله من آوى محدثاً . لعن الله من غير منار الأرض > .
وروى الإمام أحمد عن طارق بن شهاب ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < دخل الجنة رجل في ذباب ، ودخل النار رجل في ذباب . قالوا : وكيف ذلك ؟ يا رسول الله ! قال : مرّ رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئاً . فقالوا لأحدهما : قرب قال : ليس عندي شيء أقرب . قالوا له : قرب ولو ذباباً . فقرب ذباباً ، فخلوا سبيله ، فدخل النار . وقالوا للآخر : قرب . فقال : ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله عز وجل . فضربوا عنقه . فدخل الجنة > . وفي هذه القصة ترهيب من وجوه : منها كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده ، بل فعله تخلصاً من شرهم . ومنها معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين ، كيف صبر ذلك على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم . مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر . ومنها أن في هذا شاهداً للحديث الصحيح : < الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك > . كذا في كتاب " التوحيد " .
{ وَالْمُنْخَنِقَةُ } وهي التي بالخنق إما قصداً وإما اتفاقاً . بأن تتخبل في وثاقها فتموت به . قال الحسن وغيره : هي التي تختنق بحبل الصائد أو غيره . وبأي وجه اختنقت فهي حرام . وقال ابن عباس : كانت الجاهلية يخنقون الشاة . حتى إذا ماتت أكلوها . والمنخنقة من جنس الميتة ، لأنها لما ماتت ، وما سال دمها ، كانت كالميت حتف أنفه . إلا أنها فارقت الميتة بكونها تموت بسبب انعصار الحلق بالخنق ، بخلاف الميتة فإنها بلا سبب .
قال المهايمي : المنخنقة ، وإن ذكر اسم الله عليها فقد عارضه سريان خباثة الخانق إليها ، مع تنجسها بالموت : { وَالْمَوْقُوذَةُ } يعني المقتولة بالخشب . وكان أهل الجاهلية يضربون الشاة بالعصيّ . حتى إذا ماتت أكلوها . وفي " القاموس وشرحه " الوقذ شدة الضرب . وقذه يقذه وقذاً : ضربه حتى استرخى وأشرف على الموت . وشاة وقيذ وموقوذة قتلت بالخشب . وقال أبو سعيد : الوقذ الضرب على فأس القفا . فيصير هدتها إلى الدماغ ، فيذهب العقل . فيقال : رجل موقوذ . وفي الصحيح أن عديّ ابن حاتم قال : < قلت يا رسول الله ! إني أرى بالمعراض الصيد ، فأصيب . قال : إذا رميت بالمعراض فخرق فكله . وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ . فلا تأكله > .
{ وَالْمُتَرَدِّيَةُ } هي الساقطة من جبل أو في بئر ، فتموت . والتردي السقوط فهي مهواة . وهذه الثلاثة في معنى الميتة . فإنها ماتت ولم يسل دمها { وَالنَّطِيحَةُ } هي التي نطحتها أخرى فماتت . فهي حرام . وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها . وإن أرسل إنسان الناطح بذكر اسم الله . لأنه لما لم يكن بطريق الصيد المشروع ، ولم تخل من خباثة .
فائدة :
قال التبريزي في " تهذيبه " وابن قتيبة في " أدب الكاتب " : ما كان على فعيل ، نعتاً للمؤنث وهو في تأويل مفعول ، كان بغير هاء . نحو كف خضيب وملحفة غسيل . وربما جاءت بالهاء يُذْهَبُ بها مذهب الأسماء . نحو النطيحة والذبيحة والفريسة وأكيلة السبع . . . وقالوا : ملحفة جديدة . لأنها في تأويل مجدودة أي : مقطوعة . وإذا لم يجز فيه مفعول فهو بالهاء . نحو مريضة وظريفة وكبيرة وصغيرة . وجاءت أشياء شاذة . فقالوا : ريح خريق وناقة سديس وكتيبة خُصَيف .
وقال ابن السكيت : قد تأتي فعيله بالهاء وهي في تأويل مفعول بها . تخرج مخرج الأسماء ولا يُذْهب بها مذهب النعوت . نحو النطيحة والذبيحة والفريسة وأكيلة السبع ، ومررت بقتيلة بني فلان .
وقال الجوهري : إنما جاءت النطيحة بالهاء ، لغلبة الاسم عليها . وكذلك الفريسة والأكيلة والرميّة . لأنه ليس هو ( نَطَحْتُها ، فهي منطوحة ) وإنما هو الشيء في نفسه مما يُنطح والشيء مما يفرس ويؤكل .
{ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ } أي : ما عدا عليها فأكل بعضها . قال قتادة : كان أهل الجاهلية ، إذا جرح السبع شيئاً فقتله أو أكل منه ، أكلوا ما بقي منه . فحرمه الله تعالى .
قال المهايميّ : هو ، وإن أشبه الصيد ، لكنه لما أكله قصد بذلك نفسه ، فسرت خباثته فيها . انتهى . و ( السبع ) بضم الباء وفتحها وسكونها : المفترس من الحيوان . مثل الأسد والذئب والنمر والفهد . وما أشبهها مما له ناب ، ويعدو على الناس والدواب فيفترسها . وسمي ذلك لتمام قوته . وذلك أن ( السبع ) من الأعداد التامة ، وفي الآية محذوف تقديره : وما أكل السبع بعضَه . ما ذكرنا . لأن ما أكله فقد فُقِدَ .
فلا حكم له ، إنما الحكم للباقي منه . وقوله تعالى : { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } أي : ما أدركتم ذكاته من هذه المذكورات المنخنقة فما بعدها . بحيث ينسب موتها إلى الذبح دون غيره ، فإنه يتحقق فيه المطهر ، ولا يؤثر فيه السابق . لأن اللاحق ينسخه . بل هو واقع قبل تأثير السابق . إذ لا يتم التأثير إلا بالموت . أفاده المهايمي . قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : أي : إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح ، فكلوه فهو ذكيّ . وكذا روي عن سعيد بن جبير والحسن والسدّي . وروى ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عليّ ، في الآية قال : إن مصعت بذنبها ، أو ركضت برجلها ، أو طرفت بعينها ، فكل . وروى ابن جرير عن الحارث عن علي أيضاً قال : إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة ، وهي تحرك يداً أو رجلاً ، فكله . وهكذا روي عن طاوس والحسن وقتادة وعبيد بن عمير والضحاك وغير واحد ؛ أن المذكاه متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح ، فهي حلال . وهذا مذهب جمهور الفقهاء . أفاده ابن كثير .
وفي " الموطأ " : سئل مالك عن شاة تردت فتكسرّت ، فأدركها صاحبها فذبحها ، فسال الدم منها ولم تتحرك ؟ فقال مالك : إذا كان ذبحها ونَفَسُها يجري وهي تطرف ، فليأكلها .
والتذكية الذبح ، كالذكاة والذكاة . قال الراغب : حقيقة التذكية إخراج الحرارة الغريزية . ولكن خص في الشرع بإبطال الحياة على وجه دون وجه . أي : وهو قطع الحلقوم والمريء . بمُنْهرٍ للدم : من سكين وسيف وزجاج وحجر وقصب ، له حد يقطع كما السلاح المحدد . ما لم يكن سناً أو ظفراً . لحديث رافع بن خديج في الصحيحين وغيرهما قال : < قلت يا رسول الله ! إنا لاقو العدوّ غداً . وليس معنا مدى . أفنذبح بالقصب ؟ فقال : ما أنْهَرَ الدم وذُكِر اسم الله عليه ، فكلوه ليس السن والظفر ، وسأحدثكم عن ذلك : أما السن فعظم . وأما الظفر فمدى الحبشة > .
وأما حديث أبي العشراء عن أبيه : < قلت : يا رسول الله ! أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبّة ؟ قال : لو طعنت في فخذها لأجزأك > ، أخرجه أحمد وأهل السنن - ففي إسناده مجهولون . وأبو العشراء لا يعرف من أبوه . ولم يَرْو عنه غير حماد بن سلمة . فهو مجهول . كذا في " الروضة " .
وقال الحافظ ابن حجر في " التلخيص " : أبو العشراء مختلف في اسمه وفي اسم أبيه . وقد تفرد حماد بن سلمة بالرواية عنه على الصحيح . ولا يعرف حاله .
وقال في " التقريب " : أعرابيّ مجهول .
قال الترمذيّ في جامعه ، بعد سوقه لذا الحديث : قال أحمد بن منيع : قال يزيد بن هارون : هذا في الضرورة . وفي الباب عن رافع بن خديج . انتهى .
وقال ابن كثير : وهذا الحديث صحيح . ولكنه محمول على ما لا يقدر على ذبحه في الحلق واللبة . انتهى .
وتصحيحه له ، مع جهالة راويه المذكور ، فيه نظر . فإن حد الصحيح كما في " التقريب " ما اتصل إسناده بالعدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة . قال ( شارحه السيوطي ) : فخرج بقيد ( العدول ) ما نقله مجهول عيناً أو حالاً . أي : فليس بصحيح بل ضعيف .
وفي " النخبة " أن خبر الآحاد مقبول ومردود ، والثاني إما لسقط من إسناد أو طعن في راوٍ . والطعن إما لكذب أو تهمته بذلك . إلى أن قال : أو جهالته بأن لا يعرف فيه تعديل ولا تجريح معيّن . فتبصرّ .
{ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } قال الزمخشريّ : كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت . يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها . يعظمونها بذلك ويتقربون به إليها . تسمى الأنصاب .
قال ابن كثير : فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع وحرم عليهم أكل هذه الذبائح ، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله . لما في الذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله . انتهى .
وقد ورد النهي عن الذبح لله بمكان يذبح فيه لغيره تعالى . فروى أبو داود بإسناد على شرط الشيخين ، عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال : < نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة . فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ قالوا : لا . قال : فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ قالوا لا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوف بنذرك . فإنه لا وفاء لنذر في معصية اللهِ . ولا فيما لا يملك ابن آدم > .
ففيه ، انتهى المعصية قد تؤثر في الأرض . وكذلك الطاعة . وفيه المنع من النذر إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية ، ولو بعد زواله . أو عيد من أعيادهم ، ولو بعد زواله أيضاً . وإنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة لأنه نذر معصية وفيه الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ، ولو لم يقصده . كذا في " كتاب التوحيد " .
لطيفة :
( النُّصب ) بضمتين ، وضم فسكون ، إما جمعٌ ، واحده نِصَاب . ككتاب وكتب . أو مفرد جمعه أنصاب كعُنُق وأعناق . وقُفْل وأقفال . وفي " القاموس وشرحه " : النُّصُبُ : كل ما نصب وجعل علَماً . وكل ما نُصب فعبد من دون الله تعالى . والأنصاب حجارة كانت حول الكعبة تنصب فَيُهَلُّ عليها ويذبح لغير الله تعالى . وقال القتيبيّ : النصب صنم أو حجر . وكانت الجاهلية تنصبه تذبح عنده ، فيحمرّ بالدم . ومنه حديث أبي ذر في إسلامه قال : فخرجت مغشياً عليّ ثم ارتفعت كأني نُصُبٌ أحمر . يريد أنهم ضربوه حتى أَدْمَوْهُ . فصار كالنصب المحمّر بدم الذبائح . انتهى .
قال ابن جريح : كانت النصب ثلاثمائة وستين نصباً . وكانوا يذبحون عندها وينضحون ما أقبل منها إلى البيت ، بدماء تلك الذبائح . ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب .
{ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ } أي : وحرم عليكم ، أيها المؤمنون ، الاستقسام بالأزلام ، أي : طلب القسمْ والحكم بها . والأزلام جمع زَلم ( محركة ) . و ( كصُرَد ) وهي : قداح ثلاثة كانوا يستقسمون به في الجاهلية . مكتوب على أحدها : ( افعلْ ) وعلى الآخر ( لا تفعل ) والثالث غفل ، ليس عليه شيء . وقد زُلِّمت وسُوِّيت ووضعت في الكعبة . يقوم بها سدنة البيت ، فإذا أراد رجل سفراً أو نكاحاً . أتى السادن وقال : أخْرِجْ لي زلماً . فيجيلها ثم يُخرج زلماً منها . فإذا خرج قدح الأمر ، مضى على ما عزم عليه . أو النهي قعد عما أراده . أو الفارغ أعاد .
قال الزهريّ ( في معنى الآية ) : أي : تطلبوا من جهة الأزلام ما قسم لكم من أحد الأمرين . فمعنى الاستقسام هو طلب معرفة ما قسم له من الخير والشر ، مما لم يقسم له بواسطة ضرب القداح . وذكر محمد بن إسحاق وغيره ؛ أن أعظم أصنام قريش ، صنم كان يقال له هُبَل . منصوب على بئر داخل الكعبة ، فيها توضع الهدايا ، وأموال الكعبة فيه . وكان عنده سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه مما أشكل عليهم . فما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه . وفي " اللباب " : كانت أزلامهم سبع قداح مستوية مكتوب على واحد منها : ( أمرني ربي ) وعلى واحد : ( نهاني ) وعلى واحد ( منكم ) وعلى واحد ( من غيركم ) وعلى واحد : ( ملصق ) وعلى واحد ( العقل ) وعلى واحد غفل . أي : ليس عليه شيء . وكانت العرب ، في الجاهلية ، إذا أرادوا سفراً أو تجارة أو نكاحاً ، أو اختلفوا في نسب أو أمر قتيل ، أو تحمل عقل ، أو غير ذلك من الأمور العظام -جاءوا إلى هُبَل . وكانت أعظم صنم لقريش بمكة . وجاؤوا بمائة درهم . وأعطوها صاحب القداح حتى يجيلها لهم . فإن فرج ( أمرني ربي ) فعلوا ذلك الأمر . وإن خرج ( نهاني ربي ) لم يفعلوه . وإن أجالوا على نسب ، فإن خرج ( منكم ) كان وسطاً منهم . وإن خرج ( من غيركم ) كان حلفاً فيهم . وإن خرج ( ملصق ) كان على حاله . وإن اختلفوا في العقل . وهو الدين ، من خرج عليه قدح العقل تحمّله . وإن خرج غفل أجالوا ثانياً . حتى يخرج المكتوب عليه . فنهاهم الله عن ذلك وحرمه وسماه فسقاً . كما يأتي : وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة ، وجد إبراهيم وإسماعيل مصوريْن فيها . وفي أيديهما الأزلام . فقال : < قاتلهم الله ، لقد علموا أنهما لم يستقسما بهما أبداً > . وفي الصحيح أن سُرَاقَة بن مالك بن جعشم ، لما خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وهما ذاهبان إلى المدينة . مهاجرين ، قال : فاستقسمت بالأزلام : هل أضرّهم أم لا ؟ فخرج الذي أكره : لا تضرهم . قال فعصيت الأزلام واتبعتهم . ثم استقسم بها ثانية وثالثة . كل ذلك يخرج الذي يكره : لا تضرهم . وكان كذلك . وكان سُرَاقَة لم يُسلم إذ ذاك . ثم أسلم بعد ذلك .
وروى ابن مردويه عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لن يلج الدرجات من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر طائراً > : { ذَلِكُمْ فِسْقٌ } أي : خروج عن الأخذ بالطريق المشروع . والإشارة إلى الاستقسام . أو إلى تناول ما حرم عليهم . لأن المعنى : حرم عليكم تناول الميتة وكذا وكذا . فإن قلت : لم كان استقسام المسافر غيره بالأزلام ، لتعرف الحال -فسقاً ؟ قلت : لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوب . وقال : { قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } [ النمل : 65 ] . واعتقاد أن إليه طريقاً وإلى استنباطه . وقوله : أمرني ربي ونهاني ربي -افتراء على الله . وما يدريه أنه أمره أو نهاه ؟ والكهنة والمنجمون بهذه المثابة . وإن كان أراد بالرب الصنم ، فقد روي أنهم كانوا يجيلونها عند أصنامهم -فأمره ظاهر . كذا في الكشاف .
تنبيه :
في " الإكليل " استدل بهذه الآية على تحريم القمار والتنجيم والرمل وكل ما شاكل ذلك . وعداه بعضهم إلى منع القرعة في الأحكام ، وهو مردود . انتهى . أي : لتباين القصد فيهما . فإن القرعة في قسمة الغنائم وإخراج النساء ونحوها ، لتطيب نفوسهم والبراءة من التهمة في إيثار البعض . ولو اصطلحوا على ذلك جاز من غير قرعة . كما " في العناية " .
قال الحاكم : وتدل على تحريم التمسك بالفأل والزجر والتطير والنجوم . فأما التفاؤل بالخير فمباح . قال الأصمّ : ومن هذا قول المنجم : إذا طلع نجم كذا فاخرج ، وإن لم يطلع فلا تخرج .
قال الراضي بالله : ومن عمل بالأيام في السعد والنحس ، معتقداً أن لها تأثيراً ، كفر . وإن لم يعتقد أثم . وقد روى أبو داود والنسائي وابن حبان عن قطن بن قَبِيصَة ، عن أبيه ، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : < إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت > .
قال عوف أحد رواته : العيافة زجر الطير والطرق الخط يخط بالأرض . وفي " القاموس " عِفْتُ الطير عيافة : زجرتها . وهو أن تعتبر بأسمائها ومساقطها ، فَتَسَعَدّ أو تَتَشَأَّم ، وهو من عادة العرب كثيراً .
وقال أبو زيد : الطرق أن يخط الرجل في الأرض بإصبعين ثم بإصبع .
وقال ابن الأثير : الطرق الضرب بالحصى الذي تفعله النساء . وقيل : هو الخط بالرمل . والجبت : كل ما عبد من دون الله تعالى . وقد روى مسلم في صحيحه ، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < من أتى عرافاً فسأله عن شيء فصدقه ، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً > . وروى الإمام احمد وأبو داود والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم > . وعن عِمْرَان بن حصين مرفوعاً : < ليس منا من تَطَيَّر أو تُطُيِّرَ له ، أو تُكُهَّنَ له ، أو سَحَر أو سُحِرَ له . ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم الله > . رواه البزار بإسناد جيد . ورواه الطبراني في " الأوسط " بإسناد حسن من حديث ابن عباس . دون قوله : وَمَنْ أتَى الخ .
قال البغوي : العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك . وقيل : هو الكاهن . والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل . وقيل : الذي يخبر عما في الضمير . وقال أبو العباس بن تيمية : العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق . وقال ابن عباس ( في قوم يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم ) : ما أرى من فعل ذلك ، له عند الله من خلاق . وفي الأحاديث السابقة من الترهيب ما فيها من التصريح بأنه لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن ، والتصريح بأنه كفر . وعن ابن مسعود مرفوعاً . < الطيرة شرك . الشرك الطيرة . ما منا إلا . . . ولكن الله يذهبه بالتوكل > . رواه أبو داود والترمذي وصححه . وجعل آخره من قول ابن مسعود .
ولأحمد من حديث ابن عَمْرٍو : من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك . قالوا : فما كفارة ذلك ؟ قال : أن تقول : اللَّهم ! لا خير إلا خيرك ، ولا طير إلا طيرك ، ولا إله غيرك . وعن أنسم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل . قالوا : وما الفأل ؟ قال : الكلمة الطيبة > . رواه الشيخان .
ولأبي داود بسند صحيح عن عروة بن عامر قال : ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < أحسنها الفأل ولا تردّ مسلماً . فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل : اللَّهم ! لا يأتي بالحسنات إلا أنت . ولا يدفع السيئات إلا أنت . ولا حول ولا قوة إلا بك > .
فائدة :
قال الحافظ ابن كثير : قد أمر الله المؤمنين ، إذا ترددوا في أمورهم ، أن يستخيروه ، بأن يعبدوه ثم يسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه . كما رواه الإمام أحمد والبخاري وأهل السنن من طرق عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور ، كما السورة من القرآن : ويقول : < إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل : اللهم ! إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم . فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب . اللهم ! إن كنت تعلم أن هذا الأمر ( ويسميه باسمه ) خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري ( أو قال عاجل أمري ) وآجله فأقدره لي ، ويسره لي ثم بارك لي فيه . وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي ، ومعاشي ، وعاقبة أمري ، فاصرفني عنه واصرفه عني ، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به > . هذا لفظ الإمام أحمد { الْيَوْمَ يَئِسَ } أي : قنط : { الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، يعني : يئسوا أن يراجعوا دينهم . وكذا روي عن عطاء بن أبي رَبَاح والسدّيّ ومقاتل بن حيان . وعلى هذا المعنى يرد الحديث الثابت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن بالتحريش بينهم > . نقله ابن كثير . وعليه فـ ( من ) تعليلية . أي : يئسوا من مراجعة دينهم لأجل دينكم الذي ضم إليه جمهور الأمة العربية من أدناها إلى أقصاها . ودخلوا فيه أفواجاً . وللزمخشري تأويل بديع ، تابعه عليه مِن بعده ، ونحن نسوقه أيضاً . قال رحمه الله : لم يُرَدْ بقوله : { الْيَوْمَ } يوم بعينه . وإنما أريد به الزمان الحاضر ، وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية . كقولك : كنت بالأمس شاباً وأنت اليوم أشيب . فلا تريد ( بالأمس ) اليوم الذي قبل يومك ولا ( باليوم ) يومك . وقيل : أريد يوم نزولها . وقد نزلت يوم الجمعة ، وكان يوم عرفة ، بعد العصر في حجة الوداع . وقوله تعالى : { يَئِسَ } . الخ . أي : يئسوا منه أن يبطلوه وأن ترجعوا محللين لهذه الخبائث ، بعد ما حرمت عليكم . وقيل : يئسوا من دينكم أن يغلبوه . لأن الله عز وجل وفَّى بوعده من إظهاره على الدين كله .
{ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ } بعد إظهار الدين ، وزوال الخوف من الكفار ، وانقلابهم مغلوبين مقهورين ، بعدما كانوا غالبين : { وَاخْشَوْنِ } وأخلصوا لي الخشية . انتهى كلامه .
وأوضح الوجه الأول ، الرازي فقال : ليس المراد باليوم هو ذلك اليوم بعينه ، حتى يقال : إنهم ما يئسوا قبله بيوم أو يومين ، وإنما هو كلام خارج على عادة أهل اللسان معناه : لا حاجة بكم الآن إلى مداهنة هؤلاء الكفار ، لأنكم الآن صرتم حيث لا يطمع أحد من أعدائكم في توهين أمركم .
ثم بين تعالى أكبر نعمه وأعظم مننه على هذه الأمة وهو : إكماله لهم دينهم ، فلا يحتاجون إلى دين غيره ، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه . ولهذا جعله تعالى خاتم الأنبياء ، وبعثه إلى الإنس والجن ، فلا حلال إلا ما أحلّه ، ولا حرام إلا ما حرّمه ، ولا دين إلا ما شرعه . فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة . ولهذا قال : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يعني أحكامه وفرائضه ، فلا زيادة بعده ، ولم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام . هذا ما روي عن ابن عباس . وقال سعيد بن جبير وقتادة : معنى ( الإكمال ) أنه لم يحج معهم مشرك . وخلال الموسم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين . وقيل : معناه كفايتهم أمر العدوّ ، وجعل اليد العليا لهم ، كما تقول الملوك : اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد ، إذا كفوا من ينازعهم . وبما ذكرنا أولاً -من أنّ المراد بالإكمال عدم الزيادة -يندفع ما يتوهم من ثبوت النقص أولاً . ولذا قال ابن الأنباريّ ( في الآية ) : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ } شرائع الإسلام على غير نقصان كان قبل هذا الوقت . وذلك أنّ الله تعالى كان يتعبد خلقه بالشيء في وقت ثم يزيد عليه في وقت آخر . فيكون الوقت الأول تامّاً في وقته . وكذلك الوقت الثاني تامّاً في وقته . فهو كما يقول القائل : عندي عشرة كاملة ، ومعلوم أنَّ العشرين أكمل منها . والشرائع التي تعبد الله عز وجل بها عباده ، في الأوقات المختلفة ، مختلفة .
وكل شريعة منها كاملة في وقت التعبّد بها . فكمل الله عز وجل الشرائع في اليوم الذي ذكره -وهو يوم عرفة -ولم يوجب ذلك ، أنَّ الدين كان ناقصاً في وقت من الأوقات .
وللإمام القفّال نحو ذلك ، نقله عنه الرازيّ واختاره . قال : إنَّ الدين ما كان ناقصاً البتة ، بل كان أبداً كاملاً . يعني : كانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت ، إلاّ أنه تعالى كان عالماً في أول وقت المبعث بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد ولا صلاح فيه . فلا جرم كان ينسخ بعد الثبوت . وكان يزيد بعد العدم . وأما في أخر زمان المبعث فأنزل الله شريعة كاملة ، وحكم ببقائها إلى يوم القيامة . فالشرع أبداً كان كاملاً . إلا أن الأول كمال إلى زمان مخصوص . والثاني كمال إلى يوم القيامة . فلأجل هذا قال : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } يعني بإكمال الدين والشريعة . لأنه لا نعمة أتمّ من نعمة الإسلام . أو بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين . وهدم منار الجاهلية ومناسكهم ، وأن لم يحج معكم مشرك ، ولم يطف بالبيت عريان . أو بإنجاز ما وعدهم بقوله : { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } . فكان من تمام النعمة فتح مكة وما ذكرنا { وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } يعني : اخترته لكم من بين الأديان ، وآذنتكم بأنه هو الدين المرضيّ وحده { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْه } [ آل عِمْرَان : 85 ] ، أو معناه : الانقياد لأمري فيما شرعت لكم من الفرائض والأحكام والحدود ومعالم الدين الذي أكملته لكم . ومعلوم أن الإسلام لم يزل مرضيّاً للحق تعالى منذ القدم ، إلاّ أن المعنيّ به ، في الآية ، الصفة التي هو اليوم بها . وهي نهاية الكمال والبلوغ به أقصى درجاته . أي : فالزموه ولا تفارقوه : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإسْلامُ } [ آل عِمْرَان : 19 ] . . !
روى البغوي بسنده عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < قال جبريل : قال الله عز وجلّ : هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلاّ السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه > .
فوائد :
الأولى : روى الإمام أحمد والشيخان وغيرهم عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عُمَر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين ! إنكم تقرؤون آيةً في كتابكم ، لو علينا ، معشر اليهود ، نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً . قال : وأيّ آية ؟ قال : قوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } . فقال عمر : والله ! إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في يوم جمعة .
قال ابن كثير : وقد روي هذا من غير وجه عن عمر . وروى ابن جرير عن قَبِيصَة بن أبي ذئب قال : قال كعب : لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه . فقال عمر : أي : آية يا كعب ؟ فقال : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } فقال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت ، والمكان الذي أنزلت فيه . نزلت في يوم جمعة ويوم عرفة . وكلاهما بحمد الله لنا عيدٌ . وروى ابن جرير القصة أيضاً عن ابن عباس ، وأنه قال : نزلت يوم عيدين إثنين . يوم عيد ويوم جمعة . . . وروى ابن مردويه عن ابن الحنفية عن عليّ قال : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم عشية عرفة : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } . ورواه أيضاً عن سمرة . وروى ابن جرير نحوه عن معاوية . وروي عن السدّي قال : نزلت هذه الآية يوم عرفة ، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام . ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات . فقالت أسماء بنت عميس : حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراحلة . فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن . فنزلت . فأتيته فسجيت عليه بردِاً كان عليّ .
وقال ابن جرير وغيره : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوماً .
وقال ابن جرير : حدثنا سفيان بن وكيع : حدثنا ابن فضيل عن هارون بن عنترة عن أبيه قال : لما نزلت : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } -وذلك يوم الحج الأكبر -بكى عمر . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك ؟ قال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا .
فأما إذ كمل ، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص . فقال : صدقت .
قال ابن كثير : ويشد لهذا المعنى الحديث الثابت : < إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء > . انتهى .
قلت : والحديث المذكور رواه مسلم عن أبي هريرة . والترمذي عن ابن مسعود . وابن ماجة عنهما أيضاً وعن أنس ، والطبراني عن سلمان وسهل وابن عباس .
هذا ، وروى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس في الآية قال : ليس ذلك بيومٍ معلوم عند الناس . ومن طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى حجة الوداع . وروى ابن مردويه من طريق أبي هارون العبدّي عن أبي سعيد الخدري ؛ أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خمّ .
حين قال لعليّ : من كنت مولاه فعلي مولاه . ثم ورواه عن أبي هريرة وفيه : إنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة -يعني مرجعه صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع .
قال ابن كثير : ولا يصح لا هذا ولا هذا . بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية ، أنها نزلت يوم عرفة وكان يوم جمعة ، كما قدمنا عن عمر وعلي ومعاوية وابن عباس وسمرة رضي الله عنهم ، وعن ثلّة من التابعين .
الثانية : استدلّ نفاة القياس بهذه الآية ، على أنَّ القياس باطل . وذلك لأنّ الآية دلت على أنه تعالى قد نصّ على الحكم في جميع الوقائع ، إذ لو بقي بعضها غير مبيّن الحكم لم يكن الدين كاملاً ، وإذا حصل النص في جميع الوقائع ، فالقياس -إن كان على وفق ذلك النص -كان عبثاً وإن كان على خلافه كان باطلاً .
وأجاب عنه مثبتو القياس بما بسطه الرازيّ . فانظره .
الثالثة : قال صاحب " فتح البيان " : لا معنى للإكمال في الآية إلا وفاء النصوص بما يحتاج إليه الشرع . إمَّا بالنص على كل فرد ، أو باندراج ما يحتاج إليه تحت العمومات الشاملة . ومما يؤيد ذلك قوله تعالى : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 38 ] وقوله : { وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : < تركتكم على الواضحة ، ليلها كنهارها > . وجاءت نصوص الكتاب العزيز بإكمال الدين . وبما يفيد هذا المعنى ، ويصحح دلالته ، ويؤيد برهانه ، ويكفي في دفع الرأي ، وأنه ليس من الدين -قول الله تعالى هذا . فإنه إذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض إليه نبيَّه صلى الله عليه وسلم ، فما هذا الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه لأنه إن كان من الدين -في اعتقادهم -فهو لم يكمل عندهم إلا برأيهم ، وهذا فيه ردَّ للقرآن . وإن لم يكن من الدين ، فأيّ فائدة في الاشتغال بما ليس منه ؟ وما ليس منه فهو ردّ بنص السنة المطهرة . كما ثبت في " الصحيح " -وهذه حجة قاهرة ودليل باهر لا يمكن أهل الرأي أن يدفعوه بدافع أبداً . فاعل هذه الآية الشريفة أول ما تصكّ به وجوه أهل الرأي ، وترغم به آنافهم ، وتدحض به حجتهم . فقد أخبرنا الله في محكم كتابه أنه أكمل دينه . ولم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن أخبرنا بهذا الخبر عن الله عز وجل . فمن جاء بشيء من عند نفسه وزعم أنه من ديننا قلنا له : إنّ الله أصدق منك : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً } [ النساء : 122 ] . اذهب لا حاجة لنا في رأيك . وليت المقلدة فهموا هذه الآية حق الفهم حتى يستريحوا ويريحوا . وقد أخبرنا الله في محكم كتابه أن القرآن أحاط بكل شيء فقال : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء } [ الأنعام : 38 ] . وقال : { تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً } [ النحل : 89 ] . ثم أمر عباده بالحكم بكتابه فقال : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } [ المائدة : 49 ] . وقال : { لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } [ النساء : 105 ] . وقال : { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } [ الأنعام : 57 ] . وقال : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [ المائدة : 44 ] . وفي آية . . { هُمُ الظَّالِمُون } [ المائدة : 45 ] . وفي أخرى . . { هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ المائدة : 47 ] . وأمر عباده أيضاً في محكم كتابه باتباع ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [ الحشر : 7 ] . وهذه أعمّ آية في القرآن ، وأبْيَنُها في الأخذ بالسنة المطهرة ، وقال : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } [ النساء : 59 ] . وقد تكرر هذا في مواضع من الكتاب العزيز . وقال : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [ النور : 51 ] . وقال : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }
[ الأحزاب : 21 ] . والاستكثار من الاستدلال على وجوب طاعة الله وطاعة رسوله لا يأتي بعائدة . ولا فائدة زائدة ، فليس أحد من المسلمين يخالف في ذلك . ومن أنكره فهو خارج عن حزب المسلمين . وإنما أوردنا هذه الآيات الكريمة ، والبينات العظيمة تلييناً لقب الملّقد الذي قد جمد ، وصار كالجلمد . فإنه إذا سمع مثل هذه الأوامر القرآنية ، ربما امتثلها وأخذ دينه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، طاعة لأوامره . فإن هذه الطاعة ، وان كانت معلومة لكل مسلم ، لكن الإنسان قد يذهل عن القوارع الفرقانية والزواجر المحمدية ، فإذا ذُكِّرَ بها ذَكرَ . ولا سيما من نشأ على التقليد وأدرك سلفه ثابتين عليه غير متزحزحين عنه . فإنه يقع في قلبه ، أن دين الإسلام هو هذا الذي هو عليه . وما كان مخالفاً له فليس من الإسلام في شيء . فإذا راجع نفسه رجع .
ولهذا تجد الرجل إذا نشأ على مذهب من هذه المذاهب ، ثم سمع - قبل أن يتمرد بالعلم ويعرف ما قاله الناس - خلاف ذلك المألوف ، استنكره وأباه قلبه ، ونفر عنه طبعه . وقد رأينا وسمعنا من هذا الجنس ما لا يأتي عليه الحصر . ولكن إذا وازن العاقل بعقله ، بين من اتبع أحد أئمة المذاهب في مسألةٍ من مسائله التي رواها عنه المقلّد -ولا مستند لذلك العالم فيها ، بل قالها بمحض الرأي لعدم وقوفه على الدليل -وبين من تمسك في تلك المسألة بخصوصها بالدليل الثابت في القرآن والسنة ؛ أفاده العقل بأن بينهما مسافات تنقطع فيها أعناق الإبل ، لا جامع بينهما ، لأنّ من تمسك بالدليل أخذ بما أوجب الله عليه الأخذ به ، واتبع ما شرعه الشارع لجميع الأمة : أولها وآخرها ، وحيّها وميتها . . . ! والعالم يمكنه الوقوف على الدليل من دون أن يرجع إلى غيره . والجاهل يمكنه الوقوف على الدليل بسؤال علماء الشريعة ، واسترواء النص ، وكيف حكم الله في محكم كتابه أو على لسان رسوله في تلك المسألة . فيفيدونه النص إن كان ممن يعقل الحدة إذا دل عليها ، أو يفيدونه مضمون النص بالتعبير عنه بعبارة يفهمها . فهم رواة وهو مستروٍ ، وهذا عامل بالرواية لا بالرأي ؛ والمقلد عامل بالرأي لا بالرواية . لأنه يقبل قول الغير من دون أن يطالبه بحجة . وذلك في سؤاله يطالب بالحجة لا بالرأي ، فهو قابل لرواية الغير لا لرأيه . وهما من هذه الحيثية متقابلان ، فانظر كم الفرق بين المنزلتين ؟ والكلام في ذلك يطول ويستدعي استغراق الأوراق الكثيرة . وهو مبسوط في مواطنه ، وفيما ذكرناه مقنع وبلاغ ، وبالله التوفيق . انتهى كلامه . الرابعة : قال بعض الزيدية : ثمرة الآية تعظيم هذا اليوم المذكور ، وأنه يلزم الشكر لله تعالى على التمسك بملّة الإسلام .
وقوله تعالى : { فَمَنِ اضْطُرَّ } متصل بذكر المحرمات . وما بينهما اعتراض بما يوجب أن يجتنب عنه . وهو أنَّ تناولها فسوق ، وحرمتها من جملة الدين الكامل ، والنعمة التامة ، والإسلام المرضيّ . ومعناه : فمن اضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات : الميتة وما بعدها ، أي : أصيب بالضر الذي لا يمكنه الامتناع معه من الميتة وما بعدها : { فِي مَخْمَصَةٍ } أي : مجاعة يخاف معها الموت أو مبادئه -و ( المخمصة ) : مصدر مثل المَغْضبة والمَعْتبةً . يقال : خمصه الجوع خمصاً ومخمصة ، وخمص البطن ( مثلثة الميم ) خلا { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ } أي : غير منحرف إليه بالأكل فوق الضرورة ، أو العصيان بالسفر . كقوله تعالى : { غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ } [ البقرة : 173 ] { فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لتناوله الحرام -فلا يؤاخذه به : { رَّحِيمٌ } أي : بإعطائه الرخصة فيه لعلمه بحاجة عبده المضطر ، وافتقاره إلى ذلك ، فيتجاوز عنه ويغفر له . وفي " المسند " و " صحيح " ابن حبان عن ابن عمر -مرفوعاً -قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته > . لفظ ابن حبان . وفي لفظ لأحمد : < من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة > ولهذا قال الفقهاء : قد يكون تناول الميتة واجباً في بعض الأحيان ، وهو ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها . وقد يكون مندوباً ، وقد يكون مباحاً ، بحسب الأحوال . واختلفوا : هل يتناول منها قدر ما يسد به الرمق ، أو له أن يشبع ويتزود ؟ على أقوال . وليس من شرط تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاماً -كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم -بل متى اضطر إلى ذلك جاز له . وقد روى الإمام أحمد عن أبي واقد الليثي ؛ أنهم قالوا : يا رسول الله ! إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة . فمتى تحل لنا بها الميتة ؟ فقال : < إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بقلاً ، فشأنكم بها . > . إسناده صحيح على شرط الشيخين ، والاصطباح : شرب اللبن بالغداة فما دون القائلة ، وما كان منه بالعشي فهو الاغتباق ، ومعنى لم تحتفئوا : أي : تقتلعوا . وفي اللفظة عدة روايات وروى أبو داود عن الفجيع العامريّ : أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < ما يحل لنا من الميتة ؟ قال : ما طعامكم ؟ ، قلنا : نصطبح ونغتبق ! قال أبو نعيم : فسره لي عقبة : قدح غدوة وقدح عشية ، قال : ذاك ، وأبي ! الجوع . فأحل لهم الميتة على هذه الحال > . تفرد به أبو داود . وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئاً لا يكفيهم . فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم . وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حدّ الشبع ، ولا يتقيد ذلك بسد الرمق . والله أعلم .
وروى أبو داود عن جابر بن سمرة أن رجلاً نزل الحَرَّة ومعه أهله وولده . فقال رجل : إنّ ناقة لي ضلت . فإن وجدتها فأمسكها ، فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت . فقالت له امرأته : انحرها ! فأبى ، فنفقت ، فقالت اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها ونأكله ، فقال : حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأتاه ، < فسأله ، فقال له : هل عندك غنى يغنيك ؟ قال : لا ! قال : فكلوها ! قال : فجاء صاحبها فأخبره الخبر فقال : هلا كنت نحرتها ؟ قال : استحييت منك ! > تفرد به .
وقد يحتج به من يجوّز الأكل والشبع والتزود منها مدة ، يغلب على ظنه الاحتياج إليها . والله أعلم . أفاده ابن كثير . وقوله : ( فَنَفَقَتْ ) . أي : ماتت . ( من باب نصر وفرح ) قال ابن برّي : أنشد ثعلب :
~فما أشياء نشريها بمال فإن نفقت فأكسد ما تكون ؟
تنبيه :
قال بعض المفسرين : ليس في هذه الآية بيان لتقديم أحدها . والفقهاء يقولون : يقدم الأخف تحريماً ، فميته المأكول على ميتة غيره . انتهى .
وفي " رحمة الأمة " أنّ المضطر إذا وجد ميتة وطعام الغير ، ومالكه غائب ، أنّ له أكله بشرط الضمان ، دون الميتة . عند مالك وأكثر أصحاب الشافعي وجماعة من الحنفية . وعند أحمد وآخرين : يأكل الميتة .
قال ابن كثير : قد استدل بقوله تعالى : { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ } من يقول بأنّ العاصي بسفره لا بترخص بشيءٍ من رخص السفر ، لأنَّ الرخص لا تنال بالمعاصي . والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ 4 ] .
{ يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُم } أي : من المطاعم : { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } أي : ما ليس بخبيث منها . وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتابه أو سنة . و ( الطيِّب ) في اللغة هو المستلذ . و ( الحلال ) المأذون فيه ، يسمى طيباً تشبيهاً بما هو مستلذ . لأنهما اجتمعا في انتفاء المضرة : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ } عطف على ( الطيبات ) بتقدير مضاف . أي : وصيد ما علمتموه . أو مبتدأ ، على أنَّ ( ما ) شرطية وجوابها ( فكلوا ) . و ( الجوارح ) : الكواسب من سباع البهائم والطير -كالكلب والفهد والعقاب والصقر والبازي والشاهين -لأنها تجرح لأهلها أي : تكسب لهم . الواحدة جارحة . تقول العرب : فلان جرح أهله خيراً ، أي : كسبهم خيراً . وفلان لا جارح له .
أي : لا كاسب . ومنه قوله تعالى : { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ } [ الأنعام : 60 ] . أي : كسبتم . وقيل : سميت ( جوارح ) لأنها تجرح الصيد عند إمساكه . وقوله تعالى : { مُكَلِّبِينَ } أي : معلمين لها أن تَسْتَشْليَ إذا أُشْلِيَتْ ، وتنزجر إذا زجرت ، وتجتنب عند الدعوة ، ولا تنفر عند الإرادة ، فتصير كأنها وكلاؤكم لتعلمهن . إلا إذا قتلت بأنفسها من غير تعليم ، فلا يحل صيدها .
قال الزمخشري : ( المكلّب ) مؤدب الجوارح ومضريها بالصيد لصاحبها ورائضها لذلك ، بما علم من الحيل وطرق التأديب والتثقيف . واشتقاقه من ( الكلب ) لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب . فاشتق من لفظه لكثرته في جنسه . أو لأن السبع يسمى كلباً . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : < اللهم سلط عليه كلباً من كلابك . فأكله الأسد > . ( الحديث حسن ، أخرجه الحاكم ) ، أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة ، يقال : هو كلب بكذا إذا كان ضارياً به . وانتصاب ( مكلّبين ) على الحال من ( علمتم ) . فإذا قلت : ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بـ ( علمتم ) ؟ قلت : فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريراً في علمه ، مدرّياً فيه ، موصوفاً بالتكليب . وقوله تعالى : { تُعَلِّمُونَهُنَّ } حال ثانية أو استئناف ، وفيه فائدة جليلة . وهي أن على كل آخذٍ علماً أن لا يأخذه إلا من أَقْتَلِ أهله علماً ، وأنحرهم دراية ، وأغوصهم على لطائفه وحقائقه . وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل . فكم من آخذٍ ، عن غيره متقن ، قد ضيع أيامه ، وعض عند لقاء النحارير أنامله : { مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ } أي : من علم التكليب ، لأنه إلهام من الله ومكتسب بالعقل . أو مما عرفكم أن تعلموه من إتباع الصيد بإرسال صاحبه . وانزجاره بزجره . وانصرافه بدعائه . وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه . انتهى .
وقال الناصر في " الانتصاف " : وفي الآية دليل على أن البهائم لها علم . لأن تعليمها ، معناه لغة تحصيل العلم له بطرقه . خلافاً لمنكري ذلك .
{ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } أي : صِدْنَ لكم وإن قتلنه بأن لم يأكلن منه : { وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ } الضمير يرجع إلى ( ما علمتم من الجوارح ) أي : سموا عليه عند إرساله ، كما بيّنه حديث أبي ثعلبة وعدي الآتي . وجوز رجوعه إلى ( ما أمسكن ) على معنى : وسموا عليه إذا أدركتم زكاته : { وَاتَّقُواْ اللّهَ } أي : بالأكل مما فقد فيه شرط من هذه الشرائط استعجالاً إليها : { إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } أي : المجازاة على كل ما جلّ ودقّ .
تنبيهات :
الأول : روى ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير ، عن عدّي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيّيْن . سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : < يا رسول الله ! قد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا منها > ؟ فنزلت : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } ؛ قال سعيد : يعني الذبائح الحلال الطيبة لهم ؛ وقال مقاتل : ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه ، وهو الحلال من الرزق . وقد سئل الزهريّ عن شرب البول للتداوي ؟ فقال : ليس هو من الطيبات ، رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن وهب : سئل مالك عن بيع الطين الذي يأكله الناس ؟ فقال ليس هو من الطيبات . وروى ابن أبي حاتم في سبب نزولها أثراً آخر ، عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب فقتلت ، فجاء الناس فقالوا : يا رسول الله ! ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ، فسكت . فأنزل الله : { يَسْأَلُونَكَ } الآية . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < إذا أرسل الرجل كلبه وسمى فأمسك عليه ، فليأكل مما لم يأكل > .
وعند ابن جرير عن أبي رافع قال : < جاء جبريل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليستأذن عليه ، فأذن له فقال : قد أذنّا لك يا رسول الله ! قال : أجل . ولكنا لا ندخل بيتاً فيه كلب . قال أبو رافع : فأمرني أن أقتل كلّ كلب بالمدينة . حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها فتركته رحمة لها . ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته . فأمرني فرجعت إلى الكلب فقتلته ، فجاءوا فقالوا : يا رسول الله ! ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فأنزل الله عز وجل : { يَسْأَلُونَكَ } > . رواه الحاكم في " مستدركه " وقال : صحيح ولم يخرجاه .
وروى ابن جرير أيضاً عن عِكْرِمَة : < أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب حتى بلغ العوالي . فجاء عاصم بن عدي وسعيد بن خيثمة وعويمر بن ساعدة فقالوا : ماذا أحل لنا يا رسول الله > ؟ فنزلت الآية : رواه الحاكم أيضاً عن عِكْرِمَة . وكذا قال محمد بن كعب القرظي في سبب نزولها : أنه في قتل الكلاب -أفاده ابن كثير .
قال بعض المفسرين : لما نزلت الآية ، أذن صلى الله عليه وسلم في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها . وأمر بقتل العقور وما يضر . انتهى .
أقول : روى الإمام أحمد ومسلم عن جابر قال : < أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب . حتى أن امرأة تقدم من البادية بكلبها فتقتله ، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها وقال : عليكم بالأسود البهيم ذي النقطين فإنه شيطان > .
وروى الشيخان عن ابن عمر : < أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ، إلا كلب صيدٍ أو كلب غنم أو ماشية > .
وعن عبد الله بن المغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < لولا أنَّ الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها كلها . فاقتلوا منها كل أسود بهيم > . رواه أبو داود والدارمي ، وزاد الترمذي والنسائي : < وما من أهل بيت يرتبطون كلباً إلاَّ نقص من عملهم كل يوم قيراط . إلاَّ كلب صيد أو كلب حرث أو كلب غنم > . وظاهر هذه الأحاديث ، أنه صلى الله عليه وسلم كان أمر بقتلها كلها . ثم رخص في استبقائها . إلاَّ الأسود فإنه مستحق القتل .
وقول إمام الحرمين : ثم استقر الشرع على النهي عن قتل جميع الكلاب حيث لا ضرر فيها حتى الأسود البهيم -يحتاج إلى برهان .
قال ابن عبد البر : في هذه الأحاديث إباحة اتخاذ الكلب للصيد والماشية .
وكذلك للزرع . لأنها زيادة حافظ . وكراهة اتخاذها لغير ذلك . إلا أنه يدخل في معنى الصيد وغيره مما ذكر ، اتخاذها لجلب المنافع ودفع المضارّ قياساً ، فمحض كراهة اتخاذها لغير حاجة ، لما فيه من ترويع الناس ، وامتناع دخول الملائكة إلى البيت الذي الكلاب فيه .
ثم قال : ووجه الحديث عندي ؛ أن المعاني المتعبد بها في الكلاب من غسل الإناء سبعاً ، لا يكاد يقوم بها المكلف ولا يتحفظ منها ، فربما دخل عليه باتخاذها ما ينقص أجره من ذلك .
وروي أن المنصور بالله سأل عَمْرو بن عبيد عن سبب هذا الحديث ؟ فلم يعرفه . فقال المنصور : لأنه ينبح الضيف ويروّع السائل . انتهى .
وقال الخطابي : معنى قوله صلى الله عليه وسلم : < لولا أن الكلاب أمة من الأمم . . . الخ > . أنه صلى الله عليه وسلم كره إفناء أمة من الأمم وإعدام جيل من الخلق ، لأنه ما من خلق لله تعالى إلاَّ وفيه نوع من الحكمة وضرب من المصلحة . يقول : إذا كان الأمر على هذا ، ولا سبيل إلى قتلهن ، فاقتلوا أشرارهن وهي السود البهُم . وأبقوا ما سواها لتنتفعوا بهن في الحراسة .
وقال الطيبي : قوله : < أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ > إشارة إلى قوله تعالى { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } [ الأنعام : 38 ] . أي : أمثالكم في كونها دالة على الصانع ومسبحة له . قال تعالى : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ] . أي : يسبح بلسان القال أو الحال . حيث يدل على الصانع وعلى قدرتة وحكمته وتنزيهه عمّا لا يجوز عليه ، فبالنظر إلى هذا المعنى ، لا يجوز التعرض لها بالقتل والإفناء . ولكن إذا كان لدفع مضرةٍ -كقتل الفواسق الخمس -أو جلب منفعةٍ -كذبح الحيوانات المأكولة -جاز ذلك .
الثاني : ذهب جمهور الصحابة والتابعين والأئمة إلى أنّ الجوارح التي يحل صيدها ، ما قَبِلَ التعليم من ذي ناب كالكلب والفهد والنمر ، أو ذي مخلب كالطيور المذكورة قبل . قال في " النهاية " : حتى الهرّ إن تعلّم ، واحتجوا بعموم الآية .
وروى أحمد وأبو داود عن مجالد عن الشعبيّ عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < ما علمت من كلب أو بازٍ ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه ، فكل ما أمسك عليك . قلت : وإن قتل ؟ قال : وإن قتل ولم يأكل منه شيئاً . فإنه أمسكه عليك > .
قال البيهقي : تفرد مجالد بذكر الباز فيه ، وخالف الحافظ .
أقول : روى ابن جرير بالمسند المذكور إلى عدي قال : < سألت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي ؟ فقال : ما أمسك عليك فكل > . وعن ابن عمر ومجاهد : < لا يحل إلاَّ صيد الكلب فقط > . وروى ابن جرير بسنده ، أن ابن عمر قال : أما ما صاد من الطير ( والبراة من الطير ) فما أدركت فهو لك . وإلاَّ فلا تطعمه وقال ابن أبي حاتم : كره مجاهد صيد الطير كلَّه ، وقرأ قوله : { وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } . أي : فإن قوله تعالى : { مُكَلِّبِينَ } يشير إلى قصر ذلك على الكلب . وقال الحسن البصري والنخعي وأحمد وإسحاق : يحل من كل شيء إلا الكلب الأسود البهيم . لأنه قد أمر بقتله .
الثالث : قدمنا أن انتصاب : { مُكَلِّبِينَ } على الحال من : { عَلَّمْتُم } . قال ابن كثير : ويحتمل أن يكون حالاً من المفعول وهو ( الجوارح ) أي : وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلبات للصيد . وذلك أن تصيد بمخالبها وأظفارها .
فيستدل بذلك ، والحالة هذه ، على أن الجارح إذا قتل الصيد بصدمته وبمخالبه وظفره ، أنه يحل . كما هو أحد قول الشافعي وطائفة من العلماء . ولهذا قال : { تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ } وهو أنه إذا أرسله استرسل ، وإذا استشلاه استُشْلِيَ ، وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه ، ولا يمسكه لنفسه . ولهذا قال تعالى : { فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ } . فمتى كان الجارح معلّماً وأمسك على صاحبه -وكان قد ذكر اسم الله عليه وقت إرساله -حلّ الصيد وإن قتله ، بالإجماع .
وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة . كما ثبت في " الصحيحين " عن عديّ بن حاتم قال : قلت : < يا رسول الله ! إني أرسل الكلاب المعلَّمة وأذكر اسم الله ؟ فقال : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله ، فكل ما أمسك عليك . قلت : وإن قتلن ؟ قال : وإن قتلن ، ما لم يشركها كلب ليس منها . فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسمّ على غيره . قلت له : فإني أرمي بالمعراض الصيد ؟ فقال : إذا رميت بالمعراض الصيد فخرق فكله فإن أصابه بعرض ، فإنه وقيذ ، فلا تأكله > .
وفي لفظ لهما : < إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله . فإن أمسك عليك فأدركته حيّاً . فاذبحه ، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه ، فكله وإنّ أخذ الكلب ذكاته > . وفي رواية لها : < فإن أكل فلا تأكله . فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه > . فهذا دليل للجمهور أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقاً . ولم يستفصلوا . كما ورد بذلك الحديث . وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا : لا يحرم مطلقاً . أَكَلَ أو لم يأكل .
روى ابن جرير عن سلمان الفارسي وأبي هريرة قالا : كُلْ وإن أكل ثلثيه . وعن سعد بن أبي وقاص : < وإن أكل ثلثيه > . وعنه : < وإن لم يبق إلا بضعة > . وعن ابن عمر : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك . أكل أو لم يأكل . وحكاه عن عليّ وابن عباس وغير واحد من التابعين .
وروي ذلك مرفوعاً أيضاً . أخرج أبو داود عن عَمْرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أعرابياً ، يقال له أبو ثعلبة ، قال : < يا رسول الله ! إنّ لي كلاباً مكلبة فأفتني في صيدها . قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : إن كان لك كلاب مكلبة ، فكل مما أمسكن عليك . فقال : ذكيّ وغير ذكي ، وإن أكل منه ؟ قال : نعم وإن أكل منه . فقال : يا رسول الله ! أفتني في قوسي ! فقال : كلّ ما ردت عليك قوسك . قال : ذكي وغير ذكي ؟ قال : وإن تغيب عنك ما لم يَضِلّ أو تجد فيه أثراً غير سهمك . قال : أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها . قال : اغسلها وكُلْ فيها > . هكذا رواه أبو داود وقد أخرجه النسائي . وكذا رواه أبو داود عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله ، فكُلْ وإن أكل منه ، وكُلْ ما ردت عليك يدك > .
وقد احتج بما ذكرنا من لم يحرم الصيد بأكل الكلب وما أشبهه ، وقد توسط آخرون فقالوا : إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم . لحديث عديّ ، وللعلة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم . وأما إن أمسكه ، ثم انتظر صاحبه ، فطال عليه ، وجاع فأكل منه لجوعه ، فإنه لا يؤثر في التحريم . وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة . وهذا تفريق حسن ، وجمع بين الحديثين ، صحيح .
وقد تمنى الأستاذ أبو المعالي الجويني في كتابه " النهاية " : أن لو فصل مفصل هذا التفصيل . وقد حقق الله أمنيته ، وقال بهذا القول والتفريق طائفة من الأصحاب . أفاده ابن كثير .
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : وسلك الناس في الجمع بين حديث عدي وأبي ثعلبة طرقاً منها للقائلين بالتحريم ( الأولى ) حبل حديث أبي ثعلبة الأعرابي على ما إذا قتله وخلاه ثم عاد فأكل منه ، و ( الثانية ) الترجيح ، فرواية عدي في الصحيحين ورواية الأعرابي في غيرهما . ومختلف في تضعيفها . وأيضاً ، فرواية عدي صريحة مقرونة بالتعليل المناسب للتحريم . وهو خوف الإمساك على نفسه ، متأيد بأن الأصل في الميتة التحريم . فإذا شككنا في السبب المبيح ، رجعنا إلى الأصل ولظاهر الآية المذكورة . فإن مقتضاها أن الذي تمسكه من غير إرسال لا يباح ، ويتقوى أيضاً بالشواهد من حديث ابن عباس عند أحمد : إ ذا أرسلت الكلب فأكل الصيد ، فلا تأكل . فإنما أمسك على نفسه . فإذا أرسلته فقتله ولم يأكل ، فكُلْ . فإنما أمسك على صاحبه . وأخرجه البزار من وجه آخر عن ابن عباس . وابن أبي شيبة من حديث أبى رافع ، نحوه بمعناه . ولو كان مجرّد الإمساك كافياً لما احتيج إلى زيادة ( عليكم ) في الآية . وأما القائلون بالإباحة ، فحملوا حديث عدي على كراهة التنزيه ، وحديث الأعرابي على بيان الجواز . قال بعضهم : ومناسبة ذلك أن عدّياً كان موسراً .
فاختير له الحمل على الأولى . بخلاف أبي ثعلبة ، فإنه كان بعكسه . ولا يخفى ضعف هذا التمسك ، مع التصريح بالتعليل في الحديث لخوف الإمساك على نفسه . وقد وقع في رواية لابن أبي شيبة : إن شرب من دمه فلا تأكل فإنه لم يُعْلَّمُ ما عَلَّمته . وفي هذا إشارة إلى أنه إذا شرع في أكله ، دلَّ على أنه ليس يعلم التعليم المشروط .
الرابع : في الآية مشروعية التسمية . قال ابن كثير : قوله تعالى : { وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ } أي : عند إرساله له ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم : < إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك > . وفي حديث أبي ثعلبة المخرج في " الصحيحين " أيضاً : < إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله . وإذا رميت بسهمك > . ولهذا اشترط من اشترط من الأئمة ، كالإمام أحمد رحمه الله ، في المشهور عنه ، التسمية عند إرسال الكلب والرمي بالسهم لهذه الآية وهذا الحديث . وهذا القول المشهور عند الجمهور أن المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الإرسال . كما قال السدّي وغيره . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، في هذه الآية : < إذا أرسلت جارحك فقل : بسم الله . وإن نسيت فلا حرج > . انتهى .
قال بعض الزيدية : والتسمية هنا كالتسمية على الذبيحة . فمن قائلٍ بوجوبها على الذاكر لا الناسي . لحديث : < رفع عن أمتي الخطأ والنسيان > . ومن قائل بأنها مستحبة . ومن قائلٍ بأنها شرط مطلقاً . المشهور عن أحمد التفرقة بين الصيد والذبيحة . فذهب في الذبيحة إلى هذا القول الثالث . ثم قال : لقائلٍ أن يقول : يحتمل أن يرجع قوله تعالى : { وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ } إلى الأكل . أي : فسموا عند الأكل . فدلالة الآية محتملة في وجوب التسمية . انتهى . وهذا الاحتمال حكاه ابن كثير ونصّه :
وقال بعض الناس : المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الأكل . كما ثبت في " الصحيحين " ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علّم ربيبه ، عمر ابن أبي سلمة ، فقال : < سم الله وكُلْ بيمينك وكُلْ مما يليك > . وفي " صحيح البخاري " عائشة ؛ أنهم قالوا : < يا رسول الله ! إن قوماً يأتوننا ، حديث عهدٍ بكفرٍ ، بلحمانٍ ، لا ندري أذْكِرَ اسم الله عليها أم لا ؟ فقال : سموا الله أنتم وكلوا أنتم > . وقال الترمذي : حسن صحيح .
الخامس : في الآية جواز تعليم الحيوان وضربه للمصلحة . لأن التعليم قد يحتاج إلى ذلك . كذا في " الإكليل " . وتقدم عن الزمخشري والناصر ما في الآية أيضاً من الأخذ عن النحرير ، وأن البهائم لما علم . واستدلّ بالآية على إباحة اتخاذ الكلب للصيد وللحراسة ، بالسنة : كما تقدم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ 5 ]
وقوله تعالى : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } أي : من الذبائح والصيد . تكريره تأكيد للمنة . قال أبو السعود : قيل المراد بالأيام الثلاثة وقت واحد . وإنما كرر للتأكيد . ولاختلاف الأحداث الواقعة فيه حَسْنُ تكريره . والمراد بالطيبات ما مرّ .
تنبيه :
قال بعض مفسري الزيدية : دلت الآية على جواز أكل العالي من الأطعمة والأصباغ . قال في " الروضة والغدير " : وإن كان التقنع بالأدون هو الأولى ، كما فعله عليّ عليه السلام وغيره من الفضلاء . فقد روي أن عليّاً عليه السلام كان يطعم الناس أطيب الطعام . فرأى بعضُ أصحابه طعامَهُ . وهو خبز شعير غير منخولٍ ، وملح جريش ، وهو مختوم عليه لئلا يبدل . ومن كلامه عليه السلام : والله ! لأروضنّ نفسي رياضة تهش إلى القرص إن وجدته مطعوماً ، وإلى الملح إن وجدته مأْدوماً . ولما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في كراهة الإدامين مجتمعين . انتهى .
{ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد ابن جبير وغيرهم : يعني ذبائحهم .
قال ابن كثير : وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء ؛ أن ذبائحهم حلال للمسلمين . لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ولا يذكرون على ذبائحهم إلاّ اسم الله ، وإن اعتقدوا فيه ما هو منزه عنه ، تعالى وتقدس . انتهى .
قال المهايمي : وإن لم يعتد بذكرهم اسم الله ، لكنهم لما ذكروه ، أشبه ما يعتد بذكره ، فأشبه طعامهم الطيبات .
مباحث :
الأول : ما ذكرناه من أن المعنيّ بالطعام الذبائح ، هو الذي قاله أئمة السلف : صحابةً كابن عباس وأبي أمامة ، وأتباعاً كمجاهد وثمانية غيره ، كما في ابن جرير وابن كثير . وفي " اللباب " : أجمعوا على أن المراد ؛ : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } ذبائحهم خاصة . لأن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أنْ كانت لهل الكتاب وبعد أنْ صارت لهم . فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة . ولأنّ ما قبل هذه الآية في بيان حكم الصيد والذبائح . فحمل هذه الآية عليه أولى . لأن سائر الطعام لا يختلف ، من تولاّه من كتابّيٍ أو غيره . وإنما تختلف الذكاة . فلما خص أهل الكتاب بالذكر ، دلّ على أن المراد بطعامهم ذبائحهم . انتهى .
الثاني : استدل بالآية على جميع أجزاء ذبائحهم . وهو قول الجمهور .
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : وعن مالك وأحمدَ ، تحريم ما حرم الله على أهل الكتاب كالشحوم . قال ابن القاسم : لأن الذي أباحه الله طعامهم . وليس الشحوم من طعامهم . ولا يقصدونها عند الذكاة . وتعقب بأن ابن عباس فسّر ( طعامهم ) بذبائحهم ، وإذا أبيحت ذبائحهم لم يحتج إلى قصدهم أجزاء المذبوح . والتذكية لا تقع على بعض أجزاء المذبوح دون بعض . وإن كانت التذكية شائعة في جميعها دخل الشحم لا محالة . وأيضاً فإن الله تعالى نص بأنه حرم عليهم كل ذي ظفر . فكان يلزم ، على قول هذا القائل ، إن اليهوديّ ، إذا ذَبَح ما له ظفر ، لا يحل للمسلم أكله . ثم قال ابن حجر : وقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } يستدل به على الحلّ ، لأنه لم يخص لحماً من شحم ، وكون الشحوم محرمة على أهل الكتاب لا يضر ، لأنها محرمة عليهم لا علينا . وغايته بعد أن يتقرر أن ذبائحهم لنا حلال ، أنّ الذي حرم عليهم منها مسكوتٌ في شرعنا عن تحريمه علينا . فيكون على أصل الإباحة . انتهى .
وفي " الصحيح " عن عبد الله بن مغفّل رضي الله عنه قال : < كنا محاصرين قصر خيبر . فرمى إنسان بجراب فيه شحم . فنزوت لآخذه . فالتفتّ فإذا النبيّ صلى الله عليه وسلم فاستحييت منه > . وفي رواية : < أُدْلِيَ بجراب من شحم يوم خيبر . فحضنته وقلت : لا أعطي اليوم من هذا أحداً . والتفتّ فإذا النبيّ صلى الله عليه وسلم يتبسّم > .
قال الحافظ ابن حجر : فيه حجة على من منع ما حرّم عليهم كالشحوم . لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقرّ ابن مُغَفَّل على الانتفاع بالجراب المذكور . وفيه جواز أكل الشحم ، مما ذبحه أهل الكتاب ، ولو كانوا أهل حرب . انتهى . وقال الحافظ ابن كثير : استدل على المالكية الجمهور بهذا الحديث . وفي ذلك نظر . لأنه قضية عين . ويحتمل أن يكون شحماً يعتقدون حله ، كشحم الظهر والحوايا ونحوهما . والله أعلم .
وأجود منه في الدلالة ما ثبت في " الصحيح " أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مصليةٌ . وقد سموّا ذراعها -وكان يعجبه الذراع -فتناوله فنهش منه نَهشةً . فأخبره الذراع أنه مسموم ، فَلفَظَهُ وأثّر ذلك في ثنايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبهره . وأكل معه منها بشر بن البراء بن معرور ، فمات . فقتل اليهودية التي سمّتها ، وكان اسمها زينب . ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه ، ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا ؟ وفي الحديث الآخر : < إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضافه يهوديّ على خبز شعير وأهالة سنخة . يعني ودكاً زنخاً > .
الثالث : تمسك ابن العربيّ -من أئمة المالكية -بهذه الآية على حلّ ما يقتله الفرنج ، وإن رأينا ذلك ، لأنه من طعامهم . نقله عنه الشيخ خليل في " توضيحه " واستبعده . وقال الإمام ابن زكري : صنف ابن العربيّ في إباحة مذكّى النصراني بغير وجه ذكاتنا . والمحققون على تحريمه . وقد أوضح ذلك الفقيه محمد الدليميّ السوسيّ المالكي في " فتاويه " ، وقد سئل عن ذبيحة الكتابيّ : هل تحل المذكيّ كيف كانت . سواء وافقت ذكاتنا أم لا ؟ بقوله مجيباً : قال الإمام ابن العربي : إذا سلّ النصراني عنق دجاجة حلّ للمسلم أكلها . لأن الله تعالى أحلّ لنا أكل طعامهم الذي يستحلونه في دينهم . وكل ما ذكوه على مقتضى دينهم ، حل لنا أكله . ولا يشترط أن تكون ذكاتهم موافقة لذكاتنا . وذلك رخصة من الله تعالى وتيسير منه علينا . ولا يستثنى من ذلك إلا ما حرّم الله تعالى على الخصوص . فإنه ، وإن كان طعامهم الذي يستحلونه ، فلا يحل لنا أكله . انتهى .
الرابع : قال الرازي : نُقل عن بعض أئمة الزيدية ؛ أن المراد بـ ( الطعام ) في الآية الخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه الذكاة . انتهى .
وقد اطلعت على قطعة من تفسير بديع لبعض الزيدية قال فيه : اختلف العلماء من الأئمة والفقهاء : ما أريد بـ ( الطعام ) ؟ فقال القاسم والهادي ومحمد بن عبد الله ، ورواية عن زيد : أن ذبائح أهل الكتاب وجميع الكفار لا تجوز . لقوله تعالى : { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } وهذا خطاب للمسلمين ، والرواية الثانية عن زيد وعامة الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والجعفرية والإمامية . واختاره الأمير ح والأمير يحيى : جواز ذبائح أهل الكتاب . ويفسرون ( الطعام ) بالذبائح وغيرها . وهذا مرويّ عن الحسن والزهري والشعبي وعطاء وقتادة وأكثر المفسرين . وأخذوا بالعموم في إطلاق ( الطعام ) . فأجاب الأولون بأن ( الطعام ) يطلق على الحبوب يقال : سوق الطعام . قال القاضي : الأقرب الحِلّ . لأن ذلك بفعلهم يصير طعاماً . ولأنه خص أهل الكتاب أجيب : بأنه خصّهم لئلا يظن أنَّ طعامهم الذي لم يذكّوه محرم . ثم عند الهادي والقاسم ، عليهما السلام ، تنجس رطوباتهم . لقوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] . فيحرم ما حصل فيه رطوبتهم ، إلا ما أخذناه قهراً . وعند المؤيد بالله ومن معه : إن رطوبتهم طاهرة . والخلاف في الرطوبة عامة في الكفار . انتهى .
وفي " الروضة الندية " ما نصه : وأما ذبيحة أهل الذمة ، فقد دلّ على حلّها القرآن الكريم بهذه الآية . ومن قال : إن اللحم لا يتناوله ( الطعام ) فقد قصر في البحث ، ولم ينظر في كتب اللغة ، ولا نظر في الأدلة الشرعية المصرحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل ذبائح أهل الكتاب . كما في أكله صلى الله عليه وسلم للشاة التي طبختها يهودية وجعلت فيها سمّاً ، والقصة أشهر من أن تحتاج إلى التنبيه عليها . ولا مستند للقول بتحريم ذبائحهم إلا مجرد الشكوك والأوهام التي يبتلي بها من لم يرسخ قدمه في علم الشرع . فإن قلت : قد يذبحونه لغير الله ، أو بغير تسمية ، أو على غير الصفة المشروعة في الذبح . قلت : إن صح شيءٌ من هذا ، فالكلام في ذبيحته ، كالكلام في ذبيحة المسلم إذا وقعت على أحد هذه الوجوه . وليس النزاع إلا في مجرد كون كفر الكتابيّ مانعاً ، لا كونه أخذ بشرط معتبر . انتهى . الخامس : أريد بـ : { أَهْلِ الْكِتَابِ } اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم . وأما من دخل في دينهم بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم -وهم متنصّرو العرب من بني تغلب -فلا تحلّ ذبيحته . روي عن عليّ بن أبي طالب قال : لا تأكل من ذبائح نصارى بني تغلب . فإنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر . وبه قال ابن مسعود . وسئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب ؟ فقال لا بأس به . ثم قرأ : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم } [ المائدة : 51 ] . هذا قول الحسن وعطاء والشعبي وعكرمة وقتادة والزهري والحكم وحماد -كذا في " اللباب " .
قال ابن كثير : وأما المجوس فإنهم -وإن أخذت منهم الجزية تبعاً وإلحاقاً لأهل الكتاب -فإنه لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم . خلافاً لأبي ثور ، إبراهيم بن خالد الكلبي ( أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي, وأحمد بن حنبل ) ولما قال ذلك ، واشتهر عنه ، أنكر عليه الفقهاء ذلك . حتى قال عنه الإمام أحمد : أبو ثور كاسمه -يعني في هذه المسألة -وكأنه تمسك بعموم حديث روي مرسلاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : سنوا بهم سنة أهل الكتاب .
ولكن لم يثبت بهذا اللفظ . وإنما الذي في " صحيح " البخاري عن عبد الله الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر . ولو سلم صحة هذا الحديث ، فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } فدلّ بمفهوم المخالفة ، على أن طعام من عداهم من أهل الأديان لا يحل . . . !
السادس : قيل : هذه الآية تقتضي إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقاً ، وإن ذكروا غير اسم الله تعالى . وعن ابن عمر : لو ذبح يهودي أو نصراني على غير اسم الله تعالى ، لا يحل ذلك . وهو قول ربيعة . وسئل الشعبي وعطاء ، عن النصراني يذبح باسم المسيح ؟ فقال : يحلّ . فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون . وقال الحسن : إذا ذبح اليهوديَّ أو النصراني وذكر اسم الله ، وأنت تسمع ، فلا تأكل . وإذا غاب عنك فكُلْ . فقد أحله الله لك . كذا في " اللباب " . وقول الحسن -في هذا البحث -هو الحسن .
وفي " النهاية " من كتب الزيدية : أما إذا ذبح أهل الذمة لأعيادهم وكنائسهم . فكرهه مالك ، وأباحه أشهب ، وحرمه الشافعي . وذلك لتعارض عموم قوله تعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } وعموم قوله تعالى : { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } [ البقرة : 173 ] ، فتخصيص كل واحد للآخر محتمل . ثم قال : والجمهور على تحريم ذبيحة المرتدّ . وأجازها إسحاق ، وكرهها الثوري . وسبت الخلاف : هل المرتد يتناول اسم ( الكتاب ) أم لا ؟ قال : وهكذا منشأ الخلاف في ذبائح بني تغلب ، هل اسم ( الكتاب ) يتناول المتنصرّ والمتهوّد من العرب ، كما روي عن ابن عباس ؟ أوْ لا يتناول ، كما روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام . انتهى .
وقوله تعالى : { وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ } يعني : ذبائحكم حلال لهم . فتأكل اليهود والنصارى ذبيحة المسلمين . كذا في " التفسير " المنسوب لابن عباس .
ونقل بعض مفسّري الزيدية عن ابن عباس وأبي الدرداء ، وبقية التابعين السالف ذكرهم ، وأكثر المفسرين والفقهاء ، أن المراد ذبائح المسلمين .
وقال الزجاج : تأويله : حلّ لكم أن تطعموهم . لأن الحلال والحرام والفرائض إنما تعقد على أهل الشريعة .
وقال ابن كثير : أي : ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم . وليس إخباراً عن الحكم عندهم . اللهم ! إلاَّ يكون خبراً عما أمروا به من الأكل من كل طعام ذكر اسم الله عليه . سواء كان من أهل ملتهم أو غيرها . والأول أظهر في المعنى . أي : ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم . وهذا من باب المكافأة والمجازاة . كما ألبس النبيّ صلى الله عليه وسلم ثوبه لعبد الله بن أُبَيِّ ، ابن سلول حين مات ودفنه فيه . قالوا : لأنه كان قد كسا العباس حين قدم المدينة ثوبه . فجازاه النبيّ صلى الله عليه وسلم . ذلك بذلك . فأمّا الحديث الذي فيه < لا تصحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلاَّ تقيّ > فمحمول على الندب والاستحباب ، والله أعلم . انتهى .
وقال الرازيّ : أي : ويحل لكم أن تطعموهم من طعامكم . لأنه لا يمتنع أن يحرم الله أن نطعمهم من ذبائحنا . وأيضاً فالفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة في الجانبين ، وإباحة الذبائح كانت حاصلة في الجانبين لا جرم ذكر الله تعالى ذلك تنبيهاً على التمييز بين النوعين . انتهى .
وقال البرهان البقاعيّ في " تفسيره " : وقوله تعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } أي : تناوله لحاجتكم إلى مخالطتهم ، للإذن في إقرارهم على دينهم بالجزية . ولما كان هذا مشعراً بإبقائهم على ما اختاروا لأنفسهم . زاده تأكيداً بقوله : { وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ } أي : فلا عليكم في بذله لهم ، ولا عليهم في تناوله . انتهى .
وفي " أمالي " الإمام السهيلي رحمه الله تعالى : قيل : ما الحكمة في هذه الجملة وهم كفار لا يحتاجون إلى بياننا ؟ فعنه جوابان : أحدهما أن المعنى : انظروا إلى ما أحل لكم في شريعتكم ، فإن أَطْعَمُوكُمُوهُ فكلوه ، ولا تنظروا إلى ما كان محرماً عليهم ، فإن لحوم الإبل ونحوها كانت محرمة عليهم . ثم نسخ ذلك في شرعنا . والآية بيان لنا لا لهم ، أي : اعلموا أن ما كان محرماً عليهم ، مما هو حلال لكم قد أباح الله لكم طعامنا -كذبناهم وقلنا : إن الطعام الذي يحلّ لكم هو الذي يحل لنا ، لا غيره . فالمعنى -طعامهم حل لكم ، إذا كان الطعامَ الذي أحللته لكم . وهذا التفسير معنى قول السدّي وغيره .
الثاني : للنحاس والزجاج والنقاش وكثير من المتأخرين ، أن المعنى : جائز لكم أن تطعموهم من طعامكم . لا أن يبين لهم ما يحل لهم في دينهم . لأن دينهم باطل . إلا أنه لم يقل : وإطعامكم ، بل ( طعامكم ) -والطعام المأكول -وأما الفعل فهو الإطعام . فإن زعموا أن ( الطعام ) يقوم مقام ( الإطعام ) توسعاً ، قلنا : بقي اعتراض أخر . وهو الفصل بين المصدر وصلته بخبر المبتدأ . وهو ممتنع بالإجماع . لا يجيزون ( إطعام زيد حسنٌ للمساكين ) ولا ( ضربك شديدٌ زيداً ) فكيف جاز ( وطعامكم حلّ لهم ) ؟ انتهى .
قال الناصر في " الانتصاف " : وقد يستدل بهذه الآية من يرى الكفار مخاطبين بفروع الشيعة . لأن التحليل حكم وقد علقه بهم في قوله : { وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ } كما علق الحكم بالمؤمنين . وهذه الآية أبين في الاستدلال بها من قوله : { لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنّ } [ الممتحنة : 10 ] ، فإنّ لقائل أن يقول : في تلك الآية نفي الحكم ليس بحكم . ولا يستطيع ذلك في آية ( المائدة ) هذه . لأن الحكم فيها مثبت ، والله أعلم .
ثم قال : ولما استشعر الزمخشري دلالتها على ذلك ، وهو من القائلين بأن الكفار يستحيل خطابهم بفروع الشريعة -أسلف تأويلها بصرف الخطاب إلى المؤمنين ، أي : لا جناح عليكم -أيها المسلمون ! -أن تطعموا أهل الكتاب . انتهى .
{ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ } عطف على ( الطيبات ) أو مبتدأ حذف خبره لدلالة ما قبله عليه . أي : حلٌّ لكم . والمراد بـ ( المحصنات ) العفيفات عن الزنى . كما قال تعالى في الآية الأخرى : { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } [ النساء : 25 ] . وهو المروي عن الحسن والشعبي وسفيان وإبراهيم ومجاهد . وحكى ابن جرير رواية أخرى عن مجاهد أنه قال : المحصنات الحرائر . فقيل : عني بهن غير الإماء . وقيل : أراد بهن العفيفات ، كقول الجمهور . وذلك لأن الحرّ يطلق على خلاف العبد ، وعلى خيار كل شيء ، كما في " القاموس " .
قال الزمخشري : وتخصيصهن بعثٌ على تخير المؤمنين لنطفهم . والإماء من المسلمات يصح نكاحهن بالاتفاق . وكذلك نكاح غير العفائف منهن . انتهى .
أقول : جواز نكاح الأمَة موقوف على خوف العنت وعدم طول الحرة ، لآية : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً } [ النساء : 25 ] الخ . وأما نكاح غير العفيفة فأجازه الأكثرون . وذهب الإمام أحمد إلى تحريم نكاح الزانية على زانٍ وغيره ، حتى تتوب وتنقضي عدتها . لقوله تعالى : { وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [ النور : 3 ] . ولما أخرجه أحمد بإسناد رجاله ثقات ، والطبراني في " الكبير " و " الأوسط " من حديث عبد الله بن عَمْرو : أن رجلاً من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها أم مهزول ، كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه . فقرأ عليه صلى الله عليه وسلم : { وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } . وأخرج أبو داود والنسائي والترمذي وحسنّه ، من حديث ابن عمر : أن مرثد الغَنَوِي كان يحمل الأسارى بمكة . وكان بمكة بغي يقال لها عناق . وكانت صديقته . قال : فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ! أنكح عناقاً ؟ قال ، فسكت عني . فنزلت الآية : { وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } [ النور : 3 ] . فدعاني فقرأها عليّ وقال : لا تنكحها . وأخرج أحمد وأبو داود بإسناد رجاله ثقات, من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله > . قال ابن القيّم : أخذ بهذه الفتاوى -التي لا معارض لها -الإمام أحمد ومن وافقه -وهي من محاسن مذهبه -فإنه يجوز أن ينكح الرجل زوجاً تحبه . ويعضد مذهبَه بضعة وعشرون دليلاً قد ذكرناها في موضع آخر .
وأخرج ابن ماجة والترمذي وصحة, من حديث عَمْرو بن الأحوص, أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال : < استوصوا في النساء خيراً . فإنما هنّ عندكم عوان . ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك . إلاَّ أن يأتين بفاحشة مبينّةٍ . فإن فعلن , فاهجروهنَّ في المضاجع , واضربوهنّ ضرباً غير مبرّح , فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً > . وأخرج أبو داود والنسائيّ , من حديث ابن عباس قال : < جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : إن امرأتي لا تمنع يد لامس, قال : غرّبها, قال : أخاف أن تتبعها نفسي . قال : فاستمتع بها > . قال المنذري : ورجال إسناده محتج بهم في الصحيحين .
قال ابن القيّم : عورض بهذا الحديث المتشابه , الأحاديث المحكمة الصريحة في المنع من تجويز البغايا . واختلفت مسالك المحرمين لذلك فيه, فقالت طائفة : المراد بـ ( اللامس ) ملتمس الصدقة لا ملتمس الفاحشة . وقالت طائفة : بل هذا في الدوام غير مؤثر . وإنما المانع ورود العقد على الزانية فهذا هو الحرام , وقالت طائفة : بل هذا من التزام أخف المفسدتين لدفع أعلاهما . فإنه لما أُمِرَ بمفارقتها خاف من أن لا يصبر عنها فيواقعها حراماً, فأمره حينئذ بإمساكها . إذ مواقعتها بعقد النكاح أقل فساداً من مواقعتها بالسفاح . وقالت طائفة : بل الحديث ضعيف لا يثبت . وقالت طائفة : ليس في الحديث ما يدل على أنها زانية . وإنما فيه أنها لا تمنع ممن يمسّها أو يضع يده عليها أو نحو ذلك, فهي تعطي الليان لذلك . ولا يلزم أن تعطيه الفاحشة الكبرى . ولكن هذا لا يؤمن معه إجابتها الداعي إلى الفاحشة . فأَمَرَهُ بفراقها, تركاً لما يريبه إلى ما لا يريبه . فلما أخبره بأن نفسه تتبعها, وأنه لا صبر له عنها, رأى مصلحة إمساكها أرجح المسالك . والله تعالى أعلم . وتتمة البحث في ذلك يأتي إن شاء الله تعالى في سورة النور .
فائدة :
أفتى جابر بن عبد الله وعامر الشعبي وإبراهيم النَّخَعِي والحسن البصري بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها, أنه يفرق بينهما وتردّ عليه ما بذل لها من المهر . رواه ابن جرير عنهم .
{ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } أي : هنّ أيضاً حلّ لكم . والجمهور : على أن المراد بـ ( المحصنات ) العفائف عن الزنى, كما قدمنا .
قال ابن كثير : وهو الأشبه . لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة, فيفسد حالها بالكلية, ويتحصل زوجها على ما قيل, حشفاً وسوء كلية .
وحكى ابن جرير عن طائفة من السلف -ممن فسّر ( المحصنات ) بالعفيفات ؛ أن الآية تعم كل كتابية عفيفة . سواء كانت حرة أو أمة . ومن فسرها بـ ( الحرائر ) قال : لا يصح نكاح الأمة الكتابية بحالٍ, إِذْ لا يحتمل عار الكفر مع عار الرق, على أنه يؤدي إلى استرقاق الكافر ولدّ المسلم .
تنبيهات
الأول : ظاهر الآية جواز نكاح الكتابية . وهذا مذهب أكثر الفقهاء والمفسرين .
ورواية عن زيد والصادق والباقر, واختاره الإمام يحيى وقال : إنه إجماع الصدر الأول من الصحابة, وأنَّ عثمان بن عفان تزوج نائلة بنت الفرافصة على نسائه, وهي نصرانية . وأنّ طلحة بن عبيد الله تزوج يهودية . كذا نقله المفسرون . وروى البيهقي وعبد الرزاق وابن جرير عن عمر أنّه قال : المسلم يتزوج النصرانية ولا يتزوج النصراني المسلمة . وروى عبد الرزاق أيضاً عن سعيد بن المسيب, أن عُمَر بن الخطاب كتب إلى حذيفة بن اليمان وهو بالكوفة, ونكح امرأة من أهل الكتاب, فكتب : أن فارِقْها فإنك بأرض المجوس, فإني أخشى أن يقول الجاهل : قد تزوج صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كافرة ! ويحلل الرخصة التي كانت من الله عز وجل فيتزوجوا نساء المجوس . . . ففارقها .
وروى عبد الرزاق والبيهقيّ عن قتادة : أن حذيفة نكح يهودية . فقال عمر : طلِّقها فإنها جمرة . فقال : أحرام هي ؟ قال : لا ، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن ...
وروى عبد الرزاق عن زيد بن وهب قال : كتب عُمَر بن الخطاب : إن المسلم ينكح النصرانية ، والنصرانيّ لا ينكح المسلمة . وروي أيضاً عن جابر قال : نساء أهل الكتاب لنا حلّ ، ونساؤنا عليهم حرام . وروي أيضاً عن معمر عن الزهري قال : نكح رجل من قومي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم امرأة من أهل الكتاب . وروي عن ابن عمر كراهية ذلك . ويحتج بقوله تعالى : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } [ البقرة : 221 ] وكان يقول : لا أعلم شركاً أعظم من قولها : إن ربها عيسى . وأجاب الجمهور بأنه عامّ خص بهذه الآية, إن قيل بدخول الكتابيات في عموم المشركات, وإلاّ, فلا معارضة بين الآيتين . لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع . كقوله تعالى : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } [ البينة : 1 ] . وكقوله : { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُم } [ آل عِمْرَان : 20 ] .
الثاني : استدل بعموم الآية من جوز نكاح الحربيات الكتابيات . وروي عن ابن عباس : أن الأذن في الذميات خاصة ، ويقرأ : { قَاتِلُواْ الَّذِينَ } -إلى قوله - : { حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ } . قال : فمن أعطى ، حل . ومن لا ، فلا . وهذا الاستدلال دقيق جداً . فليأمل ! .
الثالث : قال المهايمي : لما اعتبر في طعام أهل الكتاب شبهة بالطيب -كما قدمنا - اعتبر في باب النكاح ، فأحلّ المحصنات منهم ، واحتمل كفرهنّ لأنه إنما لم يحتمل كفر غيرهم لأنهم يدعون إلى النار . وهؤلاء لما اعترفوا بأصل النبوّة ، ولا شبهة لهم في أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فضلاً عن حجة ، ضعفت دعوتهم إليها ، فلم يعتد بها . على أن الرجل مستولٍ على المرأة . فلا تؤثر فيه تأثير الرجل ، فلذلك لم يصح تزويج المسلمة بالكتابيّ . على أن فيه إذلالاً للمسلمة فلا تحتمل .
الرابع : ذهب ثلة من العترة الطاهرة إلى أن المراد من ( المحصنات ) المؤمنات منهن . ذهاباً إلى تحريم نكاح الكافرة . قال بعض مفسري الزيدية ، بعد أن ساق مذهب الأكثرين المتقدم : وقال القاسم والهادي والنفس الزكية ومحمد بن عبد الله وعامة القاسمية -وهو مروي عن ابن عمر : إنه لا يجوز لمسلمٍ نكاح كافرة ٍ ، كتابية كانت أو غيرها . واحتجوا بقوله في سورة البقرة : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } [ البقرة : 221 ] . قالوا -يعني الأكثرين - : هذا في المشركات لا في الكتابيات ، قلنا : اسم الشرك ينطلق على أهل الكتاب بدليل قوله تعالى : { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ } . إلى قوله : { سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون } [ التوبة : 31 ] . وعن ابن عمر : لا أعلم شركاً أعظم من قول النصرانية : إن ربها عيسى . وعن عطاء : قد كثر الله المسلمات . وإنما رخص لهم يومئذٍ . قالوا : إنه تعالى عطف أحدهما على الآخر فدلّ على أنهما غَيْرَيْنِ ، حيث قال تعالى : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ } [ البينة : 1 ] . قلنا هذا كقوله تعالى : { الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } [ البقرة : 180 ] . قالوا : الآية مصرحة بالجواز في قوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } قلنا : في سورة النور : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ } [ النور : 26 ] . وقوله في سورة النساء : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [ النساء : 25 ] . فشرط الإيمان في هذا يقضي بالتحريم . فتتأوّل هذه الآية : أنه أراد المحصنات من أهل الكتاب اللاتي قد أسلمن ، لأنهم كانوا يتكرهون ذلك ، فسماهنّ باسم ما كنّ عليه . وقد ورد مثل هذا في كتاب الله تعالى . قال الله : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } [ البقرة : 121 ] . وقوله تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُم } [ البقرة : 146 ] . وقوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ } [ آل عِمْرَان : 199 ] . قالوا : سبب النزول وفعل الصحابة يدل على الجواز . وإنا نجمع بين الآيات الكريمة فنقول : قوله : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ } [ البقرة : 221 ] . عام نخصّه بقوله تعالى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } ؛ أو نقول : أراد بـ : { الْمُشْرِكَاتِ } الوثنيات وبـ : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } , ما أفاده الظاهر . أو يقول قوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ } ناسخاً لتحريم الكتابيات يقوله : { وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ } . قلنا : نقابل ما ذكرتم بما روي, أن كعب بن مالك أراد أن يتزوج بيهودية أو نصرانية . فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : < إنها لا تحصن ماءك > ؛ وروي أنه نهاه عن ذلك . وبأنا نتأوّل قوله تعالى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } فنجمع ونقول : تخصيص المشركات بـ : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } متراخٍ, والبيان لا يجوز أن يتراخى ! قالوا : روى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < أحلَّ لنا ذبائح أهل الكتاب وأحل لنا نساؤهم وحرم عليهم أن يتزوجوا نساءنا > . قال في " الشفا " : قال علماؤنا : هذا حديث ضعيف النقل . قالوا : قوله صلى الله عليه وسلم في المجوس : < سنوا بهم سنة أهل الكتاب > الخبر أفاد جواز ذبائحهم ونكاح نسائهم . قلنا الجواز منسوخ بأدلة التحريم . ثم إنا نقوي أدلتنا بالقياس فنقول : كافرة فأشبهت الحربية ، أو لما حرمت الموارثة حرمت المناكحة . أو لما حرم نكاح الكافر للمسلمة حرم العكس . قالوا : لا حكم للاعتبار مع الأدلة . انتهى بحروفه وهو فقه غريب .
وقوله تعالى : { إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي : أعطيتموهنّ مهورهن . وتقييد الحلّ بإيتائها ، لتأكيد وجوبها والحث على ما هو الأولى ، مبادرة لفراغ الذمة . فإن شغل الذمة بحق الآدمي أشدّ من شغلها بحق الله تعالى : { مُحْصِنِينَ } متعففين : { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } أي : غير مجاهرين بالزنى : { وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } مسرين به ، و ( الخدن ) الصديق ، يقع على الذكر والأنثى . وحمل المسافحة على إظهار الزنى لظهور مقابله في الإسرار ، لتبادره من الخدن وهو الصديق . وقيل : الأول نهي عن الزنى ، والثاني نهي عن مخالطتهن . كذا في " العناية " .
قال ابن كثير : كما شرط الإحصان في النساء -وهي العفّة عن الزنى -كذلك شرطها في الرجال . وهو أن يكون الرجل أيضاً محصنا عفيفاً . ولهذا قال : { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } وهم الزنات الذين لا يرتدعون عن معصية ولا يردّون أنفسهن عمن جاءهم : { وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } أي : ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلاّ معهنّ ، كما تقدم في سورة النساء ، سواء ، ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله -إلى أنه لا يصحّ نكاح المرأة البغي حتى تتوب ، وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف . وكذلك لا يصح عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزنى ، لهذه الآية وللحديث : < لا ينكح الزاني المجلود إلاّ مثله > .
وروى ابن جرير : أن عُمَر بن الخطاب قال : لقد هممت أن لا أدع أحداً أصاب فاحشةً في الإسلام أن يتزوج محصنة . فقال له أبيّ بن كعب : يا أمير المؤمنين ! الشرك أعظم من ذلك . وقد يقبل منه إذا تاب .
وقوله تعالى : { وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } يريد بـ ( الإيمان ) شرائع الإسلام . على أنه مصدر أريد به المؤمن به ، كـ ( درهمٌ ضَرْبُ الأمير ) . ( الكفر ) الإباء عنه وجحوده . والآية تذييل لقوله : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } ... تعظيماً لشأن ما أحله الله وما حرّمه ، وتغليظاً على من خالف ذلك . كذلك في " العناية " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ 6 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } لما كان من جملة الإيفاء بالعقود التي افتتحت به هذه السورة إقامة الصلاة ، وكانت مشروطة بالطهارة ، بيّن سبحانه في هذه الآية كيفيّتها .
قال بعض المفسرين : نزلت في عبد الرحمن وكان جريحاً : وقيل لما احتبس صلى الله عليه وسلم في سفرٍ ليلاً -بسبب عقدٍ ضاع لعائشة ، وأصبحوا على غير ماء . انتهى .
والثاني رواه البخاري -كما في " أسباب النزول " للسيوطي -وقد قدمنا الكلام على ذلك في سورة النساء في ( آية التيمم ) ثمة . فانظره .
ولهذه الآية ثمرات هي أحكام شرعية .
الأولى : وجوب الوضوء وقت القيام إلى الصلاة أي : إرادته . فقوله تعالى : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } . كقوله : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّه } [ النحل : 98 ] . وكقولك : إذا ضربت غلامك فهوّن عليه : في أن المراد إرادة الفعل . قال الزمخشري : فإن قلت : لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل ؟ قلت : لأن الفعل يوجد بقدرة الفاعل عليه وإرادته له ، وهو قصده إليه وميله وخلوص داعيه . فكما عبر عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم : الإنسان لا يطير ، والأعمى لا يبصر ، أي : لا يقدران على الطيران والإبصار . ومنه قوله تعالى : { نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } يعني إنا كنا قادرين على الإعادة - كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل ، وذلك لأن الفعل مسبب عن القدرة والإرادة . فأقيم المسبب مقام السبب للملابسة بينهما . ولإيجاز الكلام ونحوه ، من إقامة المسبب مقام السبب ، قولهم : كما تدين تدان . عَبّر عن الفعل المبتدأ -الذي هو سبب الجزاء -بلفظ الجزاء الذي هو مسبب عنه .
الثانية : ظاهر الآية وجوب الوضوء على كل قائمٍ إلى الصلاة وإن لم يكن محدثاً . نظراً إلى عموم : { الَّذِينَ آمَنُوا } من غير اختصاص بالمحدثين . والجمهور على خلافه لما روى الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن عن بريدة قال : < كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة . فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد ، فقال : له عمر : يا رسول الله ! إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله . قال : إني عمداً فعلته يا عمر > . وروى البخاري عن سويد بن النعمان قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عام خيبر . حتى إذا كنا بالصهباء صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر . فلما صلى دعا بالأطعمة . فلم يؤت إلاّ بالسويق . فأكلنا وشربنا . ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى المغرب . فمضمض ثم صلى بنا المغرب ولم يتوضأ . وروى الإمام أحمد وأبو داود عن عبيد الله بن عبد الله بن عُمَر ، وقد سئل عن وضوء أبيه عبد الله ، لكل صلاة ، طاهراً أو غير طاهر ، عمن هو ؟ قال : حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب ؟ إنّ عبد الله بن حنظلة بن الغسيل حدثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أُمِر بالوضوء لكل صلاة ، طاهراً أو غير طاهر . فلما شقّ ذلك عليه أُمِر يالسواك عند كل صلاة ، ووضع عنه الوضوء إلاّ من حدث . فكان عبد الله يرى أنه به قوة على ذلك . كان يفعله حتى مات . قال ابن كثير : وفي فعل ابن عمر هذا ، ومداومته على إسباغ الوضوء لكل صلاة ، دلالة على استحباب ذلك . كما هو مذهب الجمهور . وقد روى ابن جرير عن ابن سيرين ، أن الخلفاء كانوا يتوضؤون لكل صلاة . وعن عِكْرِمَة : أن علياً -رضي الله عنه -كان يتوضأ عند كل صلاة , ويقرأ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } الآية, وعن النزال بن سَبْرة قال : رأيت علياً صلى الظهر . ثم قعد للناس في الرحبة . ثم أتى بماء فغسل وجهه ويديه . ثم مسح برأسه ورجليه وقال : هذا وضوء من لم يحدث ، وفي رواية : أنه توضأ وضوءاً فيه تجوّز فقال : هذا وضوء من لم يحدث ؛ وكذا حكى أنس عن عمر أنه فعله ، والطرق كلّها جيدة . وأما ما رواه أبو داود الطيالسي عن سعيد بن المسيب أنه قال : الوضوء من غير حدث اعتداء -فهو غريب عنه . ثم هو محمول على من اعتقد وجوبه ، وأما مشروعيته استحباباً فقد دلت السنة على ذلك . روى الإمام أحمد عن أنس قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة . قيل له : فأنتم كيف تصنعون ؟ قال : كنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم نحدث ! ورواه البخاري وأهل السنن أيضاً .
وروى أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن جرير عن ابن عمر مرفوعاً : من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات . وضعفه الترمذي .
وإذا دلت هذه الأحاديث على أن الوضوء لا يجب إلاّ على المحدث ، فالوجه في الخروج من ظاهر الآية ، أن الخطاب فيه خاص بالمحدثين .
وفي " العناية " : الإجماع صرفها عن ظاهرها . فأما أن تكون مقيدة -أي وأنتم محدثون -بقرينة دلالة الحال ، ولأنه اشترط الحدث في البدل وهو التيمم -فلو لم يكن له مدخل في الوضوء ، مع المدخلية في التيمم ، لم يكن البدل بدلاً . وقوله : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء } صريح في البدلية . وقيل : في الكلام شرط مقدر . أي : إذا قُمْتم إلى الصَّلاَةِ . إن كنتم محدثين . وإن كنتم جنباً فاطهروا . وهو قريب جدّاً . انتهى .
وزعم بعضهم ؛ أن الوجوب على كل قائم للصلاة كان في أول الأمر ثم نسخ . واستدلّ على ذلك بحديث عبد الله بن حنظلة المتقدم . ونظر فيه بحديث : ( المائدة من آخر القرآن نزولاً ) وأجيب بأن الحافظ العراقي قال : لم أجده مرفوعاً . هذا ، وقال الزمخشري : لا يجوز أن يكون الأمر في الآية شاملاً للمحدثين وغيرهم -لهؤلاء على وجه الإيجاب ، ولهؤلاء على وجه الندب -لأن تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية . وفي " الإنصاف " : من جوز أن يراد بالمشترك كلّ واحدٍ من معانيه على الجمع ، أجاز ذلك في الآية . ومن المجوزين لذلك الشافعي -رحمه الله تعالى -وناهيك بإمام الفن وقدوته . وإذا وقع البناء على انتهى صيغة ( أفعل ) مشتركة بين الوجوب والندب ، صح تناولها في الآية الفريقين المحدثين والمتطهرين . وتناولها للمتطهرين من حيث الندب ، والله أعلم .
الثالثة : قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : تمسك بهذه الآية مَنْ قال : إنّ الوضوء أول ما فرض بالمدينة, فأمّا ما قبل ذلك, فنقل ابن عبد البرّ اتفاق أهل السير على أن غسل غسل الجنابة إنما فرض على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة, كما فرضت الصلاة . وأنه لم يصلّ قط إلا بوضوء قال : وهذا مما لا يجله عالم .
وقال الحاكم في " المستدرك " : وأهل السنة بهم حاجة إلى دليل الردّ على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة . ثم ساق حديث ابن عباس : دخلت فاطمة على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهي تبكي , فقالت : هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك ! فقال : ائتوني بوضوء فتوضَأ... الحديث .
قال ابن حجر : وهذا يصلح رداً على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة, لا على من أنكر وجوبه حينئذٍ . وقد جزم ابن الحكم المالكيّ بأنه كان قبل الهجرة, لا مندوباً, وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلاّ بالمدينة, وردّ عليهما بما أخرجه ابن لهيعة في " المغازي " التي يرويها عن أبي الأسود -يتيم عروة -عنه ؛ أن جبريل علّم النبيّ صلى الله عليه وسلم الوضوء عند نزوله عليه بالوحي . وهو مرسل ؛ ووصله أحمد من طريق ابن لهيعة أيضاً . لكن قال : عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد عن أبيه, وأخرجه ابن ماجة من رواية رِشْدين بن سعد, عن عقيل, عن الزهري, نحوه . لكن لم يذكر زيد بن حارثة في السند, وأخرجه الطبراني في " الأوسط " من طريق الليث عن عقيل موصولاً, ولو ثبت لكان على شرط الصحيح, لكن المعروف رواية ابن لهيعة . انتهى .
أي : وابن لهيعة يضعف في الحديث . الرابعة : قيل : في الآية دلالة على أن الوضوء لا يجب لغير الصلاة . وأيد بما رواه أو داود والنسائي والترمذي عن عبد الله بن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء فقدم إليه طعام فقالوا : ألا نأتيك بوضوء ؟ فقال : إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة . قال الترمذي : حديث حسن .
وروى مسلم عن ابن عباس قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم . فأتى الخلاء . ثم إنه رجع فأتي بطعام ، فقيل : يا رسول الله ! ألا تتوضأ ؟ فقال : لم أصلّ فأتوضأ .
وأما اشترط الوضوء لطواف وسجدة التلاوة وصلاة الجنازة ومسّ المصحف - عنه من أوجبه -فمن أدلةٍ أخر مقررة في فقه الحديث .
الخامسة : ( وجوب غسل الوجه ) والغسل إمرار الماء على المحل حتى يسيل عنه ، هذا هو المحكي عن أكثر الأئمة . زاد بعضهم : مع الدلك . وعن النفس الزكية : أن مجرد الإمساس يكفي وإن لم يَجِْر . وحدّ الوجه من منابت شعر الرأس إلى منتهى الذقن طولاً . ومن الأذن إلى الأذن عرضاً . وقد ساق بعض المفسرين هنا مذاهب ، فيما يشمله الوجه وما لا يشمله ، ومحلها كتب الخلاف .
السادسة : ( وجوب غسل اليدين ) : وهذا مجمع عليه ؛ وأما المرفقان ، تثنية مرفق ( كمنْبَر ومَجْلِس ) موصل الذراع في العضد ، فالجمهور على دخولهما في المغسول ؛ وحكي عن زفر وبعض المالكية وأهل الظاهر عدم دخولهما . وسبب الخلاف أن المغيّا بـ ( إلى ) تارةً يتضح دخوله في الغاية ، وطوراً لا ، وآونة يحتمل .
قال الزمخشري : ( إلى ) تفيد معن الغاية مطلقاً ، فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل فمما فيه دليل على الخروج قوله : { فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } [ البقرة : 280 ] ، لأن الإعسار علة الإنظار ، وبوجود الميسرة تزول العلة ، ولو دخلت الميسرة فيه لكان منظراً في كلتا الحالتين ، معسراً وموسراً ، وكذلك : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } [ البقرة : 187 ] . لو دخل الليل لوجوب الوصال ؛ ومما فيه دليل على الدخول قولك : حفظت القرآن من أوله إلى آخره ، لأن الكلام مسوق لحفظ القرآن كله . ومنه قوله تعالى : { مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } [ الإسراء : 1 ] . لوقوع العلم بأنه لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله ؛ وقوله : { إِلَى الْمَرَافِقِ } و : { إِلَى الْكَعْبَينِ } لا دليل فيه على أحد الأمرين ، فأخذ كافة العلماء بالاحتياط . فحكموا بدخولها في الغسل ، وأخذ زفر وداود بالمتيقن ، فلم يدخلاها . انتهى .
قال الرضي : الأكثر عدم دخول حدّي الابتداء والانتهاء في المحدود . فإذا قلت : اشتريت من هذا الموضع إلى ذلك الموضع ، فالموضعان لا يدخلان ظاهراً في الشراء . وجوز دخولهما فيه مع القرينة ؛ وقال بعضهم : ما بعد ( إلى ) ظاهر الدخول فيما قبلها . فلا تستعمل في غيره إلا مجازاً . وقيل : إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها نحو : أكلت السمكة إلى رأسها ، فالظاهر الدخول وإلاّ فلا ، نحو : أتموا الصيام إلى الليل . والمذهب هو الأول . ثم قيل : بأنها في الآية بمعنى ( مع ) كقوله تعالى : { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُم } [ النساء : 2 ] . قال : الرضي : والتحقيق أنها بمعنى الانتهاء . أي : تضيفوها إلى أموالكم ، ومضافة إلى المرافق . انتهى .
قال صاحب " النهاية " : وقول من لم يدخل المرافق من جهة الدلالة اللفظية أرجح ، وقول من أدخلها من جهة الأثر أبين ، لأن في حديث مسلم مما رواه أبو هريرة : أنه غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد . ثم اليسرى ، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق . ثم اليسرى كذلك . واحتج أهل المذاهب بحديث جابر : أنه صلى الله عليه وسلم كان يدير الماء على مرفقيه . قالوا : ودلالة الآية مجملة . وهذا بيان للمجمل . وبيان المجمل الواجب يكون واجباً . انتهى .
وقال المجد ابن تيمية في " المنتقى " : يتوجه من حديث أبي هريرة وجوب غسل المرفقين لأن نص الكتاب يحتمله ، وهو مجمل فيه ، وفعله صلى الله عليه وسلم بيان لمجمل الكتاب ، ومجاوزته للمرفق ليس في محل الإجمال ، ليجب بذلك . انتهى .
وأجابوا بأن حديث جابر رواه الدارقطني والبيهقي . وفي إسناده متروك . وقد صرح بضعفه غير واحد من الحفاظ . وحديث أبي هريرة فعل لا ينتهض بمجرده على الوجوب . وقولهم ( هو بيان للمجمل ) فيه نظر . لأن ( إلى ) حقيقة في انتهاء الغاية -كما قدمنا -فلا إجمال . والله أعلم .
السابعة : قال الرازي : يقتضي قوله تعالى : { إِلَى الْمَرَافِقِ } تحديد الأمر ، لا تحديد المأمور به . يعني أن قوله : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } أمر بغسل اليدين إلى المرفقين فإيجاب الغسل محدود بهذا الحدّ فبقي الواجب هو هذا القدر فقط, أما نفس الغسل فغير محدود بهذا الحدّ, لأنه ثبت بالأخبار أن تطويل الغرة سنة مؤكدة . انتهى .
الثامنة : أشعر أيضاً قوله تعالى : { إِلَى الْمَرَافِقِ } أن ينتهي في غسل اليدين بها, ويبتدأ بالأصابع . قال الحاكم : وقد وردت السنة بذلك, وهو الذي عليه الفقهاء, ولدلالة لفظ ( إلى ) لأنها للغاية, وغاية الشيء آخره . وقالت الإمامية : السنة أن يبتدئ بالمرفق . وقالوا : إن ( إلى ) هنا بمعنى ( من ) قال الحاكم : هذا تقدير فاسد .
التاسعة : ذهب الجمهور إلى أن تقديم اليمين على الشمال سنّة, مَنْ خالفها فاته الفضل وتم وضوؤه . وذهب العترة والإمامية -كما في " البحر " للمهدي - إلى وجوبه . واحتج عليهم بأن الآية لا تفيد ذلك, فمتى غسلهما مرتباً أو غير مرتب -قدم اليمنى أو اليسرى -فقد امتثل الأمر . وأجابوا بأن الدلالة على الوجوب من السنة, فقد روى أحمد وأبو داود عن أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < إذا لبستم وإذا توضأتم فابدأوا بأيامنكم > ! وأجيب : بأن الأمر للندب لقوله : إذا لبستم وإذا توضأتم, فقرن بينه وبين اللبس . فإذن يدل على وجوب التيامن في اللبس كما يدلّ عليه في الوضوء, وهم لا يقولون به . أيضاً فقد روي عن عليّ عليه السلام أنه قال : ما أبالي بدأت بيميني أو بشمالي إذا أكملت الوضوء . رواه الدارقطني . وروى نحوه البيهقي وابن أبي شيبة . وروى أبو عبيد في الطهور : أن أبا هريرة كان يبدأ بميامنه, فبلغ ذلك علياً فبدأ بمياسره . ورواه أحمد بن حنبل عن عليّ قال الحافظ ابن حجر : وفيه انقطاع . وهذه الطرق يقوي بعضها بعضاً . وكذلك الحديث وكذلك الحديث المقترن بالتيامن في اللبس ، المجمع على عدم وجوبه ، صالح لجعله قرينة تصرف الأمر إلى الندب . ودلالة الاقتران -وإن كانت ضعيفة -لكنها لا تقصر عن الصلاحية للصرف لاسيما مع اعتضادها بقول عليّ عليه السلام وفعله .
العاشرة : ذهب بعض العترة إلى أنه لا مسح على الجبائر . ففي " الأحكام " من كتبهم : إذا جبر على جرح أو كسر وخشي نزع الجبائر ضرراً ، لا يشرع المسح . قال : لأن الآية تقتضي غسل اليد دون ما عليها . والجمهور منهم ومن غيرهم : أنه يمسح ، لحديث جابر : إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه ثم يمسح عليه و يغسل سائر جسده . رواه أبو داود والدارقطني . وصححه ابن السكن .
الحادية عشرة : ( وجوب مسح الرأس ) :
والمسح إمساس المحل الماء بحيث لا يسيل ، والباء في قوله تعالى : { بِرُؤُوسِكُمْ } تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق ، فكأنه قيل : وألصقوا المسح برؤوسكم قال الزمخشري : وماسح بعض الرأس ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح برأسه . أي : فيكون الواجب مطلق المسح كلاً أو بعضاً -وأيّاً ما كان -وقع به الامتثال . والسنة الصحيحة وردت بالبيان ، وفيها ما يفيد جواز الاقتصار على مسح البعض في بعض الحالات كما في صحيح مسلم وغيره من حديث المغيرة ، أنه صلى الله عليه وسلم أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة ، أنه مسح رأسه فأقبل وأدبر . وهذه هي الهيئة التي استمرّ عليهما صلى الله عليه وسلم . فاقتضى هذا أفضلية الهيئة التي كان صلى الله عليه وسلم يداوم عليها . وهي : مسح الرأس مقبلاّ ومدبراً . وإجزاء غيرها في بعض الأحوال . ولا يخفى أن الآية لا تفيد إيقاع المسح على جميع الرأس . كما في نظائره من الأفعال . نحو : ضربت رأس زيد ، وبرأسه . وضربت زيداً وضربت يد زيد . فإنه يوجد المعنى اللغوي في جميع ذلك ، بوجود الضرب على جزءٍ من الأجزاء المذكورة . وهكذا ما في الآية . وليس النزاع في مسمى الرأس لغة ، حتى يقال : إنه حقيقة في جميعه . بل النزاع في إيقاع المسح عليه . وعلى فرض الإجمال ، فقد بينه الشارع تارةً بمسح الجميع ، وتارةً بمسح البعض ، بخلاف الوجه . فإنه لم يقتصر على غسل بعضه في حال من الأحوال ، بل غسله جميعاً . وأما اليدان والرجلان فقد صرح فيهما بالغاية . فإن قلت : إن المسح ليس كالضرب الذي مثلث به . قلت : لا ينكر أحد من أهل اللغة أنه يصدق قول من قال ( مسحت الثوب أو بالثوب . أو مسحت الحائط أو بالحائط ) على مسح جزء من أجزاء الثوب أو الحائط . وإنكار مثل هذا مكابرة . كذا في " الروضة " .
قال شمس الدين بن القيّم في " الهدى " : ولم يصحّ عنه صلى الله عليه وسلم في حديث واحد ، أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة . ولكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة - فأما حديث أنس الذي رواه أبو داود : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية ، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة -فهذا مقصود أنس به أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَنْقُضْ عمامته حتى يستوعب مسحُ الرأس الشعرَ كله . ولم ينف التكميل على العمامة . وقد أثبته المغيرة بن شعبة وغيره . فسكوت أنس عنه لا يدل على نفيه . انتهى .
قال الشوكاني : ليس النزاع إلا في الوجوب . وأحاديث التعميم ، وإن كانت أصح ، وفيها زيادة وهي مقبولة -لكن أين دليل الوجوب ؟ وليس إلاّ مجرد الفعل . وهو لا يدل على الوجوب . ثم قال : وبعد هذا ، فلا شك في أولوية استيعاب المسح لجميع الرأس وصحة أحاديثه . ولكن دون الجزم بالوجوب ، مفاوز وعقاب .
فصل
وأما قوله تعالى : { وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ } . فقرأه بالنصب نافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب . وبالجرّ الباقون ، ومن هاتين القراءتين تشعبت المذاهب في صفة طهارة الرجلين . فمن ذاهب إلى أن طهارتهما الغسل . ومن ذاهب إلى أنها المسح . ومن مخيّر بينهما . ولكلٍّ من هذه المذاهب حججٌ وتأويلاتٌ وأجوبةٌ ومناقشاتٌ تسوق شذرةً منها . فنقول : قال الأولون : قراءة النصب ظاهرهما يفيد الغسل . وقراءة الجرّ ظاهرهما يفيد المسح . إلا أنه لما وجد ما يرجح الغسل تأولنا ما أفادته قراءة الجرّ في الظاهر . والمرجح للغسل أمور .
منها ما في " الصحيحين " و " السنن " عن عثمان وعليّ وابن عباس ومعاوية عبد الله بن زيد بن عاصم والمقداد بن معد يكرب ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرجلين في وضوئه ، إما مرةً وإما مرتين أو ثلاثاً . على اختلاف رواياتهم . وفي حديث عَمْرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه ثم قال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاّ به .
و في " الصحيحين " عن عبد الله بن عَمْرو قال : تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره . فأدركَنا وقد أهنا العصر . فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا . قال ، فنادى بأعلى صوته : ويل للأعقاب من النار . مرتين أو ثلاثاً . وكذلك هو في " الصحيحين " عن أبي هريرة . وفي " صحيح مسلم " عن عائشة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : < أسبغوا الوضوء . ويل للأعقاب من النار > ، وروى البيهقي والحاكم ، بإسناد صحيح ، عن عبد الله بن الحارث بن جزء ؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار > وروى الإمام أحمد وابن ماجة وابن جرير عن جابر بن عبد الله قال : رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم في رِجْلِِ رَجُلٍ مثلَ الدرهم لم يغسله ، فقال : < ويلٌ للأعقاب من النار > . قال ابن كثير : ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهرة . وذلك أنه لو كان فرض الرجلين مسحهما ، أو أنَّه يجوز ذلك ، لما توعد على تركه ، لأن المسح لا يستوعب جميع الرِّجل . بل يجري فيه ما يجري في مسح الخف . وروى الإمام أحمد عن خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبيّ : < أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلّي وفي ظهر قدمه لمعةٌ قدر الدرهم ، لم يصبها الماء . فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء > . زاد أبو داود : والصلاة . وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة قال : حدثنا عَمْرو بن عَبسَة قال : < قلت : يا رسول الله ! أخبرني عن الوضوء ، قال : ما منكم من أحدٍ يقرب وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر ، إلاّ خرت خطاياه من فمه وخياشيمه مع الماء حين ينتثر ، ثم يغسل وجهه كما أمره الله إلاّ خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء . ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلاّ خرت خطايا يديه من أطراف أنامله . ثم يمسح رأسه إلاّ خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء . ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمر الله إلاّ خرت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء . ثم يقوم فيحمد الله ويثني بالذي هو له أهل ، ثم يركع ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه > .
قال أبو أمامة : يا عَمْرو ! انظر ما تقول . سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أَيُعْطى هذا الرجل كله في مقامه ؟ قال عَمْرو بن عَبَسة : يا أبا أمامة ! لقد كبر سني ورقّ عظمي واقترب أجلي . وما بي حاجة أن أكذب على الله وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ مرة أو مرتين أو ثلاثاً . لقد سمعته سبع مرات أو أكثر من ذلك . . قال ابن كثير : وإسناده صحيح وهو في " صحيح مسلم " من وجه آخر ، وفيه : ثم يغسل قدميه كما أمره الله . فدلّ على أن القرآن يأمر بالغسل . وهكذا روى أبو إسحاق السبيعي عن الحارث عن علي رضي الله عنه أنه قال : اغسلوا القدمين إلى الكعبين كما أمرتم . ومن ههنا يتضح لك المراد من حديث عبدُ خَير عن عليّ ، < أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رش على قدميه الماء وهما في النعلين فدلكهما . إنما أراد غسلاً خفيفاً وهما في النعلين > . ولا مانع من إيجاد الغسل والرّجل في نعلها . ويكون في هذا ردّ على المتعمقين والمتنطعين من الموسوسين . وهكذا ما رواه ابن جرير عن حذيفة قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سباطة قومٍ فبال قائماً ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه . وهو حديث صحيح . وقد أجاب ابن جرير عنه : بأن الثقات الحفاظ رووه عن حذيفة : فبال قائماً ثم توضأ ومسح على خفيه . قال ابن كثير : ويحتمل الجمع بينهما . بأن يكون في رجليه خفان وعليهما نعلان .
وهكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أوس بن أبي أوس قال : < رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه ثم قام إلى الصلاة > . ورواه أبو داود عنه بلفظ : < رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال وتوضأ ومسح على نعليه وقدميه > . ثم قال الجمهور : إن قراءة الجرّ محمولة على الجوّ الجواريّ . ونظيره كثير في القرآن والشعر . كقوله تعالى : { عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } [ هود : 26 ] و : { وَحُورٌ عِينٌ } [ الواقعة : 22 ] بالجرّ في قراءة حمزة والكسائي عطفاً على : { بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ } [ الواقعة : 18 ] والمعنى مختلف . إذ ليس المعنى : يطوف عليهم ولدان مخلدون بحور عين . وكقولهم : جحرٍ ضبٍ خربٍ ، وللنحاة باب في ذلك . حتى تعدوا ، من اعتباره في الإعراب ، إلى التثنية والتأنيث وغير ذلك . وقد ساق شذرة من أشباهه ونظائره أبو البقاء هنا . فانظره . وما قيل بأن حرف العطف مانع من الجواز ( زعماً بأنه خاص بالنعت والتأكيد ) مردود بأنه ورد في العطف كثيراً في كلام العرب . قال الشاعر :
~لم يبق إلاّ أسير غير منفلتٍ وموثقٍ في عقال الأسر مكبول
فخفض ( موثقاً ) بالمجاورة للمنفلت - وحقه الرفع عطفاً على ( أسير ) . وقال :
~فهل أنت - إن ماتت أتانك - راحلٌ إلى آل بسطام بن قيس فخاطبِ
فجرّ ( فخاطب ) للمجاورة . وحقه الرفع عطفاً على ( راحل ) . وكفى في الردّ قراءة ( وحورٍ ) بالجرّ كما قدّمنا . قالوا : وشرط حسن الجرّ الجواريّ عدم الإلباس مع تضمن نكتة . وهنا كذلك . فإن الغاية دلت أنه ليس بممسوح . إذ المسح لم تضرب له غاية في الشريعة . والنكتة فيه الإشارة إلى تخفيفه حتى كأنه مسح . قال الناصر في " الانتصاف " : والوجه فيه أن الغسل والمسح متقاربان ، من حيث إن كل واحد منهما إمساس بالعضو . فيسهل عطف الغسول على المسوح من ثَمَّ - كقوله : متقلداً سيفاً ورمحاً . وعلفتها تبناً وماء بارداً - ونظائره كثيرة . وبهذا وجّه الحذاق . ثم يقال : ما فائدة هذا التشريك بعلة التقارب ؟ وهلاً أسند إلى كل واحد منهما الفعل الخاص به على الحقيقة ؟ فيقال : فائدته الإيجاز والاختصار وتوكيد الفائدة - بما ذكره الزمخشري - أي : من أنّ الأرجل لما كانت مظنة للإسراف المذموم المنهيّ عنه ، فعطف على الرابع المسوح ، لا لتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصار في صبّ الماء عليها . ثم قال الناصر : وتحقيقه أن الأصل أن يقال مثلاً : واغسلوا أرجلكم غسلاً خفيفاً لا إسراف فيه كما هو المعتاد ، فاختصرت هذه المقاصد بإشراكه الأرجل مع الممسوح . ونبه بهذا التشريك ، الذي لا يكون إلاّ في الفعل الواحد أو الفعلين المتقاربين جدّاً ، على أن الغسل المطلوب في الأرجل ، غسل خفيف يقارب المسح . وحسن إدراجه معه تحت صيغة واحدة . انتهى .
وأما من أوجب الجمع بين المسح والغسل فأخْذاً بالجمع بين القراءتين . ومراد من ذهب إلى وجوب الجمع بين غسل الرجلين ومسحهما . فحكاه من حكاه كذلك . ولهذا يستشكله كثير من الفقهاء ، وهو معذور . فإنه لا معنى للجمع بين المسح والغسل سواء تقدمه أو تأخر عليه لاندراجه فيه . وإنما أراد ما ذكرته والله أعلم . ثم تأملت كلامه أيضاً فإذا هو يحاول الجمع بين القراءتين في قوله : { وَأَرْجُلَكُمْ } خفضاً على المسح وهو الدلك ، ونصباً على الغسل ، فأوجبهما أخذاً بالجمع بين هذه وهذه . انتهى .
و أما من قال : الواجب هو المسح ، فتمسك بقراءة الجر ، وهو مذهب الإمامية . وأجابوا عن قراء النصب بأنها مقتضية للمسح أيضاً . وقد وقفت على كتاب " شرح المقنعة " من كتبهم فوجدته أطنب في هذا البحث ، ووجه اقتضاء النصب للمسح بأن موضع الرؤوس موضع نصب لوقوع الفعل ، الذي هو المسح عليه . قال : وعلى هذا لا ينكر أن يعطف الأرجل على موقع الرؤوس لا لفظها فينصب ، والعطف على الموضع جائز مشهور في لغة العرب . ثم ساق الشواهد في ذلك وقال بعد : فإن قيل : ما أنكرتم أن تكون القراءة بالنصب لا تقتضي الغسل ، فلا تحتمل المسح . لأن عطف الأرجل على مواضع الرؤوس في الإيجاب توسّع وتجوّز . والظاهر والحقيقة يوجبان عطفها على اللفظ لا الموضع ، قلنا : ليس الأمر على ما توهمتم ، بل العطف على الموضع مستحسن في لغة العرب ، وجائز لا على سبيل الاتساع والعدول عن الحقيقة . فالمتكلم مخير بين حمل الأعراب على اللفظ تارةً ، وبين حيله على الموضع أخرى .
قال : وهذا ظاهر في العربية مشهور عند أهلها ، وفي القرآن والشعر له نظائر كثيرة . ثم قال : على أنّا لو سلمنا أن العطف على اللفظ أقوى ، لكان عطف الأرجل على موضع الرؤوس أولى , مع القراءة بالنصب ,لأن نصب الأرجل لا يكون إلاّ على أحد وجهين : إما بأن يعطف على الأيدي والوجوه في الغسل ,أو يعطف على موضع الرؤوس فينصب ,ويكون حكمها المسح . وعطفها على موضع الرؤوس أولى . وذلك أن الكلام إذا حصل فيه عاملان , أحدهما قريب والآخر بعيد , فإعمال الأقرب أولى من إعمال الأبعد . وقد نص أهل العربية على هذا في باب التنازع . انتهى . فتأمّل جدلهم .
قال الحافظ ابن كثير : وقد روي عن طائفة من السلف بالمسح : فروى ابن جرير عن حميد قال : قال موسى بن أنس ونحن عنده : يا أبا حمزة ! إن الحجاج خطبنا بالأهواز ، ونحن معه . فذكر الطهور فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم . وإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه .
فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما . فقال أنس : صدق الله وكذب الحجاج . قال الله تعالى : { وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } .
قال : وكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما .
قال ابن كثير : إسناده صحيح إليه .
وروى ابن جرير أيضاً عن عاصم عن أنس قال : نزل القرآن بالمسح ، والسنة بالغسل . وإسناده صحيح أيضاً .
وأسند أيضاً عن عِكْرِمَة عن ابن عباس قال : الوضوء غسلان ومسحتان .
وكذا روى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة . وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : { وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } ، قال : هو المسح . ثم قال : وروى ابن عمر وعلقمة وأبي جعفر محمد بن عليّ والحسن ( في إحدى الروايات ) وجابر بن يزيد ومجاهد ( في إحدى الروايتين ) نحوه . وروى ابن جرير عن أيوب قال : رأيت عِكْرِمَة يمسح على رجليه . وعن الشعبي قال : نزل جبريل بالمسح . ألا ترى أنّ التيمم ، أن يمسح ما كان غسلاً ويلغي ما كان مسحاً ؟
وأمّا من ذهب إلى التخيير ، فقال : لما جاءت القراءة بما يوجب الغسل وبما يوجب المسح ، دل على أنه مخير . قال في " الشفا " : القراءتان لا توجبان الجمع ، بل تثبتان التخيير .
ولا يخفى أن ظاهر الآية صريح في أن واجبهما المسح . كما قال ابن عباس وغيره . وإيثار غسلهما في المأثور عنه صلى الله عليه وسلم ، إنما هو للتزيد في الفرض والتوسع فيه حسب عادته صلى الله عليه وسلم ، فإنه سنّ في كل فرضٍ سنناً تدعمه وتقويه . في الصلاة والزكاة والصوم والحج . وكذا في الطهارات كما لا يخفى ، ومما يدلّ على أن واجبهما المسح ، تشريع المسح على الخفين والجوربين . ولا سند له إلا هذه الآية . فإن كل سنة أصلها في كتاب الله ، منطوقاً أو مفهوماً ، فاعرف ذلك واحتفظ به ، والله الهادي .
فصل
فيما قاله الصوفية -قدس الله سرهم -من أسرار طهارة هذه الأعضاء :
فأما الوجه ، فإنما وجب غسله لأن فيه أكثر الحواس الظاهرة التي ينتفع بالمحسوسات بواسطتها ، فلا بدّ من تطهيره عن ظهور آثار حدثت عنها ، ولسبق الإحساس على العمل ، قدم ما فيه أكثر الحواس الظاهرة أي : غير السمع . ثم أمر بتطهير الآلة الفاعلية للأفعال ، التي منها تلك الآثار -وهي الأيدي إلى المرافق - لأن العمل بالأصابع يحتاج إلى تحريك الكف التي لا تتحرك غالباً إلاّ بتحريك المرافق ، ثم أمر بمسح الرأس لأنه جامع للحواس الباطنة ، فأشبه جامع الحواس الظاهرة ، وأخره عن غسل اليدين لأنه مخزن الصور المدركة بالحواس الظاهرة من أعماله وغيرهما . ولم يأمر بغسله لأنه يضر بصاحب الشعر ، ولا بد منه في الزينة ، لاسيّما للمرأة ، فخفف بالمسح . ثم أوجب غسل آلة السعي لمشابهة آلة العمل وهي الأرجل ، ولما كانت حركتها توجب حركة جميع البدن ، اقتصر على أدنى الغايات ، أعني : الكعبين ، لئلا تبطل فائدة تخصيص الأعضاء ، وفي الفصل بين المغسولات بالممسوح إيماء إلى وجوب الترتيب ، والسرّ فيه ما أشرنا إليه . كذا في تفسير " المهايميّ " .
وذكر الشعراني -قُدِّس سره -في سرّ ذلك ، أن الوجه به حصول المواجهة في حضرة الله تعالى عند خطابه ، والشرع قد تبع العرف في ذلك ، وإلاّ فكل جزء من بدن العبد -ظاهراً وباطناً -ظاهر للحق تعالى من العبد . أمر الله تعالى العبد بالتوبة فوراً . مسارعة للتطهير من النجاسة المعنوية . لأن الماء لا يصل إلى القلب . فافهم . ثم وجه قول الجمهور بدخول المرفقين في اليدين بأنهما محل الارتفاق . وتكمل الحركة بهما في فعل المخالفات . ووجّه قول زفر وداود ، بأنهما لم يتمحضا للذراعين ، لأنهما مجموع شيئين : إبرة الذراع ورأس العظمين ، ثم وجّه مسح جميع الرأس ، بالأخذ بالاحتياط . فيمسح جميع محل الرياسة التي عند المتوضئ ليخرج عن الكبر الذي في ضمنها ، ويمكن من دخول حضرة الله تعالى في الصلاة . فإن من كان عنده مثقال ذرة من كبر لا يمكن من دخوله الجنة يوم القيامة ، كما ورد ، إذ هي الحضرة الخاصة ، وكذلك القول في حضرة الصلاة . ثم وجّه غسل القدمين بمؤاخذة العبد بالمشي بهما في غير طاعة الله عزّ وجل ، وكونهما حاملَيْن للجسم كلّه . وممدين له بالقوة على المشي ، فإذا ضعفا بالمخالفة أو الغفلة سرى ذلك فيما حملاه ، كما يسري منهما القوة إلى ما فوقهما إذا غسل ، فإنهما كعروق الشجرة التي تشرب الماء وتمدّ الأغصان بالأوراق والثمار . فتعين فيهما الغسل دون المسح ، ثم ذكر سرَّ من ذهب إلى وجوب الموالاة في طهارة أعضاء الوضوء ، بأن الغالب على المتطهرين ضعف أبدانهم من كثرة المعاصي ، أو الغفلات ، أو الشهوات ، وإذا لم يكن موالاة جفت الأعضاء كلها قبل القيام إلى الصلاة ، مثلاً . وإذا جفت فكأنها لم تغسل ولم تكتسب بالماء انتعاشاً . ولا حياة تقف بها بين يدي ربها . فخاطبت ربها بلا كمال لحضور ولا إقبال على مناجاته . هذا حكم غالب الأبدان ، أما أبدان العلماء العاملين وغيرهم من الصالحين ، فلا يحتاجون إلى تشديدٍ في أمر الموالاة لحياة أبدانهم بالماء . ولو طال الفصل بين غسل أعضائهم . فيحمل قول من قال بوجوب الموالاة على طهارة عوام الناس . ويحمل قول من قال بالاستحباب على طهارة علمائهم وصالحيهم .
وسمعت سيدي عليّاً الخوّاص ، رحمه الله تعالى ، يقول : نِعْمَ قول من قال بوجوب الموالاة في هذا الزمان . فإنّ من لم يوجبها يؤدي قوله إلى جواز طول الفصل جدّاً . وزيادة البطء في زمن الطهارة ، وفوات أول الوقت ، كأن يغسل وجه في الوضوء للظهر بعد صلاة الصبح . ثم يغسل يديه ربع النهار . ثم يمسح رأسه بعد زوال الشمس . ثم يغسل رجليه قبيل العصر . مع وقوع ذلك المتوضئ مثلاً ، في الغيبة والنميمة والاستهزاء والسخرية والضحك والغفلة . وغير ذلك من المعاصي والمكروهات . أو خلاف الأولى إن كان ممن يؤاخذ به كما يؤاخذ بأكل الشهوات . فمثل هذا الوضوء ، وإن كان صحيحاً في ظاهر الشرع -من حيث إنه يصدق عليه إنه وضوء كامل -فهو قليل النفع لعدم حصول حياة الأعضاء به بعد موتها أو ضعفها أو فتورها . ففات بذلك حكمة الأمر بالموالاة في الوضوء -وجوباً استحباباً -وهي إنعاش البدن وحياته قبل الوقوف بين يدي الله تعالى للمناجاة . ثم لو قدر عدم وقوع ذلك المتوضئ ، الذي لم يوال ، في معصية أو غفلة في الزمن المتخلل بين غسل الأعضاء . فالبدن ناشف كالأعضاء التي عمتها الغفلة والسهو والملل والسآمة . فلم يَصِرْ لها داعية إلى كمال الإقبال على الله تعالى حال مناجاته .
وقد كمل أسرار السنن بما يبهج ، فلينظر في " ميزانه " رحمه الله تعالى .
وفي كلام الله تعالى من الفوائد والأسرار واللطائف ، ما تضيق عنه الأسفار . وقوله تعالى : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً } أي : بخروج مني أو التقاء ختانين : { فَاطَّهَّرُواْ } أي : بالماء ، أي : اغتسلوا به . قال المهايمي : أي : بالغوا في تطهير البدن لأنه يتلذذ به الجميع تلذذاً أغرقه في غير الله ، فأثر فيه بالحدَث : { وَإِن كُنتُم } جنباً : { مَّرْضَى } تخافون من استعمال الماء : { أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ } أي : رجع من مكان البزار : { أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ } أي : اقصدوا : { صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ } تذليلاً للعضوين الشريفين . وقد مرّ تفسير هذا وأحكامه في سورة النساء { مَا يُرِيدُ اللّهُ } أي : ما يريد بالأمر بالطهارة للصلاة . أو بالأمر بالتيمم : { لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } أي : ضيق في الامتثال أو في تحصيل الماء : { وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ } أي : عن الذنوب ، أو ليجعلكم في حكم الطاهرين بالتذلل بالتراب . فإنه لما رفع التكبر فكأنما رفع الحدث الذي ينشأ عن أمثاله : { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } أي : بشرعه ما هو مطهر لأبدانكم ومنعش لها مما لحقها ، ومكفر لذنوبكم ، أو ليتم برخصه إنعامه عليكم بتمكينكم من عبادته بكل حالٍ ، حتى حال الحدث : { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } نعمته ورخصته فيثيبكم .
وقد روى ابن جرير عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه > . ورواه مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة مفصلاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ 7 ] .
{ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } بالهداية لهذا الدين القويم لتذكركم المنعم وترغبكم في شكره : { وَمِيثَاقَهُ } أي : عهده الوثيق : { الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ } أي : أكد عليكم بقوله : { إِذْ قُلْتُمْ } أي : لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } حين بايعتموه على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : في نقض شيء من عهوده ولو بالقلب : { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : بخفيّاتها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ 8 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ } أي : مقتضى إيمانكم الاستقامة ، فكونوا مبالغين في الاستقامة باذلين جهدكم فيها لله . وهي إنما تتم بالنظر في حقوق الله وحقوق خلقه فكونوا : { شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ } أي : العدل . لا تتركوه لمحبة أحد ولا لعداوة أحد : { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ } أي : لا يحملنكم : { شَنَآنُ } أي : شدة عداوة : { قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا } في حقهم . قال المهايمي : أي : فإنّا لا نأمركم به من حيث ما فيه من توفية حقوق الأعداء . بل من حيث ما فيه من توفية حقوق أنفسكم في الاستقامة : { اعْدِلُوا هُوَ } أي : العدل - : { أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } أي : لحفظ الأنفس أن تتجاوز حدّ استقامتها : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : أن تطلبوا حقوقه أو حقوق عباده ولو بطريق توهمون فيه العدل : { إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } من الأعمال فيجازيكم بذلك . وقد ثبت في " الصحيحين " عن النعمان بن بشير أنه قال : نحلني أبي نحلاً . فقالت أمي : لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فجاءه ليشهده على صدقتي فقال : أكلَّ ولدك نحلت مثله ؟ قال : لا . فقال اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ، وقال : إني لا : أشهد على جور . قال فرجع أبي فردّ تلك الصدقة .
قال بعض المفسرين : ثمرة الآية الدلالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بالقسط . يدخل فيه الشهادة بالعدل والحكم به . وكذلك الفتوى . وأن قول الحق لا يترك وجوبه بعدوّ ولا صديق . ولا يجوز إتباع الهوى .
قال الزمخشري وفي هذا تنبيه عظيم على أن العدل إذا كان واجباً مع الكفار الذين هم أعداء الله ، إذا كان بهذه الصفة من القوة ، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه .
القول في تأويل قوله تعالى :(/)
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } [ 9 ] .
{ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } التي من جملتها العدل والتقوى : { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } يعني ثواباً وافراًَ في الجنة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [ 10 ]
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } التي منها ما تلى من الأمر بالعدل والتقوى .
{ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } أهل النار . ثم بيّن تعالى أن من مقتضى الإيمان ملازمة شكره على ذكر نعمه ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [ 11 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي : في حفظه إيّاكم عن أعدائكم : { إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ } أي : بأن يبطشوا بكم بالقتل والإهلاك : { فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ } أي : منعها أن تمدّ إليكم ، وردّ مضرتها عنكم .
قيل : الآية إشارة إلى ما روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهريّ عن أبي سلمة عن جابر : < أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً وتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها . وعلّق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة . فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه فسلَّه . ثم أقبل على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : من يمنعك مني ؟ قال : الله عزّ وجلّ . قال الأعرابي مرتين أو ثلاثاً : من يمنعك مني ؟ والنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : الله . قال فشام الأعرابي السيف . فدعا النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابي . وهو جالس إلى جنبه ، ولم يعاقبه > .
وقال معمر : كان قتادة يذكر نحو هذا ، ويذكر أنّ قوماً من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم . فأرسلوا هذا الأعرابي . وتأوّل هذه الآية .
وأخرج أبو نعيم في " دلائل النبوة " من طريق الحسن عن جابر بن عبد الله ، < أن رجلاً من محارب يقال له غورث بن الحارث قال لقومه : أقتل لكم محمداً : فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس وسيفه في حجره فقال : يا محمد ! أأنظر إلى سيفك هذا ؟ قال : نعم . فأخذه فاستله وجعل يهزه ويهم به فيكبته الله تعالى . فقال يا محمد ! أما تخافني ؟ قال : لا . قال : أما تخافني والسيف في يدي ؟ قال : لا يمنعني الله منك . ثم غمد السيف ورده إلى رسول الله > . فأنزل الله الآية .
وقصة هذا الأعرابي ثابتة في " الصحيح " . وأخرج ابن جرير عن عِكْرِمَة ويزيد بن أبي زيادة واللفظ له أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف حتى دخلوا على كعب بن الأشرف ويهود بني النضير ، يستعينهم في عقلٍ أصابه . فقالوا : نعم . اجلس حتى نطعمك أو نعطيك الذي تسألنا ، فجلس . فقال حييّ بن أخطب لأصحابه : لا ترونه أقرب منه الآن . اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه . ولا ترون شرّاً أبداً ، فجاؤوا إلى رحى عظيمة ليطرحوها عليه ، فأمسك الله عنها أيديهم . حتى جاء جبريل فأقامه من ثمت . فأنزل الله الآية . وروى نحوه ابن أبي حاتم .
قال ابن كثير : ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغدو إليهم ، فحاصرهم حتى أنزلهم فأجلاهم . انتهى .
وعلى هذه الروايات ، فالمراد من قوله تعالى : { اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } تذكير نعمة الله عليهم بدفع الشر والمكروه عن نبيّهم ، فإنه لو حصل ذلك لكان من أعظم المحن .
وذكر الزمخشري ، ومن بعده ، من وجوه إشارات الآية ، ما كان بعسفان من حفظه تعالى لهم من أعدائهم ، لما هموّا بقتلهم عند اشتغالهم بصلاة العصر ، بعد ما رأوهم يصلون الظهر . فندموا على أن لا أكبوا عليهم . فردّ كيد أعدائهم إذ أنزل عليهم صلاة الخوف . انتهى .
ولفظ الآية محتمل لذلك ، بيد أني لم أره الآن مسنداً عن أئمة الأثر .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : في رعاية حقوق نعمته ولا تخلّوا بشكرها { وَعَلَى اللَّهِ } خاصة دون غيره { فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } فإنه الكافي في إيصال الخير ودفع الشر لمن توكل عليه .
قال أبو السعود : والجملة تذييل مقرر لما قبله . وإيثار صيغة أمر الغائب . وإسنادها إلى المؤمنين ، لإيجاب التوكل على المخاطبين بالطريق البرهانيّ ، وللإيذان بأن ما وصفوا به عند الخطاب من وصف الإيمان ، داع إلى ما أمروا به من التوكل والتقوى ، وازع عن الإخلال بهما .
بحث جليل في التوكل
قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية -قدس الله سرّه -في بعض مصنّفاته : قد ظنَّ طائفة ممن تكلم في أعمال القلوب ، أن التوكل لا يحصل به جلب منفعة ولا دفع مضرة . بل ما كان مقدراً بدون التوكل ، فهو مقدر مع التوكل . ولكن التوكل عبادة يثاب عليها من جنس الرضا بالقضا . وذكر ذلك أبو عبد الله بن بطة فيما صنفه في هذا الباب . وقول هؤلاء يشبه قول من قال : إن الدعاء لا يحصل به جلب منفعة ولا دفع مضرة . بل هو عبادة يثاب عليها كرمي الجمار ، وآخرون يقولون : بل الدعاء علامة وأمارة . ويقولون ذلك في جميع العبادات ، وهذا قول من ينفي الأسباب في الخلق والأمر ، ويقول : إن الله يفعل عندها ، لا بها . وهو قول طائفةٍ من متكلمي أهل الإثبات للقدر -كالأشعريّ وغيره ، وهو قول طائفة من الفقهاء والصوفية . وأصل هذه البدعة من قول جهم . فإنه كان غالياً في نفي الصفات وفي الجبر ، فجعل من تمام توحيد الذات نفي الصفات ، ففي تمام توحيد الأفعال نفي الأسباب . حتى أنكر تأثير قدرة العبد ، بل نفى كونه قادراً ، وأنكر الحكمة في التوكل والرحمة . وكان يخرج إلى الجذمي فيقول : أرحم الراحمين يفعل مثل هذا ؟ يعني أنه يفعل بمحض المشيئة بلا رحمة . وقوله في القدر ، قد تقرب إليه الأشعري ومن وافقه من الطوائف . والذي عليه السلف والأئمة والفقهاء والجمهور وكثير من أهل الكلام إثبات الأسباب . كما دل على ذلك الكتاب والسنة ، مع دلالة الحسّ والعقل . والكلام على هؤلاء مبسوط في مواضع أخر . والمقصود هنا الكلام على التوكل . فإن الذي عليه الجمهور أن المتوكل يحصل له بتوكله ، من جلب المنفعة ودفع المضرة ، ما لا يحصل لغيره . وكذلك الدعاء . والقرآن يدل على ذلك في مواضع كثيرة . ثم هو سبب عند الأكثرين ، وعلامة عند من ينفي الأسباب : قال تعالى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : 2 - 3 ] . والحسب : الكافي . فبيّن أنه كاف مَنْ توكل عليه . وفي الدعاء : يا حسيب المتوكلين ! فلا يقال : هو حسْب غير المتوكل كما هو حسْب المتوكل ، لأنه علق هذه الجملة على الأولى تعليق الجزاء على الشرط ، فيمتنع في مثل ذلك أن يكون وجود الشرط كعدمه . ولأنه رتب الحكم على الوصف المناسب له . فعلم أن توكله هو سبب كونه حسيباً له ، ولأنه ذكر ذلك في سياق الترغيب في التوكل ، كما رغب في التقوى . فلو لم يحصل للمتوكل من الكفاية ما لا يحصل لغيره ، لم يكن ذلك مرغِّباً في التوكل . كما جعل التقوى سبباً للخروج من الشدة وحصول الرزق من حيث لا يحتسب . وقال تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ آل عِمْرَان : 173 ] فمدحوه سبحانه بأنه نعم الوكيل ، والوكيل لا يستحق المدح إذا لم يجلب لمن توكل عليه منفعة ولم يدفع عنه مضرة . والله خير من توكل العباد عليه ، فهو نعم الوكيل يجلب لهم كل خير ويدفع عنهم كل شرّ . وقال تعالى : { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً } [ المزمل : 8 - 9 ] . وقال : { وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً } [ الإسراء : 2 ] . فأمر أن يُتَّخَذ وكيلاً ونهى أن يتخذ من دونه وكيلاً ، لأن المخلوق لا يستقل بجميع حاجاتٍ العبد ، والوكالة الجائزة أن يتوكل الإنسان في فعلٍ يقدر عليه ، فيحصل للموكل بذلك بعض مطلوبه . فأما مطالبه كلها فلا يقدر عليها إلاَّ الله . وذاك الذي يوكله لا يفعل شيئاً إلا بمشيئة الله وقدرته . فليس له أن يتوكل عليه ، وإن وكله . بل يعتمد على الله في تيسير ما وكله فيه ، فلو كان الذي يحصل للمتوكل على الله ، يحصل وإن توكل على غيره ، ويحصل بلا توكّل ، لكان اتخاذ بعض المخلوقين وكيلاً أنفع من اتخاذ الخالق وكيلاً . وهذا من أقبح لوازم هذا القول الفاسد . لأن التوكل على الخلق يشهد نفعه . وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 64 ] أي : الله كافيك وكافي مَن اتبعك من المؤمنين . فلو كانت كفايته للمؤمنين المتبعين للرسول -سواء اتبعوه أو لم يتبعوه -لم يكن للإيمان وإتباع الرسول أثر في هذه الكفاية . ولا كان لتخصيصهم بذلك معنى . وكان هذا نظير أن يقال : هو خالقك وخالق من اتبعك . ومعلوم أنّ المراد خلاف ذلك . وإذا كان الحسب معنى يختص بعضَ الناس ، علم أن قول المتوكل : ( حَسْبِيَ اللهُ ) وقوله : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } أمر مختص لا مشترك . وأن التوكل سبب ذلك الاختصاص ، والله تعالى إذا وعد على العمل بوعدٍ أو خصّ أهله بكرامة ، فلا بدّ أن يكون بين وجود ذلك العمل وعدمه فرق في حصول تلك الكرامة . وإن كان قد يحصل نظيرها بسبب آخر . فقد يكفي الله بعض من لم يتوكل عليه كالأطفال . لكن لا بد أن يكون للمتوكل أثر في حصول الكفاية الحاصلة للمتوكلين ، فلا يكون ما يحصل من الكفاية بالتوكل حاصلاً ، وإن عدم التوكل . وقد قال تعالى : { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } [ آل عِمْرَان : 173 - 174 ] ، فعقب هذا الجزاء والحكم لذلك الوصف والعمل ، بحرف ( الفاء ) وهي تفيد السبب ، فدل ذلك على أن ذلك التوكل هو سبب هذا الانقلاب بنعمة من الله وفضل . وأن هذا الجزاء جزاء على ذلك العمل . وفي الأثر : من سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله . فلو كان التوكل لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة ، لم يكن المتوكل أقوى من غيره . وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً } [ الأحزاب : 1 3 ] . وقال في أثناء السورة : { وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً } [ الأحزاب : 48 ] . فأمره سبحانه بتقواه وإتباع ما يوحي إليه وأمره بالتوكل . كما جمع بين هذين الأصلين في غير موضع . كقوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 48 ] . وقوله : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً } [ المزمل : 8 - 9 ] . وقوله : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ الشورى : 10 ] . وقوله : { رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا } [ الممتحنة : 4 ] . وقوله : { هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } [ الرعد : 30 ] . وقوله : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : 2 - 3 ] . وقوله في الفاتحة : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] . وعلم القرآن مجتمع في الفاتحة في هذين الأصلين : عبادة الله والتوكل عليه . وإذا أفرد لفظ العبادة دخل فيه التوكل . فإنه من عبادة الله . كقوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } [ البقرة 21 ] . وقوله : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] . وإذا قرن به التوكل كان مأموراً به بخصوصه . وهذا كلفظ الإسلام والإيمان . والإيمان والعمل ، ولفظ الصلاة مع العبادة ومع إتباع الكتاب . ولفظ الفحشاء والبغي مع المنكر . ونظائر ذلك متعددة ، يكون اللفظ عند تجرده وإفراده يتناول أنواعاً . وقد يعطف بعض تلك الأنواع عليه فيكون مأموراً به لخصومه . ثم قد يقال : إذا عطف لم يدخل في المعطوف عليه . وقد يقال : بل الأمر به خاص وعام ، كما في قوله : { وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة 98 ] . وإذا كان الله أمره بالتوكل على الله ، ثم قال : { وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً } علم أن الله وكيل كاف لمن توكل عليه . كما يقال في الخطب والدعاء : الحمد لله كافي من توكل عليه . وإذا كان " كَفَى بِهِ وكيلا ً " فهذا مختص به سبحانه ، ليس غيره من الموجودات كَفَى به وَكَيلاً ، فإن من يتخذ وكيلاً من المخلوقين غايته أن يفعل بعض الأمور ، وهو لا يفعلها إلاَّ بإعانة الله ، وهو عاجز عن أكثر المطالب ، فإذا كان سبحانه وصف نفسه بأنه " كفى به وكيلاً " علم أنه يفعل بالمتوكل عليه ما لا يحتاج معه إلى غيره ، من جلب المنافع ودفع المضار ، إذ لو بقي شيء لم يكن " كفى به وكيلاً " وهذا نقيض قول من ظنّ أنّ المتوكل عليه لا يحصل له بتوكله جلب منفعة ولا دفع مضرة ، بل يجري عليه من القضاء ما كان يجري لو لم يتوكل عليه . والذين ظنوا ، أصل شبهتهم أنهم لما أثبتوا أن الله إذا قضى شيئاً فلا بد أن يكون ، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وأن ما سبق علمه فهو كائن لا محالة - صاروا يظنون ما يوجد بسبب يوجد بدونه ، وما يوجد مع عدم المانع يوجد مع المانع . وهذا غلظ عظيم ضلّ فيه طوائف : طائفة قالت : لا حاجة إلى الأعمال المأمورة بها . بل من خلق للجنة فهو يدخلها وإن لم يؤمن . ومن خلق للنار فهو يدخلها وإن آمن ولم يكفر . وهذه الشبهة سئل عنها النبي صلى الله عليه وسلم لما قال : ما منكم من أحد إلاّ وقد علم مقعده من الجنة والنار قالوا : أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب ؟ فقال : لا ! اعملوا ، فكل ميسّر لما خلق له . أما من كان من أهل السعادة فسييّسر لعمل أهل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاء فسييسّر لعمل أهل الشقاء . وهذا المعنى قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في " الصحيح " في مواضع تبيّن أن ما سبق به الكتاب سبق بالأسباب التي تفضي إليه ، فالسعادة سبقت بأن صاحبها يستعمل فيها يصير به سعيداً ، والشقاء سبقت بأن صاحبها يستعمل فيما يصير به شقيّاً . فالقدر تضمن الغاية وسببها . لم يتضمن غايةً بلا سبب . كما تضمن أن هذا يولد له بأن يتزوج ويطأ المرأة ، وهذا تُنْبِت أرضه بأن يزرع ويسقي الزرع . وأمثال ذلك . وكذلك في " السنن " أنه قيل له : يا رسول الله ! أرأيت أدويةً نتداوى بها ، ورقيّ تسترقي بها ، وتقاةً نتقيها ، هل ترد من قدر الله شيئاً ؟ فقال : < هي من قدر الله > . فبيّن أن الأسباب التي تُدفع بها المكاره هي من القدر , ليس القدر مجرّد دفع المكروه بلا سبب . وكذلك قول من قال : ( إن الدعاء لا يؤثر شيئاً والتوكل لا يؤثر شيئاً ) هو من هذا الجنس , لكن إنكار ما أمر به من الأعمال أمر ظاهر , بخلاف تأثير التوكل . لكن الأصل واحد . وهو النظر إلى المقدور مجرداً عن أسبابه ولوازمه . ومن هذا الباب : ( أن المقتول يموت بأجله ) عند عامة المسلمين . إلاّ فرقة من القدرية قالوا : إن القاتل قطع أجله . ثم تكلم الجمهور : لو لم يقتل ؟ قال بعضهم : كان يموت لأن الأجل قد فرغ ، وقال بعضهم : لا يموت لانتفاء السبب . وكلا القولين قد قال به من ينسب إلى السنة ، وكلاهما خطأ . فإن القدر سبق بأنه يموت بهذا السبب لا بغيره . فإذا قدر انتفاء هذا السبب كان فرض خلاف ما في المقدور ، ولو كان المقدور أنه لا يموت بهذا السبب ، أمكن أن يكون المقدور أنه يموت بغيره ، ولو كان المقدور أنه لا يموت بهذا السبب ، أمكن أن يكون القدر أنه لا يموت . فالجزم بأحدهما جهل فيما تعددت أسبابه ، لم يجزم بعدمه عند عدم بعضها ، ولم يجزم بثبوته إن لم يعرف له سبب آخر . بخلاف ما ليس له إلاّ سبب واحد . مثل دخول النار ، فإنه لا يدخلها إلاّ من عصى . فإذا قدر أنه لم يعص لم يدخلها . وقال تعالى : { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [ آل عِمْرَان : 159 - 160 ] . فأمره إذا عزم ، أن يتوكل على الله ؛ فلو كان التوكل لا يعينه على نيل ما عزم عليه ، لم يكن لأمره به عند العزم فائدة ، بيّن أنه هو سبحانه الناصر دون غيره وقال : { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [ آل عِمْرَان : 160 ] . فنهى عن التوكل على غيره ، وأمر بالتوكل عليه ليحصل للمتوكل عليه النصر الذي لا يقدر عليه غيره . وإلاَّ فالمتوكل على غيره يطلب منه النصر ، فإن كان ذلك المطلوب لا يحصل منه لم يكن لذكر انفراده بالنصر معنى ؛ فإنه على هذا القول : نصره لمن توكل عليه كنصره لمن لم يتوكل عليه . وهذا يناقض مقصود الآية . بل عند هؤلاء : قد ينصر من يتوكل على غيره ولا ينصر من يتوكل عليه ، فكيف يأمر بالتوكل عليه دون غيره مقروناً بقوله : { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } وكذلك قوله تعالى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } ... - إلى قوله - : { قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ الزمر : 36 - 39 ] . فبين أن الله يكفي عبده الذين يعبده ، الذي هو من عِباده الذين ليس للشيطان عليهم سلطان ، الذي هو من عباده المخلصين ، الذين هو من : { عِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً } [ الفرقان : 63 ] . ومثل هذا قوله : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } [ الإسراء : 1 ] وقوله : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } [ الجن : 19 ] . وقوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } [ البقرة : 23 ] . ونظائر متعددة . ثم أمره بقوله : { قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ الزمر : 38 ] . وقال تعالى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ } [ يونس : 71 ] . وكذلك قال عن هود لما قال قومه : { إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ هود : 54 - 56 ] فهذا من كلام المرسلين ، مما يبين أنه بتوكله على الله يدفع شرهم عنه . فنوح يقول : { إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ ... } الآية ، فدعاهم ، إذا استعظموا ما يفعله كارهين له ، أن يجتمعوا ثم يفعلون ما يريدونه من الإهلاك . وقال : { فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ } فلولا أنه بحقيقة هذه الكلمة -وهو توكله على الله -يعجزهم عما تحداهم به من مناجزته ، لكان قد طلب منهم أن يهلكوه . وهذا لا يجوز ، وهذا طلب تعجيز لهم . فدلّ على أنه -بتوكله على الله -يعجزهم عما تحدّاهم به ، وكذلك هود ، يُشهد الله تعالى وإياهم أنه بريء مما يشركون بالله . ثم يتحداهم ويعجزهم بقوله : { فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } . يبين أنه توكل على من أخذ بنواصي الإنس وسائر الدواب . فهو يدفعكم عني لأني متوكل عليه ، ولو كان وجود التوكل كعدمه في هذا ، لكان قد أغراهم بالإيقاع به ، ولم يكن لذكر توكله فائدة ، إذ كان حقيقة الأمر عند هؤلاء أنه لا فرق بين من توكل ومن لم يتوكل في وصول العذاب إليه . وهم كانوا أكثر وأقوى منه . فكانوا يهلكونه . وهو لو قال : فإنّ الله مولاي وناصري -ونحو ذلك -لعلم أنه مخبر أنّ الله تعالى يدفعهم , وإنما يدفعهم لإيمانه وتقواه , ولأنه عبده ورسوله . فالله مع رسوله وأوليائه , فإذا كان بسبب الإيمان والتقوى يدفع الله عن المؤمنين المتقين , علم أن العبد تقوم به أعمال باطنة وظاهرة , تجلب بها المنفعة وتدفع بها المضرة . والتوكل من أعظم ذلك . وعلم أن من ظن أن المقدور من المنافع والمضارّ , ليس معلقاً بالأسباب . بل يحصل بدونها , فهو غالط . وكذلك من جعل ذلك مجرّد أمارة وعلامة , لاقتران هذا بهذا , فقد أخطأ , فإن الله أخبر أنّه فعل هذا بهذا في غير موضع من القرآن , في خلقه وأمره . كقوله : { فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } [ الأعراف : 57 ] . وقوله : { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } [ الحاقة : 24 ] . وقوله : { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الزخرف : 72 ] . وأنكر على من ظنّ وجود الأسباب كعدمها في مثل قوله : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } [ القلم : 35 ] . وقوله : { أمْ نَجْعَلُ الذِيْنَ ءامَنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ ص : 28 ] . أمثال ذلك . وهؤلاء يقولون بالجبر . قالوا : والأمر والنهي حقيقته أنه إعلام بوقوع العذاب بالعاصي بمحض المشيئة لا لسبب ونحوه ، ولا بحكمة . فقلبوا حقيقة الأمر والنهي إلى الجبر . كما أبطلوا الأسباب والحكمة . وأبطلوا قدرة العباد . وهم ، وإن كانوا يردون على القدرية ويذكرون من تناقضهم ما يبين فساد قول القدرية ، فقد ردوا باطلاً بباطل ، وقاتلوا بدعة ببدعة . كردّ اليهود على النصارى والنصارى على اليهود مقالتهم في المسيح ، وكلتا المقالتين باطلة ، وكذلك تقابل الخوارج والشيعة في عليّ باطل ، ونظائره متعددة . انتهى . فاحفظه ينفعك في مواضع كثيرة . وقوله تعالى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ } [ 12 ]
{ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ } كلام مستأنف مشتمل على ذكر بعض ما صدر عن بني إسرائيل -من الخيانة ونقض الميثاق -وما أدى إليه ذلك من التبعات ، مسوق لتقرير المؤمنين على ذكر نعمة الله تعالى ومراعاة حق الميثاق الذي واثقهم به . وتحذيرهم من نقضه . أو لتقرير ما ذكر من همّ بني قريظة بالبطش وتحقيقه حسبما مرّ من الرواية ببيان أنّ الغدر والخيانة عادة لهم قديمة توارثوها من أسلافهم -أفاده أبو السعود .
زاد الرازي : تقرير الإلزام بالتكليف بأنه سنة الله في الذين خلوا .
{ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً } رئيساً . سمي بذلك لأنه يفتش حال القوم ويعلم دخيلة أمرهم : { وَقَالَ اللَّهُ } أي : لهم . وفي الالتفات تربية المهابة وتأكيد ما يتضمنه الكلام من الوعد : { إِنِّي مَعَكُمْ } أي : بالعلم والقدرة والنصرة : { لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي } أي : الذين يجيئون إليكم { وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } أي : أعنتموهم ونصرتموهم بالسيف على الأعداء { وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ } أي : بالإنفاق في سبيل الخير { قَرْضاً حَسَناً } بلا منّ ولا طلب ربح دنيوي ، من رياء وسمعة { لَأُكَفِّرَنَّ } أي : لأمحون { عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } ذنوبكم { وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا } أي : تطرد من تحت شجرها ومساكنها { الْأَنْهَارُ } أنهار الماء واللبن والخمر والعسل { فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ } أي : بعد أخذ الميثاق والإقرار به { مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } أي : واضح السبيل ، الموصل إلى كل مطلبٍ عال .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ 13 ]
{ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ } [ الباء ] سببيّة و ( ما ) مزيدة لتأكيد الكلام وتمكينه في النفس . أي : بسبب نقضهم ميثاقهم . أونكرة . أي : بشيء عظيم صدر منهم من نقضهم ميثاقهم المؤكد ، الموعود عليه النصر والمغفرة والأجر العظيم { لَعَنَّاهُمْ } أي : أبعدناهم عن رحمتنا { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } بحيث لا تلين لرؤية الآيات والنذر ، ولا تتعظ بموعظةٍ ، لغلظها وقساوتها لغضب الله عليهم ، وبقيت تلك القساوة واللعنة في ذريتهم : { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ } أي : كلم الله في التوراة ، بصرف ألفاظه أو معانيه { عَنْ مَوَاضِعِهِ } التي أنزلت .
قال ابن كثير : أي : فسدت فُهومُهم ، وساء تصرّفهم في آيات الله ، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله ، وحملوه على غير مراده ، وقالوا عليه ما لم يقل . عياذاً بالله من ذلك . قال أبو السعود : والجملة استئناف لبيان مرتبة قساوة قلوبهم . فإنه لا مرتبة أعظ مما يصحح الاجتراء على تغيير كلام الله عز وجل ، والافتراء عليه . وقيل : حال من مفعول ( لعناهم ) .
{ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } أي : تركوا نصيباً وافراً مما أُمروا به في التوراة ، تَرْكَ الناسي للشيء لقلة مبالاته بحيث لم يكن لهم رجوع عليه . أو من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم { وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ } أي : خيانة . على أنها مصدر كـ ( لاغيةٍ وكاذبة ) . أو طائفة خائنة . يعني : أن الغدر والخيانة عادة مستمرة لهم ولأسلافهم ، بحيث لا يكادون يتركونها أو يكتمونها . فلا تزال ترى ذلك منهم .
قال مجاهد . وغيره بذلك تمالُؤَهم على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ } وهم المؤمنون منهم { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ } أي : لا تعاقبهم .
قال ابن كثير : هذا موجب النصر والظفر . كما قال عمر : ما عاملتَ مَنْ عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه . وبهذا ، يحصل لهم تأليف وجمع على الحقّ . ولعلّ الله يهديهم .
ولهذا قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } يعني به الصفح عمّن أساء ، فإنه من باب الإحسان .
تنبيه :
قال بعض المفسِّرين : في هذا دلالة على جواز التحليف على الأمور المستقبلة . وأخذ الكفيل على الحق الذي يفعل في المستقبل . وفي قوله تعالى : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ ... } الخ ، دليل على تأكيد الميثاق ، وقبح نقضه ، وأنه قد يسلب اللطف المُبْعد من المعاصي . ويورث النسيان ، ولهذا قال تعالى : { وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ } وعن ابن مسعود : قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ 14 ]
{ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ } بعبادة الله وحده ، وأن لا يشركوا به شيئاً ، وحفظ شرعة عيسى عليه السلام . وإنما نسب تسميتهم نصارى إلى أنفسهم -دون أن يقال ( ومن النصارى ) -إيذاناً بأنهم في قولهم : { نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّه } [ آل عِمْرَان : 52 ] . بمعزلٍ من الصدق . وإنما هو تقولٌ محض منهم . وليسوا من نصرة الله تعالى في شيء . أو إظهاراً لكمال سوء صنيعهم ببيان التناقض بين أقوالهم وأفعالهم . فإن ادعاءهم لنصرته تعالى يستدعي ثباتهم على طاعته تعالى ومراعاة ميثاقه . أفاده أبو السعود . قال الناصر في " الانتصاف " : وبقيت نكتة في تخصيص هذا الموضع بإسناد النصرانية إلى دعواهم . ولم يتفق ذلك في غيره . ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] . فالوجه في ذلك -والله أعلم -أنه لما كان المقصود في هذه الآية ذمّهم بنقض الميثاق المأخوذ عليهم في نصرة الله تعالى ، نَاسَبَ ذلك أن يصدر الكلام بما يدل على أنهم لم ينصروا الله ولم يفوا بما واثقوا عليه من النصرة . وما كان حاصل أمرهم إلا التفوه بدعوى النصرة وقولها دون فعلها . والله أعلم .
قال الشهاب الخفاجي : الموجود في كتب اللغة والتاريخ أن النصارى نُسبِتْ [ في المطبوع : نُسِبتَ ] إلى بلدة ( ناصرة ) أي : التي حبُل فيه المسيح وتربى فيها . ولذلك كان يدعى عليه السلام ( ناصريّاً ) . ثم قال : فلو قيل في الآية : إنهم على دين النصرانية وليسوا عليها لعدم عملهم بموجبها ومخالفتهم لِمَا في الإنجيل من التبشير بنبيّنا صلى الله عليه وسلم - لكان أقرب من وجه التسمية الذي ذكروه .
{ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا } أي : ألقينا { بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } أي : يتعادون ويتباغضون إلى قيام الساعة حسبما تقتضيه أهواؤهم المختلفة ، وآراؤهم الزائغة المؤدية إلى التفرّق فرقاً متباينة ، يلعن بعضها بعضاً ، ويكفر بعضها بعضاً { وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ } يخبرهم الله في الآخرة { بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } من المخالفة وكتمان الحق والعداوة والبغضاء . ونسيان الحظ الوافر مما ذكّروا به . وهذا وعيد شديد بالجزاء والعذاب .
لطيفة :
تطرف البقاعي -رحمه الله تعالى -في " تفسيره " هنا إلى ذكر نقباء بني إسرائيل بأسمائهم ، وأن عدتهم طابقت عدة نقباء النصارى -وهم الحواريون -كما طابقت عدة نقباء الأنصار ليلة العقبة الأخيرة ، حين بايع النبيّ صلى الله عليه وسلم الأنصار على الحرب ، وأن يمنعوه إذا وصل إليهم ، وقال لهم : أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيباًَ - كما اختار موسى من قومه - فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً : تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس . وذكر البقاعي : أن بعث النقباء من بني إسرائيل كان مرتين : الأول لما كلّم تعالى موسى في برية سيناء في اليوم الأول من الشهر الثاني من السنة لخروجهم من أرض مصر . وقد فصلت في الفصل الأول من سفر ( العدد ) . والمرة الثانية : بعثوا لجسّ أرض كنعان . وفصلت أيضاً في الفصل الثالث عشر من سفر ( العدد ) ثم ذكر البقاعي : أن نقباء اليهود في جسّ الأرض لم يوف منهم إلاّ يوشع بن نون وكالب بن يفنا ، وأما نقباء النصارى ، فخان منهم واحد -وهو يهوذا -كما مضى عند قوله تعالى : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ } . وأما نقباء الأنصار فكلهم وَفى وبرّ بتوفيق الله تعالى .
وقد اقتص البقاعي أسماء تقباء الفرق الثلاث ، ولمعة من نَبَئِهم . فانظره ، والله أعلم .
ثم خاطب تعالى الفريقين من أهل الكتاب إِثْرَ تشديد النكير عليهم بتحريف كتبهم ونبذهم الميثاق , ودعاهم إلى الحنفية حتى يكونوا على نورٍ من ربهم . فقال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } [ 15 ]
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ } أي : من نحو بعثته صلى الله عليه وسلم , وآية الرجم في التوراة ، وبشارة عيسى به ، إظهاراً للحقّ { وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ } أي : مما تخفونه . لا يبينه . مما لا ضرورة في بيانه ، صيانةً لكم عن زيادة الافتضاح . أو يعفو فلا يؤاخذ . وفي هذه الآية بيان معجزة له صلى الله عليه وسلم . فإنه لم يقرأ كتاباً ولم يتعلم علماً من أحد ، فإخباره بأسرار ما في كتابهم إخبارٌ عن الغيب ، فيكون معجزاً { قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } يريد القرآن . لكشفه ظلمات الشرك والشك . ولإبانته ما كان خافياً على الناس من الحق . أو لأنه ظاهر الإعجاز . أو النور ، محمد صلى الله عليه وسلم لأنه يهتدي به ، كما سمي سراجاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ 16 ]
{ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَه } أي : رضاه بالإيمان به { سُبُلَ السَّلامِ } أي : طرق السلامة والنجاة من عذاب الله { وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } أي : ظلمات الكفر والشُّبه إلى نور الإيمان والدلائل القطعية { بِإِذْنِهِ } أي : بتوفيقه وإرادته { وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وهو الدين الحقّ السويّ في الاعتقادات والأعمال ، العَريّ عن الإفراط والتفريط فيها . ثم أشار إلى إفراط بعض النصارى في حق عيسى ، وتفريطهم في حقّ الله جل شأنه فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 17 ]
{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } في هذه الآية وجهان :
الوجه الأول : إنّ ما أفادته من الحصر -وإن لم يصرحوا به -إلاّ أنه نسب إليهم لأنه لازم مذهبهم لأن معتقدهم مؤدّ إليه .
قال الرازي : لأنهم يقولون : إن أقنوم الكلمة اتحد بعيسى عليه السلام . فأقنوم الكلمة إما أن يكون ذاتاً أو صفة . فإن كان ذاتاً فذات الله تعالى قَدْ حَلّت في عيسى واتّحدت بعيسى فيكون عيسى هو الإله على هذا القول . وإن قلنا : إنّ الأقنوم عبارة عن الصفة ، فانتقال الصفة من ذات إلى ذات أخرى غير معقول . ثم بتقدير انتقال أقنوم العلم عن ذات الله تعالى إلى عيسى ، يلزم خلوّ ذات الله عن العلم . ومن لم يكن عالماً لم يكن إلهاً . فحينئذٍ يكون الإله هو عيسى . على قولهم . فثبت أنّ النصارى -وإن كانوا لا يصرحون بهذا القول -إلا حاصل مذهبهم ليس إلاّ ذلك . انتهى .
وبطلان الاتحاد معلوم بالبداهة .
قال العلامة العضد في ( الموقف الثاني ) : المقصد الثامن : الاثنان لا يتحدان . وهذا حكم ضروري . فإن الاختلاف بين الماهيتن والهويتين اختلاف بالذات فلا يعقل زواله . وهذا ربما يزاد توضيحه فيقال : إنْ عدم الهويتان فلا اتحاد , بل وحدث أمر ثالث غيرهما - وإن عدم أحدهما - فلا يتحد المعدوم بالموجود , وإن وجدا فهما اثنان كما كانا , فلا اتحاد أيضاً . انتهى . الوجه الثاني : إنه عُنِي بهذا الآية قوم يقولون بأن حقيقة الله هو المسيح لا غير .
قال الزمخشري : قيل : كان في النصارى قوم يقولون ذلك . انتهى .
قال الإمام الشهرستاني في " الملل والنحل " عند ذكر فرق النصارى :
ومنهم اليعقوبية أصحاب يعقوب . قالوا بالأقانيم الثلاثة - كما ذكرنا - إلا أنهم قالوا : انقلبت الكلمة لحماً ودماً فصار الإله هو المسيح , وهو الظاهر بجسده بل هو هو . وعنهم أخبرنا القرآن الكريم : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } . فمنهم من قال : المسيح هو الله . ومنهم من قال : ظهر اللاهوت بالناسوت فصار ناسوت المسيح مظهر الحق . لا على طريق حلول جزءٍ فيه . ولا على سبيل اتحاد الكلمة التي هي في حكم الصفة بل صار هو هو . وهذا كما يقال : ظهر المَلك بصورة الإنسان . أو ظهر الشيطان بصورة حيوان . . الخ .
وذكر الإمام الماوردي في " أعلام النبوة " : إنّ أوائل النسطورية قالوا : إن عيسى هو الله . انتهى .
وذكر الإمام ابن إسحاق في " السيرة " : إن نصارى نجران لمّا وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم , كانوا من النصرانية على دين ملكهم ، مع اختلاف من أمرهم . يقولون هو الله : ويقولون هو ولد الله . ويقولون هو ثالث ثلاثة - يعني هو تعالى وعيسى ومريم - وكذلك قول النصرانية . ثم قال : ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن .
{ قُلْ } - أي : تبكيتاً لهم , وإظهاراً لفساد قولهم - : { فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً } أي : من يستطيع إمساك شيءٍ من قدرته تعالى : { إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } أي : يُميتَهُ : { وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً } أي : فضلاً عن آحادهم . احتج بذلك على فساد قولهم . وتقريره : أن المسيح حادث بلا شبهة . لأنه تولد من أم . ولذا ذكرت الأم للتنبيه على هذا . ومقهورٌ قابل للفناء أيضاً كسائر الممكنات . ومن كان كذلك كيف يكون إلهاً ؟
قال أبو السعود : وتعميم إرادة الإهلاك للكل - مع حصول المطلوب يقصرها على المسيح - لتهويل الخطب وإظهار كمال العجز , ببيان أن الكل تحت قهره تعالى وملكوته . لا يقدر أحد على دفع ما أريد به . فضلاً عن دفع ما أريد بغيره . وللإيذان بأن المسيح أسوة لسائر المخلوقات في كونه عرضة للهلاك . كما أنه أسوة لها فيما ذكر من العجز وعدم استحقاق الألوهية . : { وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } من الخلق والعجائب - وهذا تحقيق لاختصاص الألوهية به تعالى . إثر بيان انتفائها عن غيره : { يَخْلُقُ مَا يَشَاء } جملة مستأنفة مسوقة لبيان بعض أحكام الملك والألوهية على وجه يزيح ما اعتراهم من الشبهة في أمر المسيح - لولادته من غير أب , وإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه ولأبرص - أي : يخلق ما يشاء من أنواع الخلق كما شاء بأب أو بغير أب . . . !
قال السمرقندي : وإنما قال : { يَخْلُقُ مَا يَشَاء } لأن النصارى أهل نجران كانوا يقولون : لو كان عيسى بشراً كان له أب . فأخرهم الله تعالى أنه قادر على أن يخلق خلقاً بغير أب .
{ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ } من خلق الخلق ، والثواب لأوليائه ، والعقاب لأعدائه - : { قَدِيرٌ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [ 18 ]
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُه } حكاية لما صدر عن الفريقين من الدعوى الباطلة . وبيان لبطلانها بعد بطلان ما صدر عن أحدهما . أي : قالوا : نحن من الله بمنزلة الأبناء من الآباء في المنزلة والكرامة . ونحن أحباؤه لأننا على دينه .
قال ابن الكثير : ونقلوا عن كتابهم أن الله قال لعبده إسرائيل : أنت ابني بكري . فحملوا هذا على غير تأويله وحرّفوه . وقد ردّ عليه غيرُ واحدٍ ممن أسلم من عقلائهم . وقالوا : هذا يطلق عندهم على التشريف والإكرام . كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم : إني ذاهب إلى أبي وأبيكم , يعني ربي وربكم . ومعلوم أنهم لم يدّعوا لأنفسهم من النبوة ما ادعوها في عيسى عليه السلام , وإنما أرادوا بذلك معزّتهم لديه , وحظوتهم عنده . . . ! انتهى .
وقال الجلال الدواني في " شرح عقائد العضد " : وما نُقِل عن الإنجيل - فعلى فرض صحته وعدم التحريف - يكون إطلاق الأب عليه بمعنى المبدأ . فإن القدماء كانوا يسمون المبادئ بالآباء . وأنت تعلم أن المتشابهات في القرآن وغيره من الكتب الإلهية كثيرة . ويردّها العلماء بالتأويل إلى ما علم بالدليل . فلو ثبت ذلك لكان من هذا القبيل . انتهى . وقال الدهلوي في " الفوز الكبير " : إن الله عزّ وجلّ شرف الأنبياء وتابعيهم في كل ملّة بلقب المقرب والمحبوب . وذم الذين ينكرون الملّة بصفة المبغوضية . وقد وقع التكلم في هذا الباب بلفظ شائع في كل قوم , فلا عجب أن يكون قد ذكر الأنباء مقام المحبوبين , فظن اليهود أن ذلك التشريف دائر مع اسم اليهوديّ والعبرّي والإسرائيلي . ولم يعلموا أنه دائر على صفة الانقياد والخضوع وتمشية ما أراد الحقّ سبحانه ببعثة الأنبياء لا غير . وكان ارتكز من هذا القبيل في خاطرهم كثير من التأويلات الفاسدة المأخوذة من آبائهم وأجدادهم ، فأزال القرآن هذه الشبهات على وجه أتم . انتهى .
{ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم } أي : لو كنتم أبناءَه وأحبّاءَه لَما عذبكم , لكن اللازم منتفٍ إذ عذبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ , واعترفتم بأنه سيعذبكم بالنار أياماً معدودة .
لطيفة :
قال بعض شيوخ الصوفية لبعض الفقهاء : أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه ؟ فلم يردّ عليه , فتلا عليه الصوفي هذه الآية : { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم } . وهذا الذي قاله حسن . وله شاهد في " المسند " للإمام أحمد حيث قال : حدثنا ابن أبي عدي . عن حميد ، عن أنس قال : < مر النبيّ صلى الله عليه وسلم في نفرٍ من أصحابه , وصبي في الطريق . فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ فأقبلت تسعى وتقول : ابني ابني ! وسعت فأخذته , فقال القوم : يا رسول الله ! ما كانت هذه لتلقي ولدها في النار , قال : فخفضهم النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : لا , ولا يلقي الله حبيبه في النار > . قال ابن كثير : تفردّ به أحمد . انتهى .
وقال السمرقندي : في الآية دليل أن الله تعالى إذا أحبّ عبده يغفر ذنوبه ولا يعذبه بذنوبه . لأنه تعالى احتج عليهم فقال : { فَلِمَ يُعَذِّبُكُم } لو كنتم أحباء إليه ؟ و قد قال في آية أخرى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [ البقرة : 222 ] ، ففيها دليل أنه لا يعذب التوابين بذنوبهم ، ولا المجاهدين الذين يجاهدون في سبيل الله : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } [ الصف : 4 ] .
وقوله تعالى : { بَلْ أَنتُم بَشَرٌ } عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام ، أي : لستم كذلك بل أنتم بشر : { مِّمَّنْ خَلَقَ } أي : من جنس من خلقه من غير مزية لكم عليهم : { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء } لمن تاب من اليهودية والنصرانية : { وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء } من مات على اليهودية والنصرانية : { وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } أي : المرجع ، مصير من آمن ومن لم يؤمن . فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 19 ]
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ } أي : ما أمرتم به وما نهيتم عنه { عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ } متعلق بـ ( جاءكم ) أي : جاءكم على حين فتورٍ من إرسال الرسل ، وانقطاعٍ من الوحي . إذا لم يكن بينه وبين عيسى رسولٌ . ومدة الفترة بينهما خمسمائة وتسع وستون سنة { أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ } تعليل لمجيء الرسول بالبيان على حذف المضاف . أي : كراهة أن تعتذزوا بذلك يوم القيامة ، وتقولوا : ما جاءنا من رسولٍ -بعد ما درس الدينُ -يبشرنا لنرغب فتعمل بما يسعدنا فنفوز . وينذرنا لنرهب فنترك ما يشقينا فنسلم . وقد كان اختلط في تلك الفترة الحق بالباطل -كما سنبيّنه - : { فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } متعلق بمحذوف تنبئ عنه الفاء الفصيحة وتبين أنه معلل به . أي : لا تعتذروا ( بما جاءنا ) فقد جاءكم بشير أي : بشير ، ونذير أي : نذير { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير } من إرسال الرسل ، والصواب لمن أجاب الرسل ، والعقاب لمن لم يُجبْهم .
قال البقاعي : وفي الختم بوصف القدرة ، وأتباعه تذكيرهم ما صاروا إليه من العز بالنبوّة والملك ، بعد ما كانوا فيه من الذل بالعبودية والجهل ، إشارة إلى أن إنكارهم لأن يكون من ولد إسماعيل عليه السلام نبيّ ، يلزم منه إنكارهم للقدرة .
تنبيه :
قال ابن كثير : كانت الفترة بين عيسى ابن مريم -آخر أنبياء بني إسرائيل -وبين محمد خاتم النبيين من بني آدم على الإطلاق . كما ثبت في " صحيح البخاري " ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < أولى الناس بابن مريم ليس بيني وبينه نبي ّ > . وهذا فيه ردّ على من زعم أنه بعث عيسى نبيّ يقال له خالد بن سنان . كما حكاه القضاعي وغيره . انتهى .
وقال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " : استدل به - يعني بحديث أبي هريرة - على أنه لم يبعث بعد عيسى أحد إلا نبينا صلى الله عليه وسلم . وفيه نظر لأنه ورد أن الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إلى أصحاب القرية - المذكورة قصتهم في سورة ( يس ) - كانوا من أتباع عيسى . وأن جرجيس وخالد بن سنان كانا نبيَّيْن , وكانا بعد عيسى . والجواب : أن هذا الحديث يضعف ما ورد من ذلك . فإنه صحيح بلا تردد . وفي غيره مقال . أو المراد : إنه لم يبعث بعد عيسى نبي بشريعة مستقلة . وإنما بعث بعده , مَنْ بُعِثَ , بتقرير شريعة عيسى . وقصة خالد بن سنان أخرجها الحاكم في " المستدرك " من حديث ابن عباس , ولها طرق جمعتها في ترجمتها في كتابي في " الصابة " . انتهى .
وقد ذكرت في كتابي " إيضاح الفطرة في أهل الفترة " في الباب الحادي عشر مِنْ كان في الفترة من الأنبياء على ما روي . فارجع إليه .
قال ابن كثير : والمقصود من هذه الآية , أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل , وطموسٍ من السبل , وتغير الأديان , وكثرة عبّاد الأوثان والنيران والصلبان . فكانت النعمة به أتمّ النعم , والحاجة إليه أمر عام , فإن الفساد كان قد عمّ جميع البلاد , والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد . إلاّ قليلاً من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين . كما روى أحمد عن عياض المجاشعي - رضي الله عنه - أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خطب ذات يومٍ فقال في خطبته : < وإن ربّي , أمرني أن أعلّمكم ما جهلتم مما علمنّي في يومي هذا . كلّ مال نحلته عبادي حلال . وإني خلقت عبادي حنفاءَ كلهم , وأنهم أتتهم الشياطين فأضلّتْهم عن دينهم . وحرمتْ عليهم ما أحللتُ لهم , وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ثم إن الله عزّ وجل نظر إلى أهل الأرض فمقتهم . عجميهم وعربيهم . إلاّ بقايا من أهل الكتاب . وقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك . وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء . تقرؤه نائماً ويقظاناً . . . > انتهى .
وقال الأستاذ النحرير الشيخ محمد عبده مفتي مصر في " رسالة التوحيد " في بحث رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم ما نصّه : ليس من غرضنا في هذه الوريقات أن نلمّ بتاريخ الأمم عامة , وتاريخ العرب خاصة , في زمن البعثة المحمدية , لنبين كيف كانت حاجة سكان الأرض ماسّة إلى قارعة تهزّ عروش الملوك , وتزلزل قواعد سلطانهم الغاشم, وتخفض من أبصارهم المعقودة بعنان السماء , إلى من دونهم من رعاياهم الضعفاء . وإلى ناٍر تنقض من سماء الحق على أدم الأنفس البشرية لتأكل ما اعشوشبت به من الأباطيل القاتلة للعقول . وصيحة فصحى تزعج الغافلين , وترجع بألباب الذاهلين , وتنبه المرؤوسين إلى أنهم ليسوا بأبعد عن البشرية من الرؤساء الظالمين , والهداة الضالين , والقادة الغارّين , وبالجملة تؤوب بهم إلى رشد يقيهم الإنسان على الطريق التي سنّها الإله : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [ الإنسان : 3 ] . ليبلغ بسلوكها كماله , ويصل على نهجها إلى ما أُعدّ في الدارين له . ولكنا نستعير من التاريخ كلمةً يفهمها من نظر فيها اتفق عليه مؤرّخو ذلك العهد , نظر إمعانٍ وإنصافٍ .
كانت دولتا العالم ( دولة الفرس في الشرق , ودولة الرومان في الغرب ) في تنازعٍ وتجالد مستمرّ دماء بين العالمين مسفوكة , وقوى منهوكة , وأموال هالكة , وظلم من الإحن حالكة . ومع ذلك , فقد كان الزهو والترف والإسراف والفخفخة والتفنّن في الملاذ بالغةً حدّ مالا يوصف في قصور السلاطين والأمراء , والقواد ورؤساء الأديان من كل أمّة , وكان شره هذه الطبقة من الأمم لا يقف عند حدّ . فزادوا في الضرائب , وبالغوا في فرض الإتاوات , حتى أثقلوا ظهور الرعية بمطالبهم . وأتوا على ما في أيديها من ثمرات أعمالها , وانحصر سلطان القويّ في اختطاف ما بيد الضعيف . وفكّر العاقل , في الاحتيال لسلب الغافل ، وتبع ذلك أن استولى على تلك الشعوب ضروب من الفقر والذل والاستكانة والخوف والاضطراب , لفقد الأمن على الأرواح والأموال . غمرت مشيئة الرؤساء إرادة من دونهم . فعاد هؤلاء كأشباح اللاعب . يديرها من وراء حجاب , ويظنها الناظر إليها من ذوي الألباب , ففقد بذلك الاستقلال الشخصيّ , وظنّ أفراد الرعايا أنهم لم يخلقوا إلا لخدمة ساداتهم وتوفير لذّاتهم , كما هو الشأن في العجماوات مع من يقتنيها . ضلت السادات في عقائدها وأهوائها ، وغلبتها على الحق والعدل شهواتها . ولكن بقي لها من قوة الفكر أردأ بقاياها . فلم يفارقها الذر من أنّ بصيص النور الإلهي ، الذي يخالط الفطر الإنسانية ، قد يفتق الغُلُفَ التي أحاطت بالقلوب ، ويمزّق الحجب التي أسدلت على العقول . فتهتدي العامة إلى السبيل ، ويثور الجم الغفير على العدد القليل ، ولذلك لم يغفل الملوك والرؤساء أن يُنْشِئوا سحباً من الأوهام . ويهيِّئوا كسفاً من الأباطيل والخرافات ، ليقذفوا بها في عقول العامة . فيغلظ الحجاب ، ويعظم الرَّين ، ويختنق بذلك نور الفطرة . ويتم لهم ما يريدون من المغلوبين لهم .
وصرّح الدين ، بلسان رؤسائه ، أنه عدوّ العقل وعدوّ كل ما يثمره النظر . إلاّ ما كان تفسيراً لكتاب مقدس . وكان لهم في المشارب الوثنية ينابيع لا تنضب ، ومدد لا ينفد .
هذه حالة الأقوام كانت في معارفهم ، وذلك كان شأنهم في معايشهم . عبيد أذلاء ، حيارى في جهالة عمياء ، اللهمّ إلاّ بعض شوارد من بقايا الحكمة الماضية ، والشرائع السابقة ، آوت إلى بعض الأذهان ، ومعها مقت الحاضر ، ونقص العلم بالغابر ، ثارت الشبهات على أصول العقائد وفروعها ، بما انقلب من الوضع ، وانعكس من الطبع ، فكان يُرَى الدنس في مظنة الطهارة ، والشرَه حيث تنتظر القناعة ، والدعارة حيث ترجى السلامة والسلام . مع قصور النظر عن معرفة السبب ، وانصرافه لأول وهلة إلى أن مصدر كلّ ذلك هو الدين . فاستولى الاضطراب على المدارك . وذهب بالناس مذهب الفوضى في العقل والشريعة معاً . وظهرت مذاهب الإباحيين والدهريين في شعوب متعددة ، وكان ذلك ويلاً عليها ، فوق ما رزئت به من سائر الخطوب . وكانت الأمة العربية قبائل متخالفة في النزعات ، خاضعة للشهوات ، فخر كل قبيلة في قتال أختها . وسفك دماء أبطالها ، وسبي نسائها . وسلب أموالها . تسوقها المطامع ، إلى المعامع . ويزين لها السيئات ، فسادُ الاعتقادات . وقد بلغ العرب من سخافة العقل حدّاً صنعوا أصنامهم من الحلوى ثم عبدوها . فلما جاعوا أكلوها . وبلعوا من تضعضع الأخلاق وهناً قتلوا فيه بناتهم تخلصاً من عار حياتهن . أو تنصُّلاً من نفقات معيشتهنّ . وبلغ الفحش منهم مبلغاً لم يَعُدْ معه للعفاف قيمة .
وبالجملة : فكانت ربط النظام الاجتماعي قد تراخت عقدها في كل أمة . وانفصمت عراها عند كل طائفة .
أفلم يكن من رحمة الله بأولئك الأقوام أن يؤدبهم رجلٍ منهم يوحي إليه رسالته ؟ ويمنحه عنايته ؟ ويمده من القوة بما يتمكن معه من كشف تلك الغمم . التي أظلت رؤوس جميع الأمم ؟ نعم ، كان ذلك ، وله الأمر من قبل ومن بعد . انتهى .
ثم أشار إلى تفريطهم في أمر الله الوارد على لسان موسى ، وتفريطهم في حقه مع حثّه إياهم على شكر الله . ليسارعوا إلى امتثال أمره ، فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ } [ 20 ]
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي : التي هي فوق نعمه على من سواكم ، في تفرّطوا في أمره إذا لم يفرّط في حقكم { إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ } أي : وهم أكمل الخلائق ومكملوهم ، ولم يبعث في أمةٍ ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء { وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً } يعني : وجعلكم أحراراً تملكون أنفسكم بعد ما كنتم في أيدي القبط مملوكين ، فأنقذكم الله . فسمى إنقاذهم ملكاً { وَآتَاكُمْ } أعطاكم { مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ } من أنواع الإكرام التي خصكم بها -كفلق البحر لهم ، وإهلاك عدوّهم ، وتوريثهم أموالهم ، وإنزال المنّ والسلوى عليهم ، وإخراج المياه العذبة من الحجرَ ، وإظلال الغمام فوقهم . . . -فمقتضى هذه النعم المبادرة إلى امتثال أوامر المنعم ، شكراً له . ثم أخبر تعالى عن تحريض موسى عليه السلام لقومه على الجهاد والدخول إلى بيت المقدس الذي استحوذ عليه الجبابرة ، وأنهم نكلوا وعصوا أمره ، فعوقبوا بالتّيه لتفريطهم ، فقال سبحانه مخبراً عن موسى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ } [ 21 ]
{ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ } يعني : أرض بيت المقدس التي كانت مقدسة بمساكنة من مضى من الأنبياء . ثم تلوّثت بمساكنة الأعداء من جبابرة الكنعانيين . فأراد تطهيرها بإخراجهم وإسكان قومه { الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } أي : التي وعدكموها على لسان أبيكم إبراهيم ، بأن تكون ميراثاً لولده بعد أن جعلها مهاجَره { وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ } أي : لا تنكصوا على أعقابكم مدبرين من خوف الجبابرة جبناً وهلعاً { فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } أي : فترجعوا مغبونين بالعقوبة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } [ 22 ]
{ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ } أي : متغلبين ليس لنا مقاومتهم { وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا } أي : من غير صنع من قِبَلنا فإنه لا طاقة لنا بإخراجهم منها { فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا } أي : بسببٍ من الأسباب التي لا تعلق لنا بها { فَإِنَّا دَاخِلُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ 23 ]
{ قَالَ رَجُلانِ } هما يوشع بن نون وكالب بن يفنا { مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ } أي : يخافون الله تعالى دون العدوّ ، ويتقونه في مخالفة أمره ونهيه .
وقال العلامة البقاعي : أي : من الذين يوجد منهم الخوف من الجبارين . ومع ذلك لم يخافا { أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا } أي : بالتثبيت والثقة بوعده تعالى ومعرفة مقام أوامره تعالى { ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ } أي : باب بلدهم ، أي : باغِتُوهم وامنعوهم من البروز إلى الصحراء ، لئلا يجدوا للحرب مجالاً { فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ } -أي : باب بلدهم - : { فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ } عليهم { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا } أي : لا على قوة أنفسكم { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : بكمال قدرته ووعده النصر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ 24 ]
{ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا } -أي : الجبابرة - : { فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } [ 25 ]
{ قَالَ } أي : موسى عليه السلام لما رأى منهم ما رأى من العناد ، على طريقة البث والحزن والشكوى إلى الله تعالى : { رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ } أي : أحداً ألزمه قتالهم { إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي } هارون . قال المهايمي : أي : ومَنْ يؤاخيني ويوافقني كهارون ويوشع وكالب { فَافْرُقْ } أي : فاحكم بما يميز بين المحق والمبطل لتفرق { بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } أي : الخارجين عن أمرك ، وهو في معنى الدعاء عليهم . وقد استجاب الله دعاءه ، وفرق بأن أضلّهم ظاهراً كما ضَلّوا باطناً . كما بينه بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } [ 26 ]
{ قَالَ فَإِنَّهَا } أي : الأرض المقدسة { مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } أي : بسبب أقوالهم هذه وأفعالهم . لا يدخلونها ولا يملكونها . ممن قال هذه المقالة أو رضيها أحد ، فالتحريم تحريم منعٍ لا تحريم تعبد { أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ } أي : يترددون في البرية متحيرين في الأرض حتى يهلكوا كلّهم ، و ( التيه ) المفازة التي يتيه فيها سالكها فيضلّ عن وجه مقصده { فَلا تَأْسَ } أي : تحزن { عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } أي : الخارجين من قيد الطاعات . قال العلامة البقاعي : ثم بعد هلاكهم أدخلها بنيهم الذين ولدوا في التيه . وفي هذه القصة أوضح دليل على نقضهم للعهود التي بنيت على طلب الوفاء بها ، وافتتحت بها ، وصرح بأخذها عليهم في قوله : { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ } [ المائدة : 12 ] الآيات ، وفي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يفعلونه معه ، وتذكير له بالنعمة على قومه بالتوفيق ، وترغيب لمن أطاع منهم ، وترهيب لمن عصى . ومات في تلك الأربعين ، كل من قال ذلك القول أو رضيه حتى النقباء العشرة . وكان الغمام يظلَّهم من حرّ الشمس . ويكون لهم عمود من نور بالليل يضيء عليهم . وغير هذا من النعم ، لأن المنع بالتيه كان تأديباً لهم . لا غضب . إذ أنهم تابوا . ثم ساق البقاعي -رحمه الله -شرح هذه القصة من التوراة التي بين أيديهم بالحرق . ونحن نأتي على ملخصها تأثراً له ، فنقول :
جاء في سفر " العدد " في الفصل الثالث عشر : إن شعب بني إسرائيل لمّا ارتحلوا من حَصِيروت ونزلوا ببريّة فاران ، كلم الرب موسى بأن يبعث رجالاً يجسّون أرض كنعان . من كل سبط رجلاً واحداً ، وكلهم يكونون من رؤساء بني إسرائيل ، فأرسلهم موسى وأمرهم أن ينظروا إلى الأرض . أجيدة أم رديئة ؟ وإلى أهلها ، أشديدون أم ضعفاء ؟ قليلون أم كثيرون ؟ وأن يوافوه بشيءٍ من ثمرها . فساروا واجتسّوا الأرض من برية صِينَ إلى رَحُوبَ عند مدخل حماة ، ثم رجعوا بعد أربعين يوماً . وكان موسى وقومه في برية فاران في قاديش ، فأروهم ثمر الأرض ، وقصّوا عليهم ما شاهدوه من جودة الأرض ، وأنها تدرّ لبناً وعسلاً . ومن شدة أهلها وقوتهم وتحصن مدنهم ؛ فاضطرب قوم موسى . فأخذ كالبُ -أحد النقباء -يسكتهم عن موسى ويقول : نصعد ونرث الأرض فإنا قادرون عليها . وخالفه بقية النقباء وقالوا : لا نقدر أن نصعد إليهم لأنهم أشدّ منّا . وهوّلوا على بني إسرائيل الأمر وقالوا : شاهدنا أناساً طوال القامات ، سيما بني عَناقَ . فصرنا في عيوننا كالجراد . وكذلك كنا في عيونهم . فعند ذلك ضجّ قوم موسى ورفعوا أصواتهم وبكوا وقالوا : ليتنا متنا في أرض مصر أو في هذه البرية . ولا تكون نساؤنا وأطفالنا غنيمة للجبابرة . وخير لنا أن نرجع إلى مصر . وقالوا : لنًقِمْ لنا رئيساً ونرجع إلى مصر . فلما شاهد موسى ذلك منهم وقع هو وأخوه هارون على وجوههما أمام الإسرائيليين . ومزق ، من النقباء ، يوشع بن نون وكالب ثيابهما . وكلَّما بني إسرائيل قائلين : إن الأرض التي مررنا فيها جيدة ، وإذا كان ربنا راضياً عنا فإنه يدخلنا إياها . فلا تتمردوا ولا تخافوا أهلها فسيكونون طعمة لنا . إذ الرب معنا فلما سمع بنوا إسرائيل كلام يوشع وكالب قالوا : لِيُرْجَمَا بالحجارة ، وكاد حينئذ أن يحيق ببني إسرائيل العذاب الإلهيّ ، لولا تضرع موسى إلى ربه بأن يعفو عنهم ، كيلا يكونوا أحدوثة عند أعدائهم المصريين ، فعفا تعالى عنهم . وأعلم موسى ؛ أنّ قومه لن يروا الأرض التي أقسم عليها لآبائهم ، وأنهم يموتون جميعاً في التيه . إلاّ كالباً . فإنه لحسن انقياده سيدخل لأرض ، وكذلك يوشع ، وأعلمه تعالى أيضاً بأن أطفال قومه الذين سيهلكون في التيه يونون رعاة فيه أربعين سنة بعدد الأيام التي تجس النقباء فيها أرض الكنعانيين . كل يوم وزره سنة ليعرفوا انتقامه ، عز سلطانه ثم هلك النقباء العشرة ، الذين شَنّعوا لدى قومهم تلك الأرض ، بضربة عجلت لهم . ثم همّ قوم موسى بالصعود إلى الكنعانيين لما أخبرهم موسى بما أعلمه تعالى . فنهاهم موسى وقال لهم : لا فوز لكم الآن بالنصر الرباني ، وإن فعلتم فإن العدوّ يهزمكم وتسقطون تحت سيفه . فتجبروا وصعدوا إلى رأس الجبل . فنزل العمالقة والكنعانيون عليهم وحطموهم ، ثم انقضاء الأربعين سنة فتحت الأرض المقدسة على يد يوشع ، كما شرح في " سفره " ، والله أعلم .
تنبيهات :
الأول : قوله تعالى : { أَرْبَعِينَ سَنَةً } ظرف متعلق بـ ( يتيهون ) . واحتمال كونه ظرفاً لـ ( محرمة ) كما ذكره غير واحد -لا يصح إلا بتكلف ؛ لما شرحناه من سياق القصة .
الثاني : قال الحاكم : دلّ قوله تعالى : { فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } على أنّ من لحقه عذاب الله لا يجوز أن يحزن عليه لأن ذلك حكمه ، بل يحمد الله إذا أهلك عدواً من أعدائه .
الثالث : قال ابن كثير : ذكر كثير من المفسرين ههنا أخباراً من وضع بني إسرائيل ، في عظمة خلق هؤلاء الجبارين ، وأن منهم عوج بن عنق بنت آدم عليه السلام . وأن طوله ثلاثة آلاف ذراع . وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذرعاً وثلث ذراع . تحرير الحساب . وهذا شيء يستحي من ذكره . ثم هو مخالف لما ثبت في " الصحيحين " : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إنّ الله خلق آدم وطوله ستون ذراعاً ، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن > . ثم ذكروا أنّ هذا الرجل كان كافراً ، وأنه كان ولد زِنْية ، وأنه امتنع من ركوب سفينة نوح ، وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته . وهذا كذب وافتراء ، فإن الله تعالى ذكر أن نوحاً دعا على أهل الأرض من الكافرين فقال : { وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] . وقال تعالى : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ } [ الشعراء : 119 - 120 ] . وقال تعالى : { لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ } [ هود : 43 ] ، وإذا كان ابنُ نوح ، الكافرُ ، غرق ، فكيف يبقى عوج بن عنق وهو كافر وولد زنية ؟ هذا لا يسوغ في عقلٍ ولا شرعٍ . ثم في وجود رجلٍ يقال له عوج بن عنق ، نظر . والله أعلم .
الرابع : قال ابن كثير : تضمنت هذه القصة تقريع النهود ، وبيان فضائحهم ومخالفتهم لله ولرسوله ، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمراهم به من الجهاد ، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجادلتهم ومقاتلتهم ، مع أن بين أظهرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكليمه وصَفيّه من خَلْقه في ذلك الزمان ، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم . هذا مع ما شاهدوا من فعل الله بعدوّهم ، فرعون , من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليمّ وهم ينظرون , لتقرَّبه أعينهم ( وما بالعهد من قدم ) . ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازن عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم , وظهرت قبائح صنيعهم للخاصّ والعام ، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل ولا يسترها الذيل . وقال -رحمه الله -قبل ذلك : وما أحسن ما أجاب به الصحابة -رضي الله عنهم -يوم بدر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حين استشارهم في قتال النفير الذين جاءوا لمنع العير الذي كان مع أبي سفيان . فلما فات اقتناص العير ، واقترب منهم النفير ، وهم في جمع ما بين التسعمائة إلى الألف في العدة والبيض واليلب . فتكلم أبو بكر -رضي الله عنه - فأحسن ، ثم تكلم من الصحابة ، من المهاجرين ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول : أشيروا عليّ أيها المسلمون ! وما يقول ذلك إلا ليستعلم ما عند الأنصار . لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذٍ . فقال سعد بن معاذ : كأنك تعرض بنا يا رسول الله ؟ فوالذي بعثك بالحقّ ! لو استعرضت بنا هذا البحر ، فخضته ، لخضناه معك . ما تخلّف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً . إنا لصبُرُ في الحرب ، صُدُق في اللقاء . لعل الله أن يُرِيَكَ منّا ما تقرّ به عينك . فَسِرْ على بركة الله . فُسرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، ونشطه لذلك .
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال : لقد شهدت من المقداد مشهداً ، لأَنَ أكون أنا صاحبه ، أحبّ إليّ مما عدل به . أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال : والله ! يا رسول الله ! لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } . ولكنا نقاتل عن يمينك ، وعن يسارك ، ومن بين يديك ، ومن خلفك .
فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق لذلك . وسرّه ذلك . وهكذا رواه البخاري في " المغازي " .
الخامس : استنبط العمرانيون من هذه الآية أنَّ من عوائق الملك حصول المذلة للقبيل ، والانقياد لسواهم .
قال الحكيم ابن خلدون في " مقدمة العبر " في الفصل 19 تحت العنوان المذكور : إن المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية وشدّتها . فإنَّ انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها ، فما رئموا ( ألفوا ) للمذلّة حتى عجزوا عن المدافعة ، ومن عجز عن المدافعة ، فأولى أن يكون عاجزاً عن المقاومة والمطالبة ، واعتبر ذلك في بني إسرائيل لما دعاهم موسى عليه السلام إلى ملك الشام ، وأخبرهم أن الله قد كتب لهم ملكها ، كيف عجزوا عن ذلك ، قالوا : { إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا } [ المائدة : 22 ] . أي : يخرجهم الله منها بضرب من قدرته غير عصبيتنا ، وتكون من معجزاتك يا موسى ، ولما عزم عليهم لجّوا وارتكبوا العصيان وقالوا له : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا } [ المائدة : 24 ] وما ذلك إلاَّ لما آنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة والمطالبة ، كما تقتضيه الآية وما يؤثر في تفسيرها ، وذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد ، وما رئموا من الذلّ للقبط أحقاباً حتى ذهبت العصبية منهم جملة . مع أنهم لم يؤمنوا حقّ الإيمان بما أخبرهم به موسى ، من أن الشام لهم ، وأن العمالقة الذين كانوا بأريحاء فريستهم ، بحكم من الله قدره لهم . فأقصروا عن ذلك وعجزوا ، تعويلاً على ما علموا من أنفسهم من العجز عن المطالبة ، لما حصل لهم من خلق المذلة . وطعنوا فيما أخبرهم به نبيّهم من ذلك وما أمرهم به . فعاقبهم الله بالتيه . وهو أنّهم تاهوا في قَفْر من الأرض ما بين الشام ومصر أربعين سنةً . لم يأووا فيها لعمران ، ولا نزلوا مصراً ، ولا خالطوا بشراً ، كما قصّه القرآن ، لغلظة العمالقة بالشام والقبط بمصر عليهم ، لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه . ويظهر من مساق الآية ومفهومها : أن حكمة ذلك التيه مقصودة . وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة وتخلّقوا به . وأفسدوا من عصبيتهم ، حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر ، ولا يُسَام بالمذلة . فنشأت لهم بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتغلب ، يظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقلّ ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر ، سبحان الحكيم العليم وفي هذا أوضح دليل على شأن العصبية . وأنهّا هي التي تكون بها المدافعة والمقاومة والحماية والمطالبة . وأن من فقدها عجز عن جميع ذلك كله .
ثم بيّن تعالى وخيم عاقبة البغي والحسد ، في جزاء ابني آدم لصلبه . تعريضاً باليهود . وأنهم إن أصروا على بغيهم وحسدهم فسيرجعون بالصفة الخاسرة في الدارين ، فقال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [ 27 ]
{ وَاتْلُ عَلَيْهِم } أي : على هؤلاء البغاة الحسدة من اليهود وأشباههم { نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ } هابيل وقابيل ، ملتبساً { بِالْحَقّ } أي : الصدق والصحة موافقاً لما في كتبهم : { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانا } أي : ما يتقرب به إلى الله تعالى من نسيكةٍ أو صدقة . وكان هابيل راعيَ غنم ، وقابيل يحرث الأرض . فقدّم هابيل شيئاً من أبكار غنمه ومن سمانها . وقدّم قابيل شيئاً رديئاً من ثمر الأرض : { فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا } وهو هابيل : { وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَر } وهو قابيل : { قَالَ } قابيل لهابيل : { لَأَقْتُلَنَّكَ } على قبول قربانك : { قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } أي : إنما أُتيتَ من قبل نفسك , لانسلاخها من لباس التقوى . لا من قبلي . فلِمَ تقتلني ؟ ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول ؟ فأجابه بكلام حكيمٍ مختصرٍ جامعٍ لمعانٍ ؛ وفيه دليل على أن الله تعالى لا يقبل طاعة إلاَّ من مؤمنٍ مُتَّقٍ ، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم !
وعن عامر بن عبد الله : أنه بكى حين حضرته الوفاة : فقيل له : ما يبكيك فقد كن وكنت ؟ قال : إني أسمع الله يقول : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } . كذا في " الكشاف " .
وروى ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل قال : يحبس الناس في بقيع واحد فينادي منادٍ : أين المتقون ؟ فيقومون في كنفٍ من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر .
قلت : من المتقون ؟ قال : قوم اتقوا الشركَ وعبادةَ الأوثانَ وأخلصوا العبادة . فيمرون إلى الجنة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } [ 28 ]
{ لَئِنْ بَسَطْتَ } أي : مددت : { إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي } أي : ظلماً : { مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ } أي : دفعاً : { إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } أي : من أن أصنَّع كما تريد أن تصنع .
وفي " الصحيحين " : عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار . قالوا يا رسول الله ! هذا القاتل . فما بال المقتول ؟ قال : إنه كان حريصاً على قتل صاحبه > . وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذيّ في حديث سعد بن أبي وقاص قال : < قلت يا رسول الله ! أرأيت إن دخل بيتي وبسط يده ليقتلني ؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كن كابن آدم -وتلا - : { لَئِنْ بَسَطْتَ } ...الآية > .
قال المهايميّ في تفسير هذه الآية : أي : أني -وإن لم أكن في الدفع ظالماً -أخاف الله انتهى يكره مني هدم بنيانه الجامع ليظهر فيه من حيث كونه رب العالمين . انتهى .
وهو منزع صوفيّ لطيف .
وقال أبو السعود : فيه من إرشاد قابيل إلى خشية الله تعالى ، على أبلغ وجه وآكده ، ما لا يخفى . كأنه قال : إني أخافه تعالى إن بسطت يدي إليك لأقتلك ، أن يعاقبني . وإن كان ذلك مني لدفع عداوتك عني . فما ظنّك بحالك وأنت البادئ العادي ؟ وفي وصفه تعالى بربوبيّة العالمين تأكيدٌ للخوف . قيل : كان هابيل أقوى منه . ولكن تحرّج عن قتله واستسلم خوفاً من الله تعالى . لأن القتل للدفع لم يكن مباحاً حينئذٍ . وقيل : تحرياً لما هو الأفضل ، حسبما قال صلى الله عليه وسلم : < كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل > . ويأباه التعليل بخوفه تعالى ، إلاَّ أن يدعي أنَّ ترك الأولى عنده بمنزلة المعصية في استتباع الغائلة ، مبالغة في التنزّه . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ } [ 29 ]
{ إِنِّي أُرِيدُ } أي : باستسلامي لك وامتناعي عن التعرض لك : { أَنْ تَبُوءَ } أي : ترجع إلى الله ملتبساً : { بإِثْمِي } أي : بإثم قتلي : { وَإِثْمِكَ } أي : الذي كان منك قبل قتلي ، أو الذي من أجله لم يتقبل قربانك : { فَتَكُونَ } أي : بالإثْمَيْن : { مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ } . قال الناصر في " الانتصاف " : فأما إرادته لإثم أخيه وعقوبته فمعناه : إني لا أريد أن أقتلك فأعاقب . ولمَّا لم يكن بدٌّ من إرادة أحد الأمرين ، إمَّا إثمه بتقدير أن يدفع عن نفسه فيقتل أخاه ، وإمَّا إثم أخيه بتقدير أن يستسلم -وكان غيرَ مريدٍ للأول ، اضطر إلى الثاني ، فلم يرد إذاً إثم أخيه لعينه ، وإنما أراد أنّ الإثم هو بالمدافعة المؤدية إلى القتل -ولم تكن حينئذٍ مشروعة -فلزم من ذلك إرادة إثم أخيه . وهذا ، كما يتمنّى الإنسان الشادة . ومعناها أن يبوء الكافر بقتله وبما عليه في ذلك من الإثم ، ولكن لم يقصد هو إثم الكافر لعينه ، وإنما أراد أن يبذل نفسه في سبيل الله رجاء إثم الكافر بقتله ضمناً وتبعاً . والذي يدل على ذلك ؛ أنّه لا فرق في حصول درجة الشهادة وفَضِيلَتَها بين أن يموت القاتل على الكفر وبين أن يختم له بالإيمان ، فيحبط عنه إثم القتل الذي به كان الشهيد شهيداً . أعني بقي الإثم على قاتله ، أو حبط عنه ، إذ ذلك لا ينتقص من فضيلة شهادته ولا يزيدها ، ولو كان إثم الكافر بالقتل مقصوداً لاختلف التمني باعتبار بقائه وإحباطه ، فدلّ على أنه أمر لازم تبع ، لا مقصود . والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ 30 ]
{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ } أي : رخصت وسهلت له نفسه . والتصريح بأخوّته لكمال تقبيح ما سوّلته نفسه . أي : الذي حقه أن يحفظه من كل من قصده بالسوء بالتحمل على نفسه : { فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } دِيناً ، إِذْ صار كافراً حاملاً للدماء إلى يوم القيامة . ودُنيا ، إذ صار مطروداً مبغضاً للخلائق .
وقد أخرج الجماعة -غير أبي داود -عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا تقتل نفس ظلماً إلاّ كان على ابن آدم الأول كفل من دمها . لأنه كان أول من سنّ القتل > . انتهى .
ولما قتله لم يدر ما يصنع له من إفراط حيرته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } [ 31 ]
{ فَبَعَثَ } أي : أرسل : { اللَّهُ غُرَاباً } فجاء : { يَبْحَثُ } أي : يحفر بمنقاره ورجله متعمقاً : { فِي الْأَرْضِ } .
قال القتيبيّ : هذا من الاختصار . ومعناه : بعث غراباً يبحث التراب على ميت . وكذا رواه السديّ عن الصحابة ؛ أنه تعالى بعث غرابين اقتتلا . فقتل أحدهما الآخر . فحفر له . ثم حثى عليه حثياً .
{ لِيُرِيَهُ } الضمير المستكن إمَّا لله تعالى أو للغراب . والظاهر ، للقاتل أخاه : { كَيْفَ يُوَارِي } أي : يستر في التراب : { سَوْءَةَ أَخِيهِ } أي : جسده الميت . وسمّي سوأة لأنه مما يسوء ناظره : { قَالَ يَا وَيْلَتَا } كلمة جزع وتحسّر ، والألف فيها بدل من ياء المتكلم . ولويل والويلة الهَلَكَة : { أَعَجَزْتُ } أي : أضعفت عن الحيلة : { أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ } أي : الذي هو من أخس الحيوانات . والاستفهام للتعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب : { فَأُوَارِيَ } أي : أغطي : { سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ } أي : صار : { مِنَ النَّادِمِينَ } أي : على حيرته في مواراته حيث لم يدفنه حين قتله . فصار أجهل من الحيوانات العجم وأَضَّل منها وأدنى .
وفي " التنوير " : ولم يكن نادماً على قتله .
وقال أبو الليث عن ابن عباس : لو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبةً منه .
تنبيهات :
الأول : ظاهر الآية أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول ، وأنه تعلم ذلك من الغراب . ولا مانع من ذلك . إذ مثله مما يجوز خفاؤه . لاسيما والعالم ، في أول طور النشأة ، وأنه أول قتيل ، فيكون أول ميت .
ونقل الرازي احتمال أن يكون عالماً بكيفية دفنه ، قال : فإنه يبعد في الإنسان أن لا يهتدي إلى هذا القدر من العمل ، إلا أنه لما قتله تركه بالعراء استخفافاً به ، ولما رأى الغراب يدفن الغراب الآخر ، رق قلبه ولم يرض أن يكون أقل شفقة منه . فواراه تحت الأرض ، والله أعلم .
الثاني : في الآية دلالة على أن الندم ، إذا لم يكن لقبح المعصية ، لم يكن توبة . قال الرازيّ : ندم على قساوة قلبه وكونه دون الغراب في الرحمة . فكان ندمه لذلك ، لا لأجل الخوف من الله تعالى ، فلا جرم لم ينفعه ذلك الندم .
الثالث : الآية أصل في دفن الميت .
الرابع : قال ابن جرير زعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل ، قال له الله : يا قابيل ! أين أخوك هابيل ؟ قال ما أدري . ما كنت عليه رقيباً . فقال الله : إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض ، الآن أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها فبلعت دم أخيك من يدك . فإذا أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها ، حتى تكون فزعاً تائهاً في الأرض . انتهى .
الخامس : روى ابن جرير بسنده عن عليَّ بن أبي طالب قال : لما قتل ابن آدم أخاه بكى آدم فقال :
~تغيّرَت البلادُ ومن عليها فلونُ الأرض مغبرّ قبيحُ
~تغيَّرَ كل ذي لونٍ وطعمٍ وقلّ بشاشةُ الوجه المليحِ
فأجيب آدم عليه الصلاة والسلام :
~أبا هابيلَ ! قد قُتِلا جميعاً وصار الحيُّ كالميت الذَّبيحِ
~وجاء بِشرَّةٍ قد كان منها على خوف ، فجاء بها يصيحُ
أقول : قد اشتهر البيتان الأولان . وقد فنّد نسبتهما إلى آدم غيرُ واحد .
قال الزمخشري : روي أن آدم رثاه بشعر . وهو كذب بحت . وما الشعر إلا منحول ملحون . وقد صح أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر . انتهى .
قال الشرّاح : ( المليح ) في النظم المذكور ، إن رفع فخطأ . لأنه صفة الوجه المجرور ، وإن خفض فإقواء وهو عيب قبيح ، وإن كثر . وقول من قال ( الوجه فاعل قلّ . وبشاشة منصوب على التمييز بحذف التنوين ، إجراء للوصل مجرى الوقف ) ألحنُ ، وقيل : إن آدم عليه الصلاة والسلام رثاه بكلام منثور بالسريانيّ . فلم يزل ينقل إلى أن وصل إلى يعرب بن قحطان - وهو أول من خطّ بالعربية - فقدم وأخّر وجعله شعراً عربياً . انتهى . قال الخفاجي . لاشك أن لوائح الوضع عليه رائحة لركاكته ، لكن ما استصعبوه من الإقواء ، وترك التنوين ، ليس بصعب ، لما في أشعار الجاهلية والشعراء من أمثاله . مع أنه قد يخرج بأنه نعت جرى على المحل . لأن الوجه فاعل المصدر ، وهو بشاشة .
السادس : حكمة تخصيص الغراب كون الغراب دأبه المواراة .
قال أبو مسلم : عادة الغراب دفن الأشياء . فجاء غراب فدفن شيئاً فتعلم ذلك منه . انتهى .
والغراب هو الطائر الأسود المعروف . وقسموه إلى أنواع . وفي الحديث : أنه صلى الله عليه وسلم غيرّ اسم غراب لما فيه من البعد . ولأنه من أخبث الطيور . والعرب تقول : أبصر من غراب ، وأحذر من غراب ، وأزهى من غراب ، وأصفى عيشاً من غراب ، وأشد سواداً من غراب ، وهذا بأبيه أشبه من الغراب بالغراب . وإذا نعتوا أرضاً بالخصب قالوا : وقع في أرض لا يطير غرابها . ويقولون وَجَد تمرة الغراب ، وذلك أنه يتبع أجود التمر فينتقيه . ويقولون : أشأم من غراب وأفسق من غراب . ويقولون : طار غراب فلان ، إذا شاب رأسه .
وغراب غاربٌ على المبالغة . كما قالوا : شعر شاعر ، وموت مائت . قال رؤبة :
~فازجر من الطير الغراب الغاربا
قالوا : وليس شيء في الأرض يُتشاءم به إلاَّ والغراب أشأم منه . وللبديع الهمذانيّ فصل بديع في وصفه . ذكره في " المضاف والمنسوب " وأوراد ما يضاف إليه الغراب ويضاف إلى الغراب . والأبيات في غراب البين كثيرة ، ملئت بها الدفاتر .
وحقق الإمام أبو عبد الله الشريف الغرناطيّ -قاضي غرناطة -في شرحه على " مقصورة حازم " أن غراب البين في الحقيقة هو الإبل التي تنقلهم من بلاد إلى بلاد .
وأنشد في ذلك مقاطيع . منها :
~غلط الذين رأيهم بجهالة يَلْحَوْنَ كُلُّهم غراباً ينعق
~ما الذنب إلا للأباعر إنها مما يشتَّت جمعَهم ويفرِّق
~إن الغراب بيمنه تدنو النوى وتشتت الشمل الجميعَ الأينُق
وأنشد ابن المنساويّ لابن عبد ربّه :
~زعق الغراب فقلت : أكذب طائر إن لم يصدقه رغاء بعير
كذا في " تاج العروس " شرح القاموس .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ } [ 32 ]
{ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ } أي : بسبب قتل قابيل هابيل ظلماً : { كَتَبْنَا } أي : فرضنا وأوحينا : { عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ } وإنما خُصّوا بالذكر لأنهم أول من تعبدوا بذلك . وقوله تعالى : { أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ } أي : بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص : { أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ } أي : أو بغير فساد يوجب إهدار دمها -كالكفر مع الحراب , والارتداد , وقطع الطريق الآتي بعد , وزنا المحصن - : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً } أي : من حيث هَتَكَ حرمة الدماء , وسنَّ القتل , وجرّأ الناس عليه . أومن حيث إن قتل الواحد وقتل الجميع سواء , في استجلاب غضب الله تعالى والعذاب العظيم : { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } أي : ومن تسبب لبقاء حياتها بعفوٍ أو منعٍ عن القتل أو استنقاذٍ من بعض أسباب . فكأنما فعل بالناس جميعاً .
والمقصود منه : تعظيم قتل النفس وإحيائها في قلوب ترهيباً عن التعرض لها ، وترغيباً في المحاماة عليها : أفاده البيضاوي .
وقال أبو مسلم في معنى الآية : من قتل وجب على المؤمنين معاداته . وأن يكونوا خصومه , كما لو قتلهم جميعاً . لأن المسلمين يدٌ واحدةً على من سواهم . ومن أحيا وجب موالاته عليهم ، كما لَوْ أحياهم . انتهى .
وقيل للحسن البصري : هذه الآية لنا كما كانت لبني إسرائيل ؟ فقال : إي والذي لا إله غيره كما كانت لهم . ومَا جَعَلَ دِمَاءَهُمْ أكرم من دمائنا .
أقول القاعدة في ذلك ؛ أن جميع ما يحكى في القرآن من شرائع الأولين وأحكامهم , ولم ينبّه على إفسادهم وافترائهم فيه , فهو حقّ . وقد أوضح ذلك الإمام الشاطبيّ في " الموافقات " فانظره فإنه مهمّ . وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : دخلت على عثمان يوم الدار فقلت : جئت لأنصرك . وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين ! فقال : يا أبا هريرة ! أيسرّك أن تقتل الناس جميعاً إياي معهم ؟ قلت : لا ! فإنك إن قتلت رجلاً واحداً فكأنما قتلت الناس جميعاً , فانصرفْ مأذوناً لك , مأجوراً غير مأزور . قال : فانصرفت ولم أقاتل .
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عَمْرو قال : < جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! اجعلني على شيء أعيش به . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا حمزة ! نفس تحييها أحبّ إليك أم نفس تميتها ؟ قال : بل نفس أحييها . قال عليك بنفسك > .
{ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ } يعني : بني إسرائيل : { رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ } أي : الآيات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم ، تأكيداً لوجوب مراعاته ، وتأييداً لتحتم المحافظة عليه { ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ } أي : من بني إسرائيل : { بَعْدَ ذَلِكَ } أي : بعد ما كتبنا عليهم ، وبعد مجيء الرسل بالآيات والزجر المسموع منهم : { لَمُسْرِفُونَ } يعني : بالفساد والقتل . لا يبالون بعظمة ذلك .
قال ابن كثير : هذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها . كما كانت بنو قريظة والنضير وغيرهم من بني قينقاع ، ممن حول المدينة من اليهود الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج ، إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية ، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها فَدَوْا من أسروه ، وَوَدَوْا من قتلوه . وقد أنكر الله تعالى عليهم ذلك في ( سورة البقرة ) حيث يقول : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } [ البقرة : 84 - 85 ] الآيات .
وقال الرازيّ : المقصود من شرح هذه المبالغة -يعني قوله تعالى : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ } الآية -أن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة أقدموا على قتل الأنبياء والرسول ، وذلك يدل على غاية قساوة قلوبهم ونهاية بعدهم عن طاعة الله تعالى . ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم في الواقعة التي ذكرنا أنهم عزموا على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأكابر أصحابه -كان تخصيص بني إسرائيل في هذه القصة ، المبالغة العظيمة ، مناسباً للكلام ومؤكّداً للمقصود . ولما ذكر الله تعالى تغليظ الإثم في قتل النفس بغير نفس ولا فساد -أتبعه ببيان الفساد المبيح للقتل بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ 33 ]
{ إِنَّمَا جَزَاءُ } أي : مكافأة : { الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : يخالفونهما ويعصون أمرهما : { وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً } أي : يعملون في الأرض بالمعاصي وهو القتل وأخذ المال ظلماً : { أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ } أي : أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى : { أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ } أي : يطردوا منها ويُنَحَّوْا عنها . وهو التغريب عن المدن ، فلا يقرّون فيها : { ذَلِكَ } أي : الجزاء المذكور : { لَهُمْ خِزْيٌ } ذل وفضيحة : { فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهو عذاب النار .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 34 ]
{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا } أي : من المحاربين : { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
وفي هذه الآية مسائل :
الأولى - روى ابن جرير وأبو داود والنسائيّ عن ابن عباس ، أنها نزلت في المشركين . وروى ابن جرير عن أُبيّ ، أنها نزلت في قوم من أهل الكتاب نقضوا عهدهم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم . وظاهرٌ أنها عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات . كما روى الشيخان وأهل السنن وابن مردويه وهذا لفظه : عن أنس بن مالك ؛ أن ناساً من عرينة قدموا المدينة فاجتووها . فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة وأمرهم أن يشربوا من أبوالها ففعلوا فصحّوا ، فارتدّوا عن الإسلام ، وقتلوا الراعي وساقوا الإبل . فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم ، فجيء بهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وسمَلَ أعينهم وألقاهم في الحرّة . قال أنس : فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشاً ، حتى ماتوا . ونزلت : { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ } ...الآية . ولمسلم عن أنس قال : إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أَعْيَن أولئك لأنهم سملوا أَعْيَن الرعاء . وعند البخاري : قال أبو قلابة : فهؤلاء سرقوا وقتلوا وبعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله .
الثانية - زعم بعضهم أن الآية نزلت نسخاً لعقوبة العرنيين المتقدمة .
قال ابن جرير : حدثنا عليّ بن سهل ، حدثنا الوليد بن مسلم قال : ذاكرت الليث بن سعد : ما كان سَمْل النبيّ صلى الله عليه وسلم أعينهم وتركه حسمهم حتى ماتوا . فقال : سمعت محمد بن عجلان يقول : أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في ذلك وعلَّمه عقوبة مثلهم من القطع والقتل والنفي ، ولم يسمل بعدهم غيرهم . قال : وكان هذا القول ذكر لأبي عَمْرو - يعني الأوزاعيّ - فأنكر أن تكون نزلت معاتبة ، وقال : بلى . كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم . ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم مِمَّن حارب بعدهم . فرفع عنهم السمل . وروى ابن جرير أيضاً في القصة عن سعيد بن جبير قال : فما مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلُ ولا بعد ، قال : ونهى عن المُثْلة ، قال : < لا تُمَثِّلُوا بشيءٍ . > والنهي عن المُثْلة مرويّ في الصحيح والسنن .
الثالثة -احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء ، في ذهابهم إلى أنّ المحاربة في الأمصار وفي السبلات على السواء . لقوله : { وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً } . وهذا مذهب مالك والأوزاعي والليث بن سعيد والشافعيّ وأحمد .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ولو شهروا السلاح في البنيان لا في الصحراء لأخذ المال . فقد قيل : إنهم ليسوا محاربين بل هم بمنزلة المنتهب . لأن المطلوب يدركه الغوث إذا استغاث بالناس . وقال الأكثرون : إن حكم من في البنيان والصحراء واحد ، بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء . لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة ، ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم ، فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة ، ولأنهم يسلبون الرجل عي داره جميع ماله ، والمسافر لا يكون معه غالباً إلاّ بعض ماله ؛ وهذا هو الصواب .
حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتاً فيقتله ويأخذ ما معه : إن هذه محاربة . ودمه إلى السلطان لا إلى وليّ المقتول . ولا اعتبار بعفوه عنه في إنفاذ القتل .
وإنما كان ذلك محاربة ، لأن القتل بالحيلة كالقتل مكابرةً ، كلاهما لا يمكن الاحتراز منه ، بل قد يكون ضرر هذا أشد ، لأنه لا يدري به .
وقيل : إنّ المحارب هو المجاهر بالقتال ، وإنّ هذا المغتال يكون أمره إلى وليّ أمر الدم . والأول أشبه بأصول الشريعة .
الرابعة - ظاهر الآية : أن عقوبة المحاربين المفسدين أحد هذه الأنواع . فيفعل الإمام منها ما رأى فيه صلاحاً . قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، في الآية : من شهر السلاح في قبة الإسلام ، وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه ، فإمام المسلمين فيه بالخيار : إن شاء قتله ، وإن شاء صلبه ، وإن شاء قطع يده ورجله . وكذا قال سعيد بن المسيّب ومجاهد وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النَّخَعِي والضحاك . كما رواه ابن جرير ، وحكي مثله عن أنس .
قال ابن كثير : ومستند هذا القول ظاهر . وللتخيير نظائر من القرآن . كقوله في جزاء الصيد : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاما } [ المائدة : 95 ] ، وقوله في كفارة الترفه : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } [ البقرة : 196 ] . وقوله في كفارة اليمين : { إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } [ المائدة : 89 ] ، وهذه كلها على التخيير ، فكذلك فلتكن هذه الآية . وقال الجمهور : هذه الآية منزلة على أحوال .
أخرج الشافعي عن إبراهيم بن أبي يحيي ، عن صالح مولى التوأمة ، عن ابن عباس ، في قطّاع الطريق : إذا قَتَلوا وأخذوا المال قُتلوا وصُلبوا . وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا ، قُطِّعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نُفوا من الأرض . وقد رواه ابن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان ، عن حجاج ، عن عطية عن ابن عباس بنحوه ، وعن أبي مجلز وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعيّ والحسن وقتادة والسدّيّ وعطاء الخراساني نحو ذلك . وهكذا قال غير واحدٍ من السلف والأئمة انتهى .
وفي " النهاية " من فقه الزيدية : يرجع في المحارب إلى رأي الإمام ، فإن كان له رأيٌ قتله أو صلبه -لأن القطع لا يدفع المضرة -وإن كان لا رأي له لكنه ذو قوةٍ قطعه من خلاف ، وإن عدم القوة والرأي ضُربَ ونُفي ؛ وهذا معنى التخيير بين هذه الأمور ، أنه يرجع إلى اجتهاد الإمام ، على ما ذكر . انتهى .
ورأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية فصلاً مهمّاً في المحاربين في كتابه " السياسة الشرعية " وقد مثّلهم بقطاع الطريق الذين يعترضون الناس بالسلاح في الطرقات ونحوها ليغصبوهم المال مجاهرةً ، من الأعراب أو التركمان أو الأكراد أو الفلاحين أو فَسَقة الجند أو مَرَدة الحاضرة أو غيرهم . ثم ساق رواية الشافعيّ المتقدمة عن ابن عباس وقال :
هذا قول كثير من أهل العلم - كالشافعي وأحمد رضي الله عنهما -وهو قريب من قول أبي حنيفة -رحمه الله -ومنهم من قال : للإمام أن يجتهد فيهم فيقتل من رأى قتله مصلحة فيهم وإنْ كان لم يَقْتل مثل أن يكون رئيساً مطاعاً فيهم . ويقطع من رأى قطعه مصلحة وإن كان لم يأخذ المال . مثل أن يكون ذا جلَد وَقوة في أخذ المال . كما أنّ منهم من يرى أنه إذا يرى أنه إذا أخذوا المال قُتِّلوا وقُطِّعوا وصُلِّبوا . والأول قول الأكثر . فمن كان من المحاربين قد قَتَلَ فإنه يقتله الإمام حدّاً لا يجوز العفو عنه بحال ، بإجماع العلماء . ذكره ابن المنذر . ولا يكون أمره إلى ورثة المقتول . بخلاف ما لو قتل رجل رجلاً لعداوة بينهما ، أو لخصومة ، أو نحو ذلك من الأسباب الخاصة . فإن هذا دمه لأولياء المقتول . إن أحبوا قتلوا . وإن أحبوا عَفَوْا . وإن أحبوا أخذوا الدية لأنه قتله لغرض خاص . وأما المحاربون فإنما يُقتلون لأخذ أموال الناس ، فضررهم عام بمنزلة السُّرَّاق . فكان قتلهم حدَّ الله . وهذا متفق عليه بين الفقهاء . حتى لو كان المقتول غير مكافيء للقاتل . مثل أن يكون القاتل حرّاً والمقتول عبداً ، أو القاتل مسلماً والمقتول ذمّيّاً أو مستأمناً . فقد اختلف الفقهاء : هل يقتل في المحاربة ؟ والأقوى أنه يقتل للفساد العام حدّاً ، كما يقطع إذا أخذ أموالهم . وكما يحبس بحقوقهم . وإذا كان المحاربون الحرامية جماعة ، فالواحد منهم باشر القتل بنفسه والباقون له أعوان وردءٌ له ، فقد قيل : إنه يقتل المباشر فقط . والجمهور على أن الجميع يقتلون ولو كانوا مائة . والردء والمباشر سواء . وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين . فإن عُمَر بن الخطاب -رضي الله عنه -قتل ربيئة المحاربين . والربيئة هو الناظور الذي يجلس على مكانٍ عال ينظر منه لهم من يجيء .
ولأن المباشر إنما يمكن من قتله بقوة الردء ومعونته . والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض ، حتى صاروا ممتنعين ، فهم مشتركون في الثواب والعقاب كالمجاهدين . فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < المسلمون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يٌّد على من سواهم ، وَيَرُدّ مُتسَرِّيهم على قاعدتهم > . يعني : أن جيش المسلمين إذا تسرّت منه سرية فغنمت مالاً ، فإن الجيش يشاركها فيما غنمت ، لأنها بظهره وقُوّته تمكنت . لكن تُنْفَلُ عنه نفلاً . فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ينفل السرية ، إذا كانوا في بدايتهم ، الربع بعد الخمس . فإذا رجعوا إلى أوطانهم وتسرّت سرية ، نفلهم الثلث بعد الخمس . وكذلك لو غنم الجيش غنيمة شاركته السرية ، لأنها في مصلحة الجيش . كما قسم النبيّ صلى الله عليه وسلم لطلحة والزبير يوم بدر ، لأنه كان قد بعثهما في مصلحة الجيش . فأعوانُ الطائفة المتمنعة وأنصارها منها ، فيما لهم وعليهم . وهكذا المقتتلون على باطل لا تأويل فيه ، مثل المقتتلين على عصبية ودعوى جاهلية . كقيس ويمن ونحوهما ، هما ظالمتان . كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : < إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار > . قيل : يا رسول الله ! هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : < إنه أراد قتل صاحبه > . أخرجاه في " الصحيحين " وتضمن كل طائفة ما أتلفته الأخرى من نفس ومال وإن لم يعرف عين القاتل . لأن الطائفة الواحدة المتمنع بعضها ببعض كالشخص الواحد . وأما إذا أخذوا المال فقط ولم يقتلوا - كما قد يفعله الأعراب كثيراً -فإنه يقطع من كل واحد يده اليمنى ورجله اليسرى عند أكثر العلماء . كأبي حنيفة والشافعيّ وأحمد وغيرهم . وهذا معنى قوله تعالى : { أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ } . تقطع اليد التي يبطش بها ، والرجل التي يمشي عليها ، وتحسم يده ورجله بالزيت المغليّ ونحوه ، لينحسم الدم فلا يخرج فيُفضي إلى تلفه . وكذا تحسم يد السارق بالزيت . وهذا الفعل قد يكون أزجر من القتل . فإن الأعراب وفسقة الجند وغيرهم ، إذا رأوا دائماً من هو بينهم مقطوع اليد والرجل ، ذكروا بذلك جرمه ، فارتدعوا . بخلاف القتل ، فإنه قد يُنسَى . وقد يؤثر في بعض النفوس الأبية قتله على قطع يده ورجله من خلاف . فيكون هذا أشدّ تنكيلاً له ولأمثاله . وأما إذا شهروا السلاح ولم يقتلوا نفساً ولم يأخذوا مالاً ، ثم أغمدوه أو هربوا ، وتركوا الحراب ، فإنهم يُنْفَونَ . فقيل ( نفيهم ) تشريدهم . فلا يتركون يأوون في بلد . وقيل هو حبسهم . وقيل : هو ما يراه الإمام أصلح من نفيٍ أو حبس أو نحو ذلك . والقتل المشروع ضرب الرقبة بالسيف ونحوه . لأن ذلك أَوْحى ( أي : أسرع ) أنواع القتل . وكذلك شرع الله قتل ما يباح قتله من الآدميين والبهائم إذا قدر عليه على هذا الوجه . قال النبي صلى الله عليه وسلم : < إن الله كتب الإحسان على كلّ شيء . فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة . وإذا ذبحتم فأحسنوا الذَّبْحَ . وليًُحِدّ أحدكم شفرته ، ولْيُرحْ ذبيحته > . رواه مسلم . وقال : < إنّ أعف الناس قِتْلَةً أهل الإيمان > . وأما الصلب المذكور فهو رفعهم على مكان عال ليراهم الناس ويشتهر أمرهم ، وهو بعد القتل ، عند جمهور العلماء . ومنهم من قال يًُصَلَّبُون ثم يقتلون وهم مصلوبون . وقد جوّز بعض الفقهاء قتلهم بغير السيف حتى قال : يتركون على المكان العالي حتى يموتوا حتف أنوفهم بلا قتل .
الخامسة : تتمة الآية . أعني قوله تعالى : { ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } تدل على أن المحاربين يعاقبون في الدنيا والآخرة مطلقاً . ولا يكون الحدّ المذكور طهرة لهم ، ولو كانوا مسلمين .
قال السيوطي في " الإكليل " : قال ابن الفرس : ظاهره أن عقوبة المحارب لا تكون كفارة له ، كما تكون في سائر الحدود .
وقال العارف الشعراني في " ميزانه " : سمعت شيخنا ، شيخ الإسلام زكريا رحمه الله يقول : لم يرد لنا أحداً يؤخذ بذنبه في الدنيا والآخرة معاً ، إلاّ المحاربين ، لقوله تعالى : { ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ } . . الآية .
وقال ابن كثير : هذا يرجح روايةٌ نزولها في المشركين . فأما أهل الإسلام ففي " صحيح مسلم " عن عُبَاْدَة بن الصامت رضي الله عنه قال : أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما أخذ على النساء ، ألا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا يَعْضَه بعضنا بعضاً . فمن وفى منكم فأجره على الله تعالى ، ومن أتى منكم حدَّاً فأقيم عليه فهو كفارته ، ومن ستره الله فأمره إلى الله . إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له .
السادسة : دلّ قوله تعالى : { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } على أن توبة المحاربين ، قبل الظفر بهم ، تسقط عنهم حدّ المحاربين المذكور في الآية . سواء كانوا مشركين أو مسلمين . وهو مروي عن علي وأبيّ هريرة والسدّي وغيره . وقد قال الهادي : إذا تاب المحارب قبل الظفر به ، سقط عنه كل تبعة من قتل أودَين ، لعموم الآية .
قال ابن كثير : أما على قول من قال : إنها في أهل الشرك فظاهر . أي : فإنهم إذا آمنوا قبل القدرة عليهم ، سقط عنهم جميع الحدود المذكورة . فلا يطالبون بشيءٍ مما أصابوا من مالٍ أو دمٍ . قال أبو إسحاق : جعل الله التوبة للكفار تدرأ عنهم الحدود التي وجبت عليهم في كفرهم ، ليكون ذلك داعياً لهم إلى الدخول في الإسلام . وأما المحاربون المسلمون ، فإذا تابوا قبل القدرة عليهم فإنه يسقط عنهم تحتم القتل والصلب وقطع الرجل . وهل يسقط قطع اليد ؟ فيه قولان للعلماء . وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع ، وعليه عمل الصحابة كما روى ابن أبي حاتم عم الشعبي قال : كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة -وكان قد أفسد الأرض وحارب - فكلم رجالاً من قريش منهم : الحسن بن علي وابن عباس وعبد الله بن جعفر .
فكلّموا علياً فيه فلم يؤمنه . فأتى سعيد بن قيس الهمداني ، فخلفه في داره ثم أتى علياً فقال : يا أمير المؤمنين ! أرأيت من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً -فقرأ حتى بلغ : { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } . فقال : اكتب له أماناً . قال سعيد بن قيس : فإنه جارية بن بدر . وكذا رواه ابن جرير من غير وجه عن مجالد عن الشعبي ، فقال حارثة بن بدر :
~إلا أبلغا همدان إما لقيتهَا على النأي لا يَسْلَمْ عدوّ يَعيبها
~لَعَمْرُ أبيها إن همدان تَتقي الإلهَ ويقضي بالكتاب خطيبُها
وروى ابن جرير -من طريق سفيان الثوري عن السدّي ، ومن طريق أشعث -كلاهما . عن عامر الشعبي قال : جاء رجل من مراد إلى أبي موسى -وهو على الكوفة في إمرة عثمان رضي الله عنه - بعد ما صلى المكتوبة فقال : يا أبا موسى ! هذا مقام العائذ بك . أنا فلان بن فلان المرادي . كنت حاربت الله ورسوله ، وسعيت في الأرض فساداً ، وإني تبت من قبل أن تقدروا علي . فقام أبو موسى فقال : إن هذا فلان بن فلان . وإنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً ، وإنه تاب من قبل أن يُقْدر عليه ، فمن لقيه فلا يَعْرِض له إلاَّ بخير ، ( فإن يك صادقاً فسبيل من صدق . وإن يك كاذباً تدركه ذنوبه ) . فأقام الرجل ما شاء الله ، ثم إنه خرج فأدركه الله بذنوبه فقتله . ثم قال ابن جرير : حدثني علي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : قال الليث . وكذلك حدثني موسى بن إسحاق المدني ، وهو الآمر عندنا ، أنّ علياً الأسدي حارب وأخاف السبيل ، وأصاب الدم والمال ، فطلبه الأئمة والعامة ، فامتنع ولم يُقْدِرْ عليه حتى جاء تائباً ، وذلك أنه سمع رجلاً يقرأ هذه الآية : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ الزمر : 53 ] . فوقف عليه فقال : يا عبد الله ! أعد قراءَتها . فأعادها عليه . فغمد سيفه ثم جاء تائباً حتى قدم المدينة من السَّحرَ . فاغتسل . ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فصلَّى الصبح ثم قعد إلى أبي هريرة في غمار أصحابه . فلما أسفر عرفه الناس فقاموا إليه . فقال أبو هريرة : صدق . وأخذ بيده أبو هريرة حتى أتى مروان بن الحكم -في إمرته على المدينة في زمن معاوية -فقال : هذا علي جاء تائباً ولا سبيل لكم عليه ولا قتل . قال ، فترك من ذلك كله .
قال : وخرج علي تائباً مجاهداً في سبيل الله في البحر . فلقوا الروم . فقرَّبوا سفينته إلى سفينة من سفنهم . فاقتحم على الروم في سفينتهم . فَهُزِموا منه إلى سفينتهم الأخرى . فمالت بهم وبه . فغرقوا جميعاً .
هذا ، وفي تفسير بعض الزيدية -نقلاً عن زيد والنفس الزكية والمؤيد بالله وأبي حنيفة ومالك والشافعي -أنَّ توبة المحارب تُسقط الحدود لله ، دون حقوق بني آدم من قتل أو مال ، لقوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } [ البقرة : 178 ] . وقوله : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } [ المائدة : 45 ] وقوله تعالى : { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } [ الإسراء : 33 ] . وقوله صلى الله عليه وسلم : < على اليد ما أخذت حتى ترد > ، وقوله عليه الصلاة والسلام < لا يحل مال امرئ مسلم إلاَّ بطيبة من نفسه > . قال في " شرح الإبانة " : وروى زيد بن عليّ بإسناده إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام ؛ أنَّ قاطع الطريق ، إذا تابَ قبل أن يؤخذ وظفر به الإمام . ضمن المال واقتص منه . ثم قال : أما الكافر فلا خلاف أن توبته تسقط عنه جميع الحدود . انتهى . وأخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس قال : نزلت في المشركين ، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه سبيل .
وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحدّ ، إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ 35 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا } -أي اطلبوا - : { إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } أي : القربة - كذا فسَّره ابن عباس ومجاهد وأبو وائل والحسن وزيد وعطاء والثوري وغير واحد . وقال قتادة : أي : تقرّبوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه . وقرأ ابن زيد : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } . قال ابن كثير : وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة , لا خلاف بين المفسرين فيه . وفي " القاموس وشرحه " : الوسيلة والواسلة , المنزلة عند الملك والدرجة والقربة والوصلة . وقال الجوهري : الوسيلة , ما يتقرب به إلى الغير . والتوسيل والتوسل الواحد . يقال : وَسَّل إلى الله تعالى توسيلاً , عمل عملاً تقرب به إليه , كتوسل . و ( إلى ) يجوز أن يتعلق بـ ( ابتغوا ) وأن يتعلق بـ ( الوسيلة ) .
قدم عليها للاهتمام به : { وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : بسبب المجاهدة في سبيله . وقد بين كثير من الآيات أن المجاهدة بالأموال والأنفس .
تنبيه :
ما ذكرناه في تفسير " الوسيلة " هو المعوّل عليه . وقد أوضح إيضاَحاً لا مزيد عليه , تقي الدين بن تيمية عليه الرحمة في " كتاب الوسيلة " فرأينا نقل شذرة منه , إذ لا غنى للمُحَقِّقِ في علم التفسير عنه .
قال رحمه الله بعد مقدّمات :
إن لفظ الوسيلة والتوسل , فيه إجمال واشتباه , يجب أن تعرف معانيه ويعطى كلّ ذي حقٍ حقه . فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة من ذلك ومعناه . وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه ومعنى ذلك . ويعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ومعناه . فإن كثيراً من اضطراب الناس في هذا الباب هو بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها ، حتى تجد أكثرهم لا يعرف في هذا الباب فصل الخطاب . فلفظ الوسيلة مذكور في القرآن في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ } وفي قوله تعالى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً } [ الإسراء : 56 - 57 ] . فالوسيلة التي أمر الله أن تبتغي إليه ، وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه ، هي ما يتقرب به إليه من الواجبات والمستحبات ، فهذه الوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها تتناول كل واجب ومستحب ، وما ليس بواجب ولا مسحب لا يدخل في ذلك ، سواء كان محرماً أو مكروهاً أو مباحاً ، فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول فأمر به أمر إيجاب واستحباب . وأصل ذلك الإيمان بما جاء به الرسول . فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها ، هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول ، لا وسيلة لأحد إلى الله إلاَّ ذلك .
و الثاني - لفظ الوسيلة في الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم : < سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلاَّ لعبد من عَبَّاد الله . وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد . فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة > . وقوله : < من قال حين يسمع النداء : اللهم ! رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة ! آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته ، حلت له شفاعتي يوم القيامة > . فهذه الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة . قد أمرنا أن نسأل الله له هذه الوسيلة . وأخبرنا أنها لا تكون إلا لعبد من عَبَّاد الله . وهو يرجو أن يكون ذلك العبد ، وهذه الوسيلة أمرنا أن نسألها لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وأخبرنا أن من سأل له الوسيلة فقد حلت عليه الشفاعة يوم القيامة . لأن الجزاء من جنس العمل . فلما دعوا للنبي صلى الله عليه وسلم استحقوا أن يدعو هُوَ لَهُم . فإن الشفاعة نوع من الدعاء . كما قال : إنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً . وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوجه به في كلام الصحابة ، فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته . والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به . كما يقسمون بغيره من الأنبياء والصالحين . ومن يعتقدون فيه الصلاح . وحينئذ ، فلفظ التوسل به يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين . ويراد به معنى ثالث لم ترد به السنة . فأما المعنيان الأولان الصحيحان باتفاق العلماء ، فأحدهما هو أصل الإيمان والإسلام ، وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته . والثاني دعاؤه وشفاعته كما تقدم . فهذان جائزان بإجماع المسلمين . ومن هذا قول عُمَر بن الخطاب : اللهمّ إنّا كنا أجدبنا توسّلنا إليك بنبينا فتسقينا ، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبينا فاسقنا . أي : بدعائه وشفاعته . وقوله تعالى : { وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ } أي : القربة إليه بطاعته . وطاعةُ رسوله طاعته ؛ قال تعالى : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } [ النساء : 80 ] ، فهذا التوسل الأول هو أصل الدين ، وهذا لا ينكره أحدٌ من المسلمين . وأمَّا التوسل بدعائه وشفاعته - كما قال عمر - فإنه توسّل بدعائه لا بذاته ، ولهذا عدلوا عن التوسّل به إلى التوسل بعمه العباس ؛ ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس . فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس ، علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته . بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له ، فإنه مشروع دائماً .
فلفظ التوسل يراد به ثلاث معان :
أحدهما : التوسّل بطاعته . فهذا فرض لا يتمّ الإيمان إلاّ به .
و الثاني : التوسّل بدعائه وشفاعته وهذا كان في حياته ، ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته .
و الثالث : التوسّل به . بمعنى الإقسام على الله بذاته والسؤال بذاته . فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه ، لا في حياته ولا في مماته ، لا عند قبره ولا غير قبره ، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم . وإنما ينقل شيءٌ من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة . أو عن مَن ليس قوله حجة ، وهذا هو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه ، إنه لا يجوز . ونهوا عنه حيث قالوا : لا يسأل بمخلوق ، ولا يقول أحد : أسألك بحق أنبيائك . قال أبو الحسين القدوري في كتابه الكبير في الفقه المسمى بـ " شرح الكرخي " في باب الكراهة : وقد ذكر هذا غير واحدٍ من أصحاب أبي حنيفة . قال بشر بن الوليد : حدّثنا أبو يوسف قال : قال أبو حنيفة : لا ينبغي لأحدٍ أن يدعوا إلاّ به . وأكره أن يقول : بمعاقد العز من عرشك ، أو بحق خلقك . وهو قول أبي يوسف . قال أبو يوسف : بمعقد العز من عرشه هو الله . فلا أكره هذا . وأكره أن يقول : بحق فلانٍ ، أو بحق أنبيائك ورسلك ، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام . قال القدوري : المسألة بخلقه لا تجوز . لأنه لاحق للخلق على الخالق . فلا تجوز وفاقاً .
وهذا الذي قاله أبو حنيفة وأصحابه - من أن الله لا يسأل بمخلوق - له معنيان : أحدهما هو موافق السائر الأئمة الذين يمنعون أن يقسم أحد بالمخلوق ، فإنه إذا منع أن يقسم على مخلوق بمخلوق ، فلأن يمنع أن يقسم على الخالق بمخلوق ، أولى وأحرى . وهذا بخلاف إقسامه سبحانه بمخلوقاته : { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } [ الليل : 1 ] ، { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } [ الشمس : 1 ] { وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً } [ النازعات : 1 ] ، { وَالصَّافَّاتِ صَفّاً } [ الصافات : 1 ] - فإن إقسامه بمخلوقاته يتضمن من ذكر آياته الدالة على قدرته وحكمته ووحدانيته ، ما يحسن معه إقسامه . بخلاف المخلوق ، فإن إقسامه بالمخلوقات شرك بخالقها . كما في " السنن " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < من حلف بغير الله فقد أشرك > . وقد صححه الترمذي وغيره . وفي لفظ : < فقد كفر > . وقد صححه الحاكم . وقد ثبت عنه في " الصحيحين " أنه قال : < من كان حالفاً فليحلف بالله . وقال : لا تحلفوا بآبائكم . فإن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم > . وفي " الصحيحين " عنه أنه قال : < من حلف باللات والعزّى فليقل : لا إله إلاَّ الله > . وقد اتفق المسلمون على أنه من حلف بالمخلوقات المحترمة ، أو بما يعتقد هو حرمته -كالعرش والكرسي والكعبة والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة والصالحين والملوك وسيوف المجاهدين وترب الأنبياء والصالحين وسراويل الفتوّة وغير ذلك . . . - لا ينعقد يمينه ، ولا كفارة في الحنث بذلك . والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد . وقد حكى إجماع الصحابة على ذلك . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 36 ]
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ } من الأموال وغيرها : { جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ } أي : ليفادوا به أنفسهم : { مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . وهذا تمثيل للزوم العذاب لهم ، وإنه لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجه .
وقد روى البخاري عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به ؟ فيقول : نعم . فيقال له : قد كنتَ سُئلْتَ ما هو أيسر من ذلك : أن لا تشرك بي . فيُؤمر به إلى النار > . ورواه مسلم وغيره بنحوه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } [ 37 ]
{ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ } دائم لا ينقطع . وهذا كما قال تعالى : { كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا } [ السجدة : 20 ] الآية .
روى ابن مردويه عن يزيد بن صهيب الفقير ، عن جابر بن عبد لله . أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة > . قال ، فقلت لجابر بن عبد الله ، يقول الله : { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا } قال : اتل أوّل الآية : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ } . . الآية ، ألا إنهم الذين كفروا . وقد روى الإمام أحمد ومسلم هذا الحديث من وجهٍ آخر . عن يزيد الفقير عن جابر وهذا أبسط سياقاً .
زاد ابن أبي حاتم : قال جابر : أما تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى . قد جمعته قال : أليس الله يقول : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً } [ الإسراء : 79 ] ؟ فهو ذلك المقام ، فإن الله تعالى يحبس أقواماً بخطاياهم في النار ما شاء ، لا يكلمهم ، فإذا أراد أن يخرجهم أخرجهم .
ولما أوجب تعالى -في الآية المتقدمة -قطع الأيدي والأرجل عند أخذ المال على سبيل المحاربة - بين أن أخذ المال على سبيل السرقة يوجب قطع الأيدي والأرجل أيضاً ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ 38 ]
{ وَالسَّارِقُ } أي : من الرجال : { وَالسَّارِقَةُ } أي : من النساء : { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } يعني يمين كل منهما ، والمقطع الرسغ ، كما بينته السنّة : { جَزَاءً بِمَا كَسَبَا } أي : يقطع الآلة الكاسبة : { نَكَالاً } أي : عقوبةً : { مِنَ اللَّهِ } أي : على فعل السرقة المنهي عنه من جهته تعالى ، لا في مقابلة إتلاف المال ، فإنه غير السرقة . فلذلك لا يسقط بعفو المالك ، بخلاف العفو عن المال . ولا يبالي فيه بعزة السارق ، لأنه تعالى غالب على أمره يمضيه كيف يشاء ، كما قال : { وَاللَّهُ عَزِيزٌ } أي : فلا يبالي - مع عزته الموجبة لامتثال أمره - عزّة مَنْ دونه : { حَكِيمٌ } في شرائعه ، فيختل أمر نظام العالم بمخالفة أمره ، إذ فيه نفع عام للخلائق .
وفي الآية مسائل :
الأولى - قال أبو السعود : لما كانت السرقة معهودة من النساء كالرجال ، صرح بالسارقة أيضاً ، مع أن المعهود في الكتاب والسنة إدراج النساء في الأحكام الواردة في شأن الرجال بطريقة الدلالة . لمزيد الاعتناء بالبيان والمبالغة في الزجر . انتهى .
ولما كانت غلبة السرقة في الرجال ، لقوتهم بدأ بالسارق . كما أن غلبة الزنى لما كانت في النساء لفرط شهوتهن - قال في آية الزنى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } .
الثانية - قال ابن كثير : روى الثوري بسنده إلى ابن مسعود ، أنه كان يقرؤها : والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما . وهذه قراءة شاذة . وكان الحكم عند جميع العلماء موافقاً لها لا بها ، بل هو مستفاد من دليل آخر ؛ وقد كان القطع معمولاً به في الجاهلية فقرر في الإسلام ، وزيدت شروط أخر كما سنذكره إن شاء الله تعالى . كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه ، وزيادات هي من تمام المصالح ، ويقال : إن أول من قطع الأيدي في الجاهلية قريش ، قطعوا رجلاً يقال له ( دويك ) مولى لبني مليح بن عَمْرو من خزاعة ، كان قد سرق كنز الكعبة ، ويقال : سرقه قوم فوضعوه عنده .
الثالثة : ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئاً قطعت يده به ، سواء كان قليلاً أو كثيراً ، لعموم هذه الآية : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } . فلم يعتبروا نصاباً ولا حرزاً . بل أخذوا بمجرد السرقة .
وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن نجدة الحنفي قال : سألت ابن عباس عن قوله تعالى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } . أخاص أم عام ؟ فقال : بل عام . . وهذا يحتمل أن يكون موافقة لابن عباس لما ذهب إليه هؤلاء ، ويحتمل ذلك ، فالله أعلم .
وتمسكوا بما ثبت في " الصحيحين " عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده > .
وأما الجمهور فاعتبروا النصاب ، وإن كان قد وقع بينهم الخلاف في قدره .
فعند الإمام مالك : النصاب ثلاثة دراهم مضروبة خالصة . فمتى سرقها أو ما يبلغ ثمنها فما فوقه ، وجب القطع . واحتج في ذلك بما رواه عن نافع عن ابن عمر : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجنّ ثمنه ثلاثة دراهم . أخرجاه في " الصحيحين " قال مالك رحمه الله : وقطع عثمان رضي الله عنه في أترجة قوّمت بثلاثة دراهم . وهو أحب ما سمعت في ذلك .
قال أصحاب مالك : ومثل هذا الصنيع يشتهر ولم ينكر . فمن مثله يحكي الإجماع السكوتي . وفيه دلالة على القطع الثمار ، خلافاً للحنفية ، وعلى اعتبار ثلاثة دراهم خلافاً لهم في أنه لا بد من عشرة دراهم ، وللشافعية في اعتبار ربع دينار ، والله أعلم . وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن الاعتبار في قطع يد السارق بربع دينار ، أو ما يساويه من الأثمان أو العروض فصاعداً ، والحجة في ذلك ما أخرجه الشيخان من طريق الزهري عن عَمْرة عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً > . ولمسلم عنها أيضاً : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً > . قال الشافعية : هذا الحديث فاصل في المسألة ، ونصَّ في اعتبار ربع الدينار لا ما سواه . قالوا : وحديث ثمن المجنّ ، وإن كان ثلاثة دراهم ، لا ينافي هذا ، لأنه إذ ذاك كان الدينار باثني عشر درهماً . فهي ثمن ربع دينار فأمكن الجمع بهذا الطريق . ويروى هذا المذهب عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم . وبه يقول عُمَر بن عبد العزيز والليث والأوزاعي وإسحاق ( في رواية عنه ) وأبو ثور وداود الظاهري ، رحمهم الله .
وذهب الإمام أحمد وإسحاق ( في رواية ) إلى أنّ كل واحد من ربع الدينار والثلاثة دراهم مردّ شرعي . فمن سرق واحداً منهما أو ما يساويه قطع ، عملاً بحديث ابن عمر وبحديث عائشة . ووقع في لفظٍ عند الإمام أحمد عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك . وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم ، والدينار اثني عشر درهماً . وفي لفظ للنسائي : لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن . قيل لعائشة : ما ثمن المجنّ ؟ قالت : ربع دينار . فهذه كلها نصوص دالة على عدم اشتراط عشرة دراهم ، والله أعلم .
وأما الإمام أبو حنيفة وأصحابه ، وكذا سفيان الثوري ، فإنهم ذهبوا إلى أن النصاب عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة . واحتجوا بأن ثمن المجنَّ الذي قطع فيه السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ثمنه عشرة دراهم ، وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا ابن نمير وعبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن عَمْرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا تقطع يد السارق في دون ثمن المجنّ > .
وكان ثمن المجنَّ عشرة دراهم . قالوا : فهذا ابن عباس وعبد الله بن عَمْرو قد خالفا ابن عمر في ثمن المجنّ . فالاحتياط الأخذ بالأكثر ، لأن الحدود تدرأ بالشبهات .
وذهب بعض السلف إلى أنه تقطع يد السارق في عشرة دراهم أو دينار أو ما بلغ قيمة واحد منهما . يحكى هذا عن علي وابن مسعود وإبراهيم النَّخَعِي وأبي جعفر الباقر ، رحمهم الله تعالى .
وقال بعض السلف : لا تقطع الخمس إلاَّ في خمس . أي : في خمسة دنانير أو خمسين درهماً . وينقل هذا عن سعيد بن جبير رحمه الله .
وقد أجاب الجمهور - عما تمسك بها الظاهرية من حديث أبي هريرة : يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده - بأجوبة :
أحدها - أنه منسوخ بحديث عائشة . وفي هذا نظر لأنه لا بد من بيان التاريخ .
و الثاني - أنه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن . قاله الأعمش فيما حكاه البخاري وغيره عنه .
والثالث - أن هذه وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير الذي تقطع فيه يده . ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الإخبار عما كان الأمر عليه في الجاهلية حيث كانوا يقطعون في الكثير والقليل . فلعن السارق يبذل يده الثمينة في الأشياء المهينة .
وقد ذكروا أن أبا العلاء المعرّي ، لما قدم بغداد ، اشتهر عنه أنه أورد إشكالاً على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار في ذلك شعراً فقال :
~يد بخمسِ مئين عسجد وُدِيَتْ ما بالها قطعت في ربع دينار ؟
وقد أجابه الناس في ذلك ؛ فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله أنه قال : لما كانت أمنية ، كانت ثمينة . ولما خانت هانت ، ومنهم من قال : هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة . فإن في باب الجنايات ، ناسب أن تَعْظُمَ قيمة اليد بخمسمائة دينار ، لئلا يجنى عليها . وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع ربع دينار لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال ، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب ، ولهذا قال : { جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : مجازاة على صنيعهما السّيء في أخذهما أموال الناس بأيديهم ، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك . كذا في تفسير ابن كثير .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس سره في كتابه " السياسة الشرعية " : وأما السارق فيجب قطع يده اليمنى بالكتاب والسنة والإجماع . قال الله تعالى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } الآية . ولا يجوز ، بعد ثبوت الحدّ عليه بالبينة أو الإقرار ، تأخير ه . لا بحبس ولا مال يفتدي به ولا غيره . بل تقطع يده في الأوقات المعظمة وغيرها . فإن إقامة الحدود من العبادات كالجهاد في سبيل الله . وينبغي أن يعرف أن إقامة الحدّ رحمة من الله بعباده . فيكون الوالي شديداً في إقامة الحدّ ، لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله ، ويكون قصده رحمة الخلق بكف الناس عن المنكرات ، لا إشفاء غيظه وإرادة العلوّ على الخلق . بل بمنزلة الوالد إذا أدب ولده . فإنه لو كف عن تأديب ولده ، كما تستر به الأم رقة ورأفة ، لفسد الولد . وإنما يؤدبه رحمةً وإصلاحاً بحاله . مع أنه يودّ ويؤثر أن لا يحوجه إلى تأديب . وبمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه . وبمنزلة قطع العضو المتآكل والحجم وقطع العروق بالفصاد ونحو ذلك . بل بمنزلة شرب الإنسان الدواء الكريه ، وما يدخله على نفسه من المشقة لينال به الراحة . فكذلك شرعت الحدود . وهكذا ينبغي أن تكون نية الوالي في إقامتها ، فإن من كان قصده صلاح الرعية والنهي عن المنكرات ، بجلب المنفعة لهم ورفع المضرة عنهم وابتغائه بذلك وجه الله تعالى وطاعة أمره -ألان اللهَ له القلوب وتيسرت له أسباب الخير . وكفاه العقوبة اليسيرة . وقد يَرضى المحدود إذا قام عليه الحدّ . وأما إذ كان غرضه العلوّ عليهم وإقامة بأسه ليعطوه أو ليبذلوا له ما يريد من الأموال -انعكس عليه مقصوده .
ويروى أن عُمَر بن عبد العزيز ، رحمه الله ، قبل أن يلي الخلافة كان نائباً للوليد ابن عبد الملك على مدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكان قد ساسهم سياسة صالحة ، فقدم الحجاج من العراق وقد سامهم سوء العذاب ، فسأل أهل المدينة عن عمر : كيف هيبته فيكم ؟ قالوا : ما نستطيع أن ننظر إليه هيبة له ! قال : كيف محبتكم له ؟ قالوا : هو أحب إلينا من أهلنا ! قال كيف أدبه ؟ قالوا : ما بين الثلاثة الأسواط إلى العشرة ... قال : هذه هيبته وهذه محبته وهذا أدبه ! هذا أمر من السماء . وإذا قطعت يده حسمت ، ويستحب أن تعلق في عنقه . فإن سرق ثانياً قطعت رجله اليسرى . فإن سرق ثالثاً أو رابعاً ، ففيه قولان للصحابة ومن بعدهم من العلماء :
أحدهما : تقطع أربعته في الثلاثة والرابعة ، وهو قول أبي بكر ، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه ، والكوفيين وأحمد في إحدى الروايتين .
و الثاني : أنه يحبس . وهو قول علي رضي الله عنه والكوفيين وأحمد في روايته الأخرى . وتتمة مباحث السرقة مقررة في كتب السنة .
الرابعة : قرأ الجمهور برفع ( السارق والسارقة ) على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره : وفيما يتلى عليكم - أو فرض عليكم - السارق والسارقة ، أي : حكمها ، أو الخبر قوله تعالى : { فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط . إذ المعنى : الذي سرق والتي سرقت . وقرأ عيسى بن عُمَر بالنصب ، وفضلها سيبويه على قراءة الرفع ، لأن الإنشاء لا يقع خبراً إلا بتأويل وإضمار ، كذا اشتهر عن سيبويه .
قال الناصر في " الانتصاف " : المستقرأ من وجوه القراءات أن العامة لا تتفق فيها أبداً على العدول عن الأفصح .
وجدير بالقرآن أن يجري على أفصح الوجه ، وأن لا يخلو من الأفصح ، وما يشتمل عليه كلام العرب الذي لم يصل أحد إلى ذروة فصاحته ولم يتعلق بأهدابها . وسيبويه يحاشي من اعتقاد عراء القرآن عن الأفصح واشتماله على الشاذ الذي لا يعد من القرآن . ونحن نورد الفصل من كلام سيبويه على هذه الآية ليتضح لسامعه براءة سيبويه من عهدة هذا النقل . قال سيبويه في ترجمة " باب الأمر والنهي " بعد أن ذكر المواضع التي يختار فيها النصب : وملخصها أنَّه متى بني الاسم على فعل الأمر ، فذلك موضع اختيار النصب . ثم قال كالموضّح لامتياز هذه الآية عما اختار فيها النصب : وأما قوله عز وجل : { السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } الآية ، وقوله : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا } [ النور : 2 ] . فإن هذا لم يبن على الفعل ولكنه جاء على مثال قوله : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ } [ محمد : 15 ] . ثم قال بعد : فيها كذا وكذا . يريد سيبويه تمييز هذه الآي عن المواضع التي بين اختيار النصب فيها . ووجه التمييز بأن الكلام حيث يختار النصب يكون الاسم فيه مبنياً على الفعل . وأما في هذه الآي فليس بمبنيٍّ عليه . فلا يلزم فيه اختيار النصب .
عاد كلامه قال : وإنما وضع المثل للحديث الذي ذكره بعده . فذكر أخباراً وقصصاً . فكأنه قال : ومن القصص : مثل الجنة . فهو محمول على هذا الإضمار . والله أعلم . وكذلك : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } لما قال جل ثناؤه : { سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا ْ } [ النور : 1 ] . قال في جملة الفرائض : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } -ثم جاء - : { فَاجْلِدُوا } . بعد أن مضى فيهما الرفع ، يريد سيبويه : لم يكن الاسم مبنياً على الفعل المذكور بعد ، بل بني على محذوف متقدم وجاء الفعل طارئاً .
عاد كلامه قال كما جاء : وقائلة خَوْلانُ فانكِحْ فَتَاتَهُمْ فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه المضمر ؛ وكذلك : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } وفيما فرض عليكم السارقة والسارق . فإنما دخلت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث . وقد قرأ ناس والسَّارقََ والسَّارِقَةََ . بالنصب ، وهو في العربية ما ذكرت لك من القوة ، ولكن أبت العامة إلاّ الرفع .
يريد سيبويه أن قراءة النصب جاء الاسم فيها مبنياً على الفعل غير معتمد على متقدم ، فكان النصب قوياَ بالنسبة إلى الرفع ، حيث يبني الاسم على الفعل لا على متقدم . وليس يعني أنه قوي بالنسبة إلى الرفع ، حيث يعتمد الاسم على المحذوف المتقدم ، فإنه قد بين أن ذلك يخرجه من الباب الذي يختار فيه النصب ، فكيف يفهم عنه ترجيحه عليه ، والباب مع القراءتين مختلف ؟ وإنما يقع الترجيح بعد التساوي في الباب . فالنصب أرجح من الرفع حيث ينبني الاسم على الفعل . والرفع متعين ( لا أقول أرجح ) حيث بنى الاسم على كلام متقدم .
ثم حقق سيبويه هذا المقدر بأن الكلام واقع بعد قصص وأخبار . ولو كان كما ظنّه الزمخشري ، لم يحتج سيبويه إلى تقديرٍ بل كان يرفعه على الابتداء ، ويجعل الأمر خبره ، فالملخّص على هذا : أن النصب على وجه واحد ، وهو بناء الاسم على فعل الأمر . والرفع على وجهين : أحدهما ضعيف وهو الابتداء وبناء الكلام على الفعل . والآخر قوي بالغ كوجه النصب -وهو رفعه على خبر ابتداء محذوف دلّ عليه السياق . وحيثما تعارض لنا وجهان في الرفع ، أحدهما قوي والآخر ضعيف ، تعينّ حمل القراءة على القوي كما أعربه سيبويه رضي الله عنه . والله أعلم . انتهى . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 39 ]
{ فَمَنْ تَابَ } أي : رجع من السُّرَّاق إلى الله : { مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ } أي : سرقته : { وَأَصْلَحَ } أي : علمه : { فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ } أي : يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : مبالغ في المغفرة ولذلك يقبل توبته . وهو تعليل لما قبله .
قال أبو السعود : وإظهار الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم وتأييد استقلال الجملة .
وكذا في قوله عزّ وجل :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 40 ]
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } فإن عنوان الألوهية مدارُ أحكام ملكوتهما . والاستفهام لتقرير العلم . والمراد به الاستشهاد بذلك على قدرته تعالى على ما سيأتي من التعذيب والمغفرة على أبلغ وجه وأتمّه . أي : ألم تعلم أن له السلطان القاهر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهما وفيما فيهما : { يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ } وتقديم التعذيب لأن السياق للوعيد . فيناسب ذلك تقديم ما يليق به من الزواجر : { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ومنه التعذيب والمغفرة .
تنبيه :
ذهب الجمهور إلى أن توبة السارق تُسُقط عنه حدود الله . وأما حقّ الآدمي من القطع وردّ المال أو بدله فلاَ يَسْقط بتوبته .
وقال أبو حنيفة : متى قطع ، وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها . وقد بينت السنة أنه إن عفي عنه قبل الرفع إلى الإمام ، سقط القطع .
روى ابن ماجة عن ثعلبة الأنصاري : أن عُمَر بن سمرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إني سرقت جملاً لبني فلان فطهِّرني . فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا افتقدنا جملاً لنا . فأمر به فقطعت يده . قال ثعلبة ( أحد رجال السند ) : أنا أنظر إليه حين وقعت يده وهو يقول : الحمد لله الذي طهرني منك . أردت أن تدخلي جسدي النار . وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عَمْرو : أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا . يا رسول الله ! إن هذه المرأة سرقتنا ، قال قومها فنحن نفديها ( يعني أهلها ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < اقطعوا يدها > . فقطعت يدها اليمنى ، فقالت المرأة : هل لي من توبة ؟ يا رسول الله ! قال : < نعم ، أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك > . فأنزل الله عز وجل في سورة المائدة : { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ } . . الآية .
قال ابن كثير : وهذه المرأة هي المخزومية التي سرقت . وحديثها ثابت في الصحيحين من رواية الزهري عن عائشة أن امرأة سرقت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح . ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعونه . قال عروة : فلما كلمه أسامة فيها ، تلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أتكلمني في حد من حدود الله ؟ قال أسامة استغفر لي ، يا رسول الله ؟
فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد . فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد . والذي نفس محمد بيده ! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها .
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة فقطعت يدها ، فحسنت توبتها بعد ذلك . وتزوجت .
قالت عائشة : فكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجاتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا لفظ مسلم . وفي لفظ له عن عائشة قالت : كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها . وعن ابن عُمَر . قال : كانت امرأة مخزومية تستعير متاعاً على ألسنة جاراتها وتجحده . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها . رواه الإمام أحمد . وأبو داود النسائي ، وهذا لفظه . وفي لفظ له : إنّ امرأة كانت تستعير الحلي للناس ثم تمسكه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قم يا بلال ! فخذ بيدها فاقطعها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ 41 ]
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ } نهيٌ . قال أبو البقاء : والجيد فتح الياء وضم الزاي . ويقرأ بضم الياء وكسر الزاي من ( أحزنني ) وهي لغة { الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } أي : في إظهاره بما يلوح منهم آثار الكيد للإسلام ومن موالاة الكافرين : { مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ } أي : بألسنتهم . متعلق بـ ( قالوا ) : { وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُم } وهم المنافقون ، أي : لا تبال بهم فإني ناصرك عليهم : { وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا } عطف على : { مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ } وهم يهود بني قريظة ، كعب وأصحابه : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } خبر لمحذوف ، أي : هم سماعون . واللام إما لتقوية العمل ، وإما لتضمين السماع معنى القبول ، وإما لام كي ، والمفعول محذوف ؛ والمعنى : هم مبالغون في سماع الكذب الذي افترته أحبارهم أو في قبوله . أو سماعون أخباركم ليكذبوا عليكم بالزيادة والنقص إرجافاً وتهويلاً .
وفي " الإكليل " : أن قوله تعالى : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } يدلّ على أن سامع المحظور كقائله في الإثم .
{ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } أي : لم يحضروا مجلسك وتجافَوْا عنه إفراطاً في البغضاء . أي : قابلون من الأحبار ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك . قيل : هم يهود خيبر . والسماعون ، بنو قريظة : { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ } أي : كلم التوراة في الأحكام : { مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } أي : التي وضعه الله عليها .
قال ابن كثير : أي : يتناولونه على غير تأويله ، ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا } أي : إن أوتيتم هذا المحرّف المزال عن مواضعه من جهة الرسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَخُذُوهُ } أي : اعملوا به فإنه الحق : { وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ } . بأن أفتاكم الرسول بخلافه : { فَاحْذَرُوا } أي : من قبوله ، وإياكم وإياه ! فإنه الباطل والضلال . قال ابن كثير : قيل نزلت في قوم من اليهود قتلوا قتيلاً وقالوا تعالوا نتحاكم إلى محمد . فإن حكم بالدية فاقبلوه . وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه .
والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا . وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم . فحرفوا واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة والتحميم والإركاب على حمار مقلوبَيْن . فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم : تعالوا حتى نتحاكم إليه . فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه واجعلوه حجة بينكم وبين الله . ويكون نبياً من أنبياء الله قد حكم بذلك .
وقد وردت الأحاديث بذلك : فروى مالك عن نافع عن ابن عمر قال : جاءت اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما تجدون في شأن الرجم > ؟ فقالوا : نفضحهم ويجلدون . فقال عبد الله بن سلام : كذبتم . إنَّ فيها الرجم . فأَتَوْا بالتوراة فنشروها . فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها . فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك . فرفع يده فإذا آية الرجم . فقالوا : صدق , يا محمد , فيها آية الرجم . فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجِما . فقال عبد الله بن عُمَر : فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة . وأخرجاه في الصحيحين . وهذا لفظ الموطأ .
وروى الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال : مُرَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي محمَّم مجلود . فدعاهم فقال : هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ فقالوا نعم . فدعا رجلاً من علمائهم فقال : أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ! هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ فقال : لا ، والله ! ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك ، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم . ولكنه كثر في أشرافنا . فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه . وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد . فقلنا تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع . فاجتمعنا على التحميم والجلد . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < اللهم ! إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه > . قال : فأمر به فرجم قال : فأنزل الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } إلى قوله - : { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ } . أي : يقولون : إيتوا محمداً . فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه . وإن أفتاكم بالرجم فأحذروا . قال الحافظ ابن كثير : انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري . أبو داود والنسائي وابن ماجة . وكذلك روى أبو بكر الحميدي في " مسنده " نحوه في سبب نزولها عن جابر . وأبو داود أيضاً ، عن ابن عمر .
{ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ } أي : ضلالته : { فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً } أي : في دفع ضلالته : { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } أي : من دنس الفتنة ووضر الكفر لانهماكهم فيهما . وإصرارهم عليهما , وإعراضهم عن صرف اختيارهم إلى تحصيل الهداية : { لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } أي : فضيحة وهتك ستر, بظهور نفاقهم بالنسبة للمنافقين . وذل وجزية وافتضاح ، بظهور كذبهم في كتمان نص التوراة بالنسبة لليهود : { وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهو النار .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [ 42 ]
{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } أي : بالباطل . خبر لمحذوف . وكرر تأكيداً لما قبله وتمهيداً لقوله : { أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } أي : الحرام . وهو الرشوة كما قال ابن مسعود .
قال الزمخشري : السحت كل ما لا يحل كسبه . وهو من ( سَحَتَهُ ) إذا استأصله . لأنه مسحوت البركة . كما قال تعالى : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا } [ البقرة : 276 ] . والربا باب منه . وقرئ ( السحت ) بالتخفيف والتثقيل ، و ( السحت ) بفتح السين على لفظ المصدر من ( سحته ) ، و ( السحت ) بفتحتين ، و ( السحت ) بكسر السين ، وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام . انتهى .
وفي " اللباب " : السحت كله حرام تحمل عليه شدة الشره . وهو يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا تكون له بركة ولا بركة ولا لآخذه مروءة ويكون في حصوله عار بحيث يخيفه لا محالة . ومعلوم أن حال الرشوة كذلك . فلذلك حرمت الرشوة على الحاكم عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي في الحكم .
أخرجه الترمذي . وأخرجه أبو داود عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص .
قال ابن مسعود : الرشوة في كل شيء . فمن شفع شفاعة ليردّ بها حقّاً أو يدفع بها ظلماً . فأهدي بها إليه ، فقبل ، فهو السحت . فقيل له : يا أبا عبد الرحمن ! ما كنا نرى ذلك إلاّ الأخذ على الحكم ؟ فقال : الأخذ على الحكم كفر ! قال الله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } .
{ فَإِنْ جَاءُوكَ } يعني اليهود لتحكم بينهم : { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ } لأنهم اتخذوك حكماً : { أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم ، أي : فأنت بالخيار . وقد استدل بالآية من قال : إن الإمام مخيّر في الحكم بين أهل الذمة أو الإعراض عنهم . وعن بعض السلف : إنّ التخيير المذكور نسخ بقوله تعالى : { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ } والتحقيق أنها محكمة ، والتخيير باق .
وهو مرويّ عن الحسن والشعبيّ والنخعي والزهريّ ، وبه قال أحمد . لأنه لا منافاة بين الآيتين . فإن قوله تعالى : { فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } فيه التخيير . وقوله تعالى : { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ } فيه كيفية الحكم ، إذا حكم بينهم : { وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً } أي : فلن يقدروا على الإضرار بك ، لأن الله تعالى عاصمك من الناس : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } ، أي : بالعدل الذي أمرت به ، وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } أي : العادلين فيما وَلُو وحكموا .
روى مسلم عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن . وكلتا يديه . الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وماوَلُوا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } [ 43 ] : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ } تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه . مع أن الحكم منصوص في كتابهم الذين يدعون الإيمان به .
قال بعضهم : معنى : { فِيهَا حُكْمُ اللّهِ } أي : في المسألة التي تحاكموا فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وهو حكم الله بحسب اعتقادهم أو بحسب الحقيقة . قال : ووجود هذا الحكم الخاص فيها , لا ينافي القول بوجود أشياء أخرى كثيرة فيها محرفة . وسمّاها التوراة : إما باعتبار عرفهم . أو باعتبار أصلها , أو لاشتمالها على أشياء كثيرة من التوراة الحقيقية . ولولا ذلك ما صحّ أن تسمى بذلك , كالإنجيل , مع اعتقاد تحريفها وتبديلها وعدم صحة كثير من أجزائها وكتبها . . .
{ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } أي : من بعد البيان في التوراة , وحكمك الموافق لما في كتابهم : { وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } أي : بالتوراة كما يزعمون .
قال الحاكم : وفي الآية دلالة على أنه لا يجوز طلب الرخصة بترك ما يعتقده حقّاً إلى ما يعتقده غيرَ حقٍّ . وقوله تعالى : { ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } يدلّ على أن التوليّ عن حكم الله يخرجه عن الإيمان .
قال بعض الزيدية : إذا كره حكم الشرع وطلب المنع ، هل ذلك يخرجه عن حكم الإيمان ؟ وهذا ينبغي أن يفصل فيه ، فيقال : إن اعتقد صحته ، أو رأى له مزية أو تعظيماً . أو استهان بحكم الإسلام ، فلا إشكال في كفره . وإن لم يحصل ذلك منه ، بل اعتقد أنه باطل خسيس ، وأنه يعظم شرع الإسلام ، ولكن يميل إلى هوى نفسه ، فهذا لا يكفر على الظاهر . إذا الكفر يحتاج إلى دليل قاطع .
وفي كلام الحاكم ما تقدم : أنه يخرجه عن الإيمان . فإن أوهم أنه حق أو أنه أصلح من شرع الإسلام ، فهذا محتمل للكفر . لأنه كفر إبليس اللعين ، بكونه اعتقد أن أمر الله تعالى له بالسجود لآدم ، غير صلاح . لكونه خلقه من طين ، وإبليس من النار . انتهى .
ثم أشار تعالى إلى حالة اليهود الذين كانوا لا يبالون بالتوراة ويحرّفونها ، ويقتلون النبيين ، بأنهم خالفوا ما أمرهم الله في شأنها من الهداية بها وصونها عن التحريف ، فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [ 44 ]
{ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً } أي : إرشادٌ إلى الحق : { وَنُورٌ } أي : إظهار لما انْبَهَمَ من الأحكام : { يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ } من بني إسرائيل : { الَّذِينَ أَسْلَمُوا } أي : الذين كانوا مسلمين من لدن موسى إلى عيسى عليهم السلام . وسنذكر سرّ هذه الصفة : { لِلَّذِينَ هَادُوا } وهم اليهود . و ( هاد ) بمعنى تاب ورجع إلى الحق .
قال المهايميّ : { لِلَّذِينَ هَادُوا } أي : لا لمن يأتي بعدهم . ولم يختص بالحكم بها الأنبياء بل يحكم بها : { وَالرَّبَّانِيُّونَ } أي : الزهّاد العبّاد : { وَالْأَحْبَارُ } أي : العلماء الفقهاء : { بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ } أي : بسبب الذي استودعوه من كتاب الله أن يحفظوه من التغيير والتبديل وأن يقضوا بأحكامه . والضمير في ( اسْتُحْفِظُوا ) للأنبياء والربانيين والأحبار جميعاً . ويكون الاستحفاظ من الله ، أي : كلفهم حفظه . أو للربانيين والأحبار ، ويكون الاستحفاظ من الأنبياء : { وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ } أي : رقباء يحمونه من أن يحوم حوله التغيير والتبديل بوجه من الوجوه . أو بأنه حق وصدق من عند الله . فمُعلمو اليهود وعلماؤهم الصالحون لا يفتون ولا يقضون إلا بما لم ينسخ من شريعتهم وما لم يحرف منها ، لشيوعه وتداوله وتواتر العمل به .
لطيفة :
قال الزمخشريّ : قوله تعالى : { الَّذِينَ أَسْلَمُواْ } صفة أجريت على النبيين على سبيل المدح . كالصفات الجارية على القديم سبحانه . لا للتفصلة والتوضيح . وأريد بإجرائها التعريض باليهود ، وأنهم بعداء من ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث ، وأن اليهودية بمعزل منها . انتهى .
قال الناصر في " الانتصاف " : وإنما بعثه على حمل هذه الصفة على المدح دون التفصلة والتوضيح ، أنَّ الأنبياء لا يكونون إلا متّصفين بها . فذكر النبوّة يستلزم ذكرها . فمن ثَمَّ حمله على المدح ، وفيه نظر . فإن المدح إنما يكون غالباً بالصفات الخاصة التي يميّز بها الممدوح عمن دونه . والإسلام أمر عام يتناول أمم الأنبياء ومتبعيهم كما يتناولهم . ألا ترى أنه لا يحسن في مدح النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقتصر على كونه رجلاً مسلماً ؟ فإن أقل متبعيه كذلك . فالوجه - والله أعلم - أن الصفة قد تذكر للعظم في نفسها ولينوّه بها إذا وصف لها عظيم القدر . كما يكون ثبوتها بقدر موصوفها . فالحاصل أنه كما يراد إعظام الموصوف بالصفة العظيمة قد يراد إعظام الصفة بعظم موصوفها . وعلى هذا الوصف جرى وصف الأنبياء بالصلاح في قوله تعالى : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ } [ الصافات : 112 ] . وأمثاله . تنويهاً بمقدار الصلاح . إذ جُعِل صفةَ الأنبياء . وبعثاً لآحاد الناس على الدأب في تحصيل صفته . وكذلك قيل في قوله تعالى : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } [ غافر : 7 ] . فأخبر ، عن الملائكة المقربين ، بالإيمان . تعظيماً لقدر الإيمان وبعثاً للبشر على الدخول فيه ، ليساووا الملائكة المقربين في هذه الصفة . وإلاّ فمن المعلوم أن الملائكة مؤمنون ليس إلاّ . ولهذا قال : { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } يعني من البشر لثبوت حقّ الأخوة في الإيمان بين الطائفتين فكذلك - والله أعلم - جرى وصف الأنبياء في هذه الآية بالإسلام تنويهاً به . لقد أحسن القائل في أوصاف الأشراف ، والناظم في مدحه صلى الله عليه وسلم :
~فلئن مدحتُ محمداً بقصيدتي فلقد مدحتُ قصيدتي بمحمّدِ
والإسلام ، وإن كان من اشرف الأوصاف ، إذ حاصله معرفة الله تعالى بما يجب له ويستحيل عليه ويجوز في حقه ، إلاَّ أن النبوة أشرف وأجلّ ، لاستعمالها على عموم الإسلام مع خواص المواهب التي لا تسعها العبارة . فلو لم نذهب إلى الفائدة المذكورة في ذكر الإسلام بعد النبوة ، في سياق المدح ، لخرجنا عن قانون البلاغة المألوف في الكتاب العزيز ، وفي كلام العرب الفصيح ، وهو الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، لا النزول على العكس . ألا ترى أن أبا الطيب كيف تزحزح عن هذا المهيع في قوله :
~شمس ضحاها هلال ليلتها درّ تقاصيرها زبرجدها !
فنزل عن الشمس إلى الهلال ، وعن الدر إلى الزبرجد في سياق المدح . فمضغت الألسن عرض بلاغته ، ومزقت أديم صيغته . فعلينا أن نتدبّر الآيات المعجزات ، حتى يتعلق فهمنا بأهداب علوّها في البلاغة المعهود لها . والله الموفق .
وقوله تعالى : { فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ } قال الزمخشري : نهيٌ للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم وإدهانهم فيها ، وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل لخشية سلطان ظالم ، أو خيفة أذية أحد من القرباء والأصدقاء .
وقال أبو السعود : خطاب لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات . وأما حكام المسلمين فيتناولهم النهي بطريق الدلالة دون العبارة . والفاء لترتيب النهي على ما فصل من حال التوراة وكونها معتنى بشأنها فيما بين الأنبياء عليهم السلام ، ومن يقتدي بهم من الربانيين والأحبار المتقدمين عملاً وحفظاً . فإن ذلك مما يوجب الاجتناب عن الإخلال بوظائف مراعاتها والمحافظة عليها بأيّ وجهٍ كان . فضلاً عن التحريف والتغيير . ولما كان مدار جراءتهم على ذلك ، خشية ذي سلطان أو رغبة في الحظوظ الدنيوية ، نهوا عن كل منهما صريحاً ، أي : إذا كان شأنها كما ذكر فلا تخشوا الناس كائناً من كانوا ، واقتدوا في مراعاة أحكامها وحفظها بمن قبلكم من الأنبياء وأشياعهم : { وَاخْشَوْنِ } في مخالفة أمري والإخلال بحقوق مراعاتها : { وَلا تَشْتَرُوا } أي : تستبدلوا : { بِآيَاتِي } أي : التي فيها ، بأن تتركوا العمل بها وتأخذوا لأنفسكم بدلاً منها : { ثَمَناً قَلِيلاً } من الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس ، فإنها - وإن جلّت -قليلة مسترذلة في نفسها ، لا سيما بالنسبة إلى ما فات عنهم بترك العمل بها : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } أي : كائناًَ من كان ، دون المخاطبين خاصة ، فإنهم مندرجون فيه اندراجاً أوليّاً . أي : من لم يحكم بذلك مستهيناً به ، منكراً له كما يقتضيه ما فعلوه اقتضاءً بيّناً : { فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } لاستهانتهم به . والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها أبلغ تقرير ، وتحذير عن الإخلال به أشدّ تحذير . حيث علق فيه الحكم بالكفر بمجرد ترك الحكم بما أنزل الله تعالى . فكيف وقد انضمّ إليه الحكم بخلافه ؟ لا سيما مع مباشرة ما نهموا عنه من تحريفه ووضع غيره موضعه ، وادعاء أنه من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً . قاله أبو السعود .
تنبيهات :
الأول : في قوله تعالى : { فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ } دلالة على أنّ على الحاكم أن لا تأخذه في الله لومة لائم .
الثاني : في قوله تعالى : { وَلاَ تَشْتَرُواْ ... } الخ دلالة على تحريم الرشا على التبديل . وكتمان الحقّ ، وأنّ فِعْلَ ذلك ، لغرضٍ دنيويٍِ من طلب جَاه ، أو مال - محرّمٌ .
الثالث : في قوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ } الآية ، تغليظ في الحكم بخلاف المنصوص عليه ، حيث علق عليه الكفر هنا ، والظلم والفسق بعدُ . الرابع : ما أخرجه مسلم عن البراء : أن قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ } . الثلاث الآيات في الكفار كلها . وكذا ما أخرجه أبو داود عن ابن عباس : أنها في اليهود خاصة ، قريظة والنضير - لا يناف تناولها لغيرهم ، لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وكلمة : { مَن } وقعت في معرض الشرط فتكون للعموم .
الخامس : كفر الحاكم بغير ما أنزل بقيد الاستهانة به والجحود له ، هو الذي نحاه كثيرون وأثروه عن عِكْرِمَة وابن عباس .
وروى الحاكم وابن أبي حاتم وعبد الرزاق عن ابن عباس وطاوس : أن من لم يحكم بما أنزل الله ، هي به كفر ، وليس بكفر ينقل عن الملة . كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . ونحو هذا روى الثوريّ ، عن عطاء قال : هو كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق . رواه ابن جرير .
ونقل في " اللباب " عن ابن مسعود والحسن والنخعيّ : أن هذه الآيات الثلاث عامة في اليهود وفي هذه الأمة ، فكل من ارتشى وبدل الحكم فحكم بغير حكم الله ، فقد كفر وظلم وفسق . وإليه ذهب السدّي . لأنه ظاهر الخطاب . ثم قال : وقيل : هذا فيمن علم نص حكم الله ثم رده عياناً عمداً ، وحكم بغيره . وأما من خفي عليه النص أو أخطأ في التأويل ، فلا يدخل في هذا الوعيد . . انتهى .
وقال إسماعيل القاضي في " أحكام القرآن " : ظاهر الآيات يدل على أن من فعل مثل ما فعلوا - يعني اليهود -واخترع حكماً يخالف به حكم الله ، وجعله ديناً يعمل به فقد لزمه مثل ما لزمهم من الوعيد المذكور ، حاكماً كان أو غيره .
السادس : روي سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات .
أخرج الإمام أحمد عن ابن عباس قال : إن الله أنزل : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } و : { أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } و : { أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } في الطائفتين من اليهود . وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا أو اصطلحوا على أن كل قتيل قتله العزيزة من الذليلة فديته خمسين وسقاً ، وكل قتيل قتله الذليلةُ من العزيزة فديته مائة وسق . فكانوا على ذلك حتى قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة ، فذلّت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم . ويومئذٍ لم يظهر ولم يوطئهما عليه وهو في الصلح . فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلاً . فأرسلت العزيزة إلى الذليلة : أن ابعثوا لنا بمائة وسق ، فقالت الذليلة : وهل كان في حيين قط ، دينهما واحد ونسبهما واحد وبلدهما واحد ، ديةُ بعضهم نصف دية بعض ؟ إنا إنما أعطيناكم هذا ضمياً منكم لنا وفَرَقاً منكم . فأما إذْ قدم محمد فلا نعطيكم ذلك ، فكادت الحرب تهيج بينهما ، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم . ثم ذكرت العزيزة فقالت والله ! ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منهم ، ولقد صدقوا ما أعطونا هذا إلا ضيماً منا وقهراً لهم . فدُسّوا إلى محمد من يَخْبُرُ لكم رأيه . إن أعطاكم ما تريدون حكمتوه ، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه ، فَدَسّوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من المنافين ليخبُروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأمرهم كلِّه وما أرادوا . فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } -إلى قوله - : { الْفَاسِقُونَ } ثم قال : فيهما ، والله ! نزلت ، وإياهم عنى الله عز وجلّ . ورواه أبو داود بنحوه .
وروى ابن جرير من طريق أخرى عن ابن عباس قال : إن الآيات في المائدة قوله : { فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } -إلى - : { الْمُقْسِطِينَ } إنما أنزلت في الدية في بني النضير وقريظة . وذلك أن قتلى بني النضير ، وكان لهم شرف يُؤدِّي الدية كاملة . وأن قريظة كانوا يؤدى لهم نصف الدية . فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ذلك فيهم . فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك ، فجعل الدية في ذلك سواء . ورواه أحمد وأبو داود والنسائي بنحوه .
وروى ابن جرير أيضاً عن ابن عباس قال : كانت قريظة والنضير . وكانت النضير أشرف من قريظة . فكان إذا قتل القرظي رجلاً من النضير قُتِل به . وإذا قتل النضيري رجلاً من قريظة ، وُدِيَ بمائة وسق من التمر . فلما بُعِثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قتل رجلٌ من النضير رجلاً من قريظة . فقالوا : ادفعوا إليه ، فقالوا : بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فنزلت : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } ورواه أبو داود والنسائيّ وابن حبان والحاكم في " المستدرك " بنحوه . وهكذا قال قتادة ومقاتل بن حيان وغير واحد . وقد روى العوفيّ وعليّ بن أبي طلحة الوالبيّ عن ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في اليهوديين اللذين زنيا , كما تقدمت الأحاديث , وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد . فنزلت هذه الآيات في ذلك كله , والله أعلم . انتهى كلام ابن كثير .
وقد أسلفنا في " المقدمة " في بحث سبب النزول ، ما يزيل الإشكال في تعدد السبب . فتذكر . ومما يقوى أن سبب النزول قضية القصاص - كما قال ابن كثير - قوله تعالى بعد ذلك :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ 45 ]
{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا } أي : فرضنا على اليهود في التوراة : { أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } . أي : مقتولة بها إذا قتلتها بغير حق : { وَالْعَيْنَ } مفقوءة : { بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ } مجدوع : { بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ } مقطوعة : { بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ } مقلوعة : { بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } أي : ذات قصاص ، أي : يقتص فيها إذا أمكن . كاليد والرجل والذكر ونحو ذلك وإلا - ككسر عظم وجَرح لحم مما لا يمكن الوقوف على نهايته - فلا قصاص ، بل فيه حكومة عدل .
تنبيهات :
الأول : هذه الآية مما وُبِّخَتُ به اليهود أيضاً وَقُرِّعت عليه . فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس ، وقد خالفوا حكم ذلك عمداً وعناداً . فأقادوا النضريّ من القرظيّ ، ولم يُقِيدوا القرظي من النضري . وعدلوا إلى الدية كما خالفوا حكم التوراة في رجم الزاني المحصن ، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار ، ولهذا قال هناك : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } ، لأنهم جحدوا حكم الله قصداً منهم وعناداً وعمداً . وقال ههنا - في تتمة الآية : { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه . فخالفوا وظلموا ، وتعدوا على بعضهم بعضاً - أفاده ابن كثير . . الثاني - قوله تعالى : { وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } والمعطوفات بعده ، كلها قرئت منصوبة ومرفوعة ، والرفع للعطف على محل : { أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } لأن المعنى : وكتبنا عليهم النفس بالنفس ، إما لإجراء ( كتبنا ) مجرى ( قلنا ) وإما لأن معنى الجملة التي هي قولك ( النَّفْسُ بالنَّفْسِ ) مما يقع عليه ( الكتب ) كما تقع عليه ( القراءة ) ، تقول : كتبت الحمد لله ، وقرأت سورة أنزلناها . ولذلك قال الزجاج : لو قُرئ : { أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } بالكسر لكان صحيحاً . كذا في " الكشاف " . وقد توسع الخفاجي في " العناية " في بحث الرفع - هنا - على عادته في النحويات فانظره إن شئت .
روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } نصب النفس ورفع العين ، قال الترمذي : حسن غريب . وقال البخاريّ : تفرد ابن المبارك بهذا الحديث .
الثالث : استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا - إذا حكي مقرراً ولم ينسخ ؛ كما هو المشهور عن الجمهور ، وكما حكاه الشيخ أبو إسحاق الأسفراييني عن نص الشافعي وأكثر أصحابه - بهذه الآية . حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة . وقال الحسن البصريّ : هي عليهم وعلى الناس عامة . رواه ابن أبي حاتم . وقد حكى الإمام أبو منصور بن الصباغ في كتابه " الشامل " اجتماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه .
الرابع : قال ابن كثير : احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يُقتل بالمرأة . بعموم هذه الآية الكريمة . وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عَمْرو بن حزم : أن الرجل يُقتل بالمرأة .
وفي الحديث الآخر : المسلمون تتكافأ دماؤهم . وهذا قول جمهور العلماء . وعن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ، وحكي عن الحسن وعثمان البستيّ ، ورواية عن أحمد ، أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها ، بل يجب ديتها . وهكذا احتج أبو حنيفة رحمه الله تعالى بعموم هذه الآية على أن يقتل المسلم بالكافر الذميّ ، وعلى قتل الحرّ بالعبد . وقد خالفه الجمهور فيهما . ففي " الصحيحين " عن أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا يقتل مسلم بكافر > . وأما العبد ففيه عن السلف آثار متعددة . إنهم لم يكونوا يُقيدون العبد من الحرّ ، ولا يقتل حرّ بعبد . وجاء في ذلك أحاديث لا تصح . وحكى الشافعيّ الإجماع . على خلاف قول الحنفية في ذلك . انتهى .
وقال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآية مشروعية القصاص في النفس والأعضاء والجروح بتقدير شرعنا . كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أنس : كتاب القصاص ؛ استدل بعموم ( النفس بالنفس ) من قال بقتل المسلم بالكافر ، والحرّ بالعبد ، والرجل بالمرأة . وأجاب ابن الفرس بأن الآية أريد بها الأحرار المسلمون ، لأن اليهود المكتوب ذلك عليهم في التوراة كانوا ملّةً واحدة ليسوا منقسمين إلى مسلم وكافر ، وكانوا أحراراً لا عبيدَ فيهم ، لأن عقد الذمة والاستعباد إنما أبيح للنبيّ صلى الله عليه وسلم بين سائر الأنبياء . لأن الاستعباد من الغنائم . ولم تحلّ لغيره . وعقد الذمة لبقاء الكفار . ولم يقع ذلك في عهد نبيّ . بل كان المكذبون يهلكون جميعاً بالعذاب . وأخّر ذلك في هذه الأمة رحمة . وهذا جواب مبين .
وقوله : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } استدل به في كل جرحٍ قيل بالقصاص فيه - كاللسان والشفة وشجاج الرأس والوجه وسائر الجسد -وعلى أن نتف الشعر والضرب لا قصاص فيه ، إذ ليس بجرح . انتهى . وقال بعض الزيدية في " تفسيره " : مذهب أئمة البيت ومالك والشافعي ؛ أنه لا يقتل المسلم بالكافر . وقال أبو حنيفة : يُقتل به ، لا بالحربيّ ولا بالمستأمن من الحربيين أخذاً بعموم الآية . قلنا : هي مخصصة بقوله في سورة الحشر : { لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ } . وهذا يقتضي نفي المساواة عموماً . قالوا : أراد ( في الآخرة ) . قلنا قال الله : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } [ النساء : 141 ] . قالوا : ليس هذا على عمومه فإنَّ له أخذ الدَّين منه ، وذلك سبيل . قلنا قال صلى الله عليه وسلم : لا يقتل المؤمن بكافر . فعمّ . قالوا أراد بكافر حربيّ . بدليل أن في آخر الخبر : ولا ذو عهد في عهد . والمعنى : لا يقتل المؤمن ولا الكافر الذي عوهد ، بالكافر الذي لا عهد له . قلنا قد تمت الجملة الأولى وهي قوله عليه السلام : لا يقتل المؤمن بكافر . وأما قوله : ولا ذو عهد في عهد ، فهذه جملة أخرى . يريد : لا يقتل ما دام في العهد . مع أن الحديث إن احتمل أنها جملة واحدة فالمراد : لا يُقتل مؤمن بأحد من الكفار عموماً . وكذلك المعاهد لا يقتل بأحد من الكفار عموماً . فقامت الدلالة على أن المعاهد ، يُقتل ببعض الكفار . وبقي المؤمن على عمومه . وما قلنا مرويّ عن عليّ عليه السلام وزيد . وهذه المخصصات تخصص ما ورد من العمومات في هذه المسألة . انتهى .
الخامس : عموم قوله تعالى : { الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } كعموم قوله تعالى : { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } . فما خصص ذلك العام ، خصصه هنا ، لكن ننبه على أطراف :
منها - : أن اليسرى لا تؤخذ باليمنى ، والوجه عدم المساواة .
ومنها - : عين الأعور تؤخذ بعين الصحيح على ما نصه في " الأحكام " ، وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعيّ لعموم الآية . وقال في " المنتخب " ومالك : لا تؤخذ ، لأن نورها أكثر فتطلب المساواة . واحتجوا بأنه مرويّ عن عليّ عليه السلام وعمر وابن عمر وعثمان ؛ قال في " الشرح " : وكان الإمام يحيى لا يصحح هذه الرواية عن عليّ عليه السلام .
ومنها - : في كيفية القصاص . فإن قلعت العين ثبت القصاص بالقلع . وإن ضرب حتى ذهب بصره ثبت القصاص . قال في " التهذيب " : فقيل : بالقلع . وقيل : تحمى حديدة ثم تقرب من عينه .
وأما قوله تعالى : { وَالأَنفَ بِالأَنفِ } فالكلام في عمومه كما تقدم . ويذكر هنا تنبيه ، وهو أن القصاص إنما يكون إذا استؤصلت . لأن ذلك كالمفصل ، لا إذا قطع بعضها . والعموم في قوله تعالى : { وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ } أيضاً كما تقدم . والقصاص : إذا قطعت من أصلها لا إذا قطع البعض . ولا تؤخذ أذن الصحيح بأذن الأصمّ .
وكذا عموم قوله تعالى : { وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ } والقصاص : إذا قلع من أصله . ولا بد من المساواة . فلا يؤخذ الصحيح بالأسود ولا بالمكسور . ولا الثنية بالضرس . ونحو ذلك . كما لا تؤخذ اليمنى باليسرى .
وأما قوله تعالى : { وَالْجُرُوحَ } فهذا فيما تُمْكِنًُ فيه المساواة ، ويؤمن على النفس لتحرج الأمة .
كذا في " تفسير بعض الزيدية " . وتتمة فقه هذه الآية يرجع فيه إلى مطولات كتب السنة وشروحها .
وقوله تعالى : { فَمَنْ تَصَدَّقَ } أي : من المستحقين : { بِهِ } أي : بالقصاص . أي : فمن عفا عن الجاني . والتعبير عنه بالتصدق للمبالغة في الترغيب : { فَهُوَ } أي : التصدق { كَفَّارَةٌ لَهُ } أي : للمتصدق يكفر الله بها ذنوبه . وقيل : فهو كفارة للجاني ، إذا تجاوز عنه صاحب الحق سقط عنه ما لزمه . وهذا التأويل الثاني روي عن كثير من السلف . كما أخرجه ابن أبي حاتم . واللفظ محتمل . إلا أن الأخبار الواردة في فضل العفو تشهد للأول .
وروى الإمام أحمد عن عن الشعبيّ ؛ أن عُبَاْدَة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < ما من رجل يجرح في جسده جراحة فيتصدق بها إلاَّ كفّر الله عنه مثل ما تصدّق به > . ورواه النسائي أيضاً .
وروى الإمام أحمد عن رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : من أصيب بشيءٍ من جسده فتركه لله ، كان كفارة له .
وروى الإمام ابن جرير عن أبي السفر قال : دفع رجل من قريش رجلاً من الأنصار . فاندقّت ثنيّته . فرفعه الأنصاريّ إلى معاوية . فلما ألحّ عليه الرجل قال معاوية : شأنَك وصاحبك . قال ، وأبو الدرداء عند معاوية . فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < ما من مسلمٍ يصاب بشيءٍ من جسده ، فيهبه ، إلاَّ رفعه الله به درجةً وحطَ عنه به خطيئة > . فقال الأنصاري : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال سمعتْه أذناي ووعاه قلبي . فخلى سبيل القرشيّ . فقال له معاوية : مروا له بمال .
ورواه الإمام أحمد أيضاً عن أبي السفر قال : كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار . فاستعدى عليه معاوية . فقال القرشيّ : إن هذا دق سني , فقال معاوية : كلاَّ . إنا سنرضيه . قال فلما ألح عليه الأنصاري . قال معاوية : شأنك بصاحبك - وأبو الدرداء جالس - فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < ما من مسلم يصاب بشيءٍ من جسده , فيتصدق به , إلاّ رفعه الله به درجة وحطَّ عنه بها خطيئة > . قال فقال الأنصاري : أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : نعم . سمعته أذناي ووعاه قلبي . يعني فعفا عنه الأنصاري . وهكذا رواه الترمذي وقال : غريب , ولا أعرف لأبي السفر سماعاًً من أبي الدرداء .
{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } لأنهم حكموا بخلاف حكم الله العدل . وتقدم في أول التنبيهات الخمس , قريباً , سرّ التعبير ههنا بـ ( الظالمون ) قبله بـ ( الكافرين ) فتذكَّر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } [ 46 ]
{ وَقَفَّيْنَا } أي : أتبعنا : { عَلَى آثَارِهِمْ } يعني أنبياء بني إسرائيل : { بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } أي : أرسلناه عقبهم : { مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ } أي : مؤمناً بها حاكماً بما فيها : { وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً } أي : إلى الحق : { وَنُورٌ } أي : بيان للأحكام : { وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ } أي : لما فيها من الأحكام . وتكرير ذلك لزيادة التقرير .
قال ابن كثير : أي : متبعاً لها غير مخالف لما فيها ، إلا في القليل . مما بيِّن لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه ، كما قال تعالى إخباراً عن المسيح . أن قال لبني إسرائيل : { وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } . ولهذا كان المشهور من قول العلماء : إن الإنجيل نسخ بعض أحكام التوراة . : { وَهُدىً وَمَوْعِظَةً } أي : زاجر عن ارتكاب المحارم والمآثم : { لِلْمُتَّقِينَ } أي : لمن اتقى الله وخاف وعيده وعقابه . وتخصيص كونه هدى وموعظة بالمتقين ، لأنهم المهتدون بهداه والمنتفعون بجدواه .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ 47 ]
{ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ } أمر مبتدأ لهم ، بأن يحكموا ويعلموا بما فيه من الأمور التي من جملتها : دلائل رسالته عليه الصلاة والسلام ، وشواهد نبوّته . وقيل : هو حكاية للأمر الوارد عليهم . بتقدير فعلٍ مَعْطوف على ( ءَاتَيْنَاهْ ) : وقلنا ليحكم أهل الإنجيل . وقرئ ( وليحكم ) بالنصب على أن اللام ( لام كي ) أي : آتيناه الإنجيل ليحكم أهل ملته به في زمانهم .
قال بعض المحققين : وإنما خص أهل الإنجيل بالذكر ، لبيان أن الإنجيل لم ينزله الله للأمم كافة وأن شريعته ليست باقية لكل زمان . لأن بعثة عيسى عليه السلام كانت خاصة بالأمة اليهودية .
{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } أي : الخارجون عن طاعة ربهم ، المائلون إلى الباطل ، التاركون للحق .
تنبيه :
في هذه الآية والآيتين المتقدمتين ، من الوعيد ما لا يقادر قدره . وقد تقدم أنّ هذه الآيات ، وإن نزلت في أهل الكتاب ، فليست مختصة بهم ، بل هي عامة لكل من لم يحكم بما أنزل الله ، اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . ويدخل فيه السبب دخولاً أوليّاً .
وفي " فتح البيان " في تفسير هذه الآيات ، مباحث نادرة سابغة الذيل . فلتراجع .
ولما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها على موسى كليمه ، وأثنى عليها وأمر باتباعها ، ثم ذكر الإنجيل ومدحه وأمر باتباعه - شرع في التنويه بالقرآن العظيم الذي أنزله على رسوله الكريم ، فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [ 48 ]
{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ } أي : الفرد الكامل الحقيق بأن يسمى كتاباً على الإطلاق . لحيازته جميع الأوصاف الكمالية لجنس الكتاب السماويّ ، وتفوّقه على بقية أفراده ، وهو القرآن الكريم . فاللام للعهد . أفاده أبو السعود .
{ بِالْحَقِّ } أي : الصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله : { مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ } بيان لـ ( ما ) . و ( اللام ) للجنس . يعني : أنه يصدّق جميع الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه من قلبه . وإنما قيل ( لما قَبْلَ الشيء ) : هو بين يديه ، لأن ما تأخر عنه يكون وراءه وخلفه . فما تقدم عليه يكون قدامه وبين يديه : { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } أي : مؤتمناً عليه وشهيداً وحاكماً على ما قبله من الكتب .
قال ابن جريج : القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله ، فما وافقه منا فهو حقّ ، وما خالفه منها فهو باطل .
{ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ } أي : بين أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك : { بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } أي : بما بيّن الله لك في القرآن .
قال في " الإكليل " : هذا ناسخ للحكم بكل شرع سابق . ففيه أنّ أهل الذمة إذا ترافعوا إلينا يحكم بينهم بأحكام الإسلام . لا بمعتقدهم . ومن صور ذلك عدم ضمان الخمر ونحوه . انتهى .
{ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ } نهى أن يحكم بما حرفوه أو بدَّلوه . اعتماداً على قولهم . ضمن : { وَلاَ تَتَّبِعْ } معنى ( ولا تنحرف ) فلذا عدي بـ ( عن ) فكأنه قيل : ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعاً أهواءهم . أو التقدير : عادلاً عمّا جاءك { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً } أي : شريعة موصلة إلى الله : { وَمِنْهَاجاً } أي : طريقاً واضحاً في الدين ، تجرون عليه . قال ابن كثير : هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام ، المتفقة في التوحيد . كما ثبت في " صحيح البخاري " عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات . ديننا واحد > . يعني بذلك , التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله وضمنه كل كتاب أنزله . كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] . وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] .
وقال أبو السعود : قوله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } كلام مستأنف جيء به لحمل أهل الكتابين ، من معاصريه صلى الله عليه وسلم ، على الانقياد لحكمه بما أنزل إليه من القرآن الكريم . ببيان أنه هو الذي كلفوا العمل به دون غيره من الكتابين ، وإنما الذي كلفوا العمل بهما من مضى قبل نسخهما من الأمم السالفة . والخطاب بطريق التلوين والالتفات للناس قاطبة ، لكن لا للموجودين خاصة ، بل للماضين أيضاً بطريق التغليب . والمعنى : لكل أمة كائنة منكم . أيها الأمم الباقية والخالية ، جعلنا - أي : عَيَّنا ووضعنا - شرعة ومنهاجاً خاصيْن بتلك الأمة . لا تكاد أمة تتخطى شرعتها التي عيّنت لها . فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى عيسى عليهما السلام شرعتهم التوراة . والتي كانت من مبعث عيسى إلى النبيّ عليهما الصلاة والسلام شرعتهم الإنجيل . وأما أنتم أيها الموجودون فشرعتكم القرآن ليس إلاّ . فآمنوا به واعملوا بما فيه .
وفي " الإكليل " : استدل بهذه الآية من قال : إنَّ شرع من قبلنا ليس بشرع لنا .
وبقوله : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ } الآية ، من قال : إنه شرع لنا ما لم يردْ ناسخ . واستدلّ بالآية . أيضاً من قال : إن الكفر مللٌ لا ملة واحدة ، ولم يورث اليهود من النصارى شيئاً . انتهى .
قال النسفيّ : ذكر الله إنزال التوراة على موسى عليه السلام . ثم إنزال الإنجيل على عيسى عليه السلام . ثم إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم . وبين أنه ليس للسماع فحسب ، بل للحكم به . فقال في الأول : { يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ } وفي الثاني { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ } وفي الثالث : { فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ } .
{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي : جماعة متفقة على شريعة واحدة : { وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ } متعلق بمحذوف يستدعيه النظام . أي : ولكن جعلكم أمماً مختلفة ليختبركم فيما أعطاكم فيما أعطاكم من الشرائع المختلفة . هل تتركون ما ألفتم منها لِمَا أحدث منها مذعنين له ، معتقدين أن خلافه لها بمقتضى المشيئة الإلهية المبنية على أساس الحكم البالغة ، والمصالح النافعة لكم في المعاش والمعاد ؟ أو تزيغون عن الحق ، وتتبعون الهوى ، وتستبدلون المضرة بالجدوى ، وتشترون الضلالة بالهدى ؟ وبهذا أتضح أن مدار عدم المشيئة المذكورة ليس مجرد الابتلاء . بل العمدة في ذلك ما أشير إليه من انطواء الاختلاف على ما فيه مصلحتهم معاشاً ومعاداً ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } أي : إذا كان الأمر كما ذكر ، فسارعوا إلى ما هو خير لكم في الدارين من العقائد الحقة ، والأعمال الصالحة المندرجة في القرآن الكريم ، وابتدروها انتهازاً للفرصة وإحرازاً لسابقة الفضل والتقدم . ففيه من تأكيد الترغيب في الإذعان للحق ، وتشديد التحذير عن الزيغ ، ما لا يخفى . أفاده أبو السعود .
وقوله : { إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } استئناف مسوق مساق التعليل لاستباق الخيرات بما فيه من الوعد والوعيد . أي : مصيركم ، ومعادكم - أيها الناس - إليه يوم القيامة : { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } أي : فيخبركم بما لا تشكّون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم ومبطلكم ، وعاملكم ومفرّطكم في العمل . كذا في " الكشاف " .
فالإنباء مجاز عن المجازاة ، وإنما عبر عنها به ، لوقوعه موقع إزالة الاختلاف التي هي وظيفة الإنباء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } [ 49 ]
{ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } عطف على ( الكتاب ) أي : أنزلنا إليك الكتاب والحكم بما فيه . أو على ( الحق ) أي : أنزلناه بالحق وبـ ( أن احكم ) ويجوز أن يكون جملة ، بتقدير : وأمرنا أن احكم . وفي التعرض لعنوان إنزاله تعلى إياه ، تأكيد لوجوب الامتثال ، وتمهيد لما يعقبه من قوله : { وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } أي : يصرفوك عنه . وإظهار الاسم الجليل لتأكيد الأمر بتهويل الخطب . كإعادة ( ما أنزل الله ) : { فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي : عن الحكم المنزل وأرادوا غيره : { فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } يعني بذنب التولّي عن حكم الله ، وإرادة خلافه ، فوضع ( ببعض ذنوبهم ) موضع ذلك . وأراد : أن لهم ذنوبة جمة كثيرة العدد . وأن هذا الذنب -مع عظمة - بعضُها وواحد منها . . وهذا الإبهام لتعظيم التولي , واستسرافهم في ارتكابه , ونحو ( البعض ) في هذا الكلام ما في قول لَبِيد . ( أو يرتبطْ بَعْضَ النفوسِ حِمَامُهَا . . ! ) أراد نفسه . وإنما قصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام . كأنه قال : نفساً كبيرة ونفساً أي : نفس . فكما أن التنكير يعطي معنى التكبير وهو معنى البعضية , فكذلك إذا صرح بالبعض . كذا في " الكشاف " .
وفي " الحواشي " : ومثل هذا قوله تعالى : { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [ البقرة : 253 ] . أراد محمداً صلى الله عليه وسلم ؛ وقيل : ذلك من الخصوص الذي أريد به العموم ؛ وقيل : أراد العذاب في الدنيا . وأما في الآخرة فإنه يعذب بجميع الذنوب . ولقد تلطف القائل :
~وأقول بعض الناس عنك كنايةً خوفَ الوشاة ، وأنت كلُّ الناس
{ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } أي : المتمردون في الكفر معتقدون فيه ؛ وهذا تسجيل عليهم بالمخالفة . يعني : إن التوليّ عن حكم الله من التمرد العظيم والاعتداء في الكفر . والجملة اعتراض تذييليّ مقرر لمضمون ما قبله . ونظيرها قوله تعالى : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] . وقوله تعالى : { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [ الأنعام : 116 ] .
روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : قال كعب بن أسد ، وابن صلوما ، وعبد الله بن صوريا ، وشاس بن قيس ؛ بعضُهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فأتوه فقالوا : يا محمد ! إنك قد عرفت أنّا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم . وأنا -إن اتبعناك -اتبعنا يهودُ ، ولم يخالفونا . وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك ، فتقضي لنا عليهم ، ونؤمن لك ونصدقك . فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأنزل الله عزّ وجلَّ فيهم : { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ } الآية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [ 50 ]
{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } أي : يريدون منك .
قال أبو السعود : إنكار وتعجب من حالهم وتوبيخ لهم و ( الفاء ) للعطف على مقدر يقتضيه المقام . أي : أيتولون عن حكمك فيبغون حكم الجاهلية . وتقديم المفعول للتخصيص المفيد لتأكد الإنكار والتعجيب . لأن التوليّ عن حكمه صلى الله عليه وسلم . وطلب حكم آخر , منكر عجيب . وطلب حكم الجاهلية أقبح وأعجب . والمراد بـ ( الجاهلية ) إمّا الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى , الموجبة للميل والمداهنة في الأحكام فيكون تعبيراً لليهود بأنهم مع كونهم أهل كتاب وعلم , يبغون حكم الجاهلية التي هي هوى وجهل لا يصدر عن كتاب ولا يرجع إلى وحي . وإما أهل الجاهلية , وحكمهم ما كانوا عليه من التفاضل فيما بين القتلى . انتهى .
{ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً } أي : قضاء : { لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي : ينظرون بنظر اليقين إلى العواقب . والاستفهام إنكار لأن يكون أحدٌ حكمُه أحسنَ من حكمه تعالى أو مساوياً له .
قال ابن كثير : ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم - المشتمل على كل خير , الناهي عن كل شرّ - وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله , كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم , وكما يحكم به التتارُ مِنَ السياسات الملكية المأخوذة عن جنكزخان الذي وضع لهم ( الياسق ) وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى , من اليهود والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها . وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه , فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فمن فعل ذلك منهم فهو . كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله . فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير . قال الله تعالى : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } أي : يبتغون ويريدون , وعن حكم الله يعدلون , : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي : ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه وآمن به وأيقن , وعلم أن الله تعالى أحكم الحاكمين وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها ؟ فإنه تعالى هو العالم بكل شيء , القادر على كل شيء , العادل في كل شيء . روى ابن أبي حاتم عن الحسن قال : من حكم بغير حكم الله فحكم الجاهلية . وكان طاوس إذا سأله رجل : أفضل بين ولدي في النحل ؟ قرأ : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ } الآية . وروى الطبرانيّ : عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبغض الناس إلى الله عزَّ وجل من يبتغي في الإسلام سنة الجاهلية ، وطالب دم امرئ بغير حقٍ ليريق دمه . ورواه البخاري بزيادة . انتهى . كلام ابن كثير .
قال بعض مفسري الزيدية . اشتمل قوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } إلى قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } على عشرين وجهاً من التأكيد في ملازمة شريعة نبيّنا صلى الله عليه وسلم التي أنزلنا الله تعالى, واختاره لأمته, واستأثر بكثير من أسرارها فلم يُطَّلَع عليها , وما أشدَّ امتثال ما تضمّنته ؟ وكيف الخروج عن عهدته خصوصاً على الأئمة والحكام ؟ ولن يحصل ذلك حتى يلوم نفسه بلجام الحق, ويعزل عن نفسه مطالعة الخلق , لهذه الجملة . لا يقال : إنه صلى الله عليه وسلم معصوم لا يتبع أهواءهم, فكيف نهى عما يعلم الله أنه لا يفعله ؟ قال الحاكم : ذلك مقدور له , فيصحّ النهي وإن علم أنه لا يفعله . وقيل : الخطاب له والمراد غيره . كذلك لا يقال : قوله : { فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ } يخرج من ذلك القياس . لأن ذلك - إن جعل خطاباً له عليه الصلاة والسلام - فلم يكن متعبّداً بالقياس . وإن كان خطاباً للكل فالقياس ثابت بالدليل فهو بمثابة المنزل . هكذا ذكر الحاكم . والأكثر : أنه يجوز منه عليه الصلاة والسلام الاجتهاد, ومنعه آخرون . وقوله تعالى : { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } قد يستدل به على أن الواجبات على الفوز . وهو محتمل . لأن المراد قبل أن يسبق عليكم الموت . انتهى .
وفي " الإكليل " : استدل به على أن تقديم العبادات أول وقتها أفضل من تأخيرها . انتهى .
وقد روى مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم : أفضل الأعمال الصلاة لوقتها وبرّ الوالدين .
وروى أبو داود والترمذي والحاكم عن أم فروة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : < أفضل الأعمال الصلاة في أول وقتها > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ 51 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ } أي : لا يتخذ أحد منكم أحداً منهم وليّاً ، بمعنى : لا تصافوهم ولا تعاشروهم مصافاة الأحباب ومعاشرتهم .
قال المهايمي : إذا كان تودد أهل الكتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقصد افتتانه عن بعض ما أنزل الله مع غاية كماله ، فكيف حال من يتودد إليهم من المؤمنين ؟ انتهى .
ووصفهم بعنوان ( الإيمان ) لحملهم من أول الأمر على الانزجار عما نهوا عنه .
فإن تذكير اتصافهم بضد صفات الفريقين ، من أقوى الزواجر عن موالاتهما .
{ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } إيماء إلى علة النهي . أي : فإنهم متفوقون على خلافكم ، يوالي بعضهم بعضاً لاتحادهم في الدين . وإجماعهم على مضادتكم . فما لمن دينه خلاف دينهم ولموالاتهم ! ! : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } أي : من جملتهم . وحكمه حكمهم وإن زعم أن أنه مخالف لهم في الدين ، فهو بدلالة الحال منهم لدلالتها على كمال الموافقة .
قال الزمخشري : وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين واعتزاله . كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تراءى ناراهما . ومنه قول عمر رضي الله عنه لأبي موسى في كاتبه النصرانيّ لا تكرموهم إذا أهانهم الله . ولا تأمنوهم إذ خونّهم الله . ولا تُدنوهم إذ أقصاهم الله . وروي أنه قال له أبو موسى : ( لا قوام للبصرة إلاّ به ) فقال : مات النصراني والسلام . يعني : هب أنه قد مات ، فما كنت تكون صانعاً حينئذ ، فاصنعه الساعة واستغن عنه بغيره .
{ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } يعني : الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفرة .
روى ابن أبي حاتم عن ابن سيرين قال : قال عبد الله بن عُتْبَة : ليتق أحدكم أن يكون يهوديّاً أو نصرانيّاً وهو لا يشعر . قال فظنناه يريد هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ } . . الآية .
ثم بيّن تعالى كيفية تولّيهم . وأشعر بسببه وبما يؤول إليه أمره . فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } [ 52 ]
{ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي : نفاقٌ وشكٌّ في وعد الله لإظهار دينه : { يُسَارِعُونَ فِيهِمْ } أي : في مودتهم في الباطن والظاهر ، من غير نظرٍ فيما يلحقهم من الضرر في دين الله ، والفضيحة بالنفاق : { يَقُولُونَ } أي : في عذرهم : { نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ } أي : من دوائر الزمان ، وصرف من صروفه ، فتكون الدولة لهم ، فنحتاج إليهم ، فنحن نتحفظ عن شرهم . ولا يتفكرون في أن الدائرة ربما تصيب من يوالونهم . والدائرة من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها . وأصلها : الخط المحيط بالسطح . استعيرت لنوائب الزمان ، بملاحظة إحاطتها واستعماله ا في المكروه . و ( الدولة ) ضدها ، وقد ترد بمعنى ( الدائرة ) أيضاً ، لكنه قليل . كذا في " العناية " .
ثم ردّ تعالى عللهم الباطلة ، وقطع أطماعهم الفارغة ، وبشّر المؤمنين بالظفر بقوله سبحانه : { فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ } أي : فتح مكة ، عن السدّيّ . أو فتح قرى اليهود من خيبر وفدك ، عن الضحّاك . وقال قتادة ومقاتل : هو القضاء الفصل بنصره صلى الله عليه وسلم على أعدائه ، وإظهار المسلمين : { أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ } يقطع شأفة اليهود ، ويجليهم عن بلادهم : { فَيُصْبِحُوا } أي : المنافقون : { عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ } من الشك في ظهور الإسلام ، أو من النفاق : { نَادِمِينَ } لافتضاحهم بالنفاق مع الفريقين . وتعليق الندامة بما كانوا يكتمونه - لا بما كانوا يظهرونه من موالاة الكفرة - لما أنه الذي كان يحملهم على الموالاة ويغريهم عليها . فدلّ ذلك على ندامتهم عليها بأصلها وسببها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ } [ 53 ]
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا } قال الزمخشريّ : قرئ بالنصب عطفاً على ( أَنْ يَأْتِيَ ) وبالرفع على أنه كلام مبتدأ . أي : ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت . وقرئ ( يقول ) بغير ( واو ) وهي مصاحف مكة والمدينة والشام كذلك . على أنه جواب قائل يقول : فماذا يقول المؤمنون حينئذٍ ؟ فقيل : يقولون آمنوا : أهؤلاء الذين أقسموا ؟ ( فإن قلت ) : لمن يقولون هذا القول ؟ ( قلت ) : إمّا أن يقوله بعضهم لبعض تعجّباً مِن حالهم ، واغتباطاً بما من الله عليهم من التوفيق في الإخلاص : { أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } أي : حلفوا لكم بأغلاظ الأيمان : { إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ } أي : إنهم أوليائكم ومعاضدوكم على الكفار وإمّا أن يقولوه لليهود ، لأنهم حلفوا لهم بالمعاضدة والنصرة . كما حكى الله عنهم : { ولَئِنْ قُوِتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَكُمْ } [ الحشر : 11 ] . أي : فقد تباعدوا عنكم . فيظهر أنهم لم يكونوا مع المؤمنين ولا مع اليهود : { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِين } أي : في الدنيا ، إذ ظهر نفاقهم عند الكل . وفي الآخرة ، إِذْ لم يبقَ لهم ثواب .
قال الزمخشري : هذه الجملة من قول المؤمنين . أي : بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها في رأي أَعْيَن الناس ، وفيه معنى التعجب ، كأنه قيل : ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم ! أو من قول الله عز وجلّ ، شهادة لهم بحبوط الأعمال ، وتعجيباً من سوء حالهم . انتهى .
وفيه من الاستهزاء بالمنافقين والتقريع للمخاطبين ، ما لا يخفى .
تنبيهات :
الأول - : في سبب نزول هذه الآيات الكريمات .
روي عن السدّي ، أنها نزلت في رجلين قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أُحدٍ : أمّا أنا فإني ذاهب إلى ذلك اليهوديّ فأواليه وأتهوّد معه لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث . وقال الآخر : وأما أنا فإني ذاهب إلى فلان النصرانيّ بالشام فأواليه وأتنصرّ معه . فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى } ... الآيات .
وقال عِكْرِمَة : نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر ، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة ، فسألوه : ماذا هو صانع بنا ؟ فأشار بيده إلى حلقه ، أبي : إنه الذبح رواه ابن جرير . وقيل : نزلت في عبد الله بن أبيّ ، ابن سلول . روى ابن جرير عن عطية بن سعد قال : جاء عُبَاْدَة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إِنَّ لي موالي من يهود كثير عددهم . وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود . وأتولّى الله ورسوله . فقال عبد الله بن أُبيّ : إني رجل أخاف الدوائر . لا أبرأ من ولاية موالِيّ . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبدِ الله بن أُبيّ : < يا أبا الحُبَاب ! ما بخلتَ به من ولاية يهود على عُبَاْدَة بن الصامت فهو إليك دونه > . قال قد قبلت فأنزل الله عزّ وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } ...الآيتين .
ثم روى ابن جرير عن الزهريّ قال : لما انهزم أهل بدر ، قال المسلمون لأوليائهم من يهود : آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيومٍ مثل يوم بدر . . فقال مالك بن صيف : غرّكم إن أصبتم رهطاً من قريش لا علم لهم بالقتال ! أما لو أَمْرَرْنَا العزيمة أن نستجمع عليكم . لم يكن لكم يدٌ أن تقاتلونا . فقال عُبَاْدَة بن الصامت : يا رسول الله ! إنّ أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم ، كثيراً سلاحهم ، شديدة شوكتهم ، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولايتهم ، ولا مولى لي إلا الله ورسوله . . فقال عبد الله بن أبيّ : لكني لا أبرأ من ولاية يهود . إني رجل لابدَّ لي منهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا الحُبَاب ! أرأريت الذي نفست به من ولاية يهود على عُبَاْدَة بن الصامت, فهو لك دونه . فقال إذاً أقبل ! قال : فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ } ... - إلى قوله - : { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } .
وقال محمد بن إسحاق : فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه . فقام إليه عبد الله بن أُبيّ, ابن سلول حين أمكنه الله منهم, فقال : يا محمد ! أحسن في مواليّ -وكانوا حلفاء الخزرج - قال : فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : يا محمد ! أحسن في مواليّ . قال : فأعرض عنه . فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرسلني . وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظُلَلاً, ثم قال : ويحك ! أرسلني . قال : لا, والله ! لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ . أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع, قد منعوني من الأحمر والأسود, تحصدهم في غداة واحدة ؟ إني امرؤ أخشى الدوائر . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هُمْ لك . قال محمد بن إسحاق : فحدّثني أبي , إسحاق بن يسار, عن عُبَاْدَة بن الوليد بن عُبَاْدَة بن الصامت قال : لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم , تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي, وقام دونهم . ومشى عُبَاْدَة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان أحد بني عوف من الخزرج, لهم من حلفه مثل الذي لهم من عبد الله بن أُبيّ -فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرّأ إلى عز وجل , وإلى رسوله من حلفهم وقال : يا رسول الله ! أتولّى الله ورسوله والمؤمنين , وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم . . . ففيه وفي عبد الله بن أُبي نزلت الآيات : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ } -إلى قوله - : { فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } .
وروى الإمام أحمد عن أسامة بن زيد قال : مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبيّ نعوده, فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : < قد كنت أنهاك عن حب يهود > . فقال عبد الله : فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فمات . وكذا رواه أبو داود .
الثاني : قال بعض مفسري الزيدية : ثمرات الآية أحكام .
الأول - أنه لا يجوز موالاة اليهود ولا النصارى . قال الحاكم : والمراد موالاته في الدين . وجعل الزمخشري الموالاة في النصرة والمصافاة . وبيّن وجوب المجانبة للمخالف في الدين, كما تقدم . والبعد والمجانية استحباب, إذ قد جازت المخالطة في مواضع بالإجماع, وذلك حيث لا يوهم محبتهم ولا بأنهم على حق .
الحكم الثاني - أن للإمام أن يسقط الحدّ إذا خشي, أو يؤخره . وقد ذكر هذا, الأمير يحيى والراضي بالله والحاكم, وهذا مأخوذ من سبب النزول, وترك النبيّ صلى الله عليه وسلم بني قينقاع لعبد الله بن أُبيّ .
الحكم الثالث- صحة الموالاة منهم لبعضهم بعضاً . وقد قال عليّ بن موسى القمّيّ : الآية تدل على أنهم ملة واحدة : فتصح المناكحة بينهم والموارثة . والمذهب خلاف ذلك . والدلالة على ما ذكر محتملة . لأنها تحتمل أن المراد : بعضهم أولياء بعض في معاداة المسلمين ؛ أو يعني : بعض اليهود وليّاً لبعض اليهود .
الحكم الرابع - أن من تولاهم فهو منهم . ولا خلاف في أنه صار عاصياً لله كما عصوه . ولكن أين تبلغ حد معصيته ؟ وقد اختلف في ذلك, فقيل : معنى قوله : { فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } أي : حكمه حكمهم في الكفر, وهذا حديث يقرّهم على دينهم . فكأنه قد رضيه . وقيل : من تولاهم على تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : المراد أنه منهم في وجوب عداوته والبراءة منه . قال الحاكم : ودلالة الآية مجملة . فهي لا تدل على أنه كافر إلا أن يحمل على الموافقة في الدين .
الحكم الخامس - ذكره الحاكم, أنه لا يجوز الاستعانة بهم . قلنا : ذكر الراضي بالله : أنه صلى الله عليه وسلم قد حالف اليهود على حرب قريش وغيرهما إلى أن نقضوه يوم الأحزاب, وجدد صلى الله عليه وسلم الحِلفْ بينه وبين خزاعة . حتى كان ذلك سبب الفتح . وكانت خزاعة عَيْبَة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم . مسلمهم وكافرهم . وقال الراضي بالله : وهو ظاهر قول آبائنا عليهم السلام . وقد استعان عليّ عليه السلام بقتلة عثمان, واستعان صلى الله عليه وسلم بالمنافقين . قال الراضي بالله : ويجوز الاستعانة بالفسّاق على حرب المبطلين, فتكون هذه الاستعانة غير موالاة .
التنبه الثالث - في التفسير المتقدم ما نصه : وفي الآية الكريمة زواجر عن موالاة اليهود والنصارى من وجوه : الأول - النهي بقوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء } . وسائرُ الكفار لاحقٌ بهم . الثاني - قوله تعالى : { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } . والمعنى : أن الموالاة من بعضهم لبعض لاتحادهم بالكفر, والمؤمنون أعلى منهم .
الثالث - قوله تعالى : { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } . وهذا تغليظ وتشديد ومبالغة . مثل قوله صلى الله عليه وسلم : لا تراءى نارهما . ومثل قوله عليه السلام : لا تستضيئوا بنار المشركين .
الرابع - ما أخبر الله به أنه لا يهديهم .
الخامس - وصفهم بالظلم, والمراد : الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار .
السادس - أنه تعالى أخبر أنّ الموالاة لهم من ديدن الذين في قلوبهم مرض, أي : شك ونفاق .
السابع - ما أخبر الله تعالى به من علة الموالين , وأنّ ذلك خشية الدوائر . لا أنّه بإِذنٍ من الله ولا من رسوله . ( الثامن - قطع الله لِمَا زينه لهم الشيطان من خشية رجوع دولة الكفر فقال تعالى : { فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ } . و ( عسى ) في حق الله تعالى لواجب الحصول بالفتح لمكة أو لبلاد الشرك .
التاسع - ما بشر الله تعالى به من إهانته بقوله : { أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ } . قيل : إذلال الشرك بالجزية . وقيل : قتل قريظة وإجلاء النضير . وقيل : أن يورث المسلمين أرضهم وديارهم .
العاشر - ما ذكره الله تعالى من الأمر الذي يؤول إليه حالهم . وأنهم يصبحون نادمين على ما أسرّوا في أنفسهم من غشّهم للمسلمين ونصحهم للكافرين . وقيل : من نفاقهم . وقيل : من معاندتهم للكفار ، وذلك حين معاينتهم للعذاب . وقيل : في الدنيا ، بما صاروا فيه من الذلة والصغار .
الحادي العاشر - ما ذكره الله تعالى من تعجب المؤمنين من فضيحة أعداء الله وخبثهم في إيمانهم بقوله تعالى : { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء } . . الآية .
الثاني عشر - ما أخبر الله من حالهم بقوله تعالى : { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ } قيل : خسروا حظهم من موالاتهم . وقيل : أهلكوا أنفسهم . وقيل : خسروا ثواب الله . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ 54 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } لما نهى تعالى - فيما سلف - عن مولاة اليهود والنصارى ، وبيّن أن موالاتهم مستدعية للارتداد عن الدين بقوله : { فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } وقوله : { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } - شرع في بيان حال المرتدين على الإطلاق .
ونوه بقدرته العظيمة . فأعلم أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته ، فإن الله ، سيستبدل به من هو خيرٌ لها منه ، وأشدّ منعة ، وأقوم سبيلاً . كما قال تعالى : { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [ محمد : 38 ] . وقال تعالى : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ } [ النساء : 133 ] . و قال تعالى : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } [ فاطر : 16 - 17 ] . أي : بممتنعٍ ولا صعب .
وفي هذه الآية مسائل :
الأولى : قال المحققون : هذه الآية من الكائنات التي أخبر عنها في القرآن قبل كونها . وقد وقع المخبَرُ به على وفقها . فيكون معجزاً . فقد روي أنه ارتدّ عن الإسلام إحدى عشرة فرقة : ثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ( بنو مدلج ) ورئيسهم ذو الحمار - بحاء مهملة وضبطه بعضهم بالمعجمة -وهو الأسود العنسي -بالنون نسبة إلى عنس قبيلة باليمن -وكان كاهناً ثم تنبأ باليمن ، واستولى على بلاده ، وأخرج عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن . فأهلكه الله على يدي فيروز الديلميّ . بَيَّتَهُ فقتله . وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله ليلة قُتل . فسُرَّ المسلمون . وقُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد في آخر شهر ربيع الأول .
و ( بنو حنيفة ) قوم مسيلمة : تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله . أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك . فأجاب قرئ : من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب . أما بعد ، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين . فحاربه أبو بكر رضي الله عنه بجنود المسلمين ، وقُتِل على يَدَيْ وحشيٍ ، قاتل حمزة ، وكان يقول : قتلتُ خير الناس في الجاهلية ، وشر الناس في الإسلام . أراد : في جاهليتي وإسلامي .
و ( بنو أسد ) قوم طليحة بن خويلد : تنبأ في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكثر جمعه ، ومات صلى الله عليه وسلم وهو على ذلك . فبعث إليه أبو بكر خالداً رضي الله عنهما فقصده . فانهزم طليحة بعد القتال إلى الشام . ثم أسلم وحسن إسلامه .
وسبعٌ في عهد أبي بكر رضي الله عنه :
( فزارة ) قوم عُيَيْنَة بن حصن ؛
و ( قوم غطفان ) قوم قرة بن سلمة الشيري ؛
و ( بنو سُلَيم ) قوم الفجاءة بن عبد يَالِيل - بيائين ولامين كهابيل -صنم سمي هذا به .
و ( بنو يربوع ) قوم مالك بن نويرة .
و ( بعض تميم ) قوم سجاح بنت المنذر . كانت كاهنة ثم تنبأت وزوجت نفسها مسيلمة الكذاب ثم أسلمت وحسن إسلامها .
و ( كندة ) قوم الأشعث بن قيس .
و ( بنو بكر بن وائل ) بالبحرين ، قوم الحطم -كزفر -بن زيد . وكفى الله أمرهم على يدي أبي بكر رضي الله عنه .
وفرقة واحدة في عهد عمر رضي الله عنه : ( غسان ) قوم جبلة بن الأيهم ، نصّرته اللطمه وسيَّرته إلى بلاد الروم بعد إسلامه والجمهور : على أنه مات على ردته وقيل : إنه أسلم .
وروى الواقدّي : أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أحبار الشام - لما لحق بهم - كتاباً فيه : أن جبلة ورد إليّ في سراة قومه ، فأسلم فأكرمته . ثم سار إلى مكة فطاف فوطئ إزارَهُ رجلٌ من بني فزارة ، فلطمه جبلة فهشم أنفه وكسر ثناياه . ( وقيل : قلع عينه ، ويدل له ما سيأتي ) فاستعدى الفزاريّ على جبلة إليّ . فحكمت إما بالعفو أو بالقصاص . فقال : أتقتصّ مني وأنا ملك وهو سوقة ؟ فقلت : شملك وإياه الإسلام . فما تفضله إلاّ بالعافية .
فسأل جبلةُ التأخيرَ إلى الغد . فلما كان من الليل ركب مع بني عمه ولحق بالشام مرتدّاً .
وروي أنه ندم على ما فعل وأنشد :
~تنصّرتُ بعد الحقّ عاراً للطمةٍ ولم يك فيها ، لو صبرت لها ، ضرِر
~فأدركني فيها لجاج حمّيةٍ فبعت لها العين الصحيحة بالعور
~فيا ليت أمي لم تلدني وليتني صبرت على القول الذي قاله عمر
هذا ما في " الكشاف " و " العناية " .
وقال الخطابيّ أهل الردة كانوا صنفين : صنفاً ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعدلوا إلى الكفر . وهذه الفرقة طائفتان :
إحداهما - أصحاب مسيلمة الكذاب من بني حنيفة وغيرهم الذي صدقوه على دعواه في النبوة ، أصحاب الأسود العنسي ومن استجابه من أهل اليمن . وهذه الفرقة بأسرها منكرة لنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . مدعية النبوة لغيره . فقاتلهم أبو بكر حتى قتل مسيلمة باليمامة ، والعنسيّ بصنعاء . وانفضّت جموعهم وهلك أكثرهم .
و الطائفة الأخرى - ارتدوا عن الدين . فأنكروا الشرائع وتركوا الصلاة والزكاة وغيرهما من أمور الدين ، وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية ، فلم يكن يسجد لله في الأرض إلا في ثلاثة مساجد : مسجد مكة ، ومسجد المدينة ، ومسجد عبد القيس .
قال ؛ والصنف الآخر : هم الذين فرقوا بين الصلاة وبين الزكاة ، فأنكروا وجوبها ووجوب أدائها إلى الإمام ، وهؤلاء ، على الحقيقة ، أهل البغي وإنما لم يدعوا بهذا الاسم في ذلك الزمن خصوصاً ، لدخولهم في غمار أهل الردة ، وأضيف الاسم في الجملة إلى أهل الردة ، إذ كانت أعظم الأمرين وأهمهما .
انظر تتمة هذا المبحث في " نيل الأوطار " في كتاب الزكاة .
قال الشوكاني : فأما مانعوا الزكاة منهم ، المقيمون على أصل الدين ، فإنهم أهل بغي . ولم يسمَّوا على الانفراد كفاراًَ ، وإن كانت الردة قد أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض ما منعوه من حقوق الدين ، وذلك أن الردة اسم لغويّ . فكل من انصرف عن أمر كان مقبلاً عليه ، فقد ارتد عنه . وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الحق . وانقطع عنهم اسم الثناء والمدح ، وعلق بهم الاسم القبيح ، لمشاركتهم القوم الذين كان ارتدادهم حقّاً .
الثانية : قوله تعالى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } .
مذهب السلف في المحبة المسندة له تعالى . أنها ثابتة له تعالى بلا كيف ولا تأويل ، ولا مشاركة للمخلوق في شيء من خصائصها . كما تقدم في الفاتحة في : { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } .
فتأويل مثل الزمخشري لها -بإثابته تعالى لهم أحسن الثواب ، وتعظيمهم والثناء عليهم والرضا عنهم - تفسير باللازم ، منزع كلاميّ لا سلفي . وقد أنكر الزمخشري أيضاً كون محبة العباد لله حقيقية ، وفسرها بالطاعة وابتغاء المرضاة . فرده صاحب " الانتصاف " بأنه خلاف الظاهر . وهو من المجاز الذي يسمى فيه المسبب باسم السبب ، والمجاز الذي لا يعدل إليه عن الحقيقة ، إلا بعد تعذرها ، فليمتحن حقيقة المحبة لغة بالقواعد ، لينظر : أهي ثابتة للعبد متعلقة بالله تعالى أم لا ؟ إذ المحبة ، لغة ، ميل المتصف بها إلى أمر ملذ . واللذات الباعثة على المحبة منقسمة إلى مدرك بالحسن : كلذة الذوق في المطعوم ، ولذة النظر واللمس في الصور المستحسنة ، ولذة الشم في الروائح العطرة ، ولذة السمع في النغمات الحسنة ، وإلى لذة تدرك بالعقل : كلذة الجاه والرياسة والعلوم وما يجري مجراها . فقد ثبت أن في اللذات الباعثة على المحبة مالا يدركه إلا العقل دون الحس ، ثم تتفاوت المحبة ضرورة بحسب تفاوت البواعث عليها ، وإذا تفاوتت المحبة بحسب تفاوت البواعث .
فلذات العلوم أيضاً متفاوتة بحسب تفاوت المعلومات ، فليس معلوم أكمل ولا أجمل من المعبود الحقّ . فاللذة الحاصلة في معرفته تعالى ، ومعرفة جلاله وكماله ، تكون أعظم . والمحبة المنبعثة عنها تكون أمكن ، وإذا حصلت هذه المحبة بعثت على الطاعات والموافقات . فقد تحصل من ذلك أن محبة العبد ممكنة ، بل واقعة من كل مؤمن ، فهي من لوازم الإيمان وشروطه ، والناس فيها متفاوتون بحسب تفاوت إيمانهم ، وإذا كان كذلك ، وجب تفسير محبة العبد لله بمعناها الحقيقي لغة ، وكانت الطاعة والموافقات كالمسبب عنها والمغاير لها . ألا ترى إلى الأعرابيّ الذي سأل عن الساعة ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : ما أعددت لها ؟ قال : ما أعددت لها كبير عمل . ولكن حب الله ورسوله . فقال عليه الصلاة والسلام : أنت مع من أحببت . فهذا الحديث ناطق بأن المفهوم من المحبة لله غير الأعمال والتزام الطاعات ، لأن الأعرابيّ نفاها وأثبت الحب ، وأقره عليه الصلاة والسلام على ذلك . ثم إذا ثبت إجراء محبة العبد لله تعالى على حقيقتها لغة ، فالمحبة في اللغة . إذا تأكدت سميت عشقاً ، فمن تأكدت محبته لله تعالى ، وظهرت آثار تأكدها عليه من استيعاب الأوقات في ذكره وطاعته -فلا تمنع أن تسمى محبته عشقاً ، إذ العشق ليس إلا المحبة البالغة . انتهى .
الثالث : قوله تعالى : { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } .
قال ابن كثير : هذه صفات المؤمنين الكمل ، أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه ووليّه ، متعززاً على خصمه وعدوّه ، كما قال تعالى : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] .
قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : أذلة للمؤمنين ؟ قلت فيه وجهان :
أحدهما - أن يضمن الذل معنى الحنوّ والعطف كأنه قيل : عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع .
و الثاني - أنهم - مع شرفهم وعلوّ طبقتهم وفضلهم على المؤمنين - خافضون لهم أجنحتهم . . وقرئ ( أذلةً وأعزة ) بالنصب على الحال .
وفي " الحواشي " : أن قوله تعالى : { أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } تكميل . لأنه لما وصفهم بالتذلل ، ربما توهم أن لهم في نفسهم حقارة . فقال : ومع ذلك هم أعزة على الكافرين ، كقوله :
~جُلوسٌ في مجالسهم رِزَانٌ وإنْ ضَيْفٌ أَلَمَّ بهم خُفُوفٌ
واستدل بالآية على فضل التواضع للمؤمنين والشدة على الكفار .
الرابعة : قوله تعالى : { وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ } .
قال الزمخشري : يحتمل أن تكون ( الواو ) للحال على معنى : أنهم يجاهدون ، وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين ، فإنهم كانوا موالين لليهود . فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود ، فلا يعملون شيئاً مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم ؛ وأما المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله لا يخافون لومة لائم قط . وأن تكون للعطف على أنَّ من صفتهم المجاهدة في سبيل الله . وأنهم صلاب في دينهم . إذا شرعوا في أمر من أمور الدين - إنكار منكر أو أمر بمعروف - مضوا فيه كالمسامير المحماة ، لا يرعبهم قول قائلٍ ولا اعتراض معترض ولا لومة لائمٍ . يشق عليه جدهم في إنكارهم وصلابتهم في أمرهم . و ( اللومة ) المرّة من اللوم . وفيها وفي التنكير مبالغتان . كأنه قيل : لا يخافون شيئاً قط من لوم أحدٍ من اللوّام . انتهى .
وفيه وجوب التمسك بالحق وإن لامه لائم . وإنه مع تمسّكه به صيّره محلُّة أعلى ممن تمسّك به من غير لومٍ . لأنه تعالى مدحَ من هذا حاله . وفيه أيضاً ، أن خوف الملامة ليس عذراً في ترك أمر شرعي .
روى الإمام أحمد عن أبي ذرّ قال : أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبعٍ : أمرني بحب المساكين والدنوّ منهم ، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي ، وأمرني أن أصل الرحم وإن أَدْبَرَتْ ، وأمرني أن لا أسأل أحداً شيئاً ، وأمرني أن أقول بالحق وإن كان مرّاً ، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم , وأمرني أن أكثر من قول ( لا حول ولا قوة إلاّ بالله ) فإنهنّ كنز تحت العرش .
وروى الإمام أحمد أيضاً عن أبي سعيد الخدريّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ألا ، لا يمنعنّ أحدكم رهبةُ الناس أن يقول بحقٍّ إذا رآه أو شهده . فإنه لا يقرّب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحقٍ أو أن يذكر بعظيم > .
وروى أيضاً عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا يحقرنّ أحدكم نفسه ، أن يرى أمراً لله فيه مقال فلا يقول فيه . فيقال له يوم القيامة : ما منعك أن تكون قلت في كذا وكذا ؟ فيقول : مخافة الناس ، فيقول : إياي أحقّ أن تخاف > .
وروى الشيخان عن عُبَاْدَة بن الصامت قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره . وأن لا ننازع الأمر أهله . وأن نقول بالحق حيثما كنّا ، لا نخاف في الله لومة لائم .
الخامسة : قوله تعالى : { ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ } .
الإشارة إلى ما ذكر من حب الله إياهم ، وحبهم لله وذلتّهم للمؤمنين ، وعزّتهم على الكافرين ، وجهادهم في سبيل الله ، وعدم مبالاتهم للوْم اللوَّام . فالمذكور كله فضل الله الذي فضل به أولياءه .
قال المهايميّ : أما المحبتان فظاهر . وكذا العزة على الكفار والجهاد . وأما الذلة على المؤمنين فلأنه تواضع موجب للرفع . وأما عدم خوف الملامة فلمَا فيه من تحقيق المودة مع الله .
وقوله تعالى : { يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } أي : ممن يريد به مزيد إكرام من سعة جوده { وَاللّهُ وَاسِعٌ } أي : كثير الفواضل ، جلّ جلاله .
ولمَّا نهى عن موالاة اليهود والنصارى ، أشار إلى من يتعيّن للموالاة ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } [ 55 ]
{ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ } المفيض عليكم كلّ خير : { وَرَسُولُهُ } الذي هو واسطة : { وَالَّذِينَ آمَنُوا } المُعِينون في موالاة الله ورسوله بأفعالهم ، لأنهم : { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ } التي هي أجمع العبادات البدنية : { وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } القاطعة محبة المال الجالب للشهوات : { وَهُمْ رَاكِعُونَ } خال من فاعل الفعلين ، أي : يعملون ما ذكر - من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة - وهم خاشعون ومتواضعون لله ومتذللون غير معجبين . فإن رؤيتهم تؤثر فيمن يواليهم بالعون في موالاة الله ورسوله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [ 56 ]
{ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا } فيعينهم وينصرهم : { فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } في العاقبة على أعدائه .
تنبيهات :
الأول : إنما أفرد ( الوليّ ) ولم يجمع , مع أنه متعدّد , للإيذان بان الولاية لله أصل , ولغيره تبعٌ لولايته عزّ وجل . فالتقدير : وكذلك رسوله والذين آمنوا .
الثاني : ثمرة هذه الآية تأكيد موالاة المؤمنين والبعد عن موالاة الكفار .
الثالث : قال ابن كثير : توهم بعض الناس أن هذه الجملة - يعني قوله تعالى : { وَهُمْ رَاكِعُونَ } - في موضع الحال من قوله : { وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } أي : في ركوعهم . ولو كان هذا كذلك , لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره لأنه ممدوح , وليس الأمر كذلك عند أحدٍ من العلماء ممن نعلمهم من أئمة الفتوى . وحتى إن بعضهم ذكر في هذا أثراً عن عليّ بن أبي طالب , أن هذه الآية نزلت فيه : إِنَّه مرّ به سائل في حال ركوعه , فأعطاه خاتمه . ثم روى ابن كثير الأثر المذكور عن ابن أبي حاتم وابن جرير وعبد الرزاق وابن مردويه , ثم قال : وليس يصحّ شيءٌ منها بالكليّة . لضعف أسانيدها وجهالة رجالها . . انتهى .
وقد اقتصّ ذلك الخفاجيّ في " حواشي البيضاوي " عن الحاكم وغيره بطول . ثم أنشد أبياتاً لحسان بن ثابت فيها . ولوائح الضعف بل الوضع لا تخفى عليها . لا سيما ونفس حسان بن ثابت , العريق في العربية , بعيد مما نسب إليه . أي : حاجة للتنويه بفضل عليّ عليه السلام بمثل هذه الواهبات . وفضله أشهر من نارٍ على علم .
قال البغويّ : روي عن عبد الملك بن سليمان قال : سألت أبا جعفر , محمد ابن عليّ الباقر عن هذه الآية : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ } من هم ؟ فقال : المؤمنون . فقلت : إن ناساً يقولون هو عليّ . فقال : عليّ من الذين آمنوا .
قال ابن كثير : وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها , أن هذه الآية كلها نزلت في عُبَاْدَة بن الصامت رضي الله عنه , حين تبرأ من حلف يهود , ورضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين .
الرابع : ذهب من رأى أن هذه الآية نزلت في عليّ عليه السلام وأنه تصدق بخاتمه وهو راكع - كما قدّمنا - إلى أنّ العمل القليل في الصلاة لا يبطلها , وإن صدقة النفل تسمى زكاة . نقله السيوطي في " الإكليل " عن ابن الفرس .
وقال بعض الزيدية : ثمرة الآية تأكد موالاة المؤمنين , وبيان فضل من نزلت فيه , وأنه يجوز إخراج الزكاة في الصلاة , وتنوي . وكذا نية الصيام في الصلاة تصح . وإن الفعل القليل لا يفسد الصلاة . قال : وهذا مأخوذ من سبب نزولها , لا من لفظها . ومتى قيل إنّ عليّاً عليه السلام لم تجب عليه زكاة ؟ قلنا : إذا صحّ ما ذكر أنها نزلت فيه , كان أولى بالصحة , وأنها قد وجبت عليه .
قال في " الغياضة " : إن قيل : قد روي أنه كان من ذهب , والذهب محرّم على الرجال ؛ أجيب بأن ذلك كان في صدر الإسلام ثم نسخ , أو أنّ هذا من خواص عليٍّ عليه السلام . انتهى .
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف صحّ أن يكون لعليَّ رضي الله عنه , واللفظ لفظ جماعة ؟ قلت : جيء به على لفظ الجمع , وإن كان السبب فيه رجلاً واحداً , ليرغب الناس في مثل فعله فَيَنَالُوا مثل ثوابه . ولينبه على أن سجية المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان وتفقد الفقراء . حتى إنْ لَزَّهُمْ أمرٌ لا يقبل التأخير - وهم في الصلاة - لم يؤخروه إلى الفراغ منها . انتهى .
وإنما أوردنا هذا , على علاته , تعجيباً من غرائب الاستنباط . وقد توسع الرازيّ , عليه الرحمة , في المناقشة مع الشيعة هنا , فليُراجع فإنه بحث بديع .
الخامس : قوله تعالى : { فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } معناه : فإنهم هم الغالبون .
فوضع الظاهر موضع الضمير العائد إلى ( من ) دلالة على علة الغلبة . وهو أنهم حزب الله . فكأنه قيل : ومن يتولّ هؤلاء فهم حزب الله . وحزب الله هم الغالبون . وتنويهاً بذكرهم وتعظيماً لشأنهم وتشريفاً لهم بهذا الاسم . وتعريضاً لمن يوالي غير هؤلاء بأنه حزب الشيطان . وأصل ( الحزب ) القوم يجتمعون لأمرٍ حَزَبَهَمْ . وقيل : الحزب جماعة فيهم شدة . فهو أخصّ من الجماعة والقوم .
ثم أشار تعالى إلى أن موالاة غيرهم ، إن كانت لجرّ نفع ، فضررها أعظم . وإن كانت لدفع ضرر فالضرر الحاصل بها لا يفي بالمدفع ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ 57 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } أي : مقتضى إيمانكم حفظ تعظيم دينكم : { لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ } أي : الذي هو رأس مال كمالاتكم ، الذي به انتظام معاشكم ومعادكم ، وهو مناط سعادتكم الأبدية ، وسبب قربكم من ربكم : { هُزُواً } أي : شيئاً مستخفاً : { وَلَعِباً } أي : سخريةً وضحكاً ، مبالغة في الاستخفاف به حتى لعبوا بعقول أهله . ثم بين المستهزئين وفصّلهم بقوله تعالى : { مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ } قرئ بالنصب والجرّ ، يعني المشركين كما في قراءة ابن مسعود : { وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ } : { أَوْلِيَاءَ } في العون والنصرة . وإنما رتب النهي على وصف اتخاذهم الدين هزواً ولعباً . تنبيهاً على العلة ، وإيذاناً بأن من هذا شأنه ، جدير بالبغضاء والشنآن والمنابذة . فكيف بالموالاة ؟ : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : في ذلك ، بترك موالاتهم ، أو بترك المناهي على الإطلاق . فيدخل فيه ترك موالاتهم دخولاً أوليّاً : { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : حقاً ، فإن قضية الإيمان توجب الاتقاء لا محالة .
ثم بيّن استهزاءهم بحكم خاص من أحكام الدين ، بعد استهزائهم بالدين على الإطلاق ، إظهار لكمال شقاوتهم ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } [ 58 ]
{ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } أي : دعوتهم إليها بالأذان : { اتَّخَذُوهَا } أي : الصلاة أو المناداة : { هُزُواً وَلَعِباً } بأن يستهزئوا بها ويتضاحكوا : { ذَلِكَ } أي : الاتخاذ : { بِأَنَّهُمْ } أي : بسبب أنهم : { قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ } أي : معاني عبادة الله , فإن السفه يؤدي إلى الجهل بمحاسن الحق والهزء به, ولو كان لهم عقل في الجملة لما اجترأوا على تلك العظيمة . فإن الصلاة أكرم القربات , وفي النداء معان شريفة من تعظيم الله باعتبار ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله . ومن ذكر توحيده باعتبار ذاته, باعتبار عدم مغايرة أسمائه وصفاته, ومن تعظيم رسوله باعتبار قيامه بمصالح المعاش والمعاد , ومن الصلاة من حيث هي وصلة ما بين العبد وبين الله , ومن حيث إفادته معالي الدرجات , ومن تعظيم مقصده وهو الفلاح في الظاهر والباطن, وما هو غاية مقصده من القرب من الله باعتبار عظمة ظاهره وباطنه, ومن الوصول إلى توحيده الحقيقيّ . أفاده المهايميّ .
تنبيهات :
الأول : في آثار رويت في هذه الآية :
روى أبو الشيخ ابن حيان عن ابن عباس قال : كان رِفاعة بن زيد بن التابوت , وسويد بن الحارث , قد أظهرا الإسلام ونافقا, وكان رجل من المسلمين يوادّهما . فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ } الآية .
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدّيّ في قوله : { إِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً } قال : كان رجل من النصارى من المدينة , إذا سمع المنادي ينادي : أشهد أن محمداً رسول الله . قال : حُرِّق الكاذب . فدخلت خادمه ليلة من الليالي بنار, وهو نائم وأهله نيام, فسقطت شرارة فأحرقت البيت , فاحترق هو وأهله .
وذكر محمد بن إسحاق بن يسار في " السيرة " : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة عام الفتح ومعه بلال فأمره أن يؤذن . وأبو سفيان بن حرب وعتَّاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة . فقال عتاب بن أسيد : لقد أكرم الله أسيداً أن لا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه . فقال الحارث بن هشام : أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته . فقال أبو سفيان : لا أقول شيئاً . لو تكلمتُ لأخْبَرَتْ عني هذه الحصى . فخرج عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : قد علمت الذي قلتم . ثم ذكر ذلك لهم . فقال الحارث وعتاب : نشهد أنك رسول الله . والله ! ما اطلع على هذا أحد كان معنا , فنقول أخبرك .
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مُحَيْرِيز - وكان يتيماً في حجر أبي محذورة - قال : قلت لأبي محذورة : يا عم ! إني خارج إلى الشام . أخشى أن أسأل عن تأذينك . فأخبرني ؛ أن أبا محذور قال له : نعم ! خرجت في نفر فكنا ببعض طريق حنين , فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق . فأذّن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم , فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون . فصرخنا نحكيه ونستهزئ به . فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوت فأرسل إلينا, إلى أن وقفنا بين يديه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع > ؟ فأشار القوم كلهم إليّ . وصدقوا . فأرسل كلَّهم وحبسني فقال : < قم فأذن > . فقمت, ولا شيء أكره إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مما يأمرني به, فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم . فألقى إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو نفسه فقال : قل : < الله أكبر, الله أكبر . أشهد أن لا إله إلا الله . أشهد أن لا إله إلا الله . أشهد أنّ محمداً رسول الله . أشهد أن محمداً رسول الله > . ثم قال لي : < ارجع فامدد من صوتك > . ثم قال : < أشهد أن لا إله إلا الله . أشهد أن لا إله إلا الله . أشهد أنّ محمداً رسول الله . أشهد أنّ محمداً رسول الله . حيَّ على الصلاة, حيَّ على الصلاة, حيَّ على الفلاح, حيَّ على الفلاح, الله أكبر الله أكبر , لا إله إلا الله > ، ثم عادني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيءٍ من فضة ، ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة ، ثم أمرها على وجهه مرتين . ثم مرتين على يديه . ثم على كبده . ثم بلغت يُد رسول الله صلى الله عليه وسلم سرّة أبي محذورة . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بارك الله فيك . فقلت : يا رسول الله ! مُرني بالتأذين بمكة . فقال : قد أمرتك به . وذهب كل شيءٍ كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية, وعاد ذلك كله محبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فقدمت على عتَّاب بن أسيدِ, عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأذّنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : دلت الآية على وجوب موالاة المؤمنين ومعاداة الكفار . والمراد به في أمر الدين , كما تقدم .
الثالث : دلت على أن الهزء بالدين كفر, وأن هزله كجدَّه .
قال في " الإكليل " : الآية أصل في تكفير المستهزئ بشيء من الشريعة .
الرابع : دلت على أن للصلاة نداء وهو الأذان, فهي أصل فيه .
قال الزمخشري : قيل : فيه دليل على ثبوت الأذان بنصّ الكتاب , لا بالمنام وحده . ولمَّا نهى تعالى عن توليّ المستهزئين , أمر أن يخاطبوا بأن الدين منزّه عما يصح صدور ما صدر عنهم من الاستهزاء , ويظهر لهم ما ارتكبوا ويلقموا الحجر , بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } [ 59 ]
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ } وصفوا بذلك تمهيداً لتبكيتهم وإلزامهم بكفرهم بكتابهم , أي : يا أصحاب الكتاب , العالمين بالنقائص والكمالات , التي يستحق على تحققها وفقدها الاستهزاء : { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا } أي : ما تعيبون وتنكرون منا : { إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ } وهو رأس الكمالات : { وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا } وهو أصل الاعتقادات والأعمال والأخلاق : { وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ } وهو يشهد لما أنزل إلينا : { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } أي : متمردون خارجون عن الإيمان بما ذكر .
لطائف :
الأولى : إنما فسر ( تنقمون ) بـ ( تعيبون ) و ( تنكرون ) لأن النقمة معناها الإنكار باللسان أو بالعقوبة - كما قاله الراغب - لأنه لا يعاقَب إلاّ على المنكر فيكون على حد قوله :
~ونشتم بالأفعال لا بالتكلم
فلذا حسن ( انتقم منه ) مطاوعه , بمعنى عاقبه وجازاه , وإلاّ فكيف يخالف المطاوع أصله ؟ فافهم . و ( نقم ) ورد كعَلم يعلَم وضَرَبَ يضرب , وهي الفصحى , ويعدّى بـ ( من ) و ( على ) . وقال أبو حيّان : أصله أن يتعدى بـ ( على ) . ثم ( افتعل ) المبنيّ منه , يعدى بـ ( من ) لتضمنه معنى الإصابة بالمكروه , وهنا ( فعل ) بمعنى ( افتعل ) . كذا في " العناية " .
الثانية : في الآية تسجيل على أهل الكتاب بكمال المكابرة والتعكيس, حيث جعلوا الإيمان بما ذكر , موجباً لنقمه , مع كونه في نفسه موجباً لقبوله وارتضائه . فمعنى الآية : ليس شيء ينقم من المؤمنين . فلا موجب للاستهزاء . وهذا مما تقصد العرب في مثله , تأكيد النفي والمبالغة فيه بإثبات شيءٍ , وذلك الشيء لا يقتضي إثباته , فهو منتف أبداً . ويسمى مثل ذلك عند علماء البيان تأكيد المدح بما يشبه الذم وبالعكس , فمن الأول نحو :
~ولا عيب فيهم غير أنَّ سيوفَهُمْ بهنّ فُلُولٌ من قِرَاعِ الكتائبِ
ومن الثاني هذه الآية وشبهها . أي : ما ينبغي لهم أن ينقموا شيئاً إلاَّ هذا , وهذا لا يوجب لهم أن ينقموا شيئاً ، فليس شيء ينقمونه ، فينبغي أن يؤمنوا به ولا يكفروا . وفيه أيضاً التعريض بكفرهم ، وتقريع بسوء الصنيع في مقابلة الإحسان .
الثالث : إسناد الفسق إلى أكثرهم ، لأن من قال منهم ما قال ، وحمل غيره على العناد ، طلباً للرياسة والجاه وأخذ الرشوة ، إنما هو أكثرهم ، ولئلا يظن أن من آمن منهم داخل في ذلك .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ } [ 60 ]
{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ } المخاطب بكاف الجمع أهل الكتاب المتقدم ذكرهم ، أو الكفار مطلقاً ، أو المؤمنون . والمشار إليه الأكثرون الفاسقون . وتوحيد اسم الإشارة لكونه يُشارُ به إلى الواحد وغيره ، أو لتأويله بالمذكور ونحوه . وفي الكلام مقدر أي : بشرٍّ من حال هؤلاء . وقيل : المشار إليه المتقدمون الذين هم أهل الكتاب ، يعني أن السلف شرٌّ من الخلف . وجعله الزمخشريّ إشارة إلى المنقوم .
وقد جوّد في إيضاحه العلامة أبو السعود بقوله : لما أمر عليه الصلاة والسلام بإلزامهم وتبكيتهم ، ببيان أن مدار نقمهم للدين إنما هو اشتماله على من يوجب ارتضاءه عنهم أيضاً ، وكفرهم بما هو مسلم لهم - أمر عليه الصلاة والسلام عقيبه بأن يبكتهم ببيان أن الحقيق بالنقم والعيب حقيقةً ، ما هم عليه من الدين المحرف .
وينعى عليهم في ضمن البيان جناياتهم وما حاق بهم من تبعاتها وعقوباتها ، على منهاج التعريض . لئلاً يحملهم التصريح بذلك على ركوب متن المكابرة والعناد . ويخاطبهم قبل البيان بما ينبئ عن عظم شأن المبيَّن ، ويستدعي إقبالهم على تلقيه من الجملة الاستفهامية المشوقة إلى المخبر به ، والتنبئة المشعرة بكونه أمر خطيراً ، لما أن النبأ هو الخبر الذي له شأن وخطر . وحيث كان مناط النقم شرّية المنقوم حقيقة أو اعتقاداً ، وكان مجرد النقم غير مقيد لشريته البتة ، قيل ( بشرٍّ من ذلك ) ولم يقل : بأنقم من ذلك ، تحقيقاً لشرية ما سيذكر وزيادة تقرير لها . وقيل : إنما قيل ذلك ، لوقوعه في عبارة المخاطبين ، حيث أتى نفر من اليهود فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دينه فقال عليه الصلاة والسلام : < أومن بِالله وما أنزل إلينا > . . - إلى قوله - : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } . فحين سمعوا ذكر عيسى عليه السلام ، قالوا : لا نعلم شرّاً من دينكم . وإنما اعتبر الشرية بالنسبة إلى الدين - وهو منزه عن شائبة الشرية بالكلية - مجاراة معهم على زعمهم الباطل المنعقد على كمال شريته ، ليثبت أن دينهم شرّ من كل شرّ . أي : هل أخبركم بما هو شرٌّ في الحقيقة مما تعتقدونه شرّاً ، وإن كان في نفسه خيراً محضاً ؟ انتهى .
وقوله : { مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ } أي : جزاء ثابتاً عند الله . قال الراغب : الثواب ما رجع إلى الإنسان من جزاء أعماله . سمي به بتصور أن ما عمله يرجع إليه ، كقوله : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ] ، ولم يقل : ير جزاءه . والثواب يقال في الخير ولا شر ، لكن الأكثر المتعارف في الخير . وكذا المثوبة ، وهي مصدر ميميّ بمعناه . وعلى اختصاصها بالخير استعملت هنا في العقوبة على طريقة :
~تحيةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعٌ
في التهكم . ونصبها على التميير من ( بشرّ )
وقوله تعالى : { مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ } بدل من : { شَرٌّ } على حذف مضاف ، أي : بشر من أهل ذلك من لعنه الله ، أو بشر من ذلك دينُ من لعنه الله , أو خبر محذوف . أي : هو من لعنه الله وهم اليهود ، أبعدهم الله من رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات ومسخ بعضهم قردة وخنازير ، وهم أصحاب السبت ، كما تقدم بيانه في سورة البقرة : { وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } عطف على صلة ( مَنْ ) والمراد من الطاغوت : العجل ، أو الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى : { أُولَئِكَ } أي : الملعونون الممسوخون : { شَرٌّ مَكَاناً } إثبات الشرارة للمكان كناية عن إثباتها لأهله ، كقولهم : ( سلام على المجلس العالي ) و ( المجد بين برديه ) كأن شرهم أثّر في مكانهم أو عظم حتى صار متجسماً ! وقيل : المراد بالمكان محل الكون والقرار الذي يؤول أمرهم إلى التمكن فيه ، كقوله : { شَرٌّ مَكَاناً } [ الفرقان : 34 ] ، وهو مصيرهم ، يعني جهنم .
{ وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } أي : أكثر ضلالاً عن الصراط المستقيم .
ثم بين تعالى علامات كمال شرهم وضلالهم بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ } [ 61 ]
{ وَإِذَا جَاءُوكُمْ } يعني سفلة اليهود ، ويقال : المنافقون : { قَالُوا آمَنَّا } أي : بك ونعتك ، أنه في كتابنا : { وَقَدْ دَخَلُوا } إليكم متلبسين : { بِالْكُفْرِ } بكفر السرّ : { وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا } أي : من عندكم متلبسين : { بِهِ } أي : بكفر السر ، فهم مستمرون عليه : { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ } أي : من الكفر ، وفيه وعيد لهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 62 ]
{ وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ } أي : اليهود : { يُسَارِعُونَ فِي الْأِثْمِ } أي : الحرام ، كالكذب والعصيان من غير مبالاة من الله ولا من الناس : { وَالْعُدْوَانِ } أي : الظلم والاعتداء على الناس : { وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ } أي : الحرام كالرشا . وخصه بالذر مع اندراجه في الإثم للمبالغة في التقبيح ، وفيه دلالة على تحريم الرشا ، لأن ذلك ورد في كبرائهم أنهم يسترشون في تغيير الحكم : { لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } مما ذكر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ 63 ]
{ لَوْلا } أي : هلا : { يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ } أي : الزهاد منهم والعبّاد : { وَالْأَحْبَارُ } أي : العلماء : { عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ } أي : الكذب : { وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ } أي : الرشوة ، المفسدة أمر العالم كله : { لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } من ترهبهم وتعلمهم لغير دين الله . أو من تركهم نهيهم . وهذا الذم المقول فيهم ، أبلغ مما قيل في حق عامتهم . أولاً : لأنه لما عبر عن الواقع المذموم من مرتكبي المناكير بالعمل في قوله : { لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } ، وعبرّ عن ترك الإنكار عليهم حيث ذمه بالصناعة في قوله : { لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } - كان هذا الذم أشد . لأنه جعل المذموم عليه صناعة لهم وللرؤساء ، وحرفة لازمة ، هم فيها أمكن من أصحاب المناكير في أعمالهم .
وهذا معنى قول الزمخشريّ : كأنهم جُعِلوا آثم من مرتكبي المناكير ، لأن كل عامل لا يسمى صانعاً ، ولا كل عمل يسمى صناعة ، حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه . وكأن المعنى في ذلك ، أن مُوَاقِعَ المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها . وأما الذي ينهاه ، فلا شهوة معه في فعل غيره . فإذا فرط في الإنكار كان أشد حالاً من المُواقِع . ثم قال الزمخشري : ولعمري ! إن هذه الآية مما يَقِذُ السامع وينعى على العلماء توانيهم . انتهى .
وفي " الإكليل " : في هذه الآية وجوب النهى عن المنكر على العلماء ، اختصاص ذلك بهم .
وقال البيضاويّ : فيها تحضيض لعلمائهم على النهي عن ذلك ، فإن ( لولا ) إذا دخل على الماضي أفاد التوبيخ ، وإذا دخل على المستقبل أفاد التحضيض .
روى ابن جرير عن ابن عباس قال : ما في القرآن آية أشدّ توبيخاً من هذه الآية .
وقال الضحاك : ما في القرآن آية أخوف عندي منها . وروى ابن أبي حاتم عن يحيي بن يعمر قال : خطب عليّ بن أبي طالب ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ! إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار . فلما تمادوا أخذتهم العقوبات . فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم . واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقاً ولا يقرب أجلاً .
وروى الإمام أحمد عن جرير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من قومٍ يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي ، هم أعزّ منه وأمنع . ولم يغيّروا ، إلاّ أصابهم الله منه بعذاب .
ولفظ أبي داود عنه ، مرفوعاً : ما من رجل يكون في قومٍ يعمل فيهم بالمعاصي ، يقدرون على أن يغيّروا عليه فلا يغيّروا ، إلاّ أصابهم الله بعذاب قبل أن يموتوا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } [ 64 ]
{ وَقَالتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } أخرج الطبراني وابن إسحاق عن ابن عباس قال : قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس : إن ربك بخيلٌ لا ينفق . فنزلت .
وأخرج أبو الشيخ من وجه آخر عنه : نزلت في فنحاص ، رأس يهود قينقاع ، وتقدم أنه الذي قال : إن الله فقير ونحن أغنياء . فضربه أبو بكر الصديق رضي الله عنه .
فيكون أريد بالآية هنا ، ما حكى عنه بقوله المذكور . والله أعلم .
ولما لم ينكر على القائل قومُه ورضوا به ، نُسِبَتْ تلك العظيمة إلى الكل ، كما يقال : بنو فلان قتلوا فلاناً . وإنما القاتل واحد منهم . و ( غُلذ اليد وبسُطها ) : مجاز مشهور عن البخل والجود . ومنه قوله تعالى : { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا } [ الإسراء : 29 ] ، قالوا : والسبب فيه أن اليد آلة لأكثر الأعمال . لا سيما لدفع المال ولإنفاقه . فأطلقوا اسم السبب على المسبب . وأسندوا الجود والبخل إلى اليد والبنان والكف والأنامل . فقيل للجواد : فياض الكف . مبسوط اليد ، وسبط البنان نَزِهُ الأنامل . ويقال للبخيل : كزّ الأصابع ، مقبوض الكف ، جعد الأنامل . وقوله تعالى : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } دعاء عليهم بالبخل أو بالفقر والمسكنة أو بغلّ الأيدي حقيقة . يغلّون أي : تشدّ أيديهم إلى أعناقهم أسارى في الدنيا ومسحوبين إلى النار في الآخرة : { وَلُعِنُوا } أي : أبعدوا عن الرحمة فلا يوفقون للتوبة : { بِمَا قَالُوا } من الكلمة الشنيعة التي لا تصح في حق الله حقيقةً ولا مجازاً : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } أي : بأنواع العطايا المختلفة . وثنّى ( اليد ) مبالغة في الرّد ونفي البخل عنه تعالى ، وإثباتاً لغاية الجود ، فان غاية ما يبذله السخيّ من ماله أن يعطيه بيديه : { يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء } تأكيد لما قبله ، منبه على أن إنفاقه تابع لمشيئته , المبنية على الحكم , التي عليها يدور أمر المعاش والمعاد .
وهاهنا مباحث
الأول : ما زعمه الزمخشري ومن تابعه - مِن إنَّ إثبات اليد لا يصحّ حقيقة له تعالى - فإنه نزعة كلامية اعتزالية .
قال الإمام ابن عبد البرّ في " شرح الموطأ " : أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القران والسنة , والإيمان بها , وحملها على الحقيقة لا على المجاز . إلاَّ أنهم لا يكيّفون شيئاً من ذلك ولا يحدّون فيه صفة محصورة . وأما أهل البدع , الجهمية والمعتزلة كلها , والخوارج , فكلهم ينكروها ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة . ويزعم أن أقرّ بها شبَّهَ . وهم عند من أقرّ بها نافون للمعبود . والحق فيها قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله . وهم أئمة الجماعة .
وقال القاضي أبو يعلى في كتاب " إبطال التأويل " : لا يجوز ردّ هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها . والواجب حملها على ظاهرها , وأنها صفات الله , لا تشبّه بسائر الموصوفون بها من الخلق , ولا يعتقد التشبيه فيها ثم قال : ويدل على إبطال التأويل , أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين , حمولها على ظاهرها ولم يتعرضوا لتأويلها ولا صرفها عن ظاهرها , ولو كان التأويل سائغاً لكانوا إليه أسبق . لما فيه من إزالة التشبيه ورفع الشبهة . وقال الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى في كتاب " الإبانة " في باب ( الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين ) وذكر الآيات في ذلك . ورد على المتأولين بكلام طويل لا يتسع هذا الموضع لحكايته . مثل قوله :
فإن سئلنا : أتقولون لله يدان ؟ قيل : نقول ذلك ، وقد دل عليه قوله : { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم } [ الفتح : 10 ] . وقوله تعالى : { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي } [ ص : 75 ] . وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه ذرية ، وقد جاء في الخبر المأثور عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : < أن الله خلق آدم بيده ، وخلق جنة عدن بيده ، وكتب التوراة بيده ، وغرس شجرة طوبى بيده > . وليس يجوز في لسان العرب ، ولا في عادة أهل الخطاب ، أن يقول القائل : عملت كذا بيدي ، ويعني به النعمة . وإذا كان الله إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري في مفهومها في كلامها ، ومعقولاً في خطابها ، وكان لا يجوز في خطاب أهل اللسان أن يقول القائل : فعلت بيدي ، ويعني به النعمة - بطل أن يكون معنى قوله عز وجل : { بِيَدَيَّ } النعمة . وذكر كلاماً طويلاً في تقرير هذا ونحوه .
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب " الإبانة " له :
فإن قال : فما الدليل على أنّ للهِ وجهاً ويداً ؟ قيل له : { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } [ الرحمن : 27 ] ، وقوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] فأثبت لنفسه وجهاً ويداً : فإن قال : فما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة إذا كنتم لا تعقلون وجهاً ويداً إلاّ جارحة ؟ قلنا : لا يجب هذا كما لا يجب -إذا لم نعقل حيّاً عالماً قادراً إلا جسماً - أن نقضي نحن وأنتم بذلك على الله سبحانه .
وقال الشيخ تقيّ الدين في " الرسالة المدنية " مذهب أهل الحديث - وهم السلف من القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم من الخلف -أن هذه الأحاديث تُمَرُّ كما جاءت ويُؤْمَن بها وتُصَدَّق وتصان عن تأويلٍ يفضي إلى تعطيل ، وتكييف يفضي إلى تمثيل . وقد أطلق غير واحدٍ ممن حكى إجماع السلف -منهم الخطابيّ -مذهب السلف أنَّها تجري على ظاهره مع نفي الكيفية والتشبيه عنها . وذلك ، أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ، يحتذى حذوه ويتبع فيه مثاله . فإذا كان إثبات الذات إثبات وجودٍ لا إثبات كيفية .
فكذلك إثبات الصفات إثبات وجودٍ لا إثبات كيفية . . انتهى .
ويرحم الله الإمام الصرصريّ الأنصاريّ حيث يقول من قصيدة :
~إن المقال بالاعتزال لَخِطَّةٌ عمياءُ حلّ بها الغُواة المُرَّدُ
~هجموا على سبل الهدى بعقولهم ليلاً فعاثوا في الديار وأفسدوا
~صمٌّ ، إذا ذكر الحديث لديهم نفروا ، كأن لم يسمعوه ، وغرّدوا
~واضرب لهم مَثَلَ الحمير إذ رأتْ أُسْدَ العرين فهنّ منهم شُرَّدُ
إلى أن قال :
~يدعو من اتبع الحديث مشبّهاً هيهات ليس مشبّهاً من يُسند
~لكنه يروي الحديث كما أتى غير تأويلٍ ولا يتأوّد
الثاني : روى الإمام أحمد والشيخان في معنى الآية عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة . سحاء الليل والنهار . أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض ، فإنه لم يَغِضْ ما في يمينه . وكان عرشه على الماء وفي يده الأخرى الفيض - أو القبض - يرفع ويخفض وقال : يقول الله تعالى : أنفقْ أُنفق عليكَ > .
الثالث : في هذه الآية دلالة على جواز لعن اليهود ، ولا إشكالَ أنَّ ذلك جائز .
الرابع : هذه الآية أصل في تفكير من صدر منه ، في جناب البارئ تعالى ، ما يؤذن بنقص . وقوله تعالى : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ } أي : من اليهود : { مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } من جوامع الخيرات : { طُغْيَاناً } أي : عدواناً على الناس ، أو تمادياً في الجحود : { وَكُفْراً } أي : في أنفسهم بعد كفرهم وطغيانهم بالتحريف وأخذ الرشوة أوّلاً . وهذا من إضافة الفعل إلى السبب . أي : يزدادون طغياناً وكفراً بما أنزل ، كما قال : { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِم } [ التوبة : 125 ] .
قال الحافظ ابن كثير : أي : يكون ما آتاك الله ، يا محمدّ ، من النعمة نقمةً في حقّ أعدائك من اليهود وأشباههم . فكما يزداد به المؤمنون تصديقاً وعملاً صالحاً وعلماً نافعاً ، يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولأمتك ، طغياناً -وهو المبالغة والمجاوزة للحدّ في الأشياء - وكفراً أي : تكذيباً كما قال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً } [ فصلت : 44 ] ، وقال تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً } [ الإسراء : 82 ] .
{ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } فكلمتهم أبداً مختلفة وقلوبهم شتى ، لا يقع بينهم اتفاق ولا تعاضد .
وقد ذكر الشهرستاني أنهم افترقوا نيّفاً وسبعين فرقة . ولما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة ، كان اليهود ثلاث طوائف حول المدينة : بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة ، وَبَسْطُ ما جرياتهم ، وهدية صلى الله عليه وسلم في شأنهم ، مبسوط في " زاد المعاد " لابن القيم . فراجعه .
قال الرازي : واعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها ، هو أنه تعالى بيّن أنهم إنما ينكرون نبوّته بعد ظهور الدلائل على صحتها ، لأجل الحسد ولأجل حب الجاه والتبع والمال والسيادة . ثم إنه تعالى بيّن أنهم ، لما رجّحوا الدنيا على الآخرة ، لا جرم أن الله تعالى ، كما حرمهم سعادة الدين ، فكذلك حرمهم سعادة الدنيا ، لأن كل فريق منهم بقي مصرّاً على مذهبه ومقالته . يبالغ في نصرته ويطعن في كل ما سواه من المذاهب والمقالات . تعظماً لنفسه وترويجاً لمذهبه . فصار ذلك سبباً لوقوع الخصومة الشديدة بين فرقهم وطوائفهم . وانتهى الأمر فيه إلى إن بعضهم يُكفّر بعضاً ,ويغزو بعضهم بعضاً .
وفي الآية وجهان :
أحدهما - ما بين اليهود والنصارى ، لأنه جرى ذكرهم في قوله تعالى : { لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى } [ المائدة : 51 ] . وهو قول الحسن ومجاهد . لأنهم المُحدَّث عنهم في قوله تعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ } .
و الثاني - ما بين فرق اليهود خاصة .
أقول : وهو الظاهر . فإن قلت : فهذا المعنى حاصل أيضاً بين فرق المسلمين ، فكيف يكون ذلك عيباً على الكتابيين حتى يذموا به ؟ قلت : بدعة التفرق التي حصلت في المسلمين ، إنما حدثت بعد عصر النبيّ صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة والتابعين .
أما في الصدر الأول فلم يزن شيء من ذلك حاصلاً بينهم ؛ فَحَسَنَ جَعْلُ ذلك عيباً على الكتابيين في ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن .
{ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ } أي : كلما أرادوا حرب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإثارة شر عليه ، ردهم الله سبحانه وتعالى ، بأن أوقع بينهم منازعة كفَّ بها عنه شرهم ، أو كلما أرادوا حرب أحد ، غلبوا وقهروا ولم يقم لهم نصر من الله تعالى على أحد قط . فإيقاد النار كناية عن إرادة الحرب ، لأنه كان عادتهم ذلك . ونيران العرب مشهورة ، منها هذه . وإطفاء النار على الأول عبارة عن دفع شرهم ، وعلى الثاني غلبتهم . و ( للحرب ) إما صلة لـ ( أوقدوا ) ، أو متعلق بمحذوف وقع صفة ( ناراً ) أي : كائنة للحرب { وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً } أي : للفساد أو مفسدين ، أي : يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله وتعويق الناس عنه وإثارة الفتن : { وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } أي : من كان الإفساد صفته . و ( اللام ) إما للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أوليّاً ، أو للعهد ، ووضع المظهر موضع المضمر للتعليل ، وبيان كونهم راسخين في الإفساد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ } [ 65 ]
{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ } أي : مع ما عددنا من سيئاتهم : { آمَنُوا } برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به : { وَاتَّقَوْا } مباشرة الكبائر : { لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } أي : ذنوبهم : { وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيم } في الآخرة مع المسلمين . وفيه إعلام بعظم معاصي اليهود والنصارى وكثرة سيئاتهم ، ودلالة على سعة رحمة الله تعالى وفتحه باب التوبة على كل عاص ، وإن عظمت معاصيه ومبالغ سيئات اليهود والنصارى ، وأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله وإن جلّ . وأن الكتابيّ لا يدخل الجنة ما لم يسلم .
قال الزمخشري : وفيه أن الإيمان لا ينجي ولا يسعد إلا مشفوعاً بالتقوى ، كما قال الحسن : هذا العمود ، فأين الأطناب ؟ انتهى . قال ناصر الدين في " الانتصاف " : هو ينتهز الفرصة من ظاهر هذه الآية فيجعله دليلاً على قاعدته ، في أن مجرد الإيمان لا ينجي من الخلود في النار ، حتى ينضاف إليه التقوى . لأن الله تعالى جعل المجموع في هذه الآية شرطاً للتكفير ولإدخال الجنة . وظاهره أنهما ما لم يجتمعا لا يوجد تكفير ولا دخول الجنة . وأنى له ذلك ؟ والإجماع والاتفاق من الفريقين -أهل السنة والجماعة ، والمعتزلة -على أن مجرد الإيمان يَجُبّ ما قبله ويمحوه كما ورد النص . فلو فرضنا موت الداخل في الإيمان عقيب دخوله فيه ، لكان كيوم ولدته أمه -باتفاق -مكفَّرَ الخطايا محكوماً له بالجنة . فدل على أن اجتماع الأمرين ليس بشرط ، هذا إن كان المراد بالتقوى الأعمال . وإن كانت التقوى - على أصل موضعها - الخوف من الله عز وجل ، فهذا المعنى ثابت لكل مؤمن وإن قارف الكبائر وحينئذ لا يتم للزمخشري منه غرض . وما هذا إلا إلحاح ولجاج في مخالفة المعتقد المستفاد من قوله عليه الصلاة والسلام : < من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى أو سرق . كررها النبيّ صلى الله عليه وسلم مراراً ، ثم قال : وإن رغم أنف أبي ذر > . لَمَّا راجعه رضي الله عنه في ذلك ، ونحن نقول : وإن رغم أنف القدرية . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ } [ 66 ]
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ والإنجيل } أي : أقاموا أحكامهما وحدودهما وما فيهما من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم . أصل الإقامة الثبات في المكان . ثم استعير إقامة الشيء لتوفية حقه : { وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ } أي : بيّنوا ما بيّن لهم ربهم في التوراة والإنجيل . ويقال : أقروا بجملة الكتب والرسل من ربهم ، ويقال : هو القرآن : { لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } لوسَّع عليهم أرزاقهم ، بأن يفيض عليهم بركات من السماء والأرض ، ويكثر ثمرة الأشجار وغلة الزروع ، أو يرزقهم الجنان اليانعة الثمار ، فيجتنونها من رأس الشجر ، ويلتقطون ما تساقط على الأرض . وَجَعْلُ ( من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) بمعنى الأمطار والأنهار التي تحتل بها أقواتهم - بعيدٌ من الأكل . والأقرب الوجوه الثلاثة المتقدمة . ونبه تعالي بذلك على أن ما أصابهم من الضنك والضيق ، إنما هو بشؤمِ مَعَاصِيهم . وكفرهم ، لا لقصور في فيض الكريم ، تعالى . ودلت الآية على أن العمل بطاعة الله تعالى سبب لسعة الرزق ، وهو كقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } [ الأعراف : 96 ] { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2 - 3 ] { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } [ نوح : 10 ] . . الآيات { وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً } [ الجن : 16 ] .
روى الإمام أحمد عن زيادة بن لَبِيد أنه قال : ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئاً فقال : < وذاك عند ذهاب العلم > . قال : قلنا : يا رسول الله ! وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونُقرئه أبْنَاءنَا ، ويقرئه أبناء أبنائهم إلى يوم القيامة ؟ فقال : < ثكلتك أمك يا ابن أم لَبِيد ! إن كنتُ لأراك من أفقه رجل بالمدينة . أَوَليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل ، لا ينتفعون مما فيهما بشيء > .
وفي رواية ابن أبي حاتم : أوليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى ؟ فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله ؟ ثم قرأ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ } . . الآية .
{ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ } أي : طائفة : { مُّقْتَصِدَةٌ } أي : عادلة مستقيمة ، وهم من آمن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ، كعبد الله بن سلام والنجاشي وسلمان : { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء } أي : بئس : { مَا يَعْمَلُونَ } أي : من تحريف الحق والإعراض عنه والإفراط في العداوة . والآية كقوله تعالى : { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } [ 67 ]
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ } نودي صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة تشريفاً له وإيذاناً بأنها من موجبات الإتيان بما أمر به من التبليغ : { بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } مما يفصّل مساوئ الكفار ، ومن قتالهم ، والدعوة إلى الإسلام ، غير مراقب في التبليغ أحداً ، ولا خائف أن ينالك مكروه : { وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ } أي : ما تؤمر به من تبليغ الجميع ، ستراً لبعض مساوئهم : { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } أي : شيئاً مما أرسلت به . لما أن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض . فإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعاً . كما أنّ من لم يؤمن ببعضها ، كان كمن لم يؤمن بكلّها .
قال في " الانتصاف " : ولما كان عدم تبليغ الرسالة أمراً معلوماً عند الناس ، مستقرّاً في الأفهام أنه عظيم شنيع ، ينقم على مرتكبه ، بل عدم نشر العلم من العالم أمر فظيع ، فضلاً عن كتمان الرسالة من الرسول -استغنى عن ذكر الزيادات التي يتفاوت بها الشرط والجزاء ، للصوقها بالجزاء في الأفهام . وإن كل من سمع عدم تبليغ الرسالة ، فهم ما وراءه من الوعيد والتهديد . وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز بذكر الشرط عامّاً بقوله : { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ } ولم يقل : فإن لم تبلغ الرسالة فما بلغت الرسالة . حتى يكون اللفظ متغايراً ، وهذه المغايرة اللفظية - وإن كان المعنى واحد - أحسن رونقاً وأظهرُ طلاوة ، من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء . وهذا الفصل كاللباب من علم البيان .
وقوله تعالى : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } عِدةٌ منه تعالى بحفظه من لحوق ضرر بروحه الشريفة ، باعث له على الجدَّ فيما أمر به من التبليغ وعدم الاكتراث بعداوتهم وكيدهم : { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } تعليل لعصمته ، أي : لا يهديهم طريق الإساءة إليك ، فما عذرك في مراقبتهم ؟
تنبيهات :
الأول : لاخفاء في أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد بلّغ البلاغ التام ، وقام به أتمّ القيام ، وثبت في الشدائد وهو مطلوب ، وصبر على البأساء والضرّاء وهو مكروب ومحروب ، وقد لقى بمكة من قريش ما يشيب النواصي ، ويهدّ الصياصي . وهو ، مع الضعف ، يصابر صبر المستعلي ، ويثبت ثبات المستولي ، ثم انتصب لجهاد الأعداء وقد أحاطوا بجهاته ، وأحدقوا بجنباته ، وصار بإئثانه في الأعداء محذوراً ، وبالرعب منه منصوراً ، حتى أصبح سراج الدين وهّاجاً ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً .
روى البخاريّ ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها ، قالت لمسروق : من حدثك أنّ محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد كذب ، والله يقول : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } . . . الآية .
وفي " الصحيحين " عنها أيضاً أنها قالت : لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من القرآن لكتم هذه الآية : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } .
وروى البخاري وغيره عن أبي جحيفة قال : قلت لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن ؟ فقال : لا ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ! إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن ، وما في هذه الصحيفة . قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر .
وقال البخاري : قال الزهري : من الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم .
قال ابن كثير : وقد شهدت له صلى الله عليه وسلم أمتُه بإبلاغ الرسالة ، وأداء الأمانة ، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع ، وقد كان هناك من أصحابه نحو من أربعين ألفاً . كما ثبت في " صحيح مسلم " عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ : يا أيها الناس ! إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت . فجعل يرفع رأسه ويرفع يده إلى السماء وينكبها إليهم ويقولون : اللهم ! هل بلغت ؟ . وروى الإمام أحمد عن ابن عباس : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : < يا أيها الناس ! أي : يوم هذا ؟ قالوا يوم حرام . قال : أي : بلد هذا ؟ قالوا بلد حرام ، قال فأي شهر هذا ؟ قالوا شهر حرام . قال : فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا . ثم أعادها مراراً . ثم رفع إصبعه إلى السماء فقال : اللهم ! هل بلَّغت ؟ مراراً ( قال ابن عباس : والله ! إنها لوصية إلى ربه عز وجل ) ثم قال : إلا فليبلغ الشاهدُ الغائب . لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض . . ! > وقد روى البخاريّ نحوه . .
الثاني : تضمن قوله تعالى : { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } معجزة كبرى لرسوله صلى الله عليه وسلم .
قال الإمام الماورديّ في كتابه " أعلام النبوة " في الباب الثامن في معجزاته ، عصمته صلى الله عليه وسلم . ما نصه :
أظهر الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم من أعلام نبوته بَعْدَ ثبوتها بمعجز القرآن ، واستغنائه عما سواه من البرهان ، ما جعله زيادة استبصار يُحجُّ به من قلت فطنته ، ويذعن لها من ضعفت بصيرته ، ليكون إعجاز القرآن مُدرَكاً بالخواطر الثاقبة تفكراً واستدلالاً وإعجاز العيان معلوماً ببداية الحواس احتياطاً واستظهاراً ، فيكون البليد مقهوراً بوهمه وعيانه ، واللبيب مججوباً بفهمه وبيانه ، لأن لكل فريق من الناس طريقاً هي عليهم أقرب ، ولهم أجذب ، فكان ما جمع انقياد الفرق أوضح سبيلاً ، وأعم دليلا . فمن معجزاته عصمته من أعدائه وهم الجم الغفير ، والعدد الكثير ، وهم على أتم حنق عليه ، وأشد طلب لنفسه . وهو بينهم مسترسل قاهر ، ولهم مخالط ومكاثر ، ترمقه أبصارهم شزراً ، وترتد عنه أيديهم ذعراً ، وقد هاجر عنه أصحابه حذراً ، حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة . ثم خرج عنهم . سليماً لم يُكْلَمْ في نفس ولا جسد . وما كان ذلك إلا بعصمة إلهية وعد الله تعالى بها فحققها حيث يقول : { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } فعصمه منهم .
ثم قال الماوردي رحمه الله تعالى : وإن قريشاً اجتمعت في دار الندوة . وكان فيهم النضر بن الحارث بن كنانة ، وكان زعيم القوم . وساعده عبد الله بن الزَّبَعْري وكان شاعر القوم . فحضهم على قتل محمد صلى الله عليه وسلم وقال لهم : الموت خير لكم من الحياة . فقال بعضهم : كيف نصنع ؟ فقال أبو جهل : هل محمد إلا رجل واحد ؟ وهل بنو هاشم إلا قبيلة من قبائل قريش ؟ فليس فيكم من يزهد في الحياة فيقتل محمداً ويريح قومه ؟ وأطرق ملياً . فقالوا : من فعل هذا ساد . فقال أبو جهل : ما محمد بأقوى من رجل منا . وإني أقوم إليه فأشدخ رأسه بحجر . فإن قُتِلتُ أرحت قومي ، وإن بقيت فذاك الذي أوثر . فخرجوا على ذلك . فلما اجتمعوا في الحطيم ، خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : قد جاء . فتقدم من الركن فقام يصلي . فنظروا إليه يطيل الركوع والسجود ، فقال أبو جهل : فإني أقوم فأريحكم منه ، فأخذ مهراساً عظيماً . ودنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد لا يلتفت ولا يهابه ، وهو يراه . فلما دنا منه ارتعد وأرسل الحجر على رجله . فرجع وقد شدخت أصابعه وهو يرتعد ، وقد دوخت أوداجه . ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد ، فقال أبو جهل لأصحابه : خذوني إليكم . فالتزموه وقد غشي عليه ساعة . فلما أفاق قال له أصحابه : ما لذي أصابك ؟ قال لما دنوت منه ، أقبل عليّ من رأسه فحل فاغرٌ فاه . فحمل عليّ أسنانه . فلم أتمالك . وإني أرى محمداً محجوباً . فقال له بعض أصحابه : يا أبا الحكم ! رغبت وأحببت الحياة ورجعت . قال : ما تغرّوني عن نفسي . قال النضر بن الحارث : فإن رجع غداً فأنا له . قالوا له : يا أبا سهم ! لئن فعلت هذا لتسودنّ . فلما كان من الغد اجتمعوا في الحطيم منتظرين رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما أشرف عليهم قاموا بأجمعهم فواثبوه . فأخذ حفنة من تراب وقال : < شاهت الوجوه . وقال : حم لا ينصرون > ، فتفرقوا عنه .
وهذا دفع إلهيّ وثق به من الله تعالى . فصبر عليه حتى وقاه الله ، وكان من أقوى شاهد على صدقه .
( ومن أعلامه ) : أن معمر بن يزيد ، وكان أشجع قومه ، استغاثت به قريش وشَكَوَا إليه أمر رسول اللهَ صلى الله عليه وسلم . وكانت بنو كنانة تصدر عن رأيه وتطيع أمره ، فلما شكوا إليه قال لهم : إني قادم إلى ثلاث وأريحكم منه . وعندي عشرون ألف مُدَجّج فلا أرى هذا الحيّ من بني هاشم يقدر على حربي . وإن سألوني الدية أعطيتهم عشر ديات ، ففي مالي سعة . وكان يتقلد بسيف طوله سبعة أشبار في عرض شبر . وقصته في العرب مشهورة بالشجاعة والبأس . فلبس ، يوم وعده قريشاً ، سلاحه وظاهر بين درعين . فوافقهم بالحطيم ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر يصلي . وقد عرف ذلك فما التفت ولا تزعزع ولا قصر في الصلاة . فقيل له : هذا محمد ساجد . فاهوي إليه ، وقد سل سيفه وأقبل نحوه . فلما دنا منه رمى بسيفه وعاد . فلما صار إلى باب الصفا عثر في درعه فسقط فقام ، وقد أدمى وجهه بالحجارة ، يعدو كأشد العدو . حتى بلغ البطحاء ما يلتفت إلى خلف . فاجتمعوا وغسلوا عن وجهه الدم وقالوا : ما أصابك ؟ قال : ويحكم ! المغرور من غررتموه . قالوا : ما شأنك ؟ قال : ما رأيت كاليوم . دعوني ترجع إلي نفسي . فتركوه ساعة وقالوا : ما أصابك ؟ يا أبا الليث ! قال : إني لما دنوت من محمد ، فأردت أن أهوى بسيفي إليه ، أهوى إليّ من عند رأسه شجاعان أقرعان ينفخان بالنيران ، وتلمع من أبصارهما . فعدوت . فما كنت لأعود في شيء من مساءة محمد .
ومن أعلامه : أن كَلَدة بن أسد ، أبا الأشد ، وكان من القوة بمكان ، خاطر قريشاً يوماً في قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأعظموا له الخطر إن هو كفاهم . فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق يريد المسجد ما بين دار عقيل وعقال . فجاء كَلَدة ومعه المزراق . فرجع المزراق في صدره . فرجع فزعاً . فقالت له قريش : مالك ؟ يا أبا الأشد ! فقال : ويحكم ! ما ترون الفحل خلفي ؟ قالوا : ما نرى شيئاً . قال : ويحكم ! فإني أراه . فلم يزل يعدو حتى بلغ الطائف . فاستهزأت به ثقيف ، فقال : أنا أعذركم ، لو رأيتم ما رأيت لهلكتم .
ومن أعلامه : أن أبا لهب خرج يوماً ، وقد اجتمعت قريش فقالوا له : يا أبا عتبة ! إنك سيدنا وأنت أولى بمحمد منا . وإن أبا طالب هو الحائل بيننا وبينه . ولو قتلته لم ينكر أبو طالب ولا حمزة منك شيئاً . وأنت بريء من دمه فنؤدي نحن الدية وتسود قومك . فقال : فإني أكفيكم ! ففرحوا بذلك ومدحته خطباؤهم . فلما كان في تلك الليلة وكان مشرفاً عليه ، نزل أبو لهب ، وهو يصلي . وتسلقت امرأته أم جميل الحائط ، حتى وقفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ساجد . فصاح أبو لهب فلم يلتفت إليه ، وهما كانا لا ينقلان قدماً ولا يقدران على شيء حتى تفجر الصبح . وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال له أبو لهب : يا محمداً أطلق عنا . فقال : < ما كنت لأطلق عنكما أو تضمنا لي أنكما لا تؤذياني > ، قالا : قد فعلنا . فدعا ربه فرجعا .
ومن أعلامه : أن قريشاً اجتمعوا في الحطيم . فخطبهم عُتْبَةُ بن ربيعة فقال : إن هذا ابن عبد المطلب قد نغص علينا عيشنا وفرّق جماعتنا وبدّد شملنا وعاب ديننا وسفّه أحلامنا وضلل آباءنا . وكان في القوم الوليد بن المغيرة وأبو جهل ابن هشام وشيبة بن ربيعة والنضر بن الحارث ومنبه ونبيه ابنا الحجاج ، وأمية وأبيّ ابنا خلف ، في جماعة من صناديد قريش . فقالوا له : قل ما شئت فإنا نطيعك . قال : سأقوم فأكلمه . فإن هو رجع عن كلامه وعما يدعو إليه . وإلا رأينا فيه رأْيَنا . فقالوا له : شأنك يا أبا عبد شمس ! فقام وتقدم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو جالس وحده . فقال : أنعم صباحاً يا محمد ! قال : < يا عبد شمس إن الله قد أبدلنا بهذا ، السلام ، تحية أهل الجنة > . قال يا ابن أخي ! إني قد جئتك من عند صناديد قريش لأعرض عليك أمورهم . إن أنت قبلتها فلك الحظ فيها ولنا فيها الفسحة ! ثم قال : يا ابن عبد المطلب ! أنا زعيم قريش فيما قالت . قال : < قل > قال : يا ابن عبد المطلب ! إنك دعوت العرب إلى أمر ما يعرفونه فاقبل مني ما أقول لك . قال : < قل > . قال : إن كان ما تدعو إليه تطلب به ملكاً فإنا نملكك علينا من غير تعب ونتوجك ، فارجع عن ذلك . فسكت . ثم قال له : وإن كان ما تدعوا إليه أمراً تريد به امرأة حسناء فنحن نزوجك . فقال : لا قوة إلا بالله ! ثم قال له : وإن كان ما تتكلم به تريد مالاً أعطيناك من الأموال حتى تكون أغنى رجل في قريش . فإن ذلك أهون علينا من تشتت كلمتنا وتفريق جماعتنا . وإن كان ما تدعوا إليه جنوناً داويناك كما تداوي قيسُ بن ثعلبة مجنونهم .
فسكت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد . ! ما تقول ؟ وبم أرجع إلى قريش ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : { حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ } - حتى يبلغ إلى قوله : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } [ فصلت : 1 - 13 ] . قال عتبة : فلما تكلم بهذا الكلام ، فكأن الكعبة مالت حتى خفت أن تمس رأسي من أعجازها . وقام فزعاً يجر رداءه . فرجع إلى قريش وهو ينتفض انتفاض العصفور . وقام النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلي . فقالت قريش : لقد ذهبت من عندنا نشيطاً ورجعت فزعاً مرعوباً فما وراءك ؟ قال : ويحكم ! دعوني . إنه كلمني بكلام لا أدري منه شيئاً . ولقد رعدت عليّ الرعدة حتى خفت على نفسي ، وقلت : الصاعقة قد أخذتني . . فندموا على ذلك .
ومن أعلامه : أنه لما أراد الهجرة ، خرج من مكة ومعه أبو بكر . فدخل غاراً في جبل ثور ليستخفي من قريش . وقد طلبتْه وبذلت لمن جاء به مائة ناقة حمراء ، فأعانه الله تعالى بإخفاء أثره . وأنبت على باب الغار ثمامة ( وهي شجرة صغيرة ) .
وأُلهمت العنكبوت فنسجت على باب الغار نسج سنين في طرفة عين . ولُدِغ أبو بكر هذه الليلة لدغة . فخرّق ثيابه وجعل في الشقوق . وسدّ بعضها بقدمه اتقاءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وأقام فيه ثلاثة أيام ثم خرج منه . فلقيه سُرَاقَة بن مالك بن جعشم . وهو من جملة من توجه لطلبه , فقال له أبو بكر : هذا سُرَاقَة قد قرب . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < اللهمّ ! اكفنا سُرَاقَة > . فأخذت الأرض قوائم فرسه إلى إبطها . فقال سُرَاقَة : يا محمد ! ادع الله أن يطلقني ولك عليّ أن أردّ من جاء يطلبك ، ولا أَعْيَن عليك أبداً ! فقال : < اللهم ! إن كان صادقاً فأطلق عن فرسه > . فأطلق الله عنه . ثم أسلم سُرَاقَة وحسن إسلامه .
هذا ما أورده الماوردي من الأعلام قبل الهجرة ؛ ثم أورد ما وقع بعدها ؛ وسننقلها عن ابن كثير ، فإنه قال في هذه الآية :
ومن عصمة الله لرسوله ، حفظه له من أهل مكة وصناديدها وحسّادها ؛ ومعانديها ومترفيها ، مع شدة العداوة والبغضة ونصب المحاربة له ليلاً ونهاراً ، بما يخلقه الله من الأسباب العظيمة بقدره وحكمته العظيمة . فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب . إذ كان رئيساً مطاعاً كبيراً في قريش . وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا شرعية . ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها .
ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر ، هابوه واحترموه . فلما مات عمه أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيراً . ثم قيض الله له الأنصار فبايعوه على الإسلام ، وعلى أن يتحمل إلى دارهم ، وهي المدينة . فلما صار إليها منعوه من الأحمر والأسود . وكلّما همّ أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوءٍ كاده الله وردّ كيده عليه . كما كاده اليهود بالسحر ، فحماه الله منهم وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواءً لذلك الداء . ولما سّمه اليهود في ذراع الشاة بخيبر ، أعلمه الله به وحماه منه . ولهذا أشباه كثيرة جدّاً يطول ذكرها . فمن ذلك ما ذكره المفسرون عند هذه الآية الكريمة :
فقال ابن جرير : حدثنا الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا أبو معشر حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً اختار له أصحابُه شجرة ظليلة ، فيَقيل تحتها . فأتاه أعرابيّ فاخترط سيفه ثم قال : من يمنعك مني ؟ قال : اللهَ عز وجلَّ . فرُعِدَتْ يد الأعرابيّ وسقط السيف منه . قال : وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه فأنزل الله عز وجل : { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } .
وروى ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أنمار ، نزل ذات الرقاع بأعلى نخل . فبينا هو جالس على رأس بئر قد دّلى رجليه ، فقال الوارث من بني النجار : لأقتلنّ محمداً . فقال له أصحابه : كيف تقتله ؟ قال أقول له أعطني سيفك أشيمه ، فإذا أعطانيه قتلته به . قال : فأتاه فقال : يا محمد ! أعطني سيفك أشيمه . فأعطاه إياه . فرعدت يده حتى سقط السيف من يده . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < حال الله بينك وبين ما تريد > . فأنزل الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } .
قال ابن كثير : وهذا حديث غريب من هذا الوجه . ثم قال : وقصة غورث بن الحارث مشهورة في الصحيح . يريد ما أخرجه الشيخان عن جابر قال : غزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل نجد . فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركتهم القائلة في واد كثير العضاه . فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر . فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة . فعلق بها سيفه ونمنا معه نومة . فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا . وإذا عنده أعرابيّ فقال : < إنّ هذا اخترط عليّ سيفي وأنا نائم . فاستيقظت وهو في يده صلتاً . فقال من يمنعك مني ؟ فقلت الله . ثلاثا . > ولم يعاقبه وجلس .
وفي رواية أخرى قال جابر : كنا مع رسول الله بذات الرقاع . فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فجاء رجل من المشركين ، وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة . فاخترطه فقال : تخافني ؟ فقال لا ! فقال : من يمنعك مني ؟ قال : الله . فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وزاد البخاري في رواية له : إن اسم ذلك الرجل غورث بن الحارث . وروى ابن مردويه عن أبي هريرة قال : كنا إذا صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها . فينزل تحتها . فنزل ذلت يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها . فجاء رجل فأخذه فقال : يا محمد ! من يمنعك مني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله يمنعني منك . ضع السيف . فوضعه . فأنزل الله عز وجل : { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } وكذا رواه ابن حبان . في " صحيحه " .
وروى الإمام أحمد عن جعدة بن خالد بن الصمة قال : < سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ورأى رجلاً سميناً ، فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يومئ إلى بطنه بيده ويقول : لو كان هذا في غير هذا لكان خيراً لك . قال : وأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم برجل فقالوا : هذا أراد أن يقتلك . فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : لم ترع ، لم ترع . ولو أردت ذلك لم يسلطك الله عليّ > .
الثالث : ؟ < كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية يُحْرَسُ ، كما روى الإمام أحمد عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهر ذات ليلة وهي إلى جنبه ، قالت : فقلت ما شأنك يا رسول الله ؟ قال : ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة ! قالت فبينا أنا على ذلك إذ سعت صوت السلاح فقال : من هذا ؟ فقال : أنا سعد بن مالك . فقال : ما جاء بك ؟ قال جئت لأحرسك ، يا رسول الله قال : فسمعت غطيط رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه > . أخرجاه في " الصحيحين " .
وفي لفظ : سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة مقدمة المدينة ، يعني على أثر هجرته بعد دخوله بعائشة ، وكان ذلك في سنة ثنتين منها .
وعن عائشة قالت : < كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس ليلاً حتى نزلت : { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال لهم : أيها الناس ! انصرفوا فقد عصمني الله > . أخرجه الترمذي والحاكم وابن أبي حاتم وابن جرير .
وقد روى ابن جرير عن ابن عباس قال : < كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس . فكان أبو طالب يرسل إليه كل يوم رجلاً من بني هاشم يحرسونه . حتى نزلت عليه هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } . قال : فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه فقال : إن الله قد عصمني من الجن والإنس > . ورواه الطبراني أيضاً . وروى ابن جرير نحوه أيضاً عن جابر .
قال ابن كثير : وهذا حديث غريب وفيه نكارة . فإن هذه الآية مدنية ، بل هي من أواخر ما نزل بها ، وهذا الحديث يقتضي أنها مكية ، والله أعلم ! انتهى .
أقول : بمراجعة ما أسلفنا في " المقدمة " من قاعدة أسباب النزول يرتفع الإشكال ، فتذكر .
الرابع : قال العلامة أبو السعود : إيراد هذه الآية الكريمة في تضاعيف الآيات الواردة في حق أهل الكتاب ، لما أن الكل قوارع يسوء الكفارَ سماعها . ويشق على الرسول صلى الله عليه وسلم مشافهتهم بها ، وخصوصاً ما يتلوها من النص الناعي عليهم كمال ضلالتهم . ولذلك أعيد الأمر فقيل خطاباً للفريقين :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [ 68 ]
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ } أي : من الدين : { حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ } أي : تراعوهما وتحافظوا على ما فيهما من الأمور التي من جملتها دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه .
قال بعض المحققين :
معنى قوله تعالى : { حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ } أي : تعملوا طبق الواجب بأحكامهما ، وتحيوا شرائعهما ، وتطيعوا أوامرهما ، وتنتهوا بنواهيهما . فإن الإقامة هي الإتيان بالعمل على أحسن أوجهه ، كإقامة الصلاة مثلاً . أي : فعلها على الوجه اللائق بها . ولا يدخل في ذلك القصص التي فيهما ولا العقائد ونحوها فإنها ليست عملية . والمراد أن يعملوا بما بقي عندهم من أحكام التوراة والإنجيل على علاته وعلى ما به من نقص وتحريف وزيادة . فإن شرائع هذه الكتب وأوامرها ونواهيها هي أقل أقسامها تحريفاً ، وأكثر التحريف في القصص والأخبار والعقائد وما ماثلها ، وهي لا تدخل في الأمر بالإقامة . ولا شك أن أحكام التوراة والإنجيل وما فيهما من شرائع ومواعظ ونصائح ونحوها ، لا تزال فيهما أشياء كثيرة لا عيب فيها ، ونافعة للبسر وفيها هداية عظمى للناس ، فهي مما يدخل تحت قوله تعالى : { وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ } [ آل عِمْرَان : 3 - 4 ] ، فإذا أقام أهل الكتاب أحكامهما على علاتها كانوا لا شك على شيء يعتد به ويصح أن يسمى ديناً . وإذا لم يقيموها وجروا على خلافهما ، كانوا مجردين من كل شيء يستحق أن يسمى ديناً . وكانوا مشاغبين معاندين ، وبدينهم غير مؤمنين إيماناً كاملاً . وهذا معنى صحيح ، وهو المتبادر من الآية . فأين شيء في هذا المعنى يدل على عدم تحريف التوراة والإنجيل وعلى وجودهما كاملين ، كما يدعي ذلك المكابرون من أهلهما ، وخصوصاً بعد قوله تعالى : { وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } [ المائدة : 13 ] .
ثم قال : ولك أن تقول : معنى قوله تعالى : { لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ } . الحقيقييّن . وذلك يستلزم البحث والتنقيب والجد والاجتهاد في نقد ما عندهم منهما نقداً عقلياً تاريخياً صحيحاً ، حتى يستخلصوا حقهما من باطلهما بقدر الإمكان ، ونتيجة ذلك العناء كله ، أن يكونوا على شيءٍ من الدين الحق ، وهذا أمر لا شبهة فيه . ولو اتبعوا القرآن لأراحو واستراحوا . ولكنهم -كما أخبر تعالى عنهم -لا يزيدهم القرآن إلاَّ طغياناً وكفراً حسداً وعناداً فلا يؤمنون به . ولا يهتم جمهورهم بإصلاح دينهم من المفاسد وتنقيته من الشوائب . فلم يدركوا خير هذا ولا ذاك . فكأن الآية تريهم أنهم إذا لم يتبعوا القرآن يجب عليهم القيام بعبءٍ ثقيل جداً من البحث والتمحيص ، وبعد ذلك يكونون على شيءٍ من الحق لا علَى الحق كله ولو أقاموا التوراة والإنجيل الحقيقيين غاية الإقامة ، فما بالك إذا كان ذلك مستحيلاً لعدم وجودهما على حقيقتهما ؟ فهم ليسوا على شيءٍ مطلقاً . ولا يمكن أن يكونوا عليه . فإن كتبهم قد صارت خلقةً بالية . لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه ، حينما رأى ورقةً من التوراة بيده : ألم آتكم بها بيضاء نقية ؟ والله لو كان موسى حيّاً ما وسعه إلاّ اتباعي . ( فإن قيل ) : وكيف يحثهم الله على العمل بأي شيء من دينهم ، ومنه ما جاء القرآن ناسخاً له ؟ ( قلت ) : لا شك عند كل عاقل أنه خير لأهل الكتاب أن يعملوا بشرائع دينهم الأصلية ، فإنهم حينئذٍ يتجنبون الكذب والتحريف والعناد والأذى والإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل والزنى ، وغير ذلك مما يعلمه الناس . فمراد القرآن على التفسير الأول للآية حثهم -إن أصروا على عدم الإيمان به - على العمل بدينهم على الأقل ليستريح النبيّ وأتباعه من أكثر شرورهم ورذائلهم . ولكن بعد العمل بدينهم لا يكونون على الدين الحق الكامل ؛ بل الذي يفهم من الآية أنهم يكونون على شيء من الدين ، وهو -ولا شك - خير من لا شيء . ولا يفهم أنهم يكونون على الحق كله وعلى الدين الكامل الذي لا غاية أعظم منه ، فإن ذلك لا يكون إلا بالإسلام : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [ آل عِمْرَان : 83 ] . انتهى .
ولا يخفى أنهم إذا أقاموا التوراة والإنجيل ، آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم . لما تتقاضى إقامتُهما الإيمان به . إذ كثر ما جاء فيهما من البشارات به والتنويه باسمه ودينه . فإقامتهما على وجوههما تستدعي الإسلام البتة ، بل هي هو ، والله الموفق . . .
{ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } أي : القرآن المجيد بالإيمان به . وفي التعبير بقوله تعالى : { لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ } من التحقير والتصغير ما لا غاية وراءه . كما تقول : هذا ليس بشيء ! تريد غاية تحقيره وتصغير شأنه . وفي أمثالهم : أقل من لا شيء . أي : لستم على دين يعتد به حتى يسمى شيئاً ، لفساده وبطلانه .
ثم بيّن تعالى غلوّهم في العناد وعدم إفادة التبليغ فقال : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً } . أي : تمادياً : { وَكُفْراً } أي : ثباتاً على الكفر : { فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } أي : فإذا بالغت في تبليغ ما أنزل إليك ، فرأيت مزيد طغيانهم وكفرهم ، فلا تحزن عليهم لغاية خبثهم في ذواتهم ، فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك ، وفي المؤمنين غنى عنهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ 69 ]
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيما يستقبلهم من العذاب : { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } أي : في الآخرة إذا خاف المقصرون وحزنوا على تضييع العمر . .
لطائف :
الأول : ( الصابئون ) رفع على الابتداء . وخبره محذوف . والنية به التأخير عما في حيز ( إن ) من اسمها وخبرها . كأنه قيل : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا . والصائبون كذلك ، وأنشد سيبويه شاهداً له :
~وَإلاَّ فاعلموا أَنَّا وأنتم بُغَاةٌ مَا بَقِينَا في شِقَاقِ
أي : فاعلموا أنا بغاة ، وأنتم كذلك . ثم قال الزمخشري : فإن قلت : ما التقديم والتأخير إلا لفائدة ، فما فائدة التقديم ؟ قلت : فائدة التنبيه على أن الصابئين يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح . فما الظنّ بغيرهم ؟ وذلك أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالاً وأشدّهم غياً ، وما سموا صابئين إلاّ لأنهم صبأوا عن الأديان كلها . أي : خرجوا . كما أن الشاعر قدم قوله ( وَأَنْتُمْ ) تنبيهاً على أن المخاطبين أوغل في الوصف بالبغاة من قومه . مع كونهم أوغل فيه منهم وأثبت قدماً . انتهى .
قال الناصر في " الانتصاف " :
ثمة سؤال ، وهو أن يقال : لو عطف ( الصابئين ) ونصبه - كما قرأ ابن كثير -لأفاد أيضاً دخولهم في جملة المتوب عليهم ، وَلَفُهِم من تقديم ذكرهم على ( النصارى ) ما يفهم من الرفع من أن هؤلاء الصابئين -وهم أوغل الناس في الكفر - يتاب عليهم ، فما الظنّ بالنصارى ؟ ولكان الكلام جملة واحدة بليغاً مختصراً ، والعطف إفراديّ . فلِمَ عدل إلى الرفع وجعل الكلام جملتين ؟ وهو يمتاز بفائدة على النصب والعطف الإفراديّ ؟ ويجاب عن هذا السؤال بأنه لو نصبه وعطفه لم يكن فيه إفهام خصوصية لهذا الصنف . لأن الأصناف كلها معطوف بعضها على بعض عطف المفردات . وهذا الصنف من جملتها ، والخبر عنها واحد . وأما مع الرفع فينقطع عن العطف الإفراديّ وتبقى بقية الأصناف مخصصة بالخبر المعطوف به . ويكون خبر هذا الصنف المنفرد بمعزل . تقديره مثلاً ( والصابئون كذلك ) فجيء كأنه مقيس على بقية الأصناف وملحق بها . وهو بهذه المثابة ، لأنهم لما استقر بعد الأصناف من قبول التوبة ، فكانوا أحقاء بجعلهم تبعاً وفرعاً مشبهين بمن هم أقعد منهم بهذا الخبر ، وفائدة التقديم على الخبر المحذوف من ذكره ، بعد تقضي الكلام وتمامه ، والله أعلم .
الثانية - فإن قلت : إن قوله تعالى : { مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } كيف يقع خبراً عن : { الَّذِينَ آمَنُواْ } أو بدلاً ، وهو يقتضي انقسام المؤمنين إلى مؤمنين وغير مؤمنين ؟
أجيبك بأن المراد بـ : { الَّذِينَ آمَنُواْ } الذي آمنوا باللسان فقط . وهم المنافقون . فالمعنى : الذين آمنوا باللسان ومن معهم ، من أحدث منهم إيماناً خالصاً . أو يؤول : { مَنْ آمَنَ } بمن ثبت على الإيمان . فيصح في حق المؤمنين الخلص . وفي هذا شبه جمع بين الحقيقة والمجاز ، ودفع بأن الثبات على الإيمان ليس غير الإيمان ، بل هو وإحداثه فردان من مطلقه . والوجه الأول . إذ في ضمّ المؤمنين إلى الكفرة إخلال بتكريمهم ، قاله الخفاجيّ .
قال أبو السعود : أما على تقدير كون المراد بـ : { الَّذِينَ آمَنُواْ } مطلق المتدينين بدين الإسلام ، المخلصين منهم والمنافقين فالمراد بـ : { مَنْ آمَنَ } من اتصف منهم بالإيمان الخالص على الإطلاق ، سواء كان ذلك بطريق الثبات والدوام عليه - كما هو شأن المخلصين . أو بطريق إحداثه وإنشائه -كما هو حال من عداهم من المنافقين وسائر الطوائف . وفائدة التعميم للمخلصين المبالغة في ترغيب الباقين في الإيمان ، ببيان أن تأخرهم في الاتصاف به غير مخل بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين الأعلام . انتهى .
الثالثة : قال الرازي : لمّا بيَّن تعالى انتهى أهل الكتاب ليسوا على شيءٍ ما لم يؤمنوا ، بيّن أن هذا الحكم عام في الكل ، وأنه لا يحصل لأحد فضيلة ولا منقبة إلا إذا آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً ، وذلك لأن الإنسان له قوتان : القوة النظرية والقوة العملية . أما كمال القوة النظرية فليس إلا بأن يعرف الحق . وأما كمال القوة العملية فليس إلا بأن يعمل الخير . وأعظم المعارف شرفاً معرفة أشرف الموجودات وهو الله سبحانه وتعالى . وكمال معرفته إنما يحصل بكونه قادراً على الحشر والنشر ، فلا جرم كان أفضل المعارف هو الإيمان بالله واليوم الآخر . وأفضل الخيرات في الأعمال أمران : المواظبة على الأعمال المشعرة بتعظيم المعبود ، والسعي في إيصال النفع إلى الخلق . ثم بين تعالى أن كل من أتى بهذا الإيمان وبهذا العمل ، فإنه يرد يوم القيامة من غير خوف ولا حَزْن . والفائدة في ذكرهما : أن الخوف يتعلق بالمستقبل ، والحزن بالماضي ، فقال : { فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } بسبب ما يشاهدون من أهوال القيامة : { وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } بسبب ما فاتهم من طيّبات الدنيا ، لأنهم وجدوا أموراً أعظم وأشرف وأطيب . ( فإن قيل ) : كيف يمكن خلوّ المكلف ، الذي لا يكون معصوماً ، عن أهوال يوم القيامة ؟ فالجواب من وجهين :
الأول - أنه تعالى شرط ذلك بالعمل الصالح . ولا يكون آتياً بالعمل الصالح إلا إذا كان تاركاً لجميع المعاصي .
والثاني - أنه إذا حصل خوف ، فذلك عارض قليل لا يعتد به . انتهى .
ثم بين تعالى بعضاً آخر من جناياتهم المنادية باستبعاد الإيمان منهم بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } [ 70 ]
{ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ } أي : على الإيمان بالله ورسله : { وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً } ليقفوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم : { كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ } أي : بما يخالف هواهم ويضادّ شهواتهم من الأحكام الحقة . مع أن وضع الرسالة ، الدعوة إلى مخالفة الهوى : { فَرِيقاً } منهم : { كَذَّبُوا } مع ظهور دلائل صدقهم : { وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } بعد التكذيب . سدّاً لدعوتهم إلى ما يخالف أهويتهم .
لطيفتان :
الأولى : قال الزمخشريّ : جواب الشرط محذوف يدل عليه قوله : { فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } كأنه قيل : كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه .
قال الناصر في " الانتصاف " : ومما يدل على حذف الجواب أنه جاء ظاهراً في الآية الأخرى ، وهي توأمة هذه ، قوله تعالى : { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } [ البقرة : 87 ] . فأوقع قوله : { اسْتَكْبَرْتُمْ } جواباً . ثم فسر استكبارهم وصنيعهم بالأنبياء بقتل البعض وتكذيب البعض . فلو قدر الزمخشري ههنا الجواب المحذوف مثل المنطوق به في أخت الآية فقال : وأرسلنا إليهم رسلاً كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم استكبروا ، لكان أولى ، لدلالة مثله عليه .
الثانية : قال الزمخشريّ : فأن قلت : لم جيء بأحد الفعلين ماضياً وبالآخر مضارعاً ؟ قلت : جيء : { يَقْتُلُونَ } على حكاية الحال الماضية استفظاعاً للقتل واستحضاراً لتلك الحال الشنيعة ، للتعجيب منها .
قال في " الانتصاف " : أو يكون حالاً على حقيقته . لأنهم داروا حول قتل محمد صلى الله عليه وسلم . وقد قيل هذا الوجه في أخت هذه الآية في ( البقرة ) ؛ وقد مضى وجه اقتضاء صيغة الفعل المضارع لاستحضاره دون الماضي ، وتمثيله بقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [ الحج : 63 ] . فعدلَ عن ( فأصبحت ) إلى ( فتصبح ) تصويراً للحال واستحضاراً لها في ذهن السامع ، ومنه :
~بأني قد لقيت الغول تًهْويٍ بِسَهْبٍ كالصحيفة صَحْصَحَانِ
~فأضربها بلا دَهَشٍ فخرّت صريعاً لليدين ولِلجرَانِ
وأمثاله كثيرة . انتهى .
قال الخفاجيّ : اقتصر العلامة هنا على حكاية حال أسلافهم ، لقرينة ضمائر الغيبة ، وترك تلك الآية - يعني آية البقرة - على الاحتمالين لقرينة ضمائر المخاطبين . ليكون توبيخاً وتعبيراً للحاضرين بفعل آبائهم . ولذا عقبت هذه الآية بقصة عيسى عليه السلام . فتأمل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [ 71 ]
{ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي : ظن بنو إسرائيل أنهم لا يصيبهم من الله عذاب بقتل الأنبياء وتكذيب الرسل : { فَعَمُوا وَصَمُّوا } عطف على ( حسبوا ) ، و ( الفاء ) للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها ؛ أي : أمنوا بأس الله تعالى ، فتمادوا في فنون الغيّ والفساد ، وعموا عن الدين ، بعد ما هداهم الرسل إلى معالمه الظاهرة ، وصمّوا عن استماع الحق الذي ألْقَوْهُ عليهم ، ولذلك فعلوا ما فعلوا : { ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } أي : مما كانوا فيه .
قال العلامة أبو السعود : لم يسند التوبة إليهم كسائر أحوالهم من الحسبان والعمى والصمم ، تجافياً عن التصريح بنسبة الخير إليهم . وإنما أشير إليها في ضمن بيان توبته تعالى عليهم ، تمهيداً لبيان نقضهم إياهم بقوله تعالى :
{ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا } كرة أخرى : { كَثِيرٌ مِنْهُمْ } بدل من الضمير في الفعلين أو خبر محذوف ، أي : أولئك كثير منهم : { وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي : بما عملوا ، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضاراً لصورتها الفظيعة ورعاية للفواصل . والجملة تذييل أشير به إلى بطلان حسبانهم المذكور . ووقوع العذاب من حيث لم يحتسبوا ، إشارة إجمالية ، اكتفي بها تعويلاً على ما فصل نوع تفصيل في سورة ( بني إسرائيل ) أفاده أبو السعود . وهو مأخوذ من كلام القفال ، كما سيأتي :
تنبيه :
في هذه الآية إشارة إلى ما اكتنف بني إسرائيل من الفتنة وعذاب الله الذي حاق بهم قبل عيسى وبعده . وذلك أن أنبياءهم قبل عيسى كانوا يوبخون رؤسائهم الأشرار وشعبهم على خطاياهم . ولا سيما في عبادتهم الأوثان . وينحصوهم أن يرجعوا إلى الله . وينذرونهم بعقابه تعالى الشديد ودمارهم إن لم يتوبوا . كما أنبأهم إِرْميا عليه السلام بخراب بلدهم ، وقضائه تعالى الهائل عليهم ، إن أصرّوا على طغيانهم . فما استمعوا له . حتى روي أنه ختم له بالشهادة . إذ رجمته اليهود بمصرّ عتوّاً واستكباراً . ثم سلط الله عليهم بختنصر , ملك بابل ، وسبى شعبهم وهدمت جنودهم مدينتهم بيت المقدس وهيكلها . وصار تلال خرابٍ . وذلك لاستئصال كفرهم وشرورهم , وتطهير هيكلهم من نجاسة أوثانهم . فحلّ عليهم من البابلية الشقاء والويل . وأُخذوا أسرى إلى ما وراء الفرات . ولم يترك منهم إلاَّ الفقراء فقط , . وبذلك انتهى ملكهم , وكان ذلك قبل ولادة عيسى عليه السلام بنحو خمسمائة وثمان وثمانون سنة . ثم تاب الله عليهم ورحمهم من سبيهم ، وأعادهم برحمته إلى مدينتهم بيت المقدس . بعد أن أقاموا في بابل سبعين سنة . وابتدأوا ببناء هيكلهم ثانية . وأرجعوا العبادة إليه . وقام حزقيال عليه السلام بوعظهم وتهذيبهم ودعوتهم إلى التوبة وتذكيرهم بما مضى ليعتبروا . وهكذا كل نبيِّ فيهم ، لم يزل ينذرهم ويدعوهم إلى الله إلى أن بعث الله عيسى عليه السلام . فعموا عن الاهتداء به وصمّوا عن وعظه ، وكان ما كان من همّهم بقتله . فدمرهم الله بعد ذلك وأباد مملكتهم . وطُردوا من أرضهم بعد رفع عيسى عليه السلام . بنحو أربعين سنة . وأخذ الرومانيون مدينتهم وهدموها مع الهيكل . وحلت عليهم نقمة الله فتفرقوا شذر مذر .
هذا ، وما قيل بأن قوله تعالى : { فَعَمُواْ وَصَمُّواْ } إشارة إلى عبادتهم العجل - فإنه بعيد . لأنها ، وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمى والصمم ، لكنها في عصر موسى عليه السلام . ولا تعلّق لها بما حكي عنهم مما فعلوا بالرسل الذين جاؤوهم بعده عليه السلام بإعصار . وكذا ما قيل بأن قوله تعالى : { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ } إشارة إلى طلبهم الرؤية - فبعيد أيضاً ، لما ذكرنا . وفنون الجنايات الصادرة عنهم لا تكاد تتناهى . خلا أنّ انحصار ما حكي عنهم ههنا في المرتين ، وترتبه على حكاية ما فعلوا بالرسل عليهم السلام ، يقضي بأن المراد ما ذكرناه . والله عنده علم الكتاب . كذا أفاده أبو السعود .
ونحن نوافقه على ما رآه . بيد أنّ ما سقناه في التنبيه أظهر في ما جرياتهم ، وأشد مطابقةً لما في تواريخهم ، مما ساقه هنا . فتثبت .
ويرحم الله الإمام القفال حيث قال : ذكر الله تعالى في سورة ( بني إسرائيل ) ما يجوز أن يكون تفسيراً لهذه الآية فقال : { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } [ الإسراء : 4 - 6 ] . فهذا في معنى ( فعموا وصموّا كثيرا منهم ) ثم قال : { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً } . فهذا في معنى قوله : { ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ } انتهى . ثم بيّن تعالى كفر النصارى وما هم عليه من فساد الاعتقاد المباين لأصل دعوة عيسى عليه السلام ، من التوحيد الخالص ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } [ 72 ]
{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } .
قال الرازي : هذا قول اليعقوبية منهم . يقولون : إن مريم ولدت إلهاً . قال : ولعلّ معنى هذا المذهب أنهم يقولون إن الله تعالى حلّ في ذات عيسى واتّحد بها ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً .
وقد سبق الكلام على مثل هذا الآية في هذه السورة مفصّلاً ، فتذكرّ .
ثم بيّن تعالى أنهم صموّا عن مقالات عيسى الداعية إلى التوحيد ، كما عَمْوا عما فيه من أمارات الحدوث ، بقوله سبحانه : { وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ } ولم يقل اعبدوني . ثم صرّح بقوله : { رَبِّي وَرَبَّكُمْ } قلعاً لمادة توهم الاتحاد : { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } كيف والشرك أعظم وجوه الظلم : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } أي : ما لهم من أحد ينصرهم بإنقاذهم من النار ، إما بطريق المبالغة أو بطريق الشفاعة . والجمع لمراعاة المقابلة بـ ( الظالمين ) ؛ و ( اللام ) أما للعهد ، والجمع باعتبار معنى : { مَنْ } ، كما أن الإفراد في الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها . وما للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أوليّاً . ووضعه على الأول موضع الضمير ، للتسجيل عليهم بأنهم ظلموا بالإشراك وعدلوا عن طريق الحقّ . والجملة تذييل مقرِّر لما قبله . وهو إمّا من تمام كلام عيسى عليه السلام ، وإمَّا وارد من جهته تعالى ، تأكيداً لمقالته عليه السلام ، وتقريراً لمضمونها . أفاده أبو السعود . ثم بيّن تعالى كفر طائفة أخرى منهم بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 73 ]
{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ } أي : أحد ثلاثة آلهةٍ ، بمعنى واحد منها ، وهم الله ومريم وعيسى .
وقال بعضهم : كانت فرقة منهم تسمى ( كولى ري دينس ) تقول : الآلهة ثلاثة : الأب والابن ومريم .
وجاء في كتاب " علم اليقين " : أن فرقة منهم تسمى ( المَرْيَميِّين ) قال : يعتقدون أن المريم والمسيح إلهان . قال : وكذلك البربرانيّون وغيرهم . انتهى .
وأسلفنا عن ابن إسحاق أنّ نصارى نجران ، منهم من قال بهذا أيضاً .
أو المعنى : أحد ثلاثة أقانيم كما اشتهر عنهم . أي : هو جوهر واحد ، ثلاثة أقانيم : أب وابن وروح القدس . وزعموا ، أن الأب إله والابن إله والروح إله والكلّ إله واحد . كما قدمنا عنهم في قوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ } .
قال الرازي رحمه الله : واعلم أن هذا معلوم البطلان ببديهة العقل . فإن الثلاثة لا تكون واحداً ، والواحد لا يكون ثلاثة . ولا يرى في الدنيا مقالة أشدُّ فساداً وأظهر بطلاناً من مقالة النصارى . انتهى .
وقد صنفت عدة مصنفات في تزييف معتقدهم هذا ، وهي شهيرة متداولة ، والحمد لله .
لطيفة :
اتفق النحاة واللغويون على أن معنى قولهم ( ثالث ثلاثة ورابع أربعة . . ) ونحو ذلك أحد هذه الأعداد مطلقاً . لا الوصف بالثالث والرابع .
وفي " التوضيح وشرحه " : لك في اسم الفاعل المصوغ من لفظ اثنين وعشرة وما بينهما أن تستعمله على سبعة أوجه :
أحدها - أن تستعمله مفرداً عن الإضافة ، ليفيد الاتصاف بمعناه . فتقول : ثالث ورابع . ومعناه حينئذٍ واحد موصوف بهذه الصفة وهي كونه ثالثاً ورابعاً .
الوجه الثاني : أن تستعمله مع أصله الذي صيغ هو منه ، ليفيد أن الموصوف به بعض تلك العدة المعينة لا غير . فتقول : خامس خمسة أي : واحد من خمسة لا زائد عليها ، ويجب حينئذ إضافة إلى أصله . كما يجب إضافة البعض إلى كله . كـ : يد زيد ، قال تعالى : { إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْن } [ التوبة : 40 ] ، وقال تعالى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ } . وزعم الأخفش وقطرب والكسائي وثعلب أنه يجوز إضافة الأول إلى الثاني ، ونصبه إياه ، فعلى هذا يجوز ثالث ثلاثةٍ بجرّ ( ثلاثة ) ونصبها . كما يجوز في ( ضارب زيد ) .
الوجه الثالث - أن تستعمله مع ما دون أصله الذي صيغ منه بمرتبة واحدة ، ليفيد معنى التصيير ، فتقول : هذا رابع ثلاثة بنفسه أربعة ، قال تعالى : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] . أي : إلا هو مصيّرهم أربعة ومصيرهم ستة . ويجوز حينئذٍ إضافته وإعماله ، كما يجوز الوجهان في جاعل ومصير ونحوهما .
وانظر تتمة الأوجه .
وبما ذكرناه يعلم ردّ ما ذهب إليه الجامي في " شرح الكافية " من اعتبار الصفة في نحو ( ثالث ثالثة ) حيث قال في شرح قول ابن الحاجب : { ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } : أي : أحدها . لكن لا مطلقاً بل باعتبار وقوعه في المرتبة الثالثة . قال : وإلاَّ يلزم جواز إرادة الواحدِ الأولَ من عاشر العشرة وذلك مستبعد جداً . انتهى .
فكتب عليه بعض المحققين ما نصّه : الظاهر من عبارة ( التوضيح ) ومن كلام المصنف أنه لا يعتبر الوقوع في المرتبة الثانية أو الثالثة وهكذا . . إذْ يبعد في الآيتين كون المراد بـ ( ثَانِي اثْنَيْنَ وَثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ) كونه في المرتبة الثانية أو الثالثة بل المراد أنه بعض تلك العدّة ، بلا نظر لكونه في المرتبة الثانية والثالثة . إلاَّ أن يكون هذا باعتبار الوضع ، وإن كان الاستعمال بخلافه . ولذا كتب العلامة عبد الحكيم على قوله ( وذلك مستبعدٌ جدّاً ) أي : عند العقل ، وإلاَّ فالاستعمال بخلافه . انتهى .
{ وَمَا مِنْ إِلَهٍ } في نصّ الإنجيل والتوراة وجميع الكتب السماوية ودلائل العقل : { إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ } لا يتعدد أفراداً ولا أجزاءً : { وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ } من هذا الافتراء والكذب ، بعد ظهور الدلالة القطعية ، متمسكين بمتشابهات الإنجيل التي أوضحتها محكماتُهُ : { لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الآخرة . من عذاب الحريق والأغلال والنكال . قال الزمخشري : ولم يقل ( ليمسنّهم ) لأن في إقامة الظاهر مقام المضمر فائدة . وهي تكرير الشهادة عليهم بالكفر في قوله : { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ } وفي البيان فائدة أخرى وهي الإعلام في تفسير : { الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ } أنهم بمكان من الكفر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 74 ]
{ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ } بالتوحيد والتنزيه عمّا نسبوه إليه من الاتحاد والحلول ، فيرجعوا عن التمسك بالمتشابهات إلى القطعيات ، فالاستفهام لإنكار الواقع واستبعاده ، فيه تعجيب من إصرارهم . ومدار الإنكار والتعجيب عدم الانتهاء والتوبة معاً . أو معناه : ألا يتوبون - بعد هذه الشهادة المكررة عليهم بالكفر وهذا الوعيد الشديد - مما هم عليه . فمدارهما عدم التوبة عقب تحقق ما يوجبها من سماع تلك القوارع الهائلة .
قال ابن كثير : هذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه . مع هذا الذنب العظيم ، وهذا الافتراء والكذب والإفك ، يدعوهم إلى التوبة والمغفرة . فكل من تاب عليه . كما قال : { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فيغفر لهؤلاء إن تابوا ، ولغيرهم .
قال أبو السعود : الجملة حالية من فاعل : { يَسْتَغْفِرُونَهُ } مؤكدة للإنكار والتعجيب من إصرارهم على الكفر وعدم مسارعتهم إلى الاستغفار . أي : والحال أنه تعالى مبالغ في المغفرة . فيغفر لهم عند استغفارهم ، ويمنحهم من فضله .
ثم أشار تعالى إلى بطلان التمسك بمعجزات عيسى وكرامات أمّه على إلهيتهما . بأنّ غايتهما الدلالة على نبوّته وولايتها ، استنزالاً لهم عن الإصرار على ما تقوّلوا عليهما ، وإرشاداً لهم إلى التوبة والاستغفار فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } [ 75 ]
{ مَا الْمَسِيحُ } أي : المعلوم حدوثه من كونه : { ابْنُ مَرْيَمَ } بالخوارق الظاهرة على يديه : { إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ } أي : مضت : { مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ } أولو الخوارق الباهرة . فله أسوة أمثاله . كما قال تعالى : { إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } [ الزخرف : 59 ] . أي : ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا قبله ، جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها . إن أبرأ الله الأبرص وأحيا الموتى على يده ، فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى وفلق بها البحر على يد موسى . وهو أعجب . وإن خَلَقَهُ من غير أب ، فقد خلق آدم من غير أب ولا أم . وهو أغرب منه ، وفي الآية وجه آخر : أي : مضت من قبله الرسل ، فهو يمضي مثلهم . فالجملة - على كل - منبئة عن اتصافه بما ينافي الألوهية : { وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } أي : مبالغة في الصدق . ووقع اسم الصديقة عليها لقوله تعالى : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } . والوصف بذلك مشعر بالإغراق في العبودية والقيام بمراسمها . فمن أين لهم أن يصفوها بما يباين وصفها ؟
تنبيه :
قال ابن كثير :
دلت الآية على مريم ليست بنبيّه . كما زعمه ابن حزم وغيره - ممن ذهب إلى نبوّة سارة أم إسحاق ونبوّة أم موسى ونبوّة أم عيسى - استدلالاً منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم وبقوله : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ } . وهذا معنى النبوّة . والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبياً إلاَّ من الرجال . قال الله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [ يوسف : 109 ] . وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعريّ ، رحمه الله ، الإجماع على ذلك . انتهى .
فائدة ( في حقيقة الصديق والصدق ) :
قال العارف القاشاني قدس الله سرّه في " لطائف الأعلام " :
الصدّيق الكثير الصدق . كما يقال : سكّيت وصرّيع إذا كثر منه ذلك .
الصديق من الناس من كان كاملاً في تصديقه لما جاءت به رسل الله علماً وعملاً ، قولاً وفعلاً وليس يعلو على مقام الصديقية إلاَّ مقام النبوّة . بحيث إن من تخطى مقام الصديقية حصل في مقام النبوة . قال الله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } [ مريم : 58 ] . الآية . فلم يجعل تعالى بين مرتبتي النبوة والصديقية مرتبة أخرى تتخللهما . ثم بيّن قدس سره صدق الأقوال ، وصدق الأفعال ، وصدق الأحوال .
فالأول : هو موافقة الضمير للنطق . قال الجنيد : حقيقة الصدق أن تصدق في مواطنٍ لا ينجيك فيه إلاّ الكذب . و صدق الأفعال : هو الوفاء لله بالعمل من غير مداهنة . قال المحاسبيّ : الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قَدْرٍ له في قلوب الخلق من أجل إصلاح قلبه . ولا يحب اطّلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله . ولا يكره أن يطلع الناس على السيء من حاله . لأن كراهته لذلك دليل على أنه يجب الزيادة عندهم . وليس هذا من أخلاق الصدّيقين .
و صدق الأحوال : اجتماع الهم على الحق ، بحيث لا يختلج في القلب بفرقة عن الحق بوجه .
وقوله تعالى : { كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ } استئناف مبين لما قبله من أنهما كسائر البشر في الافتقار إلى الغذاء . وفيه تبعيد عما نسب إليهما .
قال الزمخشري : لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام ، وما يتبعه من الهضم والنفض ، لم يكن إلا جسماً مركباً من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة ، مع شهوة وقَرَمٍ وغير ذلك . . . مما يدل على أنه مصنوع مؤلَّف مدبّر كغيره من الأجسام .
لطيفة :
إنما أخر في الاستدلال على بطلان مذهب النصارى ، حاجتهما للطعام عما قبله من مساواتهما للرسل عليهم السلام ، ترقياً في باب الاستدلال من الجليّ للأجلى ، على ما هو القاعدة في سوق البراهين لإلزام الخصم ، حتى إذا لم يسلّم في الجليّ لغموضه عليه ، يورد له الأجلى تعريضاً بغباوته . فيضطر للتسليم ، إن لم يكن معانداً ولا مكابراً .
هذا ما ظهر لي في سر التقديم والتأخير .
وأما قول الخفاجيّ - ملخصاً كلام البيضاويّ -في سر ذلك : أنه تعالى بين أولاً أقصى مراتب كمالهما ، وأنه لا يقتضي الألوهية ، وقدمه لئلا يواجههما بذكر نقائص البشرية الموجبة لبطلان ما ادعوا فيهما ، على حد قوله تعالى : { عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } . حيث قدم العفو على المعاتبة له صلى الله عليه وسلم . انتهى - فبعيدٌ .
وقياسه على الآية قياس مع الفارق لاختلاف المقامين . فالأظهر ما ذكرناه ، والله أعلم بأسرار كتابه .
{ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ } أي : على توحيد الله ، وبطلان الاتحاد وإلهية عيسى وأمه ، وبطلان شبهاتهم ! : { ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي : كيف يصرفون عن التأمل فيها إلى الإصرار على التمسك بالشبهات الظاهرة البطلان . !
قال أبو السعود : وتكرير الأمر بالنظر ، للمبالغة في التعجيب من حال الذين يدعون لهما الربوبية ، ولا يرعوون عن ذلك ، بعد ما بين لهم حقيقة حالهما بياناً لا يحوم حوله شائبة ريب ، وثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت . أي : إن بياننا للآيات أمر بديع في بابه ، بالغ لأقاصي الغايات القاصية من التحقيق والإيضاح . وإعراضهم عنها - مع انتفاء ما يصححه بالمرة ، وتعاضد ما يوجب قبولها - أعجب وأبدع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ 76 ]
{ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً } هذا دليل آخر على فساد قول النصارى ، والموصول كناية عن عيسى وأمه ، أي : لا يستطيعان أن يضراكم بمثل ما يضركم به الله من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال . ولا أن ينفعاكم بمثل ما ينفعكم به من صحة البدن والسعة والخصب . ولأن كل ما يستطيعه البشر من المضار والمنافع ، فبإقدار الله وتمكينه ، فكأنهما لا يملكان منه شيئاً . وإيثار ( ما ) على ( من ) لتحقيق ما هو المراد من كونهما بمعزل ممن الألوهية رأساً . ببيان انتظامهما في سلك الأشياء التي لا قدرة لها على شيء أصلاً ؛ أي : وصفة الرب أن يكون قادراً على كل شيء لا يخرج مقدور عن قدرته . وإنما قدم ( الضر ) لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع { وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } بالأقوال والعقائد . فيجازي عليها إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، فهو وعد ووعيد .
تنبيهات :
الأول . جعل ابن كثير الخطاب في قوله تعالى : { أَتَعْبُدُونَ } عامّاً للنصارى وغيرهم ، أي : قل لهؤلاء العابدين غيرَ الله من سائر فرق بني آدم .
وفي " تنوير المقباس " أن ( ما ) عبارة عن الأصنام خاصة .
وكلاهما مما يأباه السباق والسياق .
الثاني : قال في " فتح البيان " : إذا كان هذا في حق عيسى النبيّ ، فما ظنك بوليّ من الأولياء ؟ فإنه أولى بذلك .
الثالث : جعل أكثر المفسرين ( ما ) كناية عن عيسى عليه السلام فقط ، والمقام أنها كناية عنه وعن أمه عليهما السلام ، كما أوضحه المهايميّ واعتمدناه .
الرابع : دلت الآية على جواز الحجاج في الدين ؛ فإن كان مع الكفار وأهل البدع ، فذلك ظاهر الجواز ؛ وإن كان مع المؤمن جاز بشرط أن يقصد إرشاده إلى الحق ، لا إن قصد العلوّ فمحظور . وحُكي عن الشافعيّ أنه كان إذا جادل أحداً قال : اللهم ! ألق على لسانه . أفاده بعض الزيدية .
ولما أقام تعالى الأدلة القاهرة على بطلان ما تقوله النصارى ، أرشدهم إلى اتباع الحق ومجانبة الغلوّ الباطل ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ } [ 77 ]
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ } أي : الذي هو ميزان العدل : { لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ } أي : لا تتجاوزوا الحد في تعظيم عيسى وأمه ، وترفعوهما عن رتبتهما إلى ما تقوّلتم عليهما من العظيمة ، فأدخلتم في دينكم اعتقاداً غير الحق بلا دليل عليه ، مع تظاهر الأدلة على خلافه . ونصب ( غير ) أنه صفة لمصدر محذوف ، أي : غلوّاً غير الحق . يعني غلوّاً باطلا . أو حال من ضمير الفاعل أي : مجاوزين الحق . و ( الغلو ) نقيض التقصير ، ومعناه الخروج عن الحد ؛ وذلك لأن الحق بين طرفي الإفراط والتفريط ، ودين الله بين الغلو والتقصير .
تنبيه :
دلت الآية على أن الغلوّ في الدين غلوَّانِ : ( غلوّ حق ) كأن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهد في تحصيل حججه ؛ و ( غلوّ باطل ) وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه .
قال بعض الزيدية : دلت الآية على أن الغلوّ في الدين لا يجوز ، وهو المجاوزة للحق إلى الباطل . ومن هذا ، الغلوُّ في الطهارة مع كثير من الناس ، بالزيادة على ما ورد به الشرع لغير موجب . انتهى .
ومن هذا القبيل الغلوّ في تعظيم الصالحين وقبورهم حتى يصيرّها كالأوثان التي كانت تعبد .
وروى الإمام أحمد والنسائيّ وابن ماجة والحاكم عن ابن عباس ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < إيّاكم والغلوّ في الدين ، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلوّ في الدين > .
وعن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد ، فقولوا عبد الله ورسوله > . أخرجاه .
ولمسلم عن ابن مسعود ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < هلك المتنطّعون > ! قالها ثلاثاً . ثم نهاهم تعالى عن اتباع سلفهم وأئمتهم الضالين بقوله سبحانه :
{ وَلا تَتَّبِعُوا } قال المهايمي : أي : تقليداً : { أَهْوَاءَ قَوْمٍ } تمسّكوا بخوارقهما على إلهيتهما . فإن نظروا إلى سبقهم فغايتهم أنهم : { قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ } إلى كثرة أتباعهم فغايتهم أنهم : { أَضَلُّوا كَثِيراً } ممن شايعهم على التثليث : { وَ } إلى تمسّكهم بمتشابهات الإنجيل ، فغايتهم أنهم : { ضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } إذْ لم يردّوها إلى المحكمات .
تنبيهات :
الأول : قال الرازي :
الهواء -ههنا - المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجّة . قال الشعبي : ما ذكر الله لفظ الهوى في القرآن إلاّ ذمّه . قال : { وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه } [ ص : 26 ] { وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى } [ طه : 16 ] { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } [ االنجم : 3 ] { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } [ الفرقان : 43 ] . قال أبو عبيدة : لم نجد الهوى يوضع إلاّ في موضع الشر . لا يقال فلان يهوى الخير . إنما يقال : يريد الخير ويحبه . وقال بعضهم : الهوى إله يعبد من دون الله . وقيل : سميّ الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار .
وأنشد في ذم الهوى :
~إنّ الهوى لهو الهَوانُ بعينه فإذا هويتَ فقد لقيتَ هواناً
وقال رجل لابن عباس : الحمد لله الذي جعل هواي على هواك ، فقال ابن عباس : كل الهوى ضلالة .
الثاني : قال الرازي أيضاً : إنه تعالى وصفهم بثلاث درجات في الضلال : فبيّن أنهم كانوا ضالين من قبل ، ثم ذكر أنهم كانوا مضلّين لغيرهم ، ثم ذكر أنهم استمرّوا على تلك الحالة حتى إنهم الآن ضالون كما كانوا . ولا نجد حالة أقرب إلى البعد من الله والقرب من عقاب الله تعالى ، من هذه الحالة . نعوذ بالله منها . ويحتمل أن يكون المراد أنهم ضلوا وأضلوا ثم ضلوا بسبب اعتقادهم ، في ذلك الإضلال ، أنه إرشاد إلى الحقّ . ويحتمل أن يكون المراد بالضلال عن الدين ، وبالضلال عن طريق الجنة . انتهى .
وهذه الوجوه - مع ما أسلفناه عن المهايميّ - كلّها مما يصح إرادتها من الآية لتصادقها جميعاً عليهم .
الثالث : دلت الآية على أن ما لهؤلاء الكفرة من الأباطيل - مع مخالفتها للعقول وزاحمتها للأصول - لا مستند ولا معول لهم فيها غير التقليد لأسلافهم الضالين ، الذين أحدثوا القول بالتثليث بعد نحو ثلاثمائة سنة من رفع المسيح عليه السلام . وقرروه في تعاليمهم بعد جدال واضطراب . وتمّسكوا في ذلك ، بظواهر الألفاظ التي لا يحيطون بها علماً ، مما لا أصل له في شرع الإنجيل ، ولا مأخوذ من قول المسيح ولا من أقوال حواريّيه . وهو مع ذلك مضطرب متناقض متهافت ، يكذب بعضه بعضاً ، ويعارضه ويناقضه ، كما تبيّن من الكتب المصنفة في الردّ عليهم .
الرابع : جاء في " تنوير المقباس " :
إن المراد بـ ( أهل الكتاب ) هنا : نصارى نجران الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبقوله : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ } العاقب والسيد . والأول - كما قال ابن إسحاق - أمير القوم وذا رأيهم . والثاني صاحب رحلهم ومجتمعهم .
والأظهر أن المعني بـ ( أهل الكتاب ) عموم النصارى . والمذكورون يدخلون فيه دخولاً أولياً .
الخامس : ذكر كثير من المفسّرين : أن المراد بـ ( أهل الكتاب ) هنا : اليهود والنصارى . وأن كليهما غلا في عيسى عليه السلام : أما غلوّ اليهود فالتقصير في حقه حتى نسبوه إلى غير رشدة . وأما غلو النصارى فمعلوم . وأن الخطاب في قوله تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ } لليهود والنصارى الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم . نهوا عن اتباع أسلافهم فيما ابتدعوه من الضلالة بأهوائهم . انتهى .
وظاهر أنّ ما نسب للفريقين - من الغلوّ والابتداع - مسلّم . بيد أن الأقرب للسباق الداحض لشبهات النصارى ، أن تكون هذه الآية فيهم زجراً لهم عمّا سلكوه ، إثر إبطاله بالبراهين الدامغة . على أن الغلوّ ألصق بالنصارى منه باليهود ، كما لا يخفى . والله أعلم .
ثم أخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل فيما أنزله على داود وعيسى عليهما السلام . بسبب عصيانهم وما عدّد من كبائرهم . فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } [ 78 ]
{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ } أي : لعنهم الله عز وجلّ : { عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } أي : لسانيهما . وأفرد لعدم اللبس ، إن أريد بالسان الجارحة . وقيل : المراد به الكلام وما نزل عليهما . كذا في " العناية " .
{ ذَلِكَ } أي : لعنهم الهائل : { بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } بقتل الأنبياء واستحلال المعاصي .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ 79 ]
{ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ } أي : لا ينهى بعضهم بعضاً عن ارتكاب المآثم والمحارم . ثم ذمَّهم على ذلك ليحذر من ارتكاب مثل الذي ارتكبوه فقال : { لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } مؤكداً بلام القسم . تعجيباً من سوء فعلهم ، كيف وقد أدّاهم إلى ما شرح من اللعن الكبير .
تنبيهات :
الأول : دلت الآية على جواز لعنهم .
الثاني : دلت الآية أيضاً على المنع من الذرائع التي تبطل مقاصد الشرع . لم رواه أكثر المفسرين ، أن الذين لعنهم داود عليه السلام أهل أيلة الذين اعتدوا في السبت واصطادوا الحيتان فيه . وستأتي قصتهم في ( الأعراف ) .
الثالث : دلت أيضاً على وجوب النهي عن المنكر .
قال الحاكم : وتدل على أن ترك النهي من الكبائر .
الرابع : روى الإمام أحمد في معنى الآية عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما وقعت بنوا إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا ، فجالسوهم في مجالسهم ، أو في أسواقهم ، وواكلوهم وشاربوهم ، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم { ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس فقال : < لا ، والذي نفسي بيده ! حتى تَأْطِرُوهم على الحق أطراً > . أي : تعطفوهم عليه . ورواه الترمذي وقال : حسن غريب .
وأخرجه أبو داود عنه فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا ! اتق اللهَ ، ودَعْ ما تصنع ، فإنه لا يحل لك ثم ، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده . فلما فعلوا ذلك ، ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } -إلى قوله - : { فَاسِقُونَ } . ثم قال : كلا والله ! لتأمرن بالمعروف . ولتنهونّ عن المنكر ، ولتأخذن على يد الظالم ، ولتأطِرنّه على الحق أطراً ، أو تقصرنَّه على الحق قصراً > .
زاد في رواية : أو ليضربنّ الله قلوب بعضكم ببعض ، ثم يلعنكم كما لعنهم .
وكذا رواه الترمذي وحسّنه . وابن ماجة .
والأحاديث في ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) كثيرة ، ومما يناسب منها هذا المقام :
ما رواه الإمام أحمد والترمذيّ عن حذيفة بن اليمان : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < والذي نفسي بيده ! لتأمرنّ بالمعروف ولتنهوُنّ عن المنكر ، أو ليُوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ، ثم لَتَدْعُنّه فلا يستجيب لكم > .
وفي " الصحيحين " عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من رأى منكم منكراً فليغيّرهُ بيده . فإن لم يستطع فبلسانه . فإن لم يستطع فبقلبه . وذلك أضعف الإيمان > .
وروى الإمام أحمد عن عديّ بن عَميرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < إنَّ الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم . وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه . فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة > .
وروى ابن ماجة عن أبي سعيد الخدريّ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < إن الله لَيَسْأَل العبد يوم القيامة حتى يقول : ما منعك إذْ رأيت المنكر أن تنكره ؟ فإذا لقن الله عبداً حجته قال : يا ربّ ! رجوتك وفرقت الناس > .
قال الحافظ ابن كثير : تفرّد به ابن ماجة . وإسناده لا بأس به .
وروى الإمام أحمد والترمذيّ عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه . قيل : وكيف يذل نفسه ؟ قال : يتعرض من البلاء ما لا يطيق > .
قال الترمذيّ : حسن غريب .
وروى ابن ماجة عن أنس بن مالك قال : قيل : يا رسول الله ! متى نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ قال : < إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم . قلنا : يا رسول الله ! وما ظهر في الأمم قبلنا ؟ قال : الملك في صغاركم ، الفاحشة في كباركم ، والعلم في رُذالتكم > .
قال زيد بن يحيى الخزاعيّ ، أحد رواته : معنى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم ( والعلم في رذالتكم ) إذا كان العلم في الفساق .
تفرد به ابن ماجة . وله شاهد في حديث أبي ثعلبة يأتي إن شاء الله عند قوله تعالى : { لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ } - أفاده ابن كثير .
أقول : هذه الأحاديث إنما يتروّح بها الضعفة ، من نحو العلماء والقادة . وأما من كان لهم الكلمة النافذة والوجاهة التامة فهيهات أن تغني عنهم ، وهذه المواعيد الهائلة تخفق فوق رؤوسهم . . ولذا قال العّلامة الزمخشري : فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير ، وقلّة عبئهم به . كأنه ليس من ملّة الإسلام في شيء . مع ما يتلون من كتاب الله ، وما فيه من المبالغات في هذا الباب وقد مرّ عند قوله تعالى : { لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ } [ المائدة : 63 ] ما يؤيد ما هنا ، فتذكرّ .
الخامس : قال الزمخشري : فإن قلت : كيف وقع ترك التناهي عن المنكر تفسيراً للمعصية والاعتداء ؟ قلت : من قِبَلِ أن الله تعالى أمر بالتناهي . فكان الإخلال به معصية ، وهو اعتداء .
ولما وصف تعالى أسلافهم بما مضى ، وصف الحاضرين بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } [ 80 ]
{ تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ } أي : من أهل الكتاب : { يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : يوالون المشركين ، بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الرازي : والمراد منهم كعب بن الأشرف وأصحابه ، حين استجاشوا المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم : وذكرنا ذلك في قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً } .
{ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ } أي : لبئس شيئا قدموا لمعادهم . وقوله تعالى : { أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } هو المخصوص بالذم ، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، تنبيهاً على كمال التعلق والارتباط بينهما كأنهما شيء واحد ، ومبالغة في الذم الذم . والمعنى : لبئس زادهم في الآخرة موجب سخطه تعالى عليهم : { وَفِي الْعَذَابِ } : { هُمْ خَالِدُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ 81 ]
{ وَلَوْ كَانُوا } أي : هؤلاء الذين يتولون عَبْدة الأوثان من أهل الكتاب : { يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ } أي : نبيهم موسى عليه السلام : { وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ } أي : من التوراة : { مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ } إذ الإيمان بالله يمنع من تولّي من يَعْبُدُ غَيْرَهُ : { وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } خارجون عن دينهم ، أو متمردون في نفاقهم . يعني : أن موالاتهم للمشركين كفى بها دليلاً على نفاقهم ، وإن إيمانهم ليس بإيمان ، لأن تحريم ذلك متأكد في التوراة وفي شرع موسى عليه السلام ، فلما فعلوا ذلك ظهر أنه ليس مرادهم تقرير دين موسى عليه السلام ، بل مرادهم الرياسة والجاه ، فيسعون في تحصيله بأي طريق قدروا عليه ، فلهذا وصفهم تعالى بالفسق .
وفي الآية وجه آخر : وهو أن يكون المعنى : ولو كانوا - أي : منافقوا أهل الكتاب المدّعون للإيمان - يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن حق الإيمان ، ما ارتكبوا ما ارتكبوه ، من موالاة الكافرين في الباطن .
والوجه الأول أقوم ، والله أعلم .
ثم أكد تعالى ما تقدم من مثالب اليهود بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } [ 82 ]
{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا } وإنما عاداهم اليهود لإيمانهم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ؛ وعادهم المشركون لتوحيدهم وإقرارهم بنبوة الأنبياء -أشار إليه المهايميّ .
وقال غيره : لشدة إبائهم ، وتضاعف كفرهم ، وانهماكهم في اتباع الهوى ، وركونهم إلى التقليد ، وبعدهم عن التحقيق ، وتمرنهم على التمرد والاستعصاء على الأنبياء ، والاجتراء على تكذيبهم ، ومناصبتهم لهم . ولهذا قتلوا كثيراً منهم حتى هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ، وسموه ، وسحروه ، وألّبوا عليه أشباههم من المشركين . وفي تقديم ( اليهود ) على ( المشركين ) ، بعد لزّهما في قرَن واحد ، إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة ، كما أن في تقديمهم عليهم في قوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا } [ البقرة : 96 ] إيذاناً بتقدمهم عليهم في الحرص { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى } للين جانبهم وقلة غلّ قلوبهم .
قال ابن كثير : وما ذاك إلا لما في قلوبهم ، إذ كانوا على دين المسيح ، من الرقة والرأفة كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً } [ الحديد : 27 ] وفي كتابهم : من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر . وليس القتال مشروعاً في ملّتهم . انتهى .
ولأن من مذهب اليهود ، أنه يجب إيصال الشر إلى من خالف دينهم بأي طريق كان ، من القتل ونهب المال ونحوهما ، وهو عند النصارى حرام . فحصل الفرق .
وقد روى ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعاً : < ما خلا يهوديّ بمسلم إلا همّ بقتله > .
ولكثرة اهتمام النصارى بالعلم والترهيب ، مما يدعوا إلى قلة البغضاء والحسد ، ولين العريكة ، كما أشير إليه بقوله تعالى : { ذَلِكَ } أي : كونهم أقرب مودة للمؤمنين : { بِأَنَّ مِنْهُمْ } أي : بسبب أن منهم : { قِسِّيسِينَ } أي : علماء : { وَرُهْبَاناً } أي : عبّاداً متجردين : { وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } أي : يتواضعون لوداعتهم ولا يتكبرون كاليهود . وفي الآية دليل على أن الإقبال على العلم ، والإعراض عن الشهوات ، والبراءة من الكبر - محمود . وإن كان ذلك من كافر .
لطيفة :
قال الناصر في " الانتصاف " :
إنما قال تعالى : { الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى } ولم يقل ( النَّصَارىَ ) تعريضاً بصلابة اليهود في الكفر والامتناع من الامتثال للأمر ، لأن اليهود قيل لهم : { ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ } [ المائدة : 21 ] . فقابلوا ذلك بأن قالوا : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ] ، والنصارى قالوا : { نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّه } [ آل عِمْرَان : 52 ] . ومن ثم سُمُّوا نصارى . وكذلك أيضاً ورد أول هذه السورة { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } [ المائدة : 14 ] . فأسند ذلك إلى قولهم ، والإشارة به إلى قولهم : { نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ } لكنه ههنا ذكر تنبيهاً على أنهم لم يثبتوا على الميثاق ولا على ما قالوه من أنهم أنصار الله . وفي الآية الثانية ذكر تنبيهاً على أنهم أقرب حالاً من اليهود . لأنهم لما ورد عليهم الأمر لم يكافحوه بالردّ مكافحة اليهود . بل قالوا : { نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ } . اليهود قالت : { فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ } . . . الآية ، فهذا سره . والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } [ 83 ]
{ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ } عطف على ( لا يستكبرون ) . قال أبو البقاء : ويجوز أن يكون مستأنفاً في اللفظ وإن كان له تعلق بما قبله في المعنى . يعني : وإذا سمعوا القرآن : { تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ } أي : تنصبٌ : { مِنَ الدَّمْعِ } الحاصل من اجتماع حرارة الحب والخوف ، مع برد اليقين : { مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } أي : من كتابهم ، فوجدوه أكمل منه وأفضل ، أو من الذي نزل على الرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحق ، أو من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته في كتابهم : { يَقُولُونَ } أي : من عدم استكبارهم : { رَبَّنَا آمَنَّا } أي : بك وبما أنزلت وبرسولك محمد : { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } أي : الذين شهدوا بأنه حق أو بنبوته . روى الحاكم ، وصححه ، ابن عباس قال : أي : مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمته هم الشاهدون . يشهدون لنبيهم أنه قد بلّغ ، وللرسل أنهم قد بلَّغوا .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ } [ 84 ]
{ وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ } إنكار استبعادٍ لانتفاء الإيمان مع قيام موجبه - وهو الطمع - في إنعام الله عليهم بصحبة الصالحين : { وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ } أي : وبما جاءنا من القرآن . وفي إعرابه وجه آخر يأتي { وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ } يعني مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ أو المعنى : أن يدخلنا ربّنا الجنة وع الأنبياء والمؤمنين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ } [ 85 ]
{ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا } أي : بما تكلموا به من قولهم : { رَبَّنَا آمَنَّا } الصادر عن اعتقاد وإخلاص واعتراف بالحقّ : { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا } أي : من تحت شجرها ومساكنها : { الْأَنْهَارُ } يعني أنهار الماء واللبن والعسل : { خَالِدِينَ فِيهَا } أي : مقيمين في الجنة لا يموتون ولا يخرجون منها : { وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ } يعني المؤمنين الموحّدين المخلصين في إيمانهم .
تنبيهات :
الأول : اتفق المفسرون على أن هذه الآيات الأربع نزلت في النجاشي وأصحابه رضوان الله عليهم .
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن وعروة ابن الزبير قالوا : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عَمْرو بن أمية الضمريّ وكتب معه كتاباً إلى النجاشي . فقدم على النجاشي . فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه وأرسل إلى الرهبان والقسيسين . ثم أمر جعفر بن أبي طالب فقرأ عليهم سورة مريم . فآمنوا بالقرآن وفاضت أعينهم من الدمع . فهم الذين أنزل الله فيهم : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّة } - إلى قوله - : { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } .
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : بعث النجاشي ثلاثين رجلاً من خيار أصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقرأ عليهم سورة ( يس ) فبكوا , فنزلت فيهم الآية .
وأخرج النسائي عن عبد الله بن الزبير قال : نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُول } .
وروى الطبرانيّ عن ابن عباس ونحوه , بأبسط منه .
- كذا في " أسباب النزول للسيوطي ّ " -
وقال ابن كثير : قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه , الذين , حين تلا عليهم جعفر بن أبي طالب بالحبشة القرآن , بكوا حتى أخضبوا لحاهم .
قال ابن كثير : وهذا القول فيه نظر . لأن هذه الآية مدنية , وقصة جعفر مع النجاشيّ قبل الهجرة . انتهى .
أقول : إن نظره مدفوع , فإنه حكى في هذه الآية بعد الهجرة ما وقع قبلها , ونظائره في التنزيل كثيرة , ولا إشكال فيه . . وظاهر أن المقصود بهذه الآية التعريض بعناد اليهود الذين كانوا حول المدينة . وهم يهود بني قريظة والنضير . وبعناد المشركين أيضاً ، وقساوة قلوب الفريقين ، وأنه كان الأجدر بهما أن يعترفوا بالحق كما اعترف به النجاشي وأصحابه . وقال ابن كثير : هذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ } [ آل عِمْرَان : 199 ] . الآية ، وهم الذين قال الله فيهم : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } . . إلى قوله - : { لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [ القصص : 52 - 55 ] . انتهى .
وكان سبب هجرة الصحابة إلى أرض الحبشة ؛ أنّ قريشاً ائتمرت أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم ، فوثبت كل قبيلة على من آمن منهم فآذوهم وعذبوهم ، فافتتن من افتتن منهم ، وعصم الله من شاء منهم .
قال ابن إسحاق رحمه الله تعالى : فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء ، وما هو فيه من العافية ، بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب ، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هو فيه من البلاء -قال لهم : < لو خرجتم إلى أرض الحبشة ، فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد ، وهي أرض صدِقْ ، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم > .
فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة . وفرّوا إلى الله بدينهم . فكانت أول هجرة كانت في الإسلام .
فكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين - سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم معهم صغاراً وولدوا بها - ثلاثة وثمانين رجلاً ، إن كان عمّار بن ياسر فيهم ، وهو يشكّ فيه .
ثم روى ابن إسحاق بسنده إلى أم سلمة -زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم - قالت : لما نزلنا بأرض الحبشة جاورنا بها خير جارٍ النجاشيّ . أمنَّا على ديننا ، وعبدنا الله تعالى لا نُؤْذَى ولا نسمع شيئاً نكرهه . فلمَّا بلغ ذلك قريشاً ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جَلْدَيْن . وأن يُهدوا للنجاشيّ هدايا مما يُستطرف من متاع مكة . وكان من أعجب ما يأتيه منها الأَدَم . فجمعوا له أدَمَاً كثيراً . ولم يتركوا من بطارقته بِطريقاً إلاَّ أهدَوْا له هدية . ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو ابن العاص . وأمروهما بأمرهم ، وقالوا لهما : ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشيّ فيهم . ثم قدّما إلى النجاشي هداياه . ثم سلاه أن يُسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم . قالت : فخرجا حتى قدما على النجاشيّ - ونحن عنده بخير دار ، عند خير جار - فلم يبق من بطارقته إلا دفعاً إليه هديته قبل أن يكلما النجاشيّ ، وقالا لكل بطريق منهم : إنه قد ضوى - أي : لجأ - إلى بلد الملك منا ، غلمان سفهاءُ ، فارقوا دين قومه ، ولم يدخلوا في دينكم ، وجاؤوا بدين مبتدع ، لا نعرفه نحن ولا أنتم ، وقد بَعَثَنَا إلى الملك فيهم أشرافُ قومهم ليردّهُم إليهم ، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يُسْلمهم إلينا ولا يكلمهم . فإنَّ قومهم أعلى بهم عيناً . ( أي : أبصر بهم ) وأعلم بما عاموا عليهم . فقالوا لهما : نعم . ثم إنهما قدّما هداياهما إلى النجاشيّ فقبلها منهما ، ثم كلّماه بما كلّما كلّ بطريق .
قالت : ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي . قالت : فقالت بطارقته حوله : صَدَقَا . أيها الملك ! قومهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم . فأَسْلمهم إليهما فليردَّاهم إلى بلادهم وقومهم . فقالت : فغضب النجاشيّ ثم قال : لاها الله ! إذا لا أسْلمهم إليهما . ولا يُكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي ، حتى أدعَوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم . فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم لهما ورددتهم إلى قومهم . وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهم وأحسنت جوارهم ما جاوروني .
قالت : ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم ، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا . ثم قال بعضهم لبعض : ما تقولون للرجل إذا جئتموه ؟ قالوا نقول والله ! ما علمنا . وما أمرَنَا به نبينا ، كائناً في ذلك ما هو كائن . فلما جاؤوا - وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله ، سألهم فقال لهم : ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل ؟ قالت : فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له : أيها الملك ؟ كنا قوماً أهل جاهلية . نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ونسئ الجوار . ويأكل القويّ منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه . فدعا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان . وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - قالت : فعدّد عليه أمور الإسلام - فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله . فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً ، وحرّمنا ما حرّم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا , فعدا علينا قومنا , فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى , وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على سواك ، ورغبنا في جوارك , ورجونا أن لا مظلم عندك أيها الملك ! قال : فقال له النجاشيّ : هل معك مما جاء به عن الله من شيء ؟ قالت : فقال له جعفر : نعم ! فقال له النجاشيّ : فاقرأه عليّ . قالت : فقرأ عليه صدراً من ( كهيعص ) قالت : فبكى , والله ! النجاشيّ حتى اخضلّت لحيته , وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم . ثم قال النجاشيّ : إن هذا , والذي جاء به عيسى , ليخرج من مشكاة واحدة . انطلقا , فلا , والله ! لا أسلمهم إليكما ولا يُكادون .
قالت : فلما خرجا من عنده قال عَمْرو بن العاص : والله ! لآتينّه غدا عنهمً بما استأصل به خضراءهم ( أي : شجرتهم التي منها تفرعوا ) .
قالت : فقال له عبد الله بن أبي ربيعة - وكان أتقى الرجلين فينا - : لا تفعل فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا . قال : والله ! لأخبرنه أنهم يزعمون انتهى عيسى ابن مريم عبد .
قالت : ثم غدا عليه من الغد فقال : أيها الملك ! إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً . فأرسلْ إليهم فسلهم عما يقولون فيه . قالت : فأرسل إليهم ليسألهم عنه .
قالت : ولم ينزل بنا مثلها قط . فاجتمع القوم . ثم قال بعضهم لبعض : ماذا تقولون في عيسى ابن مريم إذا سألكم عنه ؟ قالوا نقول والله ! ما قال الله وما جاءنا به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن . قال : فلما دخلوا عليه قال لهم : ماذا تقولون في عيسى ابن مريم ؟ قالت : فقال جعفر بن أبي طالب نقول فيه الذي جاءنا فيه نبينا صلى الله عليه وسلم : هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول . قالت : فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عوداً ، ثم قال : والله ! ما عدا عيسى ابن مريم ، مما قلت . هذا العودَ . قالت : فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال . فقال : وإن نخرتم ، والله ! اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي - والشيوم الآمنون - مَنْ سَبّكم ، غرِم . قالها ثلاثاً .
ثم قال : ما أحب أن لي دَبْراً - والدبر الجبل -من ذهب وأني آذيت رجلاً منكم . ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها .
قالت : فخرجا من عنده مقبوحَيْن مردوداً عليهما ما جاءا به ، وأقمنا عنده بخير دارٍ مع خير جارٍ .
ثم روى ابن إسحاق في قصته : أن النجاشيّ عمد إلى كتاب فكتب فيه : هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله . ويشهد أنَّ عيسى ابن مريم عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم . انتهى .
وإسلام النجاشي معروف . وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما مات صلّى عليه مع تباعد الديار .
وذكر شمس الدين بن القيم في " زاد المعاد " : أنه كان مخرجهم إلى الحبشة في السنة الخامسة من المبعث .
التنبيه الثاني :
في الآية دليل على أن المشروع عند قراءة القرآن الخشوع والبكاء . وفي الخبر : ابكوا فإن لم تجدوا بكاءً فتباكوا . أخرجه المنذري في " الترغيب والترهيب " عن عبد الله بن عَمْرو . وقال : رواه الحاكم مرفوعاً وصححه . والمراد إشراب القلب والخوف المهابة لله تعالى .
الثالث : في قوله تعالى : { يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا } وقوله : { فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ } دليل على أن الإقرار داخل في الإيمان كما هو مذهب الفقهاء . وتعلقت الكرامية في أن الإيمان مجرد القول بقوله تعالى : { بِمَا قَالُواْ } ، لكن الثناء بفيَض الدمع في السباق ، وبالإحسان في السياق ، يدفع ذلك ؛ وأنَّى يكون مجرد القول إيماناً وقد قال الله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } ؟ نفى الإيمان عنهم ، مع قولهم : { آمَنَّا بِاللّهِ } لعدم التصديق بالقلب .
وقال أهل المعرفة : الموجود منهم ثلاثة أشياء : البكاء على الجفاء ، والدعاء على العطاء ، والرضا بالقضاء . فمن ادعى المعرفة ، ولم يكن فيه هذه الثلاثة ، فليس بصادق في دعواه . . ! أفاده النسفي .
وقال الخازن : إنما علق الثواب بمجرد القول ، لأنه قد سبق وصفهم بما يدل على إخلاصهم فيما قالوا . وهو المعرفة والبكاء المؤذنان بحقيقة الإخلاص واستكانة القلب . لأن القول إذا اقترن بالمعرفة فهو الإيمان الحقيقيّ الموعود عليه بالثواب .
وقال الرازي : لما حصلت المعرفة والإخلاص وكمال الانقياد ، ثم أنضاف إليه القول ، لا جرم كمل الإيمان . الرابع : قوله تعالى : { وَمَا جَاءنَا } يجوز أن يزكون في موضع جرّ ، أي : وبما جاءنا ، و : { مِنَ الْحَقِّ } حال من الفاعل المستتر ، أو لغو متعلق بـ : { جَاء } أي : وبما جاءنا من عند الله . ويجوز أن يكون مبتدأ و : { مِنَ الْحَقِّ } الخبر ، والجملة في موضع الحال . وقوله تعالى : { وَنَطْمَعُ } يجوز أن يكون معطوفاً على : { نُؤْمِنُ } أي : وما لنا لا نطمع . ويجوز أن يكون التقدير : ونحن نطمع ، فتكون الجملة حالاً من ضمير الفاعل في : { نُؤْمِنُ } -أفاده أبو البقاء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [ 86 ]
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } أي : الذين جحدوا الحقّ الذي جاءهم وكذّبوا بِحُجَجِ الله وبراهينِه أولئك أصحاب الجحيم ، أي : النار الشديدة الحرارة . جَزاءً وفاقاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [ 87 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } أي : ما طاب ولذّ منه . كأنه -لما تضمن ما سلف مدح النصارى على الترهيب ، والحث على كسر النفس . ورفض الشهوات - عقبه النهي عن الإفراط في ذلك بتحريم اللذائذ من المباحات الشرعية . ثم أشار إلى أنه اعتداء بقوله سبحانه : { وَلا تَعْتَدُوا } أي : عمّا حدّ الله سبحانه وتعالى بجعل الحلال حراماً . أو : ولا تعتدوا في تناول الحلال فتجاوزوا الحدّ فيه إلى الإسراف كما قال تعالى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا } [ الأعراف : 31 ] . وقال : { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] . أو : ولا تعتدوا على النفس والأهل بمنع الحقوق . أو : ولا تعتدوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرم عليكم : { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } في كل ما ذكر ، وهو تعليل لما قبله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } [ 88 ]
{ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً } أي : كلوا ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله . فيكون : { حَلالاً } مفعول : { وَكُلُوا } و : { مِمَّا } حال منه ، أو متعلقة بـ : { َكُلُوا } ، أو هو المفعول و : { حَلالاً } حال من : { مَا } أو من عائده المحذوف ، أو صفة لمصدر محذوف ، أي : أكْلاً حلالاً . وقوله تعالى : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } تأكيد للتوصية بما أمر به ، وزاده تأكيداً بقوله : { الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } لأن الإيمان به يوجب التقوى ، في الانتهاء إلى ما أمر به وعما نهى عنه .
قال المهايمي : مقتضى إيمانكم أن لا تغيروا شيئاً من أحكام دينكم ، وأن لا تعارضوا في أحكامه ولو بكراهة من أنفسكم ، وأن تتقوه في وضع قواعد تخالف قواعد الشرع ، بل غاية ما يجوز أخذ معان من علم الشريعة مؤكدة لمقتضاه .
تنبيهات .
الأول : فيما روي في سبب نزولها :
أخرج الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن رجلاً أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي فحرمتُ عليّ اللحم . فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ } . . الآية .
وروى ابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قالوا : نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان . فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم . فأرسل إليهم ، فذكر لهم ذلك ، فقالوا : نعم . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأنام ، وأنكح النساء . فمن أخذ بسنتي فهو مني ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني . وروى ابن مردويه نحوه .
وفي " الصحيحين " من حديث عائشة رضي الله عنها ، أنَّ ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم عن عمله في السرّ ؟ فقال بعضهم : لا آكل اللحم . وقال بعضهم : لا أتزوج النساء . وقال بعضهم : لا أنام على فراش . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : < ما بال أقوامٍ يقول أحدهم كذا وكذا ؟ لكني أصوم وأفطر ، وأنام وأقوم ، وآكل اللحم . وأتزوج النساء . فمن رغب عن سنّتي فليس مني > .
وروى ابن أبي حاتم ، أن عبد الله بن مسعود جاءه مَعْقِل بن مقرن فقال : إني حرمت فراشي . فتلا عليه هذه الآية .
وأخرج أيضاً عن مسروق قال : كنا عند عبد الله بن مسعود . فجيء بضرعٍ فتنحّى رجل . فقال عبد الله : ادن . فقال : إني حرمت أن آكله . فقال عبد الله : ادن فاطعم وكفّر عن يمينك . وتلا هذه الآية . ورواه الحاكم أيضاً .
الثاني : قال بعض الزيدية : ثمرة الآية النهي عن تحريم الطيبات من الحلال . وذكر الحاكم : أن هذا النهي يحتمل وجوهاً لا مانع من الحمل على جميعها : أحدهما لا تعتقدوا التحريم . ومنها : لا تحرّموا على غيركم بالفتوى والحكم . ومنها : لا تجروه مجرى الحرمات في شدة الاجتناب . ومنها : لا تلتزموا تحريمه بنذرٍ أو غيره .
وقال القاضي : لا تحرموا الحلال بفعل يصدر منكم ، كالبياعات الربوية وخلط الحلال بالمغصوب والطاهر بالنجس .
ثم قال : ويتعلق بهذا أمرين : الأول إذا حرم الحلال ، هل يجب عليه الحنث والرجوع ؟ قلنا : ظاهر الآية يدل على ذلك ، ويلزم مع ذلك التوبة .
الأمر الثاني : هل يلزمه في ذلك كفارة ؟ قلنا هذه الآية قد يستدل بها على اللزوم ، لأن النهي يقتضي فساد المنهيّ عنه . وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء . انتهى .
وقال ابن كثير : ذهب الشافعيّ إلى أنه من حرّم مأكلاً أو ملبساً أو شيئاً ، ما عدا النساء ، أنّه لا يحرم عليه ، ولا كفارة عليه أيضاً . لإطلاق هذه الآية . ولأن الذي حرم اللحم على نفسه - كما في الحديث المتقدم - لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة .
وذهب آخرون - منهم الإمام أحمد - إلى أن من حرم شيئاً -مما ذكر - فإنه يجب عليه كفارة يمين ، كما إذا التزم تركه باليمين . فكذلك يؤاخذ بمجرد تحريمه على نفسه إلزاماً له بما التزمه ، كما أفتى بذلك ابن عباس ، وكما في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ التحريم : 1 ] . ثم قال : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } [ التحريم : 2 ] . . الآية . وكذلك هنا . لما ذكر هذا الحكم عقبه بالآية المبينة لتكفير اليمين ، فدلّ على أنَّ هذا منزل منزلة اليمين في اقتضاء التفكير . والله أعلم .
وفي " زاد المعاد " لابن القيم فصل مهمّ في حكم من حرم أمَتَهُ أو زوجته أو متاعه . تنبغي مراجعته .
الثالث : هذه الآية أصل في ترك التنطع والتشدد في التعبد - كذا في " الإكليل " .
قال ابن جرير : لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء ، ممَّا أحلّ الله لعباده المؤمنين ، على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح ، ولذلك ردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون . فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحلّه الله لعباده . وأن الفضل والبرّ إنما هو في فعل ما ندب الله إليه عباده ، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنّه لأمته ، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون . إِذْ كان خير الهدى هدى نبيناً محمد صلى الله عليه وسلم . . فإذا كان ذلك كذلك تبيّن خطأ من آثَرَ لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان ، إذا قدر على لباس ذلك من حله . وآثَرَ أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذراً من عارض الحاجة إلى النساء . . قال : فإن ظن ظان أن الفضل في غير الذي قلنا - في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل منهما من القيمة إلى أهل الحاجة - فقد ظنّ خطأ . وذلك أن الأوْلى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربّها ، ولا شيء أضَر على الجسم من المطاعم الرديئة . لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سبباً إلى طاعته . . انتهى .
وللرازي هنا مبحث جيد في حكمه هذا النهي . مؤيد لما ذكر . فليراجع فإنه نفيس .
وقد أخرج الترمذي عن عائشة قالت : كان رسول الله يحب الحلواء والعسل . وله عن أبي هريرة قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فرُفِع إليه الذراع - وكانت تعجبه - فنهش منها . قالت عائشة : ما كان الذراع أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن كان لا يجد اللحم إلا غبّاً ، وكان يعجل إليه الذراع لأنه أعجلها نضجاً . أخرجه الترمذي . وحكى الزمخشري عن الحسن أنه دعي إلى طعامٍ ومعه فَرْقَدٌ السَّبَخِيٌّ وأصحابه . فقعدوا على المائدة - وعليها الألوان من الدجاج المسمن والفالوذ وغير ذلك - فاعتزل فَرْقَد ناحية ، فسأل الحسنُ : أهو صائم ؟ قالوا : لا ولكنه يكره هذه الألوان ، فأقبل الحسن عليه وقال : يا فريقد ! أترى لعاب النحل ، بلباب البر ، بخالص السمن ، يعيبه مسلم ؟
وعنه : أنه قيل له : فلان لا يأكل الفالوذ ويقول : لا أؤدي شكره قال : أفيشرب الماء البارد ؟ قالوا نعم ، قال : إنه جاهل . إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته في الفالوذ .
وعنه : أن الله تعالى أدب عباده فأحسن أدبهم قال الله تعالى : { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ } [ الطلاق : 7 ] . ما عاب الله قوماً وسع عليهم الدنيا فتَنعّموا وأطاعوا . ولا عذر قوماً زواها عنهم فعصوه .
الرابع : قال الرازي : لم يقل تعالى : كُلُوا مَا رَزَقَكُمْ ، ولكن قال : { مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ } وكلمة : { مِنْ } للتبعيض . فكأنه قال : اقتصروا في الأكل على البعض واصرفوا البقية إلى الصدقات والخيرات ، لأنه إرشاد إلى ترك الإسراف كما قال : { وَلاَ تُسْرِفُواْ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ 89 ]
{ لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } تقدم الكلام على اللغو في اليمين في ( سورة البقرة ) وإنه ما يسبق إليه اللسان بلا قصد الحلف ، كقول الإنسان : لا ، والله ! وبلى والله ! والمراد بالمؤاخذة : مؤاخذة الإثم والتكفير ، أي : فلا إثم في اللغو ولا كفارة : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ } أي : بتعقيدكم الأيْمَانَ وتوثيقها عليه بأن حلفتم عن قصد منكم ، أي : إذا حنثتم . أو بنكث ما عقدتم ، فحذف للعلم به . وقرئ بالتخفيف ، وقرئ ( عاقدتم ) بمعنى عقدتم : { فَكَفَّارَتُهُ } أي : فكفارة نكثه ، أي : الخصلة الماحية لإثمه : { إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } يعني محاويج من الفقراء ومن لا يجد ما يكفيه : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } أي : لا من أجوده فضلاً عما تخصونه بأنفسهم . ولا من أرادأ ما تطعمونهم فضلاً عن الذي تعطونه السائل : { أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أي : عتقها : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } أي : شيئاً مما ذكر : { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ } كفارته : { ذَلِكَ } أي : المذكور : { كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ } أي : التي اجترأتم بها على الله تعالى : { إِذَا حَلَفْتُمْ } أي : وحنثتم : { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } أي : عن الإكثار منها -أو عن الحنث -إذا لم يكن ما حلفتم عليه خيراً ، لئلا يذهب تعظيم اسم الله عن قلوبكم : { كَذَلِكَ } أي : مثل هذا البيان الكامل : { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ } أي : أعلام شرائعه : { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج .
قال المهايمي : أي : تشكرون نعمه بصرفها إلى ما خلقت له ، ومن جملتها صرف اللسان ، الذي خلق لذكر الله وتعظيمه ، إلى ذلك . فإذا فات صرف بعض ما ملكه إلى بعض ما يجبره ليقوم مقام الشكر باللسان ، إذ به يتم تعظيمه . فإذا لم يجد كسر هوى النفس من أجله فهو أيضاً من تعظيمه . فافهم .
وفي هذه الآية مباحث :
الأول : معنى ( أو ) التخيير وإيجاب إحدى الكفارات الثلاث . فإذا لم يجد انتقل إلى الصوم .
فأما الإطعام فليس فيه تحدي بقدر . لا في وجبة ولا وجبتين ، ولا في قدر من الكيل .
ولذا روي عن الصحابة والتابعين فيه وجوه . جميعها مما يصدق عليه مسماء ، فبأيها أخذ أجزأه . فمنها ما رواه ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه قال : يغديهم ويعشيهم . كأنه ذهب - رضي الله عنه - إلى المراد بالإطعام الكامل - أعني قوت اليوم وهو وجبتان - وإلا فالإطعام يصدق على الوجبة الواحدة .
ولذا قال الحسن ومحمد بن الحنفية : يكفيه إطعامهم أكلة واحدة خبزاً ولحماً . زاد الحسن : فإن لم يجد فخبزاً وسمناً ولبناً ، فإن لم يجد فخبزاً وزيتاً وخلاً حتى يشبعوا .
وعن عمر وعلي أيضاً وعائشة وثلّة من التابعين : يطعم كل واحد من العشرة نصف صاع من بر أو تمر أو نحوهما .
وعن ابن عباس : لكل مسكين مدّ من بُر ومعه إدامه .
وفي " فتح القدير " من كتب الحنفية : يجوز أن يغديهم ويعشيهم بخبز . إلا أنه إن كان براً لا يشترط الإدام ، وإن كان غيره فبإدام . وحكي عن الهادي : اشترط الأكل لإشعار ( الإطعام ) بذلك .
والأكثرون : أن الأكل غير شرط . لأنه ينطلق لفظ ( الإطعام ) على التمليك .
الثاني : إطلاق ( المساكين ) يشمل المؤمن والكافر الذميّ والفاسق . فبعضهم أخذ بعموم ذلك . ومذهب الشافعية والزيدية : خروج الكافر بالقياس على منع صرف الزكاة إليه ، وأما الفاسق فيجوز الصرف إليه مهما لم يكن في ذلك إعانة له على المنكر . ولم يجوزه الهادي . وظاهر الآية اشترط العدد في المساكين . وقول بعضهم : إن المراد إطعام طعام يكفي العشرة ، مفرعاً عليه جواز إطعام مسكين واحد عشرة أيام - عدول عن الظاهر ، لا يثبت إلا بنص .
الثالث : لم يبين في الآية حدّ الكسوة وصفتها ؛ فالواجب حينئذ الحمل على ما ينطلق عليها اسمها .
قال الشافعي ، رحمه الله : لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة - من قميص أو سراويل أو إزار أو عمامة أو مقنعة - أجزأه ذلك .
وقال مالك وأحمد بن حنبل : لا بد أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصحّ أن يصلي فيه ، إن كان رجلاً أو امرأة ، كل بحسبه .
وقال العوفيّ عن ابن عباس : عباءة لكل مسكين أو شملة .
وقال مجاهد : أدناه ثوب وأعلاه ما شئت .
وعن ابن المسيّب : عمامة يلفَّ بها رأسه ، وعباءة يلتحف بها .
وعن الحسن وابن سيرين : ثوبان ثوبان .
وروى ابن مردويه عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } قال : عباءة لكلّ مسكين . قال ابن كثير : حديث غريب .
أقول : لا يخفى الاحتياط والأخذ بالأكل والأفضل في الإطعام والكسوة .
الرابع : قال الرازي : المرادُ بـ ( الرقبة ) الجملة . قيل : الأصل في هذا المجاز أنّ الأسير في العرب كان يجمع يداه إلى رقبته بحبل . فإذا أطلق حلّ ذَلك الحبل . فسمّي ( الإطلاق من الرقبة ) فكّ الرقبة . ثم جرى ذلك على العتق . وقد أخذ بإطلاقها أبو حنيفة فقال : تجزئ الكافرة كما تجزئ المؤمنة . وقال الشافعي وآخرون : لا بدّ أن تكون مؤمنة . وأخذ تقييدها من كفارة القتل لاتحاد الموجب ، وإن اختلف السبب . ومن حديث معاوية بن الحكم السلمي -الذي هو في " موطأ مالك " و " مسند الشافعي " و " صحيح مسلم " - أنّه ذكر أنَّه عليه عتق رقبة . وجاء معه بجارية سوداء . فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين الله ؟ قالت : في السماء . قال : من أنا ؟ قالت : أنت رسول الله . قال أعتقها فإنها مؤمنة . . . الحديث بطوله .
قال الشعراني ، قدس [ في المطبوع : سعره ] سره في " الميزان " : قال العلماء : عدم اعتبار الإيمان في الرقبة مشكل . لأن العتق ثمرته تخليص رقبة لعبادة الله عز وجلّ . فإذا أعتق رقبة كافرة فإنما خلصها لعبادة إبليس . وأيضاً فإن العتق قربة ، ولا يحسن التقرب إلى الله تعالى بكافر . انتهى . الخامس : للعلماء في حدّ الإعسار الذي يبيح الانتقال إلى الصوم أقوال . وظاهر الآية هو أنه لا يملك قدر إحدى الكفارات الثلاثة - من الإطعام أو الكسوة أو العتق - فإن وجد قدر إحداهما كان ذلك مانعاً من الصوم ، اللهمّ إذا فضل عن قومه وقوت عياله في يومه ذلك .
وقد روى ابن جرير عن سعيد بن جبير والحسن أنهما قالا : من وجد ثلاثة دراهم لزمه الإطعام ، وإلاَّ صام .
السادس : إطلاق قوله تعالى : { فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ } صادق على المجموعة والمفرّقة . كما في قضاء رمضان ، لقوله : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ البقرة : 184 ] . ومن أوجب التتابع استدلّ بقراءة أبيّ كعب وعبد الله بن مسعود أنهما كانا يقرءان : { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ } . وقراءتهما لا تختلف عن روايتهما .
قال الأعمش : كان أصحاب ابن مسعود يقرؤونها كذلك .
قال ابن كثير : وهذه ، إذا لم يثبت كونها قرآناً متواتراً . فلا أقلّ أن يكون خبر واحد أو تفسير من الصحابة . وهو في حكم المرفوع .
وروى ابن مردويه عن ابن عباس قال : لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة يا رسول الله ! نحن بالخيار ؟ قال : < أنت بالخيار ، إن شئت أعتقت وإن شئت كسوت . وإن شئت أطعمت . فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات > . قال ابن كثير : وهذا حديث غريب جداً .
ونقل بعض الزيدية ، روايةً عن ابن جبير ، أنه كان يصليّ تارةً بقراءة ابن مسعود وتارةً بقراءة زيد .
السابع : قال الناصر في " الانتصاف " : في هذه الآية - يعني قوله تعالى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } - وجهٌ لطيفُ المأخذ في الدلالة على صحة وقوع الكفارة بعد اليمين وقبل الحنث ، وهو المشهور من مذهب مالك . وبيان الاستدلال بها أنه جعل ما بعد الحلف ظرفاً لوقوع الكفارة المعتبرة شرعاً . حيث أضاف : { إِذَا } إلى أنها إنما تجب بالحنث . فتعين تقديره مضافاً إلى الحلف . بل إنما نطقت بشرعية الكفارة ووقوعها على وجه الاعتبار . إذْ لا يعطي قوله : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ } إيجاباً ، إنما يعطي صحةً واعتباراً . والله أعلم .
وهذا انتصار عل منع التكفير قبل الحنث مطلقاً ، وإن كانت اليمين على برّ .
والأقوال الثلاثة في مذهب مالك ، إلا أن القول المنْصُور هو المشهور . انتهى .
وقال الرازيّ : احتجّ الشافعي بهذه الآية على أن التكفير قبل الحنث جائز . لأنها ذلت على أن كل واحد من الثلاثة كفارة لليمين عند وجود الحلف . فإذا أدّاها بعد الحلف ، قبل الحنث ، فقد أدّى الكفارة . وقوله تعالى : { إِذَا حَلَفْتُمْ } فيه دقيقة . وهي التنبيه على أن تقديم الكفارة قبل اليمين لا يجوز . انتهى . وفي " الصحيحين " من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا حلفت على يمين ، فرأيت غيرها خيراً منها ، فكفّر عن يمينك وَأْتِ الذي هو خير . وعند أبي داود : فكفرّ عن يمينك ثم أتِ الذي هو خير .
الثامن : قال السيوطي في " الإكليل " : في قوله تعالى : { وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ } استحباب ترك الحنث إلاَّ إذا كان خيراً ، أي : لما تقدم من حديث ابن سمرة . وهذا على أحد وجهين في الآية . والآخر النهي عن الإكثار من الحلف كما سبق . قال كثير :
~قليل الألايَا حافظٌ ليمينه وإن سَبَقَتْ منه الألِيَّةُ بَرَّت !
التاسع : حكمة تقديم الإطعام على العتق - مع أنه أفضل - من وجوه :
أحدها : التنبيه من أول الأمر على أن هذه الكفارة وجبت على التخيير لا على الترتيب . وإلاَّ لَبُدئ بالأغلظ .
ثانيها : كون الطعام أسهل لأنه أعمّ وجوداً ، والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى يراعي التخفيف والتسهيل في التكاليف .
و ثالثها : كون الإطعام أفضل ، لأن الحرّ الفقير قد لا يجد الطعام ، ولا يكون هناك من يعطيه الطعام ، فيقع في الضرّ . أما العبد فإنه يجب على مولاه إطعامه وكسوته ، أفاده الرازي .
العاشرة : سرّ إطعام العشرة ، أنه بمنزلة الإمساك عن الطعام عشرة أيام العدد الكامل ، الكاسرة للنفس المجترئة على الله تعالى . وسرّ الكسوة كونه يجزي بستر العورة سرّ المعصية . وسرّ التحرير فكَّ رقبة عن الإثم . وسرّ صوم الثلاثة ، أنَّ الصيام لما كان ضيراً بنفسه اكتفى فيه بأقلّ الجمع . أفاده المهايميّ ، قدس سره .
الحادي عشر : قال شمس الدين بن القيّم في " زاد المعاد " : كان صلى الله عليه وسلم يستثني في يمينه تارةً ، ويكفرها تارة ، ويمضي فيها تارة . والاستثناء يمنع عقد اليمين . والكفارة تحلّها بعد عقدها . ولهذا سمَّاها الله : { تَحِلَّةَ } . وحلف صلى الله عليه وسلم من ثمانين موضعاً . وأمره الله سبحانه بالحلف في ثلاثة مواضع : فقال تعالى : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِين } [ يونس : 53 ] وقال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } [ سبأ : 3 ] ، وقال تعالى : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ التغابن : 7 ] . وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي يذكر أبا بكر بن داود الظاهريّ ولا يسميه بالفقيه . فتحاكم إليه يوماً هو وخصم له . فتوجهت اليمين على أبي بكر بن داود . فتهيّأ للحلف . فقال له القاضي إسماعيل : وتحلف ، ومثلك يحلف يا أبا بكر ؟ فقال : وما يمنعني عن الحلف ؟ وقد أمر الله تعالى نبيّه بالحلف في ثلاثة مواضع من كتابه . قال : أين ذلك ؟ فسردها أبو بكر ، فاستحسن ذلك منه جدّاً ، ودعاه بالفقيه من ذلك اليوم . . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ 90 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ } أي : الشراب الذي خامر العقل ، أي : خالطه فستره : { وَالْمَيْسِرُ } أي : القمار : { وَالْأَنْصَابُ } أي : الأصنام المنصوبة للعبادة : { وَالْأَزْلامُ } أي : القداح : { رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } أي : خبيث من تزيين الشيطان ، وقذر تعارف عنه القول .
قال المهايمي : لأن الخمر تضيع العقل ، وما دون السكر داع إلى ما يستكمله ، فأقيم مقامه في الشرع الكامل . والميسر يضيع المال . والأنصاب تضيع عزة الإنسان بِتَذَلُّلِهِ لما هو أدنى منه . والأزلام تضيع العلم للجهل بالثمن والمثمن . انتهى .
وما ذكره هو شذرة من مفاسدها : { فَاجْتَنِبُوهُ } أي : اتركوه ، يعني : ما ذكر . أو ( الرجس ) الواقع على الكل : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : رجاء أن تنالوا الفلاح فتنجوا من السخط والعذاب وتأمنوا في الآخرة .
ثم أكد تعالى تحريم الخمر والميسر ببيان مفاسدهما الدنيوية والدينية . فالأولى في قوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } [ 91 ]
{ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ } أي : المشاتمة والمضاربة والمقاتلة : { وَالْبَغْضَاءَ } القاطعة للتعاون الذي لا بد للإنسان منه في معيشته : { فِي الْخَمْرِ } أي : إذا صرتم نشاوى : { وَالْمَيْسِرِ } إذا ذهب مالكم . وقد حكى أنه ربمّا قامر الرجل بأهله وولده فإذا أخذه الخصم وقعت العداوة بينهما أبداً . ثم أشار إلى مفاسدهما الدينية بقوله : { وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } إذ يغلب السرور والطرب على النفوس والاستغراق في الملاذّ الجسمانية فيلهى عن ذكر الله . والميسر ، إن كان صاحبه غلباً انشرحت نفسه ومنعه حب الغلبة عن ذكر الله . وإن كان مغلوباً ، مما حصل من الانقباض أو الاحتيال إلى أن يصير غالباً ، لا يخطر بباله ذكر الله : { وَعَنِ الصَّلاةِ } أي : ويصدكم عن مراعاة أوقاتها . وقوله تعالى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } من أبلغ ما ينهى به ، كأنه قيل : قد تلي عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع . فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون ؟ أنتم على ما كنتم عليه كأن لم توعظوا ولم تزجروا ؟ أفاده الزمخشري .
تنبيهات :
الأول : سبق الكلام على الخمر والميسر في سورة البقرة في قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } وسلف أيضاً معنى الأنصاب والأزلام في أول هذه السورة عند قوله : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ } فتذكر .
الثاني : إنما جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام أولاً ، ثم أفردا آخراً ، وخصصا بشرح ما فيهما من الوبال - للتنبيه على أن المقصود بيان حالهما . وذكر الأصنام والأزلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة . كأنه لا مباينة بين من عبد صنماً وأشرك بالله في علم الغيب ، وبين من شرب خمراً أو قامر .
روى الحارث بن أبي أسلمة في " مسنده " عن ابن عَمْرو مرفوعاً : < شارب الخمر كعابد وثن ، وشارب الخمر كعابد اللات والعزَّى > . وإسناده حسن .
وتخصيص الصلاة بالإفراد ، مع دخولها في الذكر ، للتعظيم والإشعار بأن الصادّ عنها كالصادّ عن الإيمان ، لما أنها عماده .
الثالث : هذه الآية دالة على تأكيد تحريم الخمر والميسر من وجوه :
( ومنها ) : تصدير الجملة بـ ( ما ) وذلك لأن هذه الكلمة للحصر ، فكأنه تعالى قال : لا رجس ولا شيء من عمل الشيطان إلا الخمر والميسر وما ذكر معهما .
و ( منها ) : أنه قرنهما بعبادة الأوثان .
و ( منها ) : أنه جعلها رجساً كما قال تعالى : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ } [ الحج : 30 ] .
و ( منها ) : أنه جعلها من عمل الشيطان ، والشيطان لا يأتي منه إلا الشر البحت .
( ومنها ) : أنه أمر بالاجتناب ، وظاهر الأمر للوجوب .
و ( منها ) : أنه جعل الاجتناب من الفلاح . وإذا كان الاجتناب فلاحاً ، كان الارتكاب خيبة ومحقة .
و ( منها ) : أنه ذكر ما ينتج منهما من الوبال - وهو وقوع التعادي والتباغض - وما يؤديان إليه من الصدّ عن ذكر الله وعن مراعاة أوقات الصلاة .
و ( منها ) : إعادة الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتباَ على ما تقدم من أصناف الصوارف بقوله سبحانه : { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } فآذن بأن الأمر في الزجر والتحذير ، وكشف ما فيهما من المفاسد والشرور قد بلغ الغاية . وأنَّ الأعذار قد انقطعت بالكلية .
و ( منها ) : قوله تعالى بعد ذلك :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } [ 92 ]
{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } أي : في جميع ما أمر به ونهيا عنه : { وَاحْذَرُوا } أي : مخالفتهما في ذلك . فيدخل فيه مخالفة أمرهما ونهيهما في الخمر والميسر دخولاً أولياً .
و ( منها ) : قوله تعالى :
{ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } أي : إن أعرضتم عن الامتثال بما أمرتم به من الاجتناب عن الخمر والميسر ، فقد قامت عليكم الحجة وانتهت الأعذار . والرسول قد خرج عن عهدة التبليغ إذ أدّاه بما لا مزيد عليه . فما مقي بعد ذلك إلاّ العقاب . وفيه تهديد عظيم ووعيد شديد في حقّ من خالف وأعرض عن حكم الله وبيانه .
الرابع : قال الرازيّ : اعلم أن من أنصف وترك الاعتساف ، علم أنَّ هذه الآية نصّ صريح في أن كل مسكر حرام . وذلك لأنه تعالى رتب النهي عن شرب الخمر على كونها مشتملة على تلك المفاسد الدينية والدنيوية ، ومن المعلوم في بَدَائِهِ العقول أن تلك المفاسد إنما تولدت من كونها مؤثرة في السكر . وهذا يفيد القطع بأن علة قوله : { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } هي كون الخمر مؤثراً في الإسكار . وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن كلّ مسكر حرام . قال : ومن أحاط عقله بهذا التقرير ، وبقي مصرَّاً على قوله ، فليس لعناده علاج . انتهى .
ثم بيّن تعالى رفع الإثم عمّن مات وهو يشرب الخمر قبل التحريم - كما سنفصّله - بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ 93 ]
{ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ } أي : إثم : { فِيمَا طَعِمُوا } مما حرم بعد تناولهم : { إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } .
وهنا مسائل
الأولى : قال بعض المفسرين : إنْ قيل : لمَ خصَّ المؤمنين بنفي الجناح في الطيبات إذا ما اتقوا ، والكافر كذلك ؟ قال الحاكم : لأنه لا يصحّ نفي الجناح عن الكافر ، وأما المؤمن فيصحّ أن يطلق عليه ، ولأن الكافر سدّ على نفسه طريق معرفة الحلال والحرام . انتهى .
وفي " العناية " : تعليق نفي الجناح بهذه الأحوال ليس على سبيل اشتراطها ، فإن عدم الجناح في تناول المباح الذي لم يحرم لا يشترط بشرط . بل على سبيل المدح والثناء والدلالة على أنهم بهذه الصفة .
قال الزمخشري : ومثاله أن يقال لك : هل على زيد فيما فعل جناح ؟ فتقول - وقد علمت أن ذلك أمر مباح - ليس على أحد جناح في المباح إذا اتقى المحارم وكان مؤمناً محسناً ، تريد : إن زيداً تقيّ مؤمن محسن ، وإنه غير مؤاخذ بما فعل .
وقال العلامة أبو السعود : ما عدا اتقاء المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة ، لا دخل لها في انتفاء الجناح . وإنما ذكرت في حيز ( إذا ) شهادة باتصاف الذين سئل عن حالهم بها ، ومدحاً لهم بذلك ، وحمداً لأحوالهم . وقد أشير إلى ذلك حيث جعلت تلك الصفات تبعاً للاتقاء في كل مرة تمييزاً بينها وبين ما له دخل في الحكم ، فإنَّ مساق النظم الكريم بطريق العبارة - وإن كان لبيان حال المتصفين بما ذكر من المنعوت فيما سيأتي بقضية كلمة ( إذ ما ) - لكنه قد أخرج مخرج الجواب عن حال الماضين الإثبات الحكم في حقهم في ضمن التشريع الكليّ على الوجه البرهانيّ بطريق دلالة النص بناءً على كمال اشتهارهم بالاتصاف بها ، فكأنه قيل : ليس عليهم جناح فيما طعموه إذا كانوا في طاعته تعالى . مع مَا لَهم من الصفات الحميدة - بحيث كلما أمروا بشيءٍ تلقوه بالامتثال -وإنما كانوا يتعاطون الخمر والميسر في حياتهم لعدم تحريمهما إذ ذاك . ولو حرّما في عصرهم ، لاتقوهما بالمرة .
وقال الطيبي : المعنى أنه ليس المطلوب من المؤمنين الزهادة عن المستلذات وتحريم الطيبات . وإنما المطلوب منهم الترقي في مدارج التقوى والإيمان إلى مراتب الإخلاص واليقين ومعارج القدس والكمال . وذلك بأن يثبتوا على الاتقاء عن الشرك ، وعلى الإيمان بما يجب الإيمان به ، وعلى الأعمال الصالحة لتحصيل الاستقامة التامة التي يتمكن بها إلى الترقي إلى مرتبة المشاهدة ومعارج ( أنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ) وهو المعنيّ بقوله تعالى : { وَأَحْسِنُوَاْ } الخ . وبه يُنتهى للزلفى عند الله ومحبته . والله يحب المحسنين .
قال الخفاجي : وهذا دفع للتكرير وأنه ليس لمجرد التأكيد ، لأنه يجوز فيه العطف بـ ( ثم ) كما صرح به ابن مالك في قوله : { كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ التكاثر : 3 - 4 ] . بل به باعتبار تغاير ما علق به مرة بعد أخرى . والله أعلم .
الثانية : الإحسان المذكور في الآية : إمَّا إحسان العمل ، أو الإحسان إلى الخلق ، أو إحسان المشاهدة المتقدم ، ولا مانع من الحمل على الجميع . الثالثة : روي في سبب نزولها عن أنس قال : كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة . فنز تحريم الخمر فأمر صلى الله عليه وسلم منادياً فنادى . فقال أبو طلحة : اخرج فانظر ما هذا الصوت . قال ، فخرجت فقلت : هذا مناد ينادي : ألا إنّ الخمر قد حرّمت . فقال لي : اذهب فأهرقها . قال : فَجرَتْ في سكك المدينة .
قال ، وكانت خمرهم يومئذٍ الفضيخِ . فقال بعض القوم : قتل قوم في وهي بطونهم . قال ، فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ } . . الآية . رواه البخاري في " التفسير " .
روى الترمذيّ عن البراء بن عازب قال : مات ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر . فلما نزل تحريمها قال ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها ؟ قال ، فنزلت : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ } . . الآية . وقال : حسن صحيح .
وعن ابن عباس قال : قالوا : يا رسول الله ! أرأيت الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ؟ ( لما نزل تحريم الخمر ) ، فنزلت : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ } . . الآية . أخرجه الترمذيّ وقال : حديث حسن صحيح . وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : حرمت الخمر ثلاث مرات : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر . فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما ؟ فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم : { يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } [ البقرة : 219 ] . . . إلى آخر الآية . فقال الناس : ما حرمت علينا . إنما قال : { فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } . وكانوا يشربون الخمر حتى إذا كان يوم من الأيام ، صلى رجل من المهاجرين . أمَّ أصحابه في المغرب . خلط في قراءته فأنزل الله آية أغلظ منها : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } [ النساء : 43 ] . فكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق ، ثم أنزلت آية أغلظ من ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } [ المائدة : 90 ] . . . - إلى قوله - : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] . فقالوا : [ انْتَهَيَْنَا . رَبَّنَا ] ؟ فقال الناس : يا رسول الله ! ناس قتلوا في سبيل الله أو ماتوا على فرشهم ، كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، وقد جعله الله رجساً ومن عمل الشيطان ؟ فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ } . . الآية . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : لو حرّمت عليهم ، لتركوها كما تركتم .
قال ابن كثير : انفرد به أحمد .
وعن أبي ميسرة قال : لما نزل تحريم الخمر قال عمر : اللهمّ ! بَيِّنْ لنا في الخمر بياناً شافياً . فنزلت الآية التي في البقرة : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } . . الآية ، فدُعي عمر فقرأت عليه فقال : اللهمّ ! بَيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً . فنزلت الآية التي في سورة النساء : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى } . فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا قال حيّ على الصلاة - نادى : لا يقربنّ الصلاة سكران . فدُعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهمّ ! بين لنا في الخمر بياناً شافياًَ . فنزلت الآية التي في المائدة . فلما بلغ قوله تعالى : { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } قال : عمر انتهينا ! انتهينا ! رواه الإمام أحمد . وأصحاب السنن .
ورواه البيهقي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار . شربوا فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض . فلما أن صَحَوْا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ورأسه ولحيته فيقول : صنع بي هذا أخي فلان . وكانوا أخوة ليس في قلوبهم ضغائن ، فيقول : والله ! لو كان بي رؤوفاً رحيماً ما صنع بي هذا . حتى وقعت الضغائن في قلوبهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية { إِنَّمَا الْخَمْرُ } . . . - إلى قوله - : { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } .
فقال ناس من المتكلفين : هي رجس وهي في بطن فلان وقد قتل في أحُد فأنزل الله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ } . . . الآية . ورواه النسائي في " التفسير " .
وأخرج أبو بكر البزار عن جابر رضي الله عنه قال : أصطبح ناس الخمر من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم قتلوا شهداء يوم أحد ، فقالت اليهود : فقد مات بعض الذين قتلوا وهي في بطونهم ، فنزلت : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ } . . الآية . قال البزار إسناده صحيح .
قال ابن كثير : هو كما قال .
وقد ساق ابن كثير - أحاديث كثيرة في تحريم الخمر مما رواه أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد ، فمن شاء ليرجع إليه . ولا يخفى أن تحريمها معلوم من الدين بالضرورة .
وقد روى السيوطيّ في " الجامع الكبير " عن ابن عساكر بسنده إلى سيف بن عُمَر عن الربيع وأبي عثمان وأبي حارثة قالوا : كتب أبو عبيدة إلى عمر رضي الله عنهما : إن نفراً من المسلمين أصابوا الشراب . منهم ضرار وأبو جندل . فسألناهم فتأولوا وقالوا : خيرنا فاخترنا . قال : { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } ؟ ولم يعزم . فكتب إليه عمر : فذلك بيننا وبينهم : { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } يعني : فانتهوا . وجمع الناس فاجتمعوا على أن يضربوا ثمانين جلدة ويضمنوا النفس ، ومن تأول عليها بمثل هذا ، فإن أبى قتل . وقالوا : من تأول على ما فرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ، يزجر بالفعل والقتل . فكتب عمر إلى أبي عبيدة أن ادعهم . فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم . وإن زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين . فبعث إليهم فسألهم على رؤوس الأشهاد فقالوا : حرام . فجلدهم ثمانين . وحدّ القوم ، وندموا على لجاجتهم ، وقال : ليحدثن فيكم - يا أهل الشام ! - حادث ، فحدث الرمادة .
ورواه سيف بن عُمَر أيضاً عن الشعبي والحكم بن عيينة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 94 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ } أي : يرسله إليكم وأنتم محرمون : { تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ } لتأخذوه ، وهو الضعيف من الصيد وصغيره : { وَرِمَاحُكُمْ } لتطعنوه ، وهو كبار الصيد : { لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ } فيمتنع عن الاصطياد لقوة إيمانه .
قال مقاتل بن حيان : أنزلت هذه الآية في عَمْرة الحديبية . فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط فيما فيما خلا ، فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون .
قال ابن كثير : يعني أنه تعالى يبتليهم بالصيد يغشاهم في رحالهم ، يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سرّاً وجهراً ، لتظهر طاعة من يطيع منهم في سره أو جهره ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [ الملك : 12 ] .
وقوله تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى } أي : بالصيد : { بَعْدَ ذَلِكَ } يعني بعد الإعلام والإنذار : { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } لمخالفته أمر الله وشرعه .
لطيفة :
قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى التقليل والتصغير في قوله : { بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ } ؟ قلت : قلل وصغّر أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي تدحض عندها أقدام الثابتين - كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال - وإنما هو شبيه بما ابتلى به أهل أيلة من صيد السمك ، وأنهم إذا لم يثبتوا عنده ، فكيف شأنهم عند ما هو أشدّ منه . . ؟
قال الناصر في " الانتصاف " : قد وردت هذه الصيغة بعينها في الفتن العظيمة في قوله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 155 ] . فلا خفاء في عظم هذه البلايا والمحن التي يستحق الصابر عليها أن يبشر ، لأنه صبر عظيم . فقول الزمخشريّ : إنه قلل وصغّر تنبيهاً على أن هذه الفتنة ليست من الفتن العظام - مدفوعٌ باستعمالها مع الفتن المتفق على عظمها . والظاهر - والله أعلم - أنّ المراد بما أشعر به اللفظ من التقليل والتصغير ، التنبيه على أن جميع ما يقع الابتلاء به من هذه البلايا بعضٌ من كلٍّ ، بالنسبة إلى مقدور الله تعالى . وإنه تعالى قادر على أن يكون ما يبلوهم به من ذلك أعظم مما يقع وأهول . وأنه مهما اندفع عنهم ممَّا هو أعظم في المقدور فإنما يدفعه عنهم إلى ما هو أخف وأسهل ، لطفاً بهم ورحمةً . ليكون هذا التنبيه باعثاً لهم على الصبر ، وحاملاً على الاحتمال . والذي يرشد إلى أن هذا مرادٌ ، أنَّ سبق التوعد بذلك لم يكن إلا ليكونوا متوطنين على ذلك عند وقوعه . فيكون أيضاَ باعثاً على تحمله . لأن مفاجأة المكروه بغتة أصعب . والإنذار به قبل وقوعه مما يسهل موقعه . وحاصل ذلك لطف في القضاء . . . فسبحان اللطيف بعباده . وإذا فكّر العاقل فيما يبتلى به من أنواع البلايا ، وجد المندفع عنه منها أكثر ، إلى ما لا يقف عند غاية . فنسأل الله العفو والعافية واللطف في المقدور . . انتهى .
وللزمخشري أن يجيب بأن الآية : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } شاهدة له لا عليه . لأنه المقصود فيه أيضاً بالنسبة إلى ما دفعه الله عنهم - كما صرح به الناصر - مع أنه لا يتم دفعه بالآية إلا إذا كان : { وَنَقْصٍ } معطوفاً على مجرور ( من ) ، ولو عطف على ( شيء ) لكان مثل هذه الآية بلا فرق . . كذا في " العناية " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } [ 95 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } أي : محرمون بحجٍ أو عَمْرة .
قال المهايميّ : لأن قتله تجبر . والمحرم في غاية التذلّل . انتهى .
وذكر القتل ، دون الذبح والذكاة ، للتعميم . أو للإيذان بكونه في حكم الميتة . و الصيد ما يصاد مأكولاً أو غيره . ولا يستثنى إلاّ ما ثبت في " الصحيحين " عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور > . وفي رواية ( الحية ) بدل ( العقرب ) .
قال زيد بن أسلم وابن عيينة : الكلب العقور يشمل السباع العادية كلها . ويستأنس لهذا بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا دعا على عُتْبَةُ بن أبي لهب قال : < اللهمّ سلّط عليه كلبك > . فأكله السبع بالزرقاء { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ } أيها المحرمون : { مُتَعَمِّداً } ذاكراً لإحرامه : { فَجَزَاءٌ } بالتنوين ورفع ما بعده ، أي : فعليه جزاء هو : { مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } أي : شبهه في الخلقة . وفي قراءة بإضافة ( جزاء ) : { يَحْكُمُ بِهِ } أي : بالمثل مجتهدان : { ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } لهما فطنة يميزان بها أشبه الأشياء به . وقد حكم ابن عباس وعمر وعليّ رضي الله عنهم في النعامة بببدنه . وابن عباس وأبو عبيدة في بقر الوحش وحماره ببقرة . وابن عمر وابن عوف في الظبي بشاة . وحكم بها ابن عباس وعمر وغيرها في الحمام ، لأنه يشبهها في العبّ : { هَدْياً } حال من ( جزاء ) : { بَالِغَ الْكَعْبَةِ } أي : يبلغ به الحرم . فيذبح فيه ويتصدق به على مساكينه . فلا يجوز أن يذبح حيث كان : { أَوْ } عليه : { كَفَّارَةٌ } غير الجزاء . وإن وجده . هي : { طَعَامُ مَسَاكِينَ } من غالب قوت البلد ما يساوي قيمة الجزاء . لكل مسكين مدّ . وفي قراءةٍ بإضافة ( كفارةٍ ) لما بعده ، وهي للبيان : { أَوْ } عليه : { عَدْلُ } مثل : { ذَلِكَ } الطعام : { صِيَاماً } يصوم ، عن كل مدّ يوماً : { لِيَذُوقَ } أي : هاتكُ حرمة الله : { وَبَالَ أَمْرِهِ } أي : شدة وثقل هتكه لحرمة الإحرام . و ( وليذوق ) متعلق بالاستقرار في الجار والمجرور . أي : فعليه جزاء ليذوق أو بفعل يدلّ عليه الكلام . أي : شرع ذلك عليه ليذوق : { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } من قتل الصيد قبل تحريمه { وَمَنْ عَادَ } إليه : { فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْه } بطلب الجزاء في الدنيا والمعاقبة في الآخرة . وكيف يترك ذلك : { وَاللَّهُ عَزِيزٌ } غالب على أمره . ومقتضى عزته الانتقام من هاتك حرمته ، فهو لا محالة : { ذُو انْتِقَامٍ } ممن عصاه .
تنبيهات :
الأول - روى ابن أبي حاتم عن طاوس قال : لا يحكم على من أصاب صيداً خطأ ، إنما يحكم على من أصابه متعمداً .
قال ابن كثير : وهذا مذهب غريب . وهو تمسك بظاهر الآية .
ورأيت في بعض تفاسير الزيدية نسبة هذا القول إلى ابن عباس وعطاء ومجاهد وسالم وأبي ثور وابن جبير والحسن ( في إحدى الروايتين ) ، والقاسم والهادي والناصر وغيرهم . انتهى . والجمهور : أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه .
وقال الزهري : دلّ الكتاب على العابد . وجرت السنة على الناسي .
الثاني : إذا لم يكن الصيد مثلياً حكم ابن عباس بثمنه يحمل إلى مكة . رواه البيهقي .
الثالث : ذهب معظم الأئمة إلى التخيير في هذا المقام بين الجزاء والإطعام والصيام ، لأنه بلفظ ( أو ) وحقيقتها التخيير .
وعن بعض السلف أن ذلك على الترتيب . قالوا : إنما دخلت ( أو ) لبيان أن الجزاء لا يعدو أحد هذه الأشياء ، ولأنا وجدنا الكفارات من الظهار والقتل على الترتيب . قلنا : هذا معارض بكفارة اليمين وبدم الأذى ، فلا يخرج عن حقيقة اللفظ وهو التخيير .
الرابع : تعلق بظاهر قوله تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ } من قال : لا كفارة على العائد . لأنه تعالى لم يذكرها . هو مرويّ عن ابن عباس وشريح . والجمهور : على وجوبها عليه . لأن وعيد العائد لا ينافي وجوب الجزاء عليه . وإنما لم يصرح به لعلمه فيما مضى . مع أن الآية يحتمل أن معناها : من عاد بعد التحريم إلى ما كان قبله .
الخامس : قال الحاكم : كما دلت الآية على الرجوع إلى ذوي العدل في المماثلة . ففي ذلك دلالة على جواز الاجتهاد وتصويب المجتهدين . وجواز تعليق الأحكام بغالب الظن . وجواز رجوع العاميّ إلى العالم ، وأن عند التنازع في الأمور يجب الرجوع إلى أهل البصر . . انتهى .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [ 96 ]
{ أُحِلَّ لَكُمْ } خطاب للمُحْرِمين : { صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ } قال المهايمي : إذ ليس فيه التجبرّ المنافي للتذلل الإحراميّ . و : { صَيْدُ الْبَحْرِ } ما يصطاد منه طريَّاً ، و : { وَطَعَامُهُ } ما يتزود منه مملحاً يابساً ، كذا في رواية عن ابن عباس . والمشهور عنه أن صيده
ما أخذ منه حيّاً , وطعامه ما لفظه ميتاً . قال ابن كثير : وهذا ما روي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وعبد الله بن عَمْرو وأبي أيوب الأنصاريّ رضي الله عنهم , وعن غير واحد من التابعين .
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي بكر قال : طعامه كل ما فيه .
وعن ابن المسيب : طعامه ما لفظه حيّاً أو حسر عنه فمات .
{ مَتَاعاً لَكُمْ } أي : تمتيعاً للمقيمين منكم يأكلونه طرياً : { وَلِلسَّيَّارَة } منكم يتزودونه قديداً .
و ( السيارة ) القوم يسيرون . أُنِّثَ على الرفقة والجماعة .
تنبيهان :
الأول : قال ابن كثير : استدل الجمهور على حل ميتته بهذه الآية , وبما رواه الإمام مالك عن ابن وهب وابن كَيْسان عن جابر قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً قبل الساحل . فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح وهم ثلاثمائة - قال وأنا فيهم - قال : فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد . فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش . فجمع ذلك فكان مزوديْ تمر , قال : فكان يقوّتنا كل يوم قليلاً قليلاً حتى فني ولم تصبنا إلا تمرة تمرة , فقلت : وما تغني تمرة ؟ فقال : لقد وجدنا فقدها حين فقدت . قال ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت مثل الظَّرِبِ . فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة . ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا . ثم أمر براحلة فرحلت ، ثم مرت تحتها ولم تصبها .
وهذا الحديث مخرج من " الصحيحين " وله طرق عن جابر . وفي " صحيح مسلم " عن جابر : وتزودنا من لحمه وشائق . فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال : هو رزق أخرجه الله لكم . هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا ؟ قال : فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله .
وفي بعض روايات مسلم : أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين وجدوا هذه السمكة . فقال بعضهم : هي واقعة أخرى . وقال بعضهم : هي قضية واحدة ، ولكن كانوا أولاً مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم بعثهم سرية مع أبي عبيدة . فوجدوا هذه في سريتهم تلك مع ؟ أي : عبيدة . والله أعلم ؟
وعن أبي هريرة : أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء . فإن توضأنا به عطشنا . أفنتوضأ بماء البحر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته > . رواه مالك والشافعيّ وأحمد وأهل السنن . وصححه البخاري والترمذي وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم .
وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أحلت لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان فالحوت والجراد ، وأما الدمان فالكبد والطحال > . رواه الشافعي وأحمد وابن ماجة والدارقطنيّ والبيهقيّ ، وله شواهد . وروي موقوفاً . فهذه حجج الجمهور .
الثاني : احتج بهذه الآية أيضاً من ذهب من الفقهاء إلى أنه يؤكل دواب البحر ، ولم يستثن من ذلك شيئاً . وقد تقدم عن الصديق أنه قال : طعامه كل ما فيه . وقد استثنى بعضهم الضفادع ، وأباح ما سواها ، لما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن أبي عبد الرحمن التَّيمي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الضفدع . وللنسائيّ عن عبد الله بن عَمْرو قال : < نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع وقال : نقيقها تسبيح >
{ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } أي : محرمين ؛ فإذا اصطاد المحرم الصيد متعمداً أَثِمَ وَغَرِمَ . أو مخطئاً غرم وحرم عليه أكله . لأنه في حقه كالميتة : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } في الاصطياد في الحرم أو في الإحرام ، ثم حذرهم بقوله سبحانه : { الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي : تبعثون فيجازيكم على أعمالكم .
لطيفة :
قال المهايمي : إنما حرَّم الصيّد على المحرم ، لأنه قصد الكعبة التي حُرِّمَ صَيْدُ حرمها ، فجعل كالواصل إليه . وإنما حرم صيد حرمها لأنها مثال بيت الملك ، لا يتعرض لم فيه أو في حرمه . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ 97 ]
{ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ } أي : مداراً لقيام أمر دينهم بالحج إليه ، ودنياهم بأمن داخله وعدم التعرض له وجبي ثمرات كل شيء إليه .
قال المهايميّ : جعله الله مقام التوجه إليه في عبادته للناس المتفرقين في العالم ، ليحصل لهم لهم الاجتماع الموجب للتألف ، الذي يحتاجون إليه في تمدّنهم ، الذي الذي به كمالُ معايشهم ومعاهدهم ، لاحتياجهم إلى المعاونة فيهما .
{ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ } بمعنى الأشهر الحرم - ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب - قياماً لهم بأمنهم من القتال فيها . لأنه حرم فيها ليحصل التآلف فيها : { وَالْهَدْيَ } وهو ما يهدى إلى مكة : { وَالْقَلائِدَ } جمع قلادة . وهي ما يجعل في عنق البدنة التي تهدى وغيره . والمراد بـ ( القلائد ) ذوات القلائد وهي البدن . خصّت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر ، وبهاء الحج بها أظهر . والمفعول الثاني محذوف ، ثقةً بما مرّ ، أي : جعل الهدي والقلائد أيضاً قياماً لهم . فإنهم كانوا يأمنون بَسَوْق الهدي إلى البيت الحرام على أنفسهم . وفيه قوام لمعيشة الفقراء ثَمَّت . وكذلك كانوا يأمنون إذا قلدوها أو قلّدوا أنفسهم ، عند الإحرام ، من لحاء شجر الحرم . فلا يتعرض لهم أحد : { ذَلِكَ } أي : الجَعْل المذكور : { لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فإنّ جعله ذلك لجلب المصالح لكم ودفع المضار عنكم قبل وقوعها ، دليلٌ على علمه بما هو في الوجود وما هو كائن .
وقد جوّد الرازيّ تقرير هذا المقام فأبدع ، فلينظر .
وقوله تعالى : { وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } تعميمٌ إثر تخصيصٍ للتأكيد .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 98 ]
{ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } وعيد لمن انتهك محارمه أو أصرّ على ذلك : { وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وعدٌ لمن حافظ على مراعاة حرماته تعالى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } [ 99 ]
{ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ } يعني : ليس على رسولنا الذي أرسلناه إليكم ، إلاَّ تبليغ ما أرسل به من الإنذار بما فيه قطع الحجج . وفي الآية تشديد في إيجاب القيام بما أمر به . وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ . وقامت عليكم الحجّة ، ولزمتكم الطاعة ، فلا عذر لكم في التفريط : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } من الخير والشرّ ، فيجازيكم بذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ 100 ]
{ قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ } حكم عام في نفي المساواة عند الله سبحانه وتعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال ، وجيّدها . قصد به الترغيب في صالح العمل وحلال المال : { وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } فإنّ العبرة بالجودة والرداءة ، دون القلّة والكثرة . فإن المحمود القليل خير من المذموم الكثير . والخطاب عام لكل معتبر - أي : ناظر بعين الاعتبار - ولذلك قال : { فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } أي : فاتقوه في تحري الخبيث وإِنْ كثر . وآثروا الطيّب وإنْ قلَّ : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : بمنازل القرب عنده تعالى المعدّ للطيّبين .
تنبيهان :
الأول - قال الرازي : أعلم أنه تعالى لمّا زجر عن المعصية ورغّب في الطاعة بقوله : { اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } الآية ثم بما بعدها أيضاً - أتبعه بنوعٍ آخر من الترغيب والترهيب بقوله : { قُل لاَّ يَسْتَوِي } الآية . وذلك لأن الخبيث والطيب قسمان : أحدهما الذي يكون جسمانيّاً وهو ظاهر لكل أحد . والثاني الذي يكون روحانيّاً . وأخبث الخبائث الروحانية الجهل والمعصية . وأطيب الطيبات الروحانية معرفة الله تعالى وطاعته . وذلك لأن الجسم الذي يلتصق به شيء من النجاسات يصير مستقذراً عند أرباب الطباع السليمة . فكذلك الأرواح الموصوفة بالجهل بالله والإعراض عن طاعته تصير مستقذرة عند الأرواح الكاملة المقدسة . وأما الأرواح العارفة بالله تعالى ، المواظبة على خدمته ، فإنها تصير مُشْرِقَةً بأنوار المعارف الإلهية ، مبتهجةً بالقرب من الأرواح المقدسة الطاهرة . وكما أنَّ الخبيث والطيّب في عامل الجسمانيات لا يستويان ، فكذلك في عالم الروحانيات لا يستويان . بل المباينة بينهما في عالم الروحانيات أشدّ لأن مضرة خبث الخبيث الجسمانيّ شيء قليل ومنفعة طيبة مختصرة . وأمّا خبث الخبيث الروحانيّ فمضرته عظيمة دائمة أبدية . وطيب الطّيب الروحاني فمنفعته عظيمة دائمة أبدية . وهو القرب من جوار ربّ العالمين ، والانخراط في زمرة الملائكة المقربين ، والمرافقة مع النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين . فكان هذا من أعظم وجوه الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية .
الثاني : قال بعض المفسّرين : من ثمرة الآية أنه ينبغي إجلال الصالح وتمييزه على الطالح . وأنّ الحاكم إذا تحاكم إليه الكافر والمؤمن ، ميّز المؤمن في المجلس . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [ 101 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا } أي : نبيكم : { عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ } أي : تظهر : { لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } لما فيها من المشقة : { وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } أي : وإن تسألوا عن أشياء نزل القرآن بها مجملة ، فتطلبوا بيانها ، تبين لكم حينئذ لاحتياجكم إليها . هذا وجه في الآية . وعليه فـ ( حين ) ظرف لـ ( تسألوا ) .
وثَمة وجه آخر : وهو جعل ( حين ) ظرفاً لـ ( تبد ) ، والمعنى : وإن تسألوا عنها . تُبْد لكم حين ينزل القرآن .
قال ابن القيم : والمراد بـ ( حين النزول ) زمنه المتصل به ، لا الوقت المقارن للنزول . وكأن في هذا إذناً لهم في السؤل عن تفصيل المنزل ومعرفته بعد إنزاله . ففيه رفع لتوهم المنع من السؤال عن الأشياء مطلقاً . ثم قال : وثمة قول ثانٍ في قوله تعالى : { وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا } الخ ، وهو أنّه من باب التهديد والتحذير ، أي : ما سألتم عنها في وقت نزول الوحي جاءكم بيان ما سألتم عنه بما يَسُوؤكم : والمعنى : لا تتعرّضوا للسؤال عمّا يَسُوءكم بيانه ، وإن تعرضتم له في زم الوحي أبدي لكم . انتهى .
وقال بعضهم : إنه تعالى ، بيّن أولاً أنَّ تلك الأشياء - التي سألوا عنها - إن أبديت لهم ساءتهم . ثم بيّن ثانياً أنهم إن سألوا عنها أُبْدِيَتْ لهم . فكان حاصل الكلام إن سألوا عنها أبديت لهم ، وإن أبديت لهم ساءتهم ، فيلزم من مجموع المقدمتين أنهم ، إن سألوا عنها ، ظهر لهم ما يَسوُءُهم ولا يسرّهم .
قال العلامة أبو السعود : قوله تعالى : { إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } صفة لـ ( أشْياء ) داعية إلى الانتهاء عن السؤال عنها . وحيث كانت المساءة في هذه الشرطية معلقة بإبدائها ، لا بالسؤال عنه ، عقبت بَشَرْطية أخرى ناطقة باستلزام السؤال عنها لإبدائها الموجب للمحذور قطعاً . فقيل : وإِنْ تَسْأَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ القُرآنُ تُبْدَ لَكُمْ . أي : تلك الأشياء الموجبة للمساءة بالوحي ، كما ينبئ عنه تقييد السؤال بحين التنزيل . والمراد به : ما يشق عليهم ويغّمهم من التكاليف الصعبة التي لا يطيقون بها ، والأسرار الخفية التي يفتضحون بظهورها ، ونحو ذلك مما لا خير فيه . فكما أنَّ السؤال عن الأمور الواقعة مستتبع لإبدائها ، كذلك السؤال عن تلك التكاليف مستتبع لإيجابها عليهم بطريق التشديد ، لإساءتهم الأدب واجترائهم على المسألة والمراجعة ، وتجاوزهم عمّا يليق بشأنهم من الاستسلام لأمر الله عزّ وجل ، من غير بحثٍ فيه ولا تعرّض لكيفيته وكميّته . أي : لا تكثروا مساءلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما لا يعنيكم من تكاليف شاقة عليكم - إن أفتاكم بها وكلفكم إياها حسبما أوحي إليه - لم تطيقوا بها ، ونحو بعض أمورٍ مستورةٍ تكرهون بروزها .
{ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } أي : عن تلك الأشياء حين لم ينزل فيها القرآن ولم يوجبها عليكم توسعةً عليكم . أو : عفا الله عن بيانها لئلاّ يسوءكم بيانها . فالجملة في موضع جرّ صفة أخرى لـ : { أَشْيَاء } . أو المعنى : عفا الله عن مسائلكم السالفة ، وتجاوز عن عقوبتكم الأخروية بمسائلكم ، فلا تعودوا إلى مثلها . فالجملة حينئذٍ مستأنفة مبينة لأن نهيهم عنها لم يكن لمجرّد صيانتهم عن المساءة . بل لأنها في نفسها معصية مستتبعة للمؤاخذة وقد عفا عنها . وفيه من حثّهم على الجِدّ في الانتهاء عنها ما لا يخفى : { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } اعتراض تذييليّ مقرّر لعفوه تعالى ، أي : مبالغ في مغفرة الذنوب . ولذا عفا عنكم ولم يؤاخذكم بما فرط منكم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ } [ 102 ]
{ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ } أي : سألوا هذه المسألة ، لكن لا عينها ، بل مثلها في كونها محظورة ومستتبعة للوبال . وعدم التصريح بالمثل للمبالغة في التحذير : { ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ } أي : بسببها . حيث لم يمتثلوا ما أجيبوا به ، ويفعلوه . وقد كان بنو إسرائيل يستفتون أنبياءهم عن أشياء ، فإذا أُمِروا بها تركوها فهلكوا . والمعنى : احذروا مشابهتهم والتعرض لما تعرضوا له .
تنبيهات :
الأول : روى البخاريّ في سبب نزولها في " التفسير " عن أبي الجويرية عن ابن عباس قال : كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءًَ . فيقول الرجل : من أبي ؟ ويقول الرجل ، تضلّ ناقته : أين ناقتي ؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ } حتى فرغ من الآية كلها .
وأخرج أيضاً عن موسى بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط ، قال : < لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً . . . قال : فغطّى أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ، لهم خنين . فقال رجل : من أبي ؟ قال : فلان > فنزلت هذه الآية : { لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } .
وروى البخاري أيضاً في كتاب " الفتن " عن قتادة : أن أنساً حدثهم قال : سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى أحْفَوْه بالمسألة . فصعد النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ المنبر فقال : < لا تسألوني عن شيء إلاّ بينت لكم . فجعلتُ أنظر يميناً وشمالاً ، فإذا كلّ رجلٍ ، رأسه في ثوبه يبكي . فأنشر رجل - كان إذ لاحى يُدْعى إلى غير أبيه - فقال : يا نبيّ الله ! من أبي ؟ فقال : أبوك حذافة > . ثم أنشأ عمر فقال : رضينا بالله ربَّاً ، وبالإسلام ديناً ، وبحمدٍّ رسولاً . نعوذ بالله من سوء الفتن .
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : < ما رأيت في الخير والشرّ كاليوم قط . إنه صوّرت لِيَ الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط > .
فكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء } .
وفي رواية : قال قتادة يُذْكَرُ - بالبناء للمجهول - هذا الحديث . . . الخ
وروى البخاري أيضاً في كتاب " الاعتصام بالكتاب والسنّة " في باب ما يكره من كثرة السؤال ، عن الزهري قال : أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس فصلّى الظهر . فلما سلّم قام إلى المنبر فذكر الساعة . وذكر أن بين يديها أموراً عظاماً . ثم قال : < من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه ، فوالله ! لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا > . قال أنس فأكثر الأنصار البكاء ، وكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول : فقال أنس : فقام رجل فقال : أين مدخليْ يا رسول الله ! قال : النار . فقام عبد الله بن حذافة فقال : من أبي ؟ يا رسول الله ! قال : < أبوك حذافة > . قال : ثم أكثر أن يقول : سلوني . فبرك عمر على ركبتيه فقال : رضينا بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً .
قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < والذي نفسي بيده ! لقد عرضت عليّ الجنة والنار آنفاً في عُرْض هذا الحائط وأنا أصلي . فلم أر كاليوم في الخير والشر > .
وعند مسلم : قال ابن شهاب : أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عُتْبَة قال : قالت أم عبد الله بن حذافة لعبد الله بن حذافة : ما سمعتُ بابنِ قطّ أعقَّ منك . أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية ، فتفضحها على أَعْيَن الناس ؟
قال عبد الله بن حذافة : والله ! لو ألحقني بعبد أسود للحقته .
وروى ابن جرير عن السدّي قال : غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام فقام خطيباً فقال : سلوني . - نحو ما تقدم - وزاد : فقام إليه عمر فقبل رجله وقال : رضينا بالله رباً . . الخ .
وزاد : وبالقرآن إماماً ، فاعف عنا عفا الله عنك . فلم يزل به حتى رضي .
وأخرج أيضاً عن أبي هريرة قال : < خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمارّ وجهه حتى جلس على المنبر . فقام إليه رجل فقال : أين أنا ؟ قال : في النار . - نحو ما مرّ - وفيه : فنزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ } > الآية .
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : وبهذه الزيادة - أي : على ما في البخاريّ من قول رجل للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أين أنا ؟ قال : في النار . - يتضح أن هذه القصة سبب نزول : { لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء } الآية ، فإن المساءة في حق هذا جاءت صريحة ، بخلافها في حق حذافة فإنه بطريق الجواز ، أي : لو قدر أنه في نفس الأمر لم يكن لأبيه ، فبيّن أباه الحقيقيّ ، لافتضحت أمه ، كما صرحت بذلك أمه حين عاتبته على هذا السؤال . انتهى .
وروى الإمام أحمد والترمذي عن أبي البختري عن عليّ رضي الله عنه قال : لما نزلته هذه الآية : { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } قالوا : يا رسول الله ! أفي كل عام ؟ فسكت ، فقالوا : أفي كلّ عام ؟ فسكت ، قال ثم قالوا : أفي كلّ عام ؟ فقال : لا . ولو قلت نعم لوجبت . ولو وجبت لما استطعتم . فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ } الآية .
قال الترمذي : غريب وسمعت البخاريّ يقول : أبو البختريّ لم يدرك عليّاً .
وروى ابن جرير ونحوه عن أبي هريرة وأبي أمامة ، وكذا عن ابن عباس ، قال في الآية : لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك ، ولكن انتظروا فإن نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم بيانه .
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : والحاصل أنها نزلت بسبب كثرة المسائل . إما على سبيل الاستهزاء أو الامتحان ، وإما على سبيل التعنت عن الشيء الذي لو لم يسأل عنه لكان على الإباحة .
الثاني - قال ابن كثير : ظاهر الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته . فالأوْلى الإعراض عنها وتركها . وما أحسن الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : لا يبلغني أحد عن أحدٌ شيئاً . فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سُلَيم الصدر . ورواه أبو داود والترمذي .
الثالث - قال الإمام ابن القيم في " إعلام الموقعين " :
لم ينقطع حكم هذه الآية . بل لا ينبغي للعبد أن يتعرّض للسؤال عمّا إن بدا له ساءه . بل يستعفي ما أمكنه ، ويأخذ بعفو الله . ومن هاهنا قال عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه : يا صاحب الميزاب ! لا تخبرنا . لمّا سأله عن رفيقه عن مائه : أطاهر أم لا ؟
وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه وستره فلعله يسوءه إن أبدي له . فالسؤال عن جميع ذلك تعرض لما يكرهه الله . فإنه سبحانه يكره إبداءها ، ولذلك سكت عنها .
وما ذكره من التعميم هو باعتبار ظاهرها . وأما المقصود أولاً وبالذات - كما يفيده تتمتها - فهو النهي عن السؤال بما يسوء إبداؤه في زمن الوحي .
ويدل له ، ما رواه البخاري عن سعد بن أبي وقاص : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : < إنّ أعظم المسلمين جرماً ، من سأل عن شيءٍ لم يحرّم فحُرِّم من أجل مسألته > .
فإن مثل ذلك قد أمن وقوعه . وعن أبي هريرة : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < ذروني ما تركتكم . فإنما أهلكَ مَنْ كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم . فإذا أمرتكم بشيء فأْتُوا منه ما استطعتم . وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه > ، رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي .
وعن أبي ثعلبة الخُشَنِي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < إنّ الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها . وحدّ حدوداً فلا تعتدوها . وحرّم أشياء فلا تقربوها . وترك أشياء ، من غير نسيان ، فلا تبحثوا عنها > . رواه الدارقطنيّ وأبو نعيم .
وعن سلمان الفارسي : قال سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء فقال : < الحلال ما أحلّ الله في كتابه . والحرام ما حرّم الله في كتابه . وما سكت عنه فهو مما قد عفا عنه ، فلا تتكلّفوا > . رواه الترمذي والحاكم وابن ماجة .
وأخرج الشيخان عن أنس قال : كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيءٍ . وكان يعجبنا الرجل الغافل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع .
وفي قصة اللعان من حديث ابن عمر : فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها .
. ولمسلم عن النوّاس بن سمعان قال : أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة ، ما يمنعني من الهجرة إلاَّ مسألة . كان أحدنا ، إذا هاجر ، لم يسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم .
ومراده : أنه قدم وافداً ، فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل ، خشية أن يخرج من صفة الوفد إلى استمرار الإقامة فيصير مهاجراً ، فيمتنع عليه السؤال .
وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب ، وفوداً كانوا أو غيرهم .
وأخرج أحمد عن أبي أمامة قال : لمّا نزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء } الآية , كنّا قد أتقينا أن نسأله صلى الله عليه وسلم . فأبينا أعرابيّاً فرشوناه برداءِ وقلنا : سل النبيه صلى الله عليه وسلم .
ولأبي يعلى عن البراء : إن كان ليأتي عليّ السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيّب , وإن كنا لنتمنى الإعراب - أي : قدومهم - ليسألوه , فيسمعوهم أجوبة سؤالات الأعراب , فيستفيدوها .
وأمّا ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة , فيحتمل أن يكون قبل نزول الآية ، ويحتمل أن النهي عن الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرر حكمه ، أو ما لهم بمعرفته حاجة راهنة : كالسؤال عن الذبح بالقصَب . والسؤال عن وجوب طاعة الأمراء إذا أمروا بغير الطاعة . والسؤال عن أحوال يوم القيامة وما قبلها من الملاحم والفتن . والأسئلة التي في القرآن : كسؤالهم عن الكلالة والخمر والميسر والقتال في الشهر الحرام واليتامى والمحيض والنساء والصيد وغير ذلك .
لكن الذين تعلقوا بالآية في كراهية كثرة المسائل عمّا لم يقع ، أخذوه بطريق الإلحاق ، من جهة أن كثرة السؤال ، لمّا كانت سبباً للتكليف بما يشق ، فحقها أن تجتنب .
وقد عقد الإمام الدارمي في أوائل " مسنده " لذلك باباً . وأورد فيه عن جماعة من الصحابة والتابعين آثاراً كثيرة في ذلك ، منها : عن ابن عمر : لا تسألوا عما لم يكن . فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن .
وعن عمر : أحرّج عليكم أن تسألوا عمّا لم يكن . فإن لنا فيما كان شغلاً .
وعن زيد بن ثابت ، أنه كان إذا كان إذا سئل عن الشيء ؟ يقول : كان هذا ؟ فإن قيل : لا ! قال : دعوه حتى يكون .
وعن أُبيّ بن كعب ، وعن عمار نحو ذلك .
وأخرج أبو داود في " المراسيل " : عن أبي سلمة ومعاذ مرفوعاً : لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها . فإنكم إن تفعلوا لم يزل في المسلمين مَنْ إذا قال سُدِّد - أو وفق - وإن عجلتم تشتَّتَتْ بكم السبل .
وعن أشياخ الزبير بن سعيد مرفوعاً : لا يزال في أمتي من إذا سُدِّد ، حتى يتساءلوا عمّا لم ينزل .
قال بعض الأئمة : والتحقيق في ذلك ، أن البحث عما لا يوجد فيه نص ، على قسمين :
أحدهما أن يبحث عن دخوله في دلالة النصّ على اختلاف وجوهها ، فهذا مطلوب لا مكروه . بل ربما كان فرضاً على من تعين عليه من المجتهدين .
ثانيهما- أن يدقق النظر في وجوه الفروق ، فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له أثر في الشرع مع وجود وصف الجمع ، أو بالعكس بأن يجمع بين متفرقين بوصف طرديّ مثلاً . فهذا الذي ذمه السلف . وعليه ينطبق حديث ابن مسعود رفعه : هلك المتنطعون . . . أخرجه مسلم ، فرأوا أن فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته .
ومثله الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع ، وهي نادرة الوقوع جداً ، فيصرف فيها زماناًَ كان صرفه في غيرها أولى ، لا سيما إن لزم من ذلك إغفال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه . وأشد من ذلك - في كثرة السؤال - البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها . ومنها لا يكون له شاهد في عالم الحسّ . كالسؤال عن وقت الساعة وعن الروح وعن مدة هذه الأمة . . إلى أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف . والكثير منه لم يثبت فيه شيء ، فيجب الإيمان من غير بحث . وأشد من ذلك ما يوقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة . قال بعضهم : مثال التنطع في السؤال حتى يفضي بالمسؤول إلى الجواب بالمنع بعد أن يفتي بالإذن - أن يسأل عن السلع التي توجد في الأسواق : هل يكره شراؤها ممن هي في يده من قبل البحث عن مصيرها إليه أو لا ؟ فيجيبه بالجواز . فإن عاد فقال : أخشى أن يكون من نهب أو غصب ، ويكون ذلك الوقت قد وقع شيء من ذلك في الجملة ، فيحتاج أن يجيبه بالمنع . ويقيّد ذلك إن ثبت شيء من ذلك حرم ، وإن تردد كره أو كان خلاف الأولى . ولو سكت السائل عن هذا التنطع لم يزد المفتي على جوابه بالجواز . وإذا تقرر ذلك ، فمن يسدّ باب المسائل حتى فاته معرفة كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها ، فإنه يقل فهمه وعلمه ، ومن توسع في تفريع المسائل وتوليدها - ولا سيما فيما يقل وقوعه أو يندر ، ولا سيما إن كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة - فإنه يذم فعله ، وهو عين الذي كره السلف . ومن أمعن في البحث عن معاني كتاب الله ، محافظاً على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ، الذين شاهدوا التنزيل . وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه ، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك ، مقتصراً على ما يصلح للحجة منها ، فإنه الذي يحمد وينتفع به . وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمن بعدهم - كذا في " فتح الباري " .
ثم رأيت في " موافقات " الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى ، في أواخرها - في هذا الموضوع - مبحثاً جليلاً ، قال في أوله :
الإكثار من الأسئلة مذموم . والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح . من ذلك قوله تعالى . . . - وساق هذه الآية وما أسلفناه من الآثار وزاد أيضاً عما نقلنا - ثم قال : والحاصل أن كثرة السؤال ومتابعة المسائل بالأبحاث العقلية والاحتمالات النظرية ، مذموم . وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وُعِظوا في كثرة السؤال حتى امتنعوا منه . وكانوا يحبون أن يجيء الأعراب فيسألون حتى يسمعوا كلامه ويحفظوا منه العلم . . ثم قال : ويتبيّن من هذا أن لكراهية السؤال مواضع ، نذكر منها عشرة مواضع :
أحدها : السؤال عمّا لا ينفع في الدين ، كسؤال عبد الله بن حذافة : مَن أبي ؟ وروي في " التفسير " أنه عليه السلام سئل : ما بال الهلال يبدو رقيقاً كالخيط ثم لا يزال ينمو حتى يصير بدراً ثم ينقص إلى أن يصير كما كان ؟ فأنزل الله : { يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ } [ البقرة : 189 ] الآية ، فإنما أجيب بما فيه منافع الدين .
و ثانيها : أن يسأل بعد ما بلغ من العلم حاجته ، كم سأل الرجل عن الحج : أكل عام ؟ مع أن قوله تعالى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْت } [ آل عِمْرَان : 97 ] ، قاض بظاهره أنه للأبد ، لإطلاقه . ومثله سؤال بني إسرائيل بعد قوله : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة } [ البقرة : 67 ] .
و ثالثها : السؤال من غير احتياجٍ إليه في الوقت ، وكأن هذا - والله أعلم - خاص بما لم ينزل فيه حكم ، وعليه يدل قوله : < ذَرُوني ما تَرَكْتُكمْ > . وقوله : < وسكت عن أشياء رحمةً بكم ، لا عَنْ نسيان ، فلا تبحثوا عنها > .
و رابعها : أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها ، كما جاء في النهي عن الأغلوطات .
و خامسها : أن يسأل عن علة الحكم - هو من قبيل التعبدات ، أو السائل ممّن لا يليق به ذلك السؤال - كما في حديث قضاء الصوم دون الصلاة .
و سادسها : أن يبلغ بالسؤال إلى حدّ التكلف والتعمق ، وعلى ذلك يدلّ قوله تعالى : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } [ ص : 86 ] ، ولما سئل الرجل : يا صاحب الحوض ! هل ترد حوضك السباع ؟ قال عُمَر بن الخطاب : يا صاحب الحوض ! لا تخبرنا . فإن نرد على السباع وترد علينا .
و سابعها : أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي ، ولذلك قال سعيد : أعراقيّ أنت ؟ وقيل لمالك بن أنس : الرجل يكون عالماً بالسنة أيجادل عنها ؟ قال : لا . ولكن يخبر بالسنة . فإن قبلت منه وإلاّ سكت .
و ثامنها : السؤال عن المتشابهات ، وعلى ذلك يدل قوله تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } [ آل عِمْرَان : 7 ] الآية . وعن عُمَر بن عبد العزيز : من جعل دينه غرضاً للخصومات أسرع التنقل . ومن ذلك سؤال من سأل مالكاً عن الاستواء ؟ فقال : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهول ، والسؤال عنه بدعة .
و تاسعها : السؤال عما شجر بين السلف الصالح . وقد سئل عُمَر بن عبد العزيز عن قتال أهل صِفِّين ؟ فقال : تلك دماء كف الله عنها يدي ، فلا أحب أن ألطّخ بها لساني .
و عاشرها : سؤال التعنت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام . وفي القرآن في ذم نحو هذا : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } [ البقرة : 204 ] ، وقال : { بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } [ الزخرف : 58 ] وفي الحديث : أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم .
هذه جملة من المواضع التي يكره السؤال فيها ، يقاس عليها ما سواها ، وليس النهي فيها واحداً ، بل فيها ما تشتدّ كراهيته ، ومنها ما يخفّ ، ومنها ما يحرم ، ومنها يكون محلّ اجتهاد . وعلى جملة ، منها يقع النهي عن الجدال في الدين كما جاء : أن المراء في القرآن كفر . وقال تعالى : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } [ الأنعام : 68 ] الآية . وأشباه ذلك من الآي والأحاديث . . . فالسؤال في مثل ذلك منهيّ عنه ، والجواب بحسبه . انتهى كلامه .
التنبيه الرابع :
قال بعض المفسّرين : لا بد من تقييد النهي في هذه الآية ( بما لا تدعو إليه حاجة ) . لأن الأمر الذي تدعو إليه الحاجة في أمور الدين قد أذن الله بالسؤال عنه فقال : { فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] . وقال صلى الله عليه وسلم : < قاتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا . فإنما شفاء العيّ السؤال . . > انتهى .
ولا يخفى أن الآية بقيدها - أعني : { إِن تُبْدَ } . . الخ - غنية عن أن تقيّد بقيد آخر كما ذكره البعض . لأن المراد بها ما يشق عليهم من التكاليف الصعبة وما يفتضحون به - كما أسلفنا - مما هو خوض في الفضول ، وشروع فيما لا حاجة إليه . وفيه خطر المفسدة . والشيء الذي لا يحتاج إليه ويكون فيه خطر المفسدة ، يجب على العاقل الاحتراز عنه .
وأما ما تدعو إليه الحاجة فلا تشمله الآية - كما يتضح من نظمها الكريم - مع ما بيّنته السنة في سبب النزول ، وتحرج الصحابة عن المسائل المارّ بيانه - معلومٌ أنه فيما لا ضرورة إليها . وإلاَّ فمسائلهم في الضروريات والحاجيات طفحت بها كتب السنة ، مما يبيّن أن هذه الآية في موضوع خاص .
وقد كان صلى الله عليه وسلم يكره فتح باب كثرة المسائل ، خشية أن تفضي إلى حرج أو مسادة أو تعنّت . .
روى الشخان عن المغيرة بن شعبة أنه كتب إلى معاوية : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال : وإضاعة المال ، وكثرة السؤال .
وروى أحمد وأبو داود : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات -وهي صعاب المسائل - والآثار في ذلك كثيرة .
ثم بين تعالى بطلان ما ابتدعه أهل الجاهلية - من تحريم بعض بهيمة الأنعام - بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ 103 ]
{ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ } أي : ما شرع وما وضع . و ( من ) مزيدة لتأكيد النفي . والبحيرة ( كسفينة ) فعيلة بمعنى المفعول من ( البحر ) وهو شق الأذن . يقال : بحر الناقة والشاة ، يبحرها : شق أذنها . وفي البحرة أقوال كثيرة ساقها صاحب القاموس وغيره .
قال أبو إسحاق النحوي : أثبت ما روينا عن أهل اللغة في البحرة : أنها الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن ، فكان أخرها ذكراً ، بحروا أذنها ( أي : شقوها ) وأغفوا ظهرها من الركوب والحمل والذبح ، ولا تمنع من ماء ترده ولا من مرعى . وإذا لقيها المعيى المنقطع به ، لم يركبها : { وَلا سَائِبَةٍ } وهي الناقة كانت تسيب في الجاهلية لنذر أو لطواغيتهم . أي : تترك ولا تركب ولا يحمل عليها كالبحيرة . أو كانت إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث ، ليس بينهن ذكر ، سيبت فلم تركب ولم يجّز وبرها ، ولم يشرب لبنَها إلا ولدُها أو الضيف . أو كان الرجل إذا قدم من سفر بعيد ، أو برئ من علة ، أو نجت دابته من مشقة أو حرب ، قال : وهي ( أي : ناقتي ) سائبة : { وَلا وَصِيلَةٍ } كانوا إذا ولدت الشاة ستة أبطن عَناَقيْن عَناَقيْن . وولدت في السابع عناقاً وجدياً ، قالوا وصلت أخاها . فلا يذبحون أخاها من أجلها . وأحّلوا لبنها للرجال وحرموه على النساء . والعناق ( كسحاب ) الأنثى من أولاد المعز . وقيل : الوصيلة كانت في الشاة خاصة ، إذا ولدت الأنثى فهي لهم ، وإذا ولدت ذكراً جعلوه لآلهتهم . وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم : { وَلا حَامٍ } وهو الفحل من الإبل بضرب الضراب المعدود . فإذا انقضى ضرابه جعلوا عليه ريش الطواويس ، وسيبوه للطواغيت . وقيل : هو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن . ثم هو حام حمى حمى ظهره . فيترك فلا ينتفع منه بشيء ، ولا يمنع من ماء ولا مرعى . وحكى أبو مسلم : إذا أنتجت الناقة عشرة أبطن ، قالوا : حمت ظهرها .
وقد روي في تفسير هذه الأربعة ، أقوال أخر . ولا تنافي في ذلك . لأن أهل الجاهلية لهم في أضاليلهم تفنّنات غريبة .
هذا وروى ابن أبي حاتم عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نَضْلَة ، عن أبيه مالك بن نَضْلَة ، قال : أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في خلقان من الثياب . فقال لي : هل لك من مال ؟ فقلت نهم . قال : من أي : المال ؟ قال فقلت : من كل المال : الإبل والغنم والخيل والرقيق . قال : فإذا أتاك الله مالاً كثيراً فَكَثِّر عليك . ثم قال : تنتج إبلك وافية آذانها ؟ قال قلت : نعم . قال : وهل تنتج الإبل إلا كذلك ؟ قال : فلعلك تأخذ الموسى فتقطع آذان طائفة منها ، وتقول هذه حرم ؟ قلت : نعم . قال : فلا تفعل . إن كل ما آتاك الله لك حلّ . ثم قال : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ } .
أما البحيرة فهي التي يجدعون آذانها فلا تنتفع امرأته ولا بناته ولا أحد من أهل بيته بصوفها ولا أوبارها ولا أشعارها ولا ألبانها . فإذا ماتت اشتركوا فيها . وأما السائبة فهي التي يسيبون لآلهتهم يذهبون إلى آلهتهم فيسيبونها ، وأما الوصيلة فالشاة تلد ستة أبطن . فإذا ولدت السابع جدعت وقطعت قرنها فيقولون : قد وصلت ، فلا يذبحونها ولا تضرب ولا تمنع مهما وردت على حوض .
قال ابن كثير : هكذا ذكر تفسير ذلك مدرجاً في الحديث . وقد روي من وجه آخر عن أبي الأحوص من قوله ، وهو أشبه . وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد عن مالك بن نَضْلَة . وليس فيه تفسير هذه . والله أعلم .
{ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ } أي : ما شرع
الله هذه الأشياء ، ولا هي عنده قربة . ولكن المشركون افتروا ذلك وجعلوه شرعاً لهم وقربة يتقربون بها ، وليس ذلك بحاصل لهم ، بل هو وبال عليهم .
وفي البخاري أن التبحير والتسييب وما بعدهما ، كله لأجل الطواغيت . يعني أصنامهم ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبيه صلى الله عليه وسلم قال رأيت عَمْرو بن عامر الخُزَاعِي يجر قُصْبَهُ في النار . وكان أول من سيّب السوائب وبَحَرَ البحيرة وغير دين إسماعيل . لفظ مسلم .
زاد ابن جرير : وحمى الحامي .
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عَمْرو بن عامر وإني رأيته يجر أمعاءه في النار > .
قال ابن كثير : عمروٌ هذا هو ابن لُحَيٌّ بن قَمَعَةَ أحد رؤساء خزاعة الذين ولوا البيت بعد جُرْهم . وكان أول من غيّر دين إبراهيم الخليل . فأدخل الأصنام إلى الحجاز ودعا الرعاء من الناس إلى عبادتها والتقرب بها . وشرع لهم هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها . كما ذكره الله تعالى في سورة الأنعام عند قوله تعالى : { وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً } . . . الآيات . انتهى .
لطيفة :
قال الرازي : فإن قيل : إذا جاز إعتاق العبيد والإمام ، فلم لا يجوز إعتاق هذه البهائم من الذبح والإتعاب والإيلام ؟ قلنا : الإنسان مخلوق لخدمة الله تعالى وعبوديته . فإذا أزيل الرق عنه تفرغ لعبادته تعالى ، فكان ذلك قربة مستحسنة . وأما هذه الحيوانات فإنها مخلوقة لمنافع الناس . فإهمالها يقتضي فوات منفعة على مالكها وعلى غيره . أي : وهو خلاف الحكمة التي خلقت هي لأجلها . على أن الرقيق إذا أُعتق قَدَر على تحصيل مصالح نفسه ، بخلاف البهيمة . ففي تسيبها إيقاع لها في أنواع من المحنة والمشقة .
قال المهايمي : قاسوه ( يعني التبحير ) على عتق الإنسان مع ظهور الفرق . لما في عتق الإنسان من تمليك التصرفات ، ولا تصرف للحيوانات العجم .
ثم قال : الأول كالعتق بلا نذر . والثاني كالعتق بالنذر . والثالث مشبه بما يشبه العتق . والرابع ملك النفس بلا تمليك . ولا معنى للتمليك في الحيوانات العجم ، فهذه الأمور غير معقولة ظاهراً وباطناً ، فلا يفعلها الحكيم .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : في الآية تحريم هذه الأمور . واستنبط منه تحريم جميع تعطيل المنافع . ومن صور السائبة : إرسال الطائر ونحوه . واستدل ابن الماجشون بالآية على منع أن يقول لعبده : أنت سائبة . وقال : لا يعتق . انتهى .
وقال بعض مفسري الزيدية : قال الحاكم : استدل بعضهم على بطلان الوقف بالآية الكريمة . لأن الملك لا يخرج عن ملك صاحبه إلا مالك آخر . أو على وجه القربة إلى الله . كتحرير الرقاب .
قال الحاكم : وليس بصحيح . لأن الوقف قربة كالعتق . ولقائل أن يقول : يستدل بالآية على نظير ذلك . وهو ما يلقى الأنهار والطريق وقرب الأشجار ، من طرح البيض والفراريج ونحو ذلك . فلا يجوز فعله ، ولا يزول ملك المالك . ويحتمل أن يقول : قد رغب عنه وصيره مباحاً . وأما كسر البيض على العمارة والطريق والأبواب ، فالظاهر عدم الجواز . لأن في ذلك إضاعة مال ، ولم يرد بفعله دليل . انتهى .
ولما بيّن تعالى أن أكثرهم لا يعقلون أن تحريم هذه الأشياء افتراء باطل حتى يخالفوهم ويهتدوا إلى الحق ، وإنما يقلدون قدماءهم - أشار إلى عنادهم واستعصائهم حينما هدوا إلى الحق ، وإلى ضلالهم ببقائهم في أسر التقليد ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ 104 ]
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } من الكتاب المبيّن للحلال والحرام : { وَإِلَى الرَّسُولِ } أي : الذين أنزل هو عليه ، لتقفوا على حقيقة الحال ، وتميزوا بين الحرام والحلال ، فترفضوا تقليد القدماء المفترين على الله الكذب بالضلال : { قَالُوا } أي : لإفراط جهلهم وانهماكهم في التقليد : { حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } أي : كافينا ذلك . و : { حَسْبُنَا } مبتدأ والخبر : { مَا وَجَدْنَا } و ( مَا ) بمعنى الذي . والواو في قوله تعالى : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ } للحال . دخلت عليها همزة الإنكار . أي : أحَسْبُهم ذلك ولو كان آباؤهم : { لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً } أي : لا يعرفون حقّاً ولا يفهمونه : { وَلا يَهْتَدُونَ } أي : إليه . قال الزمخشري : والمعنى أن الإقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي . وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة . انتهى .
وقال الرازي : واعلم أن الإقتداء إنما يجوز بالعالم المهتدي . وإنما يكون عالماً مهتدياً إذا بنى قوله على الحجة والدليل . فإذا لم يكن كذلك لم يكن عالماً مهتدياً . فوجب أن لا يجوز الإقتداء به . انتهى .
وقال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية قبح التقليد ووجوب النظر واتباع الحجة . ثم قال : وقد فسر التقليد بأنه قبول قول الغير من غير حجة انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ 105 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } أي : الزموا أن تصلحوها باتباع كتاب الله وسنة رسوله : { لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ } أي : ممن قال : { حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا } أو أخذ بشبهة . أو عاند في قول أو فعل : { إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } أي : إلى الإيمان . وكأن المؤمنين كان يشتد عليهم بقاء الكفار في كفرهم وضلالهم . فقيل لهم : عليكم أنفسكم وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طريق الهدى . لا يضركم ضلال الضالين وجهل الجاهلين ، إذا كنتم مهتدين . كما قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم : { فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات } [ فاطر : 8 ] .
قال الزمخشري : وكذلك من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي ولا يزال يذكر معايبهم ومناكيرهم ، فهو مخاطب بهذه الآية : { إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ } بعد الموت : { جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ } أي : يخبركم : { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : في الدنيا من أعمال الهداية والضلال . فهو وعد ووعيد للفريقين . وتنبيه على أن أحداً لا يؤاخذ بعمل غيره .
تنبيه :
لا يستدل بالآية على سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . لأن الظاهر من الآية أن ضلال الغير لا يضر ، وأن المطيع لربه لا يكون مؤاخذاً بذنوب العاصي . وإلا فمن تركها مع القدرة عليهما ، فليس بمهتد . وإنما هو بعض الضلال الذي فصلت الآية بينهم وبينه .
قال الحاكم : ولو استدل على وجوبها بقوله تعالى : { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ } كان أولى . لأنه يدخل في ذلك كل ما لزم من الواجبات . أي : كما فعل المهايمي في تفسيره حيث قال : { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ } . أي : الزموا أن تصلحوها باتباع الدلائل من كتاب الله وسنة رسوله . والعقليات المؤيدة بها ، ودعوة الإخوان إلى ذلك . بإقامة الحجج ودفع الشبه ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بما أمكن من القول والفعل . لا تقصروا في ذلك . إذ لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، بدعوتهم إلى ما أنزل وإلى الرسول وإقامة الحجج لهم ، ودفع الشبه عنهم ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، بما أمكن من القول والفعل . ولا تقصروا في ذلك . إذ إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون ، من التقصير أو الإيفاء قولاً وفعلاً ، في حق أنفسكم أو غيركم . انتهى .
ونقل الرازي عن عبد الله بن المبارك أنه قال : هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فإنه قال : { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ } يعني عليكم أهل دينكم . ولا يضركم من ضل من الكفار . وهذا كقوله : { فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 54 ] يعني أهل دينكم . فقوله : { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ } يعني بأن يعظ بعضكم بعضاً ، ويرغّب بعضكم بعضاً في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات . والذي يؤكد ذلك ما بينا أن قوله : { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ } معناه : احفظوا أنفسكم من ملابسة المعاصي والإصرار على الذنوب . فكان ذلك أمراً بأن نحفظ أنفسنا . فإذا لم يكن ذلك الحفظ إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كان ذلك واجباً . انتهى .
وروى الإمام أحمد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه . أنه قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ! إنكم تقرؤون هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } إلى آخر الآية . وإنكم تضعونها على غير موضعها . وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < إن الناس ، إذا رأوا المنكر ، ولا يغيرونه ، يوشك أن يعمهم الله عز وجل بعقابه > .
ورواه أصحاب السنن وابن حبان في صحيحه وغيرهم .
وروى الترمذي عن أبي أمية الشعباني . قال : أتيت أبا ثعلبة الخُشَنِي فقلت له : كيف تصنع بهذه الآية ؟ قال : أية آية ؟ قلت : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } قال : أما والله ! لقد سألت عنها خبيراً . سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر . حتى إذا رأيت شحّاً مطاعاً وهوى متبعاً ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ودع العوامّ . إن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً ، يعملون مثل علمكم >
< قال عبد الله بن المبارك : وزادني غير عتبة : قيل يا رسول الله ! أجر خمسين رجلاً منا أو منهم ؟ قال : لا ، بل أجر خمسين منكم > .
قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب .
وكذا رواه أبو داود وابن ماجة وابن جرير وابن أبي حاتم .
وروى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن أن ابن مسعود رضي الله عنه سأله رجل عن قول الله : { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فقال : إن هذا ليس بزمانها . إنها اليوم مقبولة . ولكنه قد يوشك أن يأتي زمانها . تأمرون فيصنع بكم كذا وكذا . أو قال : فلا يقبل منكم . فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل .
ورواه أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية قال : كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوساً . فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس . حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه . فقال رجل من جلساء عبد الله : ألا أقوام فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر ؟ فقال آخر إلى جنبه : عليك بنفسك . فإن الله يقول : { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ } الآية . قال ، فسمعها ابن مسعود فقال : مه . لم يجيء تأويل هذه بعد . إن القرآن أنزل حيث أنزل . ومنه آي قد مضى تأولهن قبل أن ينزلن . ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير . ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب ، ما ذكر من الحساب والجنة والنار . فما دامت قلوبكم واحدة وأهوائكم واحدة ولم تلبسوا شيعاً ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهَوْا . وإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعاً وذاق بعضكم بأس بعض فأمر نفسك . وعند ذلك جاء تأويل هذه الآية . أخرجه ابن جرير .
وأخرج أيضاً أنه قيل لابن عمر : لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه ، فإن الله قال : { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فقال ابن عمر : إنها ليست لي ولا لأصحابي . لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < ألا فليبلغ الشاهد الغائب . فكنا نحن الشهود وأنتم الغَيَب . ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا . إن قالوا لم يقبل منهم > .
وقد ضعف الرازي ما روي عن ابن مسعود وابن عمر مما سقناه . قال : لأن قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } خطاب عام ، وهو أيضاً خطاب مع الحاضرين . فكيف يخرج الحاضر ويخص الغائب ؟ انتهى .
أقول : ليس مراد ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما ، إخراج الحاضرين عن الخطاب ، وأنه لم يعن بها إلا الغيب . وإنما مرادهما الردَّ على من تأولها بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فأعلماه بأنه لا يسوغ الاستشهاد بها في ترك ذلك . والاسترواح لظاهرها ، إلا في الزمن الذي بَيَّنَاه . وحاصله : أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان ما قُبِلاَ ، فإن رُدَّا في مثل ذلك الزمن فليقرأ : { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ } . هذا مرادهما . والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الآثِمِينَ } [ 106 ] : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } أي : ظهرت أماراته : { حِينَ الْوَصِيَّةِ } بدل من الظرف ، ظرف ( للموت ) ولا لحضوره . فإن في الإبدال تنبيهاً على أن الوصية من المهمات التي لا ينبغي التهاون بها . وقوله تعالى : { اثْنَانِ } خبر : { شَهَادَةُ } بتقدير مضاف . أي : شهادة بينكم حينئذ ، شهادة اثنين . أو فاعل ( شهادَةُ ) على أن خبرها محذوف . أي : فيما نزل عليكم ، أن يشهد بينكم اثنان : { ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } أي : من المسلمين : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } أي : من أهل الذمة : { إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ } أي : سافرتم فيها : { فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا } أي : توقفونهما للتحليف : { مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ } أي : صلاة العصر . كما قاله ابن عباس وثلَّة من التابعين . وعدم تعيينها ، لتعيينها عندهم بالتحليف بعدها . لأنه وقت اجتماع الناس ووقت تصادم ملائكة الليل وملائكة النهار . واجتماع طائفتي الملائكة ، فيه تكثير للشهود منهم على صدقه وكذبه . فيكون أقوى من غيره وأخوف . وعن الزهري : بعد أي : صلاة للمسلمين كانت . وذلك لأن الصلاة داعية إلى النطق بالصدق ، وناهية عن الكذب والزور ، كما قال تعالى : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [ العنكبوت : 45 ] . فالتعريف في : { الصَّلاةَ } إما للعهد أو للجنس { فَيُقْسِمَانِ } أي : يحلفان : { بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ } أي : شككتم فيهما بخيانة وأخذ شيء من تركة الميت . وقوله تعالى : { لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً } جواب للقسم . أي : يقولان : لا نأخذ لأنفسنا بدلاً من الله . أي : من حرمته عرضاً من الدنيا بأن نهتكها ونزيلها بالحلف الكاذب . أي : لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال : { وَلَوْ كَانَ } أي : من نقسم له ونشهد عليه ، المدلول عليه بفحوى الكلام : { ذَا قُرْبَى } أي : قريباً منا . تأكيد لتبرئهم من الحلف كاذباً . ومبالغة في التنزه عنه . كأنهما قالا : لا نأخذ لأنفسنا بدلاً من حرمة اسمه تعالى مالاً . ولو انضم إليه رعاية جانب الأقرباء . فكيف إذا لم يكن كذلك ؟ : { وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ } أي : الشهادة التي أمرنا الله تعالى بإقامتها . وإضافتها إلى الاسم الكريم تشريفاً لها وتعظيماً لأمرها : { إِنَّا إِذاً } إن كتمناها : { لَمِنَ الْآثِمِينَ } أي : المعدودين من المسترقين في الإثم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ } [ 107 ]
{ فَإِنْ عُثِرَ } أي : اُطُّلع بعد التحليف : { عَلَى أَنَّهُمَا } أي : الشاهدين الوصيين : { اسْتَحَقَّا إِثْماً } أي : فَعَلاَ ما يوجبه من خيانة أو غلول شيء من المال الموصى به إليهما : { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا } أي : فرجلان آخران يقومان مقام اللذين عثر على خيانتهما أي : في توجه اليمين عليهما لإظهار الحق وإبراز كذبهما فيما ادعيا من استحقاقهما لما في أيديهما : { مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ } أي : من ورثة الميت الذي استحق من بينهم الأوليان ، أي : الأقربان إلى الميت ، الوارثان له ، الأحقَّان بالشهادة ، أي : اليمين . فـ ( الأَوْلَيانِ ) فاعل ( اسْتَحَقَّ ) . ومفعول ( اسْتَحَقَّ ) محذوف ، قدّره بعضهم ( وصيتهما ) وقدره ابن عطية ( مالهم وتركتهم ) ، وقدره الزمخشري أن يجردوهما للقيام بالشهادة لأنها حقهما ويظهروا بهما كذب الكاذبين . وقرئ على البناء للمفعول أي : من الذين استحق عليهم الإثم . أي : جنى عليهم . وهم هل الميت وعشيرته . فـ ( الأَوْلَيَانِ ) مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف . كأنه قيل : ومن هما ؟ فقيل : الأوليان . أو هو بدل من الضمير في ( يَقُومَانِ ) أو من ( ءَاخَرَانِ ) وقد جوز ارتفاعه ( اسْتَحَقَّ ) على حذف المضاف . أي : استحق عليهم ندب الأولين منهم للشهادة . وقُرئ الأوّلْين جمع ( أوّل ) على أنه صفة للذين ، مجرور أو منصوب على المدح . ومعنى الأوَّلِيةِ التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها . وقرئ الأوليين ، علي التثنية . وانتصابه على المدح . أفاده أبو السعود .
وقُرئ الأوَّلْين تثنية ( أول ) نصباً على ما ذكر . كما في البيضاويّ .
قال أبو البقاء : ويقرأ الأوليين وهو جمع ( أولى ) وإعرابه كإعراب الأوّلين . ويُقرأ الأولان ، تثنية ( الأول ) وإعرابه كإعراب ( الأَوْليان ) : { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ } عطف على ( يقومان ) : { لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ } أي : بالقبول : { مِنْ شَهَادَتِهِمَا } أي : لقولنا : إنهما خانا وكذبا فيما ادعيا من الاستحقاق ، أحق من شهادتهما المتقدمة . لما أنه قد ظهر للناس استحقاقهما للإثم : { وَمَا اعْتَدَيْنَا } أي : ما تجاوزنا الحق فيها أو فيما قلنا فيهما من الخيانة : { إِنَّا إِذاً } أي : إن اعتدينا : { لَمِنَ الظَّالِمِينَ } أي : أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه ، بسبب هتك حرمة اسم الله تعالى . أو من الواضعين الحق في غير موضعه .
ومعنى الآية الكريمة أن الرجل إذا حضرته الوفاة في سفر ، فليشهد رجلين من المسلمين .
فإن لم يجدهما ، فرجلين من أهل الكتاب . يوصي إليهما ويدفع إليهما ميراثه . فإذا قدما بتركته ، فإن صدّقهما الورثة وعرفوا ما لصاحبهم قُبِلَ قولهما وتركا . وإن اتهموهما ، رفعوهما إلى السلطان فحلفا بعد صلاة العصر بالله ، ما كتمنا ولا كذبنا ولا خنا ولا غيرنا ، فإن اطلع الأوليان على أن الكافرين كذبا في شهادتهما ، قام رجلان من الأولياء ، فحلفا بالله ؛ أن شهادة الكافرين باطلة ، وأنا لم نعتد . فترد شهادة الكافرين وتجوز شهادة الأولياء ، هكذا روى ابن جرير عن ابن عباس وابن جبير وغيرهما .
قال الإمام ابن كثير : وهذا التحليف للورثة والرجوع إلى قولهما ، والحالة هذه ، كما يحلف أولياء المقتول ، إذا ظهر لوث في جانب القاتل . فيقسم المستحقون على القاتل . فيدفع برمته إليهم . كما هو مقرر في " باب القسامة " . وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة .
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس عن تميم الداريّ في هذه الآية : { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } . . إلى آخرها قال : بُرئ الناس منها غيري وغير عديّ بن بداء ، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام . فأتيا الشام لتجارتهما . وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل ( بدال أو زاي مصغراً . وضبطه بالثانية ابن ماكولا ) ابن أبي مريم بتجارة ، معه جام من فضة يريد بها الملك . وهو أعظم تجارته . فمرض فأوصى إليهما . وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله . قال تميم : فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم . واقتسمناه أنا وعديّ . فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا . وفقدوا الجام فسألوا عنه . فقلنا : ما ترك غير هذا ، وما دفع إلينا غيره .
قال تميم : فلما أسلمت ، بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك .
فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر ، ودفعت إليهم خمسمائة درهم . وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها . فوثبوا عليه . فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوه بما يحكم به على أهل دينه . فحلف فنزلت : { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } -إلى قوله - : { فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا } . فقام عَمْرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا . فنزعت الخمسمائة من عديّ بن بداء .
وهكذا رواه الترمذي وابن جرير عن محمد بن إسحاق به ، فذكره . وعنده : فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البيّنة فلم يجدوا . فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف . فأنزل الله هذه الآية . فقام عَمْرو بن العاص ورجل آخر فحلفا . فنزعت الخمسمائة من عديّ بن بداء .
ثم تكلم الترمذي على إسناده . وأسند بعد ذلك هذه القصة مختصرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداريّ وعديّ بن بداء . فمات السهميّ بأرض ليس بها مسلم . فلما قدما بتركته فقدوا جاماً من فضة مخوّصاً بذهب . فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم وجد الجام بمكة . فقيل : اشتريناه من تميم وعدي . فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحقّ من شهادتهما . وأنَّ الجام لصاحبهم . وفيهم نزلت هذه الآية . وكذا رواه أبو داود . ثم قال الترمذي : حديث حسن غريب !
وأقول : أخرجه البخاري أيضاً في كتاب " الوصايا " تحت باب عقده لهذه الآية بخصوصها .
و ( الجام ) الإناء , وتخويصه أن يجعل عليه صفائح من ذهب كخوض النخل .
قال ابن كثير : وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من التابعين . منهم عِكْرِمَة ومحمد بن سيرين وقتادة . وذكروا أن التحليف كان بعد صلاة العصر . رواه ابن جرير . وكذلك ذكرها مرسلةً مجاهد والحسن والضحاك . وهذا يدلّ على اشتهارها في السلف وصحتها .
و من الشواهد لصحة هذه القصة ما رواه ابن جرير بإسنادين صحيحين , وأبو داود بإسناد - رجالُه ثقاتٌ - عن الشعبي : أن رجلاً من المسلمين حضرته الصلاة بدقوقاء , قال : فحضرته الوفاة - ولم يجد أحداً من المصلين يُشهده على وصيّته -فأشهده رجلين من أهل الكتاب ، قال : فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري رضي الله عنه فأخبراه . وقدما الكوفة بتركته ووصيته ، فقال الأشعري : هذا أمرٌ لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدّلا كتما ولا غيّرا ، وإنها لوصية الرجل وتركته . قال فأمضى شهادتهما . وقوله : ( هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) الظاهر - والله أعلم - أنه إنما أراد بذلك قصة تميم وعدي بن بداء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ 108 ]
ثم بيّن وجه الحكمة والمصلحة المتقدم تفصيله بقوله :
{ ذَلِكَ } أي : الحكم المذكور : { أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا } أي : أقرب إلى أن يؤدي الشهود - أو الأوصياء - الشهادة في نحو تلك الحادثة على حقيقتها من غير تغيير لها ، خوفاً من العذاب الأخروي . فـ ( الوجه ) بمعنى الذات والحقيقة .
قال أبو السعود : وهذه - كما ترى - حكمةُ شرعيةِ التحليف بالتغليظ المذكور !
وقوله تعالى : { أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ } بيان لحكمة شرعية ردّ اليمين على الورثة ، معطوف على مقدرٍ ينبئ عنه المقام ؛ كأنه قيل : ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ، ويخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة . أو يخافوا أن ترد اليمين على المدعين بعد أيمانهم ، فيفتضحوا بظهور الخيانة واليمين الكاذبة ، ويغرموا فيمتنعوا من ذلك { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : في مخالفة أحكامه التي منها هذا الحكم ، وهو ترك الخيانة والكذب : { وَاسْمَعُوا } أي : ما تؤمرون به سماعَ قبولٍ : { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } أي : الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته ، أي : إلى طريق الجنة أو إلى ما فيه نفعهم .
وقد استفيد من الآية أحكام :
الأول - لزوم الوصية حال الخوف من الموت وحضور قرائنه . لأنه تعالى قال : { حِينَ الْوَصِيَّةِ } أي : وقت أن تحق الوصية وتلزم .
الثاني - قال بعضهم : دلّ قوله تعالى : { اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ } على أن الحكم شرطه أن يشهد فيه اثنان عدلان . وهذا إطلاق لم يفصل فيه بين حق الله وحق غيره ، ولا بين الحدود وغيرها ، إلاّ شهادة الزنى . فلقوله تعالى في النور : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } [ النور : 4 ] ، وهذا مجمع عليه .
قال ابن القيم في " أعلام الموقعين " : إنه سبحانه ذكر ما يحفظ به الحقوق من الشهود ولم يذكر أن الحكام لا يحكمون إلاّ بذلك . فليس في القرآن نفي الحكم بشاهد ويمين ، ولا بالنكول ، ولا باليمين المردودة ، ولا بأيمان القسامة ، ولا بأيمان اللعان وغير ذلك مما يبين الحق ويظهره يدل عليه . والشارع - في جميع المواضع - يقصد ظهور الحقّ بما يمكن ظهوره به من البينات التي هي أدلة عليه وشواهد له .
ولا يرد حقّاً قد ظهر بدليله أبداً . فيضيع حقوق الله وحقوق عباده ويعطلها . ولا يقف ظهور الحق على أمر معين لا فائدة في تخصيصه به مع مساواة غير في ظهور الحق أو رجحانه عليه ترجيحاً لا يمكن جحده ودفعه . وقد أطال في ذلك بما لا يُستغنى عن مراجعته .
الثالث - في قوله تعالى : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } دلالة على صحة شهادة الذميّ على المسلم عموماً . لكن خرج جوازها فيما عدا وصية المسلم في السفر بالإجماع .
قال بعض المفسّرين : ذهب الأكثر إلى أن شهادة الذميين قد نسخت . وعن الحسن وابن أبي ليلى والأوزاعي وشريح والراضي بالله وجدّه الإمام عبد الله بن الحسين : أنها صحيحة ثابتة . وكذا ذهب الأكثر إلى أن تحليف الشهود منسوخ . وقال طاوس والحسن والهادي : إنه ثابت . انتهى .
أقول : لم يأت من ادعى النسخ بحجة تصلح لذكرها وتستدعي التعرض لدفعها .
قال الإمام ابن القيم في " أعلام الموقّعين " :
أمر تعالى في الشهادة على الوصية في السفر باستشهاد عدلين من المسلمين أو آخريْن من غيرهم . وغير المؤمنين هم الكفار ، الآية صريحة في قبول شهادة الكافرين على وصية في السفر عند عدم الشاهدين المسلميْن . وقد حكم به النبيّ صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده ، ولم يجئ بعدها ما ينسخها ، فإن المائدة من آخر القرآن نزولاً وليس فيها منسوخ ، وليس لهذه الآية معارض البتة . ولا يصح أن يكون المراد بقوله : { مِنْ غَيْرِكُمْ } من غير قبيلتكم ؛ فإن الله سبحانه خاطب بها المؤمنين كافة بقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } الآية . ولم يخاطب بذلك قبيلة معينة حتى يكون قوله : { مِنْ غَيْرِكُمْ } أيتها القبيلة ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم لم يفهم هذا من الآية . بل إنما فهم منها ما هي صريحة فيه ، وكذلك أصحابه من بعده .
وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : واستدلّ بالآية على جواز شهادة الكفار بناءً على بال غير الكفار . وخصّ جماعةٌ القبولَ بأهل الكتاب وبالوصية وبفقد المسلم حينئذٍ . منهم : ابن عباس وأبو موسى الأشعري ، وسعيد بن المسيّب ، وابن سيرين ، والأوزاعي ، والثوري ، وأبو عبيد ، وأحمد - وهؤلاء أخذوا بظاهر الآية - وقوّى ذلك حديث الباب - يعني حديث ابن عباس المتقدم - فإن سياقه مطابق لظاهر الآية . وقيل : المراد بال ( غير ) العشيرة . والمعنى ( منكم ) أي : من عشيرتكم : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } أي : من غير عشيرتكم ، وهو في قول الحسن واحتجّ له النحاس بأن لفظ ( آخر ) لابدّ أن يشارك الذي قبله في الصفة ، حتى لا يسوغ أن تقول : مررت برجل كريم ولئيم آخر . فعلى هذا فقد وصف الاثنان بالعدالة . فيتعيّن أن يكون الآخران كذلك . وتعقب بأن هذا - وإن ساغ في الآية الكريمة - لكن الحديث دلّ على خلاف ذلك . والصحابي إذا حكى سبب النزول كان ذلك في حكم الحديث المرفوع اتفاقاً . وأيضاً ، ففي ما قال ردّ المختلف فيه بالمختلف فيه . لأن اتّصاف الكافر بالعدالة مختلف فيه . وهو فرع قبول شهادته ، فمن قبلها وصفه بها ، ومن لا ، فلا . واعترض أبو حيّان على المثال الذي ذكره النحاس بأنه غير مطابق . فلو قلت : جاءني رجل مسلم وآخر كافر ، صحّ . بخلاف ما لو قلت : جاءني رجل مسلم وكافر آخر . والآية من قَبيل الأول لا الثاني . لأن قوله : { أَوْ آخَرَانِ } من جنس قوله : اثنان ، لأن كلاَّهما منهما صفة ( رجلان ) ، فكأنه قال : فرجلان اثنان ورجلان آخران . وذهب جماعة من الأئمة إلى أن هذه الآية منسوخة . وأن ناسخها قوله تعالى : { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء } واحتجوا بالإجماع على ردّ شهادة الفاسق . والكافرُ شرّ من الفاسق . وأجاب الأولون : بأن النسخ لا يثبت بالاجتمال ، وأن الجمع بين الدليلين أولى من إلغاء أحدهما . وبأن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن . حتى صحّ عن ابن عباس وعائشة وعمرو بن شرحبيل وجَمْعٍ من السلف ، أن سورة المائدة محكمة . وعن ابن عباس ؛ أن الآية نزلت فيمن مات مسافراً وليس عنده أحد من المسلمين ، فإن اتّهما استحلفا . أخرجه الطبري بإسناد رجاله ثقات .
وأنكر أحمد على من قال : إن هذه الآية منسوخة .
وصحّ عن أبي موسى الأشعري أن عمل بذلك بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم كما تقدّم .
ورجّح الفخر الرازي - وسبقه الطبريّ - لذلك . أن قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ } خطاب للمؤمنين . فلما قال : { أَوْ آخَرَانِ } وضح أنه أراد غير المخاطبين . فتعيَّن أنهما من غير المؤمنين . وأيضاً : فجواز استشهاد المسلم ليس مشروطاً بالسفر . وأن موسى حكم بذلك فلم ينكره أحد من الصحابة . فكان حجةً . انتهى كلام الحافظ .
وفي " فتح البيان " : الحق أن الآية محكمة لعدم وجود دليل صحيح يدل على النسخ . وأما قوله تعالى : { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء } وقوله : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } فهما عامَّان في الأشخاص والأزمان والأحوال . وهذه الآية خاصة بخالة الضرب في الأرض وبالوصية وبحالة عدم الشهود المسلمين . ولا تعارض بين خاصٍّ وعامٍّ . انتهى .
وقد أطنب الرازي في " تفسيره " في الاحتجاج على عدم نسخها بوجوه عديدة ، وجوّد الكلام - في أن المراد من : { غَيْرِكُمْ } أي : من غير ملّتكم -تجويداً فائقاً .
الرابع : قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " :
ذهب الكرابيسيّ ثم الطبري وآخرون إلى أنّ المراد بالشهادة في الآية اليمين . قال :
وقد سمى الله اليمين شهادة في آية اللعان . وأيدوا ذلك بالإجماع على أن الشاهد لا يلزمه أن يقول : أشهد بالله . وأن الشاهد لا يمين عليه أنه شهد بالحق . قالوا : فالمراد بالشهادة اليمين لقوله : { فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ } أي : يحلفان . فإن عرف أنهما حلفا على الإثم رجعت اليمين على الأولياء . وتعقب بأن اليمين لا يشترط فيها عدد ولا عدالة ، بخلاف الشهادة . وقد اشترطا في هذه القصة ، فقوي حملها على أنها شهادة . وأما اعتلال من اعتل في ردّها بأنها تخالف القياس والأصول - لما فيها من قبول شهادة الكافر وحبس الشاهد وتحليفه وشهادة المدعي لنفسه واستحقاقه بمجرد اليمين - فقد أجاب من قال به بأنه حكم بنفسه مستغنٍ عن نظيره . وقد قبلت شهادة الكافر في بعض المواضع ، كما في الطبّ . وليس المراد بالحبس السجن . وإنما المراد : الإمساك لليمين ليحلف بعد الصلاة . وأما تحليف الشاهد فهو مخصوص بهذه الصورة عند قيام الريبة . وأما شهادة المدعي لنفسه واستحقاقه بمجرّد اليمين ، فإن الآية تضمنت نقل الأيمان إليهم عند ظهور اللوث بخيانة الوصّيين . فيشرع لهما أن يحلفا ويستحقا ، كما يشرع لمدعي الدم في القسامة أن يحلف ويستحق فليس هو من شهادة المدعي لنفسه ، بل من باب الحكم له بيمينه القائمة مقام الشهادة لقوة جانبه . وأيّ فرق بين ظهور اللوث في صحة الدعوى بالدم ، وظهوره في صحة الدعوى بالمال ؟ وحكى الطبري : أنّ بعضهم قال : المراد بقوله : { اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ } الوصيان . قال : والمراد بقوله : { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } معنى الحضور لما يوصيهما به الموصي . ثم زيف ذلك . انتهى كلام " الفتح " .
ولا يخفاك أن الآية بنفسها - مع ما ورد في نزولها - غنيّة عن تكلف إدخالها تحت القياس والقواعد والتمحّل لتأويلها .
الخامس : في قوله تعالى : { مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ } دلالة على تغليظ اليمين .
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " وبعض المفسّرين :
ذهب الجمهور إلى وجوب التغليظ بالزمان والمكان . فأما في الزمان فبعد العصر . وأما في المكان : ففي المدينة عند المنبر ، وبمكة بين الركن والمقام ، وفي بيت المقدس عند الصخرة ، وبغيرهما بالمسجد الجامع . واتفقوا على أن ذلك في الدماء والمال الكثير ، لا في القليل . انتهى .
وذهب الزيدية والحنفية والحنابلة إلى أن اليمين لا تغلظ بزمان ولا بمكان . وأخذوا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم : < البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر > ، ولم يفصل . قالوا : وقوله تعالى في هذه الآية : { مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ } يحتمل أن ذكره لأنهم كانوا لا يعتادون الحكم إلا في ذلك الوقت .
قال بعض الزيدية : وهل التغليظ في المكان والزمان على سبيل الوجوب أو الاستحباب ؟ قال الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة : المختار ، التغليظ في الأيمان لفساد أهل الزمان . وذلك مرويّ عن أمير المؤمنين المرتضى وأبي بكر وعمر وعثمان وابن عباس ومالك والشافعيّ . قال : والمختار أنه مستحبّ غير واجب . انتهى .
وفي كتاب " الشهادات " من " صحيح البخاري " بابان في هذه المسألة . فليرجع مع شروحه .
السادس : قال ابن أبي الفرس : في قوله تعالى : { فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ } دليل على أن أقسم بالله يمين ، لا أقسم فقط .
السابع : في قوله تعالى : { وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ } الآية دليل على تحريم كتمان الشهادة . وذلك لا إشكال فيه . الثامن : قال السيوطي : تخصيص الحلف في الآية باثنين من أقرب الورثة [ يعني على قراءة الأوليان ] لخصوص الواقعة التي نزلت لها . ثم ساق رواية البخاري السابقة . أي : وللإشارة إلى الاكتفاء باثنين من أقرب الورثة أيضاً وإن كان فيهم كثرة .
غريبة :
قال مكي في كتابه المسمى بـ " الكشف " :
هذه الآيات الثلاث - عند أهل المعاني - من أشكل ما في القرآن إعراباً ومعنىً وحكماً وتفسيراً . ولم يزل العلماء يستشكلونها ويكفّون عنها .
قال : ويحتمل أن يبسط ما فيها من العلوم في ثلاثين ورقة أو أكثر . وقد ذكرناها مشروحة في كتاب مفرد .
قال ابن عطية : هذا كلام من لم يقع له الناتج في تفسيرها ، وذلك بين من كتابه رحمه الله تعالى - يعني من كتاب مكيّ - .
قال القرطبي : ما ذكره مكيّ ، ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضاً .
قال السعد في " حاشيته على الكشاف " : واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعراباً ونظماً وحكماً . . انتهى .
أقول : هذه الآية الكريمة غنية بنفسها - مع ما ورد في سبب نزولها ، وما قاله حبر الأمة وترجمان القرآن في معناها - عن التشكيك فيها ، والتكلّف لإدخالها تحت القواعد ، والتمحّل لتأويلها . فخُذْ ما نقلناه من محاسن تأويلها وكن من الشاكرين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } [ 109 ]
{ يَوْمَ } منصوب بـ ( اذْكُرُوا أو ( احذَرُوا ) : { يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ } وذلك يوم القيامة ، وتخصيص الرسل بالذكر ليس لاختصاص الجمع بهم دون الأمم . كيف لا ؟ وذلك يوم مجموع له الناس ، بل لإبانة شرفهم وأصالتهم والإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمع غيرهم . بناءً على ظهور كونهم أتباعاً لهم : { فَيَقُولُ } أي : للرسل : { مَاذَا أُجِبْتُمْ } أي : ما الذي أجابكم من أُرسلتم إليهم ؟ ففيه إشعار بخروجهم عن عهد الرسالة . إذا لم يقل : هل بلّغتم رسالاتي ؟ وفي توجيه السؤال إليهم . والعدول عن إسناد الجواب إلى قومهم بأن يقال : ماذا أجابوا -من الإنباء عن شدة الغضب الإلهيّ ما لا يخفى . وفي " الصحيح " في حديث الشفاعة : إنّ ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله .
{ قَالُوا } من هيبته تعالى ، وتفويضاً للأمر إلى علم سلطانه وتأدّياً بليغاً في ذاك الموقف الجلالي : { لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } أي : وَمَنْ عَلِمَ الخفيات ، لم تخف عليه الظواهر التي منها إجابة أممهم لهم .
تنبيهات :
الأول : قال الرازي : اعلم أنّ عادة الله تعالى جارية في هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعاً كثيرة من الشرائع والتكاليف والأحكام ، أتبعها إمّا بالإلهيات ، وإما بشرح أحوال الأنبياء ، أو بشرح أحوال القيامة ، ليصير ذلك مؤكداً لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع . فلا جرم ، لمَّا ذكر - فيما تقدم - أنواعاً كثيرة من الشرائع ، أتبعها بوصف أحوال القيامة .
الثاني : قال الزمخشري فإن قلت : ما معنى سؤالهم ؟ قلت : توبيخ قومهم . كما كان سؤال الموءودة توبيخاً للوائد . فإن قلت : كيف يقولون : لا علم لنا ، وقد علموا بما أُجيبوا ؟ قلت : يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم ، فيكلون الأمر إلى علمه ، وإحاطته بما مُنُوا به منهم ، وكابدوا من سوء إجابتهم ، إظهاراً للتشكي واللجأ إلى ربهم في الانتقام منهم ، وذلك أعظم على الكفرة ، وأفتّ في أعضادهم ، وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم . إذا اجتمع توبيخ الله وتشكّي أنبيائه عليهم . ومثاله : أن ينكب بعض الخوارج على السلطان ، خاصة من خواصّه نكبةً ، قد عرفها السلطان واطلع على كنهها ، وعزم على الانتصار له منه ، فيجمع بينهما ويقول له : ما فعل لك هذا الخارجيّ ؟ [ وهو عالم بما فعل به ] يريد توبيخه وتبكيته ، فيقول له : أنت أعلم بما فعل بي ، تفويضاً للأمر إلى علم سلطانه ، واتكالاً عليه ، وإظهاراً للشكاية ، وتعظيماً لما حل به منه . انتهى .
واستظهر الرازي أن نفي العلم لهم على حقيقته عملاً بما تقرر من أن العلم غير الظن . قال : لأن الحاصل من حال من حال الغير عن كل أحد إنما هو الظن لا العلم . وفي الحديث : نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر ، وقال صلى الله عليه وسلم : < إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض . فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار > ، فالأنبياء قالوا : لا علم لنا البتة بأحوالهم . إنما الحاصل عندنا من أحوالهم هو الظن . والظن كان معتبراً في الدنيا . وأما الآخرة فلا التفات فيها إلى الظن . لأن الأحكام في الآخرة مبينة على حقائق الأشياء وبواطن الأمور . فلهذا السبب قالوا : لا علم لنا . ولم يذكروا ما معهم من الظن . لأن الظن لا عبرة به في القيامة . والله أعلم .
الثالث : دلت الآية على جواز إطلاق لفظ العلاّم عليه . كما جاز إطلاق لفظ الخلاق عليه . وأما العلاّمة فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز إطلاقه في حقه . ولعل السبب ما فيه من لفظ التأنيث . أفاده الرازي .
على أن المختار أن أسماءه تعالى توقيفية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ 110 ]
{ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } شروع في بيان ما جرى بينه تعالى وبين واحد من الرسل المجموعين ، من المفاوضة ، على التفصيل . إثر ما جرى بينه تعالى وبين الكل على وجه الإجمال ، لكون ذلك كالأنموذج لتفاصيل أحوال الباقين . وتخصيص شأن عيسى عليه السلام بالبيان ، تفصيلاً بين شؤون سائر الرسل عليهم السلام ، مع دلالتها على كمال هول ذلك اليوم ونهاية سوء حال المكذبين بالرسل - لما أن شأنه عليه السلام متعلق بكلا الفريقين من أهل الكتاب الذي نعيت عليهم في السورة الكريمة جناياتهم . فتفصيله أعظم عليهم وأجلب لحسرتهم وندامتهم ، وأدخل في صرفهم عن غيهم وعنادهم . أفاده أبو السعود .
{ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ } أي : منّتي عليك : { وَعَلَى وَالِدَتِكَ } بما طهرها واصطفاها على نساء العالمين : { إِذْ أَيَّدْتُكَ } أي : قويتك : { بِرُوحِ الْقُدُسِ } أي : بجبريل عليه السلام لتثبيت الحجة . أو بجعل روحك طاهرة عن العلائق الظلمانية . بحيث يعلم أنه ليس بواسطة البشر ، فيشهد ببراءتك وبراءة أمك . ومن ذلك التأييد قويت نفسك الناطقة . لذلك : { تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً } أي : في أضعف الأحوال وأقواها . بكلام واحد من غير أن يتفاوت في حين الطفولة وحين الكهولة . الذي هو وقت كمال العقل وبلوغ الأشُد .
قال ابن كثير : أي : جعلتك نبياً داعياً إلى الله في صغرك وكبرك . فأنطقتك في المهد صغيراً . فشهدت ببراءة أمك من كل عيب . واعترفت لي بالعبودية . وأخبرت عن رسالتي إياك ودَعْوَتِك إلى عبادتي . لهذا قال : { تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً } أي : تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك . وضمن : { تُكَلِّمُ } تدعو ، لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب . انتهى .
{ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ } أي : الخط وظاهر العلم الذي يكتب : { وَالْحِكْمَةَ } أي : الفهم وباطن العلم الذي لا يكتب . بل يخص به أهله : { وَالتَّوْرَاةَ } وهي المنزلة على موسى الكليم عليه السلام : { وَالْأِنْجِيلَ } وهو الذي أنزله عليه صلى الله عليه وسلم : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ } أي : تقدر وتصور منه صورة مماثلة لهيئة الطير : { بِإِذْنِي } أي : لك في ذلك : { فَتَنْفُخُ فِيهَا } أي : في تلك الهيئة المصورة : { فَتَكُونُ } أي : فتصير تلك الهيئة : { طَيْراً } لحصول الروح من نفختك فيها : { بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ } أي : الذي يولد أعمى مطموس البصر : { وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى } أي : من القبور أحياء : { بِإِذْنِي } فهذا مما فعل به من جرّ المنافع . ثم أشار إلى ما دفع عنه من الضارّ ، فقال سبحانه : { وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ } أي : منعت اليهود الذين أرادوا بك السود وسعوا في قتلك وصلبك ، فنجيبك منهم ورفعتك إليّذ وطهرتك من دنسهم : { إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } أي : المعجزات التي توجب انقيادهم لك لتعاليها عن قوى البشر فلا يتوهم فيها السحر : { فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ } أي : ما هذا الذي يرينا إلا سحر ظاهر . لطيفة :
إن قيل : إن السياق في تعديد نعمه تعالى على عيسى عليه السلام وقول الكفار في حقه . إن هذا إلا سحر مبين ، ليس من النعم بحسب الظاهر . فما السر في ذكره ؟ فالجواب : إن من الأمثال المشهورة : إن كل ذي نعمة محسود . فطعن اليهود فيه بهذا الكلام يدل علي أن نعم الله في حقه كانت عظيمة . فحسن ذكره عند تعديد النعم ، للوجه الذي ذكرناه أفاده الرازي .
ولما بين تعالى النعم اللازمة ، تأثرها بنعمه عليه المتعدية ، فقال سبحانه .(/)
القول في تأويل قوله :
{ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } [ 111 ]
{ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ } أي : بطريق الإلهام والإلفاء في القلب : { أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي } أي : عن دعوته : { قَالُوا آمَنَّا } وأكدوا إيمانهم بقولهم : { وَاشْهَدْ } أي : لتؤديها عند ربك : { بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } أي : منقادون لكل ما تدعونا إليه .
وههنا لطائف :
الأولى - إنما قدموا ذكر الإيمان لأنه صفة القلب . والإسلام عبارة عن الانقياد والخضوع في الظاهر . يعني آمنا بقلوبنا وانقدْنا بظواهرنا .
الثانية - إنما ذكر تعالى هذا في معرض تعديد النعم . لأن صيرورة الإنسان مقبول القول عند الناس . محبوباً في قلوبهم . من أعظم نعم الله تعالى على الإنسان . كذا قاله الرازي .
قال المهايمي : ليحصل له رتبة التكميل وثواب رشدهم .
الثالثة : قال الرازي : إن قيل : إنه تعالى قال في أول الآية : { اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ } ثم إن جميع ما ذكره تعالى من النعم مختص بعيسى عليه السلام ، وليس لأمه تعلق بشيء منها . قلنا : كل ما حصل للولد من النعم الجليلة والدرجات العالية ، فهو حاصل ، على سبيل التضمن والتبع للأم . ولذلك قال تعالى : { وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } [ المؤمنون : 50 ] . فجعلهما معاً آية واحدة لشدة اتصال كل واحد منهما بالآخر . انتهى . وقال بعضهم : قيل : أريد بالذكر في قوله تعالى : { اذْكُرْ نِعْمَتِي } الشكر . ففي ذلك دلالة على وجوب شكر النعمة . وإن النعمة على الأم نعمة على الولد . والشكر يكون بالقول والفعل والاعتقاد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ 112 ]
{ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } ذكروه باسمه ونسبوه إلى أمه لئلا يتوهم أنهم اعتقدوا إلهيته أو ولديته ، ليستقل بإنزال المائدة : { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ } هذه قصة المائدة وإليها تنسب السورة فيقال : سورة المائدة . وههنا قراءتان : الأولى : { يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } بالياء على أنه فعل وفاعل و : { أَن يُنَزِّلَ } المفعول . والثانية - بالتاء و : { رَبَّكَ } نصب أي : سؤال ربك . فحذف المضاف . والمعنى : هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عنه ؟ وهي قراءة عليّ وعائشة وابن عباس ومعاذ رضي الله عنه عنهم . وسعيد بن جبير والكسائي . في آخرين .
قال أكثر المفسرين : الاستفهام على القراءة الأولى محمول على المجاز . إذا لا يسوغ لأحد أن يتوهم على الحواريين أنهم شكّوا في قدرة الله تعالى . لكنه كما يقول الرجل لصاحبه : هل تستطيع أن تقوم معي ؟ مع علمه بأنه يقدر على القيام ، مبالغة في التقاضي . وإنما قصد بقوله : [ هَلْ تَسْتطيعُ ] هل يسهل عليك ، وهل يخف أن تقوم معي ؟ فكذلك معنى الآية . لأن الحواريين كانوا مؤمنين عارفين بالله عز الطمأنينة . كما قال إبراهيم عليه السلام : { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 260 ] ولا شك أن مشاهدة هذه الآية العظيمة تورث مزيد الطمأنينة في القلب . ولهذا السبب قالوا : { وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } وحاصله أن : { هَلْ يَسْتَطِيعُ } سؤال عن الفعل دون القدرة عليه ، تعبيراً عنه بلازمه . أو عن المسبب بسببه . وقيل المعنى : هل يطيع ربك ؟ أي : هل يستجيب دعوتك إذا دعوته ؟ ( فيستطيع ) بمعنى ( يطيع ) وهما بمعنى واحد . والسين زائدة . كاستجاب وأجاب واستجب وأجب و ( يطيع ) بمعنى ( يجيب ) مجازاً ، لأن المجيب مطيع .
وذكر أبو شامة < أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد أبا طالب في مرض . فقال له : يا ابن أخي ! ادع ربك أن يعافيني . فقال : اللهمّ ! اشف عمي . فقام كأنما نشط من عقال . فقال : يا ابن أخي ! إن ربك الذي تعبده ليطيعك . فقال يا عم ! وأنت لو أطعته لكان يطيعك أي : يجيبك لمقصودك > .
وحسنه في الحديث المشاكلة ، فظهر أن العرب استعملته بهذا المعنى .
قال الخازن : وقال بعضهم : هو على ظاهره . وقال : غلظ القوم وقالوا ذلك قبل استحكام الإيمان والمعرفة في قلوبهم . وكانوا بشراً ، فقالوا هذه المقالة . فرد عليهم غلظهم بقوله : { قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } يعني اتقوا الله أن تشكّوا في قدرته .
والقول الأول أصح . انتهى .
وعليه فمعنى : { اتَّقُواْ اللّهَ } من أمثال هذا السؤال ، وأن توقفوا إيمانكم على رؤية المائدة : { إِن كُنتُم } به وبرسالتي : { مُّؤْمِنِينَ } فإن الإيمان مما يوجب التقوى والاجتناب عن أمثال هذه الاقتراحات .
لطيفة :
في المائدة قولان : الأول - أنها الطعام نفسه ، من ( ماد ) إذا أفضل . كما في " اللسان " وهذا القول جزم به الأخفش وأبو حاتم . أي : وإن لم يكن معه خوان . كما في " التقريب و " اللسان " وصرح به ابن سيده في " المحكم " .
قال الفاسيّ : والآية صريحة فيه ، قاله أرباب التفسير والغريب .
والثاني -أنها الخوان عليه الطعام . قال الفارسيّ : لا تسمى مائدة حتى يكون عليها طعام , وإلا فهي خوان , وصرح به فقهاء اللغة . وجزم به الثعالبي وابن فارس . واقتصر عليه الحريري في " درة الغواص " وزعم أن غيره من أوهام الخواص . وذكر الفاسيّ في " شرحها " أنه يجوز إطلاق المائدة على الخوان مجرداً عن الطعام . باعتبار أنه وضع أو سيوضع . وقال ابن ظفر : ثبت لها اسم المائدة بعد إزالة الطعام . كما قيل : لقحة بعد الولادة . وقال أبو عبيد : المائدة في المعنى مفعولة ، ولفظها فاعلة . وهي مثل عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ . وقيل : من ماد إذا أعطى . يقال : ماد زيداً عمراً ، إذا أعطاه . وقال أبو إسحاق : الأصل عندي في مائدة أنها فاعلة . من ( ماد يميد ) إذا تحرك . فكأنها تميد بما عليها . أي : تتحرك . وقال أبو عبيدة : سميت مائدة لأنها مِيدَ بها صاحبها . أي : أُعْطِيَهَا وتُفُضِّلَ عليه بها . وفي " العناية " : فكأنها تعطي من حولها مما حضر عليها . وفي " المصباح " : لأن المالك مادها للناس . أي : أعطاهم إياها . ومثله في كتاب " الأبنية لابن القطاع " : ويقال في المائدة مَيْدةَ . قاله الجرميّ وأنشد :
~ومَيْدةٍ كثيرةِ الألوان تُصنع للإخوان والجيران
كذا في " القاموس وشرحه " والخُوان بضم الخاء وكسرها ما يؤكل عليه الطعام كما في " القاموس " . معرّب كما في " الصحاح " و " العين " . وقيل : إنه عربي مأخوذ من ( تخونه ) أي : نقص حقه . لأنه يوكل عليه فينقص . كذا في " العناية " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ } [ 113 ]
{ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا } أي : آمنا . لكنا نريد الأكل منها من غير مشقة تشغلنا عن عبادة الله تعالى : { وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } أي : فلا تعتريها شبهة لا يؤمن من وردها ، لولا مثل هذه الآية . فإن انضمام علم المشاهدة إلى العلم الاستدلاليّ مما يوجب قوة اليقين : { وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا } أي : في دعوى النبوة ، وفيما تعدنا من نعيم الجنة ، مع أنها سماوية : { وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ } أي : فنشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل ، ليزداد المؤمنون منهم بشهادتنا طمأنينة ويقيناً . ويؤمن بسببها كفارهم . أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر .
ثم لما رأى أن لهم غرضاً صحيحاً في ذلك . لا يقلعون عنه ، أزمع على استدعائها واستنزالها . روى ابن أبي حاتم ، أنه توضأ واغتسل ودخل مصلاه ، فصلّى ما شاء الله . فلما قضى صلاته قام مستقبل القبلة . وصفّ قدميه ، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره وغض بصره وطأطأ برأسه ، خشوعاً . ثم أرسل عينيه بالبكاء فما زالت دموعه تسيل على خديه ، وتقطر من أطراف لحيته ، حتى ابتلت الأرض حيال وجهه ، من خشوعه . فعند ذلك دعا الله تعالى فقال : اللهمّ ! ربنا . كما قال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [ 114 ]
{ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا } أي : يا الله المطلوب لكل مهمّ ، الجامع للكمالات ، الذي ربانا بها . ناداه سبحانه وتعالى مرتين بوصف الألوهية والربوبية ، إظهاراً لغاية التضرع ومبالغة في الاستدعاء : { أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ } . أي : التي فيها ما تعدنا من نعيم الجنة : { تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا } أي : يكون يوم نزولها عيداً نعظمه ونسرّ به ، نحن الذين يدركونها . ومن بعدنا الذين يسمعونها فيتقوّون في دينهم . و ( العيد ) العائد . مشتق من ( العود ) لعوده في كل عام بالفرح والسرور . وكل ما عاد عليك في وقت فهو عيد ، قال الأعشى :
~فوا كبدي من لاعج الحب والهوى إذا اعتاد قلبي من أميمةَ عيدُها
كذا في " العناية " .
وفي " القاموس " ( العيد ) بالكسر ، ما اعتادك من هم أو مرض أو حَزْن أو نحوه . وكل يوم فيه جمع : { وَآيَةً مِنْكَ } أي : على كمال قدرتك وصدق وعدك وتصديقك إياي : { وَارْزُقْنَا } أي : أعطنا ما سألناك : { وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } أي : خير من يرزق . لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا عوض .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ } [ 115 ]
{ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } إجابة لدعوتكم : { فَمَنْ يَكْفُرْ } أي : بي وبرسولي : { بَعْدُ } أي : بعد تنزيلها ، المفيد للعلم الضروريّ بي وبرسولي : { مِنْكُمْ } أيها المنعمون بها : { فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ } أي : من عالّمي زمانهم . أو من العالمين جميعاً .
روى ابن جرير بسنده إلى قتادة قال : كان الحسن يقول : لما قيل لهم : { فَمَن بَعْدُْْ يَكْفُر مِنْكُمْ } الخ قالوا : لا حاجة لنا فيها ، فلم تنزل .
روى منصور بن زادان عن الحسن أيضاً . أنه قال ، في المائدة : أنها لم تنزل .
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير عن ليث بن أبي سُلَيم عن مجاهد قال : هو مَثَلٌ ضربه الله ولم ينزل شيء . أي : مثل ضربه الله لخلقه . نهياً لهم عن مسألة الآيات لأنبيائه . قال الحافظ ابن كثير : وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن . وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا تعرفه النصارى . وليس هو في كتابهم . ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما يتوفر الدواعي على نقله . وكان يكون موجوداً في كتبهم متواتراً ، ولا أقل من الآحاد والله أعلم .
ثم قال : ولكن الجمهور أنها نزلت . وهو الذي اختاره ابن جرير . قال : لأن الله تعالى أخبر بنزولها في قوله تعالى : { إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } ووعد الله ووعيده حق وصدق .
وهذا القول هو ، والله أعلم الصواب . كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم .
ومن الآثار ما أخرجه الترمذي عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد . فخانوا وادخروا ورفعوا لغد . فمسخوا قردة وخنازير . قال الترمذيّ : وقد روي عن عمار ، من طريقٍ ، موقوفاً وهو أصح .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب عن ابن عباس ، أن عيسى ابن مريم قالوا له : ادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء . قال فنزلت الملائكة بالمائدة يحملونها . عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة . فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم .
وق ساق ابن كثير آثار في نزولها لا تخلوا عن غربة ونكارة في سياقها ، كما لا يخفى .
روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : < قالت قريش للنبيّ صلى الله عليه وسلم : ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً ونؤمن بك . قال : وتفعلون ؟ قالوا : نعم : قال فدعاه ، فأتاه جبريل فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك : إن شئت أصبح لهم الصفا ذهباً ، فمن كفر بعد ذلك منهم عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين . وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة . قال : بل باب التوبة والرحمة > .
ورواه الحاكم في مستدركه وابن مردويه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } [ 116 ]
{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } اعلم أنا بينا أن الغرض من قوله تعالى للرسل : { مَاذَا أَجَبْتُمُ } توبيخ من تمرد من أممهم . وأشد الأمم افتقار إلى التوبيخ والملامة النصارى . الذي يزعمون أنهم أتباع عيسى عليه السلام . لأن طعن سائر الأمم كان مقصوراً على الأنبياء . وطعن هؤلاء الملحدة تعدى إلى جلال الله وكبريائه ، حيث وصفوه بما لا يليق أن يوصف مقامه به ، وهو اتخاذ الزوجة والولد . فلا جرم ، ذكر تعالى أنه يعدد أنواع نعمه على عيسى بحضرة الرسل واحدة فواحدة . إشعار بعبوديته ، فإن كل واحدة من تلك النعم المعدودة عليه ، تدل على أنه عبد وليس بإله ، ثم أتبع ذلك باستفهامه لينطق بإقراره ، عليه السلام ، على رؤوس الأشهاد ، بالعبودية ، وأمره لهم بعبادة الله عز وجل . إكذاباً لهم في افترائهم عليه ، وتثبيتاً للحجة على قومه ؛ فهذا سر سؤاله تعالى له ، مع علمه بأنه لم يقل ذلك . وكل ذلك لتنبيه النصارى الذين كانوا في وقت نزول الآية ومن تأثرهم ، على قبح مقالتهم وركاكة مذهبهم واعتقادهم .
تنبيهات :
الأول : روي عن قتادة : أن هذا القول يكون يوم القيامة لقوله تعالى : { هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } . وقال السدّي : هذا الخطاب والجواب . في الدنيا وصوّبه ابن جرير ، قال : وكان ذلك حين رفعه إلى السماء . واحتج ابن جرير على ذلك بوجهين : أحدهما : أن الكلام بلفظ المضيّ .
و الثاني قوله : { إِن تُعَذِّبْهُمْ } { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } .
قال الحافظ ابن كثير : وهذان الدليلان فيهما نظر . لأن كثيراً من أمور يوم القيامة ذكر بلفظ المضيّ ليدل على الوقوع والثبوت . ومعنى قوله : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } الآية : التبرؤ منهم وردّ المشيئة فيهم إلى الله تعالى . وتعليق ذلك على الشرط لا يقتضي وقوعه . كما في نظائر ذلك من الآيات . فالذي قاله قتادة وغيره هو الأظْهَرُ . فالله أعلم أنّ ذلك كائن يوم القيامة ، ليدلّ على تهديد النصارى وتقريعهم وتوبيخهم على رؤوس الأشهاد . . وقد روي بذلك حديث مرفوع ، رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله مولى عُمَر بن عبد العزيز ، وكان ثقة قال : سمعت أبا بردة يحدث عُمَر بن عبد العزيز عن أبيه ، أبي موسى الأشعري . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان يوم القيامة دعي الأنبياء وأُمَمهم . ثم يدعى بعيسى فيذكره الله نعمته عليه فيقرّ بها فيقول : { يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ } الآية ، ثم يقول : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ ؟ } فينكر أن يكون قال ذلك ، فيؤتى بالنصارى فيُسْأَلون فيقولون : نعم هو أمرنا بذلك ! قال : فيطول شَعْر عيسى عليه السلام . فيأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده فيجاثيهم بين يدي الله عز وجل مقدار ألف عام حتى ترفع عليهم الحجة ويرفع لهم الصليب وينطلق بهم إلى النار !
قال ابن كثير : وهذا حديث غريب عزيز !
الثاني : إيثار قوله تعالى : { أُمِّيَ } على : { مَرْيَمَ } توبيخ للمتخذين ، على توبيخ ، أي : مع أنك بشر تلد وتولد قبل هذا .
الثالث : توهم بعضهم أن كلمة ( من دون الله ) تفيد أن النصارى يعتقدون أن عيسى وأمه , عليهما السلام . مستقلان باستحقاق العبادة , بدلاً عن الله تعالى . كما يقال : اتخذت فلاناً صديقاً دوني . فإن معناه أنه استبدله به . لا أنه جعله صديقاً معه . وهم لم يقولوا بذلك . بل ثلّثوا . فأجاب : بإن من أشرك مع الله غيره فقد نفاه معنى . لأنه وحده لا شريك له , منزه عن ذلك . فإقراره بالله كلا إقرار . فيكون : { مِّن دُونِ اللّهِ } مجازاً عن ( مَعَ اللهِ ) . ولا يخفى أن هذا تكلف . لأن توبيخهم إنا يحصل بما يعتقدونه ويعترفون به صريحاً لا بما يلزمه بضرب من التأويل . فالصواب أن المراد اتخاذهما بطريق إشراكهما به سبحانه . كما في قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً } [ البقرة : 165 ] . وقوله عز وجل : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } - إلى قوله تعالى - : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ يونس : 18 ] . إذ به يتأتى التوبيخ , ويتسنى التقريع والتبكيت . هذا ما حققوه هنا .
وأقول : إن كلمة ( دون ) في هذه الآية وأمثالها بمعنى ( غير ) كما حققه اللغويون . ولا تفيد , وضعا , الاستقلال والبدلية , كما توهم وسر ذكرها إفهام الشركة . لأنه لولاها لتوهم دعوى انحصار الألوهية فيما عداه . مع أنهم لا يعتقدون ذلك . ولا يفهم من نحو [ اتَّخَذْتَ صَدِيقاً مِنْ دُونِي ] الاستبدال . فذاك من قرينة خارجية . وإلا فالمثال لا يعنيه . لجواز إرادة اتخاذه معه كما لا يخفي . فتبصر : { قَالَ سُبْحَانَكَ } أي : أنزهك تنزيهاً لائقاً بك من أن يقال هذا ويُنطق به : { مَا يَكُونُ لِي } أي : ما يتصور مني بعد إذ بعثتني لهداية الخلق : { أَنْ أَقُولَ } أي : في حق نفسي : { مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } أي : ما استقر في قلوب العقلاء عدم استحقاقي له مما يضلهم : { إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ } استئناف مقرر لعدم صدور القول المذكور عنه عليه السلام ، بالطريق البرهاني . فإن صدوره عنه مستلزم لعلمه تعالى به قطعاً . فحيث انتفى علمه تعالى به ، انتفى صدره عنه حتماً . ضرورة . أن عدم اللازم مستلزم لعدم الملزوم . قاله أبو السعود : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي } استئناف جار مجرى التعليل لما قبله . كأنه قيل : لأنك تعلم ما أخفيه في نفسي . فكيف بما أعلنه ؟ وقوله تعالى : { وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } بيان للواقع ، وإظهار لقصوره . أي : ولا أعلم ما تخفيه من معلوماتك . أفاده أبو السعود : { إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ 117 ]
{ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ } أي : ما أمرتُهم إلا بما أمرتني به . وإنما قيل : { مَا قُلْتُ لَهُمْ } نزولاً على قضية حسن الأدب ، ومراعاة لما ورد في الاستفهام . وقوله تعالى : { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } تفسير للمأمور به : { وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ } أي : رقيباً أراعي أحوالهم وأحملهم على العمل بموجب أمرك ، ويتأتى لي نهيهم عما أشاهده فيهم مما لا ينبغي : { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي } أي : بالرفع إلى السماء . كما في قوله تعالى : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَي } [ آل عِمْرَان : 55 ] . والتوفي : أخذ الشيء وافياً . والموت نوع منه . قال تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } [ الزمر : 42 ] . وسبق في قوله تعالى : { يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } في [ آل عِمْرَان ] زيادة إيضاح على ما هنا . فتذكر : { كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } أي : الناظر لأعمالهم . فمنعتَ من أردت عصمته من التفوّه بذلك . وخذلت من خذلت من الضالين ، فقالوا ما قالوا : { وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } اعتراض تذييليّ مقرر لما قبله . وفيه إيذان بأنه تعالى كان هو الشهيد على الكل ، حين كونِهِ عليه السلام فيما بينهم . تنبيه :
دلت الآية على أن الأنبياء ، بعد استيفاء أجلهم الدنيويّ ، ونقلهم إلى البرزخ لا يعلمون أعمال أمتهم . وقد روى البخاري هنا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < يا أيها الناس ! إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً . ثم قال : { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } إلى آخر الآية ، ثم قال : ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيام إبراهيم . ألا وإنه يُجاء برجال من أمتي فيُأخذ بهم ذات الشمال فأقول : يا رب ! أصيحابي . فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك . فأقول كما قال العبد الصالح : { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } فيقال : إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 118 ]
{ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } قال الحافظ ابن كثير : هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله عزّ وجلّ . فإنه الفعال لما يشاء : { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] . ويتضمن التبرؤ من النصارى الذين كذبوا على الله ورسوله . وجعلوا لله ندّاً وصاحبة وولداً . تعالى الله عما يقولون علوّاً كبيراً . انتهى .
أي : إن تعذبهم فإنك تعذب عبادك . ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بملكه . وفيه تنبيه على أنهم استحقوا ذلك لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك . وإن تغفر لهم فلا عجز ولا استقباح . لأنك القادر القوي على الثواب والعقاب . الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب . فإن المغفرة مستحسنة لكل مجرم . فإن عذبت فعدل ، وإن غفرت ففضل . وعدم غفران الشرك مقتضى الوعيد . فلا امتناع فيه لذاته ، ليمتنع الترديد والتعليق بـ ( إِن ) . أفاده البيضاوي .
يعني أن المغفرة ، وإن كانت قطعية الانتفاء بحسب الوجود ، لكنها لما كانت بحسب العقل ، تحتمل الوقوع واللاوقوع ، استعمل فيها كلمة ( إن ) فسقط ما يتوهم أن تعذيبهم ، مع أنه قطعيّ الوجود , كيف استعمل فيه ( إن ) وعدم وقوع العفو بحكم النص والاجتماع .
وفي كتب الكلام : إن غفران الشرك جائز عقلاً عندنا وعند جمهور البصريين من المعتزلة . لأن العقاب حق الله على المذنب , وليس في إسقاطه مضرة .
وبالجملة : فليس قوله تعالى : { إِن تَغْفِرْ لَهُمْ } تعريضاً بسؤاله العفو عنهم . وإنما هو لإظهار قدرته على ما يريد , وعلى مقتضى حكمه وحكمته . ولذا قال : إنك أنت العزيز الحكيم , تنبيهاً على أنه لا امتناع لأحد عن عزته , فلا اعتراض في حكمه وحكمته .
قال الرازي : قال قوم : لو قال : فإنك أنت الغفور الرحيم , أشعر ذلك بكونه شفيعاً لهم . فلما قال فإنك أنت العزيز الحكيم , دل ذلك على أن غرضه تفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى , وترك التعرض لهذا الباب من جميع الوجوه .
وفي " العناية " ما ملخصه : أن ما ظنه بعضهم من أن مقتضى الظاهر : { الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } بدل : { الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } كما وقع في مصحف عبد الله بن مسعود - فقد غاب عنه سر المقام . لأنه ظن تعلقه بالشرط الثاني فقط , لكونه جوابه . وليس كما توهم . بل هو متعلق بهما . ومن له الفعل والترك عزيز حكيم . فهذا أنسب وأدق وأليق بالمقام ,أو هو متعلق بالثاني ,وإنه احترس , لأن ترك عقاب الجاني قد يكون لعجز ينافي القدرة , أو لإهمالٍ ينافي الحكمة . فبيّن أن ثوابه وعقابه مع القدرة التامة والحكمة البالغة .
تنبيه :
قال الحافظ ابن كثير : هذه الآية لها شأن عظيم ونبأ عجيب . وقد ورد في الحديث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة إلى الصباح يرددها .
روى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال : صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات ليلة .
فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فلما أصبح يركع قلت : يا رسول ! لم تزل تقرأ هذه الآية حتى أصبحت . تركع بها وتسجد بها ؟ قال : < إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي ؛ فأعطانيها . وهي نائلة , إن شاء الله , لمن لا يشرك بالله شيئاً > . وأخرجه النسائي أيضاً .
وروى الإمام أحمد أيضاً عن أبي ذر قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي في صلاة العشاء . فصلى بالقوم ثم تخلف أصحاب له يصلون . فلما رأى قيامهم وتخلفهم انصرف إلى رحله . فلما رأى القوم قد أخلوا المكان رجع إلى مكانه فصلى . فجئت فقمت خلفه فأومأ إليّ بيمينه , فقمت عن يمينه . ثم جاء ابن مسعود فقام خلفي . وخلفه , فأومأ إليه بشماله فقام عن شماله . فقمنا ثلاثتنا يصلي كل واحد منا بنفسه , ونتلو من القرآن ما شاء الله أن نتلو . وقام بآية من القرآن يرددها , حتى صلى الغداة . فلما أصبحنا أومأت إلى عبد الله بن مسعود . أن سله ما أراد إلى ما صنع البارحة ؟ فقال ابن مسعود : لا أسأله عن شيء حتى يُحْدث إليّ, فقلت : بأبي وأمي ! قمت بآية من القرآن ومعك القرآن . لو فعل هذا بعضنا لوجدنا عليه . قال : دعوت لأمتي . قلت : فماذا أجبت ؟ أو ماذا رد عليك ؟ قال أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلعة , تركوا الصلاة . قلت : أفلا أبشر الناس , قال : بلى . فانطلقت مُعْنِقاً قريباً من قذفةٍ بحجر . فقال عمر : يا رسول الله ؟ إنك إن تبعث بهذا نكلوا عن العبادة . فناداه أن ارجع . فرجع .
وتلك الآية : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .
وروى الإمام مسلم عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص ؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عزّ وجلّ في إبراهيم : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } [ إبراهيم : 36 ] .
وقول عيسى : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } . فرفع يديه وقال : اللهم ! أمتي أمتي . وبكى . فقال الله تعالى : يا جبريل ! اذهب إلى محمد . وربك أعلم , فاسأله : ما يبكيك ؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال , وهو أعلم . فقال الله : يا جبريل ! اذهب إلى محمد فقل له : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك .
ثم ختم تعالى حكاية ما حكى مما يقع يوم يجمع الله الرسل , عليهم الصلاة والسلام , مع الإشارة إلى نتيجة ذلك ومآله بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ 119 ]
{ قَالَ اللّهُ هَذَا } أي : يوم القيامة : { يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } لأنه يوم الجزاء . والمراد بـ ( الصَّادِقِينَ ) المستمرون على الصدق في الأمور الدينية, التي معظمها التوحيد, الذي الآية في صدده . وفيه شهادة بصدق عيسى عليه السلام فيما قاله , جواباً عن قوله : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } الآية . وقوله تعالى : { لَهُمْ جَنَّاتٌ } تفسير للنفع المذكور . ولذا لم يعطف عليه , أي : لهم بساتين من غرس صدقهم : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا } أي : من تحت شجرها وسررها : { الأَنْهَارُ } أنهار الماء واللبن والخمر والعسل : { خَالِدِينَ فِيهَا } مقيمين لا يموتون ولا يخرجون : { أَبَداً رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ } لصدقهم : { وَرَضُواْ عَنْهُ } تحقيقاً لصدقهم . فلم يسخطوا لقضائه في الدنيا : { ذَلِكَ } أي : الخلود والرضوان : { الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } أي : الكبير الذي لا أعظم منه . كما قال تعالى : { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُون } [ الصافات : 61 ] . وكما قال تعالى : { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } [ المطففين : 26 ] , وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 120 ]
{ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ } تحقيق للحق وتنبيه على كذب النصارى وفساد ما زعموا في المسيح وأمه . وذلك من تقديم الظرف . لأنه المالك لا غيره . فلا شريك له { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير } أي : مبالغ في القدرة . فالجميع ملكه وتحت قهره وقدرته ومشيئته . فلا نظير له ولا وزير . لا إله غيره ولا رب سواه .
رواه ابن وهب عن عبد الله بن عَمْرو ، قال : آخر سورة أنزلت سورة المائدة . أخرجه الترمذي والحاكم . وأخرجا أيضاً عن عائشة قالت : آخر سورة نزلت المائدة والفتح - كذا في " الإتقان " - .
كمل ما قدره تعالى على عبيده من محاسن تأويل هذه السورة الشريفة
بعد عصر يوم الجمعة في 19 رمضان عام 1320
في السدّة اليمنى العليا من جامع السنانية .
والحمد لله ربّ العالمين .(/)
سورة الأنعام
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ } [ 1 ]
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ } أي : جميع المحامد ، بما حمد به نفسه أو خلقه ، أو حمد به الخلقُ ربهم ، أو بعضهم ، مخصوص به . ثم أخبر عن قدرته الكاملة ، الواجبة لاستحقاقه لجميع المحامد بقوله : { الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } خصهما بالذكر ، لأنهما أعظم المخلوقات ، فيما يرى العباد ، وفيهما العبر والمنافع ، لأن السماوات بأوضاعها وحركاتها أسباب الكائنات والفاسدات التي هي مظاهر الكمالات الإلهية . والأرض مشتملة على قوابل الكون والفساد التي هي المسببات .
{ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } أي : أوجدهما منفعة لعباده ، في ليلهم . ونهارهم . وههنا :
لطائف :
الأولى - أن المقصود من الآية التنبيه على أن المنعم بهذه النعم الجسام هو الحقيق بالحمد والعبادة ، دون ما سواه .
الثانية - لفظ ( جعل ) يتعدى إلى واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ ، كما هنا ؛ وإلى مفعولين إذا كان بمعنى ( صيَّر ) كقوله : { وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً } [ الزخرف : 19 ] . والفرق بين ( الخلق ) و ( الجعل ) أن الخلق فيه معنى التقدير ، وفي ( الجعل ) معنى التضمين ، كإنشاء شيء من شيء أو تصيير شيء شيئاً ، أو نقله من مكان إلى مكان . ومن ذلك : { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ الأعراف : 189 ] { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً } [ ص : 5 ] . وإنما حسن لفظ ( الجعل ) ههنا ، لأن النور والظلمة لها تعاقبا ، صار كأن كل واحد منهما إنما تولد من الآخر - قاله الرازيّ - وسبقه إليه الزمخشريّ . قال الناصر في " الانتصاف " : وقد وردت : { جَعَلَ } و : { خَلَقَ } مورداً واحداً . فورد : { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ النساء : 1 ] . وورد : { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ الأعراف : 189 ] . وذلك ظاهر في الترادف . إلا أن للخاطر ميلاً إلى الفرق الذي أبداه الزمخشري . ويؤيده أن : { جَعَلَ } لم يصحب السماوات والأرض ، وإما لزمتهما : { خَلَقَ } . وفي إضافة ( الخلق ) في هذه الآية إلى السماوات والأرض ، و ( الجعل ) إلى الظلمات والنور ، مصداق للميّز بينهما -والله أعلم -
الثالثة - إن قيل : لم جمعت السماوات دون الأرض مع أنها مثلهن لقوله تعالى : { وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنّ } [ الطلاق : 12 ] . في الحديث : < هل تدرون ما هذه ؟ قالوا : هذه أرض . هل تدرون ما تحتها ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ؟ قال : أرض أخرى ، وبينهما مسير خمسمائة عام ، حتى عدّ سبع أرضين ، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة عام > -أخرجه الترمذي ، وأبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله عنه ؟ .
فالجواب : لأن السماوات طبقات متفاضلة بالذات ، مختلفة بالحقيقة ، بخلاف الأرضين - كما قاله البيضاوي - .
وقال الرازي : إن السماء جارية مجرى الفاعل . والأرض مجرى القابل . فلو كانت السماء واحدة لتشابه الأثر ، وذلك يخل بمصالح هذا العالم . أما لو كانت كثيرة اختلفت الاتصالات الكوكبية ، فحصل بسببها الفصول الأربعة ، وسائر الأحوال المختلفة ، وحصل بسبب تلك الاختلافات مصالح هذا العالم . أما الأرض فهي قابلة للأثر ، والقابل الواحد كاف في القبول . انتهى .
وقدم السماوات لشرفها وعلوّ مكانها .
الرابعة - الظاهر في ( الظلمات والنور ) أن المراد منهما الأمران المحسوسان بحس البصر . والذي يقوي ذلك أن اللفظ حقيقة فيهما . والأصل اللفظ على حقيقته . ولأن ( الظلمات والنور ) إذا قربنا بالسماوات والأرض ، لم يفهم منهما إلا الأمران المحسوسان ، ونقل عن بعض السلف أنه عنى بهما الكفر والإيمان .
ورجح الرازي الأول لما ذكر .
ووجه بعضهم الثاني بأن المعنى : أنه لما خلق السماوات والأرض ، فقد نصب الأدلة على معرفته وتوحيده . ثم بيّن طريق الضلال ، وطريق الهدى ، بإنزال الشرائع والكتب السماوية { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } فناسب المقام ( ثم ) الاستبعادية إذ ببعد من العاقل الناظر بعد إقامة الدليل ، اختيار الباطل . انتهى .
وعليه فجمع ( الظلمات ) وتوحيد ( النور ) ظاهر . لأن الهدى واحد ، والضلال متعدد ، كما قال في آخر هذه السورة : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] .
وعلى الأول ، فجمعها لظهور كثرة أسبابها ومحالها عند الناس ، فإن لكل جرم ظلمة ، وليس لكل جرم نور . وأما تقديمهما في التقدير والتحقق ، على النور .
وفي الأثر : إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رشّ عليهم من نوره .
وقوله تعالى : { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } معطوف على الجملة السابقة الناطقة بما مر من موجبات اختصاصه تعالى ، بالحمد المستدعى لاقتصار العبادة عليه . مسوق لإنكار ما عليه الكفرة ، واستبعاده من مخالفتهم لمضمونها ، واجترائهم على ما يقضي ببطلانه بديهة العقول . والمعنى أنه تعالى مختص باستحقاق الحمد والعبادة ، باعتبار ذاته ، وباعتبار ما فصل من شؤونه العظيمة الخاصة به ، الموجبة لقصر الحمد والعبادة عليه ، ثم هؤلاء الكفرة لا يعملون بموجبه ، ويعدلون به سبحانه . أي : يسؤون به غيره في العبادة التي هي أقصى غايات الشكر ، الذي رأسه الحمد ، مع كون كل ما سواه مخلوقاً له ، غير متصف بشيءٍ من مبادئ الحمد . وكلمة ( ثم ) لاستبعاد الشرك بعد وضوح ما ذكر من الآيات التكوينية ، القاضية ببطلانه . و ( الباء ) متعلقة بـ ( يعدلون ) ووضع ( الرب ) موضع ضميره تعالى ، لزيادة التشنيع والتقبيح . والتقديم لمزيد الاهتمام والمسارعة إلى تحقيق مدار الإنكار والاستبعاد ، والمحافظة على الفواصل ، وترك المفعول لظهوره ، أو لتوجيه الإنكار إلى نفس الفعل ، بتنزيله منزلة اللازم ، إيذاناً بأنه المدار في الاستبعاد ، لا خصوصية المفعول . هذا هو الحقيق بجزالة التنزيل - أفاده أبو السعود - .
ثم ناقش ما وقع للمفسرين هنا مما يخالفه . فانظره .
وأصل ( العدل ) مساواة الشيء بالشيء . والمعنى : أنهم يجعلون له عديلاً من خلقه ، مما لا يقدر على شيء ، فيعبدون الحجارة ، مع إقرارهم بأن الله خلق السماوات والأرض .
وقال النضر بن شميل : ( الباء ) بمعنى ( عن ) أي : عن ربهم يعدلون وينحرفون ، من العدول عن الشيء .
لطيفة :
قال ابن عطية رحمه الله : ( ثم ) دالة على قبح فعل الذين كفروا ، لأن المعنى أن خلقه السماوات قد تقرر ، وآيات قد سطعت ، وإنعامه بذلك قد تبين ، ثم بعد هذا كله قد عدلوا بربهم . فهذا كما تقول : أعطيتك وأحسنت إليك ، ثم تشتمني ؟ ولو وقع العطف في هذا ونحوه بـ ( الواو ) لم يلزم التوبيخ كلزومه بـ ( ثم ) . انتهى . أي : ففيها الدلالة على التوبيخ والإنكار ، كالتعجيب أيضاً .
قال أبو حيان : هذا الذي ذهب إليه ابن عطية من أن ( ثم ) للتوبيخ . والزمخشري من أنها للاستبعاد - مفهوم من سياق الكلام ، لا من مدلول ( ثم ) . انتهى .
وإنما لم تحمل ( ثم ) على التراخي ، مع استقامته ، لكون الاستبعاد أوفق بالمقام ، لأن التراخي الزمانيّ معلوم فيه ، فلا فائدة في ذكره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } [ 2 ]
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ } استئناف مسوق لبيان بطلان كفرهم بالبعث ، مع مشاهدتهم لما يوجب الإيمان به ، إثر بيان بطلان إشراكهم به تعالى ، مع معاينتهم لموجبات توحيده . وتخصيصُ خلقهم بالذكر من بين سائر دلائل صحة البعث ، مع أن ما ذكره من خلق السماوات والأرض من أوضحها وأظهرها ، كما ورد في قوله تعالى : { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } [ يس : 81 ] . لما أن محل النزاع بعثهم . فدلالة بدء خلقهم على ذلك أظهر ، وهم بشؤون أنفسهم أعرف ، والتعامي عن الحجة النيرة أقبح . والالتفات لمزيد التشنيع والتوبيخ . أي : ابتدأ خلقكم منه ، فإنه المادة الأولى للكل ، لما أنه منشأ آدم الذي هو أبو البشر . وإنما نسب هذا الخلق إلى المخاطبين ، لا إلى آدم عليه السلام ، وهو المخلوق منه حقيقة . بأن يقال : هو الذي خلق أباكم . . الخ مع كفاية علمهم بخلقه عليه السلام منه ، في إيجاب الإيمان بالبعث ، وبطلان الامتراء -لتوضيح منهاج القياس ، وللمبالغة في إزاحة الاشتباه والالتباس . مع ما فيه من تحقيق الحق والتنبيه على حكمة خفية : هي أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشائه ، عليه السلام ، منه حيث لم تكن فطرته البديعة مقصورة على نفسه ، بل كانت أنموذجاً منطوياً على فطرة سائر آحاد الجنس ، انطواء إجمالياً ، مستتبعاً لجريان آثارها على الكل . فكان خلقُه عليه السلام من الطين خلقاً لكل أحد من فروعه منه . ولما كان خلقه على هذا النمط الساري إلى جميع أفراد ذريته ، أبدع من أن يكون ذلك مقصوراً على نفسه ، كما هو المفهوم من نسبة الخلق المذكور إليه ، وأدل على عظم قدرة الخلاق العليم ، وكمال عليمه وحكمته ، وكان ابتداء حال المخاطبين أوْلى بأن يكون معيار لانتهائها - فعل ما فعل . ولله در شأن التنزيل ! وعلى هذا السر مدار قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُم } [ الأعراف : 11 ] . الخ . وقوله تعالى : { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [ مريم : 9 ] . كما سيأتي .
وقيل : المعنى خلق آبائكم منه ، على حذف المضاف . وقيل : معنى خلقهم منه ، خلقهم من النطفة الحاصلة من الأغذية المتكونة من الأرض . وأياً ما كان ، فيه من وضوح الدلالة على كمال قدرته تعالى على البعث ، ما لا يخفى . فإن من قدر على إحياء ما لم يشم رائحة الحياة قط ، كان على إحياء ما قارنها مدة أظهر قدرة - أفاده أبو السعود - .
وفي " العناية " : أن في الآية التفاتاً ، لأن الخطاب - وإن صح كونه عامّاً - لكنه خاص بالذين كفروا ، كما يقتضيه : { ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ } . ونكتته أن دليل الأنفس أقرب إلى الناظر من دليل الآفاق الذي في الآية السابقة ، والشكر عليه أوجب . وقد أشير في كل من الدليلين إلى المبدأ والمعاد ، وما بينهما . انتهى .
أخرج أبو داود والترمذي عن أبي موسى الأشعري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض . جاء منهم . الأحمر والأبيض والأسود ، وبين ذلك . والسهلُ وَالحزْنُ ، والخبيث والطيّب > .
وقوله تعالى : { ثُمَّ قَضَى أَجَلاً } أي : كتب لموت كل واحد منكم أجلاً خاصّاً به . أي : حدّاً معيناً من الزمان يفنى عند حلوله . أو كتب ، لِمَا بين أن يولد كل منكم إلى يوم أن يموت ، أجلاً .
{ وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ } أي : وحدّ معين لبعثكم جميعاً ، مثبت معيّن في علمه ، لا يقبل التغيير ، ولا يقف على وقت حلوله أحد . كقوله تعالى : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ } [ الأعراف : 187 ] . فمعنى : { عِندَهُ } أنه مستقل بعلمه . و : { وَأَجَلٌ } مبتدأ لتخصيصه بالصفة ، ولوقوعه في موقع التفصيل . وتنوينه لتفخيم شأنه ، وتهويل أمره ، ولذلك أوثر تقديمه على الخبر الذي هو : { عِندَهُ } ، مع أن الشائع في مثله التأخير ، كأنه قيل : وأيّ أجل معين في علمه لا يعلمه أحد لا مجملاً ولا مفصلاً . أما أجل الموت فمعلوم إجمالاً وتقريباً ، بناء على ظهور أمارته ، أو على ما هو المعتاد في أعمار الإنسان .
{ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ } استبعاد واستنكار لامترائهم في البعث ، بعد معاينتهم لما ذكر من الحجج الباهرة الدالة عليه . أي : تمترون في وقوعه وتحققه في نفسه ، مع مشاهدتكم في أنفسكم ما يقطع مادة الامتراء . فإن من قدر على خلق المواد وجمعها وإبداع الحياة فيها ، وإبقائها ما يشاء ، كان أقدار على جمع تلك المواد وإحيائها ثانياً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } [ 3 ]
{ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ } أي : المعبود فيهما { يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } أي : من الأقوال أو الدواعي والصوارف القلبية وأعمال الجوارح { وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } أي : ما تفعلونه من خير أو شر ، فيثيب عليه ويعاقب . وتخصيصه بالذكر ، مع اندراجه فيما سبق ، على التفسير الثاني للسر والجهر -لإظهار كمال الاعتناء به الذي يتعلق به الجزاء . وهو السر في إعادة يعلم .
قال الناصر في " الانتصاف " : وما هاتان الآياتان الكريمتان - يعني هذه الآية وآية الزخرف ، وهي قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ } [ الزخرف : 84 ] -إلاَّ تَوْأَمَتَاَن . فإن التمدح في آية الزخرف ، وقع بما وقع التمدح به هاهنا من القدرة على الإعادة والاستئثار بعلم الساعة والتواجد في الألوهية ، وفي كونه تعالى المعبود في السماوات والأرض .
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى : للمفسرين في هذه الآية أقوال ، بعد اتفاقهم على إنكار قول الجهمية ، الأول القائلين - تعالى عن قولهم علواً كبيراً - بأنه في كل مكان ، حيث حملوا الآية على ذلك . فلأصح من الأقوال أنه المدعوّ في السماوات والأرض ، أي : يعبده ويوحده ويقرّ له بالآلهية من في السماوات ومن في الأرض ، ويسمونه الله ، ويدعونه : { وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً } [ الأنبياء : 90 ] . إلا من كفر من الجن والإنس . وهذه الآية - على هذا القول - كقوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } . أي : هو إله من في السماء وإله من في الأرض ، وعلى هذا فيكون قوله : { يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ } خبراً أو حالاً .
والقول الثاني - إن المراد أنه الله الذي يعلم ما في السماوات وما في الأرض من سر وجهر . فيكون قوله : { يَعْلَمُ } متعلقاً بقوله : { فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ } تقديره : وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات . . . . الخ .
والقول الثالث - إن قوله : { وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ } وقف تام ، ثم استأنف الخبر فقال : { وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ } وهذا اختيار ابن جرير . انتهى .
ورجح ابن عطية في الآية : أنه الذي يقال له : { الله } فيهما . قال : وهذا عندي أفضل الأقوال ، وأكثرها إحرازاً لفصاحة اللفظ ، وجزالة المعنى ، وإيضاحه : أنه أراد أن يدل على خلقه ، وآيات قدرته ، وإحاطته واستيلائه ، ونحو هذه الصفات . فجمع هذه كلها في قوله : { وَهُوَ اللَّهُ } -الذي لَهُ هَذِهِ كُلُّهَا - : { فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } كأنه قال : وهو الخالق والرازق والمحيي والمميت فيهما . تنبيه :
قال الرازي : الآية تدل كون الْإِنْسَاْن مكتسباً للفعل ، والكسب هو الفعل المفُضِي إلى اجتلاب نفع ، أو دفع ضرّ . ولهذا السبب لا يوصف فعل الله بأنه كسب ، لكونه تعالى منزهاً عن جلب النفع ، ودفع الضرّ -والله أعلم - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } [ 4 ]
{ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ } يعني : ما يظهر لكفار مكة دليل من الأدلة التي يجب فيها النظر والاعتبار ، أو معجزة من المعجزات ، أو آية من آيات القرآن ، التي من جملتها الآيات السالفة ، الناطقة ببدائع صنعه وقدرته على البعث : { إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ } أي : على وجه التكذيب والاستهزاء ، لقلة خوفهم وتدبرهم ، في العواقب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ } [ 5 ]
{ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ } يعني : القرآن الذي تُحُدُّوا به ، فعجزوا عنه : { فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي : مصداق أنباء الحق الذي كانوا يكذبون به على سبيل الاستهزاء . وأنباؤه عبارة عما سيحيق بهم من العقوبات العاجلة . فهو وعيد شديد لهم بأنه لا بد لهم أن يذوقوا وباله . وقد ذاقوه يوم بدر وغيره(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } [ 6 ]
{ أَلَمْ يَرَوْا } أي : ألم يعلموا علماً يشبه الرؤية بالبصر ، لما سمعوا بالتواتر من إتيان المستهزئين قبلهم . أنباءهم مراراً كثيرة : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ } أي : من أمة ، فلم نبق منها أحداً ، مثل قوم نوح وعاد وثمود ، وغيرهم من الأمم الماضية ، والقرون الخالية { مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ } أي : قررناهم وثبتناهم في الأرض { مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ } أي : ما لم نجعل لكم من السعة والرفاهية وطول الأعمار ، يا أهل مكة ! : { وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ } أي : المطر . قال المهايمي : هو أبلغ من : { أَنزَلْنَا } في الدلالة على الكثرة { عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً } أي : كثيراً { وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ } أي : من تحت أشجارهم ، فعاشوا في الخصب بين الأنهار والثمار ، وسقيا الغيث المدرار { فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ } أي : بسبب ذنوبهم وكفرهم ، وتكذيبهم رسلهم ، وجعلناهم أحاديث ، فما أغنى عنهم ما كانوا فيه . أي : وسيحل بهؤلاء مثل ما حل بهم من العذاب { وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } أي : بدلاً من الهالكين ، يعني : فلا يتعاظمه تعالى أن يهلك هؤلاء ، ويخلي ديارهم منهم ، وينشئ أمة سواهم ، فما هم بأعزّ على الله منهم . والرسول الذي كذبوه أكرم على الله من رسلهم . فهم أولى بالعذاب ، ومفاجأة العقوبة ، لولا لطفه وإحسانه .
ثم بين تعالى شدة مكابرتهم ، إثر إعراضهم ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ 7 ]
{ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ } أي : مكتوباً في ورق : { فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } أي : فمسوه { لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا } أي : ليس هذا المعظم بهذه الوجوه الدالة على أنه لا يكون إلا من الله { إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ } تعنتاً وعناداً ، وتخصيص اللمس لأن التزوير لا يقع فيه ، فلا يمكنهم أن يقولوا إنما سكرت أبصارنا ، ولأنه يتقدمه الإبصار ، حيث لا مانع . وتقييده بـ الأيدي لرفع التجوز ، فإنه قد يتجوز به للفحص ، كقوله : { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء } [ الجن : 8 ] - أفاده البيضاوي .
قال الناصر في " الانتصاف " : والظاهر أن فائدة زيادة لمسهم له بأيديهم ، تحقيق القراءة على قرب . أي : فقرؤوه وهو في أيديهم ، لا بعيد عنهم ، لما آمنوا .
وقال ابن كثير : وهذا كما قال تعالى مخبراً عن مكابرتهم للمحسوسات : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ } [ الحجر : 14 - 15 ] . ولقوله تعالى : { وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ } [ الطور : 44 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } [ 8 ]
{ وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } أي : ليكون معه فيكلمنا أنه نبي ، كقوله : { لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } [ الفرقان : 7 ] .
{ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ } جواب لمقترحهم ، وبيان لمانعه ، وهو البقيا عليهم ، كيلا يكونوا كالباحث عن حتفه بظلفه . والمعنى : أن الملك لو أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته ، وهي آية لا شيء أبين منها وأيقن ، ثم لم يؤمنوا ، لحاق بهم العذاب ، وفرغ الأمر . فإن سنة الله قد جرت في الكفار أنهم متى اقترحوا آية . ثم لم يؤمنوا ، استؤصلوا بالعذاب ، كما قال تعالى : { مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ } [ الحجر : 8 ] . وقوله تعالى : { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ } [ الفرقان : 22 ] .
{ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ } أي : لا يمهلون بعد نزوله طرفة عين ، فضلاً عن أن ينذروا به . ومعنى ثم بعد ما بين الأمرين ، قضاء الأمر ، وعدم الإنظار جعل عدم الإنظار . أشد من قضاء الأمر ، لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة .
تنبيه :
ذكر الزمخشري وجهاً ثانياً في تعجيل عذابهم ، عند نزول الملائكة ، وهو أنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف ، فيجب إهلاكهم ، وفي " الكشف " الاختيار قاعدة التكليف ، وهذه آية ملجئة . قال تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } [ غافر : 85 ] . فوجب إهلاكهم ، لئلا يبقى وجودهم عارياً عن الحكمة ، إذ ما خلقوا إلا للابتلاء بالتكليف ، وهو لا يبقى مع الإلجاء . هذا تقريره على مذهبهم ، وهو غير صاف عن الإشكال . انتهى . وفيه إشارة إلى أنه ليس على قواعد السنة ، وكأن وجه إشكاله أنه وقع في القرآن ، والواقع ما ينافيه ، كما في قوله تعالى : { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ } [ البقرة : 259 ] . -كذا في " العناية " -وذكر أيضاً وجهاً ثالثاً . وهو أنهم إذا شاهدوا ملكاً في صورته ، زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون .
قال في " الانتصاف " : ويقوي هذا الوجه قوله : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً } . قال ابن عباس . ليتمكنوا من رؤيته ، ولا يهلكوا من مشاهدة صورته ، انتهى .
وهذا الوجه آثره أبو السعود في التقديم حيث قال : أي : لو أنزلنا ملكاً على هيئته حسبما اقترحوه ، والحال أنه من هول المنظر ، بحيث لا تطيق بمشاهدته قوى الآحاد البشرية . ألا يرى أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يشاهدون الملائكة ويفاوضونهم على الصورة البشرية ؟ كضيف إبراهيم ولوط ، وخصم داود عليهم السلام ، وغير ذلك . وحيث كان شأنهم كذلك ، وهم مؤيدون بالقوى القدسية ، فما ظنك بمن عداهم من العوام ؟ فلو شاهدوه كذلك لقضي أمر هلاكهم بالكلية ، واستحال جعله نذيراً ، وهو - مع كونه خلاف مطلوبهم -مستلزم لإخفاء العالم عما عليه يدور نظام الدنيا والآخرة ، من إرسال الرسل ، وتأسيس الشرائع ، وقد قال سبحانه : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] . انتهى .
وفي " العناية " أن الوجه الثالث لا يناسب قوله : { ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } ، لأنه يدل على إهلاكهم ، لا على هلاكهم ، برؤية الملك ، إلا بتكلف .
هذا وقال الناصر في " الانتصاف " : على الوجه الأول لا يحسن أن يجعل سبب مناجزتهم بالهلاك وضوح الآية في نزول الملك . فإنه ربما يُفهم هذا الكلام أن الآيات التي لزمهم الإيمان بها دون نزول الملك في الوضوح ، وليس الأمر كذلك . فالوجه -والله أعلم -أن يكون سبب تعجيل عقوبتهم بتقدير نزول الملك وعدم إيمانهم ، أنهم اقترحوا ما لا يتوقف وجوب الإيمان عليه ، إذ الذي يتوقف الوجوب عليه المعجز من حيث كونه معجزاً ، لا المعجز الخاص ، فإذا أجيبوا على وفق مقترحهم ، فلم ينجع فيهم ، كانوا حينئذ على غاية من الرسوخ في العناد المناسب لعدم النظرة - والله أعلم - .
قال المهايمي : لا دليل على النبوة سوى شهادة الملك ، وتنزيل الملك بصورته الملكوتية يقطع أمر التكليف ، إذ لا ينفع الإيمان بعد انكشاف عالم الملكوت ، فلا يمهلون ، لأن الإمهال للنظر . والمعجزة - وإن أفادت علماً ضروريّاً -لا تخلو عن خفاء يحتاج إلى أدنى نظر ، ولا خفاء مع انكشاف عالم الملكوت ، فلا وجه للإمهال للنظر ، فلا يقبل الإيمان معه ، فلا بد من المؤاخذة عقيبه . انتهى - فليتأمل - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [ 9 ]
{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً } جواب ثان . أي : ولو جعلنا النذير الذي اقترحوه ملكاً لمثلناه رجلاً ، لما مرّ من عدم استطاعة الآحاد ، لمعاينة الملك على صورته ، من النور . وإنما رآه كذلك الأفراد من الأنبياء بقوتهم القدسية { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ } جواب محذوف . أي : ولو جعلناه رجلاً لشبهنا عليهم ما يشبهون على أنفسهم حينئذ ، بأن يقولوا له : إنما أنت بشر ، ولست بملك . ولو استدل على ملكيته بالقرآن المعجز ، الناطق بها ، أو بمعجزات أخر غير ملجئة إلى التصديق - لكذبوه ، كما كذبوا النبيّ عليه الصلاة والسلام . ولو أظهر لهم صورته الأصلية لزم ما تقدم من قضاء الأمر .
تنبيهات :
الأول : في إيثار رَجُلاً على بَشَراً إيذان بأن الجعل بطريق التمثيل ، لا بطريق قلب الحقيقة ، وتعيين لما يقع به التمثيل .
الثاني - في الآية بيان لرحمته تعالى بخلقه ، وهو أنه يرسل إلى كل صنف من الخلائق رُسُلاً منهم ، ليدعو بعضهم بعضاً ، وليمكن بعضهم أن ينتفع ببعض في المخاطبة والسؤال . كما قال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } [ آل عِمْرَان : 164 ] . الآية . وقال تعالى : { قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً } [ الإسراء : 95 ] .
الثالث : التعبير عن تمثيله تعالى رُجُلاً باللبس إما لكونه في صورة اللبس ، أو لكونه سبباً للبسهم ، أو لوقوعه في صحبته بطريق المشاكلة . وفيه تأكيد لاستحالة جعل النذير ملكاً ، كأنه قيل : لو فعلناه ما لا يليق بشأننا من لبس الأمر عليهم - أفاده أبو السعود .
الرابع - جوز بعضهم وجهاً ثانياً في قوله تعالى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً } وهو أن يكون جواب اقتراح ثان ، على أن الضمير عائد للرسول ، لا لمقترحهم السابق . قال لأنهم تارة يقولون : { لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } وتارة يقول : { لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً } [ فصلت : 14 ] . والمعنى : ولو جعلنا الرسول ملكاً لمثلناه رجلاً . والظاهر هو الوجه الأول .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ } [ 10 ]
وقوله تعالى : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من قومه ، ووعد له وللمؤمنين به بالنصر والعاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة . و حاق : بمعنى نزل وحلَّ ، ولا يكاد يستعمل إلا في الشر . فنزل بهم وبال استهزائهم ، أو العذاب الذي كانوا يسخرون من التخويف به ، إذ هلكوا في الدنيا على أقبح الوجوه ، ثم ردوا إلى أفظع العذاب أبد الآبدين . وجعل الرسل في أعلى منازل القرب من رب العالمين .
ثم أمر تعالى أن يصدعهم بالتجول في الأرض إن ارتابوا فيما تواتر ، أو تعامَوْا عَمَّا رَأوْا ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [ 11 ]
{ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } أي : سيروا في الأرض لتعرّف أحوال أولئك الأمم ، وتفكروا في أنهم كيف أُهلكوا لما كذبوا الرسل وعاندوا ، فتعرفوا صحة ما توعظون به . وفي السير في الأرض ، والسفر في البلاد ، ومشاهدة تلك الآثار الخاوية على عروشها - تكملة للاعتبار ، وتقوية للاستبصار . أي : فلا تغتروا بما أنتم عليه من التمتع بلذات الدنيا وشهواتها .
وفي هذه الآية تكملة للتسلية ، بما في ضمنها من العدة اللطيفة ، بأنه سيحيق بهم مثل ما حاق بأضرابهم المكذبين ، وقد أنجز ذلك يوم بدر أي : إنجاز .
لطيفة :
وقع هنا : { ثُمَّ انظُرُواْ } . وفي النمل : { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا } [ النمل : 69 ] . وكذا في العنكبوت . فتكلف بعضهم لتخصيص ما هنا بـ [ ثم ] ، كما هو مبسوط في " العناية " ، مع ما عليه . ونقل عن بعضهم أن السير متحداً فيهما ، ولكنه أمر ممتد ، يعطف بالفاء تارةً ، نظراً لآخره ، وبـ [ ثم ] نظراً لأوله ، ولا فرق بينهما .
وفي " الانتصاف " : الأظهر أن يجعل الأمر بالسير في المكانين واحداً ، ليكون ذلك سبباً في النظر ، فحيث دخلت الفاء ، فالإظهار السببية . وحيث دخلت ثم ، فللتنبيه على أن النظر هو المقصود من السير ، وأن السير وسيلة إليه لا غير . وشتان بين المقصود والوسيلة -والله أعلم - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ 12 ]
{ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : خلقاً وملكاً ، وهو سؤال تبكيت وتقريع { قُلْ لِلَّهِ } تقرير للجواب ، نيابة عنهم . أي : هو الله ، لا خلاف بيني وبينكم ، ولا تقدرون أن تضيفوا شيئاً منه إلى غيره . ففيه تنبيه على تعينه للجواب اتفاقاً ، كما في قوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } . ومن المقرر أن أمر السائل بالجواب إنما يحسن في موضع يكون فيه الجواب قد بلغ من الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر ، ولا على دفعه دافع ، كما هنا . قيل : وفيه إشارة إلى أنهم تثاقلوا في الجواب ، مع تعينه ، لكونهم محجوجين .
وقوله تعالى : { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } جملة مستقلة داخلة تحت الأمر ، ناطقة بشمول رحمته الواسعة لجميع الخلق ، شمول ملكه وقدرته للكل ، مسوقة لبيان أنه تعالى رؤوف بعباده ، لا يعجل عليهم بالعقوبة ، ويقبل منهم التوبة والإنابة ، وأن ما سبق ذكره ، وما لحق من أحكام الغضب ، ليس من مقتضيات ذاته تعالى ، بل من جهة الخلق . كيف لا ؟ ومن رحمته أن خلقهم على الفطرة السليمة ، وهداهم إلى معرفته وتوحيده ، بنصب الآيات الأنفسية والآفاقية ، وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب المشحونة بالدعوة إلى موجبات رضوانه ، والتحذير عن مقتضيات سخطه . وقد بدلوا فطرة الله تبديلاً ، وأعرضوا عن الآيات بالمرة ، وكذبوا بالكتب ، واسهزؤوا بالرسل { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ } [ الزخرف : 76 ] . ولولا شمول رحمته لسلك بهؤلاء أيضاً مسلك الغابرين . ومعنى : [ كتب الرحمة على نفسه ] أنه تعالى أوجبها وقضاها بطريق التفضل والإحسان على ذاته المقدسة ، بالذات ، لا بتوسط شيء أصلاً . وفي التعبير عن الذات بـ [ النفس ] حجة على من ادعى أن لفظ النفس لا يطلق على الله تعالى . وإن أُريد به الذات ، إلا مشاكلة لما ترى من انتفاء المشاكلة هاهنا -أفادة أبو السعود - .
وقوله تعالى : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } جواب قسم محذوف . والجملة استئناف مسوق للوعيد ، على إشراكهم وإغفالهم النظر ، لأنه لما بين كمال إلهيته ، بقوله : { قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ } . ثم أخبر بأنه يرحمهم في الدنيا بالإمهال ، ودفع عذاب الاستئصال ، أعلم أنه يجمعهم لذلك اليوم ، ويحاسبهم على كل ما فعلوا ، لأن الملك الحكيم لا يهمل أمر رعيته ، ولا يسوغ في حكمته أن يسوي بين المطيع والعاصي قيل : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } جواب لقوله : { كَتَبَ } ، لأنه يجري مجرى القسم .
وقيل : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } بدل من الرحمة ، بدل البعض . قال المهايمي : كمال الرحمة في الجزاء ، إذ بدونه تضيع مشاق المعارف الإلهية ، والأعمال الصالحة ، وتضيع المظالم ، ولا جزاء في دار الدنيا ، لأنه فرع التكليف ، ودار التكليف لا تكون دار الجزاء ، لأن مشاهدته مانعة من التكليف . انتهى .
و إلى بمعنى اللام ، كقوله : { إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيه } [ آل عِمْرَان : 9 ] ، أي : في اليوم ، أو في الجمع .
{ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } أي : بتضييع رأس مالهم ، وهو الفطرة الأصلية , والعقل السليم ، والاستعداد القريب الحاصل من مشاهدة الرسول عليه الصلاة والسلام ، واستماع الوحي ، وغير ذلك من آثار الرحمة .
{ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } أي : لا يصدقون بالمعاد ، ولا يخافون شر ذلك اليوم .
قال أبو السعود : والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، والإشعار بأن عدم إيمانهم بسبب خسرانهم ، فإن إبطال العقل باتباع الحواس ، والانهماك في التقليد ، وإغفال النظر ، أدى بهم إلى الإصرار على الكفر ، والامتناع من الإيمان . والجملة تذييل مسوق من جهته تعالى ، لتقبيح حالهم ، غير داخل تحت الأمر .
تنبيه :
رُوي في معنى هذه الآية عن أبي هريرة : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لما خلق الله الخلق كتب في كتاب ، فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبي > -رواه الشيخان -
وفي البخاريّ : إن كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق : إن رحمتي سبقت غضبي ، فهو مكتوب عنده ، فهو العرش .
وفي رواية لهما : أن الله لما خلق الخلق .
وعند مسلم : لما قضى الله الخلق ، كتب في كتاب كتبه على نفسه ، فهو موضوع عنده . زاد البخاريّ : على العرش . ثم اتفقا : إن رحمتي تغلب غضبي .
وسنذكر ، إن شاء الله ، شذرة من أحاديث الرحمة عند آية : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } قريباً . قال أبو السعود : ومعنى سبق الرحمة وغلبتها أنها أقدم تعلقاً بالخلق ، وأكثر وصولاً إليهم مع أنها من مقتضيات الذات المفيضة للخير .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ 13 ]
{ وَلَهُ } أي : ولله عز وجل { مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أي : ما استقر وحلّ ، من السكنى بمعنى الحلول . كقوله تعالى : { وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } [ إبراهيم : 45 ] . والمعنى : له تعالى كل ما حصل في الليل والنهار ، مما طلعت عليه الشمس أو غربت . شبه الاستقرار بالزمان ، بالاستقرار في المكان ، فاستعمل استعماله فيه . أو سكن من السكون ، مقابل الحركة . أي : ما سكن فيهما وما تحرك ، فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر ، كما في قوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَر } [ النحل : 81 ] . لأن ذلك يعرف بالقرينة . وعليه ، فإنما اكتفى بالسكون عن ضده دون العكس . لأن السكون أكثر وجوداً ، والنعمة فيه أكثر .
قال بعضهم : لا حاجة لدعوى الاكتفاء ، فإنما سكن يعم جميع المخلوقات ، إذ ليس شيء منها غير متصف بالسكون ، حتى المتحرك ، حال حركته ، على ما حقق في الكلام : من أن تفاوت الحركات بالسرعة والبطء لقلة السكنات المتخللة وكثرتها .
لطيفة :
قال أبو مسلم الأصفهانيّ : ذكر تعالى في الآية الأولى السماوات والأرض ، إذ لا مكان سواهما . وفي هذه الآية ذكر الليل والنهار ، إذ لا زمان سواهما ، فالزمان والمكان ظرفان للمحدثات ، فأخبر سبحانه أنه مالك للمكان والمكانيات ، ومالك للزمان والزمانيات . وهذا بيان في غاية الجلالة .
وقال الرازي : هاهنا دقيقة أخرى . وهو أن الابتداء وقع بذكر المكان والمكانيات ، ثم ذكر عقيبه الزمان والزمانيات ، وذلك لأن المكان والمكانيات أقرب إلى العقول والأفكار من الزمان والزمانيات ، لدقائق مذكورة في العقليات الصرفة . والتعليم الكامل هو الذي يبدأ فيه بالأظهر فالأظهر مترقياً إلى الأخفى فالأخفى ، وهذا من سر نظم الآية مع ما قبلها .
{ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } يسمع كل مسموع ، ويعلم كل معلوم ، فلا يخفى عليه شيء مما يشتمل عليه المَلَوَان .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ } [ 14 ]
{ قُلْ } أي : لكفار مكة المبكَّتين بما تقدم : { أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً } أي : معبوداً . كقوله تعالى : { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } . والمعنى : لا أتخذ ولياً إلا الله وحده { فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } . أي : خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق . بالجر ، صفة للجلالة ، موكدة للإنكار { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ } أي : يَرْزُق ولا يُرْزَق ، أي : المنافع كلها من عنده ، ولا يجوز عليه الانتفاع . أي : فيجب اتخاذه وليّاً ليُعبد شكراً على إنعامه ، وكفايته الحوائج بلا طلب عوض . قيل : المراد بالطعم الرزق ، بمعناه اللغويّ . وهو كل ما يُنتفع به ، بدليل وقوعه مقابلاً له في قوله تعالى : { مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } [ الذاريات : 57 ] . فعبر بالخاص عن العام مجازاً ، لأنه أعظمه وأكثره ، لشدة الحاجة إليه . واكتفى به عن العام ، لأنه يعلم ، من نفي ذلك ، نفي ما سواه .
{ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } أي : وجهه لله مخلصاً له ، لأصير متبوعاً للباقين . كقوله : { وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [ الأنعام : 163 ] . وكقول موسى : { سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } [ الأعراف : 143 ] .
{ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } أي : وقيل لي : { وَلا تَكُونَنَّ } . فهو معطوف على : { أُمِرْتُ } بمعنى : أُمرت بالإسلام ، ونُهيت عن الشرك صريحاً مؤكداً ، بعد النهي في ضمن الأمر . ونهي المتبوع نهي التابعين . ويجوز عطفه على : { قُلْ } . وفي الآية إرشاد إلى أن كل آمر ينبغي أن يكون عاملاً بما أمر به . لأنه مقتداهم . قيل : هذه الآية للتحريض ، كما يأمر الملك رعيته بأمر ، ثم يقول : وأنا أول من يفعل ذلك ، ليحملهم على الامتثال .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ 15 ]
{ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي } أي : بمخالفة أمره ونهيه أي : عصيان . فيدخل فيه ما ذكر دخولاً أوليّاً { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } يعني : عذاب يوم القيامة ، الذي تظهر فيه عظمة القهر الإلهيّ . وفي الآية مبالغة أخرى في قطع أطماعهم ، وتعرض لهم بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب العظيم . ووجه التعريض إسناد ما هو معلوم الانتفاء ، بـ ( إنْ ) التي تفيد الشك تعريضاً . وجيء بالماضي إبرازاً له في صورة الحاصل على سبيل الفرض ، تعريضاً بمن صدر عنهم ذلك . وحيث كان تعريضاً لهم ، والمراد تخويفهم إذا صدر منهم ذلك - لم يكن فيه دلالة على أنه يخاف هو صلى الله عليه وسلم على نفسه المعصية ، مع أنه معصوم . كما لا يتوهم مثله في قوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] . وحينئذ فلا حاجة إلى ما أجيب عن ظاهر دلالته على ما ذكر ، بأن الخوف تعلق بالعصيان الممتنع الوقوع امنتاعاً عاديّاً ، فلا يدل إلا على أنه يخاف لو صدر عنه العصيان . وهذا لا يدل على حصول الخوف .
قال بعضهم : لا يقال على تقدير العصيان ، يكون الجواب هو استحقاق العذاب ، لا الخوف . لأنا نقول : لا منافاة بينهما . فالخوف إما على حقيقته ، أو كناية عن الاستحقاق . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ } [ 16 ]
{ مَنْ يُصْرَفْ } بالبناء للمفعول ، أي : العذاب { عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَد رَحِمَهُ } أي : نجاه وأنعم عليه ، أو أدخله الجنة ، لقوله : { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ } [ آل عِمْرَان : 185 ] وقوله تعالى : { يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ } [ الشورى : 8 ] . والجملة مستأنفة ، مؤكد لتهويل العذاب .
{ وَذَلِكَ } أي : الصرف أو الرحمة { الْفَوْزُ الْمُبِينُ } أي : الظاهر .
ثم ذكر تعالى دليلاً آخر ، في أنه لا يجوز للعاقل أن يتخذ ولياً غير الله تعالى ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } [ 17 ]
{ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ } أي : ببلية ، كفقر ومرض ونحوهما . و الضر : اسم جامع لما ينال الإنسان من مكروه { فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ } أي : فلا يقدر على دفعه إلا هو وحده { وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ } من عافية ورخاء ونحوهما : و الخير : اسم جامع لما ينال الْإِنْسَاْن من محبوب له { فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : ومن جملته ذلك ، فيقدر عليه ، فيمسك به ، ويحفظه عليك من غير أن يقدر على دفعه أو رفعه أحد . كقوله تعالى : { فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ ي } [ يونس : 107 ] ، وكقوله سبحانه : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } [ فاطر : 2 ] .
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : < اللهم ! لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد > .
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : كنت خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : < يا غلام ! إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله . واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى عليك . رفعت الأقلام وجفت الصحف > -رواه الترمذيّ -وقال : حسنن صحيح .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } [ 18 ]
{ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } أي : هو الغالب بقدرته ، المستعلي فوق عباده ، يدبر أمرهم بما يريد ، فيقع في ذلك ما يشق عليهم ويثقل ويغم ويحزن ، فلا يستطيع أحد منهم ردّ تدبيره ، والخروج من تحت قهره وتقديره .
قال أبو البقاء : في فوقَ وجهان :
أحدهما -في موضع نصب على الحال من الضمير في القاهر أي : مستعلياً وغالباً .
والثاني - في موضع رفع على أنه بدل من القاهر أو خبر ثان .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أي : شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [ 19 ]
{ قُلْ أي : شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً } أي : بحيث لا يمكن معارضته بما يساويه : { قُلِ اللَّهُ } أي : أكبر شهادة ، إذ لا احتمال لطروّ الكذب في خبره أصلاً ، جل شأنه . وأمرُه صلى الله عليه وسلم بأن يتولى الجواب بنفسه ، إما للإيذان بتعينه ، وعدم قدرتهم على أن يجيبوا بغيره ، أو لأنهم ربما يتلعثمون فيه ، لا لترددهم في أنه تعالى أكبر من كل شيء ، بل في كونه شهيداً في هذا الشأن .
وقوله تعالى : { شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } خبر لمحذوف ، أو خبر عن لفظ الجلالة . ودل على جواب أي : من طريق المعنى ، لأنه إذا كان تعالى هو الشهيد بينه وبينهم ، كان أكبر شيء شهادة ، شهيداً له . فيكون من الأسلوب الحكيم ، لأنه عدل عن الجواب المتبادر -إليه ، ليدل على أن أكبر شهادة شهيد للرسول ، فإن الله أكبر شيء شهادة ، والله شهيد له ، فينتج الأكبر شهادة له . والقياس المذكور من الشكل الثالث ، لأن الحد الأوسط موضوع في المقدمتين ، لا من الثاني ، كما وقع للشهاب في " العناية " وهو من بديهيات الميزان .
قال بعضهم : الغرض من السؤال بـ : { أي : شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً } أن شاهدي أكبر شهادة . فقوله : { شَهِيدٌ } الخ تنصيص له ، والسؤال المذكور لا يحتاج إلى جواب ، لكونه معلوماً بيّناً عند الخصم ، فحاصله أن الله الذي هو أكبر شهادة ، شهر بذلك . انتهى .
ومعنى ( شَهِيدٌ ) مبالغ في الشهادة على نبوتي ، بحيث يقطع النزاع بيني وبينكم ، إذ شهد سبحانه بالقول في الكتب التي أنزلها على الأولين ، وبالفعل فيما ظهر على يديّ من المعجزات ، لا سيما معجزة القرآن ، كما قال تعالى :
{ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ } أي : الجامع للعلوم التي يحتاج إليها في المعارف والشرائع ، في ألفاظ يسيرة ، في أقصى مراتب الحسن والبلاغة ، معجزة شاهدة بصحة رسالتي ، لأنكم أنتم الفصحاء والبلغاء ، وقد عجزتم عن معارضته : { لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ } أي : بما فيه من الوعيد { وَمَنْ بَلَغَ } عطف على ضمير المخاطبين ، أي : لأنذركم به ، يا أهل مكة ! وسائر من بلغه من الناس كافة ، فهو نذير لكل من بلغه ، كقوله تعالى : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [ هود : 17 ] .
{ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى } تقرير لهم مع إنكار واستبعادٍ .
{ قُلْ لا أَشْهَدُ } بما تشهدون { قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ } أي : بل أشهد أن لا إله إلا هو ، لا يُشارَك في إلهيته ، ولا في صفات كماله : { وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } يعني : الأصنام .
وفي هذه الآية .
مسائل :
الأولى - استدل الجمهور بقوله تعالى : { قُلِ اللّهُ } في جواب : { أي : شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً } على جواز إطلاق الشيء عليه تعالى . وكذا بقوله سبحانه وتعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه } [ القصص : 88 ] . فإن المستثنى يجب أن يدخل تحت المستثنى منه ، وذلك لأن الشيء أعم العام - كما قال سيبويه - لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه ، واختار الزمخشري شموله حتى للمستحيل . وصرح كثير من المحققين بأنه يختص بالموجود ، وضعفوا من أطلقه على المعدوم ، بأنه محجوج بعدم استعمال العرب ذلك ، كما علم باستقراء كلامهم ، وبنحو { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } ، إذ المعدوم لا يتصف بالهلاك ، وبنحو : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ] . إذ المعدوم لا يتصور منه التسبيح .
قال الناصر في " الانتصاف " : هذه المسألة معدودة من علم الكلام باعتبار مّا ، وأما هذا البحث فلغويّ ، والتحاكم فيه لأهل اللغة . وظاهر قولهم : غضبت من لاشيء .
~إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
أن الشيء لا ينطلق إلا على الموجود ، إذ لو كان الشيء كل ما يصح أن يعلم عدماً كان أو وجوداً ، أو ممكناً أو مستحيلاً ، لما صدق على أمرٍ مّا أنه ليس بشيء ، والأمر في ذلك قريب . انتهى .
هذا ، وتمسك مَنْ منع إطلاقه عليه تعالى قوله تعالى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [ الأعراف : 180 ] ، والاسم إنما يحسن لحسن مسماه ، وهو أن يدل على صفة من صفات الكمال ، ونعت من نعوت الجلال . ولفظ الشيء أعم الأشياء ، فيكون مسماه حاصلاً في أحسن الأشياء وفي أرذلها . ومتى كان كذلك ، لم يكن المسمى بهذا اللفظ صفة من صفات الكمال ، فوجب أن لا نجوز دعوة الله بهذا الاسم ، لأنه ليس من الأسماء الحسنى ، وقد أمر تعالى بأن يدعى بها . وأجيب : بأن كونه ليس من الأسماء الحسنى ، لكونها توقيفية ، وكونه لا يُدعى به لعدم وروده -لا ينافي شموله للذات العلية ، شمول العام . والمراد بإطلاقه عليه تعالى فيما تقدم شموله ، لا تسميته به . وبالجملة ، فلا يلزم أن كونه ليس من الأسماء الحسنى ، أن لا يشمل الذات المقدسة شمولاً كلياً ، كيف ؟ وهو الموضوعات العامة . والتحاكم للغويين في ذلك - كما قدمنا - .
الثانية -ما أسلفناه من أن المعني بالشهادة هو شهادته تعالى في ثبوت النبوة له صلى الله عليه وسلم ، هو الذي جنح إليه الأكثر . وكأن مشركي مكة طلبوا منه صلى الله عليه وسلم شاهداً على نبوته . فقيل لهم : أكبر شيءٍ شهادة هو الله تعالى ، وقد شهد لي بالنبوة ، لأنه أوحى إليّ هذا القرآن ، وتحدّاكم بمعارضته ، فعجزتم ، وأنتم أنتم في مقام البلاغة . وإذ كان معجزاً ، كان إظهاره تعالى إياه على وفق دعواي ، شهادةً منه على صدقي في النبوة .
ولبعضهم وجه آخر ، وهو أن المعني ، شهادته تعالى في ثبوت وحدانيته ، وتنزهه عن الأنداد والأشباه . ويرشحه تتمة الآية ، وهو قوله : { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ } الخ ، وقوله : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } [ آل عِمْرَان : 18 ] . وقوله تعالى : { فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ } [ الأنعام : 150 ] . مما يدل على أن الشهادة إنما عنى بها ، في موارد التنزيل ، ثبوت الوحدانية ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً - والله أعلم - .
الثالثة - إنما اقتصر على الإنذار في قوله : { لأُنذِرَكُم بِهِ } لكون الخطاب مع كفار مكة ، وليس فيهم من يُبشَّر . أو اكتفى به عن ذكر البشارة على حدّ : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } [ النحل : 81 ] .
الرابعة - استدل بقوله تعالى : { لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } على أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الناس كافة ، وإلى الجن .
الخامسة - استدل به أيضاً على أن أحكام القرآن تعمّ الموجودين يوم نزوله ومن سيوجد بعدُ إلى يوم القيامة ، خلا أن ذلك بطريق العبارة في الكل - عند الحنابلة -وبالإجماع عندنا في غير الموجودين ، وفي غير المكلفين يومئذ -أفاده أبو السعود - . السادسة -روى ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب في قوله : { وَمَن بَلَغَ } : من بلغه القرآن ، فكأنما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم وكلمه . ورواه ابن جرير عنه بلفظ : من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم .
وروى عبد الرزاق عن قتادة في هذه الآية : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < بلغوا عن الله ، فمن بلغته آية من كتاب الله ، فقد بلغه أمر الله > .
وقال الربيع بن أنس : حقٌّ على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن يدعو كالذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن ينذر بالذي أنذر .
السابعة - دل قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ } وقوله : { وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } على إثبات التوحيد بأعظم طرق البيان ، وأبلغ وجوده التأكيد ، لأن إنما تفيد الحصر ، و الواحد صريح في نفي الشركاء . ثم صرّح بالبراءة عن إثبات الشركاء . وقد استحب الشافعي لمن أسلم بعد إتيانه بالشهادتين ، أن يتبرأ من كل دين سوى دين الإسلام ، لقوله : { وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } عقب التصريح بالتوحيد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ 20 ]
وقوله تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } يعني : اليهود والنصارى : { يَعْرِفُونَهُ } أي : يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليته ونعته الثابت في الكتابين : { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ } بحلاهم ونعوتهم ، لا يخفون عليهم ، ولا يلتبسون بغيرهم .
قال المهايمي : لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر في الكتاب نعته . وهو ، وإن لم يفد تعينُّه باللون والشكل والزمان والمكان ، تعيّن بقرائن المعجزات . فبقاء الاحتمال البعيد فيه ، كبقائه في الولد ، بأنه يمكن أن يكون غير ما ولدته امرأته ، أو يكون من الفجور ، مع دلالة القرائن على براءتها من التزوير والفجور . فهو ، كما يعرفون أبناءهم في ارتفاع الاحتمال البعيد بالقرائن على براءتها .
قال الزمخشري : وهذا استشهاد لأهل الكتاب ، وبصحة نبوّته . ثم بيّن تعالى أن إنكاره خسران لما عرفوه ، ولما أمروا بالتدين به بقوله : { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } أي : من المشركين : { فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } أي : بهذا الأمر الجلي الظاهر الذي بشرت به الأنبياء ، وتوّهت به ، لأنه مطبوع على قلوبهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [ 21 ]
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } كقولهم : الملائكة بنات الله [ الأنعام : 100 ] ، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله . قال الله تعالى : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } [ الأعراف : 28 ] .
{ أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } أي : القرآن والمعجزات ، حيث سموها سحراً . وإنما ذكر : { أَوْ } مع أنهم جمعوا بين الأمرين ، تنبيهاً على أن كلا منهما وحده بالغ غاية الإفراط في الظلم على النفس . فكيف ؟ وهم وقد جمعوا بينهما ، فأثبتوا ما نفاه الله تعالى ، ونفوا ما أثبته .
{ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } أي : لا ينجون من مكروه ، ولا يفوزون بمطلوب . وإذا كان حال الظالمين هذا ، فكيف بمن لا أحد أظلم منه ؟
تنبيه :
ما ذكرناه من كون الموصول كناية عن المشركين هو الظاهر ، لأن السورة مكية ، والخطاب مع مشركي أهلها . وجعله البيضاويّ لهم ، ولأهل الكتاب ، وقوفاً مع عموم اللفظ ، والمهايمي ؛ لأهل الكتاب خاصة ، ربطاً للآية بما قبلها . والظاهر الأول ، لما قلنا . وعبارة المهايمي : { الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ } بتفويت ما أوتوا من الكتاب ، وما أمروا به ، فهم لا يؤمنون . وكيف لا يحسرون ، وهم ظالمون ، وكل ظالم خاسر ؟ وإنما قلنا : إنهم ظالمون ، لأنهم يحرفون كتاب الله لفظاً أو معنى ، فيفترون على الله الكذب ، ويكذبون آيات الله من كتابهم ، ومعجزات محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه . وقد يسترون بعض ما في كتابهم ، وهو أيضاً تكذيب . فعلوا جميع ذلك لأنه لا يتأتى لهم ترك الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم بدون أحد هذه الأمور .
وقال في قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ } الآية : لأنهم بالتحريف يدّعون إلهية أنفسهم ، وبالتكذيب يريدون تعجيز الله عن تصديقه الرسل ، وينسبون إيجادها إلى غير الله ، مع افتقارها إلى القدرة الكاملة . وإنما قلنا : كل ظالم خاسر ، لأن كل ظالم لا يفلح . كما قال تعالى : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } أي : لا يفلحون في الدنيا بانقطاع الحجة عنهم ، وظهور المسلمين عليهم ، وفيه إشارة إلى أن مدعي الرسالة ، لو كان كاذباً كان مفترياً على الله ، فلا يكون مفلحاً ، فلا يكون سبباً لصلاح العالم ، ولا محلاً لظهور المعجزات . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ 22 ]
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } أي : الإنس والجن والشياطين . منصوب بمضمر تهويلاً للأمر { جَمِيعاً } ليفتضح من لا يفلح من الظالمين مزيد افتضاح ، ويظهر المفلحون بكمال الإعزاز .
{ ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا } أي : مضوا على الشرك ، بأن ماتوا عليه ، وهم الشاهدون أن مع الله آلهة أخرى : { أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ } أي : الذي جعلتموهم شركاءنا ، وهم شركاؤكم في العبودية - كذا قاله المهايمي - وعليه ، فالإضافة على بابها .
وفي " العناية " : الإضافة فيه لأدنى ملابسه ، كما شار إليه القاضي بقوله : أي : آلهتكم التي جعلتموها شركاء الله ، لأنه لا شركة بينهم ، وإنما سموهم شركاء ، فلهذه الملابسة أضيفوا إليهم .
قيل : قوله تعالى : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ } يقتضي حضورهم معهم في المحشر ، و ( أين ) يسأل بها عن غير الحاضر ؟ أجيب بأنه بتقدير مضاف . أي : أين نفعهم وشفاعتهم ، أو أنهم بمنزلة الغيَّب ، لعدم ما رجوا منهم من الشفاعة . وعلى كلٍّ ، فالقصد من السؤال توبيخهم وتقريعهم ، وأن يقرر في نفوسهم أن ما كانوا يرجونه مأيوس منه . وذلك تنبيه لهم في دار الدنيا على فساد هذه الطريقة .
وقوله تعالى : { الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } أي : تزعمونها شركاء من عند أنفسكم . أي : فقصدتم بذلك فعل الفاتنين في المملكة بجعلها لغير من هي له .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ 23 ]
{ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } أي : جواب ما اعترض به على فتنتهم التي هي شهادة أن مع الله آلهة أخرى . وعبّر عن جوابهم بالفتنة ، لأنه كذب : { إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } اعتذروا عن أصنامهم بنفيها مؤكداً بالقَسَم بالاسم الجامع ، مع نسبة الربوبية إليه تعالى ، لا إلى ما سواه ، مبالغة في التبرؤ من الإشراك . فكان هذا العذرُ ذنباً آخر مؤكداً لافترائهم بالإشراك الذي نفوه . كما قال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [ 24 ]
{ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } أي : بنفي الإشراك عنها أمام علام الغيوب ، بحضرة من لا ينحصر من الشهود : { وَضَلَّ } أي : وكيف ضاع وغاب : { عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي : من الشركاء ، فلم تغن عنهم شيئاً ، ففقدوا ما رجوا من شفاعتها ونصرتها لهم ، كقوله تعالى : { قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا } [ الأعراف : 37 ] . فـ ( ما ) موصولة ، كناية عن الشركاء . وإيقاع الافتراء عليها ، مع أنه في الحقيقة واقع على أحوالها من الإلهية ، والشركة والشفاعة ونحوها - للمبالغة في أمرها ، كأنها نفس المفتري .
تنبيهات :
الأول -ما ذكرناه من أنه عبر عن جوابهم بالفتنة هو الأظهر . فالمراد : الجواب بما هو كذب ، لأنه سبب الفتنة ، فتجوّز بها إطلاقاً للمسبب على السبب ، أو هو استعارة . وقيل : الفتنة بمعنى العذر ، لأنها التخليص من الغش لغة ، والعذر يخلّص من الذنب ، فاستُعيرت له . وقيل : بمعنى الكفر ، لأن الفتنة ما تفتتن به ويعجبك ، وهم كانوا معجبين بكفرهم مفتخرين به ، ويظنونه شيئاً ، فلم تكن عاقبته إلا الخسران ، والتبرؤ منه ، وليس هذا على تقدير مضاف ، بل جعل عاقبة الشيء عينه ، ادّعاءً .
قال الزجاج : تأويل هذه الآية حسن في اللغة ، لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام ، وتصرف العرب في ذلك . وذلك أن الله تعالى بيّن كوْنَ المشركين مفتونين بشركهم ، متهالكين على حبه ، فأعلم في هذه الآية ، أنه لم يكن افتتانهم بشركهم ، وإقامتهم عليه ، إلا أن تبرؤوا منه وتباعدوا عنه ، فحلفوا أنهم ما كانوا مشركين . ومثاله : أن ترى إنساناً يحب غاوياً مذموم الطريقة ، فإذا وقع في محنة بسببه تبرأ منه ، فيقال : له ما كانت محبتك لفلان إلا أن انتفيت منه .
قال الخفاجي - بعد نقله ما ذكر - : وليس هذا من قبيل عتابك السيف ، ولا من تقدير المضاف ، وإن صح فاحفظه ، فإنه من البدائع الروائع . الثاني - ما بينّاه من أن ( ما ) في قوله تعالى : { وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } موصولة ، كناية عن الشركاء ، بمعنى عدم إغنائها عنهم - هو الموافق للآية الثانية التي سقناها . وجوز كونها مصدرية . أي : انظر كيف ذهب وزال عنهم افتراؤهم من الإشراك ، حتى نفوا صدوره عنهم بالكلية ، وتبرؤوا منه بالمرة .
هذا ، وجعل الناصر في " الانتصاف " : { ضَلَّ } بمعنى سُلِبُوا علمه ، فكأنهم نسوه وذهلوه دهشاً . هو بعيد لعدم ملاقاته للآية أخرى . والتنزيل يفسر بعضه بعضاً . وعبارته : في الآية دليل بيّن على أن الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به ، كذب ، وإن لم يعلم المخبر مخالفة خبره بمخبره . ألا تراه جعل إخبارهم وتبريهم كذباً ، مع أنه تعالى أخبر أنهم ضل عنهم ما كانوا يفترون . أي : سلبوا علمه حينئذ دهشاً وحيرةً . فلم يرفع ذلك إطلاق الكذب عليهم . انتهى .
الثالث -قال الزمخشريّ : فإن قلت : كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور ، وعلى أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته ؟ .
قلت : الممتحَن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه ، من غير تمييز بينهما ، حيرةً ودهشاً ، ألا تراهم يقولون : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } [ المؤمنون : 107 ] ؟ وقد أيقنو بالخلود ، ولم يشكوا فيه { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } [ الزخرف : 77 ] . وقد علموا أنه لا يقضي عليهم .
وأما قول من يقول : معناه ما كنا مشركين عند أنفسنا ، وما علمنا أنا على خطأ في معتقدنا ، وحمل قوله : { انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ } يعني في الدنيا - فتمحلٌ وتعسف وتحريف لأفصح الكلام ، إلى ما هو عيّ وإفحام . لأن المعنى الذي ذهبوا إليه ، ليس هذا الكلام بمترجم عنه ، ولا منطبق عليه ، وهو ناب عنه أشد النبوّ . وما أدري ما يصنع ، من ذلك تفسيره ، بقوله تعالى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [ المجادلة : 18 ] . بعد قوله تعالى : { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا . انتهى .
والقول المذكور ، والحمل الذي ناقش فيه ، أصله لأبي عليّ الجبائيّ والقاضي . فإنهما ذهبا إلى أن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب ، واعتلا بوجوه واهية ساقها الرازي . فلتنظر ثَمَّت ، فإنا لا نسوّد وجوه صحائفنا بما فيه تحكيم العقل على النقل .
ثم بيّن تعالى بعض ما كان يصدر من مشركي مكة ، مما طبع على قلوبهم بسببه فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } [ 25 ]
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } أي : يصغي حين تتلو القرآن ، ولا يجزئ عنه شيئاً ، لأنه لا يتدبر فيه حتى يطلع على إعجازه ، ويؤثر فيه الإرشاد : { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } أي : حجاباً ، جمع كنان ، كغطاء وأغطية ، لفظاً ومعنى : { أَنْ يَفْقَهُوهُ } أي : كراهة أن يفهموا ، ببواطن قلوبهم ، بواطنه التي بها إعجازه وإرشاده ، بإقامة الدلائل ورفع الشبه { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً } أ ي : وجعلنا في آذانهم ، التي هي طريق الوصول إلى بواطن القلوب ، صمماً مانعاً من وصول السماع النافع . وقد مرّ في أول البقرة تحقيق ذلك . فتذكر !
وقوله تعالى : { وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا } إشارة إلى أنه لا يختص ما ذكر منهم بالقرآن ، لرؤيتهم قصوراً فيه ، بل مهما يروا من الآيات والحجج مما يدل على صدق الرسول لا يؤمنوا بها ، وحملوها على السحر . لفرط عنادهم ، واستحكام التقليد فيهم ، فلا فهم عندهم ولا إنصاف . كقوله تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ } [ الأنفال : 23 ] .
{ حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ } أي : بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم إذا جاءوك يحاجونك ويناظرونك في الحق بالباطل . ثم فسر المجادلة بقوله : { يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } أي : أباطيلهم وأحاديثهم التي لا نظام لها . وعدُّ أحسن الحديث وأصدقه ، من قبيل الأباطيل : { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ } -رتبة من الكفر لا غاية وراءها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } [ 26 ]
{ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ } أي : لا يقنعون بما ذكر من تكذيبه ، بل ينهون الناس عن استماعه .
قال المهايميّ : وهم ، لرؤيتهم حلاوة نظمه فوق نثرهم وشعرهم ، مع متانة معاينة ، يعرفون أن التدبر فيه يفيد التطلع على إعجازه . فيخافون تأثيره في قلوب الخلائق . لذلك ينهون عنه . أي : عن قراءته واستماعه ، لئلا يدعوهم إلى التدبر فيه ، فيفسد عليهم أغراضهم الفاسدة .
{ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } أي : يتباعدون عنه بأنفسهم ، إظهاراً لغاية نفورهم عنه ، وتأكيداً لنهيهم عنه . فإن اجتناب الناهي عن المنهي عنه ، من متممات النهي . ولعل ذلك هو السرّ في تأخير ( النأي ) عن ( النهي ) -أفاده أبو السعود - .
ولما أشعر ذلك بكونهم يبغون الغوائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ، خوفاً من قوة تأثير التنزيل في القلوب ، أتبعه بأنه لا يحصل لهم هذا المطلوب ، لأن الله متم نوره ، ومظهر دينه ، وإن الدائرة عليهم بقوله : { وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ } بتعريضها لأشد العذاب عاجلاً وآجلاً : { وَمَا يَشْعُرُونَ } أي : بذلك .
تنبيه :
روى الحاكم وغيره ، عن ثلة من التابعين ، أن هذه الآية نزلت في أبي طالب ، كان ينهى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُؤذى ، وينأي عنه فلا يؤمن به ، وجمعيته حينئذ ، باعتبار استتباعه لأتباعه .
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنها نزلت في عمومة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانوا عشرة . فكانوا أشد الناس معه في العلانية ، ووأشدهم عليه في السر ، ولا يخفى أن لفظ التنزيل مما يصدق على ما ذكر ولا ينافيه ، وهو المراد بالنزول - كما أسلفنا مراراً -وقد قال أبو طالب يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم :
~والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسَّد في التراب دفينا
~فاصدع بأمرك ما عليك غضاضةٌ وابشر بذاك وقَرَّ عيونا
~ودعوتني وزعمتَ أنك ناصح ولقد صدقتَ وكنت ثم أمينا
~وعرضت ديناً لا محالة أنه من حير أديان البرية دينا
~لولا الملامة أو حذاري سبةً لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
وفي ( ينهون ) و ( ينأون ) تجنيس بديع .
ولما أخبر تعالى أنهم يهلكون أنفسهم ، شرح كيفيته مع بيان ما سيصدر عنهم في الآخرة . من القول المناقض لعقدهم الدنيويّ ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ 27 ]
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ } أي : اطلعوا عليها فعاينوها . يقال : وقف فلاناً على ذنبه : أطلعه عليه . أو أُدخلوها فعرفوا ما فيها من العذاب . يُقال : وقفت على ما عند فلان ، تريد : فهمته وتبينته . والوقف عليه مجازّي ، أو هو حقيقيّ بمعنى القيام . و ( عَلَى ) إما على حقيقتها . أي : أُقيمو واقفين فوق النار على الصراط ، وهو جسر فوق جهنم . أو هي بمعنى ( في ) ، أي : أُقيموا في جوف النار وغاصوا فيها ، وهي محيطة بهم . وصحح معنى الاستعلاء حينئذ كون النار دركات وطبقات ، بعضها فوق بعض .
{ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } تمنوا الرجوع إلى الدنيا ، حين لا رجوع ، واعدين أن لا يكذبوا بما جاءهم ، وأن يكونوا من المؤمنين ، أي : بآياته ، العاملين بمقتضاها ، حتى لا نرى هذا الموقف الهائل . أو من فريق المؤمنين الناجين من العذاب ، الفائزين بحسن المآب .
تنبيه :
جواب ( لو ) محذوف ، تفخيماً للأمر ، وتعظيماً للشأن ، وجاز حذفه لعلم المخاطب به . وأشباهه كثيرة في القرآن والشعر . ولو قدرت الجواب . كان التقدير : لرأيت سوء منقلبهم . وحذف الجواب في ذلك أبلغ في المعنى من إظهاره . ألا ترى أنك لو قلت لغلامك : والله ! لئن قمت إليك . وسكتّ عن الجواب ، ذهب بفكره إلى أنواع المكروه من الضرب والقتل والكسر ، وعَظُمَ الخوفُ ، ولم يدر أي : الأقسام تبغي . ولو قلت : لأضربنك ، فأتيت بالجواب لأمن غير الضرب ، ولم يخطر بباله نوع من المكروه سواه . فثبت أن حذف الجواب أقوى تأثيراً في حصول الخوف -أفاده الرازي -وملخصه : أن حذف الجواب ثقة بظهوره ، وإيذاناً بقصور العبارة عن تفصيله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ 28 ]
{ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ } إضراب عما يدل عليه تمنيهم الباطل من الوعد ، بالتصديق والإيمان ، أي : ليس ذلك عن عزم صحيح ، وخلوص اعتقاد ، بل هو بسبب آخر ، وهو أنه ظهر لهم ما كانوا يكتمون في أنفسهم من الكفر والشرك ، بقولهم : { وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ، وعرفوا أنهم هالكون بشركهم ، فتمنوا لذلك . أو بشهادة جوارحهم عليهم ، أو ما كانوا يكتمون في أنفسهم في الدنيا من صدق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه ، كقوله تعالى مخبراً عن موسى أنه قال لفرعون : { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ } [ الإسراء : 102 ] الآية - وقوله تعالى مخبراً عن فرعون وقومه : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] . أو هذه الآية إخبار عن حال المنافقين ، وأنه يظهر نفاقهم الذي كانوا يسرونه . ولا ينافي هذا كون السورة مكية ، والنفاق إنما كان من بعض أهل المدينة ، ومن حولها من الأعراب بعد الهجرة . لأن الله تعالى ذكر وقوع النفاق في سورة مكية وهي ( العنكبوت ) فقال : { وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ } [ العنكبوت : 11 ] . هذا ما ذكروه مما يمكن تنزيل اللفظ الكريم عليه لعمومه . وقد ناقش في ذلك كله العلامة أبو السعود ، واعتمد أن المراد بـ ( مَا كانُوا يُخْفُونَهُ فيِ الدُّنْيَا ) النار التي وقفوا عليها ، إذ هي التي سيق الكلام لتهويل أمرها ، والتعجيب من فظاعة حال الموقوفين عليها ، و ( بإخفائها ) تكذيبهم بها ، فإن التكذيب بالشيء كفر به ، وإخفاء له لا محالة . وإيثار على صريح التكذيب الوارد في قوله عز وجل : { هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ } [ الرحمن : 43 ] . وقوله تعالى : { هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } [ الطور : 14 ] . مع كونه أنسب بما قبله من قولهم : { وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا } [ الأنعام : 27 ] . لمراعاة ما في مقابلته من البدو . هذا هو الذي تستدعيه جزالة النظم الكريم .
ثم قال في الوجوه المتقدمة : إنه بعد الإغضاء عما في كل منها من الاعتساف والاختلال ، لا سبيل إلى شيء من ذلك أصلاً . لما عرفت من أن سوق النظم الشريف لتهويل أمر النار ، وتفظيع حال أهلها ، وقد ذكر وقوفهم عليها ، وأشير إلى أنه اعتراهم عند ذلك من الخوف والخشية والحيرة والدهشة ما لا يحيط به الوصف . ورتب عليه تمنيهم المذكور بـ ( الفاء ) القاضية بسببية ما قبلها لما بعدها ، فإسقاط النار بعد ذلك من تلك السببية ، وهي نفسها أدهى الدواهي ، وأزجر الزواجر ، وإسنادها إلى شيء من الأمور المذكورة التي دونها في الهول والزجر ، مع عدم جريان ذكرها ، ثمَّة - أمر يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله . وأما قيل من أن المراد جزاء ما كانوا يخفون ، فمن قبيل دخول البيوت من ظهورها ، وأبوابها مفتوحة . فتأمل . أقول : لا ريب في بلاغة ما قرره ونفاسته ، لولا تكلفه حمل الإخفاء على ما ذكره ، مما هو غير ظاهر فيه ، وليس له نظائر في التنزيل الكريم . فمجازيته حينئذ من قبل المعمى . وفي الوجوه الأول إبقاؤه على حقيقته بلا تكلف ، وشموله لها -غير بعيد لأن في كل منها ما يؤيده ، كما بيناه . غاية الأمر أن ما قرره وجه منها بديع . وأما كونه المراد لا غير ، فدونه خرط القتاد - والله أعلم بأسرار كتابه - .
{ وَلَوْ رُدُّوا } أي : عن موقفهم ذلك إلى الدنيا كما تمنوه ، وغاب عنهم ما شاهدوه من الأهوال : { لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ } من الكفر والشرك : { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } في وعدهم بالإيمان ، أو ديدنهم الكذب في أحوالهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } [ 29 ]
{ وَقَالُوا } عطف على ( لعادوا ) أو استئناف { إِنْ هِيَ } أي : ما الحياة ، فالضمير لما بعده { إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } لأي : ليست الحياة التي يتوهم فيها البعث ، والتي يُتوهم فيه الرد إلا ، حياتنا الأولى : { وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } أي : بعد مفارقتنا هذه الحياة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } [ 30 ]
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ } قال الجلال : أي : عرضوا عليه . وقال ابن كثير : أي : وقفوا بين يديه { قَالَ أَلَيْسَ هَذَا } أي : المعاد : { بِالْحَقِّ } تقريعاً لهم ، وردّاً لما يتوهمون عند الرد : { قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا } أي : إنه لحق ، وليس بباطل ، كما كنا نظن . أكدوا اعترافهم باليمين إظهاراً لكمال يقينهم بحقيّته ، وإيذاناً بصدور ذلك عنهم بالرغبة والنشاط ، طمعاً في نفعه { قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ } [ 31 ]
{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ } أي : ببلوغ الآخرة وما يتصل بها ، أو هو مجرى على ظاهره ، لأن منكر البعث منكر للرؤية - قاله النسفيّ - والثاني هو الصواب ، وإن اقتصر كثيرون على الأول ، وجعلوه استعارة تمثيلية لحالهم بحال عبدٍ قدم على سيده بعد مدة ، وقد اطّلع السيد على أحواله . فإما أن يلقاه ببشر لما يرضى من أفعاله ، أو بسخط لما يسخط منها - فإنه نزعة اعتزالية ، ولا عدول إلى المجاز ما أمكنت الحقيقة .
وفي كلام النسفي إشعار بأن اللقاء معناه الرؤية ، وهو ما في القاموس . قال شارحه الزبيديّ : وهو مما نقدوه ، وأطالوا فيه البحث ، ومنهوه . وقالوا : لا يلزم من الرؤية اللقيّ ، كالعكس .
وقال الراغب : هو مقابلة الشيء ومصادفته معاً ، ويعبّر به عن كل منهما . ويقال ذلك في الإدراك بالحسّ والبصر .
لطيفة :
قال الخفاجي في " العناية " : قيل : روي عن عليّ رضي الله عنه أنه نظم أبياتاً على وفق هذه الآية ، وفي معناها وهي :
~زعم المنجمُ والطبيبُ ، كلاهما لا تُحْشَرُ الأجساد . قلتُ إليكما
~إن صحّ قولكما فلست بخاسر أو صحّ قولي ، فالخسار عليكما
قال الخفاجي : لا أدري من أيهما أعجب ؟ الرواية أم الدراية ؟ فإن هذا الشعر لأبي العلاء المعرّي في ديوانه وهو :
~قال المنجمُ والطبيبُ ، كلاهما : لا تُحْشَرُ الأَجْسَادُ . قلت : إليكما
~إن صحّ قولكما فلست بخاسر . أو صحّ قولي ، فالخسار عليكما
~أحي التَُّقى والشر يصطرعان في الدّ نيا . فأيهما أبرّ لديكما
~ظهّرت ثوبي للصلاة وقبله جسدي فأين الطهر من جسديكما
~وذكرت ربي في الضمائر مؤنساً خَلَدِي بذاك ، فَأَوْحِشا خَلَدَيْكما
~وبكرت في البَرْديْن أبغي رحمة منه ، ولا تَرِعَانِ في بَرْدَيكما
~إِن لم تَعُدْ بيدي منافع بالذي آتي ، فهل من عائدٍ بيديكما
~بُرْدُ التقيّ ، وإن تهلهل نسجُه ، خير ، بعلم الله ، من بُرْديكما
قال ابن السيد في " شرحه " . هذا منظوم مما روي عن عليّ رضي الله عنه ، أنه قال لبعض من تشكك في البعث والآخرة : إن كان الأمر كما تقول من أنه لا قيامة ، فقد تخلصنا جميعاً ، وإن لم يكن الأمر كما تقول ، فقد تخلصنا وهلكتَ . فذكروا أنه ألزمه فرجع عن اعتقاده . وهذا الكلام ، وإن خرج مخرج الشك . فإنما هو تقرير للمخاطب على خطابه ، وقلة أخذه بالنظر والاحتياط لنفسه . مع أن المناظر علي ثقة من أمره ، وهو نوع من أنواع الجدل .
وقوله : ( إَلَيْكُما ) كلمة يراد بها الردع والزجر . ومعناها : كُفَّا عما تقولان ، وحقيقته : قولكما مصروف لكما ، لا حاجة لي به . انتهى .
ومن له معرفة بقرض الشعر ، يعلم أنه شعر مولد .
ثم نبه الخفاجيّ على أن هذا النوع يسمى استدراجاً .
قال في " المثل السائر " : الاستدراج نوع من البالغة استخرجتُه من كتاب الله تعالى ، وهو مخادعات الأقوال التي تقوم مقام مخادعات الأفعال ، يستدرج الخصم حتى ينقاد ويذعن ، وهو قريب من المغالطة ، وليس منها . كقوله تعالى : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } [ غافر : 28 ] . ألا ترى لطف احتجاجه على طريقة التقسيم بقوله : [ إن يك كاذباً فهذه عائد عليه ، وإن يصدق يصبكم بعض ما وعدكم به ] ، ففيه من الإنصاف والأدب ما لا يخفى . فإنه نبيّ صادق ، فلا بد أن يصيبهم كل ما وعد به ، لا بعضه ، لكنه أتى بما هو أذعن لتسليمهم وتصديقهم ، لا فيه من الملاطفة في النصح ، بكلام منصف غير مشتطّ مشدّد . أراهم أنه لم يعطه حقه ، ولم يتعصب له ، ويحام عنه ، حتى لا ينفروا عنه . ولذا قدم قوله : { كَاذِباً } ، ثم ختم بقوله : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي } الخ ، يعني : أنه نبيّ على الهدى ، ولو لم يكن كذلك ما آتاه الله النبوة وعضده . وفيه من خداع الخصم واستدراجه ما لا يخفى . انتهى .
وقوله تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً } أي : جاءتهم القيامة فجأة . وسميت القيامة ( ساعة ) . لأنها تفجأ الناس بغتة في ساعة لا يعلمها أحد إلا هو تعالى . والمعنى : جاءتهم منيّتهم . على أن المراد بالساعة ، الصغرى . قال الراغب : الساعة الكبرى بعث الناس للمحاسبة ، والصغرى موت الإنسان ، فساعة كل إنسان موته ، وهي المشار إليها بقوله تعالى : { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً } . ومعلوم أن الحشر ينال الإنسان عند موته . انتهى . ( وبغتة ) مصدر في موضع الحال ، لأي : مباغته ، أو مصدر لمحذوف ، أي : تبغتهم . أو للمذكور . فإنّ ( جاءتهم ) ، بمعنى ( بغتتهم ) .
{ قَالُوا } يعني : منكري البعث ، وهم كفار قريش ، ومن سلك سبيلهم في الكفر والاعتقاد : { يَا حَسْرَتَنَا } أي : يا ندامتنا ! والحسرة : التلهف على الشيء الفائت . وذكرتْ على وجه النداء للمبالغة . والمراد : تنبيه المخاطبين على ما وقع بهم من الحسرة { عَلَى مَا فَرَّطْنَا } أي : قصرنا : { فِيهَا } أي : في الحياة الدنيا . أضمرت وإن لم يجر ذكرها ، للعلم بها ، أي : على ما ضيعنا فيها ، إذ لم نكتسب من الاعتقادات والأخلاق والأعمال ما ينجينا ، أو الضمير للساعة ، أي : على ما فرطنا في شأنها ، ومراعاة حقها ، والاستعداد لها ، وبالإيمان بها ، واكتساب الأعمال الصالحة .
وقال ابن جرير : الضمير يعود إلى الصفقة التي دل عليها قوله : { قَدْ خَسِرَ } الخ . إذ الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع قد جرت . قال : والمعنى قد وُكس الذين كذبوا بلقاء الله ، ببيعهم الإيمان الذي يستوجبون به من الله رضوانه وجنته ، بالكفر الذي يستوجبون به منه سخطه وعقوبته . ولا يشعرون ما عليهم من الخسران في ذلك . حتى تقوم الساعة . فإذا جاءتهم الساعة بغتة ، فرأوا ما لحقهم من الخسران في ببيعهم ، قالوا حينئذ تندماً : { يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا } .
وقوله تعالى : { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ } حال من فاعل : { قَالُواْ } ، فائدته الإيذان بأن عذابهم ليس مقصوراً على ما ذكر من الحسرة على ما فات وزال ، بل يقاسون ، مع ذلك ، تحمل الأوزار الثقال . والإيماء إلى أن تلك الحسرة من الشدة ، بحيث لا تزول ولا تُنْسَى بما يكابدونه من فنون العقوبات - قاله أبو السعود - .
والأوزار : جمع وزر ، وهو في الأصل : الحمل الثقيل ، سمي به الذنب لثقله على صاحبه . قيل : جعلها محمولة على الظهور استعارة تمثيلية ، مثل لزومها لهم ، على وجهلاً يفارقهم ، بذلك . وخص الظهر ، لأنه المعهود حمل الأثقال عليه . كما عهد الكسب بالأيدي .
وقيل : هو حقيقة ، لما روي عن السّدي أنه قال : ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره ، إلا جاءه رجل قبيح الوجه ، أسود اللون ، مُنتن الريح ، عليه ثياب دنسة ، حتى يدخل معه قبره . فإذا رآه قال له : ما أقبح وجهك ! قال : كذلك كان عملك قبيحاً . قال : ما أنتن ريحك ! قال : كذلك كان عملك منتناً . قال : ما أدنس ثيابك ! قال فيقول : إن عملك كان دنساً . قال من أنت ؟ قال : أنا عملك . قال : فيكون معه في قبره . فإذا بعث يوم القيامة قال له : إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات ، وأنت اليوم تحملني . قال : فيركب على ظهره فيسوقه ، حتى يدخله النار . فذلك قوله تعالى : { وَهُمْ يَحْمِلُونَ } الآية .
قال الخفاجي : ولعل هذا تمثيل أيضاً . وقريب منه ما قيل : من قال بالميزان ، واعتقد وزن الأعمال ، لا يقول إنه تمثيل . انتهى .
{ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } أي : بئس ما يحملونه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ 32 ]
{ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ } أي : هزل ، وعمل لا يجدي نفعاً : { وَلَهْوٌ } أي : اشتغال بهوى وطرب ، وما لا تقتضيه الحكمة ، وما يشغل الْإِنْسَاْن عما يهمه مما يلتذ به ثم ينقضي .
{ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } لدوامها ، وخلوص منافعها ولذاتها عن المضار والآلام .
{ أَفَلا تَعْقِلُونَ } ذلك حتى تتقوا ما أنتم عليه من الكفر والمعاصي ، ولا تؤثرون الأدنى الفاني ، على الأعلى الباقي . وههنا .
لطائف :
الأولى : قال الرازي : اعلم أن المنكرين للبعث والقيامة تعظم رغبتهم في الدنيا ، وتحصيل لذاتها . فذكر الله هذه الآية تنبيهاً على خساستها وركاكتها . واعلم أن نفس هذه الحياة لا يمكن ذمها . لأن هذه الحياة العاجلة ، لا يصح اكتساب السعادات الأخروية إلا فيها . فلهذا السبب حصل في تفسير هذه الآية قولان :
الأول -أن المراد منه حياة الكافر . قال ابن عباس : يريد حياة أهل الشرك والنفاق . والسبب في وصف حياة هؤلاء بهذه الصفة ، أن حياة المؤمن يحصل فيها أعمال صالحة ، فلا تكون لعباً ولهواً .
والقول الثاني - إن هذا عام في حياة المؤمن والكافر . والمراد منه : اللذات الحاصلة في هذه الحياة ، والطيبات المطلوبة في هذه الحياة ، وإنما سماها ( اللَّعبِ وَاللَّهْوِ ) لأن الإنسان ، حال اشتغاله باللعب واللهو ، يلتذ به . ثم عند انقراضه وانقضائه لا يبقى منه إلا الندامة . فذلك هذه الحياة ، لا يبقي عند انقراضها إلا الحسرة والندامة . الثانية : قال الخفاجي : جمع اللهو واللعب في آيات . فتارة يقدم اللعب ، كما هنا . وتارة قدم اللهو كما في العنكبوت . ولهذا التفنن نكتة مذكورة في " درة التأويل " ملخصاً : أن الفرق بين اللهو واللعب ، مع اشتراكهما في أنهما الاشتغال بما لا يعني العاقل ويهمه من هوى أو طرب ، سواء كان حراماً أم لا ، أن اللهو أعم من اللعب ، فكل لعب لهو ، ولا عكس . فاستماع الملاهي لهو ، وليس بلعب . وقد فرقوا ببينهما أيضاً بأن اللعب ما قصد به تعجيل المسرة ، والاسترواح به ، واللهو كل ما شغل من هوى وطرب ، وإن لم يقصد به ذلك ، كما نقل عن أهل اللغة ، قالوا : واللهو ، إذا أطلق ، فهو اجتلاب المسرة بالنساء ، كما قال امرؤ القيس :
~ألا زعمت بَسْبَاسَةُ اليومَ أنني كَبِرْتُ وأن لا يحسنُ اللهوَ أمثالي
وقال قتادة : اللهو ، في لغة اليمن ( المرأة ) . وقيل : اللعب طلب : المسرة والفرح بما لا يحسن أن يطلب به . واللهو : صرف الهم بما لا يصلح أن يصرف به .
ولما كانت الآية ردّاً على الكفرة في إنكار الآخرة ، وحصر الحياة في الحياة الدنيا ، وليس في اعتقادهم إلا ما عجل من المسرة بزخرف الدنيا الفانية - قدم اللعب الدال على ذلك ، وتمم باللهو . وأما في العنكبوت فالمقام لذكر قصر مدة الحياة وتحقيرها ، بالقياس إلى الآخرة . ولذا ذكر باسم الإشارة المشعر بالتحقير . والاشتغالُ باللهو ، مما يقصر به الزمان ، وهو أدخل من اللعب فيه . وأيام السرور قصار ، كما قال :
~وليلةٍ إحدى الليالي الزُّهْرِ لم تك غير شَفَقَ وفجر
الثالثة : في قوله تعالى : { لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } تنبيه على أن ما ليس من أعمال المتقين ، لعب ولهو .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ } [ 33 ]
وقوله تعالى : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ } قرئ بفتح الياء وضمها { الَّذِي يَقُولُونَ } أي : يقولون فيك ، من أنك كاذب أو ساحر أو شاعر أو مجنون .
قال أبو السعود : استئناف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم عن الحزن الذي يعتريه ، مما حكى عن الكفرة من الإصرار على التكذيب ، والمبالغة فيه ، ببيان أنه عليه الصلاة والسلام بمكانة من الله عز وجل ، وأن ما يفعلونه في حقه فهو راجع إليه تعالى في الحقيقة ، وأنه ينتقم منهم أشد انتقام . وكلمة ( قَدْ ) لتأكيد العلم بما ذكر ، المفيد لتأكيد الوعيد .
وقوله تعالى : { فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } الفاء للتعليل ، لأن قوله تعالى : { قَدْ نَعْلَمُ } بمعنى لا تحزن ، كما يقال في مقام المنع والزجر : نعلم ما تفعل ! ووجه التعليل في تسليته له صلى الله عليه وسلم بأن التكذيب في الحقيقة لي ، وأنا الحليم الصبور ، فتخلق بأخلاقي .
قال أبو السعود : وهذا يفيد بلوغه عليه الصلاة والسلام في جلالة القدر ، ورفعة المحل ، والزلفى من الله عز وجل ، إلى حيث لا غاية وراءه ، حيث لم يقتصر على جعل تكذيبه عليه الصلاة والسلام تكذيباً لآياته سبحانه ، على طريقة قوله تعالى : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه } [ النساء : 80 ] ، بل نفي تكذيبهم عنه ، وأثبت لآياته تعالى على طريقة قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } [ الفتح : 10 ] ، إيذاناً بكمال القرب ، واضمحلال شؤونه عليه الصلاة والسلام في شأن الله عز وجل . وفيه استعظام لجنايتهم ، منبئ عن عظم عقوبتهم . وقيل : المعنى : فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم ، ولكنهم يجحدون بألسنتهم ، عناداً أو مكابرة . ويعضده ما روى سفيان الثوريّ عن أبي إسحاق عن ناجية عن علي رضي الله عنه قال : قال أبو جهل للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إنا لا نكذبك ، ولكن نكذب بما جئت به ، فأنزل الله : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ } الآية - رواه الحاكم وصححه .
وروى ابن جرير عن السدي قال : لما كان يوم بدر ، خلا الأخنس بأبي جهل فقال : يا أبا الحكم ! أخبرني عن محمد ، أصادق هو أم كاذب ؟ فإنه ليس ههنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا ، فقال أبو جهل : ويحك ! والله إن محمد لصادق ، وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة ، فماذا يكون لسائر قريش ؟ فذلك قوله : { فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } فآيات الله محمد صلى الله عليه وسلم .
قال الرازي : وهذا القول غير مستبعد ، ونظيره قوله تعالى في قصة موسى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] . وقيل : المعنى فإنهم لا يكذبونك لأنك عندهم الصادق الموسوم بالصدق ، ولكنهم يجحدون بآيات الله ، كما يُروى أن أبا جهل كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما نكذبك ، وإنك عندنا لصادق ، ولكننا نكذب ما جئتنا به .
قال أبو السعود : وكأن صدق المخبر عند الخبيث ، بمطابقة خبره لاعتقاده . والأول هو الذي تستدعيه الجزالة التنزيلية . وقُرئ : { لا يكْذبونك } من ( أكذبه ) . بمعنى وجده كاذباً ، أو نسبه إلى الكذب ، أو بين كذبه ، وقال : أكذبه وكذبه بمعنى - كذا في القاموس وشرحه - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ } [ 34 ]
{ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ } افتنان في تسليته عليه الصلاة والسلام ,فإن عموم البلية ربما يهون أمرها بعض تهوين . وإرشاده صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء بمن قبله من الرسل الكرام ، في الصبر على ما أصابهم من أممهم ، من فنون الأذية . وعِدَة ضمينة له صلى الله عليه وسلم بمثل ما مُنِحُوه من النصر . وتصديرُ الكلام بالقسم ، لتأكيد التسلية . وتنوين ( رسل ) للتفخيم والتكثير -أفاده أبو السعود - .
قال الزمخشري : في قوله تعالى : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ } دليل على أن قوله : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ } ليس بنفي لتكذيبه ، وإنما هو من قولك لغلامك : ما أهانوك ، ولكنهم أهانوني ! انتهى .
وناقشه الناصر في " الانتصاف " بأنه لا دلالة فيه ، لأنه مؤتلف مع نفي التكذيب أيضاً ، وموقعه حينئذ من الفضيلة أبين . أي : هؤلاء لم يكذبوك ، فحقك أن تصبر عليهم ، ولا يحزنك أمرهم . وإذا كان من قبلك من الأنبياء قد كذبهم قومهم ، فصبروا عليهم ، وأنت إذ لم يكذبوك أجدر بالصبر . فقد ائتلف ، كما ترى ، بالتفسيرين جميعاً . ولكنه من غير الوجه الذي استدل به ، فيه تقريب لما اختاره ، وذلك أن مثل هذه التسلية قد وردت مصرحاً بها في نحو قوله تعالى : { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ } فسلاّه عن تكذيبهم له ، بتكذيب غيرهم من الأمم لأنبيائهم . وما هو إلا تفسير حسن مطابق للواقع ، مؤيد بالظاهر -والله أعلم - .
{ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا } أي : على تكذيبهم وإيذائهم ، فتأسّ بهم : { حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ } أي : لمواعيده ، من قوله : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ } [ الصافات : 171 - 172 ] ، وقوله : { كَتَبَاللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } [ المجادلة : 21 ] .
{ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ } أي : من خبرهم في مصابرة الكافرين ، وما منحوه من النصر ، فلا بد أن نزيل حزنك بإهلاكهم ، وليس إمهالهم لإهمالهم ، بل لجريان سنته تعالى بتحقق صبر الرسل وشكرهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [ 35 ]
{ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ } أي : شق وثقل { عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ } أي : عن الإيمان بما جئت به من القرآن ، ونأيهم عنه ، ونهيهم الناس عنه { فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ } أي : سَرَبَاًً ومنفذاَ تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض ، حتى تطلع لهم آية يؤمنون بها { أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ } أي : مصعداً تعرج به فيها { فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ } أي : مما اقترحوه فافعل . وحَسُنَ حذف الجواب لعلم السامع به . أي : لكن لم يجعل الله لك هذه الاستطاعة ، إذ يصير الإيمان ضرورياً غير نافع .
{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى } أي : ولكنه شاء بمقتضى جلاله وجماله ، إظهار غاير قهره ، وغاية لطفه { فَلا تَكُونَنَّ } أي : بالحرص على إيمانهم ، أو الميل إلى نزول مقترحهم : { مِنَ الْجَاهِلِينَ } أي : بما تقتضيه شؤونه تعالى ، التي من جملتها ما ذكر من عدم تعلق مشيئته تعالى بإيمانهم . إما اختياراً ، فلعدم توجههم إليه . وإما اضطراراً ، فلخروجه عن الحكمة التشريعية المؤسسة على الاختبار .
تنبيهات :
الأول - في هذه الآية ما لا يخفى من الدلالة على المبالغة في حرصه صلى الله عليه وسلم على إسلام قومه . وتراميه عليه ، إلى حيث لو قَدَرَ أن يأتيهم بآية من تحت الأرض ، أو من فوق السماء ، لأتى بها . رجاءَ إيمانهم ، وشفقة عليهم .
الثاني - قال الناصر في " الانتصاف " : هذه الآية كافلة بالرد على القدرية في زعمهم أن الله تعالى شاء جمع الناس كلهم على الهدى فلم يكن . ألا ترى أن الجملة مصدرة بـ ( لو ) ، ومقتضاها امتناع جوابها ، لامتناع الواقع بعدها . فامتناع اجتماعهم علي الهدى ، إذاً إنما كان لامتناع المشيئة . فمن ثم ترى الزمخشريّ يحمل المشيئة على قهرهم على الهدى بآية ملجئة ، لا يكون الإيمان معها اختياراً ، حتى يتم له أن هذا الوجه من المشيئة لم يقع ، وأن مشيئته اجتماعهم على الهدى على اختيار منهم ، ثابتة غير ممتنعة ، ولكن لم يقع متعلقها . وهذه من خباياه ومكامنه فاحذرها -والله الموفق - .
الثالث -لم يقل ( لاَ تَكُنْ جَاهِلاً ) بل من قوم ينسبون إلى الجهل ، تعظيماً لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن لم يُسْند الجهل إليه ، للمبالغة في نفيه عنه . وما فيه من شدة الخطاب ، سره تبعيد جنابه الكريم عن الحرص على ما لا يكون والجزعُ في مواطن الصبر ، مما لا يليق إلا بالجاهلين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [ 36 ]
وقوله تعالى : { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } تقرير لما مرّ من أن على قلوبهم أكنة ، وتحقيق لكونهم بذلك من قبيل الموتى ، لا يتصور منهم الإيمان البتة . أي : إنما يستجيب لك ، بقبول دعوتك إلى الإيمان ، الأحياء الذي يسمعون ما يلقى إليهم ، سماع تفهم ، دون الموتى الذين هؤلاء منهم . كقوله تعالى : { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } [ النمل : 80 ] ، وإن كانوا أحياء بالحياة الحيوانية ، أموات بالنسبة إلى الإنسانية ، لموت قلوبهم بسموم الاعتقادات الفاسدة ، والأخلاق الرديئة .
و : { الْمَوْتَى } مبتدأ . يعني : الكفار الذين لا يسمعون ولا يستجيبون ، يبعثهم الله يوم القيامة ، ثم إليه يرجعون ، فيجزيهم بأعمالهم . فالموتى مجاز عن الكفرة كما قيل :
~لا يُعْجِبَنَّ الجهولَ بِزَّتُهُ فذاك مَيْتٌ ثِيَابُهُ كَفَنُ
قيل : فيه رمز إلى أن هدايتهم كبعث الموتى ، فلا يقدر عليه إلا الله ، ففيه إقناط للرسول صلى الله عليه وسلم عن إيمانهم . وفي تسميتهم ( موتى ) من التهكم بهم ، والإزراء عليهم ، ما لا يخفى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ 37 ]
{ وَقَالُوا } يعني : مشركي مكة ، بيان لنوع آخر من تعنتهم ، إذ لم يقتنعوا بما شاهدوا من البينات التي تخرّ لها صمّ الجبال { لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ } أي : خارق ، على مقتضى ما كانوا يريدون ومما يتعنتون . كقولهم : { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] . الآيات .
{ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } أي : إن اقتراحهم جهل ، لما أن في تنزيلها قلعاً لأساس التكليف ، المبني على قاعدة الاختيار . أو استئصالاً لهم بالكلية ، فإن من لوازم جحد الآية الملجئة ، الهلاك ، جرياً على سنته تعالى في الأمم السالفة . وتخصيصُ عدم العلم بأكثرهم ، لما أن بعضهم واقفون على حقيقة الحال ، وإنما يفعلون ما يفعلون مكابرة وعناداً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [ 38 ]
{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ } أي : مستقرة فيها ، لا ترتفع عنها : { وَلا طَائِرٍ } يرتفع عنها إذ : { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } أي : أصناف مصنفة في ضبط أحوالها ، وعدم إهمال شيء منها ، وتدبير شؤونها ، وتقدير أرزاقها .
{ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ } أي : ما تركنا ، وما أغفلنا ، في لوح القضاء المحفوظ { مِنْ شَيْءٍ } أي : جليل أو دقيق ، فإنه مشتمل على ما يجري في العالم ، لم يهمل فيه أمر شيء : والمعنى : أن الجميع علمهم عند الله ، لا ينسى واحداً منها من رزقه وتدبيره . كقوله : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ هود : 6 ] . أي : مفصح بأسمائها أعدادها ومظانّها ، وحاصر لحركاتها وسكناتها { ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } يعني : الأمم كلها ، من الدواب والطير ، فينصف بعضهم من بعض ، حتى يبلغ من عدله أن يأخذ للجمَّاء من القرناء . وإيراد ضميرها على صيغة جمع العقلاء . لإجرائها مجراهم .
تنبيهات :
الأول - قال الزمخشري : إن قلت : فما الغرض في ذكر ذلك ؟ قلت : الدلالة على عظم قدرته ، ولطف علمه ، وسعة سلطانه ، وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس ، المتكاثرة الأصناف ، وهو حافظ لما لها وما عليها ، مهيمن على أحوالها ، لا يشغله شأن عن شأن ، وأن المكلفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان . وقال الرازي : المقصود أن عناية الله حاصلة لهذه الحيوانات ، فلو كان إظهار آية ملجئة مصلحة ، لأظهرها ، فيكون كالدليل على أنه تعالى قادر على أن ينزل آية .
وقال القاضي : إنه تعالى لما قدم ذكر الكفار ، وبيّن أنهم يرجعون إلى الله ويحشرون ، بيّن بعده بقوله : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ } . . الخ ، أن البعث حاصل في حق البهائم أيضاً .
الثاني - زيادة ( مِنْ ) في قوله : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ } لتأكيد الاستغراق . و ( في ) متعلقة بمحذوف هو وصف لـ : { دَآبَّةٍ } مفيد لزيادة التعميم . كأنه قيل : وما فرد من أفراد الدواب يستقر في قطر من أقطار الأرض . وكذا زيادة الوصف في قوله : { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } .
قال في " الانتصاف " : في وجه زيادة التعميم ، أن موقع قوله : { فِي الأَرْضِ } و : { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } موقع الوصف العام - وصفة العام عامة - ضرورة المطابقة ، فكأنه مع زيادة الصفة ، تضافرت صفتان عامتان .
الثالث - قال الزمخشري : إن قلت : كيف قيل ( الأمم ) مع إفراد الدابة والطائر ؟ قلت : لما كان قوله تعالى : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ } دالاً على معنى الاستغراق ، ومغنياً عن أن يقال : وما من دوابّ ولا طير ، حمل قوله : { إِلاَّ أُمَمٌ } على المعنى .
الرابع - دلت الآية على أن كل صنف من البهائم أمة ، وجاء في الحديث : < لولا أن الكلاب أمة من الأمم ، لأمرت بقتلها > -رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن مُغَفَّل رضي الله عنه .
الخامس - ما ذكرناه في معنى مماثلة الأمم لنا ، من تدبيره تعالى لأمورها ، وتكفله برزقها ، وعدم إغفال شيء منها مما يبين شمول القدرة ، وسعة العلم - هو الأظهر . موافقة لقوله تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْ } [ هود : 6 ] الآية -والقرآن يفسر بعضه بعضاً . ونقل الواحديّ عن ابن عباس أن المماثَلة هي في معرفته تعالى ، وتوحيده وتسبيحه وتحميده . كقوله تعالى : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ] ، وقوله : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } [ النور : 41 ] .
وعن أبي الدرداء قال : أبهمت عقول البهائم عن كل شيء إلا عن أربعة أشياء : معرفة الإله ، وطلب الرزق ، ومعرفة الذكر والأنثى ، وتهيؤ كل واحد منهم لصاحبه .
وقيل : المماثلة في أنها تحشر يوم القيامة كالناس .
أقول : لا شك في صحة الوجهين بذاتهما ، وصدق المثلية فيهما ، ولكن الحمل عليهما يُبعده عدم ملاقاته للآية الأخرى . فالأمسّ ، تأييداً للنظائر ، ما ذكرناه أولاً -والله أعلم - .
السادس - ما بيناه في معنى ( الكتاب ) من أنه اللوح المحفوظ في العرش ، وعالم السماوات المشتمل على جميع أحوال المخلوقات على التفصيل التام - هو الأظهر ، لملاقاته للآية التي ذكرناها تأييداً للنظائر القرآنية . ولم يذكر الإمام ابن كثير سواه ، على توسعه .
وقيل : المراد منه القرآن كقوله تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ } [ النحل : 89 ] . قال الحفاجيّ : قيل : حمله على القرآن لا يلائم ما قبله وما بعده . ويدفع بأن المعنى لم نترك شيئاً من الحجج وغيرها إلا ذكرناه ، فكيف يحتاج إلى آية أخرى مما اقترحوه ، ويكذب بآياتنا ؟ فالكلام بعضه آخذ بحجز بعض بلا شبهة .
وقال أبو السعود : أي : ما تركنا في القرآن شيئاً من الأشياء المهمة التي من جملتها بيان أنه تعالى مراع لمصالح جميع مخلوقاته .
قال الشهاب في قول البيضاوي ( فإنه قد دوّن فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلاً أو مجملاً ) : يشير إلى أن ما ثبت بالأدلة الثلاثة ثابت بالقرآن ، لإشارته بنحو قوله : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } [ الحشر : 2 ] . إلى القياس . وقوله : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } [ الحشر : 7 ] ، إلى السنّة . بل قيل : إنه بهذه الطريقة يمكن استنباط جميع الأشياء منه . كما سأل بعض الملحدين بعضهم عن طبخ الحلوى ، أين ذكر في القرآن ؟ فقال : في قوله تعالى : { فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] . انتهى .
واستظهر الرازي أن المراد ( بالكتاب ) القرآن . واحتج بأن الألف واللام إذا دخلا على الاسم المفرد ، انصرف إلى المعهود السابق ، والمعهود السابق من الكتاب عند المسلمين هو القرآن . فوجب أن يكون المراد من ( الكتاب ) في هذه الآية القرآن . إذا ثبت هذا ، فلقائل أن يقول : كيف قال تعالى : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } مع أنه ليس فيه تفاصيل علم الطب ، وتفاصيل علم الحساب ، ولا تفاصيل كثير من المباحث والعلوم . وليس فيه أيضاً تفاصيل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع ؟
والجواب : أن قوله : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } يجب أن يكون مخصوصاً ببيان الأشياء التي يجب معرفتها ، والإحاطة بها ، وبيانه من وجهين :
الأول - أن لفظ ( التفريط ) لا يستعل نفياً ولا إثباتاً ، إلا فيما يجب أن يبين ، لأن أحداً لا ينسب إلى التفريط والتقصير في أن لا يفعل ما لا حاجة إليه ، وإنما يذكر هذا اللفظ فيما إذا قصر فيما يحتاج إليه .
الثاني - أن جميع آيات القرآن ، أو الكثير منها ، دالة بالمطابقة أو التضمين أو الالتزام على أن المقصود من إنزال هذا الكتاب بيان الدين ، ومعرفة الله ، ومعرفة أحكام الله . وإذا كان هذا التقييد معلوماً من كل القرآن ، كان المطلق ههنا محمولاً على ذلك المقيّد . أما قوله : إن هذا الكتاب غير مشتمل على جميع علوم الأصول والفروع ، فنقول : أما علم الأصول فإنه بتمامه حاصل فيه ، لأن الدلائل الأصلية مذكورة فيه على أبلغ الوجوه . فأما روايات المذاهب ، وتفاصيل الأقاويل ، فلا حاجة إليها . وأما تفاصيل علم الفروع ، فقال العلماء : إن القرآن دل على أن الإجماع ، وخبر الواحد ، والقياس ، حجة في الشريعة . فكل ما دل عليه أحد هذه الأصول الثلاثة ، كان ذلك في الحقيقة موجوداً في القرآن .
وذكر الواحديّ رحمه الله لهذا المعنى أمثلة ثلاثة :
المثال الأول - روي أن ابن مسعود كان يقول : ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه ؟ يعني : الواشمة والمستوشمة ؛ والواصلة والمستوصلة .
وروي أن امرأة قرأت القرآن ، ثم أتته ، فقالت : يا ابن أم عبد ! تلوت البارحة ما بين الدفتين ، فلم أجد فيه لعن الواشمة والمستوشمة ! فقال . لو تلوتيه لوجدتيه ، قال الله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } وإن مما آتانا به رسول الله أنه قال : لعن الله الواشمة والمستوشمة .
قال الرازي : وأقول : يمكن وجدان هذا المعنى في كتاب الله بطريق أوضح من ذلك ، لأنه تعالى قال في سورة النساء : { وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّه } [ النساء : 117 - 118 ] . فحكم عليه باللعن ، ثم عدّد بعده قبائح أفعاله ، وذكر من حملتها قوله : { وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } [ النساء : 119 ] . وظاهر هذه الآية يقتضي أن تغيير الخلق يوجب اللعن . انتهى .
قلت : وتتمة الحديث تؤيد ذلك أيضاً . ولفظه : لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيّرات خلق الله - رواه الإمام أحمد والشيخان وأصحاب السنن عن ابن مسعود - .
ثم قال الرازي :
المثال الثاني - ذكر أن الشافعي رحمه الله كانَ جَالساً في المسجد الحرام فقال : لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى . فقال رجل : ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور ؟ فقال لا شيء عليه ، فقال : أين هذا في كتاب الله ؟ فقال : قال الله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } ثم ذكر إسناداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي . ثم ذكر إسناداً إلى عمر رضي الله عنه أنه قال : للمحرم قتل الزنبور . قال الواحديّ : فأجابه من كتاب الله مستنبطاً بثلاث درجات .
وأقول هاهنا طريق آخر أقرب منه ، وهو أن الأصل في أموال المسلمين العصمة . قال تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [ البقرة : 286 ] . وقال : { وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ } [ محمد : 36 ] . وقال : { لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } [ النساء : 29 ] . فنهى عن أكل أموال الناس . إلا بطريق التجارة ، فعند عدم التجارة وجب أن يبقى على أصل الحرمة . وهذه العمومات تقتضي أن لا يجب على المحرم الذي قتل الزنبور شيء ، وذلك لأن التمسك بهذه العمومات يوجب الحكم بمرتبة واحدة . المثال الثالث - قال الواحديّ : روي في حديث العسيف الزاني أن أباه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : اقض بيننا بكتاب الله . فقال عليه السلام : والذي نفسي بيده ! لأقضين بينكما بكتاب الله . ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف ، وبالرجم على المرأة إن اعترفت . قال الواحدي : وليس للجلد والتغريب ذكر في نص الكتاب . وهذا يدل على أن كل ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو عين كتاب الله . قال الرازي : وهذا حق ، لأنه تعالى قال : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } ، وكل ما بينه الرسول الله صلى الله عليه وسلم كان داخلاً تحت هذه الآية . انتهى .
وبالجملة ، فالقرآن الكريم كلية الشريعة ، والمجموع فيه أمور كليات ، لأن الشريعة تمت بتمام نزوله ، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها ، وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال . وقد جوّد البحث في هذه المسألة المهمة ، العلامة الشاطبيُّ في " الموافقات " في الطرف الثاني ، في الأدلة على التفصيل . فارجع إليه .
وقد نقلنا شذرة منه في مقدمة هذا التفسير . فتذكر ! .
السابع - قال أبو البقاء : { مِنْ } في قوله تعالى : { مِن شَيْءٍ } زائدة . و ( شيء ) هنا واقع موقع المصدر . أي : تفريطاً . وعلى هذا التأويل لا يبقى في الآية حجة لمن ظن أن الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء صريحاً . ونظير ذلك : { لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } [ آل عِمْرَان : 120 ] أي : ضرراً . وقد ذكرنا له نظائر . ولا يجوز أن يكون : { شَيْئاً } مفعولاً به ، لأن : { فَرَّطْنَا } تتعدى بنفسها ، بل بحرف الجر ، وقد عديت بـ ( في ) إلى : { الكِتَابِ } ، فلا تتعدى بحرف آخر ، ولا يصح أن يكون المعنى : ما تركنا في الكتاب من شيء ، لأن المعنى على خلافه ، فبان أن التأويل ما ذكرنا . انتهى .
وقال الخفاجي : التفريط التقصير . وأصله أن يتعدى بـ ( في ) وقد ضمن هنا معنى ( أَغْفَلَنَا وَتَرَكْنَا ) . فـ : { مِن شَيْءٍ } في موضع المفعول به ، و : { مِن } زائدة . والمعنى : ما تركنا في الكتاب شيئاً يحتاج إليه من دلائله الألوهية والتكاليف .
هذا ما ارتضاه أبو حيان والزمخشريّ ، وعدل عنه البيضاوي . لأنه لا يتعدى . فجعل التقدير ( تفريطاً ) فحذف المصدر ، وأقيم : { شَيْئاً } مقامه ، وتبع فيه أبا البقاء ، إذ اختار هذا ، وأورد عليه في " الملتقط " أنه ليس كما ذكرنا ، لأنه إذا تسلط النفي على المصدر ، كان منفياً على جهة العموم ، ويلزمه نفي أنواع المصدر ، ونفي جميع أفراده ، وليس بشيءٍ ، لأنه يريد أن المعنى حينئذ : أن جميع أنواع التفريط منفية عن القرآن ، وهو مما لا شبهة فيه ، ولا يلزمه أن يذكر فيه كل شيء كما لزم على الوجه الآخر ، حتى يحتاج إلى التأويل . كما أن نفي تعديه لا يضر من قال إنه مفعول به على التضمين ، كما مر ، وأما ما قيل : إن ( فرط ) يتعدى بنفسه ، لما وقع في القاموس ( فرط الشيء ، وفرط فيه تفريطاً ضيعه وقدم العجز فيه وقصر ) فلا نسلم أنه يتعدى بنفسه ، وتفردُ صاحب القاموس بأمر ، لا يسمع في مقابلة الزمخشري وغيره . مع أنه يحتمل أن تعديته المذكورة فيه ليست وضعية ، بل مجازية ، أو بطريق التضمين - انتهى كلام الشهاب - .
أقول : ما للمجد في القاموس ، ليس من تفرداته وعندياته ، إذ اللغة مرجعها السماع ، لا الاجتهاد . وموازنته بين الزمخشريّ وغيره ، من باب معرفة الحق بالرجال ، الذي الصواب عكسه ، على أنه ليس في " الكشاف "
ما يقتضي ما زعمه . وقد استشهد شارح القاموس ، الزبيدّي شاهداً على تعديته بنفسه ، تأييداً لكلام المجد ، قول صخر الغي :
~ذلك بَزِّي فلن أُفَرِّطَهُ أخاف أن يُنجزوا الذي وعدوا
قال ابن سيده : يقول . لا أضيعه ، وقوله : بزي ، أراد سلاحي . ثم قال الزبيديّ : وقال أبو عَمْرو : فرطتك في كذا وكذا ، أي : تركتك . وبه فسر أيضاً قول صخر . انتهى . وأنشد أبو السعود قول ساعدة جُؤَيًَّة :
~معه سِقاءٌ لا يفرِّط حمله
أي : لا يتركه . وبه يعلم سقوط ما لأبي البقاء ، وسقوط دعوى أن أصله أن يتعدى بـ ( في ) ودعوى التضمين السابقة ، وتكليف كون : { شَيْءٍ } واقعاً موقع المصدر .
هذا وقُرئ : { فَرَّطْنَا } بالتخفيف ، وهو بمعنى المشدّد ، وإنما توسعنا فيما روي على القول الثاني في معنى الكتاب ، لشهرة الآية في هذا المعنى ، وإن كان الأظهر الأول ، لما ذكرناه ، ولأن السورة مكية ، والأحكام فيها لم تتم -والله أعلم - .
الثامن - دلت الآية على حشر الدوابّ والبهائم والطير كلها ، أي : بعثها يوم القيامة . كقوله تعالى : { وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } [ التكوير : 5 ] .
وروى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه < أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي شاتين تنتطحان ، فقال : يا أبا ذر ! هل تدري فيم تنتطحان ؟ قال : لا . قال : لكن الله يدري ، وسيقضي بينهما > . ورواه عبد الرزاق وابن جرير ، وزاد : ولقد تركنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وما يقلّب طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً .
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه عن عثمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إن الجماء لتُقَصُّ من القرناء يوم القيامة > .
وروى عبد الرزاق عن أبي هريرة في هذه الآية قال : < يحشر الخلق كلهم يوم القيامة : الدوابّ والبهائم والطير وكل شيء ، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ، ثم يقول : كوني تراباً ! فلذلك يقول الكافر : { يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً } > . وقد روي هذا مرفوعاً في حديث الصور . أفاده ابن كثير .
قلت : روى الإمام أحمد ، والبخاري في " الأدب المفرد " ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة ، حتى يقاد للشاة الجلحاء ، من الشاة القرناء ، تنطحها > .
وروى ابن أبي حاتم عن عِكْرِمَة عن ابن عباس في الآية قال : حشرها الموت . وروي عن مجاهد والضحاك مثله . والأول أظهر .
التاسع - " في الإكليل " : استدل بهذه الآية على مسألة أخرى ، أخرجه أبو الشيخ عن أنس أنه سئل : من يقبض أرواح البهائم ؟ قال : ملك الموت . فبلغ الحسن فقال صدق ! وإن ذلك في كتاب الله . ثم تلا هذه الآية ؟(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ 39 ]
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ } أي : مثلهم في جهلهم ، وعدم فهمهم ، وسوء حالهم الصم ( جمع أصم وهو الذي لا يسمع ) والبكم ( جمع أبكم وهو الذي لا يتكلم ) . وهو مع ذلك في الظلمات لا يبصرون ، فكيف يهتدي مثلهم إلى الطريق ، أو يخرج مما هو فيه ؟ وقد كثر تشبيههم بذلك في التنزيل ، إعلاماً ببيان كمال غراقتهم في الجهل ، وانسداد باب الفهم والتفهيم بالكلية .
ثم أشار إلى أنهم من أهل الطبع بقوله : { مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي : فهو المتصرف في خلقه بما يشاء ، فمن أحب هدايته ، وفقه بفضله وإحسانه للإيمان . ومن شاء ضلالته تركه على كفره { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } .
ثم أمر تعالى رسوله بأن يبكتهم بما لا سبيل لهم إلى إنكاره . ببيان أنهم إذا نزلت بهم شدة ، فإنهم يفزعون إليه تعالى ، لا إلى الأصنام ، فقال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 40 ]
{ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ } أي : أخبروني : { إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ } أي : مثل ما نزل بالأمم الماضية الكافرة { أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ } يعني القيامة : { أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ } أي : في كشف العذاب عنكم ، وهذا محطّ التبكيت . أي : أتخصون آلهتكم بالدعوة إلى رفع تلك الشدة ، بل لا تدعونها مع الله أيضاً : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } متعلق بـ : { أَرَأَيْتُكُم } مؤكد للتبكيت ، كاشف عن كذبهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } [ 41 ]
{ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ } أي : تخصون بالدعوة : { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ } أي : إن شاء كشفه . والتقييد بالمشيئة لبيان أن إجابتهم غير مطّردة ، بل هي تابعة لمشيئته تعالى ، المبينة على حِكَمَ استأثر بعلمها : { وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } أي : تتركون ما تشركون تركاً كلياً لعلمكم بأنها لا تضر ولا تنفع . عطف على : { تَدْعُونَ } ، وتوسيط الكشف بينهما مع تقارنهما ، وتأخر الكشف عنهما ، لإظهار كمال العناية بشأن الكشف والإيذان بترتبه على الدعاء خاصة .
ثم بين تعالى أن من كفار الأمم السالفة من بلغوا في القسوة إلى أن أخذوا بالشدائد ليخضعوا ويلتجئوا إلى الله تعالى ، فلم يفعلوا . تسليةً لنبيه صلى الله عليه وسلم فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } [ 42 ]
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ } أي : رسلاً ، فكذبوهم ولم يبالوا ، لكونهم في الرخاء { فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ } أي : الشدة والقحط { وَالضَّرَّاءِ } أي : المرض ونقصان الأنفس والأموال : { لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } أي : يتذللون ويتخشعون لربهم ويتوبون إليه من كفرهم ومعاصيهم ، فالنفوس تتخشع عند نزول الشدائد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 43 ]
{ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا } أي : بالتوبة والتمسكن . ومعناه . نفي التضرع .
كأنه قيل : فلم يتضرعوا . وجيء بـ ( لَوْلاَ ) ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم ، كما قال : { وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } فلم يكن فيها لين يوجب التضرع ، ولم ينزجروا وإنما ابتلوا به { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : من الشرك . فالاستدراك على المعنى لبيان الصارف لهم عن التضرع . وأنه لا مانع لهم إلا قساوة قلوبهم ، إعجابهم بأعمالهم المزينة لهم .
لطيفة :
إن قلت : قد أسند تعالى هنا التزيين إلى الشيطان ، وأسنده إلى نفسه قوله : { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } [ الأنعام : 108 ] . فهل هو حقيقة فيهما . أو في أحدهما ؟ قلت : وقع التزيين في مواقع كثيرة : فتارة أسنده إلى الشيطان ، كالآية الأولى ، وتارة إلى نفسه كالثانية ، وتارة إلى البشر كقوله : { وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ } [ الأنعام : 137 ] - في قراءة - وتارة مجهولاً غير مذكور فاعله كقوله : { زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ } [ يونس : 12 ] ، لأن التزيين له معان يشهد بها الاستعمال واللغة : أحدها : إيجاد الشيء حسناً مزيناً في نفس الأمر ، كقوله تعالى : { زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا } ، والثاني : جعله مزيناً من غير إيجاد ، كتزيين الماشطة العروس ، والثالث : جعله محبوباً للنفس ، مشتهى للطبع ، وإن لم يكن في نفسه كذلك . فهذا إن كان بمعنى خلق الميل في النفس والطبع لا يسند إلا إلى الله ، لأنه الفاعل له حقيقة ، لإيجاده له ، ولغة ونحواً لا تصافه بخلقه . وإن كان بمجرد تزويره وترويجه بالقول وما يشبهه ، كالوسوسة والإغواء ، فهذا لا يسند إليه تعالى حقيقته ، وإنما يسند إلى البشر أو الشيطان ، وإذا لم يذكر فاعله ، يقدّر في كل مكان ما يليق به - كذا في " العناية " - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ } [ 44 ]
{ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ } أي : من البأساء والضراء ، أي : تركوا الاتعاظ به : { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } أي : من النعم ، كالصحة والسعة وراحة البال والأمن ، وصنوف رغائبهم ، استدراجاً وإملاءً ومكراً بهم ، عياذاً بالله من مكره { حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا } من مطالبهم ورغائبهم ، مع الشرك : { أَخَذْنَاهُمْ } أي : بالعذاب المستأصل { بَغْتَةً } أي : فجأة بلا تقديم مذكّر ، إذ لم يفدهم في المرة الأولى { فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } متحسرون ، يئسون من كل خير .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 45 ]
{ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا } أي : آخرهم . كناية عن الاستئصال ، لأن ذهاب آخر الشيء يستلزم ذهاب ما قبله . وهو من ( دَبَرَهُ ) إذا تبعه ، فكان في دُبُرِهِ . أي : خلفه . فالدابر ما يكون بعد الآخر ، ويطلق عليه تجوّزاً . وقال أبو عبيد : دابر القوم آخرهم . وقال الأصمعيّ : الدابر الأصل ، ومنه : قطع الله دابره : أصله .
{ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : على ما جرى عليهم من الهلاك . فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض ، من شؤم عقائدهم وأعمالهم ، نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها ، لا سيما مع ما فيه من إعلاء كلمة الحق التي نطقت بها رسلهم ، عليهم السلام .
تنبيهات :
الأول - روي في هذه الآية أخبار وآثار . منها ما أخرجه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب ، فإنما هو استدراج > . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } -إلى : { هُم مُّبْلِسُونَ } ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم عنه .
وروى ابن أبي حاتم أيضاً عن عُبَاْدَة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : < إذا أراد الله بقوم اقتطاعاً فتح لهم ( أوْ فُتِحَ عَلَيْهِمْ ) باب خيانة { حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً } الآية > . ورواه أحمد وغيره .
وقال الحسن البصرّي : من وسع الله عليه ، فلم ير أنه يمكر به ، فلا رأي له . ومن قتِّر عليه ، ولم ير أنه ينظر له ، فلا رأي له . ثم قرأ { فَلَمَّا نَسُواْ } الآية - قل الحسن : مكر بالقوم ، ورب الكعبة ! أعطوا حاجاتهم ثم أخذوا .
وقال قتادة : بغت القومَ أمرُ الله ، وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم ، فلا تغتروا بالله ، فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون - روى ذلك ابن أبي حاتم - .
الثاني -قال الرازيّ : قال أهل المعاني : وإنما أخذوا في حال الرخاء والراحة ليكون أشد ، لتحسرهم على ما فاتهم من السلامة والعافية .
الثالث - قال الزمخشري : في قوله تعالى : { وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة ، وأنه من أجل النعم ، وأجزل القسم . أي : فهو إخبار بمعنى الأمر ، تعليماً للعباد .
قال الناصر في " الانتصاف " : ونظيرها قوله تعالى : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِين } [ النمل : 58 - 59 ] فيمن وقف ههنا ، وجعل الحمد على إهلاك المتقدم ذكرهم من الطاغين ، ومنهم من وقف على : { المُنذَرين } وجعل الحمد متصلاً بما بعده من إقامة البراهين على وحدانية الله تعالى ، وأنه جل جلاله خير مما يشركون . فعلى الأول يكون الحمد ختماً ، وعلى الثاني فاتحة ، وهو مستعمل فيهما شرعاً ، ولكنه في آية النمل أظهر في كونه مفتتحاً لما بعده ، وفي آية الأنعام ختم لما تقدمه حتماً ، إذ لا يقتضي السياق غير ذلك . انتهى .
فقلت : إذا جرينا على ما هو الأسدّ في الآي من توافق النظائر ، اقتضى حمل آية النمل على ما هنا ، وادعاء الأظهرية فيها ممنوع . فإن التنزيل يفسر بعضه بعضاً . فتأمل . ثم أمر تعالى رسوله بتكرير التبكيت عليهم . وتثنية الإلزام .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ } [ 46 ]
يقول تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ } بأن أصمكم وأعماكم { وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ } بأن غطى عليها ما يزول به عقلكم وفهمكم : { مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ } أي : بذلك المأخوذ . وإنما خصت هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر ، لأنها أشرف أعضاء الإنسان ، فإذا تعطلت اختل نظام الإنسان ، وفسد أمره ، وبطلت مصالحه في الدين والدنيا .
{ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ } أي : نوردها بطرق مختلفة ، كتصريف الرياح . و ( انظر ) يفيد التعجيب من عدم تأثرهم بما عاينوا من الآيات الباهرة .
{ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ } أي : بعد رؤيتهم تصريف الآيات يعرضون عنها ، فلا يتأملون فيها ، عناداً وحسداً وكبراً .
تنبيهات :
الأول - المراد بالآيات : إما مطلق الدلائل القرآنية مطلقاً ، أو ما ذكر من أول السورة إلى هنا ، أو ما ذكر قبل هذا من المقدمات العقلية الدالة على وجود الصانع وتوحيده المشار إليها بقوله : { إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ } الآية . ومن الترغيب بقوله : { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ } ، والترهيب بقوله : { إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ } الآية . ومن التنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين . ذهب إلى كلٍّ بعض من المفسرين ، وعموم اللفظ يصدق على ذلك كله بلا تدافع .
الثاني - قال بعض المفسرين من الزيدية : دلت الآية على جواز الاحتجاج في أمر الدين . انتهى . وهو ظاهر .
الثالث - المقصود من هذه الآية : بيان أن القادر على تحصيل هذه القوى الثلاث ، وصونها عن الآفات ، ليس إلاّ الله تعالى . وإذا كان الأمر كذلك ، كان المنعم بهذه النعم العالية ، والخيرات الرفيعة ، هو الله تعالى . فوجب أن يقال : المستحق للتعظيم والثناء والعبودية ليس إلا الله تعالى . وذلك يدل على أن عبادة الأصنام طريقة باطلة فاسدة -قرره الرازي - .
ثم أشار تعالى إلى تبكيت لهم آخر بإلجائهم إلى الاعتراف باختصاص العذاب بهم بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ } [ 47 ]
{ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ } لإعراضكم عن الآيات بعد تصريفها : { عَذَابُ اللَّهِ } أي : المستأصل لكم { بَغْتَةً } أي : فجأة من غير تقديم ما يشعر به ، إذ لم يفد ما تقدم { أَوْ جَهْرَةً } بتقديمه مبالغة في إزاحة العذر . وقيل : ليلاً أو نهاراً ، كما في قوله تعالى : { بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً } ، لما أن الغالب فيما أتى ليلاً البغتة ، وفيما أتى نهاراً الجهرة : { هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ } أي : هل يهلك بذلك العذاب إلا أنتم ؟ وَوَضَعَ الظاهر موضعه ، تسجيلاً عليهم بالظلم . وإيذاناً بأن مناط إهلاكهم ظلمهم الذي هو وضعهم الإعراض عما صرف الله له من الآيات ، موضع الإيمان .
ثم أشار تعالى إلى وظيفة الرسل ، وتحقيق ما في عهدتهم ، لبيان أن ما يقترحه الكفار عليه ، صلى الله عليه وسلم ، ليس مما يتعلق بالرسالة أصلاً ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ 48 ]
{ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ } بالثواب لأهل الإيمان والأعمال الصالحة { وَمُنْذِرِينَ } بالعقاب لأهل الكفر والمعاصي { فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ } للأعمال والأخلاق ، فهم أهل البشارة { فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي : من العذاب الذي أنذروا به دنيويّاً وأخروياً { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } أي : بفوات ما بشروا به من الثواب العجل والآجل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } [ 49 ]
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ } أي : الذي أنذروا به عاجلاً أو آجلاً : { بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } أي : عن أمر الله في ترك الإيمان ، ومباشرة الأعمال الطالحة واكتساب الأخلاق الرديئة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } [ 50 ]
قوله تعالى : { قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ } أي : قل لهؤلاء المشركين المقترحين عليك تارة تنزيل الآيات ، وأخرى غير ذلك : لا أدعي أن خزائن رزق الله مفوضة إليّ ، فأعطيكم منها ما تريدون من قلب الجبال ذهباً ، وغير ذلك .
[ والخزائن : جمع خزانة ، وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء ، وخَزْنُ الشيء إحرازه ، بحيث لا تناله الأيدي ] .
{ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } أي : من أفعاله تعالى حتى تسألوني عن وقت الساعة ، أو وقت نزول العذاب أو نحوهما .
{ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } أي : حتى تكلفوني من الأفاعيل الخارقة للعادات ما لا يطيقه البشر ، من الرقيّ في السماء ونحوه ، أو تعدّوا عدم اتصافي بصفاتهم قادحاً في أمري ، كما ينبئ عنه قولهم : { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ } . والمعنى : إني لا أدعي شيئاً من هذه الأشياء الثلاثة ، حتى تقترحوا عليّ ما هو من آثارها وأحكامها ، وتجعلوا عدم إجابتي إلى ذلك ، دليلاً على عدم صحة ما أدعيه من الرسالة التي لا تعلق لها بشيء مما ذكر قطعاً . بل إنما هي عبارة عن تلقي الوحي من جهة الله عز وجل ، والعلم بمقتضاه فقط ، كما ينبئ عنه قوله تعالى :
{ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ } أي : ما أتبع فيما أقول لكم إلا ما يوحى إليّ من جهته تعالى ، شرفني بذلك وأنعم به عليّ ، إذ يكشف لي عن الملائكة فيخبرونني .
ثم كرر الأمر تثنية للتبكيت بقوله :
{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } مثل للضال والمهتدي على الإطلاق . والاستفهام إنكاري ، والمراد إنكار استواء من لا يعلم ما ذكر من الحقائق ، ومن يعلمها . وفيه الإشعار بكمال ظهورها ، ومن التنفير عن الضلال ، والترغيب في الاهتداء - ما لا يخفى . أفاده أبو السعود .
وقوله تعالى : { أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ } تقريع وتوبيخ داخل تحت الأمر . أي : أفلا تتفكرون فتهتدوا ، ولا تكونوا ضالين أشباه العميان .
تنبيهات :
الأول - جعل بعض المفسرين قوله تعالى : { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } تبرؤا من دعوى الألوهية ، لأن قسمة الأرزاق بين العباد ، ومعرفة الغيب ، مخصوصان به تعالى : قال : ولذا كرر في الملكية لفظ : { وَلا أَقُولُ } . والمعنى : لا أدعي الألوهية ولا الملكية .
وأورد على هذا أن المراد : لا أملك أن أفعل ما أريد مما تقترحونه ، وليس المراد التبرؤ عن دعوى الإلهية ، وإلا لقيل : لا أقول لكم إني إله . كما قيل : ولا أقول لكم إني ملك . وأيضاً في الكناية عن الألوهية بـ : { عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ } ما لا يخفى من البشاعة ، بل هو جواب عن اقتراحهم عليه صلى الله عليه وسلم أن يوسع عليهم خيرات الدنيا -كذا في " العناية " - .
قال أبو السعود : وجعل هذا تبرؤاً عن دعوى الإلهية ، مما لا وجه له قطعاً .
الثاني - قال الجبائي : الآية دالة على أن الملك أفضل من الأنبياء ، لأن المعنى : لا أدعي منزلة فوق منزلتي . ولولا أن الملك أفضل ، وإلا لم يصح ذلك . قال القاضي : إن الغرض بما نفى طريقة التواضع ، فالأقرب أن يدل ذلك على أن الملك أفضل ، وإن كان المراد نفي قدرته على أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة . لم يدل على كونهم أفضل .
وقرر الزمخشري الأول تأييداً لمذهبه فقال في تفسير الآية : أي : لا أدعي ما يستبعد في العقول أن يكون لبشر من ملك خزائن الله ، وهي قِسَمه بين الخلق وأرزاقه ، وعلم الغيب ، وإني من الملائكة الذين هم أشرف جنس خلق الله تعالى ، وأفضله ، وأقربه منزلة منه . أي : لم أدع إلهية ولا ملكية ، لأنه ليس بعد الإلهية منزلة أرفع من منزلة الملائكة ، حتى تستبعدوا دعواي وتستنكروها ، وإنما أدعي ما كان مثله لكثير من البشر ، وهو النبوة . انتهى .
وتعقبه الناصر في " الانتصاف " بقوله : هو يبنى على القاعدة المتقدمة له ، في تفضيل الملائكة على الأنبياء . ولعمري إن ظاهر هذه الآية يؤيده ، فلذلك انتهز الفرصة في الاستدلال بها . ولمخالفه أن يقول : إنما أوردت الآية ردّاً على الكفار في قولهم : { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ } . . الآية - فردّ قولهم : { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ } بأنه بشر ، وذلك شأن البشر ، ولم يدّع أنه ملك حتى يتعجب من أكله للطعام ، وحينئذ لا يلزم منها تفضيل الملائكة على الأنبياء ، لأنه لا خلاف أن الأنبياء ، يأكلون الطعام ، وأن الملائكة ليسوا كذلك ، فالتفرقة بهذا الوجه متفق عليها ، ولا يوجب عليه ذلك اتفاقاً على أن الملائكة أفضل من الأنبياء .
وكذلك رد قولهم : { أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ } بأنه لا يملك خزائن الله تعالى حتى يأتيهم بكنز منها على وفق مقترحهم ، ولا قال لهم ذلك حتى يقام عليه الحجة به .
ثم قال الناصر رحمه الله : ولم يحسن الزمخشريّ في قوله : [ ليس بعد الإلهية منزلة أرفع من منزلة الملائكة ] فإنه جعل الإلهية من جملة المنازل كالملكية ، ومثل هذا الإطلاق لا يسوغ . والمنزلة عبارة عن المحل الذي يُنزل اللهُ فيه العبد من علوّ وغيره ، فإطلاقها على الإلهية تحريف . والله الموفق للصواب .
الثالث - قال الرازي : ظاهر قوله تعالى : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ } يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يعمل إلا بالوحي ، وهو يدل على حكمين :
الأول - أن هذا النص يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يحكم من تلقاء نفسه في شيء من الأحكام ، وأنه ما كان يجتهد ، بل جميع أحكامه صادرة عن الوحي ، ويتأكد هذا بقوله تعالى : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } .
الثاني - أن نفاة القياس قالوا : ثبت بهذا النص أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يعمل إلا بالوحي النازل عليه ، فوجب أن لا يجوز لأحد من أمته أن يعملوا إلا بالوحي النازل عليه ، بقوله تعالى : { فَاتَّبِعُوهُ } ، وذلك ينفي جواز العمل بالقياس . ثم أكد هذا الكلام بقوله : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } وذلك لأن العمل بغير الوحي يجري مجرى عمل الأعمى . والعمل بمقتضى نزول الوحي يجري مجرى علم البصير . ثم قال : { أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } والمراد منه التنبيه على أنه يجب على العاقل أن يعرف الفرق بين هذين البابين ، وأن لا يكون غافلاً عن معرفته . انتهى .
وفي " فتح الرحمن " : تمسك بذلك من لم يثبت اجتهاد الاجتهاد الأنبياء ، عملاً بما يفيده القصر في هذه الآية .
والمسألة مدونة في الأصول . وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : أوتيت القرآن ومثله معه .
ثم لما أخبر تعالى : أن أولئك المشركين كالصم البكم العمي ، بل الموتى ، إذ لم يتعظوا بتصريف الآيات الباهرة ، أمر بتوجيه الإنذار إلى من يتأثر بما يوحي إليه ، اطراحاً لأولئك الفجار ، فقال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ 51 ]
{ وَأَنْذِرْ بِهِ } أي : بما يوحي ، المتقدم ذكره : { الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ } يعني : من دون الله تعالى { وَلِيٌّ } أي : ناصر ينصرهم : { وَلا شَفِيعٌ } يشفع لهم وينجيهم من العذاب ، غيره تعالى : { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي : الاعتقادات الفاسدة ، والأعمال الطالحة ، والأخلاق الرديئة .
قال في " العناية " : خص بالذكر هؤلاء ، لأنهم الذين ينفعهم الإنذار ، ويقودهم إلى التقوى . وليسَ المراد الحصر حتى يرد أن إنذاره لغيرهم لازم أيضاً . انتهى .
وجملة : { لَيْسَ لَهُم } في موضع الحال من : { يُحْشَرُواْ } ، فإن المخوف هو الحشر على هذه الحالة . والمراد بـ ( الوليّ ) و ( الشفيع ) الآلهة التي كان المشركون يزعمون أنها شفعاؤهم ، وحينئذ فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة للمسلمين ، لأن شفاعة الرسل يومئذ إنما تكون بإذنه تعالى ، فكأنها منه تعالى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } [ 52 ]
روى الإمام مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة نفر ، فقال له المشركون : اطرد هؤلاء يجترئون علينا ! قال : وكنت أنا وابن مسعود رجلين من هذيل وبلال ورجلان لست اسميهما ، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع ، فحدث نفسه ، فأنزل الله تعالى : { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ } الآية .
وأخرج نحوه الحاكم وابن حبان في صحيحيهما .
وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال : مرّ الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعنده خبّاب وصهيب وبلال وعمار ، فقالوا يا محمد ! أرضيت بهؤلاء ؟ فنزل عليه القرآن : { وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ } إلى قوله : { أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } .
ورواه ابن جرير عن ابن مسعود أيضاً قال : مرّ الملأ من قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وبلال وعمار وخبّاب وغيرهم من ضعفاء المسلمين .
وفيه : فقالوا : يا محمد ! أرضيت بهؤلاء من قومك ، أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ونحن نُصَيْر تبعاً لهؤلاء ؟ اطردهم ، فلعلك إن طردتهم نتبعك ! فنزلت هذه الآية : { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } . . الآية .
ووراء ما ذكرنا ، روايات لا تصح ولا يوثق بها .
إذا علمت ذلك تبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يطردهم بالفعل ، وإنما همّ بإبعادهم عن مجلسه آن قدوم أولئك ، ليألفهم فيقودهم ذلك إلى الإيمان ، فنهاه الله عن إمضاء ذلك الهمّ . فما أورده الرازيّ من كونه صلى الله عليه وسلم طردهم ، ثم أخذ يتكلف في الجواب عنه ، لمنافاته العصمة على زعمه ، فبناءٌ على واهٍ . والقاعدة المقررة أن البحث في الأثر فرع ثبوته ، وإلا فالباطل يكفي في رده ، كونه باطلاً . وقد أوضحت ذلك في كتابي " قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث " . والمعنى : لا تبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك ، بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك . كقوله : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } [ الكهف : 28 ] .
وقوله تعالى : { يَدْعُونَ رَبَّهُم } أي : يعبدونه ويسألونه { بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } قال سعيد بن المسيب وغيره : المراد به الصلاة المكتوبة .
وقوله تعالى : { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } المراد بالوجه الذات ، كما في قوله : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } ومعنى إرادة الذات الإخلاص لها ، والجملة حال من : { يَدْعُونَ } أي : يدعون ربهم مخلصين له فيه ، وتقييده به لتأكيد عليته للنهي ، فإن الإخلاص من أقوى موجبات الإكرام ، المضاد للطرد .
وقوله تعالى : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ } ، كقول نوح عليه السلام في الذين قالوا : { قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ } [ الشعراء 111 - 113 ] أي : إنما حسابهم على الله عز وجل ، وليس عليّ من حسابهم من شيء ، كما أنه ليس عليهم من حسابي من شيء .
قال العلامة أبو السعود : الجملة اعتراض وسط بين النهي وجوابه ، تقريراً له ودفعاً لما عسى يتوهم كونه مسوّغاً لطردهم من أقاويل الطاعنين في دينهم ، كدأب قوم نوح حيث قالوا { مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ } أي : ما عليك شيء من حساب إيمانهم وأعمالهم الباطنة ، حتى تتصدى له ، وتبني على ذلك ما تراه من الأحكام ، وإنما وظيفتك ، حسبما هو شأن منصب النبوة ، اعتبار ظواهر الأعمال ، وإجراء الأحكام على موجبها . وأما بواطن الأمر فحسابها على العليم بذات الصدور ، كقوله تعالى : { إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي } وذكر قوله تعالى : { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ } مع أن الجواب قد تم بما قبله ، للمبالغة في بيان انتفاء كون حسابهم عليه السلام ، بنظمه في سلك ما لا شبهة فيه أصلاً ، وهو انتفاء كون حسابه عليه السلام ، عليهم ، على طريقة قوله تعالى : { لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ] . وأما ما قيل من أن ذلك لتنزيل الجملتين منزلة كملة واحدة ، لتأدية معنى واحد ، على نهج قوله تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } فغير حقيق بجلالة شأن التنزيل . انتهى .
والقول المذكور للزمخشري ، حيث ذهب إلى أن الجملتين في معنى جملة واحدة ، تؤدي مؤدى : { وَلاَ تَزِرُ } الآية ، وأنه لا بد منهما .
هذا ، وقيل : الضمير للمشركين ، والمعنى : لا يؤاخذون بحسابك ، ولا أنت بحسابهم ، حتى يهمك إيمانهم ، ويجرّك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين .
وأغرب المهايميّ : حيث قال : والعماةُ ، لكونهم أرباب شرف ومال ، يكرهون . مجالستهم ، لقلة شرفهم ومالهم ، فقال عز وجل لأشرف الناس : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } أي : ما يعود عليك من نقصهم في الشرف والمال عليهم من شيء ، فإذا لم يلحقك نقصهم ، ولم يأخذوا كمالك بسلبه عنك ، فلا وجه لطردهم . انتهى .
وفيه بعدٌ ، لعدم ملاقاته لآية نوح السالفة . ولا يخفى مراعاة النظائر .
وفي " العناية " : قدم خطابه صلى الله عليه وسلم في الموضعين ، تشريفاً له . وإلا كان الظاهر [ وَمَا عَلَيْهِم مِنْ حِسَابِكَ مِنْ شَيءٍ ] بتقديم ( عَلَى ) ومجرورها ، كما في الأول . وفي النظم رد العجز على الصدر ، كما في قوله : عادات السادات ، سادات العادات .
وقوله تعالى : { فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } الظلم : وضع الشيء في غير محله أي : فلا تهمّ بطردهم عنك ، فتضع الشيء في غير موضعه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } [ 53 ]
{ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ } هم الشرفاء : { بِبَعْضٍ } وهم المستضعفون ، بما مننا عليهم بالإيمان . وقوله : { لِيَقُولُوا } أي : الشرفاء : { أَهَؤُلاءِ } أي : المستضعفون { مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا } أي : بشرف الإيمان ، مع أن الشرفاء على زعمهم ، أولى بكل شرف ، فلو كان شرفاً لانعكس الأمر ، فهو إنكار لأن يُخَصَّ هؤلاء من بينهم بإصابة الحق ، والسبق إلى الخير ، كقولهم : { لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] . ثم أشار تعالى إلى أنه إنما منَّ عليهم بنعمة الإيمان ، لأنه علم أنهم يعرفون قدر هذه النعمة ، فيشكرونها حق شكرها . وأما أولئك ، فلا يعرفون قدرها ، فلا يشكرونها ، بقوله سبحانه : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } ؟ ردٌّ لقولهم ذلك ، وإبطالٌ له ، وإشارةٌ إلى أن مدار استحقاق الإنعام ، معرفة شأن النعمة ، والاعتراف بحق المنعم . كما أن فيه من الإشارة إلى أن أولئك المستضعفين عارفون بحق نعم الله تعالى في تنزيل القرآن ، والتوفيق للإيمان ، شاكرون له تعالى على ذلك ، مع التعريض بأن القائلين بمعزل عن ذلك كله - ما لا يخفى .
قال الحافظ ابن كثير : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غالب من اتبعه في أول بعثته ضعفاء الناس ، من الرجال والنساء ، والعبيد والإماء ، ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل ، كما قال قوم نوح لنوح : { وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ } [ هود : 27 ] الآية - وكما سأل هرقلُ ملك الروم أبا سفيان - حين سأله عن تلك المسائل - : [ فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ؟ قال : بل ضعفاؤهم . فقال : هم أتباع الرسل ] وكان مشركو مكة يسخرون بمن آمن من ضعفائهم ، ويعذبون من يقدرون عليه منهم ، وكانوا يقولون : { أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا } كقوله : { لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] . وكقوله تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أي : الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } [ مريم : 73 ] ؟ قال الله تعالى في جواب ذلك : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً } [ مريم : 74 ] . وقال في جوابهم هنا : { أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } ، أي : له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم ، فيوفقهم ويهديهم سبل السلام ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ، ويهديهم إلى صراط مستقيم . كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [ العنكبوت : 69 ] .
وفي الحديث الصحيح : < إن الله لا ينظر إلى صوركم ، ولا إلى ألوانكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم > . وروى ابن جرير عن عِكْرِمَة قال : جاء عُتْبَةُ بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، ومطعم ابن عدي ، والحارث بن نوفل ، وقرظة بن عبد عَمْرو بن نوفل ، في أشراف من بني عبد مناف ، من الكفار ، إلى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب ! لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وحلفاءنا ، فإنما هم عبيدنا وعُسَافاؤنا -كان أعظم في صدورنا ، وأطوع له عندنا ، وأدنى لاتّباعنا إياه ، وتصديقنا له . فأتى أبو طالب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فحدثه بالذي كلموه به ، فقال عُمَر بن الخطاب : لو فعلت ذلك ، حتى تنظر ما الذي يريدون ، وإلام يصيرون من قولهم ! فأنزل الله عز وجل هذه الآية : { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِم } [ الأنعام : 51 ] . إلى قوله : { أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } . قال : وكانوا : بلال وعمارُ بن ياسر وسالم مولى أبي حذيفة وصبيح مولى أسيد . ومن الحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عَمْرو ، ومسعود بن القاريّ ، وواقد بن عبد الله الحنظليّ ، وعمرو بن عَمْرو ذو الشمالين ، ومرثد بن أبي مرثد - وأبو مرثد بن غنيّ ، حليفُ حمزة بن عبد المطلب - وأشباههم من الحلفاء . ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء : { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم } . . الآية - فلما نزلت أقبل عمر ، فاعتذر من مقالته ، فأنزل الله عز وجل : { وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا } الآية .
تنبيهات وفوائد :
قال بعض المفسرين :
1 - أن الواجب في الدعاء الإخلاص به ، لأنه تعالى قال : { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } - هكذا قال الحاكم - وهكذا جميع الطاعات ، لا تكون لغرض الدنيا ، قال النفس الزكية عليه السلام : إذا دعا الإمام ثم وجد أفضل منه ، وجب عليه أن يسلم الأمر له . فإن لم يفعل ذلك فسق ، لأنه إن لم يفعل دل على أنه طالب للدنيا .
2 - ودلت على أن الغداة والعشي لهما اختصاص بفضل العمل والدعاء ، فلذلك خصهما بالذكر .
3 - ودلت على أن الفضل بالأعمال . وما خرج من المفاضلة من غير أمر الدين ، كالكفاءة في النكاح ، فذلك لمخصص ، نحو قوله عليه السلام : العرب بعضها أكفاء للبعض .
4 - ودلت على أن أحداً لا يؤخذ بذنب غيره وهي كقوله : { ا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [ الأنعام : 164 ] . وقد تقدم ما ذكر فيما ورد أن الميت ليعذَّب ببكاء أهله ، على أن المراد إذا أوصاهم بذلك .
5 - ودلت على أن حديث النفس لا يؤاخذ به ، لأنه قد روي أنه صلى الله عليه وسلم قد همّ بذلك .
6 - ودلت على أن الفقر لا يؤثر في حال المؤمن . وقد ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : < يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم بكذا سنة . > وروي أن آخر من يدخل الجنة من الصحابة عبد الرحمن بن عوف لكثرة ماله . ورُوي أن عليّاً عليه السلام لم يخلف شيئاً بعد وفاته - هكذا في التهذيب -انتهى .
أقول : الحديث الأول ، رواه الترمذيّ عن أبي هريرة وقال : حسن صحيح ، ولفظه : < يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام > ، وأما حديث آخر : < من يدخل الجنة من الصحابة > . . الخ فلم أجده بهذا اللفظ .
وقد روى البزار وأبو نعيم عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : < أول من يدخل الجنة من أغنياء أمتي عبد الرحمن بن عوف . والذي نفس محمد بيده ! لن يدخلها إلا حبواً > . قال السيوطي : إسناده ضعيف - كذا في " منتخب كنز العمال " في ترجمة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ، في " فضائل الصحابة " .
7 - هذا ، وقال ابن الفرس : قد يؤخذ من هذه الآية أن لا يمنع من يذكّر الناس بالله وأمور الآخرة في جامع أو طريق أو غيره . قال : وقد اختلف المتأخرون في مؤذن يؤذن بالأسحار ، ويبتهل بالدعاء ، يردّد ذلك إلى الصباح ، وتأذى به الجيران ، هل يمنع ؟ واستدل ( من قال : لا يمنع ) بهذه الآية ، وبقوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّه } [ البقرة : 114 ] الآية . انتهى .
8 - قرأ ابن عامر : { بِالْغَدَاةِ } بالواو وضم الغين ، هنا وفي سورة الكهف ، والباقون بالألف وفتح الغين ، وهي قراءة الحسن ومالك بن دينار وأبي العطارديّ وغيرهم .
قال أبو عبيد : قرأ ابن عامر وأبو عبد الرحمن السلميّ ( بالغدوة ) ، وقرأ العامة ( بالغداة ) ونراهما قرآ ذلك اتباعاً للخط ، لأنها رسمت في جميع المصاحف بالواو ، كالصلاة ، والزكاة ، وليس ، في إثباتهم الواو في الكتابة ، دليل على أنها القراءة ، لأنهم قد كتبوا ( الصلاة والزكاة ) بالواو ، ولفظهما على تركها ، فكذلك ( الغداة ) ، على هذا وجدنا ألفاظ العرب . انتهى .
وقال أبو علي الفارسي : الوجه قراءة العامة ( بالغداة ) ، لأنها تستعمل نكرة ، فأمكن تعريفها بإدخال لام التعريف عليها . فأما ( غدوة ) فمعرفة ، وهو علم صيغ له ، وحينئذ فيمتنع دخول لام التعريف عليه ، كسائر المعارف ، وكتابتها بالواو لا تدل على قولهم . انتهى .
قال الشهاب مجيباً ومناقشاً : إن ( غدوة ) وإن كان المعروف فيها أنها علم جنس ، ممنوع من الصرف ، ولا تدخله الألف واللام ، ولا تصح إضافته ، فلا تقول : غدوة يوم الخميس - كما قال الفرّاء - ولكنه سمع اسم جنس أيضاً ، منكراً مصروفاً ، فتدخله اللام ، وقد نقله سيبويه في كتابه عن الخليل ، وذكره جم غفير من أهل اللغة والنحو ، فلا عبرة بقول أبي عبيد أن من قرأ بالواو أخطأ ، وأنه اتبع رسم الخط ، لأن الغداة تكتب بالواو ، كالصلاة والزكاة ، وهو علم جنس ، لا تدخله الألف واللام ، والمُخَطِّئُ مُخْطِئٌ ، لما مر . وقد ذكر المبرّد عن العرب تنكيره وصرفه ، وإدخال الألف واللام عليه ، إذا لم يرد غدوة يوم بعينه ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، وكفى بوقوعه في القراءة المتواترة حجة ، فلا حاجة إلى ما قيل : إنه علم ، لكنه نكّر ، لأن تنكير علم الجنس لم يعهد . ولا أنه معرفة ، ودخلته اللام لمشاكلة العشيّ . كما في قوله : رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً ، إذ قال ( اليزيد ) لمجاورة الوليد . ومنه تعلم المشاكلة قد تكون حقيقة . انتهى .
9 - في القاموس : الغدوة بالضم ، البكرة ، أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس كالغداة . والعشيّ والعشية : آخر النهار .
وفي الصحاح : من صلاة المغرب إلى العتمة .
وقال الأزهري : يقع العشي على ما بين الزوال والغروب .
10 - جعل الزمخشري ( ذلك ) إشارة إلى هذا الفتن المذكور ، حيث قال : ومثل ذلك الفتن العظيم ، فتنا بعض الناس ببعض ، أي : ابتليناهم بهم . وعبر عنه بذلك ، إيذاناً بتفخيمه . كقولك : ضربت زيداً ذلك الضرب . ولا يلزم منه تشبيه الشيء بنفسه ، لأن المثل ليس بمراد ، إنما جيء به مبالغة ، كما يقال ( ذلك كذلك ) كذا قرره العلامة . يعني : أن التشبيه كما يجعل كناية عن الاستمرار ، لأن ما له أمثال يستمر نوعه بتجدد أمثاله ، كما أشار إليه شراح الحماسة في قوله :
~هكذا يذهبُ الزمان ويفنى العـ ـلمُ فيه ويُدرسُ الأَثَرُ
والاستمرار يقتضي التحقق والتقرر ويستلزمه ، فجعل في أمثال هذا بواسطة الإشارة إلى البعيد عبارة عن تحقق أمر عظيم . وكونه عظيماً مستفاد من لفظ ( ذلك ) المشار به إلى هذا الفتن القريب المذكور ، وليست الكاف فيه زائدة . ومن قال إنها مقحمة أراد أن التشبيه فيه غير مقصود فيه ، بل المراد لازمه الكنائي أو المجازي . والزمخشري ، لما في هذا الوجه من البلاغة والدقة ، اختاره فيما ورد فيه كذلك - كذا في " العناية " - .
وقال أبو السعود : ( ذلك ) إشارة إلى مصدر ما بعده من الفعل ، ومحله في الأصل النصب على أنه نعت لمصدر مؤكد محذوف . والتقدير : فتنا بعضهم ببعض فتوناً كائناً مثل ذلك الفتون ، والكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة ، فصار نفس المصدر المؤكد ، لا نعتاً له . والمعنى : ذلك الفتون الكاملَ فتناً .
قال الشهاب : هذا الإقحام للمبالغة ، مطرد في عُرْفِي العرب والعجم . انتهى .
وقيل : الكاف ليست بزائدة ، والمشار إليه هو المشبه به ، الأمر المقرر في الذهن ، والمشبه ما دل عليه الكلام من الأمر الخارجي ، والمبالغة إنما يفيدها الإبهام الذهني والتفسير بقوله : { فَتَنَّا } ، وهو ما يعلمه كل أحد من الفَتْنَ مَنْ هو - انظر " العناية " - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 54 ]
قوله تعالى : { وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } : ذهب جماعة من المفسرين إلى أن هؤلاء هم الذين سأل المشركون طردهم وإبعادهم ، فأكرمهم الله بهذا الإكرام .
قال البيضاويّ : وصفهم تعالى بالإيمان بالقرآن ، واتباع الحجج ، بعد ما وصفهم بالمواظبة على العبادة ، وأمره بأن يبدأهم بالتسليم ، أو يبلّغ سلام الله تعالى إليهم ، ويبشرهم بسعة رحمة الله تعالى وفضله ، بعد النهي عن طردهم ، إيذاناً بأنهم الجامعون لفضيلتي العلم والعمل ، ومن كان كذلك ينبغي أن يقرّب ولا يطرد ، ويُُعَز ولا يُذَل ، ويُبشَّر من الله بالسلامة في الدنيا ، والرحمة في الآخرة . انتهى .
وسلف عن ابن جرير أنها نزلت في عمر رضي الله عنه . وأخرج الفريابيّ وابن أبي حاتم عن ماهان ، قال جاء الناس إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا أصبنا ذنوباً عظاماً ، فما ردّ عليهم شيئاً ، فأنزل الله : { وَإِذَا جَاءكَ } . . الآية . ولا يخفى أن الآية تشتمل جميع ذلك ، وربما تتعدد الوقائع المشتركة في حكم واحد ، فتنزل الآية بياناً للكل . وتقدم لنا في مقدمة هذا التفسير ، في بحث سبب النزول ، أن قول السلف : نزلت في كذا ، قد يقصدون به أن واقعته مما يشملها لفظ الآية ، لنزولها إثرها فتذكرْهُ ، وأَجِل فكرك في أطرافه ، فإنه مهم جدّاً . وبمعرفته يندفع إشكال الرازيّ الذي قرره هنا .
وقوله تعالى : { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } أي : أوجبها أي : أوجبها على ذاته المقدسة ، تفضلاً منه وإحساناً وامتناناً .
وقوله : { أَنَّهُ مَن عَمِلَ } الخ بدل من : { الرَّحْمَةِ } . وقرئ بكسر الهمزة على أنه تفسير للرحمة بطريق الاستئناف .
وقوله : { بِجَهَالَةٍ } في موضع الحال ، أي : عمله وهو جاهل ، وفيه معنيان :
أحدهما - أنه فاعل فعل الجهلة ، لأن من عمل ما يؤدي إلا الضرر في العاقبة ، وهو عالم بذلك ، أو ظانّ ، فهو من أهل السفه والجهل ، لا من أهل الحكمة والتدبير ، ومنه قول الشاعر :
~على أنها قالت عشيةَ زُرْتُهَا جهلتَ على عمدٍ ولم تَكُ جَاهِلاً
والثاني - أنه جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرة ، ومن حق الحكيم أن لا يقدم على شيء حتى يعلم حاله وكيفيته - كذا في " الكشاف " - .
فعلى الأول ، الجهل : بمعنى السفه والمخاطرة من غير نظر للعواقب ، كما في قوله :
~فَنَجْهَلَ فَوْقَ جهلِ الجَاهِلِينَا
وكانت العرب تتمدح به ، فلا حاجة لتقدير مفعول .
وعلى الثاني ، المراد : الجهالة بمضار ما يفعله .
وقوله تعالى : { وَأَصْلَحَ } أي : العمل . كقوله : { وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } [ الفرقان : 70 ] . وروى الإمام أحمد والشيحان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما قضى الله على الخلق كتب فيه كتابه ، فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي غلبت غضبي .
تنبيه :
نقل بعض المفسرين عن الحاكم أنه قال : دلت الآية على وجوب تعظيم المؤمنين . ودلت على أنه ينبغي إنزال المسرة بالمؤمن ، لأنه أمر بأن يقول لهم : { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } لتطيب قلوبهم . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } [ 55 ]
{ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ } أي : آيات القرآن ، في صفة المطيعين والمجرمين . ومرّ قريباً الكلام على ( كذلك ) : { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } بتأنيث الفعل بناء على تأنيث الفاعل . وقُرئ بالتذكير بناء على تذكيره ، فإن ( السبيل ) مما يذكر ويؤنث ، وهو عطف على علة محذوفة للفعل المذكور ، لم يقصد تعليله بها بعينها ، وإنما قصد الإشعار بأن له فوائد جمة ، من جملتها ما ذكر . أو علة لفعل مقدّر ، هو عبارة عن المذكور ، فيكون مستأنفاً . أي : ولتستبين سبيلهم نفعل ما نفعل من التفضيل . وقُرئ بنصب ( السبيل ) على أن الفعل متعد ، وتاؤه للخطاب . أي : ولتستوضح أنت ، يا محمد ! سبيل المجرمين ، فتعاملهم بما يليق بهم -أفاده أبو السعود - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [ 56 ]
{ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي : تعبدونه أو تسمونه آلهة . ثم كرر الأمر تأكيداً لقطع أطماعهم بقوله تعالى : { قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ } أي : في عبادة الأصنام ، وطرد من ذكر .
ثم قال البيضاوي : هو إشارة إلى الموجب للنهي . وعلة الامتناع عن متابعتهم ، واستجهال لهم ، وبيان لمبدأ ضلالهم ، وأن ما هم عليه هوى ، وليس بهدى . وتنبيه لمن تحرّى الحق على أن يتبع الحجة ولا يقلد . انتهى . : { قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً } أي : إن اتبعت أهواءكم ، لمخالفة الأمر الإلهي والعقل جميعاً { وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } أي : للحق إن اتبعت ما ذكر . وفيه تعريض بأنهم كذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } [ 57 ]
{ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } أي : على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها إليّ ، لا يمكن التشكيك فيها : { وَكَذَّبْتُمْ بِهِ } استئناف أو حال ، والضمير للبينة . والتذكير باعتبار المعنى المراد . أعني : الوحي ، أو القرآن ، أو نحوهما { مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } أي : من العذاب .
قال أبو السعود : استئناف مبين لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأً لتكذيبهم بالبينة ، وهو عدم مجيء ما وعد فيها من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بقولهم : { مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ يونس : 48 ] ؟ بطريق الاستهزاء ، أو بطريق الإلزام ، على زعمهم . أي : ليس ما تستعجلونه من العذاب الموعود في القرآن ، وتجعلون تأخره ذريعة إلى تكذيبه ، في حكمي وقدرتي ، حتى أجيء به ، وأظهر لكم صدقه . أو ليس أمره بمفوّض إليّ .
{ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } أي : لو كان عندي لكنت أنا الحاكم ، لكن ما الحكم في ذلك تعجيلاً وتأخيراً إلا لله ، وَقَدْ حَكَمَ بتأخيره ، لما له من الحكمة العظيمة ، لكنه محقق الوقوع لأنه : { يَقُصُّ الْحَقَّ } أي : يبينه بياناً شافياً { وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } أي : القاضين بين عباده .
لطيفة :
قُرئ : { يَقُصُّ الْحَقَّ } بالضاد ، وانتصاب الحق على المصدرية ، لأنه صفة مصدر محذوف قامت مقامه . أو على المفعولية ، بتضمين ( يقضي ) معنى ( ينفذ ) ، أو هو متعد من ( قضى الدرع ) إذا صنعها . قال الهذلي :
~وعليها مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا داودُ أو صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّعُ
قال الرازي : واحتج أبو عمر على هذه القراءة بقوله : { وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } قال : والفصل يكون في القضاء ، لا في القصص . وأجاب أبو عليّ الفارسي . فقال : القصص هاهنا بمعنى القول ، وقد جاء الفصل في القول . قال تعالى : { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } [ الطارق : 13 ] . وقال : { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } [ هود : 1 ] وقال : { نُفَصِّلُ الْآياتِ } [ الأعراف : 32 ] . انتهى .
قال الشهاب : معنى ( يقصه ) أي : يبيّنه بياناً شافياً ، وهو عين القضاء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ } [ 58 ]
{ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ } أي : لو أن في قدرتي وإمكاني العذاب الذي تتعجلونه ، بأن يكون أمره مفوضاً إليّ من قبله تعالى ، لقضي الأمر بيني وبينكم ، بأن ينزل ذلك عليكم إثر استعجالكم .
وفي " العناية " : قضي الأمر بمعنى قطع . وقضاؤه كناية عن إهلاكهم .
قال أبو السعود : وفي بناء الفعل للمفعول من الإيذان بتعيين الفاعل ، الذي هو الله تعالى ، وتهويل الأمر ، مراعاة حسن الأدب - ما لا يخفى . فما قيل في تفسيره : لأهلكتكم عاجلاً ، غضباً لربي ، واقتصاصاً من تكذيبكم به ، ولتخلصت سريعاً - بمعزل من توفية المقام حقه .
وقوله تعالى : { وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ } اعتراض مقرر لما أفادته الجملة الامتناعية ، من انتفاء كون أمر العذاب مفوضاً إليه صلى الله عليه وسلم ، المستتبع لانتفاء قضاء الأمر ، وتعليل له . والمعنى : والله تعالى أعلم بحال الظالمين ، وبأنهم مستحقون للإمهال بطريق الاستدراج ، لتشديد العذاب ، ولذلك لم يفوض الأمر إليّ ، فلم يقض الأمر بتعجيل العذاب . انتهى .
تنبيه :
قال ابن كثير : فإن قيل : فما الجمع بين هذه الآية ، وبين ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ فقال : < لقد لقيت من قومك ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي ، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني . فنظرت فإذا فيها جبريل ، فناداني فقال : إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك ، وما ردوا عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ، قال فناداني ملك الجبال ، وسلّم عليّ ، ثم قال يا محمد ! إن الله قد سمع قول قومك لك . وأنا ملك الجبال . وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك . فما شئت ؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبْين ! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً > .
وهذا لفظ مسلم . فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم فاستأناهم ، وسأل لهم التأخير ، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئاً .
فالجواب : - والله أعلم - أن هذه الآية دلت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبونه ، حال طلبهم له ، لأوقعه بهم . وأما الحديث فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم ، بل عرض عليه ملك الجبال أنه ، إن شاء أطبق عليهم الأخشبين ، وهما جبلا مكة ، يكتنفانها جنوباً وشمالاً ، فلهذا استأني بهم وسأل الرفق لهم . انتهى .
ثم بيّن تعالى اختصاص المقدورات الغيبية به ، من حيث العلم ، إثر بيان اختصاص جميعها به تعالى من حيث القدرة ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ 59 ]
{ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ } جمع ( مفتح بكسر الميم ، وهو المفتاح ) وقُرئ : { مَفَاتِحُ الْغَيْبِ } شبه بالأمور الجليلة التي يستوثق منها بالأقفال ، وأثبت لها المفاتح تخييلاً .
وقوله تعالى : { لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ } تأكيد لمضمون ما قبله ، وإيذان بأن المراد الاختصاص من حيث العلم . والمعنى : ما تستعجلونه من العذاب ليس مقدوراً لي ، حتى ألزمكم بتعجيله ، ولا معلوماً لديّ لأخبركم بوقت نزوله ، بل هو مما يختص به تعالى قدرة وعلماً ، فينزله حسبما تقتضيه مشيئته ، المبنية على الحكم والمصالح -أفاده أبو السعود - .
ثمّ لما بين تعالى علمه بالمغيبات ، تَأثَّرَهُ بالمشاهدات ، على اختلاف أنواعها ، وتكثر أفرادها بقوله : { وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } من الخلق والعجائب . ثم بالغ في إحاطة علمه بالجزئيات الفائتة للحصر بقوله سبحانه : { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } أي : مكتوب ومحفوظ في العلم الإلهي .
تنبيهات :
الأول -قال الحاكم : دل قوله تعالى : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ } على بطلان قول الإمامية : إن الإمام يعلم شيئاً من الغيب . انتهى .
وفي " فتح البيان " : في هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين والرملّيِين وغيرهم من مدّعي الكشف والإلهام ، ما ليس من شأنهم ، ولا يدخل تحت قدرتهم ، ولا يحيط به عملهم . ولقد ابتلى الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة , الأنواع المخذولة , ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم بغير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم : < من أتى كاهناً أو منجماً فقد كفر بما أنزل على محمد > .
قال ابن مسعود : أوتي نبيكم كل شيء إلا مفاتيح الغيب .
قال ابن عباس : إنها الأقدار والأرزاق .
وقال الضحاك : خزائن الأرض , وعلم نزول العذاب .
وقال عطاء : هو ما غاب عنكم من الثواب والعقاب .
وقيل : هو انقضاء الآجال , وعلم أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمالهم . واللفظ أوسع من ذلك . وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله تعالى . لا يعلم أحد ما يكون في غد إلا الله , ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله . ولا تعلم نفس ماذا تكسب غداً . ولا تدري نفس بأي أرض تموت . ولا يدري أحد متى يجيء المطر > - أخرجه البخاري - وله ألفاظ . وفي رواية : < ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله > . انتهى .
الثاني -قُرئ ( ولا حبةٌ ولا رطبٌ ولا يابسٌ ) بالرفع ، وفيه وجهان : أن يكون عطفاً على محل ( من ورقة ) وأن يكون رفعاً على الابتداء ، وخبره : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } كقولك : لا رجل منهم ولا امرأة إلا في الدار - كذا في " الكشاف " - .
الثالث -ما أسلفناه في " الكتاب المبين " من أنه ( اللوح المحفوظ ) هو المتبادر من إطلاقه أينما ورد . وقيل : الكتاب المبين علم الله تعالى . والأظهر الأول .
قال الزجاج : يجوز أن يكون الله جل ثناؤه أثبت كيفية المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق ، كما قال عز وجل : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } [ الحديد : 22 ] . وفائدة هذا الكتاب أمور :
أحدها - أنه تعالى إنما كتب هذه الأحوال في اللوح المحفوظ لتقف الملائكة على نفاذ علم الله تعالى في المعلومات ، وأنه لا يغيب عنه مما في السماوات والأرض شيء . فيكون ذلك عبرة تامة كاملة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ ، لأنهم يقابلون به ما يحدث في صحيفة هذا العالم ، فيجدونه موافقاً له .
وثانيها - يجوز أن يقال : إنه تعالى ذكر ما ذكر ، من الورقة والحبة ، تنبيهاً للمكلفين على أمر الحساب ، وإعلاماً بأنه لا يفوته من كل ما يصنعون في الدنيا شيء ، لأنه إذا كان لا يهمل الأحوال التي ليس فيها ثواب ولا عقاب ولا تكليف ، فبأن لا يهمل الأحوال المشتملة على الثواب والعقاب أولى .
وثالثها - أنه تعالى علم أحوال جميع الموجودات ، فيمتنع تغييرها عن مقتضى ذلك العلم ، وإلا لزام الجهل ، فإذا كتب أحوال جميع الموجودات في ذلك الكتاب على التفصيل التام ، امتنع أيضاً تغييرها ، وإلا لزم الكذب ، فتصير كِتْبَةُ جملة الأحوال في ذلك الكتاب موجباً تامّاً ، وسبباً كاملاً في أنه يمتنع تقدم ما تأخر ، وتأخر ما تقدم ، كما قال صلوات الله عليه : < جف القلب بما هو كائن إلى يوم القيامة > . انتهى .
الرابع - روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا } قال : ما من شجرة في بر ولا بحر ، إلا مَلَك موكل بها ، يكتب ما يسقط منها .
وأخرج أيضاً عن عبد الله بن الحارث قال : ما في الأرض من شجرة ، ولا كمغرز إبرة ، إلا عليها ملك موكل يأتي الله بعلمها . يبسها إذا يبست ورطوبتها إذا ركبت . وكذا رواه ابن جرير .
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : خلق الله النون وهي الدواة ، وخلق الألواح ، فكتب فيها أمر الدنيا حتى تنقضي ، ما كان من خلق مخلوق ، أو رزق حلالٍ أو حرام ، أو عمل بر أو فجور ، وقرأ هذه الآية : { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ } إلى آخر الآية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ 60 ]
{ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ } أي : يُنيمكم فيه . استُعير ( التوفي ) من الموت للنوم ، لما بينهما من المشاركة في زوال الإحساس والتمييز ، فإن أصله قبض الشيء بتمامه .
{ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ } أي : فيه : وتخصيص الليل بالنوم ، والنهار بالكسب ، جرياً على المعتاد { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ } أي : يوقظكم . أطلق البعث ترشيحاً للتوفي : { فِيهِ } أي : في النهار : { لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً } أي : ليتم مقدار حياة كل أحد .
{ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } أي : رجوعكم بالبعث بعد الموت { ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : في ليلكم ونهاركم ، بالمجازاة عليه ، مبالغة في عدله .
تنبيهان :
الأول -ظاهر الخطاب في الآية على العموم . وخصه في " الكشاف " بالكفرة ، ذهاباً إلى أن قوله : { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ } يدل على تهديد شديد ، لا يليق إلا بالمعاندين الجاحدين ، وأن المقصود بيان حالهم المذمومة في الليل ، كما أن قوله : { مَا جَرَحْتُم } بيان حالهم المذمومة في النهار . وحمل ( البعث ) لا على الإيقاظ ، بل على البعث من القبور . وفي ( فيه ) بمعنى ( من أجله ) كقولك : فيم دعوتني ؟ فتقول : في أمر كذا ، والمعنى : أنكم ملقَوْنَ كالجيف بالليل كاسبون للآثام بالنهار . وأنه تعالى مطلع على أعمالكم ، يبعثكم من القبور في شأن ما قطعتم به أعماركم ، من النوم بالليل ، وكسب الآثام بالنهار ليقضي الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى ، وجزائهم على أعمالهم . والذي حمله على ذلك . زعمه أن قوله : { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ } دالّ على حال اليقظة ، وكسبهم فيها . وكلمة : { ثُمَّ } تقضي تأخير البعث عنها .
قال شراحه : ولا يخفى ما فيه من التكلف ، وأنه لا حاجة إليه ، لأن قوله : { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ } إشارة إلى ما كسب في النهار السابق على ذلك الليل ، ولا دلالة فيه على الإيقاظ من هذا التوفي ، وأن الإيقاظ متأخر عن التوفي . وإن قولنا ( يفعل ذلك التوفي لنقضي مدة الحياة المقدرة ) كلام منتظم غاية الانتظام .
الثاني -قال الشريف المرتضى في " الدرر والغُرر " فيما وقع من القرآن من ذكر الرجوع إلى الله نحو : { وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الامُورُ } و [ في المطبوع : إليه تُرْجَعُ الامُورُ ] : كيف ترجع إليه ، وهي لم تخرج من يده ؟ وأجاب : بأنه في دار التكليف قد يغير البعض ، فيضيف بعض أفعاله تعالى إلى غيره . فإذا انكشف الغطاء ، انقطعت حبال الآمال عن غيره ، فيرجع إليه . أو أن المراد أن الأمور في يده من غير خروج ورجوع حقيقيّ . فـ ( رجع ) بمعنى ( صار ) . تقول العرب : رجع عليّ من فلان مكروه ، بمعنى صار ، ولم يكن سبق . فهو بمعنى المصير إليه ، كما تشهد به اللغة . أو أنه في دار الدنيا ما يكون للعباد ظاهرا كالعبد لسيده ، فإذا أفضى الأمر إلى الآخرة ، زال ذلك ، ورجع الأمر كله إلى الله ، ظاهراً وباطناً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } [ 61 ]
{ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } قد مرّ تفسيره ، وأنه المتصرف في أمورهم لا غيره ، يفعل بهم ما يشاء . . : { وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً } أي : ملائكة تحفظ أعمالكم وتحصيها ، وهم الْكرَامَ الكَاتِبُونَ ، كقوله تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ } [ الانفطار : 10 ] وقوله : { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ } [ ق : 17 ] الآية .
لطيفة :
الحكمة في ذلك أن المكلف إذا علم أن أعماله تكتب عليه ، وتعرض على رؤوس الأشهاد ، كان أزجر عن المعاصي . وأن العبد إذا وثق بلطف سيده ، واعتمد على عفوه وستره ، لم يحتشم منه احتشامه من خدمه المطلعين عليه - أفاده القاضي .
{ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } أي : أسبابه ومباديه : { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } أي : ملائكة موكلون بذلك { وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ } أي : بالتواني والتأخير . وقال ابن كثير : أي : في حفظ روح المتوفى ، بل يحفظونها ويتركونها حيث شاء الله عز وجل ، إن كان من الأبرار ففي علِّيين ، وإن كان من الفجار في سجِّين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } [ 62 ]
{ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ } أي : الذي يتولى أمورهم . و ( الْحَقِّ ) : العدل الذي لا يحكم إلا بالحق . قال ابن كثير الضمير للملائكة . أو للخلائق المدلول عليهم بـ ( أحد ) . والإفراد أولاً ، والجمع آخراً لوقوع التوفي على الانفراد ، والرد على الاجتماع . أي : ردوا بعد البعث ، فيحكم فيهم بعدله ، كما قال : { قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } [ الواقعة : 49 - 50 ] . وقال : { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } [ الكهف : 47 ] . إلى قوله : { وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } ولهذا قال : { مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ } .
{ أَلا لَهُ الْحُكْمُ } يومئذ لا حكم فيه لغيره { وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } يحاسب الخلائق في أسرع زمان .
فوائد :
الأولى - قال ابن كثير : ونذكر ههنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : < إن الميت تحضره الملائكة ، فإذا كان الرَجَل الصالحَ ، قالوا : اخرجي أيتها النفس الطيبة ، كانت في الجسد الطيب ، اخرجي حميدة وابشري بروح وريحان ، ورب غير غضبان . فلا يزال يقال ذلك حتى تخرج . ثم يعرج بها إلى السماء ، فيستفتح لها ، فيقال : من هذا ؟ فيقال فلان . فيقولون مرحباً بالنفس الطيبة ، كانت في الجيد الطيب ، ادخلي حميدة ، وابشري بروح وريحان ، ورب غير غضبان ، فلا زال يقال لها حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل . وإذا كان الرَجل السوءَ ، قالوا اخرجي أيتها النفس الخبيثة ، كانت في الجسد الخبيث ، اخرجي ذميمة ، وابشري بحميم وغساق ، وآخر من شكله أزواج . فلا يزال حتى تخرج ، ثم يعرج بها إلى السماء ، فيستفتح لها ، فيقال : من هذا ؟ فيقال فلان ! فيقال : لا مرحباً بالنفس الخبيثة ، كانت في الجسد الخبيث . ارجعي ذميمة ، فإنه لا يفتح لك أبواب السماء ، فترسل من السماء ، ثم تصير إلى القبر . فيجلس الرجل الصالح ، فيقال له مثل ما قيل في الحديث الأول ، ويجلس الرجل السوء > . فيقال له ما قيل في الحديث الأول . قال الحافظ ابن كثير : هذا حديث غريب .
الثانية - قال بعض أهل الكلام : إن لكل حاسة من هذه الحواس روحاً تقيض عند النوم ، ثم ترد إليها إذا ذهب النوم . فإما الروح التي تحيا بها النفس ، فإنها لا تقبض إلا عند انقضاء الأجل . والمراد بالأرواح ، المعاني والقوى التي تقوم بالحواس ، ويكون بها السمع والبصر ، والأخذ والمشيء والشم ، ومعنى : { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } أي : يوقظكم ، ويرد إليكم أرواح الحواس ، فيستدل به على منكري البعث ، لأنه بالنوم يُذهب أرواح هذه الحواس ، ثم يردها إليها . فكذا يحيى الأنفس بعد موتها - نقله النسفي - .
الثالثة - قال الخازن : فإن قلت : قال الله في آية : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } [ الزمر : 42 ] . وقال في آية أخرى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُم } [ السجدة : 11 ] . وقال هنا : { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } ، فكيف الجمع بين هذه الآيات ؟ .
قلت : وجه الجمع أن المتوفي في الحقيقة هو الله تعالى . فإذا حضر أجل العبد ، أمر الله ملك الموت بقبض روحه ، ولملك الموت أعوان من الملائكة ، يأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده . فإذا وصلت إلى الحلقوم ، تولى قبضها ملك الموت نفسه ، فحصل الجمع .
قال مجاهد : جعلت الأرض لملك الموت ، مثل الطشت ، يتناول من حيث شاء وجعلت له أعوان ينزعون الأنفس ثم يقبضها منهم . انتهى .
ثم أمر تعالى أن يبكَّت المشركين بانحطاط شركائهم عما زعموا لها ، بأنهم يخصون الحق تعالى بالالتجاء إليه عند الشدائد بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } [ 63 ]
{ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ } أي : شدائده ، كخوف العدوّ ، وضلال الطريق { وَالْبَحْرِ } كخوف الغرق ، والضلال ، وسكون الريح . استعيرت الظلمة للشدة ، لمشاركتهما في الهول ، وإبطال الأبصار ، ودهش العقول . يقال لليوم الشديد : يوم مظلم ، ويوم ذو كواكب . أي : اشتدت ظلمته حتى عاد كالليل ، وظهرت الكواكب فيه .
{ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً } أي : تذللاً إليه ، تحقيقاً للعبودية { وَخُفْيَةً } بضم الخاء ، وقرئ بكسرها . أي : سراً ، تحقيقاً للإخلاص { لَئِنْ أَنْجَانَا } حال من الفاعل بتقدير القول . أي : قائلين ، وعداً بالشكر ، لئن أنجيتنا : { مِنْ هَذِهِ } أي : الشدة المعبر عنها بالظلمات { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } أي : لك ، باعتقاد أنك المخصوص بالثناء الجميل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ } [ 64 ]
ثم أمره تعالى بالجواب تنبيهاً على ظهوره وتعينه عندهم ، أو إهانة لهم إذ لا يلتفتون لخطابه بقوله : { قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ } أي : من غير شفاعة أحد ولا عون { ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ } أي : ثم أنتم بعد ما تشاهدون من النجاة عنها ، الموعود فيها بالشكر وعداً وثيقاً بالقسم ، تشركون ، بعبادته والثناء عليه ، غيره . وتنسبون النجاة الحاصلة بعد تخصيصه بالدعوة ، إلى شفاعة الشريك ، فقد جعلتم الشرك مكان الشكر .
تنبيهات :
الأول - ما قدمناه من أن ظلمات : { الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } مجاز عن مخاوفها وأهوالها ، هو ما قاله المحققون .
قال الرازي ومنهم من حمله على حقيقته فقال : أما ظلمات البحر ، فهي أن تجتمع ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة السحاب ، ويضاف الرياح الصعبة ، والأمواج الهائلة إليها ، فلم يعرفوا كيفية الخلاص ، وعَظُمَ الخوف ، وأما ظلمات البر ، فهي ظلمة الليل ، وظلمة السحاب ، والخوف الشديد من هجوم الأعداء والخوف الشديد من عدم الاهتداء إلى طريق الصواب . والمقصود أن عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد ، لا يرجع الإنسان إلا إلى الله تعالى . وهذا الرجوع يحصل ظاهراً وباطناً ، لأن الإنسان في هذه الحالة يعظم إخلاصه في حضرة الله تعالى . وينقطع رجاؤه عن كل ما سوى الله تعالى . وهو المراد من قوله : { تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } . فبين تعالى أنه إذا شهدت الفطرة السليمة ، والخلقة الأصلية في هذه الحالة ، بأنه لا ملجأ إلا الله ، ولا تعويل إلا على فضل الله ، وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات . ولكنه ليس كذلك ، فإن الإنسان بعد الفوز بالسلامة والنجاة . يحيل تلك السلامة إلى الأسباب ، ويقدم على الشرك . ومن المفسرين من يقول : كالمقصود من هذه الآية الطعن في إلهية الأصنام والأوثان .
ثم قال الرازيّ رحمه الله ، وأنا أقول : التعلق بشيء مما سوى الله في طريق العبودية ، يقرب من أن يكون تعلقاً بالوثن ، ولذلك فإن أهل التحقيق يسمونه بالشرك الخفي . انتهى .
الثاني -قال بعض المفسرين : دل قوله تعالى : { تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } على أن دعاء السرّ أفضل . قيل : وكان جهر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالدعاء ليعلّم غيره . انتهى .
وهذا بناء على أن قوله تعالى : { تَضَرُّعاً } تذللاً ، لا جهراً . وكثير من المفسرين ذهب إلى أن المعنى جهراً وسراً ، ولعله الصواب . فإن العيان يؤيده ، إذ لا يتمالك من اشتد عليه الأمر ، وأظلم عليه طريق الخلاص ، على الاقتصار على دعاء السر وحده -والله أعلم - .
وفي القاموس وشرحه : تضرع إلى الله تعالى ، أي : ابتهل وتذلل . وقيل : أظهر الضراعة ، وهي شدة الفقر والحاجة إلى الله تعالى . ومنه قوله تعالى : { تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } أي : مظهرين الضراعة ، وحقيقة الخشوع . انتهى .
الثالث - المراد بالكرب ما يعم ما تقدم ، ولا محذور في التعميم بعد التخصيص ، لكثرة وروده . أو ما يعتري المرء من العوارض النفسية التي لا تتناهى ، كالأمراض والأسقام ، وما قيل : إن المراد بالأول كرب مخصوص ، أو الأولى نعمة رفع ، وهذه نعمة دفع ، وأنه من قبيل ( متقلداً سيفاً ورمحاً ) - تكلف لا داعي له - كذا في " العناية " - .
الرابع -وضع ( تشركون ) ، موضع ( لا تشركون ) الذين هو مقتضى الظاهر المناسب لقوله : { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } لأن إشراكهم تضمن عدم صحة عبادتهم ، وشكرهم لأنه عبادة ، بل نفيها لعدم الاعتداد بها معه . إذ التوحيد ملاك الأمر ، وأساس العبادة ، فوضعه موضعه توبيخاً لهم ، لعدم الوفاء بالعهد . ولم يذكر متعلقه لتنزيله منزلة اللازم ، تنبيهاً على استبعاد الشرك في نفسه - كذا في " العناية " - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } [ 65 ]
{ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ } قال المهايمي : أي : قل للمشركين بعد النجاة الموعود فيها بالشكر : إنما أشركتم لأمنكم من الشدائد ، لكن لا وجه للأمان منها ، لاستمرار منشأ الخوف ، وهو القدرة الإلهية على أنواع الشدائد من الجهات كلها . إذ هو القادر على إرسال عذاب أعظم من تلك الشدة من فوقكم ، كإمطار النار أو الحجارة ، أو إسقاط السماء .
{ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } كالخسف والطوفان { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } أي : يخلطكم فرقاً خلط اضطراب ، فيجعلكم متحزبين مختلفين في القتال ، بأن يقوي أعداءكم : { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ } أي : شدة : { بَعْضٍ } يعني : يسلط بعضكم على بعض بالقتل والتعذيب .
{ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ } أي : نحوِّلها من نوع إلى آخر { لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } أي : يفهمون ويعتبرون ، فيكفوا عن كفرهم وعنادهم .
تنبيهان :
الأول - روى البخاري عن جابر رضي الله عنه قال . لما نزلت هذه الآية : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أعوذ بوجهك ! : { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال : أعوذ بوجهك ! : { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قال : هذا أهون ، أو أيسر > .
قال الحافظ ابن حجر : وقد روى ابن مردويه من حديث ابن عباس ما يفسر به حديث جابر ، ولفظه : عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < دعوت الله أن يرفع عن أمتي أربعاً ، فرفع عنهم اثنتين ، وأبى أن يرفع عنهم اثنتين . دعوت الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء والخسف من الأرض ، وأن لا يلبسهم شيعاً ، ولا يذيق بعضهم بأس بعض ؛ فرفع الله عنهم الخسف والرجم ، وأبى أن يرفع عنهم الأخريين > . فيستفاد من هذه الرواية بقوله : { مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } ، ويستأنس له أيضاً بقوله تعالى : { أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُم } [ الإسراء : 68 ] .
وروى الإمام مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه أقبل مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم من العالية ، حتى إذا مرّ بمسجد بني معاوية ، دخل فركع فيه ركعتين ، وصلينا معه ودعا ربه طويلاً ، ثم انصرف إلينا فقال : < سألت ربي ثلاثاً ، فأعطاني ثنتين ، ومنعني واحدة . سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة ، فأعطانيها . وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق ، فأعطانيها . وسألت ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم ، فمنعنيها > .
وروى الإمام أحمد من حديث أبي بصرة نحوه ، لكن قال ( بدل خصلة الإهلاك ) . أن لا يجمعهم على ضلالة . وكذا الطبري من مرسل الحسن .
قال الخفاجي : فإن قلت : كيف أجيبت الدعويان ، وسيكون خسف بالمشرق وخسف بجزيرة العرب ؟ أي : كما رواه الترمذي وغيره ؟ قلت : الممنوع خسف مستأصل لهم ، وأما عدم إجابته في بأسهم ، فبذنوب منهم ، ولأنهم بعد تبليغه صلى الله عليه وسلم لهم ، ونصيحته لهم ، لم يعملوا بقوله . انتهى .
وقد روى أحمد والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ } . . الخ . فقال : < أما إنها كائنة ، ولم يأت تأويلها بعدُ > . قال الحافظ ابن حجر : وهذا يحتمل أن لا يخالف حديث جابر ، بأن المراد بتأويلها ما يتعلق بالفتن ونحوها . انتهى . أي : مما ستصدق عليها الآية ، ولما تقع بالمسلمين . فقوله : إنها كائنة ، أي : في المسلمين ، لا أنها خطاب لهم ، ونزولها فيهم -كما وهم -إذ يدفعه السياق والسباق ، وتتمة الآية -كما لا يخفى -وسنزيده بياناً .
الثاني - ما روي عن ابن عباس من أنه كان يقول في قوله تعالى : { عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ } يعني أئمة السوء و : { مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } يعني : خدم السوء . رواه ابن جرير وابن أبي حاتم . فإن صح إنه ، فمراده أن لفظ الآية مما يصدق على ذلك . لأن العذاب كل ما مرّ ( من المرارة ) على النفس ، وشق عليها ، لا أن ذلك هو المراد من الآية . لنبوه عن مقام التهويل ، في شديد الوعيد ، ولخفاء الكناية عن ذلك من جوهر اللفظ ، ولعدم موافقته لنظائر الآية في هذا الباب - كما لا يخفى .
والظاهر أن السلف كانوا يبلون بعض الآيات في بعض المقامات ، إشعاراً بأن معناها يحاكي تلك الواقعات ، لا أنها نزلت في تلك القضيات . ومن ذلك قول أبيّ بن كعب ، قال في هذه الآية : هن أربع خلال ، كلهن واقع ، منها ثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين : { يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } : { في المطبوع أُلْبِسُوا شِيَعاً } و ( ذَاقَ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) ، وبقيت اثنتان لا بد منهما الرجم والخسف - رواه الإمام أحمد وغيره - وقد أعلّ هذا الأثر بأن أبيّاً لم يدرك خمس وعشرين من الوفاة النبوية ، وكأن التقييد بذلك من كلام أبي العالية ، رواية عنه . وبالجملة ، فاستشهاد السلف بالآيات في بعض الشؤون ، للإشعار المذكور - مما لا ينكر ، فافهم ذلك ، فإنه ينفعك في مواطن كثيرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ } [ 66 ]
قوله تعالى : { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ } أي : بالقرآن المجيد : { وَهُوَ الْحَقُّ } أي : الكتاب الصادق في كل ما نطق به { قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } أي : لم يفوض إليّ أمركم فأمنعكم من التكذيب ، وأجبركم على التصديق . إنما أنا منذر ، وقد بلغت . وبعضهم أرجع الضمير في ( بِهِ ) للعذاب . أي : كذب بالعذاب الموعود ، قومُك المعاندون ، وهو الواقع لا محالة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ 67 ]
{ لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ } أي : لكل خبر عظيم وقت استقرار ، لصدقه أو كذبه { وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أي : مستقر هذا النبأ ومآله ، وأن العاقبة له ، كما قال تعالى : { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ 68 ]
{ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ } أي : بالطعن والاستهزاء { فِي آيَاتِنَا } أي : المنسوبة إلى مقام عظمتنا ، التي حقها أن تعظم بما يناسب عظمتنا . والموصول كناية عن مشركي مكة ، فقد كان ديدنهم ذلك { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي : فلا تجالسهم ، وقم عنهم { حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } أي : حتى يأخذوا في كلام آخر ، غير ما كانوا فيه من الخوض في آياتنا .
{ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ } بأن يشغلك فتنسى النهي عن مجالستهم { فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي : إن ينسينّك الشيطان ، فجلست معهم ، فلا تؤاخذ به ، لكن إذا ذكرت النهي ، فلا تقعد معهم ، لأنهم ظالمون بالطعن في الكلام المعجز ، عناداً .
وفي الحديث : < إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه > - رواه الطبرانيّ عن ثوبان مرفوعاً . وإسناده صحيح - وهذه الآية هي المشار إليها في قوله تعالى : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُم } الآية . لأن في حضور المنكَر مع إمكان التباعد عنه ، مشاركة لصاحبه .
فوائد :
قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآية وجوب اجتناب مجالس الملحدين ، وأهل اللغو ، ويستدل بها على أن الناسي غير مكلف ، وأنه إذا ذكر عاد إليه التكليف ، فيعفى عما ارتكبه في حال نسيانه . ويندرج تحت ذلك مسائل كثيرة في العبادات والتعليقات . انتهى .
وقال الرازي : ومن الحشوية من استدل بهذه الآية في النهي عن الاستدلال والمناظرة في ذات الله تعالى وصفاته . قال : لأن ذلك خوض في آيات الله ، والخوض في آيات الله حرام بدليل هذه الآية .
والجواب عنه : أن المراد من الخوض في الآية الشروع في الطعن والاستهزاء . فسقط هذا الاستدلال - والله أعلم - .
وقال بعض مفسري الزيدية - ثمرة الآية أحكام :
الأول -وجوب الإعراض عن مجالس المستهزئين بآيات الله أو بحججه أو برسله ، وأن لا يقعد معهم ، لأن في القعود إظهار عدم الكراهة ، وذلك لأن التكليف عامّ لنا ، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يجب الإعراض ، وترك الجلوس معهم ، إذا لم يطمع في قبولهم ، فإذا انقطع طمعه إذاً ، فلا فائدة في دعائهم . ويجب القيام عن مجالسهم إذا عرف أن قيامه يكون سبباً في ترك الخوض ، وأنهم إنما يفعلونه مغايظة للواقف ، إذ كان وقوفه يوهم عدم الكراهة .
الحكم الثاني - جواز مجالسة الكفار ، مع عدم الخوض ، لأنه إنما أمرنا بالإعراض مع الخوض . وأيضاً فقد قال تعالى : { حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } . قال الحاكم : والآية تدل أيضاً على المنع من مجالسة الظلمة والفسقة ، إذا أظهروا المنكرات ، وتدل على إباحة الدخول عليهم لغرض ، كما يباح للتذكير . وفي الآية أيضاً دلالة على وجوب الإنكار ، لأن الإعراض إنكار . قال : وتدل على أن التقية من الأنبياء والأئمة بإظهارهم المنكر لا تجوز ، خلاف الإمامية ، وتدل على جواز النسيان على الأنبياء .
الحكم الثالث - أن الناسي مرفوع عنه الحرَج ، فإن قيل : النسيان فعل الله ، فِلمَ أضيف إلى الشيطان ؟ أجيب : بأن السبب من الشيطان ، وهو الوسوسة والإعراض عن الذكر ، فأضيف إليك لذلك . كما أن من ألقى غيره في النار فمات ، يقال ، إنه القاتل ، وإن كان الإحراق فعل الله ، واختلف في النسيان ما هو ؟ فقال الحاكم : هو معنى يحدثه الله في القلب . وقال أبو هاشم وأصحابه : ليس بمعنى ، وإنما هو زوال العلم الضروريّ الذي جرت العادة بحصوله . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ 69 ]
{ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } أي : وما يلزم المتقين الذين يجالسونهم شيء عما يحاسبون عليه من حوضهم { وَلَكِنْ ذِكْرَى } أي : ولكن أمروا بالإعراض عنهم ، ليكون ذكرى لضعفاء المسلمين ، لئلا يقع شيء من مطاعن المستهزئين في قلوبهم { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي : يبلغ مبلغ التوقي من شبهاتهم ، بالجلوس مع علمائه بدلهم .
تنبيهان :
الأول - ما ذكرناه في معنى الآية ، هو ما قرره المهايميّ رحمه الله تعالى . وقيل : المعنى : ولكن على المتقين أن يذكروهم ذكرى إذا سمعوهم يخوضون ، بالقيام عنهم ، وإظهار الكراهة لهم وموعظتهم ، لعلهم يتقون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم ، فلا يعودون إليه ، وجوزوا أن يكون الضمير : { لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } ، أي : يذكرونهم رجاء أن يثبتوا على تقواهم ، أو يزدادوها . انتهى .
وما ذكرناه أسدّ وأوجه .
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ، قال في الآية : أي : ما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلت ذلك . أي : إذا تجنبتهم ، وأعرضت عنهم . وعليه فالموصول كناية عن النبيّ صلى الله عليه وسلم . التفت به تعظيماً وتكريماً .
الثاني - قال السيوطي في " الإكليل " : قد يستدل بقوله تعالى : { وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ } . . الخ على أن من جالس أهل المنكر ، وهو غير راض بفعلهم ، فلا إثم عليه . لكن آية النساء تدل على أنه آثم ، ما لم يفارقهم ، لأنه قال : { إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُم } [ النساء : 140 ] . أي : إن قعدتم فأنتم مثلهم في الإثم ، وهي متأخرة . فيحتمل أن تكون ناسخة لهذه كما ذهب إليه قوم منهم السدّي . أقول : المنفيّ في الآية هو لحوق شيء من وبال الخائضين ، وإثم كفرهم لمجالسيهم المتقين ، فلا ينافي ذلك لحوق وبال المجالسة على انفرادها ، وهو ما أفادته آية النساء . فالمثلية إذن في مطلق الإثم ، وإن تباين ( ما صدقه ) فيهما ، إذ لا قائل بأن مطلق مجالستهم ردة وكفر . نهم ! لو قيل بأن المثلية محمولة على ما إذا حصل الرضا بشأن مجالستهم ، فلا إشكال إذن . وبالجملة فاستدلال " الإكليل " واهٍ ، ولذا عبر بـ ( قد ) ، ودعوى النسخ أوهى . فتأمل !(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } [ 70 ]
{ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ } أي : الذي كلفوه ودعوا إليه ، وهو دين الإسلام { لَعِباً وَلَهْواً } حيث يخروا به واستهزؤوا : { وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } حيث اطمأنوا بها ، وزعموا أن لا حياة بعدها أبداً ، وأن السعادة في لذاتها . أي : أعرض عنهم ، ودعوهم ، ولا تبال بتكذيبهم ، وأمهلهم قليلاً ، فإنهم صائرون إلى عذاب عظيم { وَذَكِّرْ بِهِ } أي : ذكر الناس بهذا القرآن : { أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ } أي : مخافة أن تسلم إلى الهلاك ، وترتهن بسوء كسبها . وغرورها بإنكار الآخرة . يقال : أبسله لكذا : عرضه ورهنه ، أو أسلمه للهلكة { لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ } ينصرها بالقوة : { وَلا شَفِيعٌ } يدفع عنها بالمسألة .
{ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا } أي : وإن تفد كل نوع من أنواع الفداء ، بما يقابل العذاب ، لا يقبل منها ، لبعدهم عن مقام الفداء . والعدل : الفدية ، لأن الفادي يعدل المفدى بمثله .
{ أُولَئِكَ } إشارة إلى المتخذين دينهم لعباً ولهواً : { الَّذِينَ أُبْسِلُوا } أي : سلموا للهلاك ، بحيث لا يعارضه شيء { بِمَا كَسَبُوا } بهذا الاغترار من إنكار الآخرة معها ، والانهماك في الشهوات المحرمة { لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ } أي : ما ء مغليّ يتجرجر في بطونهم ، وتقطع به أمعاؤهم { وَعَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : بنار تشتعل بأبدانهم { بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } أي : بسبب كفرهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 71 ]
{ قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا } أي : أنعبد من دونه ما لا يقدر على نفعنا ، إن دعوناه ، ولا ضرنا إن تركناه { وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا } عطف على ( ندعو ) ، داخل في حكم الإنكار والنفي . أي : ونرد إلى الشرك . والتعبير عنه بالرد على الأعقاب - لزيادة تقبيحه بتصويره بصورة ما هو عَلَمٌ في القبح ، مع ما فيه من الإشارة إلى كون الشرك حالة قد تركت ونبذت وراء الظهر - أفاده أبو السعود - .
{ بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ } أي : للإسلام والتوحيد ، وأنقذنا من عبادة الأصنام ، فنصير كالمستمر على الضلال ، بل : { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ } أي : استمالته عن الطريق الواضح مردة الجن { فِي الْأَرْضِ } القفر المهلكة { حَيْرَانَ } أي : تائهاً ضالاً عن الجادّة ، لا يدري كيف يصنع { لَهُ } أي : لهذا المستهوى : { أَصْحَابٌ } أي : رفقة : { يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى } أي : إلى الطريق المستقيم { ائْتِنَا } على إرادة القول ، أي : يقولون ائتنا . أي : وهو قد اعتسف المهمة ، تابعاً للشياطين ، لا يجيبهم ولا يأتيهم . فشبه حال من خلص من الشرك ، ثم عاد له ، بحال من ذهب به المردة في مهمه بعد ما كان على الجادة ، ولا يدري مقصده الذي هو سائر إليه ، مع وجود رفقة تناديه لتهديه ، وهو لا يسمع لهم { قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ } أي : الذي أرسل به رسله { هُوَ الْهُدَى } أي : وما وراءه ضلال وغيّ { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [ 72 ]
{ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ } أي : في مخالفة أمره { وَأَنْ أَقِيمُوا } عطف على : { لِنُسْلِمَ } . ومعناه : أن نسلم . فاللام فيه رديفه : { أَنْ } ، أو عطف عليه ؛ واللام تعليلية ، أي : للإسلام ، ولإقامة الصلاة . وفي ورود : { أَقِيمُوا الصَّلاةَ } محكياً بصيغته ، وورود : { نسلم } محكياً بمعناه . احتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم حكى قول الله بمعناه ، دون لفظه . انظر " الانتصاف " .
تنبيه :
في تخصيص الصلاة بالذكر من بين أنواع الشرائع ، وعطفها على الأمر بالإسلام ، وقرنها بالأمر بالتقوى - دليل على تفخيم أمرها ، وعظيم شأنها - ذكره بعض الزيدية - : { وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } [ 73 ]
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ } أي : بالحكمة ، كقوله : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً } [ ص : 27 ] .
وقوله تعالى : { وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ } بيان لقدرته تعالى على حشرهم ، بكون مراده لا يتخلف عن أمره ، وأن قوله هو النافذ والواقع ، والمراد بـ ( القول ) كلمة ( كن ) تحقيقاً أو تمثيلاً . فـ ( قوله الحق ) متبدأ وخبر . و ( يوم ) ظرف لمضمون هذه الجملة . كقوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] .
وكأن قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ } الخ عقب قوله : { وهو الذي إليه تحشرون } سيق للاحتجاج على قدرته تعالى على البعث ، ردّاً على منكري ذلك من المشركين ، الذين السياق فيهم . وما أشبه الآية بقوله تعالى : { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً } [ يس : 81 - 82 ] .
ولا يخفى أن باستحضار النظائر القرآنية ، تنجلي الحقائق . وقد توسع المفسرون هنا في إعراب هذه الجملة ، بسرد وجوهٍ ضاع الظاهر بينها - وقد علمتَه ، فاحرص عليه - .
{ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ } أي : فلا بد أن يفعل بالمطيع والعاصي فعل الملوك ، لمن يطيعهم أو يعصيهم . فـ ( يوم ) ظرف لقوله : { وَلَهُ الْمُلْكُ } -قاله أبو السعود - وتقييد اختصاص الملك به تعالى ، بذلك اليوم ، مع اليوم ، مع عموم الاختصاص لجميع الأوقات ، لغاية ظهور ذلك . بانقطاع العلائق المجازية الكائنة في الدنيا ، المصححة للمالكية المجازية في الجملة ، كقوله تعالى : { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] . وقوله : { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ } [ الفرقان : 26 ] .
وقد زعم بعضهم أن المراد بـ ( الصور ) هنا جمع صورة ، أي : يوم ينفخ فيها ، فتحيى . قال ابن كثير : والصحيح أن المراد بـ ( الصور ) القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام ، وهكذا قال ابن جرير : الصواب عندنا ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < إن إسرافيل قد التقم الصور ، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ > .
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عَمْرو قال : إن أعرابياً سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصور ؟ فقال : < قرن ينفخ فيه > . ورواه داود والترمذيّ والحاكم ، عنه أيضاً .
{ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } أي : هو عالمهما { وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } ذو الحكمة في سائر أفعاله . والعلم بالأمور الجلّية والخفية .
ثم أمر تعالى بنيه صلى الله عليه وسلم أن يذكر لمن اتخذ دينه هزواً ولعباً إنكار إبراهيم عليه الصلاة والسلام -الذي يزعمون أنهم على دينه ، ويفتخرون به - على أبيه في شركه بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ 74 ]
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً } أي : صوراً مصنوعة { آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي : باعتقاد إلهيتها ، أو اتصافها بصفاته ، أو استحقاقها للعبادة ، لأن الإلهية بوجوب الوجود بالذات ، وهي ممكنة مصنوعة وأنى لها الاتصاف بصفاته ، وهي عاجزة عن النفع والضر ، خالية عن الحياة والسمع والبصر ، والعبادة غاية التذلل ، غلا يستحقها من لا يخلو عن هذه الوجوه من الذلة ، وإنما يستحقها من كان في غاية العلوّ -أفاده المهايمي - .
تنبيهات :
الأول -قرئ : { آزَرَ } بالنصب ، عطف بيان ، لقوله : { لِأَبِيهِ } وبالضم على النداء .
الثاني - الآية حجة على الشيعة في زعمهم أنه لم يكن أحد من آباء الأنبياء كافراً ، وأن آزر عم إبراهيم ، لا أبوه ، على ما بسطه الرازيّ هنا ، وذلك لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة ، ومثله لا يجزم به من غير نقل .
الثالث - قال بعض مفسري الزيدية : في الآية دلالة على بطلان قول الإمامية : إن الإمام لا يجوز أن يكون أبوه كافراً ، لأنه إذا جاز نبيّ ، أبوه وزوجته كافران ، فالإمام أولى .
اشتمل كلام إبراهيم عليه الصلاة والسلام على ذكر الحجة العقلية إجمالاً على فساد قول عَبْدة الأصنام ، بإنكاره اتخاذها آلهة ، وهي ما هي في عجزها . وقد جاءت مفصلة في سورة مريم في قوله : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً } [ مريم : 41 - 46 ] الآيات .
قال ابن كثير : ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة . فيقول إبراهيم : ألم أقل لك لا تعصني ؟ فيقول أبوه : فاليوم لا أعصيك ، فيقول إبراهيم : يا رب ! إنك وعدتني يوم أن لا تخزني يوم يبعثون ، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد ؟ فيقول الله تعالى : إني حرمت الجنة على الكافرين . ثم يقال : يا إبراهيم ! نظر ما تحت رجليك ، فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار > .
الرابع - قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية الدلالة على وجوب النصيحة في الدين ، لا سيما للأقارب ، فإن من كان أقرب ، فهو أهمّ . ولهذا ولهذا قال تعالى : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } [ الشعراء : 214 ] . وقال تعالى : { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التحريم : 6 ] . قال صلى الله عليه وسلم : < ابدأ بنفسك ثم بمن تعول > . ولهذا بدأ صلى الله عليه وسلم بعليّ وخديجة وزيد ، وكانوا معه في الدار ، فآمنوا وسبقوا ، ثم بسائر قريش ، ثم بالعرب ، ثم بالموالي . وبدأ إبراهيم بأبيه ، ثم بقومه . وتدل هذه الآية على أن النصيحة في الدين والذم والتوبيخ لأجله ، ليس من العقوق ، كالهجرة - هكذا في التهذيب . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } [ 75 ]
{ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : نطلعه على حقائقهما ، ونبصره في دلالتهما على شؤونه عز وجل ، من حيث إنهما بما فيهما ، مربوبان ومملوكان ، له تعالى . و ( الملكوت ) مصدر على زنة المبالغة ، كالرَّهبوت والجَبَروت ، ومعناه : الملك العظيم ، والسلطان القاهر . وقيل : ملكوتهما عجائبهما وبدائعهما . وقد أسلفنا الكلام في ( وكذلك ) قريباً عند قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا } [ الأنعام : 53 ] . وأن مختار الزمخشري كونه إشارة إلى مصدر ما بعده ، والكاف مقحمة ، والتقدير : تلك الإراءة والتبصير البديع ، نريه ونبصره . فجدّدْ به عهداً .
{ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } عطف على علة محذوفة لم تقصد بعينها ، إشعاراً بأن لتلك الإراءة فوائد جمة ، من جملتها ما ذكر .
قال المهايميّ في الآية : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } ليعلم أن شيئاً من روحانيات الأفلاك والكواكب والمشايخ والشياطين لا يصلح للإلهية { وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } بالتوحيد بالاستدلال بالأدلة الكثيرة . وقيل : { وَلِيَكُونَ } علة لمقدر هو عبارة عن المذكور . أي : وليكون من الموقنين بالتوحيد ، فعلنا ما فعلنا من الإراءة والتبصير بآيات السماوات والأرض .
لطائف :
الأولى -قال الرازي : وههنا دقيقة عقلية ، وهي أن نور جلال الله تعالى لائح غير منقطع ولا زائل البتة ، والأرواح البشرية ، لا تصير محرومة عن تلك الأنوار إلا لأجل حجاب ، وذلك الحجاب ليس إلا الاشتغال بغير الله تعالى . فإذا كان الأمر كذلك . فبقدر ما يزول ذلك الحجاب ، يحصل هذا التجليّ . فقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام : { أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً } إشارة إلى تقبيح الاشتغال بعبادة غير الله تعالى ، لأن كل ما سوى الله فهو حجاب عن الله تعالى ، فلما زال ذلك الحجاب ، لا جرم تجلى له ملكوت السماوات بالتمام . فقوله : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ } معناه : وبعد زوال الاشتغال بغير الله حصل له نورٌ تجلى جلال الله تعالى ، فكان قوله : { وَكَذَلِكَ } منشأ لهذه الفائدة الشريفة الروحانية .
الثانية - قال الرازي : اليقين عبارة عن علم يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل . ولهذا المعنى لا يوصف علم الله تعالى بكونه يقيناً ، لأن علمه غير مسبوق بالشبهة ، وغير مستفاد من الفكر والتأمل . واعلم أن الإنسان في أول ما يستدل به ، فإنه لا ينفك قلبه عن شك وشبهة من بعض الوجوه ، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت ، صارت سبباً لحصول اليقين . وذلك لوجوه :
الأول - أنه يحصل لكل واحد من تلك الدلائل نوع تأثر وقوة ، فلا تزال القوة تتزايد حتى تنتهي إلى الجزم .
الثاني - أن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكة . فكثرة الاستدلال بالدلائل المختلفة على المدلول الواحد ، جارٍ مجرى تكرار الدرس الواحد . فكما أن كثرة التكرار تفيد الحفظ المتأكد الذي لا يزول عن القلب ، فكذا ههنا .
الثالث - أن القلب عند الاستدلال كان مظلماً جدّاً ، فإذا حصل فيه الاعتقاد المستفاد من الدليل الأول ، امتزج نور ذلك الاستدلال بظلمة سائر الصفات الحاصلة في القلب ، فحصل فيه حالة شبيهة بالحالة الممتزجة من النور والظلمة ، فإذا حصل الاستدلال الثاني امتزج نوره بالحالة الأولى ، فيصير الإشراق واللمعان أتم . وكما أن الشمس إذا قربت من المشرق ظهر نورها في أول الأمر ، وهو الصبح ، فكذلك الاستدلال الأول يكون كالصبح . ثم ، كما أن الصبح لا يزال يتزايد بسبب تزايد قرب الشمس من سمت الرأس ، فإذا وصلت إلى سمت الرأس حصل النور التام ، فكذلك العبد كلما كان تدبره في مراتب مخلوقات الله تعالى أكثر ، كان شروق نور المعرفة والتوحيد أجلى . إلا أن الفرق بين شمس العلم ، وشمس العالمَ ، أن شمس العالم الجسمانيّ لها في الارتقاء والتصاعد حدّ معين ، لا يمكن أن يزاد عليه في الصعود . وأما شمس المعرفة والعقل والتوحيد ، فلا نهاية لتصاعدها ، ولا غاية لازديادها . فقوله : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } إشارة إلى مراتب الدلائل والبينات . وقوله : { وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } إشارة إلى درجات أنوار التجلي ، وشروق شمس المعرفة والتوحيد . انتهى .
الثالثة - ذكر تعالى الإراءة في هذه الآية مجملة ، ثم فصلها بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ } [ 76 ]
{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي } قال المهايميّ : لما رأى - يعني إبراهيم عليه الصلاة والسلام -الملكوت ، وأيقن أن شيئاً منها لا يصلح للإلهية ، أراد الرد على قومه في اعتقاد إلهيتها لخستها ، باعتبار افتقارها في أفعالها إلى أجسام لها دناءة الأفول ، وإن كانت علوية ، وكذا في اعتقاد إلهية تلك الأجسام . كما رد عليهم في اعتقاد إلهية الأصنام ، فَلِتَظْهَر ظهور الكواكب التي كانوا يعبدونها . انتهى .
وبالجملة ، فالآية بيان كليفية استدلاله عليه الصلاة والسلام ، ووصوله إلى رتبة الإيقان . ومعنى : { جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ } ستره بظلامه . و ( الكوكب ) قيل : الزهرة ، وقيل المشتري .
أقول : ( الكوكب ) لغة : النجم . قال الزبيدي في " شرح القاموس " : وكونه علماً بالغلبة على الزهرة غير معتدّ به ، وإنما هي الكوكبه بالهاء . انتهى .
قال الزمخشريّ : كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم ، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال ، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى أن شيئاً منها لا يصح أن يكون إلهاً ، لقيام دليل الحدوث فيها وأن وراءها محدثاً أحدثها ، وصانعاً صنعها ، ومدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها . وقول إبراهيم لقومه : { هَذَا رَبِّي } إرخاء للعنان معهم بإظهار موفقته لهم أولاً ، ثم إبطال قولهم بالاستدلال ، لأنه أقرب لرجوع الخصم . قال الزمخشري : قول إبراهيم ذلك . هو قول من ينصف خصمه ، مع علمه بأنه مبطل . يحكي قولهُ كما هو غير متعصب لمذهبه ، لأن ذلك أدعى إلى الحق ، وأنجى من الشغب . ثم يكرّ عليه بعد حكايته ، فيبطله بالحجة .
{ فَلَمَّا أَفَلَ } أي : غاب : { قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } أي : لا أحب عبادة من كان كذلك ، فإن الأفول دناءة تنافي الإلهية ، بل تمنع من الميل إلى صاحبها ، فضلاً عن اتخاذه إلهاً أو معبوداً ، فضلاً عما يفتقر إليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ } [ 77 ]
{ فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً } أي : طالعاً منتشر الضوء : { قَالَ هَذَا رَبِّي } على الأسلوب المتقدم : { فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ } فإن ما رأيته لا يليق بالإلهية لدناءته بمحوه .
قال الزمخشري : وفيه تنبيه لقومه على أن من اتخذ القمر إلهاً ، وهو نظير الكواكب في الأفول ، فهو ضال . وأن الهداية إلى الحق بتوفيق الله تعالى ولطفه .
وفي " الانتصاف " : التعريض بضلالهم ثانياً أصرح وأقوى من قوله أولاً : { لـ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ } وإنما ترقى إلى ذلك ، لأن الخصوم قد أقامت عليه ، بالاستدلال الأول ، حجة فأنسوا بالقدح في معتقدهم ، ولو قيل هذا في الأول فلعلهم كانوا ينفرون ، ولا يصغون إلى الاستدلال . فما عرّض صلوات الله عليه بأنهم في ضلالة ، إلا بعد أن وثق بإصغائهم إلى تمام المقصود ، واستماعهم إلى آخره . والدليل على ذلك أنه ترقى في النوبة الثالثة إلى التصريح بالبراءة منهم ، والتقريع بأنهم على شرك حين تم قيام الحجة ، وتبلج الحق ، وبلغ من الظهور غاية المقصود . كما قال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [ 78 ]
{ فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي } على نحو ما تقدم ، وتذكير اسم الإشارة لتذكير الخبر ، أو لأنه أراد : هذا الطالع ، أو الذي أراه ، أو لصيانة الرب عن شبهة التأنيث ، ليستدرجهم . إذ لو حقر بوجه ما كان سبباً لعدم إصغائهم - وعلى الأخير اقتصر المهايميّ - فقال : لم يؤنثه لئلا يعارض عظمته نقص الأنوثة ، ولو غير حقيقة ، وهي وإن كانت في الواقع لم يأت بها لفظاً ، لأنه قصد بذلك مساعدة الخصم أولاً .
وقوله تعالى : { هَذَا أَكْبَرُ } أي : أكبر الكواكب جرماً ، وأعظمها قوة ، فهو أولى بالإلهية . وفيه تأكيد لما رامه عليه الصلاة والسلام من إظهار النصفة ، مع إشارة خفية إلى فساد دينهم من جهة أخرى ، ببيان أن الأكبر أحق بالربوبية من الأصغر .
{ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ } صادعاً بالحق : { يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } أي : من الأجرام المحدثة المتغيرة من حالة إلى أخرى ، أو من إشراككم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ 79 ]
{ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ } أي : وجهت قلبي وروحي في المحبة والعبادة ، بل جعلته مسلماً : { لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً } أي : مائلاً عن الأديان الباطلة ، والعقائد الزائغة { وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } .
وفي هذا المقام :
مباحث :
الأول - توسع المفسرون هنا في قوله : { هَذَا رَبِّي } .
فمن قائل بأن المتكلم بهذا آزر ، وأنه لما قال ذلك ، قال إبراهيم : { لا أُحِبُّ الآفِلِينَ } .
وقيل : إنه إبراهيم . وكان ذلك في حال الطفولية ، قبل استحكام النظر في معرفة الله تعالى لقوله : { لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي } . . . الخ .
وقيل : بعد بلوغه وتكريمه بالرسالة . إلا أنه أراد الاستفهام الإنكاريّ ، توبيخاً لقومه ، فحذف الهمزة ، ومثله كثير .
وقيل : على إضمار القول أي : يقولون هذا ربي ، وإضمار القول كثير .
وقيل : المعنى في زعمكم واعتقادكم . وقيل : الإخبار على سبيل الاستهزاء . . . إلى أقوال أخر .
والقصد في ذلك تنزيه مقامه عليه الصلاة والسلام عن الشك والحيرة ، واعتقاد ربوبية ذلك ، لمنافاته للعصمة .
وأقول : هذا مسلم بلا ريب ، ولكنّ الأوجَه من جميع ذلك كله ما أسلفناه أولا من أن قوله : { هَذَا رَبِّي } من باب استعمال النصفة مع الخصوم ، على سبيل الوضع ، وهو سوق مقدمة في الدليل لا يعتقدها ، لكونها مسلمة عند غيره ، لأجل إلزامه بها . وهو مصطلح أهل الجدل . وقد اقتصر الزمخشريّ على هذا الوجه الفريد .
قال الناصر في " الانتصاف " : وذلك متعين . وقد ورد في الحديث الوارد في الشفاعة أنهم يأتون إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فيلتمسون منه الشفاعة ، فيقول : نفسي ! نفسي ! ويذكر كذباته الثلاث ، ويقول لست لها ، يريد قوله لسارة هي أختي ، وإنما عنى : في الإسلام ، وقوله إنه سقيم ، وإنما عنى همّه بقومه وبشركهم والمؤمن يسقمه ذلك - وقوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } ، وقد ذكرت فيه وجوه من التعريض . فإذا عدّ صلوات الله عليه وسلامه على نفسه هذه الكلمات ، مع العلم بأنه غير مؤاخذ بها ، دلّ ذلك على أنه أعظم ما صدر منه . فلو كان الأمر على ما يقال ، من أن هذا الكلام محكيّ عنه على أنه نظره لنفسه ، لكان أولى أن يعده ، وأعظم ، مما ذكرناه . لأنه حينئذ يكون شكاً ، بل جزماً . على أن الصحيح أن الأنبياء قبل النبوة معصومون من ذلك ، انتهى .
وقال الحافظ ابن كثير : اختلف المفسرون في هذا المقام ، هل هو مقام نظر أو مناظرة ؟ فروى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ما يقتضي أنهم مقام نظر . واختاره ابن جرير مستدلاً عليه بقوله : { لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي } الآية . وقال محمد بن إسحاق قال ذلك حين خرج من السرب الذي ولدته فيه أمه ، حين تخوفت عليه من نمروذ بن كنعان ، لما كان قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه على يديه ، فأمر بقتل الغلمان عامئذ . فلما حملت أم إبراهيم به ، وحان وضعها ، ذهبت إلى سربٍ ، ظاهر البلدة ، فولدت فيه إبراهيم ، وتركته هناك . وذكر أشياء من خوارق العادات ، كما ذكرها غيره من المفسرين . ثم قال ابن كثير : والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مناظراً لقومه ، مبيّناً لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام ، فبين ، في المقام الأول مع أبيه ، خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية ، التي هي على صورة الملائكة السماوية ليشفعوا له إلى الخالق العظيم الذي هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه ، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته ، ليشفعوا لهم عنده في الرزق ، وغير ذلك مما يحتاجون إليه ، وبيّن في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل ، وهي الكواكب السيارة السبعة . وأشدُّهن إضاءة وأشرفهن عندهم ، الشمس ثم القمر ثم الزهرة . فبين أولاً صلوات الله وسلامه عليه أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية ، فإنها مسخرة مقدرة بسير معين ، لا تزيغ عنه ، ولا تملك لنفسها تصرفاً ، بل هي جرم من الأجرام ، خلقها الله منيرة ، لما له في ذلك من الحكم العظيمة ، وهي تطلع من المشرق ، ثم تسير فيما بينه وبين المغرب ، حتى تغيب عن الأبصار فيه ، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال . وهذه لا تصلح للإلهية . ثم بين في القمر ما بين في النجم ، ثم الشمس كذلك . فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة ، التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار ، وتحقق ذلك بالدليل القاطع ، تبرأ من عبادتهن وموالاتهن ، وأخبر بأنه يعبد خالقهن ومسخرهن .
ثم قال ابن كثير : وكيف يجوز أن يكون ناظراً في هذا المقام ، وهو الذي قال الله في حقه : { وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } [ الأنبياء : 51 - 52 ] . وقال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ النحل : 120 - 121 ] .
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < كل مولود يولد على الفطرة > .
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < قال الله تعالى : إني خلقت عبادي حنفاء > . وقال تعالى : { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } وقال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } [ الأعراف : 172 ] . ومعناه ، على أحد القولين ، كقوله : { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة ، فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله : { أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ناظراً في هذا المقام ؟ بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة ، والسجية المستقيمة ، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بلا شك ولا ريب .
ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظراً لقومه فيما كانوا فيه من الشرك ، لا ناظراً ، قوله تعالى : { وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ } الآية الآتية . انتهى .
وممن جوّد هذا المبحث الجليل ، وبيّن أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان مناظراً لقومه ، العلامة الشهرستانيُّ في كتابه " الملل والنحل " ، ونحن نسوقه عنه تأييداً لهذا البحث المهم ، وتعرّفاً بمعتقد قومه ، وما دفعهم إليه ، لما فيه من الفوائد .
قال رحمه الله تحت ترجمة " أصحاب الهياكل والأشخاص " : هؤلاء من فرق الصابئة ( وهم المتعصبون الروحانيين ) ، وقد أدرجنا مقالتهم في المناظرات جملة ، ونذكرها ههنا تفصيلاً :
اعلم أن أصحاب الروحانيات ، لما عرفوا أن لا بد للإنسان من متوسط ، ولا بد للمتوسط من أن يُرى فيتوجه إليه للتقرب به ، ويستفاد منه ، فزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات السبع ، فتعرفوا أولاً بيوتها ومنازلها ، وثانياً مطالعها ومغاربها ، وثالثاً اتصالاتها على أشكال الموافقة والمخالفة ، مرتبة على طبائعها ، ورابعاً تقسيم الأيام والليالي والساعات عليها ، وخامساً تقدير الصور والأشخاص والأقاليم والأمصار عليها ، فعملوا الخواتيم ، وتعلموا العزائم والدعوات ، وعينوا ليوم زحل مثلاً يوم السبت ، وراعوا فيه ساعته الأولى ، وتختموا بخاتمه المعمول على صورته وصفته ، ولبسوا اللباس الخاص به ، وبخروا ببخوره الخاص ، ودعوا بدعواته الخاصة ، وسألوا حاجاتهم منه ، الحاجة التي تستدعى من زحل من أفعاله وآثاره الخاصة به .
وكذاك رفع الحاجة التي تختص بالمشتري في يومه وساعته ، وجميع الإضافات التي ذكرنا إليه . وكذلك سائر الحاجات إلى الكواكب . وكانوا يسمونها : أرباباً آلهة ، والله تعالى هو رب الأرباب ، وإله الآلهة . ومنهم من جعل الشمس إله الآلهة ورب الأرباب ، فكانوا يتقربون إلى الهياكل ، تقرباً إلى الروحانيات -يعني الملائكة - ويتقربون إلى الروحانيات ، تقرباً إلى البارئ تعالى ، لاعتقادهم بأن لكل روحاني هيكلاً ، ولكل هيكل فلكاً ، فالهياكل أبدان الروحانيات ، ونسبتها إلى الروحانيات نسبة أجسادنا إلى أرواحنا فهم الأحياء الناطقون بحياة الروحانيات ، وهي أربابها ومدبراتها ، تتصرف في أبدانها تدبيراً وتصريفاً وتحريكاً ، كما يتصرف في أبداننا . ولا شك أن من تقرب إلى شخص فقد تقرب إلى روحه . ثم استخرجوا من عجائب الحيل المرتبة على عمل الكواكب ما كان يقضي منهم العجب . وهذه الطلسمات المذكورة في الكتب والسحر والكهانة والتختيم والتعزيم والخواتيم والصور ، كلها من علومهم . وأما أصحاب الأشخاص فقالوا : إذا كان لا بد من متوسط يتوسل به ، وشفيع يتشفع إليه ، والروحانيات وإن كانت هي الوسائل ، لكنا إذا لم نرها بالأبصار ، ولم نخاطبها بالألسن ، لم يتحقق القرب إليها إلا بهياكلها ، ولكن الهياكل قد ترى في وقت ، ولا ترى في وقت ، لأن لها طلوعاً وأفولاً ، وظهوراً بالليل ، وخفاء بالنهار ، فلم يصف لنا التقرب بها ، والتوجه إليها ، فلا بد لنا من صور وأشخاص موجودة قائمة منصوبة نصب أعيننا ، فنعكف عليها ، ونتوسل بها إلى الهياكل ، فنتقرب بها إلى الروحانيات ، ونتقرب بالروحانيات إلى الله تعالى ، فنعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ، فاتخذوا أصناماً أشخاصاً على مثال الهياكل السبعة ، كل شخص في مقابلة هيكل ، وراعوا في ذلك جوهر الهيكل ، أعني الجوهر الخاص به من الحديد وغيره ، وصوروه بصورته على الهيئة التي تصدر أفعاله عنه ، وراعوا في ذلك الزمانَ والوقتَ والساعة والدرجة والدقيقة وجميع الإضافات النجومية ، من اتصال محمود يؤثر في نجاح المطالب التي تستدعي منه ، فتقربوا إليه في يومه وساعته ، وتبخّروا بالبخور الخاص به وتختموا بخاتمه ، ولبسوا ثيابه ، وتضرعوا بدعائه ، وعزموا بعزائمه ، وسألوا حاجتهم منه ، فيقولون كان تقضى حوائجهم بعد رعاية هذه الإضافات كلها ، وذلك هو الذي أخبر التنزيل عنه أنهم عَبْدة الكواكب والأوثان ، فأصحاب الهياكل هم عَبْدة الكواكب ، إذ قالوا بإلهيتها - كما شرحنا - وأصحاب الأشخاص هم عَبْدة الأوثان ، إذ سموها آلهة في مقابل آلهة أولئك السماوية ، وقالوا : { هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّه } [ يونس : 18 ] . وقد ناظر الخليل عليه الصلاة والسلام هذين الفريقين ، فابتدأ بكسر مذهب أصحاب الأشخاص ، وذلك قوله تعالى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } . وتلك الحجة أن كسرهم قولاً بقوله : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } . ولما كان أبوه آزر هو أعلم القوم . بعمل الأشخاص والأصنام ورعاية الإضافات النجومية فيها حق الرعاية ، ولهذا كانوا يشترون منه الأصنام ، لا من غيره ، كان أكثر الحجج معه ، وأقوى الإلزامات عليه : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } وقال : { إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً } [ مريم : 42 ] . لأنك جهدت كل الجهد ، واستعملت كل العلم ، حتى عملت أصناماً في مقابلة الأجرام السماوية فما بلغت قوتك العلمية والعملية إلى أن تحدث فيها سمعاً وبصراً ، وأن تغني عنك وتضر وتنفع ، وإنك بفطرتك وخلقتك أشرف درجة منها ، لأنك خلقت سميعاً بصيراً ضاراً نافعاً ، والآثار السماوية فيك أظهر منها في هذا المتخذ تكلفاً ، والمعمول تصنعاً ، فيا لها من حيرة ، إذ صار المصنوع بيديك معبوداً لك ، والصانع أشرف من المصنوع { يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ } : { يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ } [ مريم 44 - 46 ] . لم يقبل حجته القولية . فعدل عليه الصلاة والسلام إلى الكسر بالفعل ، فجعلهم جذاذاً ، إلا كبيراً لهم : { قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 59 ] { قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ } [ الأنبياء : 63 - 65 ] . فأفحمهم بالفعل حيث أحال الفعل على كبيرهم ، كما أفحمهم بالقول ، حيث أحال الفعل منهم ، وكل ذلك على طريق الإلزام عليهم ، وإلا فما كان الخليل كاذباً قط ، ثم عدل إلى كسر مذاهب أصحاب الهياكل كما أراه الله تعالى الحجة على قومه ، قال : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } فأطلعه على ملكوت الكونين والعالمين تشريفاً له على الروحانيات وهياكلها ، وترجيحاً لمذهب الحنفاء على مذهب الصابئة ، وتقريراً أن الكمال في الرجال ، فأقبل على إبطال مذهب أصحاب الهياكل : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي } على ميزان إلزامه على أصحاب الأصنام : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } وإلا فما كان الخليل كاذباً في هذا القول ، ولا مشركاً في تلك الإشارة ، ثم استدل بالأفول والزوال والتغير والانتقال ، بأنه لا يصلح أن يكون ربّاً إلهاً ، فإن الإله القديم لا يتغير ، وإذا تغير فاحتاج إلى مغير ، وهذا لو اعتقدتموه ربّاً قديماً وإلهاً أزلياً ، ولو اعتقدتموه واسطة وقبلة وشفيعاً ووسيلة ، فالأفول والزوال أيضاً ، يخرجه عن الكمال . وعن هذا ما استدل عليه بالطلوع ، وإن كان الطلوع أقرب إلى الحدوث من الأفول ، فإنهم إنما انتقلوا إلى الأشخاص ، لما عراهم من التحير بالأفول ، فأتاهم الخليل عليه الصلاة والسلام من حيث تحيرهم ، فاستدل عليهم بما اعترفوا بصحته ، وذلك أبلغ في الاحتجاج . ثم : { فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ } . فيا عجباً ! من لا يعرف رباً كيف يقول : { لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ } ؟ رؤية الهداية من الرب تعالى غاية التوحيد ، ونهاية المعرفة ، والواصل إلى الغاية والنهاية ، كيف يكون في مدارج البداية ؟ دع هذا كله خلف قاف ، وارجع بنا إلى ما هو شاف كاف . فإن الموافقة في العبارة على طريق الإلزام على الخصم من أبلغ الحجج ، وأوضح المناهج . وعن هذا قال : { فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ } لاعتقاد القوم أن الشمس ملك الفلك ، وهو رب الأرباب الذي يقتبسون منه الأنوار ، ويقبلون منه الآثار : { فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ، قرر مذهب الحنفاء ، وأبطل مذهب الصابئة ، وبين أن الفطرة هي الحنيفية ، وأن الطهارة فيها ، وأن الشهادة بالتوحيد مقصورة عليها ، وأن الأنبياء والرسل مبعوثة لتقريرها وتقديرها ، وأن الفاتحة والخاتمة ، والمبدأ والكمال ، منوطة بتلخيصها وتحريرها . ذلك الدين القيم ، والصراط المستقيم ، والمنهج الواضح ، والمسلك اللائح . انتهى كلام الشهرستاني رحمه الله تعالى . وإنما نقلت كلامه برمته ، لأنه كما قيل :
~وما محاسن شيء كلُّهُ حَسَنُ
وقد قدّم رحمه الله الكلام على أصحاب الروحانيات الصابئة ، وأتبعها بمناظرة بديعة جرت بينهم وبين الحنفاء ، بما تفيد مراجعته فائدة كبرى . فجزاه الله خيراً .
الثاني - تبين مما ذكره الشهرستاني أن سر احتجاج الخليل عليه الصلاة والسلام بالأفول دون البزوغ ، مع كون كل منهما منافياً لاستحقاق معروضه للربوبية - هو إتيانهم من حيث تحيرهم ، إلزاماً لهم بما يعترفون بصحته .
وقال أبو السعود : لما كان البزوغ حالة موجبة لظهور الآثار والأحكام ، ملائمة لتوهم الاستحقاق في الجملة -عدل عنه إلى الأفول ، لأنه حالة مقتضية لانطماس الآثار ، وبطلان الأحكام المنافييْن للاستحقاق المذكور منافاة بينة ، يكاد يعترف بها كل مكابر عنيد . انتهى . وهو لطيف إلا أن الأول أسدّ .
الثالث - لو قيل : إن الأفول ، لما كان يمنع من استحقاق معروضه لصفة الربوبية على ما ذكرنا ، وقد ثبت ذكر في أكبر الكواكب - ( أعني الشمس ) -فلزم ثبوته فيما دونها بالأولى - فهلا اقتصر على أفول الشمس رعاية للإيجاز والاختصار ؟ أجيب : بأن الأخذ من الأدنى فالأدنى ، إلى الأعلى ، له نوع تأثير في التقرير والبيان والتأكيد ، لا يحصل من غيره ، فكان سوق الاستدلال على هذا الوجه أولى -أفاده الرازي - .
الرابع -قال الرازي : تدل هذه الآية على أن الدين يجب أن يكون مبنيّاً على الدليل ، لا على التقليد ، وإلا لم يكن لهذا الاستدلال فائدة البتة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } [ 80 ]
قوله تعالى : { وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ } أي : جادلوه ، وأرادوا مغالبته بالحجة ، فيما ذهب إليه من توحيد الله ، ونفي الشركاء عنه ، تارة بأدلة فاسدة واقفة في حضيض التقليد ، وأخرى بالتخويف ، وقد أشير إلى جواب كل منهما { قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ } أي : أتجادلونني في توحيده ، وقد هداني لإقامة الحجج ، ورفع الشبه على نفي إلهية ما سواه ، وقد ثبت أنها ناقصة في ذواتها ، فكمالاتها من غيرها ، ولا إلهية للناقص بالذات ، لأن كماله لا يكون مطلقاً ، و ( تحاجوني ) بإدغام نون الجمع في نون الوقاية ، وقرئ بحذف الأولى .
وقوله تعالى : { وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ } أي : لا أخاف معبوداتكم ، لأنها جمادات لا تضر بنفسها ولا تنفع ، وهو جواب عما خوفوه عليه الصلاة والسلام في أثناء المحاجة من إصابة مكروه من جهة أصنامهم ، كما قال لهود عليه السلام قومه : { إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ } [ هود : 54 ] . وتخويفهم ، وإن لم يسبق له ذكر فهم من قوله : { وَلاَ أَخَافُ } .
وقال ابن كثير : أي : ومن الدليل على بطلان قولكم ؛ إن هذه المعبودات لا تؤثر شيئاً ، وأنا لا أخافها ولا أباليها ، فإن كان لها كيد فكيدوني بها ولا تُنظرون . انتهى .
{ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً } أي : من إصابة مكروه بي من جهتها ، وذلك إنما هو من جهته تعالى ، من غير دخل لمعبوداتكم فيه أصلاً .
وفي " الانتصاف " : غاية خوف إبراهيم منها . المعلق على مشيئة الله تعالى لذلك ، خوف الضرر عندها بقدرة الله تعالى ، لا بها ، وكأنه في الحقيقة لم يخف إلا من الله ، لأن الخوف الذي أثبته منها معلق بمشيئة الله وقدرته ، وهو كالخوف منها - والله أعلم - .
وقوله تعالى : { وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } كأنه علة الاستثناء ، أي : أحاط بكل شيء علماً . فلا يبعد أن يكون في علمه إنزال المخوف بي من جهتها ، أي : كرجمه بالنجوم لأنه إذا أحيل شيء إلى علم الله ، أشعر بجواز وقوعه . وفي الإظهار في موضع الإضمار ، مع التعرض لعنوان الربوبية ، إظهار منه عليه الصلاة والسلام لانقياده لحكمه سبحانه وتعالى ، واستسلام لأمره ، واعتراف بكونه تحت ملكوته وربوبيته .
هذا وجعل المهايمي ذلك علة لاستدراك محذوف ، لعلمه من المقام ، حيث قال في الآية : ولا أخاف الضرر على نفسي من تأثير ما تشركون به ، إلا أن يشاء ربي أن يجعل لهم شيئاً من التأثير ، لكنه لا يشاء في شأني لأنه : { وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } فعلم أنه لو أوجد التأثير فيهم بما يضرون به من بعثه لتوحيده ، صار محجوباً انتهى -والأول أقرب - .
{ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ } أي : تعتبرون بأن هذه المعبودات جمادات ، لا تضر ولا تنفع ، وأن النافع الضار هو الذي خلق السماوات والأرض .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ 81 ]
{ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ } أي : معبوداتكم ، وهي مأمونة الخوف { وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ } ، أي : بإشراكه : { عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً } أي : حجة . إذ الإشراك لا يصح أن يكون عليه حجة . والمعنى : وما لكم تنكرون علي الأمن في موضع الأمن ، ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع أعظم المخوفات وأهولها : { فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ } أي : فريقي الموحدين والمشركين { أَحَقُّ بِالْأَمْنِ } أي : من لحوق الضرر { إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : ما يحق أن يخاف منه . أو من أحق بالأمن أو مِنَْ أولي العلم ؟ وجواب الشرط محذوف . أي : فأخبروني .
ثم بيّن تعالى من له الأمن ، جواباً عما استفهم عنه الخليل عليه السلام بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } [ 82 ]
{ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } أي : بشرك ، كما يفعله الفريق المشركون حيث يزعمون أنهم يؤمنون بالله عز وجل ، وأن عبادتهم للأصنام من تتمات إيمانكم وأحكامه ، لكونها لأجل التقريب والشفاعة ، كما قالوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [ الزمر : 3 ] . وهذا معنى اللبس - أفاده أبو السعود - وسيأتي زيادة لذلك .
{ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ } يوم القيامة : { وَهُمْ مُهْتَدُونَ } أي : إلى الحق ، ومن عداهم في ضلال .
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله قال : لما نزلت : { وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ } قال أصحابه : وأينا لم يظلم نفسه ؟ فنزلت : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] . -هذا لفظ رواية البخاري - .
ولفظ رواية الإمام أحمد عن عبد الله قال : لما نزلت هذه الآية : { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ } شقّ ذلك على الناس ، فقالوا : يا رسول الله ! فإينا لا يظلم نفسه ؟ قال : < إنه ليس الذي تعنون ، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح : { يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ؟ إنما هو الشرك > .
أقول : هذه الرواية توضح رواية البخاري السابقة -أعني : قول ابن مسعود : فنزلت : { إِنَّ الشِّرْكَ } . . الخ - من جهة أن النزول أريد به تفسير الآية ، لا سبب نزولها ، وهو اصطلاح الصحابة والتابعين دقيق ، ينبغي التنبه له . وقد أشرنا له في المقدمة . فجدد به عهداً .
ولابن أبي حاتم عن عبد الله مرفوعاً : { وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ } قال : < بشرك > .
قال : روي عن أبي بكر وعمر وأُبي بن كعب وحذيفة وابن عباس وابن عمر وعمرو بن شرحبيل وأبي عبد الرحمن السلمي ومجاهد وعكرمة والنخعي والضحاك وقتادة والسدّيّ ، وغير واحد نحو ذلك . نقله ابن كثير . وبالجملة ، فلا يعلم مخالف من الصحابة والتابعين في تفسير ( الظلم ) هنا بالشرك ، وقوفاً مع الحديث الصحيح في ذلك ، المبين للنظائر القرآنية الموضِّح بعضها لما أبهم في بعض . وتعرف تلك القاعدة من مثل هذا الحديث يكشف غمة أوهام كثيرة . ولو قيل : لا يلزم من قوله : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } أن غير الشرك لا يكون ظلماً ، يجاب : بأن التنوين في ( بظلم ) للتعظيم ، فكأنه قيل : لم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم . ولما تبين أن الشرك ظلم عظيم علم أن المراد : لم يلبسوا إيمانهم بشرك ، أو أن المتبادر من المطلق أكمل أفراده - كذا في " العناية " - .
قال الرازي : والدليل على أن هذا هو المراد ، أن هذه القصة من أولها إلى آخرها إنما وردت في نفي الشركاء والأضداد والأنداد ، وليس فيها ذكر الطاعات والعبادات ، فوجب حمل الظلم ههنا على ذلك .
تنبيه :
حيث علم أن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فسر الآية بما تقدم فليُعَضَّ عليه بالنواجذ وأما ما هذى به الزمخشري من قوله في تفسير الآية : أي : لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم ، وأبى تفسير الظلم بالكفر ، لفظُ ( اللبس ) أي : لأن لبس الإيمان بالشرك أي : خلطه به ، مما لا يتصور ، لأنهما ضدان لا يجتمعان - على زعمه - فمدفوع بأنه يلابسه . لأنه إن أريد بالإيمان مطلق التصديق ، سواء كان اللسان أو غيره ، فظاهر أنه يجامع الشرك كالمنافق . وكذا إن أريد تصديق القلب ، لجواز أن يصدّق بوجود الصانع ، دون وحدانيته ، لما في قوله تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] . وهو ما أشير إليه قبل . ولو أريد التصديق بجميع ما يجب التصديق به بحيث يخرج عن الكفر ، فلا يلزم من لبس الإيمان بالشرك الجمع بينهما ، بحيث يصدق عليه أنه مؤمن ومشرك ، بل تغطيته بالكفر ، وجعله مغلوباً مضمحلاً ، أو اتصافه بالإيمان ، ثم الكفر ، ثم الإيمان ثم الكفر مراراً ، وبعد تسليم ما ذكر ، فاختصاص الأمن بغير العصاة لا يوجب كون العصاة معذبين البتة ، بل خائفين ذلك ، متوقعين للاحتمال ، ورجحان جانب الوقوع - كذا في " شرح الكشاف " .
وفي " الانتصاف " : إنما يروم الزمخشري بذلك تنزيله على معتقده ، في وجوب وعيد العصاة ، وأنهم لا حظ لهم في الأمن كالكفار . ويجعل هذه الآية تقتضي تخصيص الأمن بالجامعين بين الأمرين : الإيمان والبراءة من المعاصي . ونحن نسلم ذلك ، ولا يلزم أن يكون الخوف اللاحق للعصاة ، هو الخوف اللاحق للكفار ، لأن العصاة من المؤمنين إنما يخافون العذاب المؤقت ، وهم آمنون من الخلود . وأما الكفار فغير آمنين بوجهٍ ما . انتهى . وأما قوله المعتزلة : حديث عبد الله المتقدم - إن صح - يكون خبر واحدٍ ، في مقابلة الدليل القطعي ، ومثله لا يعمل به - فالجواب : بأنه صح بلا ريب ، لتخريج الشيخين له .
~وإذا جاء نهر الله ، بطل نهر معقل
وقولهم : في مقابلة الدليل القطعي ، بهتان عظيم . ويا لله العجب من هؤلاء ، قابلوا السنة الصحيحة بكناسة الرأي ، ولم يستحيوا من الله تعالى ورسوله في هذه المخالفة ، فأين تذهب به عقولهم ؟ إلى الحق أم إلى الباطل ؟ ولكن كما قال ابن سهل :
~فما أضيعَ البرهانَ عند المقلِّدِ
هذا ، وقد روى ابن مردويه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير ساره ، إذ عرض له أعرابي فقال : يا رسول الله ! والذي بعثك بالحق ! لقد خرجت من بلادي وتلادي ومالي ، لأهتدي بهداك ، وآخذ من قولك ، وما بلغتك حتى ما لي طعام إلا من خضر الأرض ، فاعرض عليّ . فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل . فازدحمنا حوله ، فدخل خفّ بَكْرِه في بيت جرذان ، فتردّى الأعرابيّ ، فانكسرت عنقه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < صدق ! والذي بعثني بالحق ! لقد خرج من بلاده وتلاده وماله ليهتدي بهداي ، ويأخذ من قولي ، وما بلغني حتى ما لهُ من طعام إلا من خضر الأرض . أسمعتم بالذي علم قليلاً وأُجر كثيراً ؟ هذا منهم ! أسمعتم بـ : { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } ؟ فإن هذا منهم . وفي لفظ قال : هذا عمل قليلاً وأُجر كثيراً > .
وروى نحو الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله مطولاً ، وفيه بيان قوله : فاعرض عليّ ، ولفظه : ما الإيمان ؟ قال : < تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت > قال : قد أقررت .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [ 83 ]
قوله تعالى : { وَتِلْكَ } أي : الدلائل المشار إليها في قوله : { أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً } إلى هاهنا : { حُجَّتُنَا } أي : لا يمكن نقضها : { آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ } أي : أرشدناه إليها ، وعلمناه إياها ، بلا واسطة معلّم : { عَلَى قَوْمِهِ } متعلق بـ : { حُجَّتُنَا } إن جعل خبر : { َتِلْكَ } ، وبمحذوف إن جعل بدله ، أي : آتيناها حجة ودليلاً على قومه الكثيرين ، ليغلب وحده .
{ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } يعني : في العلم والحكمة ، وقُرئ بالتنوين { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ } في رفعه وخفضه { عَلِيمٌ } بحال من يرفعه واستعداده له .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [ 84 ](/)
{ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ } [ 85 ](/)
{ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ } [ 86 ]
{ وَوَهَبْنَا لَهُ } أي : لإبراهيم عوضاً عن قومه ، لما اعتزلهم وما يعبدون { إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } أي : ولداً ، وولد ولد ، لتقر عينه ببقاء العقب : { كُلّاً هَدَيْنَا } أي : كلاًّ منهما هديناه الهداية الكبرى ، بلحوقهما بدرجة أبيهما في النبوة ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً } [ مريم : 49 ] .
قال ابن كثير : يذكر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق ، وذلك بعد أن طعن في السن ، وأيس وامرأته سارة ، من الولد ، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط ، فبشروهما بإسحاق ، فتعجبت المرأة من ذلك : { قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } [ هود : 72 ] { قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ } [ هود : 73 ] . فبشروهما فتعجبت ، وبشروهما مع وجوده بنبوته ، وبأن له نسلاً وعقباً ، كما قال تعالى : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ } [ الصافات : 112 ] . وهذا أكمل في البشارة ، وأعظم في النعمة . وقال : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] . أي : ويولد لهذا المولود ولدٌ في حياتكما ، فتقرَّ أعينكما به ، كما قرت بوالده ، وإن الفرح بولد الولد شديد ، لبقاء النسل والعقب . ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يعقب لضعفه ، وقعت البشارة به ، وبولد اسمه يعقوب ، الذي فيه اشتقاق العقب والذرية ، وكانت هذه المجازاة لإبراهيم عليه السلام حين اعتزل قومه وتركهم ، ونزح عنهم ، وهاجر من بلادهم ، ذاهباً إلى عبادة الله في الأرض ، فعوضه الله عز وجل عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين ، من صلبه ، على دينه ، لتقر بهم عينه ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ } [ مريم 49 ] الآية .
{ وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ } أي : من قبله ، هديناه كما هديناه . وعدّ هداه نعمة على إبراهيم ، من حيث إنه أبوه ، وشرف الوالد يتعدى إلى الولد .
قال ابن كثير : كل منهما له خصوصية عظيمة ، أما نوح عليه السلام فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض ، إلا منن آمن به ، وهم الذين صحبوه في السفينة ، جعل الله ذريته هم الباقين ، فالناس كلهم من ذريته ، وأما الخليل إبراهيم عليه السلام ، فلم يبعث الله عزّ وجل بعده نبياً إلا من ذريته ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَاب } [ العنكبوت : 27 ] الآية . وقال تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } [ الحديد : 26 ] . وقال تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً } [ مريم : 58 ] .
وقوله تعالى : { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ } الضمير لإبراهيم أو لنوح ، على ما يأتي { دَاوُدَ } عطف على : { نُوحاً } أي : وهدينا داود { وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } .
{ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ } .
{ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ } .
اعلم أن المقصود من هذه الآيات ، وما قبلها ، وما يلحقها ، تعديد أنواع نعم الله تعالى على إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، جزاء اعتزاله قومه وما يعبدون ، وقيامه بنصرة التوحيد ، ودحض الشرك . فذكر تعالى أولاً رفع درجته ، بإيتائه الحجة على قومه ، وتخصيصه بها ، ثم جعله عزيزاً في الدنيا ، حسباً ونسباً ، أصلاً وفرعاً ، لأنه تولد من نوح أول المرسلين رسالة عامة ، ووهبت له الذرية الطاهرة ، أنبياء البشر . ولذا ذهب الأكثرون إلى أن الضمير في : { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ } لإبراهيم ، لأن مساق النظم لبيان شؤونه العظيمة ، كأنه قيل : ولم نزل نرفع درجاته بعد ذلك إذ هدينا من ذريته داود . . الخ ، فهو المقصود بالذكر في هذه الآيات . وذكر نوح عليه السلام ، لأن كون إبراهيم من أولاده أحد موجبات رفعته كما تقدم . والغاية هي إلزام من ينتمي إليه من المشركين .
ولا يقال : إن لوطاً ليس من ذرية إبراهيم لأنه ابن أخيه ، لأنه يقال : إن العرب تجعل العمّ أباً ، كما أخبر تعالى عن أبناء يعقوب أنهم قالوا : { نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [ البقرة : 133 ] مع أن إسماعيل عم يعقوب ، ودخل في آبائه تغليباً .
وقال محي السنة رحمه الله تعالى : { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ } أي : ذرية نوح صلى الله عليه وسلم ، ولم يرد من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، لأنه ذكر في جملتهم يونس صلى الله عليه وسلم ، وكان من الأسباط ، في زمن شعياء ، أرسله الله تعالى إلى أهل نينوى من الموصل .
وقال : إن لوطاً عليه السلام كان ابن أخي إبراهيم عليه السلام ، آمن بإبراهيم ، وشخص معه مهاجراً إلى الشام ، فأرسله الله إلى أهل سدوم .
ومن قال : الضمير لإبراهيم صلى الله عليه وسلم ، يقدّر : ومن ذرية إبراهيم وداود وسليمان هدينا . لأن إبراهيم هو المقصود بالذكر . وذكر نوح لتعظيم إبراهيم . ولذلك ختم بيونس ولوط ، وجعلهما معطوفين على : { َنُوحاً هَدَيْنَا } من تعطف الجملة على الجملة . وصاحب ( الكشف ) أخرج ( إلياس ) صلى الله عليه وسلم . وليس كذلك . لما في " جامع الأصول " عن الكسائي ، أنهما من ذريته . فبقي لوط خارجاً ، لما كان ابن أخيه آمن به ، وهاجر معه ، أمكن أن يجعل من ذريته على سبيل التغليب - كما ذكره الطيبي - . وبالجملة ، فالآية المذكورة من المنن على إبراهيم على كلا الوجهين ، لأن شرف الذرية ، وشرف الأقارب شرف ، لكنه على الأول أظهر ، ويكون تطرية في مدح إبراهيم صلى الله عليه وسلم بالعود إليه مرة بعد أخرى .
تنبيهات :
الأول - قال الحافظ ابن كثير : في ذكر عيسى عليه السلام ، في ذرية إبراهيم أو نوح ( على القول الآخر ) دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل ، لأن انتساب عيسى ليس إلا من جهة أمه مريم عليهما السلام ، وقد روى ابن أبي حاتم أن الحجاج أرسل إلى يحيى بن يعمر فقال : بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبيّ صلى الله عليه وسلم ، تجده في كتاب الله وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده ؟ ! قال : أليس تقرأ سورة الأنعام : { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ } . . . حتى بلغ : { وَيَحْيَى وَعِيسَى } قال : بلى ! قال : أليس من ذرية إبراهيم ، وليس له أب ؟ قال صدقت ! فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته أو وقف على ذريته ، أو وهبهم دخل أولاد البنات فيهم . فأما إذا أعطى الرجل بنيه ، أو وقف عليهم ، فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه ، وبنو بنيه ، واحتجوا بقول الشاعر :
~بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهنّ أبناء الرجال الأباعدِ
وقال آخرون : ويدخل بنو البنات فيهم ، لما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن عليّ : إن ابني هذا سيّد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين . فسماه ( ابناً ) فدل على دخوله في الأبناء . وقال آخرون : هذا تجوّزٌ : انتهى .
وفي " العناية " : أورد على الاستدلال بتناول الذرية أولاد البنت من هذه الآية ، بأن عيسى عليه السلام ليس له أب يصرف إضافته إلى الأم إلى نفسه ، فلا يظهر قياس غيره عليه . والمسألة مختلف فيها ، والقائل بها استدل بهذه الآية ، وآية المباهلة ، حيث دعا النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين رضي الله عنهما بعدما نزل : { نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ } [ آل عِمْرَان : 61 ] . أن لم نقل إنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم . انتهى .
الثاني - إنما لم يذكر إسماعيل عليه السلام مع إسحاق ، بل أخرّ ذكره عنه ، لأن المقصود بالذكر ههنا أنبياء بني إسرائيل ، وهم بأسرهم أولاد إسحاق ويعقوب ، وأما إسماعيل فلم يخرج من صلبه من الأنبياء إلا خاتمهم وأفضلهم صلى الله عليه وسلم . ولا يقتضي المقام ذكره صلى الله عليه وسلم لأنه أمر أن يحتج على العرب في نفي الشرك بأن إبراهيم لما ترك قومه وما يعبدون إلى عبادة الله وحده ، رزقه الله النعم العظيمة في الدين والدنيا ، ومنها إيتاؤه أولاداً أنبياء . فإذا كان المحتج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا يُذكر في هذا المعرض . ولهذا السبب لم يذكر إسماعيل مع إسحاق -أفاده الرازي - .
الثالث -اعلم أنه تعالى ذكر هنا ثمانية عشر نبيّاً من الأنبياء عليهم السلام من غير ترتيب ، لا بحسب الزمان ، ولا بحسب الفضل ، لأن الواو لا تقتضي الترتيب . ولكن هنا لطيفة في هذا الترتيب ، وهي أن الله تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بنوع من الكرامة والفضل ، فذكر أولاً نوحاً وإبراهيم وإسحاق ويعقوب لأنهم أصول الأنبياء ، وإليهم ترجع أنسابهم جميعاً . ثم من المراتب المعتبرة ، بعد النبوة ، الملك والقدرة والسلطان . وقد أعطى الله داود وسليمان من ذلك حظّاً وافراً . ومن المراتب الصبر عند نزول البلاء والمحن والشدائد ، وقد خص الله بهذه أيوب عليه السلام . ثم عطف على هاتين المرتبتين من جمع ببينهما ، وهو يوسف عليه السلام ، فإنه صبر على البلاء والشدة إلى أن آتاه الله ملك مصر مع النبوة ، ثم من المراتب المعتبرة في تفضيل الأنبياء عليهم السلام كثرة المعجزات ، وقوة البراهين ، وقد خص الله موسى وهارون من ذلك بالحظ الوافر . ثم من المراتب المعتبرة الزهد في الدنيا ، والإعراض عنها ، وقد خص الله بذلك زكريا ويحيى وعيسى وإلياس عليهم السلام ، ولهذا السبب وصفهم بأنهم من الصالحين ، ثم ذكر الله من بعد هؤلاء الأنبياء ، من لم يبق له أتباع ولا شريعة ، وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط . فإذا اعتبرنا هذه اللطيفة على هذا الوجه ، كان هذا الترتيب من أحسن شيء يذكر ، والله أعلم بمراده ، وأسرار كتابه - أفاده الخازن وأصله للرازيّ - .
الرابع -استدل بقوله تعالى : { وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ } من يرى أن الأنبياء أفضل من الملائكة . لأن العالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى ، فيدخل فيه الملك .
الخامس - نكتة ذكر " الهداية " في قوله تعالى : { كُلاًّ هَدَيْنَا } هو تعديد النعم على إبراهيم صلى الله عليه وسلم بشرف الأصول والفروع -كما أسلفنا -والولد لا يُعدّ نعمة ما لم يكن مهديّاً .
السادس - قال السيوطي في " الإكليل " : استدل بقوله تعالى : { كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا } من أنكر إفادة التقديم الحصرَ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ 87 ]
{ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ } عطف على : { كُلاًّ } أو : { وَنُوحاً } أي : كلاًّ منهم فضلنا ، وفضلنا بعض آبائهم ، أو هدينا من آبائهم ومن معهم للدين الخالص جماعاتٍ كثيرة ، فالمفعول محذوف { وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي في الاعتقادات والأخلاق والأعمال ، فجعلت لهم هذه الفضائل أيضاً ، ولحقت إبراهيم ، فازداد ارتفاع درجاته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 88 ]
{ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ } إشارة إلى ما دانوا به { يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا } أي : هؤلاء مع عظمتهم : { لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } من الأعمال المرضية . فكيف بمن عداهم ؟
قال ابن كثير : فيه تشديد لأمر الشرك ، وتغليظ لشأنه ، وتعظيم لملابسته ، كقوله تعالى : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] . وهذا شرط ، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع كقوله : { قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } [ الزخرف : 81 ] . وكقوله تعالى : { لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ } [ الأنبياء : 17 ] . وكقوله : { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [ الزمر : 4 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ } [ 89 ]
{ أُولَئِكَ } إشارة إلى المذكورين من الأنبياء الثمانية عشر ، والمعطوفين عليهم ، باعتبار اتصافهم بما ذكر من الهداية وغيرها { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } أي : جنس الكتاب المتحقق في ضمن أي : فرد كان من أفراد الكتب السماوية . والمراد بـ ( إيتائه ) ؟ التفهيم التام بما فيه من الحقائق . والتمكينُ من الإحاطة بالجلائل والدقائق ، أعمّ من أن يكون ذلك بالإنزال ابتداء ، أو بالإيراث نقاءً . فإن المذكورين لم ينزل على كل واحد منهم كتاب معيّن -أفاده أبو السعود - .
{ وَالْحُكْمَ } أي : الحكمة ، أو فصل الأمر على ما يقتضيه الحق والصواب { وَالنُّبُوَّةَ } قال البيضاوي وأبو السعود : أي : الرسالة . قال الخفاجي : النبوة وإن كانت أعم ، إلا أن المراد بها ما يشتمل الرسالة ، لأن المذكورين رسل . انتهى .
{ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا } أي : بهذه الثلاثة { هَؤُلاءِ } يعني : قريشاً ، فإنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من القرآن ، كافرون بما يصدقه جميعاً { فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا } أي : وفقنا للإيمان بها { قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ } وهم الأنبياء عليهم السلام ، المذكورين وأتباعهم . أو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - وهو الأظهر - في مقابلة كفار قريش . أي : فإن في إيمانهم غنية عن إيمان الكفرة بها . وفي التكنية عن توفيقهم للإيمان بها ، بالتوكيل الذي أصله الحفظ للشيء ، ومراعاته - إيذان بفخامتها وعلوّها ، وأنه مما ينبغي أن يقدر قدرها قياماً بحق الوكالة ، وعهد الاستحفاظ .
قال الرازي : دلت هذه الآية على أنه تعالى سينصر نبيه ، ويقوي دينه ، ويجعله مستعلياً على كل من عاداه ، قاهراً لكل من نازعه . وقد وقع هذا الذي أخبر الله تعالى عنه في هذا الموضع . فكان جارياً مجرى الإخبار عن الغيب ، فيكون معجزاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ } [ 90 ]
{ أُولَئِكَ } إشارة إلى الأنبياء المذكورين : { الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } أي : إلى الصراط المستقيم : { فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } أي : بطريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده ، والأخلاق الحميدة ، والأفعال المرضية ، والصفات الرفيعة ، اعمل .
تنبيهات :
الأول -استدل بهذه الآية من قال : إن شرع من قبلنا شرع لنا ، ما لم يرد ناسخ .
الثاني - استدل بها ابن عباس رضي الله عنه على استحباب السجدة في ( ص ) ، لأن داود عليه السلام سجدها ، رواه البخاري وغيره - ولفظ البخاري : عن العوّام ، قال سألت مجاهداً عن سجدة ( ص ) ، فقال : سألت ابن عباس : من أين سجدت ؟ فقال : أو ما تقرأ : { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } فكان داود ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به ، فسجدها داود عليه السلام فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم . الثالث - قال الرازي : احتج العلماء بهذه الآية على أن رسولنا صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . وتقريره : أنا بيّنا أن خصال الكمال ، وصفة الشرف ، كانت مفرقة فيهم بأجمعهم ، فداود وسليمان كانا من أصحاب الشكر على النعمة ، وأيوب كان من أصحاب الصبر على البلاء ، ويوسف كان مستجمعاً لهاتين الحالتين ، وموسى عليه السلام كان صاحب الشريعة القوية القاهرة ، والمعجزات الظاهرة ، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كانوا أصحاب الزهد ، وإسماعيل كان صاحب الصدق ، ويونس كان صاحب التضرع ، فثبت أنه تعالى إنما ذكر كل واحد من هؤلاء الأنبياء ، لأن الغالب غليه خصلة معينة من خصال المدح والشرف . ثم إنه تعالى لما ذكر الكل ، أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي بهم بأسرهم ، فكأنه أمر بأن يجمع من خصال العبودية والطاعة كل الصفات التي كانت مفرقة فيهم بأجمعهم ، وهو معصوم عن مخالفة ما أمر به ، فثبت أنه اجتمع فيه جميع ما تفرق فيهم من الكمال ، وثبت أنه أفضلهم . وهو استنباط حسن .
الرابع - : { اقْتَدِهْ } يُقرأ بسكون الهاء وإثباتها في الوقف دون الوصل ، وهي على هذا هاء السكت . ومنهم من يثبتها في الوصل أيضاً لشبهها بهاء الإضمار . ومنهم من يكسرها وفيه وجهان :
أحدهما هي هاء السكت أيضاً ، شبهت بهاء الضمير ، وليس بشيء .
الثاني هي هاء الضمير والمصدر أي : اقتد الاقتداء . ومثله :
~هذا سُرَاقَةُ للقرآن يدرُسُهُ والمرء عند الرُّشا ، إنْ يَلَقَهَا ذيبُ
( فالهاء ) ضمير ( الدرس ) لا مفعول ، لأن ( يدرس ) قد تعدى إلى ( القرآن ) . وقيل : مَنْ سكن الهاء جعلها هاء الضمير ، وأجرى الوصل مجرى الوقف - أفاده أبو البقاء - .
وأما قول الواحدي : الذين أثبتوا الهاء راموا موافقة المصحف ، فإن الهاء ثابتة في الخط ، فكرهوا مخالفة الخط في حالتي الوقف والوصل ، لأثبتوا - فقد قال الخفاجي : إنه مما لا ينبغي ذكره ، لأنه يقتضي أن القراءة بغير نقل تقليداً للخط . فمن قاله فقد وهم .
{ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً } أي : على القرآن أو التبليغ . فإن مساق الكلام يدل عليهما ، وإن لم يجر ذكرهما { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ } أي : عظة وتذكير لهم ليرشدوا من العمى إلى الهدى .
تنبيهان :
الأول - فيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى جميع الخلق ، من الجن والإنس . وأن دعوته قد عمت جميع الخلائق .
الثاني -قال الخفاجي : قيل الآية تدل على أنه يحلّ أخذ الأجر للتعليم وتبليغ الأحكام . قال : وللفقهاء فيه كلام . انتهى .
وعكس بعض مفسري الزيدية حيث قال : في هذا إشارة إلى أنه لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم العلوم ، لأن ذلك جرى مجرى تبليغ الرسالة . انتهى .
أقول : إن الآية على نفي سؤاله صلى الله عليه وسلم منهم أجراً ، كي لا يثقل عليهم الامتثال . وأما ما استفاده الحل والتحريم منها ، ففيه خفاء . والقائل بالأول يقول : المعنى لا أسألكم جعلاً تعففاً . أي : وإن حلّ لي أخذه . وبالثاني : لا أسألكم عليه أجراً لأني حظرت من ذلك .
قال ابن القيمّ : أما الهدية للمفتي ، ففيها تفصيل : فإن كانت بغير سبب الفتوى ، كمن عادته يهاديه أو من لا يعرف أنه مفت ، فلا بأس بقبولها ، والأولى أن يكافأ عليها . وإن كانت بسبب الفتوى ، فإن كانت سبباً إلى أن يفتيه بما لا يفتي به غيره ممن لا يهدي له ، لم يجز له قبول هديته . لأنها تشبه المعاوضة على الإفتاء . وأما أخذ الرزق من بيت المال ، فإن كان محتاجاً إليه ، جاز له ذلك . وإن كان غنيّاً عنه ، ففيه وجهان : وهذا فرع متردد بين عامل الزكاة ، وعامل اليتيم . فمن ألحقه بعامل الزكاة قال : النفع فيه عام ، فله الأخذ . ومن ألحقه بعامل اليتيم منعه من الأخذ . وحكم القاضي في ذلك حكم المفتي ، بل القاضي أولى بالمنع . وأما أخذ الأجرة فلا يجوز ، لأن الفتيا منصب تبليغ عن الله ورسوله ، فلا يجوز المعاوضة عليه ، كما لو قال : لا أعلمك الإسلام والوضوء والصلاة إلا بأجرة . أو سئل عن حلال أو حرام ؟ فقال للسائل : لا أجيبك عنه إلا بأجرة ، فهذا حرام قطعاً ، ويلزمه ردّ العوض ، ولا يملكه ، انتهى .
وفي حديث عبد الرحمن بن شِبْل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < اقرؤوا القرآن ، ولا تغلوا فيه ، ولا تجفوا عنه ، ولا تأكلوا به ، ولا تستكثروا به > -أخرجه الإمام أحمد برجال الصحيح . وأخرجه أيضاً البزار وله شواهد - .
وأخرج أحمد والترمذي -وحسّنه -عن عِمْرَان بن حصين أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < من قرأ القرآن فليسأل الله تبارك وتعالى به ، فإنه سيجيء قوم يقرؤون القرآن يسألون الناس به > . وأخرج ابن ماجة والبيهقي عن أبيّ بن كعب قال : علّمت رجلاً القرآن فأهدى لي قوساً ، فذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخذتها أخذت قوساً من نار .
وهناك أحاديث أخر ، ومنها استدل على حظر أخذ الأجرة على التعليم .
وأما أخذ الأجرة على التلاوة ، ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود في قصة اللديغ من قوله صلى الله عليه وسلم : < إن أحق ما أخذتم عليه أجراً ، كتاب الله ، أصبتم اقتسموا ، واضربوا لي معكم سهماً > .
قال العلامة الشوكاني : حديث ( أحق ما أخذتم عليه أجراً ) عامٌّ يصدق على التعليم ، وأخذ الأجرة على التلاوة . لمن طلب من القارئ ذلك ، وأخذ الأجرة على الرقية ، وأخذ ما يدفع إلى القارئ من العطاء ، لأجل كونه قارئاً ، ونحو ذلك . فيخص من هذا العموم تعليم المكلف ، ويبقى ما عداه داخلاً تحت العموم . وبعض أفراد العامّ فيه ، أدلة خاصة تدل على جوازه ، كما دل العامّ على ذلك . فمن تلك الأفراد أخذ الأجرة على الرقية ، وتعليم المرأة في مقابلة مهرها . قال : هكذا ينبغي تحرير الكلام في المقام ، والمصير إلى الترجيح من ضيق العطن . أي : لأنه يُصار إليه عند تعذر الجمع ، وقد أمكن ، فكان الأحق - والله الموفق - .
ولما بين تعالى شأن القرآن العظيم ، وأنه نعمة كبرى على العالمين ، تأثره ببيان كفرهم بذلك ، على وجه سرى إلى الكفر بجميع الكتب المنزلة ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } [ 91 ]
{ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } أي : ما عظموه حق تعظيمه و : { حق } نصب على المصدرية ، وهو في الأصل صفة للمصدر . أي : قَدْرَهُ الحق ، فلما أَضيف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه موصوفه { إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ } أي : حين اجترؤوا على التفوه بهذه الجملة الشنعاء ، وذلك منهم مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فألزموا بما لا سبيل لهم إلى إنكاره أصلاً ، حيث قيل في جواب سلبهم العام ، بإثبات قضية جزئية بديهية التسليم :
{ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً } حال من الضمير في : { به } أو من : { الكتاب } { وَهُدىً لِلنَّاسِ } أي : ضياء من ظلمة الجهالة ، وبياناً يفرق بين الحق والباطل { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا } : يجزئونه أوراقاً يبدونها للناس مما ينتخبونه . أي : فكيف ينكر إنزال شيء ، وهذا المنزل المذكور ظاهر للعيان . والعدول عن التوراة إلى ذكر الكتاب وصفته ، والحال بعده - لزيادة التقريع ، وتشديد التبكيت ، وإلقام الحجر { وَتُخْفُونَ كَثِيراً } معطوف على ( تُبْدُونَهَا ) ، والعائد محذوف . أي : كثيراً منها . أو كلام مبتدأ لا محل له من الإعراب . أي : وهم يخفون كثيراً . أي : ومع ذلك فالإلزام يكفي بما يبدونه ، المعترف لديهم بحقيّته . وفيه نعي على أهل الكتاب بسوء صنيعهم المذكور ، إذ ما يريدون بإخفاء كثير منها إلا تبديل الدين .
{ وَعُلِّمْتُمْ } أي : على لسان محمد صلى الله عليه وسلم : { مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ } من المعارف التي لا يرتاب في أنها تنزيل رباني { قُلِ اللَّهُ } أي : أنزله الله ، أو الله أنزله . أَمَرَهُ بأنه يجيب عنهم ، إشعاراً بأن الجواب متعين لا يمكن غيره ، وتنبيهاً على أنهم بُهِتُوا ، بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب .
{ ثُمَّ } بعد التبليغ وإلزام الحجة : { ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ } أي : في باطلهم : { يَلْعَبُونَ } أي : يفعلون فعل اللاعب ، وهو ما لا يجر لهم نفعاً ، ولا يدفع عنهم ضرراً ، مع تضييع الزمان .
تنبيه :
في هذه الآية قولان :
الأول -أنها مكية النزول تبعاً للسورة ، وأن القائل ذلك هم المشركون ، وإلزامهم إنزال التوراة ، لما أنه كان عندهم من المشاهير الذائعة ، وهذا هو الظاهر .
قال ابن كثير : قال ابن عباس ، ومجاهد وعبد بن كثير : هذه الآية نزلت في قريش ، واختاره ابن جرير . قال ابن كثير : وهو الأصح ، لأن اليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء ، وأما كفار قريش فكانوا ينكرون رسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، لأنه من البشر كما قال تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ } [ يونس : 2 ] . وكقوله تعالى : { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً } [ الإسراء : 94 ] . وكذا قالوا هنا : { مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } . فألزموا بإنزال الكتاب الذي جاء به موسى ، وهو التوراة التي علموا هم وكل أحد أن الله أنزلها على موسى تكذيباً لقولهم ، وإيقافاً على عنادهم . ومعلوم ما كان بين قريش ويهود المدينة من التعارف ، وتسليم قريش أنهم أهل كتاب ، وأنهم أعلم منهم لأجله ، مما يوجب اعترافهم بحقية التوراة ، وأنها منزلة من لدنه تعالى ، وعلى هذا القول ، فالقراءة بالياء التحتية ظاهرة . وعلى قراءة الخطاب ، فهو التفات من خطاب قوم إلى خطاب قوم آخرين . وهو التفات عند الأدباء - حكاه الخفاجي - وإنما جعل من الانتقال عن خطابهم إلى خطاب اليهودية ، تعريضاً لهم بأن إنكارهم إنزال الله تعالى من جنس فعل هؤلاء بالتوراة في البطلان ، وعدم الإسناد إلى برهان . ثم القول بأن الخطاب في : { عُلِّمْتُم } لمؤمني قريش . لا يقتضيه السياق ولا السباق ، وفيه تفكيك للنظم الجليل ، كالقول بأنه اعتراض للامتنان على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأتباعه ، لهدايتهم للمجادلة بالتي هي أحسن . بل الخطاب فيه كسابقه ، والمراد بتعليمهم ، وهم مشركون ، ما يسمعونه ويتلقفونه من النبيّ صلى الله عليه وسلم وصحابته ، من فرائد الوحي وفوائده ، مما لا يرتاب في تنزيلها ، كما أوضحناه قبل .
القول الثاني - إن هذه الآية مدنية النزول . ولا يرد أن هذه السورة مكية ، ومناظرات اليهود كانت في المدينة ، لأن كثيراً من السور المكية ألحقت بها آيات مدنية ، وحينئذ فقولهم ( هذه السورة مكية ) أي : إلا ما استثني مما ألحق بها ، كما أوضحه السيوطي في " الإتقان " وساق له شواهد . وقد أشرنا إلى ذلك أول هذه السورة ، فتذكر ! .
ثم القائلون بأنها مدنية ، منهم من قال : نزلت في طائفة من اليهود ، أو في فنحاص ، أو في مالك بن الصيف . أخرج ابن جرير من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : قالت اليهود : والله ما أنزل الله من السماء كتاباً ، فأنزلت .
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير - مرسلاً- قال : جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف ، فخاصم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين - وكان حبراً سميناً - ؟ فغضب وقال : ما أنزل الله على بشر من شيء ! فقال له أصحابه : ويحك ! ولا على موسى ؟ فأنزل الله : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } . . الآية . قال البغويّ : وفي القصة أن مالك بن الصيف ، لما سمعت اليهود منه تلك المقالة ، عتبوا عليه ، وقالوا : أليس الله أنزل التوراة على موسى ، فلم قلت : ما أنزل الله من شيء ؟ فقال مالك بن الصيف : أغضبني محمد ، فقلت ذلك ! فقالوا له : وأنت إذا غضبت تقول على الله غير الحق ! فنزعوه عن الحبرية . وبعد الوقوف على ذلك ، فلا معنى لاعتراض بعضهم بأن مالك بن الصيف كان مفتخراً بكونه يهودياً متظاهراً بذلك ، ومع هذا المذهب لا يمكنه البتة أن يقول : ما أنزل الله على بشر من شيء ، لأنه تبين أنه قال ذلك متغيظاً ، وقد أخذ الغضب منه مأخذه عناداً ومكابرة ، توصلاً لدفع ما يريده . وقد يبلغ الحمق بصاحبه إلى حدٍّ يتبرأ فيه من مذهبه ومعتقده ، إغاظة لخصمه على زعمه . وبوادر اللسان في حق المولى تعالى وتقدس ، مما لا تغتفر ، ولذا بين تعالى جهل ذاك القائل بقوله : { وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } .
قال العلامّة البقاعيّ : لأن من نسب ملكاً تام الملك إلى أنه لم يبث أوامره في رعيته بما يرضيه ليفعلوه ، وما يسخطه ليجتنبوه ، فقد نسبه إلى نقص عظيم . فكيف إذا كانت تلك النسبة كذباً ؟ وإنما أسند إلى الكل -والقائل بعضهم -لأنهم لم يردّوا على قائله ، ولم يعالجوه بالأخذ على يده ، تهويلاً للأمر ، وبياناً لأنه يجب على كل من سمع بآيه من آيات الله أن يسعى إليها ، ويتعرف أمورها ، فمن طعن فيها أخذ على يده بما تصل إليه قدرته ، فقال مشيراً إلى اليهود قائلوا ذلك . ملزماً لهم بالاعتراف بالكذب ، أو المساواة للأميّين في التمسك بالهوى دون كتاب ، موبخاً لهم ، ناعياً عليهم سوء جهلهم ، وعظيم بهتهم ، وشدة وقاحتهم ، وعدم حيائهم : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى } ؟ أي : قل لهؤلاء السفهاء الذين تجرأوا على هذه المقالة ، غير ناظرين في عاقبتها ، وما يلزم منها ، توبيخاً لهم ، وتوقيفاً على شنيع جهلهم : { مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى } الذي أنتم تزعمون التمسك بشرعه : { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ } أي : أوراقاً مفرقة ، لتتمكنوا بها من إخفاء ما أردتم { تُبْدُونَهَا } للناس أي : تظهرونها للناس { وَتُخْفُونَ كَثِيراً } أي : منها مما تريدون به تبديل الدين . هذا على قراءة الفوقانية . وعلى قراءة التحتانية التفات مؤذن بشدة الغضب ، مشير إلى أن ما قالوه حقيق بأن يستحي من ذكره ، فكيف بفعله . وقوله : { وَعُلِّمْتُم } أي : أيها اليهود بالكتاب الذي أنزل على موسى : { مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ } أي : أيها اليهود من أهل هذا الزمان : { وَلاَ آبَاؤُكُمْ } أي : الأقدمون . انتهى كلام البقاعيّ رحمه الله تعالى . وفي قوله : ( وإنما أسند إلى الكل . . ) إلى آخره ، نظر . لأن إسناده ليس إليهم ، لأنهم رضوا به ، لأن القصة السالفة تدل على خلافه . وللبقاعي رحمه الله وجه آخر في الآية . قال : ويمكن أن تكون مكية ، ويكون قولهم هذا حين أرسلت إليهم قريش تسألهم عنه صلى الله عليه وسلم في أمر رسالته ، فاحتج عليهم بإرسال موسى عليه السلام ، وإنزال التوراة عليه . انتهى . وهو قريب وجيه جدّاً .
وبالجملة ، فالآية الكريمة من صادقة مع الأوجه المذكورة ، وتتنزل في التأويل ، على ما بينا في كلٍ تنزيلاً لا شائبة معه لإشكال مّا . وقد استصعب الرازي تأويلها ، وأخذ يحاول أسئلة هي على طرف الثُّمام ، بعد النظر فيما بينّا ، فالحمد الله الذي هدانا لهذا .
لطائف :
الأولى -قال أبو السعود رحمه الله : ليس المراد بالآية مجرد إلزامهم بالاعتراف بإنزال التوراة فقط ، بل بإنزال القرآن أيضاً ، فإن الاعتراف بإنزالها مستلزم للاعتراف بإنزاله قطعاً ، لما فيها من الشواهد الناطقة به .
الثانية - قال أيضاً في قوله تعالى : { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ } أي : تضعونه في قراطيس مقطعة ، وورقات مفرقة ، بحذف الجار ، بناء على تشبيه القراطيس بالظرف المبهم ، أو تجعلونه نفس القراطيس المقطعة . وفيه زيادة توبيخ لهم بسوء صنيعهم ، كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب ، ونزلوه منزلة القراطيس الخالية عن الكتابة .
الثالثة - في قوله تعالى : { تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً } دلالة على أنه لا يجوز كتم العلم الدينيّ عمن يهتدي به . قاله بعض الزيدية .
ولما أبطل تعالى كلمتهم الشنعاء بتقرير إنزال التوراة ، بين تنزيل ما يصدقها بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } [ 92 ]
{ وَهَذَا } يعني : القرآن { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } أي : كثير المنافع والفوائد ، لاشتماله على منافع الدارين ، وعوم الأولين والآخرين ، وما لا يتناهى من الفوائد .
قال الرازي : العلوم إما نظرية ، وإما عملية . فالأولى أشرفها . وأكملها معرفة ذات الله وصفاته وأفعله وأحكامه وأسمائه . ولا ترى هذه العلوم أكمل ولا أشرف مما تجده في هذا الكتاب .
وأما الثانية : فالمطلوب إما أعمال الجوارح ، وإما أعمال القلوب ، وهو المسمى بطهارة الأخلاق ، وتزكية النفس . ولا تجد هذين العلمين مثل ما تجده في هذا الكتاب . ثم جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عنه ، والمتمسك به ، يحصل له عز الدنيا ، وسعادة الآخرة . انتهى . قال الخفاجيّ : وقد شوهد ذلك في كل عصر .
{ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } ، أي : من التوراة أو من الكتب التي أنزلت قبله ، في إثبات التوحيد ، والأمر به ، ونفي الشرك ، والنهي عنه . وفي سائر أصول الشرائع التي لا تنسخ .
{ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى } يعني : مكة . سميت بذلك لأنها مكان أول بيت وضع للناس ، ولأنها قبلة أهل القرى كلها ومحجهم ، ولأنها أعظم القرى شأناً ، وغيرها كالتبع لها ، كما يتبع الفرع الأصل . وفي ذكرها بهذا الاسم ، المنبئ عما ذكر ، إشعار بأن إنذار أهلها مستتبع لإنذار أهل الأرض كافة { وَمَنْ حَوْلَهَا } من أطراف الأرض ، شرقاً وغرباً . كما قال في الآية الأخرى : { لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] . وقوله : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [ الأعراف : 158 ] . وقال : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] . وقال تعالى : { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [ آل عِمْرَان : 20 ] .
وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي ، وذكر منهن : وكان النبيّ يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة > .
{ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } فإن من صدق بالآخرة خاف العاقبة ، ولا يزال الخوف يحمله على النظر والتدبر ، حتى يؤمن بالنبيّ والكتاب ( والضمير يحتملها ) ويحافظ على الصلاة . والمراد بها إما الطاعة مجازاً ، أو حقيقتها ، وتخصيصها لكونها أشرف العبادات بعد الإيمان ، وأعظمها خطراً .
قال الرازي : ألا ترى أنه لم يقع اسم الإيمان على شيء من العبادات الظاهرة إلا على الصلاة ، كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ } [ البقرة : 143 ] . أي : صلاتكم . ولم يقع اسم الكفر على شيء من المعاصي إلا على ترك الصلاة . قال عليه الصلاة والسلام : < من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر > . فلما اختصت الصلاة بهذا النوع من التشريف ، لا جرم خصها الله بالذكر في هذا المقام . انتهى .
أقول : الحديث المذكور رواه الطبرانيّ في أوسط معاجمه عن أنس وصحح . وتمامه : < فقد كفر جهراً > -كما في الجامع الصغير - .
أخرج ابن أبي حاتم عن مسروق ، قال في هذه الآية : أي : يحافظون على مواقيتها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } [ 93 ]
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } أي : اختلق إفكاً ، فجعل له شركاء أو ولداً ، أو أحكاماً في الحل والحرمة ، كعمرو بن لحيّ وأشباهه ، ممن جعل قوله قول الله { أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } ممن ادعى النبوة كذباً ، وهذا يزيد على الافتراء في دعوى النبوة .
قال البقاعي : هذا تهديد على سبيل الإجمال ، كعادة القرآن الجميل ، يدخل فيه كل من اتصف بشيء من ذلك ، كمسيلمة والأسود العنسيّ وغيرهما ، ثم قال : رأيت في كتاب " غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود " لابن يحيى المغربي الذي كان من علمائهم في حدود سنة 560 ثم هداه الله للإسلام فبين فضائحهم : إن الربانيين منهم زعموا أن الله يوحي إلى جميعهم في كل يوم مرات . ثم قال : إن الربانيين أكثرهم عدداً ، يزعمون أن الله يخاطبهم في كل مسألة بالصواب ، وهذه الطائفة أشد اليهود عداوة لغيرهم في الأمم . انتهى . : { وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } أي : ومن ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي مما يفتريه من القول ، كالنضر بن الحارث . وهذا كقوله تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا } [ الأنفال : 31 ] .
قال المهايمي : أي : ومن أنكر إعجاز القرآن حتى قال : سأنزل مثل ما أنزل الله ، مع أنه قد عرف إعجازه ، فكأنه ادعى لنفسه قدرة الله ، فكأنه ادعى الإلهية لنفسه ، ولا يجترئ على هذه الوجوه من الظلم من يؤمن بالآخرة . فيعلم ما للظالمين فيها ، المبيَّن بقوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ } . أي : شدائده وسكراته وكرباته { وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ } أي : بالضرب والعذاب ، كقوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } [ الأنفال : 50 ] .
{ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ } أي : قائلين لهم : أخرجوا إلينا أرواحكم من أجسادكم ، تغليظاً وتوبيخاً وتعنيفاً عليهم . وقد جنح بعضهم إلى أن ما ذكر من مجاز التمثيل . أي : فشبه فعل الملائكة في قبض أرواحهم ، بفعل الغريم الذي يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف في استيفاء حقه من غير إمهال . وفي " الكشف " أنه كناية عن ذلك ، ولا بسط ولا قول حقيقة . قال الناصر في " الانتصاف " : ولا حاجة إلى ذلك . والظاهر أنهم . يفعلون معهم هذه الأمور حقيقة ، على الصور المحكية . وإذا أمكن البقاء على الحقيقة ، فلا معدل عنها . انتهى .
وقال الحافظ ابن كثير : إن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والأغلال والسلاسل والجحيم والحميم وغضب الرحمن الرحيم ، فتتفرق روحه في جسده ، وتعصى ، وتأبى الخروج ، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم ، قائلين لهم : أخرجوا أنفسكم . انتهى .
أقول : مما يؤيد الحقيقة آية : { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى } المتقدمة ، فإنها صريحة ومراعاة النظائر القرآنية أعظم ما يفيد في باب التأويل .
قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآية حال الكافر عند القبض ، وعذاب القبر . واستدل بها محمد بن قيس على أن لملك الموت أعواناً من الملائكة -أخرجه ابن أبي حاتم - .
{ الْيَوْمَ } أي : وقت الإماتة ، أو الوقت الممتد من الإماتة إلى ما لا نهاية له { تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } أي : الهوان الشديد { بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ } كالتحريف ودعوى النبوة الكاذبة . وهو جراءة على الله متضمنة للاستهانة به -قاله المهايمي - { وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } حتى قال بعضكم : سأنزل مثل ما أنزل الله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ 94 ]
{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا } أي : للحساب والجزاء : { فُرَادَى } أي : منفردين عن الأموال والأولاد ، وما أثرتموه من الدنيا . أو عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم . و ( فرادى ) جمع فريد ، كأسير وأسارى .
{ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : مشبهين ابتداء خلقكم ، حفاة عراة غرلاً ( يعني قلفاً ) .
روى الشيخان عن ابن عباس قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال : < أيها الناس ! إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلاً > { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } .
ورويا أيضاً عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < تحشرون حفاة عراة غرْلاً . قالت عائشة : فقلت يا رسول الله ! الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض ؟ ! قال : الأمر أشد من أن يهمهم ذلك > .
وروى الطبري بسنده عن عائشة أنها قرأت قول الله عزَّ وجل : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } فقالت : يا رسول الله ! واسوأتاه ! إن الرجال والنساء يحشرون جميعاً ينظر بعضهم إلى سوأة بعض ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لكل امرئ منهم يومئذٍ شأن يغنيه . لا ينظر الرجال إلى النساء ، ولا النساء إلى الرجال ، شُغِل بعضهم عن بعض > .
{ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ } ما تفضلنا به عليكم في الدنيا ، فشغلتم به عن الآخرة من الأموال والأولاد والخدم والخول : { وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } يعني : في الدنيا ، ولم تحملوا منه نقيراً . كناية عن كونهم لم يصرفوه إلى ما يفيد في الآخرة .
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يقول ابن آدم : مالي ! مالي ! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت ؟ وزاد في رواية : وما سوى بذلك فهو ذاهب وتاركه للناس .
{ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ } أي : لله في الربوبية ، واستحقاق العبادة { لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } قُرئ بالرفع . أي : شملكم . فإن البين من الأضداد ، يستعمل للوصل والفصل . وبالنصب على إضمار الفاعل ، لدلالة ما قبله عليه . أي : تقطع الأمر ، أو الاشتراك ، أو وصلكم بينكم . أو على إقامته مقام موصوفه والأصل : لقد تقطع ما بينكم ، وقد قُرئ به . أي : تقطع ما بينكم من الأسباب والوصلات .
{ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } أي : ذهب عنكم ما زعمتم من رجاء الأنداد والأصنام ، كقوله تعالى : { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [ البقرة : 166 - 167 ] . وقال تعالى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] { وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } [ العنكبوت : 25 ] ، والآيات في هذا كثيرة جداً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } [ 95 ]
{ إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى } شروع في بعض مبدعاته الدالة على كمال قدرته ، وعلمه وحكمته ، إثر تقرير شأن توحيده تعالى ، وذلك للتنبيه على أن المقصود الأعظم هو معرفته سبحانه وتعالى بجميع صفاته وأفعاله ، وأنه مبدع الأشياء وخالقها . ومن كان كذلك كان هو المستحق للعبادة ، لا هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها ، ولتعريف خطئهم في الإشراك الذي كانوا عليه . والمعنى : أن الذي يستحق العبادة دون غيره ، هو الله الذي فلق الحب عن النبات ، والنواة عن النخلة .
وفي معنى ( فالق ) قولان :
أحدهما - أنه بمعنى خالق . وهو قول ابن عباس في رواية العوفيّ عنه . وبه قال الضحاك ومقاتل . قال الواحديّ : ذهبوا بـ ( فالق ) مذهب ( فاطر ) . وأنكر الطبري هذا ، وقال : لا يعرف في كلام العرب ( فلق الله الشيء ) ، بمعنى خلق . ونقل الأزهريّ عن الزجاج جوازه . وكذا المجد في القاموس .
قال الرازي : ( الفطر ) هو الشق ، وكذلك ( الفلق ) . فالشيء قبل أن دخل في الوجود كان معدوماً محضاً ، ونفياً صرفاً . والعقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها ، ولا انفلاق ، ولا انشقاق . فإذا أخرجه المبدع الموجود من العدم إلى الوجود ، فكأنه بحسب التخيل والتوهم شق ذلك العدم وفلقه . وأخرج الحدث من ذلك الشق . فهذا التأويل لا يبعد حمل الفالق على الموجد والمبدع .
والقول الثاني - وهو قول الأكثرين : أن الفلق هو الشق . وفي معناه وجهان :
أحدهما - مروي عن ابن عباس قال : فلق الحبة عن السنبلة ، والنواة عن النخلة . وهو قول الحسن والسدّي وابن زيد . قال الزجاج : يشق الحبة اليابسة ، والنواة عن اليابسة ، فيخرج منها ورقاً أخضر .
الوجه الثاني - وهو قول مجاهد : أنه الشقان اللذان في الحب والنوى .
وضعف بأنه لا دلالة فيه على كمال القدرة .
و ( الحب ) : ما ليس له نوى ، كالحنطة والشعير والأرز .
و ( النوى ) : جمع نواة ، وهو الموجود في داخل الثمرة ، مثل نوى التمر والخوخ وغيرهما .
قال الإمام الرازي : إذا عرفت ذلك ، فنقول : إنه إذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة ، ثم مرّ به قدر من المدة ، أظهر الله تعالى في تلك الحبة والنواة من أعلاها شقّاً ، ومن أسفلها شقّاً آخر ، فالأول يخرج منه الشجرة الصاعدة إلى الهواء والثاني يخرج منه الشجرة الهابطة في الأرض ، المسماة بعروق الشجرة . وتصير تلك الحبة والنواة سبباً لاتصال الشجرة الصاعدة في الهواء بالشجرة الهابطة في الأرض . ثم إن ههنا .
عجائب :
فإحداها - أن طبيعة الشجرة ، إن كانت تقتضي الهويَّ في عمق الأرض ، فكيف تولدت منها الشجرة الصاعدة في الهواء ؟ وإن كانت تقتضي الصعود في الهواء ، فكيف تولدت منها الشجرة الهابطة في الأرض ؟ فلما تولد منها الشجرتان ، مع أن الحس والعقل يشهد بكون طبيعة إحدى الشجرتين مضادة لطبيعة الشجرة الأخرى -علمنا أن ذلك ليس بمقتضى الطبع والخاصية ، بل بمقتضى الإيجاد والإبداع والتكوين والاختراع .
وثانيها - أن باطن الأرض جرم كثيف صلب ، لا تنفذ المسلّة القوية فيه ، ولا يغوص السكين الحادّ القوي فيه . ثم إنا نشاهد أطراف تلك العروق في غاية الدقة واللطافة بحيث لو دلكها الإنسان بإصبعه بأدنى قوة ، لصارت كالماء ، ثم إنها مع غاية اللطافة تقوى على النفوذ في تلك الأرض الصلبة ، والغوص في بواطن تلك الأجرام الكثيفة . فحصول هذه القوى الشديدة ، لهذه الأجرام الضعيفة التي هي في غاية اللطافة ، لا وأن يكون بتقدير العزيز الحكيم .
وثالثها - أنه يتولد من تلك النواة شجرة ، ويحصل في تلك الشجرة طبائع مختلفة ، فإنَّ قشر الخشبة له طبيعة مخصوصة ، وفي داخل ذلك القشر جرم الخشبة ، وفي تلك الخشبة جسم رخو ضعيف يشبه ، العهن المنفوش . ثم إنه يتولد من ساق الشجرة أغصانها ، ويتولد على الأغصان الأوراق أولاً ، ثم الأزهار والأنوار ثانياً ، ثم الفاكهة ثالثاً . ثم قد يحصل للفاكهة أربعة أنواع من القشر : مثل الجوز ، فإن قشره الأعلى هو ذلك الأخضر ، وتحته ذلك القشر الذي يشبه الخشب ، وتحته ذلك القشر الذي هو كالغشاء الرقيق المحيط باللب ، وتحته ذلك اللب وذلك اللب مشتمل على جرم كثيف ، وهو أيضاً كالقشر ، وعلى جرم لطيف ، وهو الدهن . وهو المقصود الأصلي . فتولد هذه الأجسام المختلفة في طبائعها وصفاتها وألوانها وأشكالها وطعومها ، مع تساوي تأثيرات الطبائع والنجوم والفصول الأربعة ، والطبائع الأربعة - يدل على أنها إنما حدثت بتدبير الحكيم الرحيم المختار القادر ، لا بتدبير الطبائع والعناصر . ورابعها - أنك قد تجد الطبائع الأربع حاصلة في الفاكهة الواحدة , فالأترنج : قشره حارّ يابس , ولحمه بارد رطب , وحماضه بارد يابس , وبزره حار يابس . وكذلك العنب : قشره وعجَمَهُ بارد يابس , وماؤه ولحمه حارٍ رطب . فتولد هذه الطبائع المتضادة , والخواص المتنافرة عن الحبة الواحدة - لا بد وأن يكون بإيجاد الفاعل المختار .
و خامسها - أنك تجد الفواكه مختلفة , فبعضها يكون اللب في الداخل , والقشرة في الخارج , كما في الجوز واللوز . وبعضها يكون الفاكهة المطلوبة في الخارج , وتكون الخشبة في الداخل , كالخوخ والمشمش . وبعضها يكون النواة لها لبّ , كما في نوى المشمش والخوخ . وبعضها لا لب له , كما في نوى التمر . وبعض الفواكه لا يكون له من الداخل والخارج قشر , بل يكون كله مطلوباً , كالتين . فهذه أحوال مختلفة في هذه الفواكه . وأيضاً هذه الحبوب مختلفة في الأشكال والصور , فشكل الحنطة كأنه نصف دائرة , وشكل الشعير كأنه مخروطان اتصلا بقاعدتهما , وشكل العدس كأنه دائرة , وشكل الحمص على وجه آخر . فهذه الأشكال المختلفة لا بد وأن تكون لأسرار وحكمٍ , علم الخالق أن تركيبها لا يكمل إلا على ذلك الشكل . وأيضاً فقد أودع الخالق تعالى في كل نوع من أنواع الحبوب خاصية أخرى . ومنفعة أخرى . وأيضاً تكون الثمرة الواحدة غذاء لحيوانٍ , وسمّاً لحيوان آخر , فاختلاف هذه الصفات والأشكال والأحوال , مع اتحاد الطبائع , وتأثيرات الكواكب ,يدل على أن كلها إما حصلت بتخليق الفاعل المختار الحكيم .
وسادسها - أنك إذا أخذت ورقة واحدة من أوراق الشجرة , وجدت خطّاً واحداً مستقيماً في وسطها , كأنه بالنسبة إلى تلك الورقة كالنخاع بالنسبة إلى بدن الإنسان . وكما أنه ينفصل من النخاع أعصاب كثيرة , يمنه ويسرة , في بدن الإنسان , ثم لا يزال ينفصل عن كل شعبة شعب أُخر ولا تزال تستدق حتى تخرج عن الحس والأبصار , بسبب الصغر - فكذلك في تلك الورقة قد ينفصل عن ذلك الخط الكبير الوسطاني خطوط منفصلة , وعن كل واحد منها خطوط مختلفة أخرى أدق من الأولى , ولا يزال يبقى على هذا المنهج , حتى تخرج تلك الخطوط عن الحس والبصر . الخالق تعالى إنما فعل ذلك , حتى أن القوى الجاذبة المركوزة في جرم تلك الورقة , تقوى على جذب الأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة . فلما وقفت على عناية الخالق في إيجاد تلك الورقة الواحدة , عملت أن عنايته في تخليق جملة تلك الشجرة أكمل , وعرفت أن عنايته في تكوين جملة النبات أكمل , ثم إذا عرفت أنه تعالى إنما خلق جملة النبات لمصلحة الحيوان , علمت أن عنايته بتخليق الحيوان أكمل . ولما عرفت أن المقصود من تخليق جملة الحيوانات هو الإنسان , علمت أن عنايته في تخليق الإنسان أكمل . ثم إنه تعالى خلق النبات والحيوان في هذا العالم ليكون غداء ودواءً للإنسان بحسب جسده , والمقصود من تخليق الإنسان هو المعرفة والمحبة والخدمة ,كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] . فانظر أيها المسكين بعين رأسك في تلك الورقة الواحدة من تلك الشجرة , واعرف كيفية تلك العروق والأوتار فيها , ثم انتقل من مرتبة إلى ما فوقها , حتى تعرف أن المقصود الأخير منها حصول المعرفة والمحبة في الأرواح البشرية ، فحينئذ ينفتح لك باب من المكاشفات لا آخر له ، ويظهر لك أن أنواع نعم الله في حقك غير متناهية ، كما قال : { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] . وكل ذلك إنما ظهر من كيفية خلقة تلك الورقة من الحبة والنواة . فهذا كلام مختصر في تفسير قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى } . ومتى وقف الإنسان عليه أمكنه تفريقها وتشعيبها إلى ما لا آ خر له . ونسأل الله التوفيق والهداية . انتهى كلام الرازي رحمه الله تعالى .
{ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } كالحيوان من النطفة ، والنبات الغض الطريّ من الحب اليابس { وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ } كالنطفة والحب : { مِنَ الْحَيِّ } كالحيوان والنبات .
{ ذَلِكُمُ اللَّهُ } أي : الفالق للحب والنوى ، والمخرج الحيّ من الميت وعكسه ، هو الله ، القادر العظيم الشأن ، المستحق للعبادة وحده .
{ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } أي : تصرفون عنه إلى غيره .
قال الرازي : والمقصود منه أن الحيّ والميت متضادان متنافيان ، فحصول المثل عن المثل ، يوهم أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية . أما حصول الضد من الضد فيمتنع أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية . بل لا بد وأن يكون بتقدير المقدر الحكيم ، والمدبر العليم .
تنبيه :
ذهب الزمخشري ومن تبعه إلى أن قوله تعالى : { وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ } عطف على : { فَالِقُ } لا على : { يُخْرِجُ الْحَيَّ } . لأنه بيان لفالق الحب والنوى ، وهذا لا يصلح للبيان وإن صح عطف الاسم المشتق على الفعل وعكسه ، كقوله : { صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } [ الملك : 19 ] . والصحيح أنه معطوف على : { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } واشتماله على زيادة فيه ، لا يضر ذلك بكونه بياناً . كما أن : { مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ } بيان مع شموله للحيوان والنبات . وفيه من البديع التبديل ، كقوله تعالى : { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } [ الحج : 61 ] .
قال في " الانتصاف " : وقد وردا جميعاً بصيغة الفعل كثيراً في قوله : { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } [ الروم : 19 ] . وقوله : { أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيّ } [ يونس : 31 ] فعطفُ أحد القسمين على الآخر ، كثيراً دليلٌ على أنهما توأمان مقترنان ، وذلك يبعد قطعه عنه في آية الأنعام هذه وردّه إلى : { فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى } فالوجه -والله أعلم -أن يقال : كان الأصل وروده بصيغة اسم الفاعل أسوة أمثاله من الصفات المذكورة في هذه الآية من قوله : { فَالِقُ الْحَبِّ } و : { فَالِقُ الإِصْبَاحِ } و : { وَجَعَلَ اللَّيْلَ } و : { وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ } [ وفي المطبوع : مُخْرِجُ الحَيَّ نِنَ الْمَيِّتِ ] إلا أنه عدل عن اسم الفاعل إلى الفعل المضارع في هذا الوصف وحده ، وهو قوله : { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } إرادة لتصوير إخراج الحيّ من الميت ، واستحضاره في ذهن السامع . وهذا التصوير والاستحضار إنما يتمكن في أدائها الفعلُ المضارع دون اسم الفاعل والماضي . وقد مضى تمثيل ذلك بقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً } [ الحج : 63 ] فعدل عن الماضي المطابق لقوله : { أَنزَلَ } لهذا المعنى ، ومنه ما في قوله :
~بأنّي قَدْ لَقِيتُ الغُولَ تَهْوِي بسَهْبٍ كالصحيفةِ صَحْصَحَان
~فَأَضربُها بلا دَهَشٍ فَخَرَّتْ صَريعاً لليدينِ ولِلجرَانِ
فعدل إلى المضارع إرادة لتصوير شجاعته ، واستحضارها لذهن السامع . ومنه : { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَة } [ ص : 18 - 19 ] ، فعدل عن ( مُسَبِّحات ) وإن كان مطابقاً لـ : { مَحْشُورَةً } لهذا السبب - والله أعلم - . ثم هذا المقصد إنما يجيء فيما يكون العناية به أقوى . ولا شك أن إخراج الحيّ من الميت أشهر في القدرة من عكسه . وهو أيضاً أول الحالين ، والنظر أول ما يبدأ فيه . ثم القسم الآخر وهو إخراج الميت من الحي بان عنه ، فكان الأول جديراً بالتصديق والتأكيد في النفس ، ولذلك هو بمقدم أبداً على القسم الآخر في الذكر ؛ حسب ترتيبهما في الواقع . وسهل عطف الاسم على الفعل وحسنه . أن اسم الفاعل في معنى الفعل المضارع ، فكل واحد منهما يقدّر بالآخر ، فلا جناح في عطفه عليه - والله أعلم -انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ 96 ]
وقوله تعالى : { فَالِقُ الْإِصْبَاحِ } خبر آخر لـ ( إنْ ) ، أو لمبتدأ محذوف . و ( الإصْبَاحِ ) مصدر سمي به الصبح . قال امرؤ القيس :
~ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انْجَلِي بصُبْحٍ وما الإصباح فيك بأَمْثَلِ
أي : شاقُّه عن ظلمة الليل : { وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً } أي : صيّر الظلام يسكن إليه ، ويطمئن به ، استرواحاً من تعب النهار . أو يسكن فيه الخلق ، أي : يقرّوا ويهدؤا ( من السكون ) -وهو الأظهر لقوله : { لتسكنوا فيه } - وقُرئ ( وَجَاعِلُ اللَّيْلَ ) .
{ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً } أي : على أدوار مختلفة ، لتحسب بهما الأوقات التي نيط بها العبادات والمعاملات . كما ذكره في سورة يونس في قوله : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَاب } [ يونس : 5 ] .
{ ذَلِكَ } أي : التسيير بالحساب المعلوم : { تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } أي : الغالب على أمره { الْعَلِيمِ } بتدبيرهما ، ومراعاة الحكمة في شأنهما .
تنبيهات :
الأول - قال الرازي : قوله تعالى : { فَالِقُ الإِصْبَاحِ } . . الآية ، نوع آخر من دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته . فالنوع المتقدم كان مأخذوذاً من دلالة أحوال النبات والحيوان . والنوع المذكور في هذه الآية مأخوذ من الأحوال الفلكية . وذلك لأن فلق ظلمة الليل بنور الصبح أعظم في كمال القدرة من فلق الحب والنوى بالنبات والشجر ، ولأن من المعلوم بالضرورة أن الأحوال الفلكية أعظم في القلوب وأكثر وقعاً من الأحوال الأرضية . ثم قرر الحجة من وجوه عديدة ، وأجاد رحمه الله .
الثاني -قُرئ : { الإِصْبَاحِ } بفتح الهمزة ، على أنه جمع صُبْح ، كقُفْل وأقفال .
الثالث - في " البحر الكبير " : أن السنة الشرعية قمرية لا شمسية ، والشمسية مما حدث في دواوين الخراج ، وإنما أضيف الحساب في الآية إليهما ، لأن بطلوع الشمس ومغيبها يعرف عدد الأيام العي تتركب منها الشهور والسنون ، فمن هنا دخلت - انتهى . الرابع - قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : وكثيراً ما إذا ذكر الله تعالى خلق الليل والنهار والشمس والقمر يختم الكلام بالعزة والعلم ، كما ذكر في هذه الآية ، وكما في قوله : { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ يس : 37 - 38 ] . ولما ذكر خلق السماوات والأرض وما فيهن في أول سورة ( حم السجدة ) قال : { وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ فصلت : 12 ] . انتهى .
وفي ( العزة ) معنى القهر ، أي : الذي قهرهما بجعلهما مسخرين ، لا يتيسر لهما إلا ما أريد بهما ، كما قال : { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } [ الأعراف : 54 ] . ومعنى القدرة الكاملة أيضاً .
قال الرازيّ : { الْعَزِيزِ } إشارة إلى كمال قدرته ، و : { الْعَلِيمِ } إشارة إلى كمال علمه ، ومعناه : أن تقدير أجرام الأفلاك بصفاتها المخصوصة وهيأتها الممحدودة ، وحركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة في البطء والسرعة لا يمكن تحصيله إلا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات ، وعلم نافذ في جميع المعلومات من الكليات والجزئيات . وذلك تصريح بأن حصول هذه الأحوال والصفات ليس بالطبع والخاصة . وإنما هو بتخصيص الفاعل المختار -والله أعلم .
الخامس -وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : { حُسْبَاناً } قال : يعني عدد الأيام والشهور والسنين . وقال قتادة : يدوران في حساب . قال السيوطيّ : فالآية أصل في الحساب والميقات . انتهى .
ثم بيّن تعالى نعمته في الكواكب ، إثر بيان نعمته في النيرّين إعلاماً بكمال قدرته وحكمته ورحمته بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ 97 ]
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } أي : في ظلمات الليل في طرق البر والبحر : { قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ } أي : بينا الآيات على قدرته تعالى وحكمته واليوم الآخر : { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : وجه الاستدلال بها . وإنما خلقت للاستدلال المتأثر بالعمل بموجبها ، ألا وهو الاستدلال بها على معرفة الصانع الحكيم ، وكمال قدرته وعلمه واستحقاقه العبادةَ وحده .
تنبيهان
الأول -ذكر تعالى في غير هذه السورة كون هذه الكواكب زينة للسماء ، وكونها رجوماً للشياطين . قال بعض السلف : ممن اعتقد في هذه النجوم غير ثلاث فقد أخطأ وكذب على الله سبحانه : أن الله جعلها زينة للسماء ، ورجوماً للشياطين ، ويُهتَدى بها في ظلمات البر والبحر - نقله ابن كثير - .
أقول : مراده اعتقادٌ مناف للعقد الصحيح لا اعتقاد حكم وإسرار غير الثلاث فيها إذ فوائد المكونات غير محصور . وذكر حكمة في مكون لا ينفي ما عداها - فافهم .
الثاني - قال السيوطي في " الإكليل " : هذه الآية أصل في الميقات ، وأدلة العقليات ، ثم بين تعالى نوعاً آخر من نعمه ، وأدلة قدرته الباهرة بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } [ 98 ]
{ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني : آدم عليه السلام : { فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } قُرئ : { مُسْتَقَرٌّ } بفتح القاف وكسرها ، وأما : { مُسْتَوْدَعٌ } فبفتح الدال لا غير . وهما على الأول ، إما مصدران ، أي : فلكم استقرار واستيداع ، أو اسما مكان ، أي : موضع استقرار استيداع . والاستقرار إما في الأصلاب ، أو فوق الأرض ، لقوله تعالى : { وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } [ البقرة : 36 ] . أو في الأرحام ، لقوله تعالى : { وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ } [ الحج : 5 ] أو الاستيداع في الأرحام ، فجعل الصلب مستقرّ النطفة ، والرحم مستودعها ، لأنها تحصل في الصلب ، لا من قبل شخص آخر ، وفي الرحم من قبل الأب ، فأشبهت الوديعة ، كأن الرجل أودعها ما كان عنده ، أو في الأصلاب ، أو تحت الأرض ، أو فوقها ، فإنها عليها ، أو وضعت فيها لتخرج منها مرة أخرى كقوله :
~وما المال والأهلون إلا ودائعُ ولا بدَّ يوماً أن تردّ الودائعُ
ونقل الرازي عن الأصمّ أن المستقر من خُلِقَ من النفس الأولى ، ودخل الدنيا واستقر فيها . والمستودع الذي لم يخلق بعد وسيخلق . وجعل الأصفهاني ( المستقر ) كناية عن الذَّكرَ ، و ( المستودع ) كناية عن الأنثى . قال : إنما عبر عن الذكر بـ ( المستقر ) لأن النطفة إنما تتولد في صلبه ، وإنما تستقر هناك . وعبر عن الأنثى بـ ( المستودع ) لأن رحمها شبيهة بالمستودع لتلك النطفة - والله أعلم - .
وعلى قراءة ( مستقر ) بكسر القاف اسم فاعل ، أي : فمنكم قارّ ، ومنكم مستودع ، ووجه كون الأول معلوماً . والثاني مجهولاً ، كون الاستقرار صادراً منّا دون الاستيداع .
قال الرازيّ : مقصود الآية أن الناس إنما تولدوا من شخص واحد وهو آدم عليه السلام ، ثم اختلفوا في المستقر والمستودع بحسب الوجوه المذكورة فنقول : الأشخاص الإنسانية متساوية في الجسمية ، ومختلفة في الصفات التي باعتبارها حصل التفاوت في المستقر والمستودع . والاختلاف في تلك الصفات لا بدّ له من سبب ومؤثر ، وليس السبب هو الجسمية ولوازمها ، وإلاّ لامتنع حصول التفاوت في الصفات ، فوجب أن يكون السبب هو الفاعل المختار الحكيم . ونظير هذه الآية في الدلالة قوله تعالى : { وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ } [ الروم : 22 ] .
{ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } قال الزمخشري : فإن قلت ، لم قيل ( يعلمون ) مع ذكر النجوم ، و ( يفقهون ) مع ذكر إنشاء بني آدم ؟ قلت : كان إنشاء الإنس من نفس واحدة ، وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيراً . فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر ، مطابقاً له . انتهى -وهذا بناء على أن الفقه شدة الفهم والفطنة ، ومن قال : إنه الفهم مطلقاً ، وليس بأبلغ من العلم - قال : إنه تفنن ، حذراً من صورة التكرير .
قال الناصر في " الانتصاف " : جواب الزمخشريّ صناعي ، وإلا فلا يتحقق هذا التفاوت ، ولا سبيل إلى الحقيقة .
قال : والتحقيق أنه لما أريد فصل كليهما بفاصلة تنبيهاً على استقلال كل واحدة منهما بالمقصود من الحجة كره فصلهما بفاصلتين متساويتين في اللفظ ، لما في ذلك من التكرار ، فعدل إلى فاصلة مخالفة ، تحسيناً للنظم ، واتساقاً في البلاغة ، ويحتمل وجها آخر في تخصيص الأولى بالعلم ، والثانية بالفقه ، وهو أنه لما كان المقصود التعريض بمن لا يتدبر آيات الله ، ولا يعتبر بمخلوقاته ، وكانت الآيات المذكورة أولاً خارجة عن أنفس النظار ومنافية لها ، إذا النجوم والنظر فيها ، وعلم الحكمة الإلهية في تدبيره لها ، أمر خارج عن نفس الناظر ، ولا كذلك النظر في إنشائهم من نفس واحدة ، وتقابلتهم في أطوار مختلفة ، وأحوال متغايرة فإنه نظرٌ لا يعدو نفس الناظر ، ولا يتجاوزها . فإذا تمهد ذلك . فجهل الإنسان بنفسه وأحواله ، وعدم النظر فيها والتفكر ، أبشع من جهله بالأمور الخارجية عنه ، كالنجوم والأفلاك ، ومقادير سيرها وتقلبها . فلما كان الفقه أدنى درجات العلم ، إذ هو عبارة عن الفهم ، نفي من أبشع القبيلين جهلاً ، وهم الذين لا يتبصرون في أنفسهم ، ونفي الأدنى أبشع من نفي الأعلى درجة ، فخص به أسوأ الفريقين حالاً . و ( يفقهون ) ههنا مضارع فقه الشيء -بكسر القاف -إذا فهمه ، ولو أدنى فهم . وليس من ( فقُه ) بضم القاف ، لأن تلك درجة عالية ، ومعناه صار فقيهاً -قاله الهروي في معرض الاستدلال على أن ( فقه ) أنزل من ( علم ) - . وفي حديث سلمان أنه قال ، وقد سألته امرأة جاءته : فَقِهَتْ أي : فَهِمَتْ ، كالمتعجب من فهم المرأة عنه . وإذا قيل : فلان لا يفقه شيئاً كان أذمّ في العرف من قول : فلان لا يعلم شيئاً . وكأن معنى قولك : ( لا يفقه شيئاً ) ليست له أهلية الفهم وإن فهِّم . وأما قولك ( لا يعلم شيئاً ) فغايته نفي حصول العلم له ، وقد يكون له أهلية الفهم والعلم ، لو يعلّم . والذي يدل على أن التارك للفكرة في نفسه أجهل وأسوأ حالاً من التارك للفكرة في غيره قوله تعالى : { وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } فخص التبصر في النفس بعد اندراجها فيما في الأرض من الآيات ، وأنكر على من لا يتبصر في نفسه إنكاراً مستأنفاً . وقولنا ، في أدراج الكلام : ( إنه نفي العلم عن أحد الفريقين ، ونفي الفقه عن الآخر ) يعني : بطريق التعريض ، حيث خص العلم بالآيات المفصلة ، والتفقه فيها بقومٍ . فأشعر أن قوماً غيرهم لا علم عندهم ، ولا فقه - والله الموفق - فتأمل هذا الفصل ، وإن طال بعض الطول ، فالنظر في الحسن غير مملول . انتهى . وهذا من دقة النظر في الكتاب العزيز ، وإبراز محاسنه ولطائفه .
ثم بين تعالى حجة كبرى على كمال قدرته ، ومنة أخرى من جسيم نعمته بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ 99 ]
{ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } أي : من السحاب ، لقوله تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ } [ الواقعة : 68 - 69 ] . وسمي السحاب سماءً ، لأن العرب تسمي كل ما علا سماء .
{ فَأَخْرَجْنَا بِهِ } التفت إلى التكلم إظهاراً لكمال العناية بشأن ما أنزل الماء لأجله أي : فأخرجنا بعظمتنا بذلك الماء ، مع وحدته : { نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } أي : صنف من أصناف النبات والثمار المختلفة الطعوم والألوان ، كقوله تعالى : { يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ } [ الرعد : 4 ] .
{ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ } أي : من النبات ، يعني أصوله : { خَضِراً } أي : شيئاً غضّاً أخصر . يقال : أخضر وخضر ، كأعور وعور ، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة { نُخْرِجُ مِنْهُ } صفة لـ ( خَضِراً ) وصيغة المضارع ، لاستحضار الصورة ، لما فيها من الغرابة ، أي : نخرج من ذلك الخضر : { حَبّاً مُتَرَاكِباً } أي : متراكماً بعضه على بعض ، مثل سنابل البر والشعير والأرز .
قال الرازي : ويحصل فوق السنبلة أجسام دقيقة حادة كأنها الإبر ، والمقصود من تخليقها أن تمنع الطيور من التقاط تلك الحبات المتراكبة .
ثم بين تعالى ما ينشأ عن النوى من الشجر ، إثر بيان ما ينشأ عن الحب من النبات بقوله سبحانه : { وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ } الطلع : أول ما يبدو من ثمر النخيل كالكيزان يكون نفيه العذق ، فإذا شق عنه كيزانه سمي عذقاً ( بكسر العين وسكون الذال المعجمة بعدها ) - وهو القنو ، أي : العرجون ، بما فيه من الشماريخ ، وجمعه قنوان - ( مثلث القاف ) وهو ومثناه سواء ، لا يفرق بينهما إلا الإعراب .
قال الزمخشري : قنوان ، رفع الابتداء ، و ( من النخل ) خبره ، و ( من طلعها ) بدل منه ، كأنه قيل : وحاصلة من طلع النخل قنوان ، انتهى . وجوّز أن يكون ( من النخل ) عطفاً على ( منه ) وما بعده مبتدأ وخبر . أي : وأخرجنا من النخل نخلاً من طلعها قنوان دانية ، أي : ملتفة ، يقرب بعضها من بعض ، أو قريبة من المتناول ، وإنما اقتصر على ذكرها لدلالتها على مقابلها ، أعني البعيدة ، كقوله تعالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } ولزيادة النعمة فيها : { وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ } عطف على ( نبات كل شيء ) أي : وأخرجنا به جنات ، أو على ( خضراً ) . وقال الطيبيّ : الأظهر أن يكون عطفاً على ( حبّاً ) لأن قوله : ( نبات كل شيء ) مفصل لاشتماله على كل صنف من أصناف النامي ، كأنه قال : فأخرجنا بالنامي نبات كل شيء ينبت كل صنف من أصناف النامي ، والنامي : الحب والنوى وشبههما . وقوله : { فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً } الخ تفصيل لذلك النبات . أي : أخرجنا منه خضراً بسبب الماء ، فيكون بدلاً من ( فأخرجنا ) الأول ، بدل اشتمال . ومن ههنا يقع التفصيل ، فبعض يخرج منه السنابل ذلت حبوب متكاثرة ، وبعض يخرج منه ذات قنوان دانية ، وبعض يخرج منه وبعض آخر جنات معروشات . . الخ .
{ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ } العطف فيه كما تقدم : { مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } حال من ( الزيتون ) ، اكتفى به عن حال ما بعده . أو من ( الرمان ) لقربه . والمحذوف حال الأول .
قال الزمخشري : يقال اشتبه الشيئان وتشابها ، كقولك : استويا وتساويا . والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً . وقُرئ : متشابهاً وغير متشابه . والمعنى : بعضه متشابهاً ، وبعضه غير متشابه في الهيئة والمقدار واللون والطعم ، وغير ذلك من الأوصاف الدالة على كمال قدرة صانعها ، وحكمة منشئها ومبدعها .
{ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ } أي : ثمر كل واحد من ذلك إذا أخرج ثمره ، كيف يكون ضئيلاً ضعيفاً ، لا يكاد ينتفع به { وَيَنْعِهِ } أي : وإلى حال ينعه ونضجه ، كيف يعود شيئاً جامعاً لمنافع وملاذ . أي : انظروا إلى ذلك نظر اعتبار واستبصار واستدلال ، على قدرة مقدره ومدبره وناقله ، على وفق الرحمة والحكمة ، من حال إلى حال ، فإن فيه آيات عظيمة دالة على ذلك ، كما قال :
{ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي : يصدقون بأن الذي أخرج هذا النبات وهذه الثمار هو المستحق للعبادة دون ما سواه ، أو هو القادر على أن يحيي الموتى ويبعثهم . قال بعضهم : القوم كانوا ينكرون البعث ، فاحتج عليهم بتصريف ما خلق ، ونقله من حال إلى حال ، وهو ما يعلمونه قطعاً ويشاهدونه من إحياء الأرض بعد موتها ، وإخراج أنواع النبات والثمار منها ، وأنه لا يقدر على ذلك أحد إلا الله تعالى . فبين أنه تعالى كذلك قادر على إنشائهم من نفوسهم وأبدانهم ، وعلى البعث بإنزال المطر من السماء ، ثم إنبات الأجساد كالنبات ، ثم جعلها خضرة بالحياة ، ثم تصوير الأعمال بصورة كثيرة ، وإفادة أمور زائدة ، وتفريعها ، وإعطاء أطعمة مشتبهة في الصورة ، غير متشابهة في اللذة ، جراء عليها ، والله أعلم - .
لطيفة :
قال الرازيّ : اعلم أنه تعالى ذكر ههنا أربعة أنواع من الأشجار : النخل والعنب والزيتون والرمان ، وإنما قدم الزرع على الشجر ، لأن الزرع غذاء ، وثمار الأشجار فواكه ، والغذاء مقدم على الفاكهة . وإنما قدم النخل على سائر الفواكه ، لأن التمر يجري مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب ، ولأن الحكماء بينوا أن بينه وبين الحيوان مشابه في خواص كثيرة ، بحيث لا توجد تلك المشابهة في سائر أنواع النبات . ولهذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم : < فإنها خلقت من بقية طينة آدم > . وإنما ذكر العنب عقيب النخل ، لأن العنب أشرف أنواع الفواكه ، وذلك لأنه من أول ما يظهر يصير منتفعاً به إلى آخر الحال . فأول ما يظهر على الشجر ، يظهر خيوط خضر دقيقة حامضة الطعم ، لذيذة المطعم ، وقد يمكن اتخاذ الطبائخ منه . ثم بعده يظهر الحصرم ، وهو طعام شريف للأصحاء والمرضى ، وقد يتخذ الحصرم أشربة لطيفة المذاق ، نافعة لأصحاب الصفراء ، وقد يتخذ الطبيخ منه ، فكأنه ألذ الطبائخ الحامضة . ثم إذا تم العنب فهو ألذ الفواكه وأشهاها ، ويمكن ادخار العنب المعلق سنة أو أقل أو أكثر ، وهو في الحقيقة ألذ الفواكه المدخرة ، ثم يبقى منه أنواع من المتناولات وهي الزبيب والدبس والخل ، ومنافع هذه لا يمكن ذكرها إلا في المجلدات . وأحسن ما في العنب عَجَمُهُ ، والأطباء يتخذون منه ( جوارشنات ) عظيمة النفع للمعدة الضعيفة الرطبة . فثبت أن العنب كأنه سلطان الفواكه .
وأما الزيتون فهو أيضاً كثير النفع ، لأنه يمكن تناوله كما هو ، وينفصل أيضاً عنه دهن كثير ، عظيم النفع في الأكل ، وفي سائر وجوه الاستعمال .
وأما الرمان فحاله عجيب جدّاً ، وذلك لأنه جسم مركب من أربعة أقسام : قشرة وشحمه وعَجَمهُ وماؤه . أما الأقسام الثلاثة الأول وهي القشر والشحم والعجم فكلها باردة يابسة قابضة عفصة قوية في هذه الصفات . وأما ماء الرمان فبالضد من هذه الصفات ، فإنه ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى الاعتدال ، وأشدها مناسبة للطباع المعتدلة ، وفيه تقوية للمزاج الضعيف ، وهو غذاء من وجه ، ودواء من وجه ، فكأنه سبحانه جمع فيه بين المتضادين المتغايرين . فكانت دلالة القدرة والرحمة فيه أكمل وأتم .
واعلم أن أنواع النبات أكثر من أن تفي بشرحها مجلدات ، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه الأقسام الأربعة ، التي هي أشرف أنواع النبات ، واكتفى بذكرها تنبيهاً على البواقي . انتهى .
أقول : حديث < أكرموا عمتكم النخلة > المذكور ، رواه أبو يعلى وابن أبي حاتم والعقيليّ وابن عدي وابن السني وأبو نعيم وابن مردويه عن علي رضي الله عنه ، كما في الجامع الصغير ، ورمز عليه بالضعف . ولما ذكر تعالى هذه البراهين ، من دلائل العالم العلوي والسفلي ، على عظيم قدرته ، وباهر حكمته ، ووافر نعمته ، واستحقاقه للألوهية وحده - عقبها بتوبيخ من أشرك به والرد عليه بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ } [ 100 ]
{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ } أي : جعلوهم شركاء له في العبادة . فإن قيل : فكيف عُبدت الجن مع أنهم إنما كانوا يبدون الأصنام ؟ فالجواب : أنهم ما عبدوها إلا عن طاعة الجن ، وأمرهم بذلك . كقوله : { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً } [ النساء : 117 - 119 ] . وكقوله تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي } [ الكهف : 50 ] الآية . وقال إبراهيم لأبيه : { يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً } [ مريم : 44 ] . وكقوله : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } [ يس : 60 - 61 ] وتقول الملائكة يوم القيامة : { ا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [ سبأ : 41 ] .
{ وَخَلَقَهُمْ } حال من فاعل : { جَعَلُواْ } ، مؤكدة لما في جَعْلِهِمْ ذلك من كمال القباحة والبطلان ، باعتبار علمهم بمضمونها . أي : وقد علموا أن الله خالقهم دون الجن : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } : { وفي المطبوع وليس من يخلق كمن لا يخلق } ! وقيل : الضمير للشركاء . أي : والحال أنه تعالى خلق الجن ، فكيف يجعلون مخلوقه شريكاً له ؟ كقول إبراهيم : { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 95 - 96 ] . أي : وإذا كان هو المستقل بالخالقية ، وجب أن يفرد بالعبادة ، وحده لا شريك له .
تنبيه :
ما ذكرناه من معنى قوله تعالى : { وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ } أنهم أطاعوا الجن في عبادة الأوثان ، هو ما قرره ابن كثير ، وأيده بالنظائر المتقدمة ، ونقل عن الحسن ، فتكون الكناية لمشركي العرب . وقيل : المراد بالجن الملائكة ، فإنهم عبدوهم وقالوا عنهم بنات الله . وكلا الأمرين موجب للشريك . أما الأول فظاهر . وأما الثاني فلأن الولد كفء الوالد ، فيشاركه في صفات الألوهية . وتسمية الملائكة ( جنّاً ) حقيقة ، لشمول لفظ الجن لهم . وقيل : استعارة . أي : عبدوا ما هو كالجن ، فيكون مخلوقاً مستتراً عن الأعين .
وذهب بعض السلف - منهم الكلبي - إلى أنها نزلت في الثنوية القائلين بأن للعالم إلهين : أحدهما خالق الخير وكل نافع . وثانيهما خالق الشر وكل ضار . ونقله ابن الجوزي عن ابن السائب . وحكاه الفخر عن ابن عباس رضي الله عنه ، وأنه قال : نزلت في الزنادقة الذين قالوا : إن الله وإبليس أَخَوَانِ . فالله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام والخيرات ؛ وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشرور .
قال الرازي : وقول ابن عباس المذكور أحسن الوجوه المذكور في هذه الآية ، وذلك ، لأن بهذا الوجه يحصل لهذه الآية مزيد فائدة مغايرة لما سبق ذكره في هذه الآيات المتقدمة .
وقوّى ابن عباس قوله المذكور بقوله تعالى : { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبا } [ الصافات : 158 ] . وإنما وصف بكونه من الجن ، لأن لفظ الجن مشتق من الاستتار ، والملائكة والروحانيين مستترة من العيون ، فلذلك أطلق لفظ الجن عليها .
قال الفخر : هذا مذهب المجوس . وإنما قال ابن عباس : هذا قول الزنادقة ، لأن المجوس يلقبون بالزنادقة ، لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزل عليه من عند الله مسمى بـ ( الزند ) ، والمنسوب إليه يسمى ( زندي ) ، ثم عُرّب فقيل : ( زنديق ) ، ثم جمع فقيل : ( زنادقة ) . واعلم أن المجوس قالوا : كل ما فيه هذا العالم من الخيرات فهو من ( يزدان ) ، وجميع ما فيه من الشرور فهو من ( اهرمن ) محدث ، ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة . والأقلون منهم قالوا : إنه قديم أزلي . وعلى القولين فقد اتفقوا على أنه شريك الله في تدبير هذا العالم ، فخيرات هذا العالم من الله تعالى ، وشروره من إبليس . فهذا شرح ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما . وإنما جمع حينئذ في الآية ، لكونه مع أتباعه كأنهم معبودون .
ثم قال الرازيّ : وقوله تعالى : { وَخَلَقَهُمْ } إشارة إلى الدليل القاطع على فساد كون إبليس شريكاً ، وتقريره أنا نقلنا عن المجوس أن الأكثرين منهم معترفون بأن إبليس ليس بقديم ، بل هو محدث . إذا ثبت هذا فنقول : إن كل محدث فله خالق وموجد ، وما ذلك إلا الله سبحانه وتعالى . فهؤلاء المجوس يلزمهم القطع بأن خالق إبليس هو الله تعالى . ولما كان إبليس أصلاً لجميع الشرور والآفات والمفاسد والقبائح ، والمجوس سلّموا أن خالقه هو الله تعالى ، فحينئذ قد سلموا أن إله العالم هو الخالق لما هو أصل الشرور والقابئح والمفاسد . وإذا كان كذلك امتنع عليهم أن يقولا : لا بد من إلهين ، فسقط قولهم . انتهى ملخصاً .
وقوله تعالى : { وَخَرَقُوا لَهُ } أي : اختلقوا وافتروْا له : { بَنِينَ } كقول أهل الكتابين في المسيح وعزير : { وَبَنَاتٍ } كقول بعض العرب في الملائكة .
قال الزمخشري : يقال خلق الإفك وخرقه واختلقه بمعنى . وسئل الحسن عنه فقال كلمة عربية كانت العرب تقولها . كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم : قد خرقها والله ! ويجوز أن يكون من ( خَرَقَ الثَّوْبَ ) إذا شقه : أي : اشتقوا له بنين وبنات . وقُرئ : { وَخَرَقُواْ } بالتشديد للتكثير لقوله ( بنين وبنات ) .
{ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي : من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب ، ولكن رمياً بقولٍ عن عمى وجهالة ، من غير فكر وروية ، أو بغير علم بمرتبة ما قالوا ، وأنه من الشناعة والبطلان بحيث لا يقادَرُ قدره . وفيه ذم لهم بأنهم يقولون بمجرد الرأي والهوى . وفيه إشارة إلى أنه لا يجوز أن ينسب إليه تعالى إلا ما جزم به ، وقام عليه الدليل .
ثم نزه ذاته العلية عما نسبوه إليه بقوله : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ } من أوصاف الحوادث الخسيسة من المشاركة والتوليد .
ثم استدل تعالى على بطلان ما اجترؤوا عليه بوجوه أربعة . بدأ منها بقوله(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ 101 ]
{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : مبدعهما بلا مثال سبق . وقيل : بمعنى عديم النظير فيهما . قال أبو السعود : والأول هو الوجه . والمعنى : أنه تعالى مبدع لقطري العالم العلويّ والسفليّ ، بلا مادة ، فاعل على الإطلاق ، منزه عن الأنفعال بالمرة .
والوالد عنصر الولد منفعل بانتقال مادته عنه ، فكيف يمكن أن يكون له ولد ؟
{ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ } أي : من أين وكيف يكون له ولد - كما زعموا - والحال أنه ليس له على زعمهم أيضاً صاحبة يكون الولد منها ؟ ويستحيل ضرورة وجود الولد بلا والدة ، وإن أمكن وجوده بلا والد . وأيضاً ، الولد لا يحصل إلا بين متجانسين ، ولا مجانس له تعالى .
وقوله تعالى : { أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } جملة مستأنفة ، لتقرير تنزهه عنه ، والحالية بعدها مؤكدة للاستحالة المذكورة .
وقوله تعالى : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } جملة أخرى مستأنفة ، لتحقيق ما ذكر من الاستحالة أو حال ثانية مقررة لها . أي : أنى يكون له ولد والحال أنه خلق كل شيء انتظمه التكوين والإيجاد من الموجودات التي من جملتها ما سموه ولداً له تعالى : فكيف يتصور أن يكون المخلوق ولداً لخالقه ؟ - أفاده أبو السعود - .
{ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : مبالغ في العلم أزلاً وأبداً . جملة مستأنفة أيضاً ، مقررة لمضمون ما قبلها من الدلائل القاطعة ، ببطلان مقالتهم الشنعاء . أي : أنه سبحانه لذته عالم بكل المعلومات ، فلو كان له ولد ، فلا بد أن يتصف بصفاته ، ومنها عموم العلم ، وهو لغيره تعالى منفي بالإجماع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [ 102 ]
{ ذَلِكُمُ } أي : الموصوف بما سبق ، البعيد رتبته عن مراتب من يشارك أو ينسب إليه الولادة ، إذ هو : { اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ } أي : بالإيمان به وحده ، فإن من جمع تلك الصفات استحق العبادة وحده { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } أي : رقيب وحفيظ ، يدبر كل ما سواه ويرزقهم ويكلؤهم بالليل والنهار .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [ 103 ]
قوله تعالى : { لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } جملة مستأنفة ، إما مؤكدة لقوله تعالى : { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } ذكرت للتخويف بأنه رقيب من حيث لا يرى فليحذر ، وإما هي مؤكدة لما تقرر قبل من تنزهه وتعاليه عن إفكهم أعظم تأكيد ، ببيان أنه لا تراه الأبصار المعهودة وهي أبصار أهل الدنيا ، لجلاله وكبريائه وعظمته ، فأنى يصح أن ينسب إلى عليائه تلك العظيمة ؟ وذلك لأنه تعالى لم يخلق لأرباب هذه النشأة الدنيوية استعداداً لرؤيته المقدسة .
قال العارف الجليل الشيخ الأكبر قدس سره في " فتوحاته " : سبب عجز الناس عن رؤية ربهم في الدنيا ضعف نشأة هذه الدار ، إلا لمن أمده الله بالقوة ، بخلاف نشأة الآخرة لقوتها . وسبب رؤيته تعالى في المنام كون النوم أخا الموت . وفي الحديث إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا . فما نفى الشرع إلا رؤية الله في الدنيا يقظة . انتهى .
وقال بعضهم : إن الأبصار المعهودة في الدنيا لا تدركه تعالى ، لأن هذه الأحداق مادامت تبقى على هذه الصفات التي هي موصوفة بها في الدنيا لا تدرك الله تعالى ، وإنما تدركه إذا تبدلت صفاتها ، وتغيرت أحوالها .
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل النهار قبل الليل ، وعمل الليل قبل النهار ، حجابه النور أو النار ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه > .
قال ابن كثير : وفي الكتب المتقدمة ، أن الله تعالى قال لموسى لما سأل الرؤية : يا موسى ! إنه لا يراني حيّ إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده . وقال تعالى : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } [ الأعراف : 143 ] .
أقول : كون المنفيّ من الإدراك في هذه الآية هو الإدراك الدنيويّ خاصة ، لا يحتاج إلى حجة ولا برهان . ومن فهم من تعض الفرق ، كالمعتزلة ، من هذه الآية أن المنفيّ هو الإدراك في النشأتين ، فقد نادى على نفسه بالجهل بما دل عليه كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المتواترة . أما الكتاب فمثل قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 - 23 ] . وأما السنة فما روي عن جرير بن عبد الله البجلي قال : كنا جلوساً عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ، إذ نظر إلى القمر ليلة البدر وقال : < إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ، لا تضامّون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس ، وقبل غروبها > ، فافعلوا ثم قرأ : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } .
قال ابن كثير : تواترت الأخبار عن أبي سعيد وأبي هريرة وأنس وجرير وصهيب وبلال وغير واحد من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم : < أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصاة وفي روضات الجنات > . انتهى .
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : وأدلة السمع طافحة بوقوع ذلك في الآخرة لأهل الإيمان دون غيرهم ، ومنع ذلك في الدنيا . إلا أنه اختلف في نبينا صلى الله عليه وسلم . انتهى .
قال ابن كثير : كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تثبت الرؤيا في الدار الآخرة وتنفيها في الدنيا ، وتحتج بهذه الآية . انتهى .
فعن مسروق قال : قلت لعائشة رضي الله عنها : يا أمتاه ! هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه ، فقالت لقد قفّ شعري مما قلت ! أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب : من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب . ثم قرأت : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ } { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَاب } [ الشورى : 51 ] . ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب . ثم قرأت : { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً } [ لقمان : 34 ] ومن حدثك أنه كتم فقد كذب ثم قرأت : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } [ المائدة : 67 ] . ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين -أخرجه الشيخان والترمذيّ - .
وخالفها ابن عباس . فعنه إطلاق الرؤية ، وعنه أنه رآه بفؤاده . والمسألة تذكر مبسوطة في أول سورة النجم إن شاء الله تعالى . ومن الناس من ذهب إلى أن الإدراك ليس هو مطلق الرؤية ، بل معرفة الكنه أو الإحاطة .
قال ابن كثير : قال آخرون : لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك . فإن الإدراك أخص من الرؤية ، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم . ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفيّ ما هو ؟ فقيل : معرفة الحقيقة ، فإن هذا لا يعلمه إلا هو ، وإن رآه المؤمنين ، كما أن من رأى القمر فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته ، فالعظيم أولى بذلك ، وله المثل الأعلى .
وقال آخرون : الإدراك أخص من الرؤية ، وهو الإحاطة . قالوا : ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية ، كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم . قال تعالى : { وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [ طه : 110 ] .
وفي صحيح مسلم : < لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك > . ولا يلزم منه عدم الثناء ، فكذلك هذا . انتهى .
وقال النسفي : تشبثُ المعتزلة بهذه الآية لا يستتب ، لأن المنفيّ هو الإدراك لا الرؤية والإدراك هو الوقوف على جوانب المرئيّ وحدوده ، وما يستحيل عليه الحدود والجهات ، يستحيل إدراكه ، لا رؤيته ، فنزّل الإدراك من الرؤية منزلة الإحاطة من العلم ، ونفى الإحاطة التي تقتضي الوقوف على الجوانب والحدود ، لا يقتضي نفي العلم به ، فكذا هذا . على أن مورد الآية ، وهو التمدح ، يوجب ثبوت الرؤية ، إذ نفي إدراك ما تستحيل رؤيته . لا تمدح فيه ، لأن كل ما لا يرى لا يدرك ، وإنما التمدح بنفي الإدراك مع تحقق الرؤية ، إذ انتفاؤه مع تحقق الرؤية ، دليل ارتفاع نقيصة التناهي والحدود عن الذات ، فكانت الآية حجة لنا عليهم . انتهى .
وقد جود العلامة العضد في " المواقف " البحث في هذه الآية ، ونقل شبه المنكرين فيها ، وأجاب عنها . ونحن ، لنفاسته ، ننقل كلامه مع شرحه للسيد الشريف قدس سره ، وبعض حواشيه ، ونصه :
الأولى - من شبه المنكرين للرؤية السمعية قوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } :
1 - والإدراك المضاف إلى الأبصار إنما هو الرؤية . فمعنى قولك : أدركته ببصري ، معنى رأيته . لا فرق إلا في اللفظ . أو هما أمران متلازمان لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر ، فلا يجوز : رأيته وما أدركته ببصري ولا عكسه . فالآية نفت أن تراه الأبصار وذلك يتناول جميع الأبصار بواسطة اللام الجنسية في مقام المبالغة ، في جميع الأوقات ، لأن قولك : فلان تدركه الأبصار ، لا يفيد عموم الأوقات ، فلا بد أن يفيده ما يقابله ، فلا يراه شيء من الأبصار ، لا في الدنيا ، ولا في الآخرة لما ذكرنا .
2 - ولأنه تعالى تمدح بكونه لا يُرى ، فإنه ذكره في أثناء المدائح : وما كان من الصفات عدمه مدحاً ، كان وجوده نقصاً ، يجب تنزيه الله عنه ، فظهر أنه يمتنع رؤيته ، وإنما قلنا : ( من الصفات ) احترازاً عن ( الأفعال ) ، كالعفو والانتقام ، فإن الأول فضل ، والثاني عدل ، وكلاهما كمال . والجواب :
أما عن الوجه الأول في الاستدلال بالآية فمن وجوه :
الأول - أن الإدراك هو الرؤية ، على نعت الإحاطة بجوانب المرئيّ ، إذ حقيقته النيل والوصول ، و ( إنا لمدركون ) أي : ملحقون ، و ( أدركت الثمرة ) أي : وصلت إلى حد النضج و ( أدرك الغلام ) أي : بلغ . ثم نقل إلى الرؤية المحيطة ، لكونها أقرب إلى تلك الحقيقة . والرؤية المكيفة بكيفية الإحاطة ، أخص مطلقاً من الرؤية المطلقة . فلا يلزم من نفي المحيطة عن الباري سبحانه ، لامتناع الإحاطة ، نفي المطلقة عنه . وقوله ( لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر ) ممنوع ، بل يصح أن يقال : رأيته وما أدركه بصري . أي : لم يحط به من جوانبه ، وإن لم يصح عكسه .
الثاني - أن ( تدركه الأبصار ) موجبة كلية ، لأن موضوعها جمع محلَّى باللام الاستغراقية . وقد دخل عليها النفي فرفعها . ورفع الموجبة الكلية سالبة جزئية . وبالجملة فيحتمل قوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } إسناد النفي إلى الكل ، بأن يلاحظ أولاً دخول النفي ، ثم ورود العموم عليه ، فيكون سالبة كلية . ونفي الإسناد إلى الكل بأن يعتبر العموم أولاً ، ثم ورود النفي عليه ، فيكون سالبة جزئية . ومع احتمال المعنى الثاني ، لم يبق فيه حجة لكم علينا . لأن أبصار الكفار لا تدركه ، إجماعاً . هذا ما نقوله : لو ثبت أن اللام في الجمع للعموم والاستغراق ، وإلا عكسنا القضية ، فادَّعَيْنَا أن الآية حجة لنا وقلنا : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } سالبة مهملة في قوة الجزئية ، فالمعنى : لا تدركه بعض الأبصار ، وتخصيص البعض بالنفي يبدل بالمفهوم على الإثبات للبعض ، فالآية حجة لنا لا علينا . انتهى - لكن هذا إنما يستقيم إذا كانت المهملة مرادفة للجزئية . وكونها في قوتها لا يفيد المرادفة . ولهذا اعترض عليه بأن الجنس في حيزّ النفي يفيد العموم اتفاقاً ، نحو : ما جاءني الرجل . وإنما الاحتمال لعموم السلب ، وسلب العموم عند قصد الاستغراق ، فكيف تعكس القضية على تقدير حمل اللام على الجنس ؟ ولو ثبت المرادفة لا ندفع الاعتراض ، إذ تصير الآية حينئذ حجة لنا إلزامية ، حيث يرجع قيد البعضية إلى النفي ، كما أرجع المعتدل قيد العموم ، على تقدير الاستغراق ، إليه . فتأمل ! - كذا في حواشي الحلبي والشرواني - .
الثالث - من تلك الوجوه أنها - أي : الآية - وإن عمت في الأشخاص باستغراق اللام ، فإنها لا تعم في الأزمان ، فإنها سالبة مطلقة لا دائمة ، ونحن نقول بموجبه ، حيث لا يرى في الدنيا .
قال العلامة حسن حلبي : وما استدل به الخصم سابقاً على أنها دائمة ، من أن إيجابها لا يفيد عموم الأوقات ، فلا بد أن يفيد ما يقابله - فجوابُه : أنه إنما يتم إذا كان التقابل ببينهما تقابل التناقض ، وهو ممنوع . فإن القضية الموجبة والسالبة ، الغير الموجهتين ، لم توضعا في العربية لمعنيين متناقضين ، بل لهما محامل يحملهما المستعمل حسب ما يريده .
الرابع -منها أن الآية تدل على أن الأبصار لا تراه ، ولا يلزم منه أن المبصرين لا يرونه ، لجواز أن يكون ذلك النفي المذكور في الآية ، نفياً للرؤية بالجارحة مواجهة وانطباعاً ، كما هو العادة ، فلا يلزم نفي الرؤية بالجارحة مطلقاً . وأما الجواب عن الوجه الثاني وهو قوله : تمدح الباري بأنه لا يرى ، فنقول : هذا مدعاكم ، فأين الدليل عليه ؟ إن قلت : أشير فيما تقدم إلى دليله بأنه ذكر في أثناء المدائح ، والمذكور بينهما يجب أن يكون مدحاً -قلت : ذلك الدليل إنما يدل على التمدح بنفي المبصرية ، لا بنفي الرؤية ، والفرق قد سبق في الجواب الأول . انتهى .
وإذا ثبت أن سياق الكلام يقتضي أنه تمدح ، لم يكن لكم فيه دليل على امتناع رؤيته ، بل لنا فيه الحجة على صحة الرؤية ، لأنه لو امتنعت رؤيته لما حصل المدح بنفيها عنه ، إذ لا مدح للمعدوم بأنه لا يُرى ، حيث لم يكن له ذلك ، وإنما المدح في عدم الرؤية للمتمنع المتعزز بحجاب الكبرياء ، كما في الشاهد . انتهى .
وناقش الخيالي قولهم : ( لا مدح للمعدوم ) بأن عدم مدح المعدوم لاشتماله على معدن كل نقص أعني : العدم ، فإن أصل الممادح والكمالات هو الوجود ، وقد عرا عنه . كما أن الأصوات والروائح لا تمدح بمنع إمكان رؤيتها ، لكونها مقرونة بسمات النقص .
قال : والحق أن امتناع الشيء لا يمتنع التمدح بنفيه ، إذ قد ورد التمدح بنفي الشريك ، ونفي اتخاذ الولد في القرآن ، مع امتناعهما في حقه تعالى . انتهى .
ووافقه حسن حلبي في " حواشي شرح المواقف " ، لكنه أجاب بأن المدح بجهة لا يقتضي الكمال من جهات أخر ، وكذا النقصان من جهة لا ينافي المدح بغيرها . انتهى .
وأجاب قره خليل بوجوه :
الأول -أن مراد ذلك المستدل هو الإلزام على المعتزلة ، لا تحقيق الاستدلال على جواز الرؤية .
الثاني - أن مبنى كلامه على العرف واللغة ، فإن أهلها إذا أرادوا مدح شيء يقولون هذا الشيء مما لا تدركه الأبصار ، أو مما لا تراه العيون ، مع أنها مما تدركه عادة . فهذا القول منهم يدل على إمكان رؤية ذلك الشيء عادة ، بل على وقوعها أيضاً . بخلاف الأصوات والروائح ونحوها ، فإنها ليست مما تدركه الأبصار عادة ، فلا يحسن مدحها بعدم إدراك الأبصار ، أو بعدم رؤيتها . نعم ! إذا أرادوا مدح الأصوات يقولون : لم تسمعها أذن ، وإذا أرادوا مدح الروائح ، يقولون : لم يشمها أنف .
الثالث - إنا قلنا : إن نفي الرؤية في مقام المدح يدل على إمكان الرؤية ، ولم نقل إن نفي كل شيء في مقام المدح يدل على إمكان ذلك الشيء ، حتى يرد علينا النقض بنفي الشريك ، أو بنفي اتخاذ الولد في مقام المدح ، مع أن إمكان المنفي في صورة النقض نقص ينافي الألوهية ، وإمكان المنفي فيما نحن بصدده ليس نقصاً ، بل هو كمال . انتهى .
قال حسن حلبي : إن قيل : يلزم على ثبوت التمدح بنفي الرؤية ، تعززاً وتمنعاً ، أن لا يزول ، لأن زوال ما به التمدح نقص ، فيلزم أن لا يرى في الآخرة . والجواب : أن ذلك فيما يرجع إلى الصفات . والتمدحُ بنفي الرؤية يرجع إلى التمدح بخلق ضدها ، وهو من قبيل الأفعال ، كما أنخلق الرؤية أيضاً منها . انتهى .
وقد بيناه أولاً ، وسيأتي لذلك تتمة شافية إن شاء الله تعالى عند قوله سبحانه : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } ، مما هو أعظم حجة ، وأوضح برهاناً ، والله الموفق . وقوله تعالى : { وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } أي : يرى جميع المرئيات ، ويبصر جميع المبصرات ، لا يخفى عليه شيء منها { وَهُوَ اللَّطِيفُ } أي : الذي يعامل عباده باللطف والرأفة { الْخَبِيرُ } أي : العليم بدقائق الأمور وجلياتها . وجوز أن تكون الجملة وتعليلاً لما قبلها ، على طريقة اللف ، أي : لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف ، وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير . قيل : فيكون : { اللَّطِيفُ } مستعاراً من مقابل الكثيف ، فشبه به الخفيّ عن الإدراك . وهذا بناء على أنه في ظاهر الاستعمال من أوصاف الجسم والتحقيق أن اللطافة المطلقة لا توجد في الجسم ، لأن الجسمية يلزمها الكثافة ، وإنما لطافتها بالإضافة ، فاللطافة المطلقة لا يبعد أن يوصف بها النور المطلق ، الذي يجلّ عن إدراك البصائر ، فضلاً عن الإبصار ، ويعز عن شعور الأسرار ، فضلاً عن الأفكار ، ويتعالى عن مشابهة الصور والأمثال ، وينزه عن حلول الألوان والأشكال . فإن كمال اللطافة إنما يكون لمن هذا شأنه ، ووصف الغير بها لا يكون على الإطلاق ، بل بالقياس إلى ما هو دونه في اللطافة ، ويوصف بالنسبة إليه بالكثافة - كذا حققه البهائي قي " شرح الأسماء الحسنى " . وقول الخفاجي : ( اللطيف المشتق من اللطف بمعنى الرأفة ) ، لا يظهر له مناسبة هنا - مدفوعٌ بملاحظة أن قوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } ذكر للتخويف ، كما أسلفنا ، وحينئذ يناسب أن يشفع ببيان رأفته ورحمته ، جرياً على سنن الترغيب والترهيب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ } [ 104 ]
وقوله تعالى : { قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ } أي : الآيات والدلائل التي تبصرون بها الهدى من الضلالة . جمع ( بصيرة ) ، وهي الدلالة التي توجب البصر بالشيء ، والعلم به . وجوز أن يكون المعنى : قد جاءكم من الوحي ما هو كالبصائر للقلوب ، جمع ( بصيرة ) وهو النور الذي يستبصر به القلب ، كما أن البصر نور تستبصر به العين .
{ فَمَنْ أَبْصَرَ } أي : الحقَّ بتلك البصائر وآمن به : { فَلِنَفْسِهِ } أي : فلنفسه أبصر ، لأن نفعه لها { وَمَنْ عَمِيَ } أي : ضل عن الحق . والتعبير عنه بـ ( العمى ) للتقبيح له ، والتنفير عنه : { فَعَلَيْهَا } أي : فعلى نفسه عمى ، وإياها ضر بالعمى { وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أي : برقيب يرقبكم ، ويحفظكم عن الضلال ، بل أنا منذر ، والله يحفظ أعمالكم ، ويجازيكم عليها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ 105 ]
{ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ } أي : نوردها على وجوه كثيرة في سائر المواضع ، لتكمل الحجة على المخالفين { وَلِيَقُولُوا } في ردها : { دَرَسْتَ } أي : قرأت على غيرك ، وتعلمت منه . وحفظت بالدرس أخبار من مضى . كقولهم : { فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفرقان : 5 ] .
يقال : درس الكتاب يدرسه دراسة ، إذا أكثر قراءته وذَلَّلَهُ للحفظ . قال ابن عباس : { وَلِيَقُولُواْ } يعني : أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن ( درست ) يعني : تعلمت من يسار وخير ، وكانا عبدين من سبي الروم . ثم قرأت علينا تزعم أنه من عند الله ! وقال الفرّاء : معناه تعلمت من اليهود - كذا في " اللباب " - .
وقُرئ : { دَرَسْتَ } بالألف وفتح التاء . أي : دارست غيرك ممن يعلم الأخبار الماضية . كقولهم : { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ } [ النحل : 103 ] .
ويُقرأ : { دَرَسْتَ } بفتح الدال والراء والسين وسكون التاء . أي : مضت وقدمت وتكررت على الأسماع ، كما قالوا : { أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } [ الأنعام : 25 ] . وهذه القراآت الثلاث متواترة . وقرئ في الشواذ : { دَرَسْتَ } ماضياً مجهولاً . أي : تليت وعفيت تلك الآيات . وقُرئ : { دَرَسْتَ } مشدداً معلوماً . وتشديده للتكثير أو للتعدية . أي : درّست غيرك الكتب . وقُرئ مشدداً مجهولاً . وقُرئ : { دُورست } بضم الراء ، والإسناد للآيات مبالغة في محوه أو تلاوته ، لأن ( فعل ) المضموم للطبائع والغرائز . وقرأ أبيّ رضي الله عنه ( درس ) وفاعله ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم أو الكتاب ، إن بمعنى انمحى . و ( درسن ) بنون الإناث مخففاً ومشدداً . وقُرئ ( دارسات ) بمعنى قديمات ، أو بمعنى ذات درس أو دروس ، كـ : { عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] . وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف . أي : هي دارسات .
{ وَلِنُبَيِّنَهُ } أي : القرآن ، وإن لم يجر له ذكر لكونه معلوماً . أو الآيات ، لأنها في معنى القرآن . : { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : الحق فيتبعونه ، والباطل فيجتنبونه .
تنبيهان :
الأول -قيل اللام الثانية حقيقية ، والأولى لام العاقبة والصيرورة . أي : لتصير عاقبة أمرهم ، إلى أن يقولوا : درست ، كهي في قوله تعالى : { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] . وهم لم يلتقطوه للعداوة ، وإنما التقطوه ليصير لهم قرة عين ، ولكن صارت عاقبة أمرهم إلى العداوة . فكذلك الآيات صرّفت للتبيين ، ولم تصرف ليقول : درست . ولكن حصل هذا القول بتصريف الآيات ، كما حصل التبيين ، فشبه به .
قال الخفاجي : وجَوَّزَ أن يكون على الحقيقة أبو البقاء وغيره ، لأن نزول الآيات لإضلال الأشقياء ، وهداية السعداء . قال تعالى : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } [ البقرة : 26 ] . وقال الرازي : حمل اللام على العاقبة بعيد . لأنه مجاز . وحمله على لام الغرض حقيقية ، والحقيقة أقوى من المجاز . وإن المراد منه عين المذكور في قوله تعالى : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } قال ومما يؤكد هذا التأويل قوله : { وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ، يعني : إنا ما بيناه إلا لهؤلاء . فأما الذين لا يعلمون ، فما بينا هذه الآيات لهم ، وإذ لم يكن بياناً لهم ثبت جعله ضلالاً لهم . انتهى .
وقيل : هذه اللام لام الأمر ، ويؤيده أنه قرئ بسكونها ، كأنه قيل : وكذلك نصرف الآيات ، وليقولوا هو ما يقولون ، فإنه لا احتفال بهم ، ولا اعتداء بقولهم . وهم أمر معناه الوعيد والتهديد وعدم الاكتراث بقولهم .
وفيه نظر ، لأن ما بعده يأباه ، إذ اللام في ( لنبينه ) نص في أنها لام كي . وأما تسكين اللام في القراءة الشاذة ، فلا دليل فيه ، لاحتمال أنها خففت لإجرائها مجرى كبد ، وكونها معترضة . و ( لنبينه ) متعلق بمقدر معطوف على ما قبله ، وإن صححه لا يخرجه عن كونه خلاف الظاهر - كذا في " العناية " - .
الثاني -قال الشريف قدس سره : أفعاله تعالى يتفرع عليها حكم ومصالح متقنة هي ثمراتها ، وإن لم تكن عللاً غائية لها ، حيث لولاها لم يقدم الفاعل عليها . ومن أهل السنة من وافق المعتزلة في التعليل والغرض الراجع منفعته إلى العباد ، وادعى أنه مذهب الفقهاء والمحدثين .
إذا عرفت هذا ، فاعلم أن حقيقة التعليل والغرض عند أهل السنة بيان ما يدل على المصلحة المترتبة على الفعل . وأما تفسيره بالباعث الذي لولاه لم يقدم الفاعل على الفعل ، أو عدم اشتراط ذلك ، فهو من تحقيقات المتكلمين ، لا تعلق له باللغة . وأما عند أهل اللغة فهو حقيقة في ذلك مطلقاً ، والفرق بينها وبين لام العاقبة ، أن لام العاقبة ما تدخل على ما يترتب على الفعل وليس مصلحة . وهل يشترط فيها أن يظنه المتكلم غير مترتب أم لا ، حتى يكون في كلامه تعالى من غير حكاية أم لا ، فيه خلاف - كذا في " العناية " - .
ولما حكى تعالى عن المشركين قدحهم في تصريف الآيات ، أتبعه بالأمر بالثبات على ما هو عليه ، تقوية لقلبه ، وإزالة لما يحزنه ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } [ 106 ]
{ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } أي : من تبليغ الرسالة ، التي هي الآيات المصرفة ، مبالغة في إلزام الحجة . وقوله : { لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } اعتراض أكد به إيجاب الاتباع ، أو حال مؤكدة من : { رَّبِّكَ } ، بمعنى : منفرداً في الألوهية { وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } قال أبو مسلم : أريد بالإعراض الهجران لهم دون الإنذار ، وترك الموعظة . وقال المهايميّ : أي : لا تحزن عليهم إذا أصروا على الشرك والعمى مع هذه البصائر . فإنه تعالى أراد بقاءهم على الشرك والعمى ، لاقتضاء استعدادهم ذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } [ 107 ]
{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا } أي : مع استعدادهم ، ولكن جرت سنته برعاية الاستعدادات { وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } أي : هم وإن كان لهم الاستعداد للإيمان في فطرتهم ، وقد أبطلوه ، فأنت وإن كنت داعياً إلى إصلاح الاستعداد الفطري ، وما جعلناك متولياً عليهم ، تحفظ مصالحهم ، حتى تكون مصلحاً لاستعدادهم الفطري .
{ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ } تدبر عليهم أمورهم ، أو تغيرهم من استعدادهم إلى آخر ، بل هو مفوض إلى الله تعالى ، يفعل بهم بمقتضى استعدادهم الطبيعيّ لهم من غير تغيير له ، بل هو مفوّض إلى اختيارهم - أفاده المهايمي - .
تنبيهان :
الأول - في قوله تعالى : { وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ } دليل على أنه تعالى لا يريد إيمان الكافر ، لكن لا بمعنى أنه تعالى يمنعه عنه ، مع توجهه إليه ، بل بمعنى أنه تعالى لا يريده منه ، لعدم صرف اختياره الجزئي نحو الإيمان ، وإصراره على الكفر . والزمخشريّ يفسره بمشيئة إكراه وقسر ، لأن عندهم مشيئة الاختيار حاصلة البتة . قال النحرير : وهذه عكازته في دفع مذهب أهل السنة .
الثاني - قال القاشاني في تفسير قوله تعالى : { وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ } : أي : كل ما يقع ، فإنما يقع بمشيئة الله ، ولا شك أن استعداداتهم التي وقعوا بها في الشرك ، وأسباب ذلك ، من تعليم الآباء والعادات وغيرها ، أيضاً واقعة بإرادة من الله ، وإلا لم تقع . فإن آمنوا بذلك فبهداية الله ، وإلا فهوّن على نفسك ، فما جعلناك تحفظهم عن الضلال ، وما أنت بموكل عليهم بالإيمان . ولا ينافي هذا ما قال في تعييرهم فيما بعد بقوله : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا } لأنهم قالوا ذلك عناداً ودفعاً للإيمان بذلك التعلل ، لا اعتقاداً . فقولهم ذلك ، وإن كان صدقاً في نفس الأمر ، لكنهم كانوا به كاذبين ، مكذبين للرسول ، إذ لو صدقوا لعلموا أن توحيد المؤمنين أيضاً بإرادة الله ، وكذا كل دين ، فلم يعادوا أحد . ولو علموا أن كل شيء لا يقع إلا بإرادة الله لما بقوا مشركين ، بل كانوا موحدين . لكنهم قالوه لغرض التكذيب والعناد ، وإثبات أنه لا يمكنهم الانتهاء عن شركهم ، فلذلك عيرّهم به ، لا لأنه ليس كذلك في نفس الأمر . فإنهم لم يطلعوا على مشيئة الله ، وأنه كما أراد شركهم في الزمان السابق ، لم يرد إيمانهم الآن ، إذ ليس كل منهم مطبوع على القلب ، بدليل إيمان من آمن منهم ، فلم لا يجوز أن يكون بعضهم كانوا مستعدين للإيمان والتوحيد ، واحتجوا بالعادة ، وما وجدوا من آبائهم فأشركوا ، ثم إذا سمعوا الإنذار ، وشاهدوا آيات التوحيد ، اشتاقوا إلى الحق ، وارتفع حجابهم فوحّدوا . فلذلك وبخهم على قولهم ، وطلب منهم الحجة على أن الله أرادهم بذلك دائماً ، وأنذرهم بوعيد من كان قبلهم ، لعل من كان فيه أدنى استعداد ، إذا انقطع عن حجته ، وسمع وعيد من قبله من المنكرين ، ارتفع حجابه ، ولان قلبُه فآمن ، ويكون ذلك توفيقاً له ، ولطفاً في شأنه ، فإن عالم الحكمة يبتني على الأسباب . وأما من كان من الأشقياء المردودين ، المختوم على قلوبهم ، فلا يرفع لذلك رأساً ، ولا يلقي إليه سمعاً . انتهى .
وليكن هذا على بال منك ، فالمقام دقيق جدّاً ، وسيأتي بيانه في الآية الآتية إن شاء الله تعالى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 108 ]
{ وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي : لا تذكروا آلهتهم ، التي يعبدونها ، بما فيها من القبائح ، لئلا يتجاوزوا إلى الجناب الرفيع .
روى عبد الرزاق عن قتادة قال : كان المسلمون يسبون أصنام الكفار ، فنهوا عنه لذلك . وقال الزجاج : نهوا أن يلعنوا الأصنام التي كانت تعبدها المشركون . انتهى .
فـ : { الَّذِينَ يَدْعُونَ } عبارة عن الآلهة ، والعائد مقدر ، والتعبير بـ : { الَّذِينَ } على زعمهم أنهم من أولي العلم ، أو بناء على أن سبّ آلهتهم سبّ لهم ، كما يقال : ضربُ الداية صفعٌ لراكبها . فإن قيل : إنهم كانوا يقرّون بالله وعظمته ، وأن آلهتهم إنما عبدوها لتكون شفعاء عنده ، فكيف يسبونه ؟ قلنا : لا يفعلون ذلك صريحاً ، بل يفضي كلامهم إلى ذلك ، كشتمهم له ولمن يأمر بذلك مثلاً . وقد فسر : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } بهذا ، وهو حسن جداً . أو أن الغيظ والغضب ربما حملهم على سب الله صريحاً . ألا ترى المسلم قد تحمله شدة غضبه بالكفر ؟ !
و : { عَدُوّاً } مصدر ، أي : ظلماً وعدواناً ، يقال : عدا عليه عدواً ، كـ ( ضرباً ) ، و ( عدوّاً ) ك ( عتوّ ) ، و ( عداء ) كـ ( عزاء ) ، و ( عدواناً ) كـ ( سبحان ) إذا تعدى وتجاوز ، وهو مفعول مطلق لـ ( تسبوا ) من معناه ، لأن السبب عدوان . أو مفعول له ، أو حال مؤكدة مثل : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } - كذا في العناية - .
تنبيه :
قال ابن الفرس في الآية : إنه متى خيف من سب الكفار وأصنامهم ، أن يسبوا الله وأو رسوله أو القرآن ، لم يجز أن يُسَبّوا ولا دينهم . قال : وهي أصل في قاعدة سد الذرائع .
قال السيوطي : وقد يستدل بها على سقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذا خيف من ذلك مفسدة أقوى . وكذا كل فعل مطلوب ترتب على فعله مفسدة أقوى من مفسدة تركه .
وقال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية أن الحَسَن يصير قبيحاً إذا كان يحصل بفعله مفسدة . قال الحاكم : نهوا عن سب الأصنام لوجهين :
أحدهما : أنها جماد لا ذنب لها .
والثاني : أن ذلك يؤدي إلى المعصية بسبّ الله تعالى .
قال : والذي يجب علينا بيان بغضها ، وأنه لا تجوز عبادتها ، وأنها لا تضر ولا تنفع ، وأنها لا تستحق العبادة ، وهذا ليس بسبٍّ . ولهذا قال أمير المؤمنين ( يوم صفين ) : لا تسبوهم ، ولكن اذكروا قبيح أفعالهم . انتهى .
وقال الزمخشري : فإن قلت : سب الآلهة حق وطاعة ، فكيف صح النهي عنه ، وإنما يصح النهي عن المعاصي ؟ قل : رب طاعة عُلِمَ أنها تكون مفسدة ، فتخرج عن أن تكون طاعة ، فيجب النهي عنها لأنها معصية ، لا لأنها طاعة . كالنهي عن المنكر ، هو من أجل الطاعات ، فإذا علم أنه يؤدي إلى زيادة الشر انقلب إلى معصية ، ووجب النهي عن ذلك ، كما يجب النهي عن المنكر . فإن قلت : فقد روي عن الحسن وابن سيرين أنهما حضرا جنازة ، فرأى محمد نساءً ، فرجع . فقال الحسن : لو تركنا الطاعة لأجل المعصية ، لأسرع ذلك في ديننا . قلت : ليس هذا مما نحن بصدده ، لأن حضور . الرجال الجنازة طاعة ، وليس بسبب لحضور النساء ، فإنهن يحضرنها ، حضر الرجال أو لم يحضروا . بخلاف سب الآلهة . وإنما خيل إلى ابن سيرين أنه مثله ، حتى نبه عليه الحسن . انتهى .
ومنه قال بعض مفسري الزيدية : واعلم أن المعصية إن كانت حاصلة لا محالة ، سواء فعل الحسن أم لا ، لم يسقط الواجب ، ولا يقبح الحسن . انتهى .
وكذا قال الخفاجي : إن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة ، وكانت سبباً لها , وجب تركها . بخلاف الطاعة في موضع فيه معصية ، لا يمكن دفعها . وكثيراً ما يشتبهان ولذا لم يحضر ابن سيرين جنازة اجتمع فيها الرجال والنساء ، وخالفه الحسن للفرق بينهما . انتهى .
قال الرازيّ : وفي الآية تأديب لمن يدعو إلى الدين ، لئلا يتشاغل بما لا فائدة له في المطلوب ، لأن وصف الأوثان بأنها جمادات لا تضر ولا تنفع ، يكفي في القدح في إلهيتها ، فلا حاجة ، مع ذلك ، إلى شتمها .
{ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ } من الأمم الماضية على الضلال : { عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ } أي : بالبعث بعد الموت { فَيُنَبِّئُهُمْ } أي : يخبرهم : { بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } في الدنيا . وذلك بالمحاسبة والمجازاة عليه . تنبيهات :
الأول - ذهب أهل السنة إلى ظاهر الآية ، من أن المزيَّن للكافر الكفر ، وللمؤمن الإيمان ، هو الله تعالى . وذلك لأن صدور الفعل من العبد يتوقف على حصول الداعي ، ولا بد أن يكون ذلك الداعي بخلق الله تعالى . وقد بسط الرازي ذلك ، وساق تأويلات المعتزلة الركيكة ، فانظره !
الثاني - في قوله تعالى : { فَيُنَبِّئُهُم } الخ وعيد الجزاء والعذاب . كقول الرجل لمن يتوعدة : سأخبرك بما فعلت .
الثالث - فيه نكتة سرية , مبينة على حكمة أبيّة , وهي أن كل ما يظهر في هذه النشأة من الأعيان والأعراض , فإنما يظهر بصورة مستعارة مخالفة لصورته الحقيقة التي بها يظهر في النشأة الآخرة . فإن المعاصي سموم قاتلة , قد برزت في الدنيا بصورة تستحسنها نفوس العصاة , كما نطقت به هذه الآية الكريمة , وكذا الطاعات , فإنها مع كونها أحسن الأحاسن , قد ظهرت عندهم بصورة مكروهة , ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : حُفَّت الجنة بالمكاره , وحفت النار بالشهوات . فأعمال الكفرة قد برزت لهم في هذه النشأة بصورة مزينة تستحسنها الغواة وتستحبها الطغاة . وستظهر في النشأة الآخرة بصورتها الحقيقة المنكرة الهائلة, فعند ذلك يعرفون أن أعمالهم ماذا ؟ فعبر عن إظهارها بصورها الحقيقة بالأخبار بها , لما أن كلاً منهما سبب للعلم بحقيقتها كما هي . فليتدبر ! -أفاده أبو السعود .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ 109 ]
{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } مصدر في موضع الحال . أي : أقسموا به تعالى جاهدين في أيمانهم , باذلين في توثيقها طاقتهم : { لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ } أي : خارق كما اقترحوا, : { لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ } أي : أمرها في حكمه وقضائه خاصة , يتصرف بها حسب مشيتئه المبنية على الحكم البالغة , لا تتعلق بها قدرة أحد ولا مشيئته , حتى يمكنني أن أتصدى لا ستنزالها بالاستدعاء . وهذا سدٌّ لباب الاقتراح على أبلغ وجه وأحسنه , ببيان صعوبة منالها , وعلو شأنها - أفاده أبو السعود - .
{ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } قرئ : { أَنَّهَا } بالكسر على الاستئناف , والمفعول الثاني محذوف , كأنه قيل : وما يدريكم إيمانهم ؟ ثم أخبرهم بما علم منهم إخباراً ابتدائياً . أو هو جواب سؤال , كأنه قيل : لم وُبِّخوا ؟ فقيل : لأنها إذا جاءت لا يؤمنون ! أو هو مبني على قوله : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } فإنه أبرز في معرض المحتمل , كأنه سأل عنه سؤال شاكً , ثم علل بقوله لـ : { أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } جزماً بالطرف الخالف , وبياناً لكون الاستفهام غير جار على الحقيقة . وفيه إنكار لتصديق المؤمنين على وجه يتضمن إنكار صدق المشركين في المقسم عليه . وهذا نوع من السحر البياني , لطيف المسلك , هذا على أن الخطاب للمؤمنين , إذ كانوا يتمنون مجيء الآية طمعاً في إيمانهم . وقيل : هو للمشركين , لقراءة : { لَا تُؤْمِنُونَ } , فيكون فيه التفات . وقرئ : { إِنَّهَا } بالفتح , وعليه فقيل : مقتضى حسن ظن المؤمنين بهؤلاء المعاندين , حذف ( لا ) . وتوضيح ذلك بالمثال أنه إذا قيل لك : أكرم زيداً يكافئك , قلت في إنكاره : ما أدراك أني إذا أكرمته يكافئني ؟ ! فإن قيل : لا تكرمه فإنه لا يكافئك , قلت في إنكار : ما أدراك أنه لا يكافئني ؟ ! تريد : وأنا أعلم منه المكافأة . فمقتضى بحسن ظن المؤمنين بالمشركين أن يقال : وما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون , فإثبات ( لا ) يعكس المعنى , إلى أن المعلوم لك الثبوت , وأنت تنكر على من نفى .
وقد وجه الفتح بستة وجوه :
منها - جعل ( لا ) صلة , كقوله : { مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُد } [ الأعراف : 12 ] ، وقوله تعالى : { وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ } [ الأنبياء : 95 ] ، أي : يرجعون . وضعفّ الزجاج هذا الوجه , بأن ما كان لغوَاً يكون كذلك على جميع التقديرات , وليس كذلك هنا , فإن ( لا ) على قراءة الكسر ليست بصلة . وأجاب الفارسيّ بأنه لم لا يجوز أن يكون لغواً على أحد التقديرين , ومفيداً على التقدير الثاني ؟ انتهى .
ومنها - جعل : { أَنَّ } بمعنى ( لعل ) . قال الخليل : تقول العرب : ائت السوق أنك تشتري لنا شيئاً , أي : لعلك . فكأنه تعالى قال : لعلها إذا جاءت لا يؤمنون . قال : الواحدي : { أَنَّ } بمعنى ( لعل ) كثير في كلامهم , قال الشاعر :
~أرِيني جَوَاداً ماتَ هَزْلاً لأنني أرَى مَا تَرَيْنَ أو بخيلاً مخلَّدا
وقال عديّ بن حاتم :
~أعاذلَ ما يُدْريكَ أن منيتي إلى ساعةٍ في اليوم أو في ضُحَى الْغَدِ
ويؤيده أن ( يشعرك ) و ( يدريكم ) بمعنى . وكثيراً ما تأتي ( لعل ) بعد فعل الدراية . نحو : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى } [ عبس : 3 ] . وفي مصحف أُبيّ : { وما أدراك لعلها إذا جاءتهم لا يؤمنون } .
ومنها - جعل : { أن } بمعنى هل .
ومنها -جعل الكلام جواب قسم محذوف بناء على أن : { إن } في جواب القسم يجوز فتحها . والذي ارتضاه الزمخشريّ وتبعه المحققون حمل الكلام على ظاهره ، وأن الاستفهام في معنى النفي ، والإخبار بعدم العلم لا إنكار عليهم . والمعنى : وما يدريكم أن الآية التي يقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون بها ، يعني : أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها ، وأنتم لا تدرون ذلك .
قال في " الانتصاف " : لما جاءت الآية تفهم ، ببادئ ، أن الله تعالى علم الإيمان منهم ، وأنكر على المؤمنين نفيهم له ، والواقع على خلاف ذلك . اختلف العلماء ( وساق نحو ما قدمنا في الوجوه ) ثم قال : وأما الزمخشري فتفطن لبقاء الآية على ظاهرها وقرارها في نصابها ، من غير حذف ولا تأويل . فقال قوله السالف . ونحن نوضح اطراده في المثال المتقدم ، ليتضح بوجهيه في الآية ، فنقول : إذا حرمت زيداً لعلمك بعدم مكافأته ، فأشير عليك بالإكرام بناء على أن المشير يظن المكافأة ، فلك معه حالتان : حالة تنكر عليه ادعاء العلم بما يعلم خلافه ، وحالة تعذره في عدم العلم بما أحطت به علماً . فإن أنكرت عليه قلت : وما يدريك أنه يكافئ ؟ وإن عذرته في عدم علمه بأنه لا يكافئ قلت : وما يدريك أنه لا يكافئ ؟ يعني : ومن أين تعلم أنت ما علمته أنا من عدم مكافأته ، وأنت لا تخبر أمره خبري . فكذلك الآية إنما ورد فيها الكلام إقامة عذر للمؤمنين في عدم علمهم بالمغيب في علم الله تعالى ، وهو عدم إيمان هؤلاء . فاستقام دخول ( لا ) وتعين ، وتبين أن سبب الاضطراب التباس الإنكار بإقامة الأعذار . انتهى .
وفي نفي السبب ، وهو الإشعار ، مبالغة في نفي المسبب ، وهو الشعور .
قال الخفاجيّ : وفي نفي المسبب بهذا الطريق مبالغة ليست في نفيها بدونها ، لأن في الكناية إثبات الشيء ببينة . وفيه تعريض بأن الله عالم بعدم إيمانهم ، على تقدير مجيء الآية المقترحة لهم ، وتنبيه على أنه تعالى لم ينزلها لعلمه بأنها إذا جاءت لا يؤمنون . فعدم الإنزال لعدم الإيمان . و ( يشعركم وينصركم ) ونحوه ، قُرئ بضم خالص وسكون واختلاس .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ 110 ]
{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ } عطف على ( لا يؤمنون ) ، داخل في حكم ( ما يشعركم ) ، مقيد بما قيد به . أي : وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق فلا يفقهونه . وأبصارهم عن اجتلائه فلا يبصرونه ، لكن لا مع توجهها إليه ، واستعدادها لقبوله ، بل لكمال نبوّها عنه ، وإعراضها بالكلية . ولذلك أخر ذكره عن ذكر عدم إيمانهم ، إشعاراً بأصالبهم في الكفر ، وحسماً لتوهم أن عدم إيمانهم ناشئ من تقليبه تعالى مشاعرهم بطريق الإجبار -أفاده أبو السعود - .
{ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ } أي : بما جاء من الآيات : { أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : قبل سؤالهم الآيات التي اقترحوها { وَنَذَرُهُمْ } أي : ندعهم : { فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } أي : يترددون متحيرين ، لا نهديهم هداية المؤمنين .
قال أبو السعود ( ونذرهم ) عطف على ( يؤمنون ) ، داخل في حكم الاستفهام الإنكاريّ ، مقيد به ، مبين لما هو المراد بتقليب الأفئدة والأبصار ، ومعرب عن حقيقته بأنه ليس على ظاهره ، بأن يقلب الله سبحانه مشاعرهم عن الحق ، مع توجههم إليه ، واستعدادهم له بطريق الإجبار ، بل بأن يخليهم وشأنهم ، بعد ما علم فساد استعدادهم ، وفرط نفورهم عن الحق ، وعدم تأثير اللطف فيهم أصلاً ، ويطبع على قلوبهم حسبما يقتضيه استعدادهم ، كما أشرنا إليه . انتهى .
وفي " اللباب " : في الآية دليل على أن الله تعالى يهدي من يشاء ، ويضل من يشاء ، وأن القلوب والأبصار بيده وفي تصريفه ، فيقيم ما شاء منها ، ويزيغ ما أراد منها . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : < يا مقلب القلوب ! ثبت قلبي على دينك > . انتهى . ثم بين تعالى كذبهم في أيمانهم الفاجرة على أبلغ وجه وآكده بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } [ 111 ]
{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ } أي : ولو أننا لم نقتصر على إيتاء ما اقترحوه هنا من آية واحدة ، بل نزلنا إليهم الملائكة ، كما قالوا : { لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ } [ الفرقان : 21 ] .
{ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى } كما قالوا : { فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ الدخان : 36 ] : { وَحَشَرْنَا } أي : جمعنا : { عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ } من الحيوانات والنباتات والجمادات { قُبُلاً } أي : كفلاء بصحة ما بشروا به وأنذروا : { مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا } لغلوهم في التمرد والطغيان { إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } أي : إيمانهم فيؤمنوا { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } أي : إنهم لو أوتوا كل آية لم يؤمنوا ، فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يكاد يكون . أو يجهلون أن الإيمان بمشيئة الله لا بخوارق العادات .
قال القاشاني : وفي الحقيقة لا اعتبار بالإيمان المرتب على مشاهدة خوارق العادات ، فإنه ربما كان مجرد إذعان لأمر محسوس ، وإقرار باللسان ، وليس في القلب من معناه شيء ، كإيمان أصحاب السامريّ . والإيمان لا يكون إلا بالجنان ، كما قال تعالى : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ و } [ الحجرات : 14 ] .
تنبيهان :
الأول -يُقرأ ( قُبُلاً ) بضم القاف والباء ، وفيه وجهان : أحدهما : هو جمع قبيل بمعنى الكفيل ، مثل قليب وقَلُب ؛ والآخر : أنه مفرد ، كقبل الإنسان ودُبُره . وعلى كلا الوجهين هو حال من كلّ . ويقرأ بالضم وسكون الباء على تخفيف الضمة يقرأ بكسر القاف وفتح الباء ، وانتصابه على الظرفية . كقولهم : لي قبل فلان حق . أو على الحالية ، وهو مصدر ، أي : ومشاهدة .
الثاني - في قوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ } حجة واضحة على المعتزلة لدلالته على أن جميع الأشياء بمشيئة الله تعالى ، حتى الإيمان والكفر . وقد اتفق سلف هذه الأمة ، وحملة شريعتها على أنه ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن . وللمعتزلة تحيل في المدافعة بحمل المشيئة المنفية ، على مشيئة القسر والاضطرار . وإنما يتم لهم ذلك أن لو كان القرآن يتبع الآراء . وأما وهو القوة والمتبوع ، فما خالفه حينئذ وتزحزح عنه ، فإلى النار ، وما بعد الحق إلا الضلال .
ثم سلى تعالى نبيه عما كان يقاسيه من قومه ، بتأسيه بمن سبقه من الأنبياء عليه الصلاة والسلام ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } [ 112 ]
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ } أي : مثل ذلك الجعل الذي جعلناه في حقك ، حيث جعلنا لك عدوّاً يضادونك ولا يؤمنون ، جعلنا لكل نبي تقدمك عدوّاً من مَرَدَةَ الإنس والجن ، فعلوا بهم ما فعل بك أعداؤك ، كما قال تعالى : { مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِك } [ فصلت : 43 ] . وقال ورقة بن نوفل للنبيّ صلى الله عليه وسلم : لم يأت رجل قط بمثل ما جئتَ به إلا عودي .
{ يُوحِي } أي : يلقي ويوسوس : { بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ } أي : المموه منه ، المزين ظاهره ، الباطل باطنه { غُرُوراً } أي : للضعفاء ، لأن الله تعالى جعلهم أهل الحجاب ، وكذا الغابرّين ، ليقهرهم بمقتضى استعدادهم . وفي الآية دليل على أن عداوة الكفرة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، بفعل الله سبحانه وتعالى ، وخلقه .
قال المهايمي : لتظهر الحجج بمجادلتهم ، وترتفع شبهاتهم ، ولئلا يقال إنه شخص ساعده الكل ليأكلوا أموال الناس ، أو يتواسوا عليهم .
{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } أي : ما فعلوا ذلك ، يعني : معاداة الأنبياء ، وإيحاء الزخارف . وهو أيضاً دليل على المعتزلة { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } أي : من الكفر ، فسوف يعلمون .
ثم عطف على قوله : { غُرُوراً } علة ثانية للإيحاء بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ } [ 113 ]
{ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ } أي : يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ، ليغرّهم به ، ولتميل إليه : { أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ } لمساعدته لهم على أهوائهم { وَلِيَرْضَوْهُ } أي : لأنفسهم بعد ما مالت إليه قلوبهم { وَلِيَقْتَرِفُوا } أي : وليكتسبوا بموجب ارتضائهم له { مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ } أي : من الآثام .
قال القاشاني : فتقوى غوايتهم ، ويتظاهرون ، ويخرج ما فيهم من الشرور إلى الفعل ، ويزدادوا طغياناً وتعدياً على النبي ، فتزداد قوة كماله ، وتهيج أيضاً بسببه دواعي المؤمنين ، والذين في استعدادهم مناسبة للنبيّ ، فتنبعث حميتهم ، وتزداد محبتهم للنبي ، ونصرهم إياه ، فتظهر عليهم كمالاتهم .
لطيفة :
إنما خص بالذكر عدم إيمانهم بالآخرة ، دون ما عداها من الأمور التي يجب الإيمان بها ، وهم بها كافرون ، إشعاراً بما هو المدار في صَغو أفئدتهم إلى ما يلقى إليهم ، فإن لذات الآخرة محفوفة في هذه النشأة بالمكاره ، وآلامها مزينة بالشهوات ، فالذين لا يؤمنون بها ، وبأحوال ما فيها ، لا يدرون أن وراء تلك المكاره لذات ، ودون هذه الشهوات آلاماً ، وإنما ينظرون إلى ما بدا لهم في الدنيا بادئ الرأي ، فهم مضرون إلى حب الشهوات ، التي من جملتها مزخرفات الأقاويل ، ومموّهات الأباطيل . وأما المؤمنون بها ، فحيث كانوا واقفين على حقيقة الحال ، ناظرين إلى عواقب الأمور ، لم يتصور منهم الميل إلى تلك المزخرفات ، لعلمهم ببطلانها ، ووخامة عاقبتها -أفاده أبو السعود - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [ 114 ]
وقوله تعالى : { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً } على تقدير القول ، كما في نظائره ، أي : قل لهم : أفغير الله أطلب من يحكم ببيني وبينكم ، ويفصل المحق منّا من المبطل . والمعني : أطلب معبوداً ، لأنه كانوا يتحاكمون إلى طواغيتهم -وهذا عندي أظهر - ثم رأيت في " تنوير المقباس " الاقتصار عليه ، حيث قال : { أَبْتَغِي حَكَماً } أعبد ربّاً . وأما كون الآية واردة على قولهم ( اجعل بيننا وبينك حكماً ) فلا يصح ، لأنهم بمعزل عن الانصياع لذلك .
{ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ } أي : القرآن المعجز { مُفَصَّلاً } أي : مبيناً فيه الفصل بين الحق والباطل ، والحلال والحرام ، وأنتم أمة أمية ، لا تدرون ما تأتون وما تذرون .
وفي الآية مسائل :
الأولى -قال في " الإكليل " : استدل الخوارج بقوله تعالى : { أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً } على إنكارهم التحكيم . قال : وهو مردود ، فإن التحكيم المنكر أن يريد حكماً يحكم بغير ما حكم الله تعالى . انتهى .
قلت : هذا مبني على الوجه الأول ، وقد عرفت أن الأظهر الوجه الثاني ، فلا استدلال ، ولا ردَّ .
الثانية - قالوا : الحكم أبلغ من الحاكم ، وأدل على الرسوخ ، لما أنه لا يطلق إلى إلا على العادل ، وعلى من تكرر منه الحُكْم ، بخلاف الحاكم .
الثالثة - في الآية تنبيه على أن القرآن الكريم كافٍ في أمر الدين ، مغنٍ عن غيره ، ببيانه وتفصيله .
{ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } لما عندهم من البشارات بك من الأنبياء المتقدمين ، ولتصديقه ما عندهم ، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يمارس كتبهم ، ولم يخالط علماءهم . وهذا تقرير لكونه منزلاً من عند الله ببيان أن الذين وثق بهم المشركون من علماء أهل الكتاب عالمون بحقيقته ونزوله من عنده تعالى .
{ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } أي : في أنه منزل من ربك بالحق ، بسبب جحود أكثرهم وكفرهم به ، فيكون من باب التهييج والإلهاب ، كقوله تعالى : { وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 14 ] .
قال ابن كثير : هذا كقوله تعالى : { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [ يونس : 94 ] . قال : وهذا شرط ، والشرط لا يقتضي وقوعه . ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < لا أشك ولا أسأل > . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ 115 ]
{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ } وقُرئ ( كلمات ربك ) أي : بلغت الغايةَ أخباره وأحكامه ومواعيده : { صِدْقاً } في الأخبار والمواعيد : { وَعَدْلاً } في الأقضية والأحكام .
وقال القاشانيّ : أي : تم قضاؤه تعالى في الأزل بما قضى وقدر من إسلام من أسلم ، وكفر من كفر ، ومحبة من أحب ، وعداوة من عادى ، قضاءً مبرماً ، وحكماً صادقاً ، مطابقاً لما يقع ، عادلاً بمناسبة كل قول وكل كمال وحال ، لاستعداد من يصدر عنه واقتضائه له . انتهى .
{ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } أي : لا أحد يبدل شيئاً منها بما هو أصدق وأعدل . أو لا أحد يقدر أن يحرفها شائعاً ذائعاً ، كما فعل بالتوراة . على أن المراد بها القرآن فيكون ضماناً لها منه تعالى بالحفظ ، كقوله : { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] .
وقال القاشاني : أي : لا مبدل لأحكامه الأزلية . انتهى .
قال السيوطي في " الإكليل " : يستدل به من قال إن اليهود والنصارى لم يبدلوا لفظ التوراة والإنجيل ، وإنما بدلوا المعنى ، لأن كلمات الله لا تبدل . انتهى - وهو رواية عن ابن عباس - أخرجها البخاري في آخر صحيحه . وبسط المقام في ذلك الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " . وتقدم لنا في سورة البقرة شذرة من هذا البحث ، فجدد به عهداً .
{ وَهُوَ السَّمِيعُ } لما يظهرون من الأقوال : { الْعَلِيمُ } أي : بما يخفون . ثم حذر تعالى من الركون إليهم والعمل بآثارهم بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } [ 116 ]
{ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ } أي : من الناس ، وهو الكفار : { يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي : عن الطريق الموصل إله ، بتزيينهم زخارفهم عليك ، ودعوتهم إياك إلى ما هم فيه من اتباع الهوى ، كما قال : { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ } وهو ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق ، فهم يقلدونهم : { وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } يكذبون على الله تعالى فيما ينسبون إليه ، كاتخاذ الولد ، وجعل عبادة الأوثان وصلة إليه ، وتحليل الميتة ، وتحريم البحائر . و ( إنْ ) فيه وفيما قبله نافية . والخرص : الحَزْرُ والتخمين ، وقد يعبر به عن الكذب والافتراء ، وأصله القول بالظن ، وقول ما لا يستيقن ويتحقق - قاله الأزهري - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [ 117 ]
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } تقرير لمضمون الشرطية ، وما بعدها . وتأكيد لما يفيده من التحذير . أي : هو أعلم بالفريقين ، فاحذر أن تكون من الأولين . -أفاده أبو السعود - .
تنبيه :
قال الرازي : تمسك نفاة القياس بهذه الآية فقالوا : رأينا أن الله تعالى بالغ في ذم الكفار في كثير من آيات القرآن ، بسبب كونهم متبعين للظن . والشيء الذي يجعله الله تعالى موجباً لذم الكفار ، لا بد وأن يكون في المعنى في أقصى مراتب الذم . والعلم بالقياس يوجب اتباع الظن ، فوجب كونه مذموماً محرماً . لا يقال : لما ورد الدليل القاطع بكونه حجة ، كان العمل له عملاً بدليل مقطوع ، لا بدليل مظنون . لأنا نقول : هذا مدفوع من وجوه :
الأول - أن ذلك الدليل القاطع إما أن يكون عقليّاً ، وإما أن يكون سمعيّاً ، والأول باطل ، لأن العقل لا مجال له في أن العمل بالقياس جائز أو غير جائز ، لا سيما عند من ينكر تحسين العقل وتقبيحه . والثاني أيضاً باطل لأن الدليل السمعيّ إنما يكون قاطعاً لو كان متوتراً ، أو كانت ألفاظه غير محتملة لوجه آخر ، سوى هذا المعنى الواحد . ولو حصل مثل هذا الدليل لعلم الناس بالضرورة كون القياس حجة ، ولارتفع الخلاف فيه بين الأمة . فحيث لم يوجد ذلك . علمنا أن الدليل القاطع على صحة القياس مفقود .
الثاني - هب أنه وجد الدليل القاطع على أن القياس حجة ، إلا أن مع ذلك لا يتم العمل بالقياس إلا مع اتباع الظن . وبيانه أن التمسك بالقياس مبنيّ على مقامين : الأول : أن الحكم في محل الوفاق معلل بكذا . والثاني : أن ذلك المعنى حاصل في محل الخلاف . فهذان المقامان ، إن كانا معلومين على سبيل القطع واليقين ، فهذا مما لا خلاف فيه بين العقلاء في صحته . وإن كان مجموعهما ، أو كان أحدهما ظنيّاً ، فحينئذ لا يتم العلم بهذا القياس إلا بمتابعة الظن ، وحينئذ يندرج تحت النص الدالّ على أن متابعة الظن مذمومة . والجواب لِمَ لا يجوز أن يقال : الظن عبارة عن الاعتقاد الراجح إذا لم يستند إلى أمارة ، وهو مثل اعتقاد الكفار . أما إذا كان الاعتقاد الراجح مستندا إلى أمارة ، فهذا الاعتقاد لا يسمى ظنّاً ، وبهذا الطريق سقط هذا الاستدلال . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ } [ 118 ]
وقوله تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } أمر مترتب على النهي عن اتباع المضلين الذين من جملة إضلالهم تحليل الحرام وتحريم الحلال . وذلك أنهم خاصموا المسلمين فقالوا : ما ذبح الله لا تأكلونه ، وما ذبحتم أنتم أكلتموه - أخرجه النسائي عن ابن عباس - فنزلت الآية . والمعنى : كلوا مما ذكر اسم الله على ذبحه ، لرفعه تنجيس الموت إياه المانع من الأكل ، لا مما ذكر عليه اسم غيره ، أو مات حتف أنفه .
{ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ } فإن الإيمان بها يقتضي استباحة ما أحله سبحانه ، واجتناب ما حرمه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ } [ 119 ]
قوله تعالى : { وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } إنكار لأن يكون لهم شيء يدعوهم إلى الاجتناب عن أكل ما ذكر عليه اسم الله تعالى من البحائر والسوائب . أي : وأي غرض لكم في أن تتحرجوا من أكله ، وما يمنعكم عنه ؟ : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } أي : بيّنه ووضحه .
قال بعض المفسرين : يعني في آية المائدة في قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } [ المائدة : 3 ] الآية . وردّ بأن المائدة من آخر ما نزل بالمدينة ، والأنعام مكية . فالصواب أن التفصيل إمّا في قوله تعالى بعد هذه الآية : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً } [ الأنعام : 145 ] الآية . فإنه ذكر بعد بيسير ، وهذا القدر من التأخر لا يمنع أن يكون هو المراد ، وإما على لسان الرسول ، ثم أنزل بعد ذلك في القرآن . و ( فصل ) و ( حرم ) قرئ كل منهما معلوماً ومجهولاً . ومعنى الآية : لا مانع لكم من أكل ما ذكر ، وقد بين لكم المحرم أكله ، وهذا ليس منه .
{ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } أي : مما حرم عليكم . أي : إلا أن تدعوكم الضرورة إلى أكله بسبب شدة المجاعة ، فيباح لكم .
{ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ } قُرئ بفتح الياء وضمها : { بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي : يضلون فيحرّمون ويحللون بأهوائهم وشهواتهم ، من غير تعلق بشريعة .
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ } أي : المتجاوزين لحدود الحق إلى الباطل ، والحلال إلى الحرام .
تنبيه :
قال الرازي : دلت هذه الآية على أن القول في الدين بمجرد التقليد حرام ، لأن القول بالتقليد قول بمحض الهوى والشهوة ، والآية دلت على أن ذلك حرام . انتهى .
وقال بعض الزيدية : في الآية دلالة على تحريم الفتوى والحكم بغير دلالة ، ولكن اتباع الهوى .
ولما بين تعالى أنه فصل المحرمات ، أتبعه بما يوجب تركها بالكلية ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْأِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ } [ 120 ]
{ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ } أي : سيئات الأعمال والأقوال الظاهرة على الجوارح : { وَبَاطِنَهُ } أي : ما يسّر منه بالقلب كالعقائد الفاسدة ، والعزائم الباطلة . أو ما يعلن من الذنوب وما يسر منها ، ويستتر فيه .
قال السديّ : ظاهره الزنا مع البغايا ذوات الرايات ، وباطنه مع الخليلة والصدائق والأخدان . ولا يخفى أن اللفظ عامّ في كل محرم ، ولذا قال قتادة : أي : سره وعلانيته ، قليله وكثيره ، وصغيره وكبيره . كقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [ الأعراف : 33 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْأِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ } أي : يكتسبون . قال الشهاب : الاقتراف في اللغة الاكتساب ، وأكثر ما يقال في الشر والذنب . ولذا قيل : الاعتراف يزيل الاقتراف وقد يرد في الخير كقوله تعالى : { وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } [ الشورى : 23 ] انتهى .
وقد روى مسلم وغيره عن نواس بن سمعان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < البِرّ حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس > .
قال الحاكم : في الآية دلالة على أن العبد يؤاخذ بأفعال القلب ، كما يؤاخذ بأفعال الجوارح . أي : على التفسير الأول فيها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [ 121 ]
{ وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } أي : عند ذبحه . أي : بأن ذكر عليه اسم غيره ، يعني : ذبح لغيره تعالى { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } والفسق ما أُهِلَّ لغير الله به ، كما في الآية الآتية آخر السورة . قال المهايمي : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } أي : خروج عن الحسن إلى القبح ، بتناول ما تنجس بالموت بلا مانع عن تأثيره { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ } أي : يوسوسون { إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ } أي : من الكفار { لِيُجَادِلُوكُمْ } أي : في تحليل الميتة { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } أي : في تحليل ما حرم الله ، أو تحريم ما أحل { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } أي : لهم مع الله ، فيما يختص به من التحليل والتحريم .
تنبيهات :
الأول - روي في سبب نزول هذه الآيات عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أتى ناس إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ! إنا نأكل ما نقتل ، ولا نأكل ما يقتل الله تعالى ، فأنزل الله تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ } إلى قوله : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } . أخرجه أصحاب السنن .
وفي رواية لأبي داود في قوله تعالى : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } قال : يقولون ما ذبح الله - فلا تأكلوا ، وما ذبحتم أنتم فكلوا ؟ فأنزل الله تعالى : { فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ } ، فنسخ ، واستثنى من ذلك فقال : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ } .
وعند النسائي قال : خاصمهم المشركون ، فقالوا : ما ذَبَحَ اللهُ لا تأكلونه ، وما ذبحتم أنتم أكلتموه ؟ - كذا في تيسير الوصول .
الثاني -دلت الآية على مشروعية التسمية عند الذبح فقيل : باسم الله ، بهذا اللفظ الكريم . وقيل بكل قول فيه تعظيم له كالرحمن ، وسائر أسمائه الحسنى ، لقوله تعالى : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَن } [ الإسراء : 110 ] ، ولقوله تعالى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [ الأعراف : 180 ] .
الثالث -ما قدمناه من حمل الآية على ما ذبح لغير الله تعالى هو الأظهر في تأويلها ، لقوله تعالى بعد : { أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ } ومراعاة النظائر في القرآن أولى ما يلتمس به المراد .
وقد روى ابن أبي حاتم عن عطاء قال : نزلت عي ذبائح كانت تذبحها قريش على الأوثان ، وذبائح المجوس . وقد حاول بعضهم أن يقويه فجعل الواو في قوله : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } حالية ، لقبح عطف الخبر على الإنشاء . قال : والمعنى : لا تأكلوه حال كونه فسقاً . والفسق مجمل يفسره قوله : { أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ } ، فيكون النهي مخصوصاً بما أهل لغير الله به ، فيبقى ما عداه حلالاً ، إما بالمفهوم ، أو بعموم دليل الحل ، أو بحكم الأصل . واعترض على هذا الحمل بأنه يقتضي أن لا يتناول النهي أكل الميتة ، مع أنه سبب النزول ، وبأن التأكيد بـ ( إن ) و ( اللام ) ينفي كون الجملة حالية ، لأنه إنما يحسن فيما قصد الإعلام بتحققه البتة ، والرد على منكر تحقيقاً أو تقديراً ( على ما بين في المعاني ) ، والحال الواقع في الأمر والنهي مبناه على التقدير ، كأنه قيل : لا تأكلوا منه إن كان فسقاً ، فلا يحسن ( وإنه لفسق ) بل ( وهو فسق ) وأجيب عن الأول بأنه دخل بقوله : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } : { مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ } وبقوله : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ } . . . الخ الميتة ، فيتحقق أن هذا النهي مخصوص بما ذبح على النصب ، أو مات حتف أنفه . وعن الثاني بأنه لما كان المراد بالفسق ههنا الإهلال لغير الله ، كان التأكيد مناسباً ، كأنه قيل : لا تأكلوا منه إذا كان هذا النوع من الفسق الذي الحكم به متحقق ، والمشركون ينكرونه - كذا في " العناية " - .
ومما يقويه أيضاً قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } على أن المراد به الخروج عن طاعة الله تعالى ، وهو وجه ثان فيه ، وقوله تعالى : { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } فإن من أكل الميتة ، أو ما على النصب فسق ، ومع ، الاستحلال يكفر ، بخلاف ما ذبحه المسلم ولم يسم عليه ، فإن آكله لا يفسق ولا يكفر إجماعاً -أشار له الرازيّ - وحينئذ فلا دلالة في الآية على تحريم ذبيحة المسلم التي تركت التسمية عليها عمداً أو سهواً .
وقد روى أبو داود في " مراسيله " عن الصلت السدوسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ذبيحة المسلم حلال ، ذكر اسم الله أو لم يذكره ، إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله > .
قال الحافظ ابن كثير : وهذا مرسل يعضد بما رواه الدارقطنيّ عن ابن عباس أنه قال : < إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله ، فليأكل ، فإن المسلم في اسم من أسماء الله تعالى > .
واحتج البيهقي أيضاً بحديث عائشة رضي الله عنها أن قوماً قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ، فقال : سموا عليه أنتم وكلوه . قالت : وكانوا حديثي عهدٍ بكفر - رواه البخاري والنسائي - قال : فلو كان وجود التسمية شرطاً لم يرخص لهم إلا مع تحققها . وكذا قال الخطابي : فيه دليل على أن التسمية غير شرط على الذبيحة ، لأنها لو كانت شرطاً لم تستبح الذبيحة بالأمر المشكوك فيه ، كما لو عرض الشك في نفس الذبيحة ، فلم يعلم هل وقعت الذكاة المعتبرة أم لا ؟ وهذا هو المتبادر من سياق الحديث ، حيث وقع الجواب فيه : ( سموا أنتم ) ، كأنه قيل لهم : لا تهتموا بذلك ، بل الذي يهمكم أنتم أن تذكروا اسم الله وتأكلوا . وهذا من الأسلوب الحكيم . ومما يدل أيضاً قوله تعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } [ المائدة : 5 ] فأباح الأكل من ذبائحهم ، مع وجود الشك في أنهم سموا أم لا . هذا ، وقد تمسك بظاهر الآية قوم فذهبوا إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها ، وإن كان الذابح مسلماً ، عمداً تركت التسمية أو نسياناً . واحتجوا أيضاً بقوله تعالى في آية الصيد : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } [ المائدة : 4 ] ، وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد ، كحديثي عديّ بن حاتم وأبي ثعلبة : < إذا أرسلت كلبك المعلَّم ، وذكرت اسم الله فكل > ، وهما في الصحيحين .
وحديث رافع بن خديج : < ما أنهر الدم وذُكِر اسمُ الله فكلوه > -في الصحيحين أيضاً - . وحديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجنّ : < لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه > -رواه مسلم - .
وحديث جُنْدب بن سفيان البجليّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من ذبح قبل أن يصلي ، فليذبح مكانها أخرى ، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا ، فليذبح باسم الله > -أخرجاه .
قالوا : ففي هذه الأحاديث إيقاف الإذن في الأكل على التسمية ، والمعلق بالوصف ينتفي هند انتفائه ، عند من يقول بالمفهوم . والشرط أقوى من الوصف .
واحتجوا أيضاً بحديث عائشة المتقدم ( سموا عليه أنتم وكلوا ) . قالوا : إن القوم فهموا أن التسمية لا بد منها ، وخشوا أن لا تكون وجدت من أولئك ، لحداثة إسلامهم ، فأمرهم بالاحتياط بالتسمية عن الأكل ، لتكون كالعوض عن المتروكة عند الذبح ، إن لم تكن وجدت . أي : فتسميتكم الآن تستبيحون بها كل ما لم تعلموا أَذَكَرُوا اسم الله عليه أم لا ، إذا كن الذابح ممن تصح ذبيحته إذا سمّى . قالوا : ويستفاد منه أن كل ما يوجد في أسواق المسلمين محمول على الصحة ، وكذا ما ذبحه أعراب المسلمين ، لأن الغالب أنهم عرفوا التسمية . انتهى .
وأجاب من حمل الآية على الوجه الأول ؛ بأن الأمر في حديث عديّ وأبي ثعلبة محمول على التنزيه ، من أجل أنهما كانا يصيدان على مذهب الجاهلية ، فعلمهما النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر الصيد والذبح ، فرضه ومندوبه ، لئلا يوافقا شبهة في ذلك ، وليأخذا بأكمل الأمور . وأما الذين سألوا عن تلك الذبائح ، فإنهم سألوا عن أمر قد وقع لغيرهم ، فعرّفهم بأصل الحل فيه .
وقال ابن التين : يحتمل أن يراد التسمية هنا عند الأكل ، وبذلك جزم النووي .
وأما التسمية على ذبحٍ تولاه غيرهم ، فلا تكلف عليهم فيه ، وإنما يحمل على غير الصحة إذا تبين خلافها .
وقال المهلب : هذا الحديث أصل في أن التسمية ليست فرضاً . فلما نابت تسميتهم عن التسمية على الذبح ، دل على أنها سنة ، لأن السنة لا تنوب عن فرض . انتهى .
وذهب بعض من اشترط التسمية في الحل إلى جواز أكل ما تُرِكَتْ عليه سهواً لا عمداً . واحتج بما رواه البيهقيّ عن ابن عباس مرفوعاً : < المسلم يكفيه اسمه ، إن نسي أن يسمي حين يذبح ، فليذكر اسم الله وليأكله > . قال الحافظ ابن كثير : وَرَفْعُهُ خطأ والصواب وقفه على ابن عباس ، من قوله . نص عليه البيهقيّ . واحتج أيضاً بالحديث المرويّ من طرق عند ابن ماجة عن ابن عباس وأبي هريرة وأبي ذر وعقبة بن عامر وعبد الله بن عَمْرو عن النبي صلى الله عليه وسلم : < إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه > .
ورواه الطبراني عن ثوبان مرفوعاً بلفظ : < رفع عن أمتي الخطأ . . . > . الحديث .
وروى ابن عدي عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! أرأيتَ الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي ! فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : < اسم الله على كل مسلم > . قال ابن كثير : وإسناده ضعيف .
وقد علمت الأظهر في تأويل الآية أولاً - والله أعلم - .
الرابع - قال ابن جرير : اختلف أهل العلم في هذه الآية : هل نُسِخ من حُكمها شيءٌ أم لا ؟ فقال بعضهم : لم ينسخ منها شيء ، وهي محكمة فيما عُنِيَتْ به . وعلى هذا قول مجاهد وعامة أهل العلم .
وروي عن الحسن البصري وعكرمة أنه تعالى نسخ من هذه الآية واستثنى قوله : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } . وروى ابن أبي حاتم عن مكحول أيضاً أنه تعالى نسخها بذلك وأحل طعام أهل الكتاب .
قال ابن جرير : والصواب أنه لا تعارض بين حل طعام أهل الكتاب ، وبين تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه .
قال ابن كثير : وهذا الذي قاله صحيح . ومن أطلق نم السلف النسخ ههنا ، فإنما أراد التخصيص . انتهى .
وقد قدمنا في المقدمة أنه علم من استقراء كلام الصحابة والتابعين أنهم كانوا يستعلمون النسخ بإزاء المعنى اللغويّ ، الذي هو إزالة شيء بشيء ، لا بإزاء مصطلح الأصوليين . فمعنى النسخ عندهم إزالة بعض الأوصاف من الآية بآية أخرى . إما بانتهاء مدة العمل ، أو بصرف الكلام عن المعنى المتبادر إلى غيره ، أو بيان كون قيد من القيود اتفاقياً ، أو تخصيص عام ، وغير ذلك مما أسلفنا ، فتذكر !
الخامس - قال الزجاج : في قوله تعالى : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } . دليل على أن كل من أحل شيئاً مما حرم الله تعالى ، أو حرم شيئاً مما أحل الله تعالى ، فهو مشرك . وإنما سمي مشركاً لأنه أثبت حاكماً سوى الله تعالى . وهذا هو الشرك . انتهى .
وقال ابن كثير : { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } أي : حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره ، فقدّمتم عليه غيره ، فهذا هو الشرك . كقوله تعالى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } [ التوبة : 31 ] . . . الآية . وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عديّ بن حاتم أنه قال : يا رسول الله ! ما عبدوهم . قال : إنهم أحلوا لهم الحرام ، وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم . فذاك عبادتهم إياهم . انتهى .
السادس - قال الكعبي : الآية حجة على أن ( الإيمان ) اسم لجميع الطاعات ، وإن كان معناه في اللغة التصديق ، كما جعل تعالى ( الشرك ) اسماً لكل ما كان مخالفاً لله تعالى ، وإن كان في اللغة مختصاً بمن يعتقد أن لله شريكاً ، بدليل أنه تعالى سمى طاعة المؤمنين للمشركين ، في إباحة الميتة ، شركاً .
وتعقبه الرازي ؛ بأنه لِمَ لا يجوز أن يكون المراد من الشرك ههنا اعتقاد أن لله شريكاً في الحكم والتكليف ؟ وبهذا التقدير يرجع معنى هذا الشرك إلى الاعتقاد فقط . انتهى .
ثم ضرب تعالى مثلاً للمؤمن والكافر ، لتنفير المسلمين عن طاعة المشركين ، إثر تحذيرهم عنها ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 122 ]
{ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } مثل به من هداه الله بعد الضلالة ، وبصّره بنور الحجج والآيات ، يتأمل بها في الأشياء ، فيميز بين الحق والباطل ، والمهتدي والضالّ ، بمن كان ميتاً فأعطاه الحياة ، وما يتبعها من القوى المدركة والمحرِّكة . ومن بقي على الضلالة ، بالخابط في الظلمات ، لا ينفك منها ، ولا يتخلص ، فهو متحيّر على الدوام { كَذَلِكَ } أي : مثل ذلك التزيين البليغ : { زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : من فنون الكفر والمعاصي ، ولذا جادلوا بها الحق ، وأصروا عليها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } [ 123 ]
و قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا } تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم . أي : كما جعلنا بمكة كبراء ليمكروا على أتباعهم في تزيين الباطل ، وستر الحق - جعلنا في كل قرية ، أرسلنا إليها الرسل ، أكابرها المجرمين ، متصفين بصفات المذكورين ، مزيناً لهم أعمالهم ، مصرين على الباطل ، مجادلين به الحق ، ليفعلوا المكر فيها على أتباعهم بالتلبيس ، ليتركوا متابعة الرسل .
قال ابن كثير : المراد بـ ( المكر ) ههنا دعاؤهم إلى الضلالة بزخرف المقال والفعال ، كقوله تعالى إخباراً عن قوم نوح : { وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً } [ نوح : 22 ] ، وكقوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً } [ سبأ : 31 - 33 ] الآية .
وقال الزمخشري : خص الأكابر لأنهم هم الحاملون على الضلال ، والماكرون بالناس ، كقوله : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } [ الإسراء : 16 ] .
{ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } أي : ما يضرون بمكرهم إلا أنفسهم ، لأن وباله يحيق بهم ، كما قال تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13 ] . وقال : { وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } [ النحل : 25 ] . قال الزمخشري : هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقديم موعد بالنصرة عليهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ } [ 124 ]
{ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ } أي : برهان وحجة قاطعة : { قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ } أي : من الوحي والمعجزات المصدقة له . كقوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا } [ الفرقان : 21 ] الآية .
وقوله قوله سبحانه : { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً } [ المدثر : 52 ] .
{ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } كلام مستأنف للإنكار عليهم ، وأن لا يصطفي للنبوة إلا من علم أنه يصلح لها ، فيليق للاستشراق بأنوار علمه ، والأمانة على مكنون سره ، مما لو انكشف لغيره انكشافه له ، لفاضت له نفسه ، أو ذهبت بعقله جلالته وعظمته ، فهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه منهم .
وقد روى الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن الله عز وجل اصطفى من ولد إبراهيم ، إسماعيل . واصطفى من بني إسماعيل ، بني كنانة . واصطفى من بني كنانة قريشاً ، واصطفى من قريش ، بني هاشم . واصطفاني من بني هاشم > . وانفرد بإخراجه مسلم أيضاً .
وروى الإمام أحمد عن المطلب بن أبي وَدَاعَة عن العباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه ، وجعلهم فريقين ، فجعلني في خير فرقة ، وخلق القبائل ، فجعلني في خير قبيلة ، وجعلهم بيوتاً ، فجعلني في خيرهم بيتاً ، فأنا خيركم بيتاً ، وخيركم نفساً > .
{ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ } أي : ذلة وهوان بعد كبرهم وعظمتهم : { عِنْدَ اللَّهِ } أي : يوم القيامة ، جزاء على منازعتهم له تعالى في كبره بردّ آياته ورسالته ، واعتراضهم عليه في تخصيصه بالرسالة غيرهم { وَعَذَابٌ شَدِيدٌ } يعني : في الآخرة { بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ } في الدنيا إضراراً بالأنبياء .
قال ابن كثير لما كان المكر غالباً ، إنما يكون خفياً ، وهو التلطف في التحليل والخديعة ، قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة ، جزاء وفاقاً . ولا يظلم ربك أحداً . وجاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة ، فيقال : هذه غدرة فلان بن فلان > .
والحكمة في هذا ، أنه لما كان الغدر خفيّاً لا يطلع عليه الناس ، فيوم القيامة يصير عَلَماً منشوراً على صاحبه بما فعل . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ 125 ]
{ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ } أي : للتوحيد : { يَشْرَحْ } أي : يوسع : { صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ } بتصقيله بنور الهداية ، فيقبل نور الحق ، كما قال تعالى : { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 7 ] .
روى عبد الرزاق أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية : كيف يشرح صدره ؟ قال : نور يقذف فيه فينشرح . قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها ؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت . ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم . قال ابن كثير : وللحديث طرق مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضاً .
{ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً } أي : شديد الضيق ، فلا يتسع للاعتقادات الصائبة في الله ، والأمور الأخروية .
قال أبو البقاء : حرجاً ( بكسر الراء ) صفة لـ ( ضيّقاً ) ، أو مفعول ثالث ، كما جاز في المبتدأ أن تخبر عنه بعدة أخبار . أو يكون الجميع في موضع خبر واحد ( حلو حامض ) . وعلى كل تقدير ، هو مؤكد للمعنى . يقرأ بفتح الراء ، على أنه مصدر . أي : ذا حرج . وقيل : هو جمع حَرَجَة ، مثل قصبة وقصب ، والهاء فيه للبالغة . انتهى .
وقوله تعالى : { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } أي : يتكلف الصعود في جهة السماء ، وطبعة يهبط إلى الأرض ، فشبه ، للمبالغة في ضيق صدره ، بمن يزاول أمراً غير ممكن لأن صعود السماء مثلٌ فيما يمتنع ويبعد من الاستطاعة ، وتضيق عنه المقدرة . وقيل : معناه كأنما يتصاعد إلى السماء نبوّاً عن الحق ، وتباعداً في الهرب منه . وأصل ( يصعد ) يتصعد من ( الصعود ) .
{ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ } في الاعتقادات والأخلاق . والرجس ما استقذر من العمل ، وسمي بذلك مبالغة في ذمه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } [ 126 ]
{ وَهَذَا } أي : البيان الذي جاء به القرآن ، أو طريق التوحيد ، وإسلام الوجه إلى الله : { صِرَاطُ رَبِّكَ } أي : طريقه الذي ارتضاه : { مُسْتَقِيماً } لا ميل فيه إلى إفراط وتفريط في الاعتقادات والأخلاق والأعمال . أو لا اعوجاج فيه إلى النظر إلى الغير والشرك به .
{ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } أي : المعارف والحقائق التي هي مركزة في استعداهم ، فيهتدوا بها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 127 ]
{ لَهُمْ دَارُ السَّلامِ } أي : السلامة من المكاره ، وهو الجنة ، لكونهم في مقام القرب : { عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ } يتولاهم بمحبته ، ويجعلهم في أمانة { بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : بسبب أعمالهم الصالحة في سلوكهم صراطه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ } [ 128 ]
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } أي : اذكر يا محمد فيما تقصه عليهم ، وتنذرهم به ، يوم تحشرهم جميعاً ، يعني الجن وأولياءهم من الإنس الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ، ويعوذون بهم ، ويطيعونهم ، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً .
{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ } أي : نقول : يا معشر الجن ! يعني : الشياطين . قال المهايمي : خصمهم بالنداء لأنهم الأصل في المكر { قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ } أي : من إغوائهم وإضلالهم . أو منهم ، بأن جعلتموهم أتباعكم ، وتسويلكم وتزيينكم الحطام الدنيوية ، واللذات الجسمانية عليهم ، ووسوستكم لهم بالمعاصي ، فحشروا معكم . وهذا بطريق التوبيخ والتقريع . : { وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ } أي : الذين أطاعوهم وتولوهم : { مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } قال الحسن : ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت ، وعلمت الإنس . أي : فالجن نالت التعظيم منهم فعبدت ، والإنس بوسوستهم تمتعوا بإيثار الشهوات الحاضرة ، على اللذات الغائبة : { وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا } أي : بالموت ، أو بالمعاد الجسماني على أقبح صورة ، وأسوأ عيش .
قال أبو السعود : قالوا اعترافاً بما فعلوا من طاعة الشياطين ، واتباع الهوى ، وتكذيب البعث ، وإظهاراً للندامة عليها ، وتحسراً على حالهم ، واستسلاماً لربهم . ولعل الاقتصار على حكاية كلام الضالين ، للإيذان بأن المضلين قد أفحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلاً .
{ قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ } أي : منزلكم ، كما أن دار السلام مثوى المؤمنين .
{ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ } قال القاشاني : أي : إلا وقت مشيئته أن تخفف ، أو ينجي منكم من لا يكون سبب تعذيبه شركاً راسخاً في اعتقاده .
وقال المهايمي : أي : إلا وقت مشيئته أن ينقلكم منها إلى الزمهرير ، انتقالكم من شهوة إلى أخرى .
وقال الزمخشري : أي : يخلدون في عذاب النار ، الأبَد كلَّه ، إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير . فقد روي أنهم يدخلون وادياً فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض ، فيتعاوون ويطلبون الرد إلى الجحيم . أو يكون من قول الموتور الذي ظفر بواتره ، ولم يزل يحرق عليه أنيابه ، وقد طلب إليه أن ينفس عن خناقه : أهلكني الله إن نفست عنك إلا إذا شئت . وقد علم أنه لا يشاء إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف والتشديد . فيكون قوله ( إلا إذا شئت ) من أشد الوعيد ، مع تهكم بالموعد ، لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع . انتهى .
قال الخفاجيّ : لما كان الخطاب للكفرة ، وهم لا يخرجون من النار ، لأن ما قبله بيان حالهم ، فيعبد جعلهم شاملاً للعصاة ، ليصح الاستثناء باعتباره ، مع أن استعمال ( ما ) للعقلاء قليل - وَجَّهُوه ُبأن المراد النقل من النار إلى الزمهرير ، أو المبالغة في الخلود ، بمعنى أنه لا ينتفي إلا وقت مشيئة الله ، وهو مما لا يكون مع إبرازه في صورة الخروج وإطماعهم في ذلك تهكماً وتشديداً للأمر عليهم . و ( ما ) مصدرية وقتية . أو إن المستثنى زمان إمهالهم قبل الدخول . وردَّ الأول بأن فيه صرف النار من معناها العلميّ ، وهو دار العذاب ، إلى اللغوي . وأجيب عنه بان لا بأس بالصرف إذا دعت إليه ضرورة . وقيل عليه : إن المعترض لا يسلم الضرورة ، لإمكان غير ذلك التأويل . مع أن قوله : { مَثْوَاكُمْ } يقتضي ما ذهب إليه المعترض بحسب الظاهر . وردّ الأخير أبو حيّان بأن في الاستثناء يشترط اتحاد زمان المخرج ، والمخرج منه ، فإذا قلت : قام القوم إلا زيداً ، فمعناه : إلا زيدا ما قام . ولا يصح أن يكون المعنى : إلا زيداً ما يقوم في المستقبل . وكذلك سأضرب القوم إلا زيداً ، معناه : إلا زيداً فإني لا أضربه في المستقبل ، ولا يصح أن يكون المعنى : إلا زيداً فإني ما ضربته قبل ، إلا إذا كان استثناء منقطعاً ، فإنه يسوغ ، كقوله : { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى } . فإنهم ذاقوها . ولك أن تقول : إن القائل بل يلتزم انقطاعه ، كما في الآية التي ذكرها ، ولا محذور فيه ، مع ورود مثله في القرآن ، وفيه نظر . وقيل : إنه غفلة عن تأويل الخلود بالأبد ، والأبد لا يقتضي الدخول . انتهى .
وقال الناصر في " الانتصاف " : قد ثبت خلود الكفار في العذاب ثبوتاً قطعيّاً ، فمن ثم اعتنى العلماء بالكلام على الاستثناء في هذه الآية ، وفي أختها في سورة هود . فذهب بعضهم إلى أنها شاملة لعصاة الموحدين وللكفار ، والمستثنى العصاة ، لأنهم لا يخلدون -وقد علمت بُعْدَه - .
ثم قال : وذهب بعضهم إلى أن هذا الاستثناء محدود بمشيئة رفع العذاب ، أي : مخلدون إلا أن يشاء الله لو شاء . وفائدته إظهار القدرة ، والإعلان بأن خلودهم إنما كان لأن الله تعالى قد شاءه ، وكان الجائز العقلي في مشيئته أن لا يعذبهم ، ولو عذبهم لا يخلدهم ، وإن ذلك ليس بأمر واجب عليه ، وإنما هو مقتضى مشيئته وإرادته عز وجل . وفيها على هذا الوجه دفع في صدر المعتزلة الذين يزعمون أن تخليد الكفار واجب على الله تعالى بمقتضى الحكمة ، وأنه لا يجوز في العقل أن يشاء خلاف ذلك .
وذهب الزجاج إلى وجه لطيف ، إنما يظهر بالبسط فقال : المراد -والله أعلم -إلا ما يشاء من زيادة العذاب . ولم يبين وجه الاستثناء . والمستثنى على هذا التأويل لم يغاير المستثنى منه في الحكم ، ونحن نبيّنه فنقول : العذاب -والعياذ بالله -على درجات متفاوتة ، كأن المراد أنهم مخلدون في جنس العذاب إلا ما شاء ربك من زيادة تبلغ الغاية ، وتنتهي إلى أقصى النهاية ، حتى تكاد لبلوغها الغاية ، ومباينتها لأنواع العذاب في الشدة ، تعدّ ليس من جنس العذاب ، وخارجة عنه . والشيء إذا بلغ الغاية عندهم عبروا عنه بالضد ، كما تقدم في التعبير عن كثرة الفعل بـ ( رب ) و ( قد ) ، وهما موضوعان لضد الكثرة من القلة ، وذلك أمر يعتاد في لغة العرب . وقد حام أبو الطيب حوله فقال :
~لقد جدتَ حتى كاد يبخل حاتم للمنتهى ومن السرور بكاء
فكأن هؤلاء إذا نقلوا إلى غاية العذاب ، ونهاية الشدة ، فقد وصلوا إلى الحد الذي يكاد أن يخرج من اسم العذاب المطلق ، حتى يسوغ معاملته في التعبير بمعاملة المغاير . وهو وجه حسن لا يكاد يفهم من كلام الزجاج إلا بعد هذا البسط .
وفي تفسير ابن عباس رضي الله عنه ما يؤيده . انتهى .
وفي الآية تأويلات أخر :
منها : ما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه تعالى استثنى قوماً قد سبق علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبيّ صلى الله عليه وسلم . وهذا مبني على أن الاستثناء ليس من المحكيّ ، وأن ( ما ) بمعنى ( من ) .
ومنها : أنهم يفتح لهم أبواب الجنة ، ويخرجون من النار ، فإذا توجهوا للدخول أغلقت في وجوههم استهزاء بهم . وهو معنى قوله : { فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } [ المطففين : 34 ] . قال الشريف المرتضى في " الدرر " : فإن قيل : أي : فائدة في هذا الفعل ، وما وجه الحكمة فيه ؟ قلنا : وجه الحكمة فيه ظاهر ، لأن ذلك أغلظ على نفوسهم ، وأعظم في مكروههم ، وهو ضرب من العقاب الذي يستحقونه بأفعالهم القبيحة . لأن من طمع في النجاة والخلاص من المكروه ، واشتد حرصه على ذلك ، ثم حيل بينه وبين الفرج ، وردّ إلى المكروه ، يكون عذابه أصعب وأغلظ من عذاب من لا طريق للطمع عليه - كذا في " العناية " - .
ومنها : إن هذا الاستثناء إشارة إلى فناء النار . أي : إلا وقت مشيئته فناءَها ، وزوال عذابها .
قال السيوطي في " الدار المنثور " : أخرج ابن المنذر عن الحسن قال : قال عمر رضي الله عنه : لو لبث أهل النار في النار ، كقدر رمل عالج ، لكان لهم يوم على ذلك يخرجون فيه . وأخرجه عبد بن حميد عن الحسن أيضاً .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ونقل هذا عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم . انتهى . وقد انتصر لهذا القول جماعة . قالوا : وما ورد من الخلود فيها والتأبيد وعدم الخروج , وأن عذابها مقيم , كله حق مسلم لا نزاع فيه . وذلك يقتضي الخلود في دار العذاب ما دامت باقين , وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد , ففرق بين من يخرج من الحبس , وهو حبس على حاله , وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه . وقد بسط البحث في ذلك وجوده الإمام ابن القيم في كتابه " حادي الأرواح " , ومع كونه انتصر لهذا القول انتصاراً عظيماً , وذكر له خمسة وعشرين دليلاً , لم يصححه , حيث قال : أما أبدية الجنة , وأنها لا تفنى ولا تبيد , فمما يعلم بالاضطرار , ولم يقل بفنائها أحد . ومن قال به - كالجهمية -فهو ضال مبتدع منحرف عن الصواب وليس له في ذلك سلف . وأما أبدية النار ففيها قولان معروفان عن السلف والخلف , والأصح عدم فنائها أيضاً . انتهى .
وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط هذا المقام في آية هود .
وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال : لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه . لا ينزلهم جنة ولا ناراً .
{ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ } فلا يعذب إلا على ما تقتضيه الحكمة { عَلِيمٌ } أي : بمن يعذب بكفره ، فيدوم عذابه . أو بسيئات أعماله ، فيعذب على حسبها ، ثم ينجو منه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ 129 ]
{ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ } أي : من الإنس : { بَعْضاً } أي : نجعلهم بحيث يتولونهم بالإغواء والإضلال ، كما فعل الشياطين وغواة الإنس { بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : بسبب ما كانوا مستمرين على كسبه من الكفر والمعاصي .
قال الرازي :
لأن الجنسية علة الضم . فالأرواح الخبيثة تنضم إلى ما يشاكلها في الخبث . وكذا القول في الأرواح الطاهرة ، فكل أحد يهتم بشأن من يشاكله في النصرة والمعونة والتقوية .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : الآية معنى حديث < كما تكونون يولَّى عليكم > ، أخرجه بن قانع في معجم الصحابة من حديث أبي بكرة . انتهى .
وأسند في " الجامع الصغير " تخريجه إلى الديلميّ في " الفردوس ) " عن أبي بكرة وإلى البيهقيّ ، عن أبي إسحاق السبيعيّ مرسلاً -ورمز له بالضعف - .
وأسند في " الدر المنثور " عن منصور بن الأسود قال : سألت الأعمش عن قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً } ما سمعتَهم يقولون فيه ؟ قال : سمعتُهم يقولون : إذا فَسَدَ الناسُ أُمِّرَ عليهم شرارهم .
وأخرج نحوه عن مالك بن دينار وكعب والحسن .
قال أبو الليث السمرقندي في " تفسيره ) " : ويقال في معنى الآية : نسلط على بعض الظالمين بعضاً فيهلكه أو يذلّه . قال : وهذا كلام لتهديد الظالم ، لكي يمتنع عن ظلمه . ويدخل في الآية جميع من يظلم : من راع في رعيته ، وتاجر في تجارته ، وسارق ، وغيرهم .
قال الفضيل بن عياض : إذا رأيت ظالماً يَنتقم من ظالم ، فقف وانظر فيه متعجباً . انتهى .
وقال ابن كثير : معنى الآية الكريمة : كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التي أغوتهم من الجن ، كذلك نفعل بالظالمين ، نسلط بعضهم على بعض ، ونهلك بعضهم ببعض ، وننتقم من بعضهم ببعض ، جزاء على ظلمهم وبغيهم .
ثم بين تعالى ما سيكون من توبيخ الكفار من الفريقين يوم القيامة ، إثر بيان توبيخ الجن بإغواء الإنس وإضلالهم ، وأَعْلَمَ أنه لا يكون لهم إلى الجحود سبيل ، فيشهدون على أنفسهم بالكفر ، وأنهم لم يعذبوا إلا بالحجة ، فقال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } [ 130 ]
{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ } أي : في الدنيا : { رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } بالأمر والنهي : { وَيُنْذِرُونَكُمْ } يخوفونكم : { لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } وهو يوم الحشر الذي قد عاينوا فيه أفانين الأهوال { قَالُوا } يعني الجن والإنس { شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } أي : أقررنا بإتيان الرسل وإنذارهم ، وبتكذيب دعوتهم ، كما فصِّل في قوله تعالى : { قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ } [ الملك : 9 ] . : { وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } أي : ما فيها من الزهرة والنعيم ، وهو بيان لما أداهم في الدنيا إلى الكفر : { وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } أي : في الآخرة . قال المهايميّ : بعد شهادة جوارحهم : { أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ } أي : في الدنيا بما جاءتهم الرسل .
تنبيهات :
الأول - استدل بقوله تعالى : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ } من قال إن الله بعث إلى الجن رسلاً منهم . وحكاه ابن جرير عن الضحاك بن مُزَاحم ، والأكثرون على أنه لم يكن من الجن رسول ، وإنما كانت الرسل من الإنس فقط . نص على ذلك مجاهد وابن جريج وغير واحد من الأئمة ، من السلف والخلف .
قال ابن عباس : الرسل من بني آدم ، ومن الجن نُذُرٌ . وأجابوا عن ظاهر الآية بأن فيها مضافاً . أي : من أحدكم ، وهم الإنس . أو من إضافة ما للبعض للكل ، كقوله تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] ، وإنما يخرجان من أحدهما ، وهو الملح دون العذب . وإنما جاز ذلك لأن ذكرهما قد جمع في قوله : { مَرَجَ الْبَحْرَيْن } [ الرحمن : 19 ] ، وهو جائز في كل ما اتفق في أصله . فلذلك لما اتفق ذكر الجن مع الإنس جاز ، مخاطبتهما بما ينصرف إلى أحد الفريقين ، وهم الإنس . وهذا قول الفراء والزجاج .
وقال أبو السعود : المعنى : ألم يأتكم رسل من جملتكم ، لكن لا على أنهم من جنس الفريقين معاً ، بل من الإنس خاصة . وإنما جعلوا منهما ، إما لتأكيد وجوب اتباعهم ، والإيذان بتقاربهما ذاتاً ، واتحادهما تكليفاً وخطاباً ، كأنهما من جنس واحد . ولذلك تمكن أحدهما من إضلال الآخر . وإما لأن المراد بالرسل ما يعم رسل الرسل . وقد ثبت أن الجن استمعوا القرآن ، وأنذروا به قومهم ، حيث نطق به قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ } [ الأحقاف : 29 ] إلى قوله تعالى : { وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ } [ الأحقاف : 29 ] . انتهى .
وهكذا في عهد كل رسول لا يبعد أنه تعالى كان يلقي الداعية في قلوب من جنّ عصره فيسمعون كلامهم ، ويأتون قومهم من الجن ، ويخبرونهم بما سمعوه من الرسل ، وينذرونهم به . وقد سمى تعالى رسل عيسى رسل نفسه فقال : { إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْن } [ يس : 14 ] وتحقيق القول فيه : أنه تعالى إنما بكّت الكفار بهذه الآية ، لأنه تعالى أزال العذر ، وأزاح العلة ، بسبب أنه أرسل الرسل إلى الكل مبشرين ومنذرين . فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق ، فقد حصل ما هو المقصود من إزاحة العذر ، وإزالة العلة ، فكان المقصود حاصلاً -كذا قرره الرازيّ - .
قال الحافظ ابن كثير : والدليل على أن الرسل من الإنس قوله تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } [ النساء : 163 ] إلى قوله تعالى : { رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [ النساء : 165 ] . وقوله تعالى عن إبراهيم : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } [ العنكبوت : 27 ] فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته . ولم يقل أحد : إن النبوة كانت في الجن قبل إبراهيم ، ثم انقطعت عنهم ببعثته . وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاق } [ الفرقان : 20 ] . وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [ يوسف : 109 ] . ومعلوم أن الجن تتبع الإنس في هذا الباب . انتهى .
الثاني - إن قيل : ما السبب في أنهم أقروا في هذه الآية بالكفر ، وجحدوه في قوله : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ؟ قلنا : يوم القيامة يوم طويل ، والأحوال فيه مختلفة ، فتارة يقرّون ، وأخرى يجحدون . وذلك يدل على شدة خوفهم ، واضطراب أحوالهم ، فإن من عظم خوفه ، كثر اضطراب في كلامه - أفاده الرازيّ .
زاد الزمخشري : أو أريد شهادة أيديهم وأرجلهم وجلودهم حين يختم على أفواههم .
الثالث - إن قيل : لم كرر ذكر شهادتهم على أنفسهم ؟ أجيب : بأن الأولى حكاية لقولهم كيف يقولون ويعترفون ؛ والثانية ذم لهم ، وتخطئة لرأيهم ، ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم ، وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا ، واللذات الحاضرة ، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهم واستيجاب عذابه . وإنما قال ذلك تحذيراً للسامعين من مثل حالهم - كذا في " الكشاف " - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } [ 131 ]
وقوله تعالى : { ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } إعلام بأنه تعالى أعذر إلى الثقلين بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وتبيين الآيات ، وإلزام الحجة بالإنذار والتهديد . وأنه تعالى لا يؤاخذ القرى بظلم أهلها بالشرك ونحوه ، وهم لا
تبلغهم دعوة رسول ينهاهم عنه ، وينبههم على بطلانه ، لأنه ينافي الحكمة . وجوز في ذلك أن يكون خبراً لمحذوف . أي : الأمر ذلك . أو مبتدأ وخبره محذوف . أي : كما ذكر . أو خبره : { أَن لَّمْ يَكُن } . . . الخ . والمشار إليه إتيان الرسل ، أو ما قص من أمرهم ، أو السؤال المفهوم من قوله : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ } . واستظهر أبو السعود أن الإشارة إلى شهادتهم على أنفسهم بالكفر ، واستيجاب العذاب ، وأنه مبتدأ خبره ما بعده ، وأن ( أنْ ) مصدرية ، و ( اللام ) مقدرة قبلها . أو مخففة ، واسمها ضمير الشأن ، و : { بِظُلْمٍ } متعلق بـ : { مَهْلِكَ } . أي : بسبب ظلم ، أو بمحذوف حالاً من ( الْقُرَى ) ، أي : متلبسة بظلم . والمعنى : ذلك ثابت لانتفاء كون ربك ، أو لأن الشأن لم يكن ربك مهلك القرى بسبب ظلم فعلوه قبل أن ينبهوا على بطلانه برسول .
تنبيه :
في الآية دليل على أنه لا تكليف قبل البعثة ، ولا حكم للعقل . كقوله : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } [ 132 ]
{ وَلِكُلٍّ } أي : من المكلفين : { دَرَجَاتٌ } أي : مراتب : { مِمَّا عَمِلُوا } أي : من أعمالهم ، يبلغونها ويثابون بها ، إن خيراً فخير ، وإن شرّاً فشر . واستدل بها ، على هذا التأويل ، بأن الجن يدخلون الجنة ويثابون .
قال ابن كثير : ويحتمل أن يعود قوله : { وَلِكُلٍّ } لكافري الجن والإنس . أي : ولكلٍّ درجة في النار بحسبه ، كقوله : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ } [ النحل : 88 ] [ في المطبوع : الأنعام : 14 ] .
{ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } [ 133 ]
{ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ } عن جميع خلقه من جميع الوجوه ، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم : { ذُو الرَّحْمَةِ } أي : يترحم عليهم بالتكليف ، تكميلاً لهم ، ويمهلهم على المعاصي . وفيه تنبيه على أن ما سبق ذكره من الإرسال ليس لنفعه سبحانه ، بل لترحمه على العباد ، وتمهيد لقوله : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ } أي : من الخلق يعملون بطاعته : { كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } ذهب بهم ثم بذريتهم ، لكنه أبقاكم ترحماً عليكم . وهذا كقوله تعالى : { وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [ محمد : 38 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } [ 134 ]
{ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ } أي : من البعث وأحواله : { لَآتٍ } أي : لكائن لا محالة : { وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي : بفائتين يعجز عنكم . وهذا ردٌّ لقولهم : من مات فقد مات . أي : هو قادر على إعادتكم ، وإن صرتم رفاتاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [ 135 ]
{ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ } أي : على غاية تمكنكم واستطاعتكم . يقال : مكن مكانة ، إذا تمكن أبلغ التمكن . أو على جهتكم وحالتكم ، من قولهم : مكان ومكانة ، كمقام ومقامة . والمعنى : اثبتوا على كفركم { إِنِّي عَامِلٌ } أي : ما أمرت به من الثبات على الإسلام { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ } أي : التي بنيت لعبادته تعالى وحده ، دون غيرهم ، - هل تكون للعدل الذي يضع العبادة في موضعها ، أو للظالم بوضعها في غير موضعها . والراد بالدار ، الدنيا . وبالعاقبة ، العاقبة الحسنى . أي : عاقبة الخير ، لأنها الأصل ، فإنه تعالى جعل الدنيا مزرعة الآخرة ، وقنطرة المجاز إليها .
{ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } أي : الكافرون . ووضع الظلم موضع الكفر ، إيذاناً بأن امتناع الفلاح يترتب على أي : فرد كان من أفراد الظلم ، فما ظنك بالكفر الذي هو أعظم أفراده ؟
لطائف :
في إيراد التهديد بصيغة الأمر ، أعني : قوله : { اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ } مبالغة في الوعيد ، كأن المهدِّد يريد تعذيبه ، مجمعاً عليه ، فيحمله بالأمر على ما يؤدي إليه . وتسجيل بأن المهدَّد لا يتأتى منه إلا الشر ، كالمأمور به الذي لا يقدر أن يتقصّى عنه .
وفي قوله تعالى : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } مع الإنذار ، إنصاف في المقال ، وحسن الأدب ، حيث لم يقل ( العاقبة لنا ) وفوض الأمر إلى الله . وهذا من الكلام المنصف ، كقوله تعالى : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [ سبأ : 24 ] .
وفيه تنبيه على وثوق المنذر بأنه محق .
وفيه تبشير بأن العاقبة له .
قال ابن كثير : وقد أنجز الله موعوده لرسوله صلوات الله عليه ، فمكن له في البلاد ، وحكّمه في نواصي مخالفيه من العباد ، وفتح له مكة ، وأظهره على من كذبه من قومه وعاداه وناوأه ، واستقر أمره على سائر جزيرة العرب ، وكذلك اليمن والبحريْن ، وكل ذلك في حياته . ثم فتحت الأمصار والأقاليم والرساتيق بعد وفاته ، في أيام خلفائه رضي الله عنهم أجمعين . كما قال تعالى : { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] . وقال : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ غافر : 51 - 52 ] وقال تعالى : { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } [ إبراهيم : 13 - 14 ] ، وقال تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } [ النور : 55 ] . وقد فعل تعالى ذلك بهذه الأمة ، وله الحمد والمنة .
ثم بين تعالى نوعاً من جهالات مشركي مكة وضلالاتهم ، وهو ترجيحهم جانب الأصنام على جانبه سبحانه ، بعد تشريكهم إياه فيما اختص بخلقه ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } [ 136 ]
{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ } أي : خلق : { مِنَ الْحَرْثِ } أي : الزرع : { وَالْأَنْعَامِ نَصِيباْْْ } يصرفونه إلى الضيفان والمساكين . أي : ولأصنامهم يصيباً يصرفونه إلى التنسك والسدنة . وإنما لم يذكر اكتفاء بما بعده .
{ فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ } بالفتح والضم ( وقال الشهاب : الزعم مثلث كالودّ ) . أي : هذا مستقر له الآن , من غير استقرار له في المستقبل العارض { وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا } وهو مستقر لهم , بل يستقر لهم ما ليس لهم أيضاً ,فكانوا إذا سقط في نصيب الله شيء من نصيبها التقطوه , أو في نصيبها شيء من نصيبه تركوه كما قال تعالى : { فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ } أي : عند نمائه أو سقوطه فيما هو لله . أو هلاك ما هو لله لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان والتصدق على المساكين { وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ } أي : عند نماءه أو سقوطه فيما هو للأصنام , أو هلاك مالها , فينفقون عليها , بذبح نسائك عندها , والإجراء على سدنتها , ونحو ذلك . وعللوا ذلك بأن الله غني , وهي محتاجة : { سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي : ما يقسمون , لأنهم أولاً عملوا ما لم يشرع لهم , وضلوا في القسم . لأنه تعالى رب كل شيء ومليكه وخالقه , لا إله غيره ,ولا رب سواه . ثم لما قسموا فيما زعموا القسمة الفاسدة , لم يحفظوها , بل جاروا فيها , إذ رجحوا جانب الأصنام في الحفظ والرعاية سفهاً .
وقال المهايني : { سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي : من ترجيح جانب الأصنام على جانب الله , بعلة تقتضي ترجيح جانب الله لإلهيته , وعدم صلاحيتها للإلهية مع الحاجة .
وما ذكرناه في الآية هو الذي قاله أئمة التفسير .
فقد روى علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية : إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثاً, أو كانت لهم ثمرة , جعلوا لله منه جزءاً , وللوثن جزءاً, فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه . وإن سقط منه شيء فيما سمي للصمد , رَدّوه إلى ما جعلوه للوثن , وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن , فسقى شيئاً جعلوه لله , جعلوا ذلك للوثن . وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله , فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا : هذا فقير , ولم يردوه إلى ما جعلوه لله , فسقى ما سمِّي للوثن تركوه للوثن , وكانوا يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام . فيجعلونه للأوثان , ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله تعالى , فقال تعالى : { وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ } . . . الآية .
قال ابن كثير : وهكذا قال مجاهد وقتادة والسدّي وغير واحد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } [ 137 ]
{ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ } أي : مثل ذلك التزيين , وهو تزيين الشرك في القسمة المتقدمة , زين لهم أولياؤهم من الشياطين ما هو أشد منه قبحاً في باب القربان , وهو قتل أولادهم خشية الإملاق , ووأد البنات خشية العار, وإنما سميت الشياطين شركاء , لأنهم أطاعوهم فيما أمروهم به من قتل أولادهم , فأشركوهم مع الله في وجوب طاعتهم , : { لِيُرْدُوهُمْ } أي : يهلكوهم بالشرك وقتل الولد . من ( الإرداء . وهو, لغة , الإهلاك ) , : { وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ } أي : ليخلطوا عليهم ما هم عليه , بدين إبراهيم في ذبح إسماعيل عليهما السلام . أو ما وجب عليهم أن يتدينوا به ، لأنهم كانوا على دين إسماعيل . فهذا الذي أتاهم بهذه الأوضاع الفاسدة أراد أن يزيلهم عن ذلك الدين الحق { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ } أي : فلا تحزن على هلاكهم بما يفعلونه ، لأنه بمشيئة الله { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } أي : لأن له فيما شاءه حكماً بالغة : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } [ آل عِمْرَان 178 ] ، وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى .
تنبيه :
{ شُرَكَآؤُهُمْ } فاعل : { زَيَّنَ } أُخِّر عن الظرف والمفعول اعتناء بالمقدَّم ، واهتماماً به ، لأنه موضع التعجب ، لأنهم يقدمون الأهمَّ ، والذين هم بشأنه أَعْنَى . وقرأ ابن عامر وَحْدَهُ : { زُيِّن } على البناء للمفعول الذي هو القتل ، ونصب الأولاد ، وجر الشركاء بإضافة القتل إليه ، مفصولاً بينهما بمفعوله . وقد زيف الزمخشريّ ، عفا الله عنه ، هذه القراءة ، وعد ذلك من كبائر كشافه : حيث قال : وأما قراءة ابن عامر ، فشيء لو كان في مكان الضرورات ، وهو الشعر ، لكان سمجاً مردوداً ، كما سمج ورُدَّ :
~زَجَّ الْقَلُوصَ أبي مَزَادَهْ
فكيف به في الكلام المنثور ؟ فكيف به في القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته ؟ قال : والذي حمله على ذلك أنه رأى في بعض المصاحف : { شُرَكَآئِهِمْ } مكتوباً بالياء ، ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء -لأن الأولاد شركاؤهم في أموالهم - لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب . انتهى . قال الناصر في " الانتصاف " : لقد ركب الزمخشريّ متن عمياء ، وتاه في تيهاء ، وأنا أبرأ إلى الله ، وأبرئ حملة كتابه ، وحفظة كلامه ، مما رماهم به ، فإنه تخيل أن القراء أئمة الوجوه السبعة ، اختار كل منهم حرفاً قرأ به اجتهاداً ، لا نقلاً وسماعاً ، فلذلك غلط ابن عامر في قراءته هذه ، وأخذ يبين أن وجه غلطه رؤيته الياء ثابتة في ( شركائهم ) ، فاستدل بذلك على أنه مجرور ، وتعين عنده نصب ( أولادهم ) بالقياس ، إذ لا يضاف المصدر إلى أمرين معاً فقرأه منصوباً . قال : وكانت له مندوحة من نصبه إلى جره بالإضافة ، وإبدال الشركاء منه ، وكان ذلك أولى مما ارتكبه . فهذا كله كما ترى ظنٌّ من الزمخشري أن ابن عامر قرأ قراءته هذه رأياً منه ، وكان الصواب خلافه ، والفصيح سواه . ولم يعلم الزمخشريّ أن هذه القراءة بنصب الأولاد ، والفصل بين المضاف والمضاف إليه بها . يعلم ضرورة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأها على جبريل ، كما أنزلها عليه ، ثم تلاها النبيّ صلى الله عليه وسلم على عدد التواتر من الأئمة ، ولم يزل عدد التواتر يتناقلونها ، ويقرؤون بها ، خلفاً عن سلف ، إلى أن انتهت إلى ابن عامر ، فقرأها أيضاً كما سمعها . فهذا معتقد أهل الحق في جميع الوجوه السبعة أنها متواترة جملة وتفصيلاً عن أفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم . فإذا علمت العقيدة الصحيحة ، فلا مبالاة بعدها بقول الزمخشريّ ، ولا بقول أمثاله ممن لحَّن ابن عامر ، فإن المنكر عليه إنما أنكر ما ثبت أنه براء منه قطعاً وضرورة . ولولا عذر أن المنكر ليس من أهل الشأنين : أعنى علم القراءة وعلم الأصول ، ولا يعدّ من ذوي الفنين المذكورين ، لخيف عليه الخروج من ربقة الدين . وإنه على هذا العذر لفي عهدة خطرة ، وزلة منكرة ، تزيد على زلة من ظن أن تفاصيل الوجوه السبعة ، فيها ما ليس متواتراً ، فإن هذا القائل لم يثبتها بغير النقل . وغايته أنه ادعى أن نقلها لا يشترط فيه التواتر . وأما الزمخشري فظن أنها تثبت بالرأي ، غير موقوفة على النقل ، وهذا لم يقل به أحد من المسلمين . وما حمله على هذا الخيال إلا التغالي في اعتقاد اطراد الأقيسة النحوية ، فظنها قطعية ، حتى يردّ ما خالفها . ثم إذا تنزل معه اطراد القياس الذي ادعاه مطرداً ، فقراءة ابن عامر هذه لا تخالفه . وذلك أن الفصل بين المضاف إليه ، وإن كان عسراً ، إلا أن المصدر إذا أضيف إلى معموله ، فهو مقدر بالفعل ، وبهذا التقدير عمل . وهو وإن لم تكن إضافته غير محضة ، إلا أنه شبه بما إضافته غير محضة . حتى قال بعض النحاة : إن إضافته ليست محضة ، لذلك . فالحاصل أن اتصاله بالمضاف إليه ليس كاتصال غيره ، وقد جاء الفصل بين المضاف غير المصدر ، وبين المضاف إليه بالظرف ، فلا أقل من أن يتميز المصدر على غيره ، لما بيناه من انفكاكه في التقدير ، وعدم توغله في الاتصال ، بأن يفضل بينه وبين المضاف إليه , بما ليس أجنبياً عنه , وكأنه بالتقدير : فكّه بالفعل , ثم قدم المفعول على الفاعل , أضافه إلى الفاعل , وبقي المفعول مكانه حين الفك . ويسهل ذلك أيضاً تغاير حال المصدر , إذ تارة يضاف إلى الفاعل , وتارة يضاف إلى المفعول . وقد التزم بعضهم اختصاص الجواز بالفصل بالمفعول بينه وبين الفاعل , لوقوعه في غير مرتبته , إذ ينوي به التأخير , فكأنه لم يفصل . كما جاز تقدم المضمر على الظاهر إذا حلّ في غير رتبته , لأن النية به التأخير , وأنشد أبو عبيدة :
~فَدَاسَهُمْ دَوْسَ الحَصَادَ الدَّائِسِ
وأنشد أيضاً :
~يَفْرُكْنَ حَبَّ السُّنْبُلِ الكُنَافِجِ بِالْقَاعِ فَرْكَ الْقُطُنَ الْمَحَالِجِ
ففصل كما ترى بين المصدر وبين الفاعل بالمفعول . ومما يقويّ عدم توغله في الإضافة جواز العطف على موضع مخفوضه رفعاً ونصباً . فهذه كلها نكت مؤيدة بقواعد , منظرة بشواهد من أقيسة العربية , تجمع شمل القوانين النحوية , لهذه القراءة . وليس غرضنا تصحيح القراءة بقواعد العربية , بك تصحيح قواعد العربية بالقراءة . وهذا قدر كاف إن شاء الله في الجمع بينهما - والله الموفق - وما أجريناه في أدراج الكلام من تقريب إضافة المصدر من غير المحضة , إنما أردنا انضمامه إلى غيره من الوجوه التي يدل باجتماعها على أن الفصل غير منكر في إضافته , ولا مستبعد من القياس , ولم نفرده في الدلالة المذكورة . إذ المتفق على عدم تمحضها لا يسوغ فيها الفصل , فلا يمكن استقلال الوجه المذكور بالدلالة -الله الموفق -انتهى كلام الناصر رحمه الله تعالى .
ثم بيّن تعالى نوعاً آخر من مفترياتهم بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [ 138 ]
{ وَقَالُوا هَذِهِ } إشارة إلى ما جعلوه لآلهتهم , والتأنيث للخبر : { أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ } أي : حرام ( والجمهور على كسر الحاء وسكون الجيم ) فَعْل بمعنى مفعول , كالذِّبح والطّحن , يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع , لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات . أي : محرمة علينا , أو محجرة علينا في أموالنا للأوثان . ويقرأ بضم الحاء .
{ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ } قال في " المدارك " : كانوا إذا عينوا أشياء من حرثهم وأنعامهم لآتيناهم قالوا : لا يطعمها إلا من نشاء : يعنون : خدم الأوثان ، والرجال دون النساء { بِزَعْمِهِمْ } حال من فاعل ( قالوا ) أي : متلبسين بزعمهم الباطل من غير حجة .
قال ابن كثير : وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } [ يونس : 59 ] .
{ وَأَنْعَامٌ } أي : وقالوا مشيرين إلى طائفة أخرى من أنعامهم : هذه أنعام : { حُرِّمَتْ ظُهُورُها } يعنون بها البحائر والسوائب والحوامي : { وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا } أي : حالة الذبح ، وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام : { افْتِرَاءً عَلَيْهِ } أي : على الله وكذباً منهم في إسنادهم ذلك إلى دين الله وشرعه ، فإنه لم يأذن لهم في ذلك ، ولا رضيه منهم { سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي : عليه ، ويسندون إليه . وفيه وعيد وتهديد .
ثم بيّن تعالى فنّاً آخر من ضلالهم بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ } [ 139 ]
{ وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ } يعنون أجنة البحائر والسوائب : { خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا } يعنون أنه حلال للذكور دون الإناث ، إن ولد حيّاً لقوله سبحانه : { وَإِنْ يَكُنْ } أي : ما في بطونها : { مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ } فالذكور والإناث ، فيه سواء .
وفي رواية العوفيّ عن ابن عباس أن المعني بـ ( مَا في بُطُونِهَا ) هو اللبن . كانوا يحرمونه على إناثهم ، ويشبه ذكرانهم . وكانت الشاة إذا ولدت ذكراً ذبحوه . وكان للرجال دون النساء . وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح ، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء .
وقال الشعبيّ : البحيرة ، لا يأكل من لبنها إلا الرجال ، وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء . وكذا قال عِكْرِمَة وقتادة وابن أسلم .
{ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } أي : بالتحليل والتحريم على سبيل التحكم ونسبته إلى الله تعالى : { إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } أي : حكيم في أفعاله وأقواله وشرعه ، عليم بأعمال عباده من خير أو شر ، وسيجزيهم عليها .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : استدل مالك بقوله : { خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا } على أنه لا يجوز الوقف على أولاده الذكور دون البنات ، وأن ذلك الوقف يفسخ ، ولو بعد موت الواقف ، لأن ذلك من فعل الجاهلية . واستدل به بعض المالكية على مثل ذلك في الهبة . انتهى .
لطائف :
( التاء ) في : { خَالِصَةٌ } إما للنقل إلى الاسمية ، أو للمبالغة ، أو لأن ( الخالصة ) مصدر كالعافية ، وقع موقع ( الخالص ) مبالغة ، أو بحذف المضاف . أي : ذو خالصة ، أو للتأنيث بناء على أن ( ما ) عبارة عن الأجنة . والتذكير في ( محرم ) باعتبار اللفظ . وقرئ ( خَالِصَةً ) بالنصب على أنه مصدر مؤكد ، والخبر : { لِّذُكُورِنَا } . ووصفهم واقع موقع مصدر : { سَيَجْزِيهِمْ } بتقدير مضاف . أي : جزاء وصفهم بالكذب عليه تعالى في التحريم والتحليل من قوله تعالى : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ } [ النحل : 62 ] .
قال الشهاب : وهذا من بليغ الكلام وبديعه ، فإنهم يقولون : وصف كلامه الكذب ، إذا كذب ، وعينه تصف السحر ، أي : ساحرة ، وقد يصف الرشاقة ، بمعنى رشيق ، مبالغةً . حتى كأنَّ من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له . قال المعرّي :
~سَرَى برقُ المَعَرَّةِ بعد وَهْنٍ فَبَاتَ بِرَامَةٍ يَصِفُ الْكَلاَلاَ(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } [ 140 ]
{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ } يعني : وأد بناتهم خشية السبْي أو الفقر : { سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ } لخفة أحلامهم وجهلهم بأن الله هو رازق أولادهم ، لا هم : { وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ } من البحائر والسوائب ونحوهما : { افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا } عن الصراط المستقيم { وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } أي : إلى الحق والصواب .
قال الشهاب : وفي قوله : { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } بعد قوله : { قَدْ ضَلُّواْ } مبالغة في نفي الهداية عنهم ، لأن صيغة الفعل تقتضي حدوث الضلال ، بعد أن لم يكن . فلذا أردف بهذه الحال ، لبيان عراقتهم في الضلال ، وإنما ضلالهم الحادث ظلمات بعضها فوق بعض .
تنبيه :
حمل كثير من المفسرين ( الخسران ) على ما يشمل الدارين . أما الدنيا فخسروا منافع أولادهم ، وثمرة ما خلقوا له . وكذا منافع أنعامهم بما ضيقوا وحجروا فيها ابتداعاً . وأما الآخرة فيصيرون إلى أسوأ المنازل . وهذا التعميم ، وإن كان حقاً ، إلا أن الأظهر حمله على الآخرة ، توفيقاً بين النظائر ، كقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [ يونس : 69 - 70 ] .
روى الحافظ ابن مردويه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا سرّك أن تعلم جهل العرب ، فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة ، سورة الأنعام : { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ } الآية - وهكذا رواه البخاريّ في " مناقب قريش " من " صحيحه " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } [ 141 ]
وقوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } تمهيد لما سيأتي من تفصيل أحوال الأنعام . أي : هو الذي أنعم عليكم بأنواع النعم ، لتعبدوه وحده ، فخلق لكم بساتين من الكروم وغيرها معروشات ، أي : مسموكات بما عملتم لها من الأعمدة . يقال : عرشت الكرم إذا جعلت له دعائم وسمكاً تعطف عليه القضبان { وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } متروكات على وجه الأرض لم تعرش { وَ } أنشأ : { النَّخْلَ } المثمر لما هو فاكهة وقوت { وَالزَّرْعَ } المحصل لأنواع القوت : { مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ } أي : ثمره وحَبّه في اللون والطعم والحجم والرائحة { وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً } في اللون والشكل ، ورقهما : { وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } في الطعم : { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ } أي : كلوا من ثمر كل واحد مما ذكر ، إذا أدرك .
قال الرازي : لما ذكر تعالى كيفية خلقه لهذه الأشياء ، ذكر ما هو المقصود الأصليّ من خلقها ، وهو انتفاع المكلفين بها ، فقال : { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ } واختلفوا ما الفائدة منه ؟ فقال بعضهم : الإباحة . وقال آخرون : بل المقصود منه إباحة الأكل قبل إخراج الحق ، لأنه تعالى لما أوجب الحق فيه كان يجوز أن يحرم على المالك تناوله ، لمكان شركة المساكين فيه ، بل هذا هو الظاهر . فأباح تعالى هذا الأكل ، وأخرج وجوب الحق فيه من أن يكون مانعاً من هذا التصرف . وقال بعضهم : بل أباح تعالى ذلك ليبين أن المقصد بخلق هذه النعم إما الأكل ، وإما التصدق ، وإنما قدم ذكر الأكل على التصدق ، لأن رعاية النفس مقدمة على رعاية الغير . قال تعالى : { وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ } [ القصص : 77 ] انتهى .
{ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } قُرئ بفتح الحاء وكسرها . وهذا أمر بإيتاء من حضر يومئذ ما تيسر ، وليس بالزكاة المفروضة - وهكذا قال عطاء - أي : لأن السورة مكية ، والزكاة إنما فرضت بالمدينة . وكذا قال مجاهد : إذا حضرك المساكين طرحت لهم منه . وفي رواية عنه : عند الحصاد يعطي القبضة ، وعند الصرام يعطي القبضة ويتركهم يتبعون آثار الصرام . وهكذا روي عن نافع وإبراهيم النَّخَعِي وغيرهم . وعند هؤلاء أن هذا الحق . باق لم ينسخ بالزكاة ، فيوجبون إطعام من يحضر الحصاد لهذه الآية . ومما يؤيده أنه تعالى ذم الذي يصرمون ولا يتصدقون ، حيث قص علينا سوء فعلهم وانتقامه منهم . قال تعالى في سورة ( ن ) : { إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ } [ القلم : 17 - 20 ] ، أي : كالليل المدلَهمّ ، سوداء محترقة { فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ } [ القلم : 21 - 24 ] الآيات .
وذهب بعضهم إلى أن هذا الحق نسخ بآية الزكاة ، حكاه ابن جرير عن ابن عباس وثلة من التابعين . قال ابن كثير : في تسمية هذا نسخاً نظر ، لأنه قد كان شيئاً واجباً . ثم إنه فسر بيانه وبين مقدار المخرج وكميته . انتهى .
ولا نَظَرَ ، لما عرفت في المقدمة من تسمية مثل ذلك نسخاً عند السلف ، ومرَّ قريباً أيضاً ، فتذكر !
وذهب بعضهم إلى أن الآية مدنية ، ضمت إلى هذه السورة في نظائر لها ، بيّناها أول السورة ، وأن الحق هو الزكاة المفروضة . روي عن أنس وابن عباس وابن المسيّب .
والأمر بإيتائها يوم الحصاد ، للمبالغة في العزم على المبادرة إليه . والمعنى : اعزموا على إيتاء الحق واقصدوه ، واهتموا به يوم الحصاد ، حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء . قال الحاكم : وقيل : إنما ذكر وقت الحصاد تخفيفاً على الأرباب ، فلا يحسب عليهم ما أكل قبله .
وقد روى العوفيّ عن ابن عباس قال : كان الرجل إذا زرع فكان يوم حصاده ، لم يُخرج مما حصد شيئاً ، فقال تعالى : { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } وذلك أن يعلم ما كيله وحقه من كل عشرة واحد ، وما يلقط الناس من سنبله .
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن جابر بن عبد الله قال : < أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل جادّ عشرة أوسق من التمر ، بقنوٍ يعلق في المسجد للمساكين > .
قال ابن كثير : إسناده جيد قوي .
تنبيه :
قال في " الإكليل " : استدل بالآية من أوجب الزكاة في كل زرع وثمر ، خصوصاً الزيتون والرمان المنصوص عليهما . ومن خصها بالحبوب ، قال : إن الحصاد لا يطلق حقيقة إلا عليهما . وفيها دليل على أن الزكاة لا يجب أداؤها قبل الحصاد . واستدل بها أيضاً على أن الاقتران لا يفيد التسوية في الأحكام ، لأنه تعالى قرن الأكل ، وهو ليس بواجب اتفاقاً ، بالإيتاء ، وهو واجب اتفاقاً . انتهى .
وقوله تعالى : { وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } النهي عن الإسراف ، إما في التصدق ، أي : لا تعطوا فوق المعروف . قال أبو العالية : كانوا يعطون يوم الحصاد شيئاً ثم تبادروا فيه وأسرفوا ، فنزلت : { وَلاَ تُسْرِفُواْ } . وقال ابن جريج : نزلت في ثابت ابن قيس بن شماس . جدَّ نخلاً له فقال : لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته ، فأطعم حتى أمسى وليس له ثمرة ، فنزلت . ولذا قال السدي : أي : لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء . وإما في الأكل قبل الحصاد , وهذا عن أبي مسلم قال : ولا تسرفوا في الأكل قبل الحصاد كيلا يؤدي إلى بخس حق الفقراء . وإما في كل شيء , قال عطاء : نهوا عن السرف في كل شيء . وقال إياس بن معاوية : ما جاوزْتَ به أمر الله , فهو سرف . اختار ابن جرير قول عطاء . قال ابن كثير : ولا شك أنه صحيح , لكن الظاهر - والله أعلم - من سياق الآية , حيث قال تعالى : { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ } أن يكون عائداً على الأكل . أي : لا تسرفوا في الأكل ، لما فيه من مضرة العقل والبدن ، كقوله تعالى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا } [ الأعراف 31 ] الآية .
وفي صحيح البخاري تعليقاً : كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير إسراف ولا مخيلة . وهذا من هذا - والله أعلم -انتهى .
وقد جنح إلى هذا المهايمي في تفسيره حيث قال : ولا تسرفوا في أكلها لئلا يبطل ، باستيفاء الشهوات ، معنى المزرعة .
ثم بين تعالى حال الأنعام ، وأبطل ما تقوّلوا عليه في شأنها بالتحريم والتحليل ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ 142 ]
{ وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً } أي : وأنشأ لكم من الأنعام ما يحمل الأثقال ، وما يفرش للذبح ( أي : يضجع ) أو ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش .
وعن ابن عباس : الحمولة الكبار التي تصلح للحمل ، والفرش الصغير كالفصلان والعجاجيل والغنم ؛ لأنها دانية من الأرض ، للطافة أجرامها ، مثل الفرش المفروش عليها . فعلى الوجهين الأولين : الفرش بمعنى المفروش ، وعلى الثالث : الكلام على التشبيه .
{ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } أي : من الثمار والزروع والأنعام ، لحفظ الروح ، واستزادة القوة .
{ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي : أوامره في التحليل والتحريم ، كما اتبعها أهل الجاهلية ، فحرموا ما رزقهم الله افتراء عليه - كما مرّ - .
{ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } أي : ظاهر العداوة ، يمنعكم مما يحفظ روحكم ، ويزيد قوتكم ، ويدعوكم إلى الافتراء على الله إن نسبتموه إلى أمره ، أو إلى دعوى الإلهية لكم إن استقللتم به .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 143 ]
وقوله تعالى : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } بدل : { حَمُولَةً وَفَرْشاً } أو مفعول ( كُلُوا ) . ( وَلاَ تَتَّبِعُوا ) معترض بينهما ، أو فعل دل عليه ، أو حال من ( ما ) بمعنى مختلفة أو متعددة . والزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه . قال تعالى : { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى } [ النجم : 45 ] ، وقد يقال لمجموعهما ، والمراد الأول .
{ مِنَ الضَّأْنِ } زوجين : { اثْنَيْنِ } الكبش والنعجة : { وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ } التيس والعنز { قُلْ } أي : تبكيتاً لهم ، وإظهار لانقطاعهم عن الجواب : { آلذَّكَرَيْنِ } من الضأن والمعز : { حَرَّمَ } الله عليكم أيها المشركون : { أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ } منهما : { أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ } أي : أم ما حملت إناث الجنسين ذكراً كان أو أنثى ، كما قالوا : { مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَة } [ الأنعام 139 ] الآية .
{ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ } أي : بدليل نقلي من كتب أوائل الرسل ، أو عقلي في الفرق بين هذين النوعين ، و النوعين الآتيين -قاله المهايمي - .
{ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : في دعوى التحريم .
وفي قوله تعالى : { نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ } تكرير للإلزام وتثنية للتبكيت والإفحام .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ 144 ]
{ وَمِنَ الْأِبِلِ اثْنَيْنِ } عطف على قوله تعالى : { مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ } أي : وأنشأ من الإبل اثنين هما الجمل والناقة { وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ } ذكراً وأنثى { قُلْ } أي : إفحاماً لهم أيضاً في هذين النوعين : { آلذَّكَرَيْنِ } منهما : { حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ } أي : من ذينك النوعين . والمعنى إنكار أن الله سبحانه وتعالى حرم عليهم شيئاً من الأنواع الأربعة ، وإظهار كذبهم في ذلك . وتفصيل ما ذكر من الذكور والإناث وما في بطونها - للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكار على كل ممادة من مواد افترائهم . فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وإناثها تارة وأولادها كيفما كانت تارة أخرى . مسندين ذلك كله إلى الله سبحانه . وإنما عقب تفصيل كل واحد من نوعي الصغار ونوعي الكبار بما ذكر من الأمر بالاستفهام والإنكار مع حصول التبكيت بإيراد الأمر عقيب تفصيل الأنواع الأربعة بأن يقال : قل آلذكور حرم أم الإناث أم ما اشتملت عليه أرحام الإناث - لما في التثنية والتكرير من المبالغة في التبكيت والإلزام . أفاده أبو السعود .
ثم كرر الإفحام بقوله تعالى : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ } حاضرين : { إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا } أي : حين وصاكم بتحريم بعضٍ وتحليله . وهذا من باب التهكم : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } أي : فنسب إليه تحريم ما لم يحرم : { لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي : دليل : { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } قال ابن كثير : أول من دخل في هذه الآية عَمْرو بن لُحيّ بن قمعة . لأنه أول من غير دين الأنبياء وأول من سيب السوائب ووصل الوصيلة وحمى الحامي . كما ثبت ذلك في الصحيح .
وقال أبو السعود : المراد كبراؤهم المقرّون لذلك . أو عَمْرو بن لُحيّ وهو المؤسس لهذا الشر . أو الكل لاشتراكهم في الافتراء عليه ، سبحانه وتعالى .
لطيفة :
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف فصل بين بعض المعدود وبعضه ولم يوال بينه ؟ قلت : قد وقع الفاصل بينهما اعتراضاً غير أجنبي من المعدود . وذلك أن الله عز وجل منّ على عباده بإنشاء الأنعام لمنافعهم وبإباحتها لهم . فاعترض بالاحتجاج على من حرمها . والاحتجاجُ على من حرمها تأكيد وتسديد للتحليل . والاعتراضات في الكلام لا تساق إلا للتوكيد . انتهى .
تنبيه :
دلت الآية على إباحة لحوم أكل الأنعام . وذلك معلوم من الدين ضرورة . وكذلك الانتفاع بالركوب فيما يركب , والافتراش للأصواف والأوبار والجلود . وعلى ردّ ما كانت الجاهلية تحرّمه بغير علم .
قال المؤيد بالله : ويدخل الإنسيّ والوحشيّ في قوله : { مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ } . وردّ بأن قوله تعالى : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } بيان للأنعام . والأنعام لا تطلق على الوحشي . أفاده بعض مفسري الزيدية .
ثم أمر تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعد إلزام المشركين وتبكيتهم وبيان أن ما يتقوّلونه في أمر التحريم افتراء بحت - بأن يبين لهم ما حرمه عليهم , فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [ 145 ]
{ قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً } أي : طعاماً محرماً من المطاعم : { عَلَى طَاعِمٍ } أي : أي : طاعم كان من ذكر أو أنثى . رداً على قولهم : { مُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا } وقوله : { يَطْعَمُهُ } لزيادة التقرير : { إِلَّا أَنْ يَكُونَ } أي : ذلك الطعام : { مَيْتَةً } . قال المهايمي : والموت سبب الفساد . فهو منجس ، إلا أن يمنع من تأثيره مانع من ذكر اسم الله ، أو كونه من الماء ، أو غيرهما : { أَوْ دَماً مَسْفُوحاً } أي : سائلاً لا كبداً أو طحالاً : { أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } لتعوده أكل النجاسات : { أَوْ فِسْقاً } أي : خروجاً عن الدين الذي هو كالحياة المطهّرة : { أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } أي : ذبح على اسم الأصنام ورفع الصوت على ذبحه باسم غير الله . وإنما سمي ( مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ ) فسقاً ، لتوغله في باب الفسق ومنه قوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } { فَمَنِ اضْطُرَّ } أي : أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء مما ذكر : { غَيْرَ بَاغٍ } أي : على مضطر مثله ، تارك لمواساته : { وَلا عَادٍ } متجاوز قدر حاجته من تناوله : { فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيم } لا يؤاخذه . وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة والمائدة بما فيه كفاية .
تنبيهات :
الأول -قال ابن كثير : الغرض من سياق هذه الآية الكريمة الردّ على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوا من تحريم البَحِيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك . فأمر تعالى رسوله أن يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه إليه أن ذلك محرم . وأن الذي حرمه هو الميتة وما ذكر معها . وما عدا ذلك فلم يحرم . وإنما هو عفو مسكوت عنه . فكيف تزعمون أنه حرام ؟ ومن أين حرمتموه ولم يحرمه تعالى ؟ وعلى هذا ، فلا ينفي تحريم أشياء أُخَر فيما بعد هذا . كما جاء النهي عن لحوم الحمر الأهلية ولحوم السباع وكل ذي مخلب من الطير - انتهى - وبالجملة فالآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يجد فيما أوحي إليه إلى تلك الغاية غيره . ولا ينافيه ورود التحريم بعد ذلك في شيء آخر ، كالموقوذة والمنخنقة والمتردية والنطيحة وغيرها . وذلك لأن هذه السورة مكية . فما عدا ما ذكر تحريمه فيها مما حرم أيضاً ، طارئ . قيل : إذا حرم غير ما ذكر كان نسخاً لما اقتضته هذه الآية من تحليله . وجوابه أن ذلك زيادة تحريم وليس بنسخ لما في الآية . فصحّ تحريم كل ذي ناب من السبع ومخلب من الطير . ومن الناس من يسمي هذا نسخاً بالمعنى السلفيّ . وقد بيّناه مراراً .
قال بعض الزيدية : وقد تعلق ابن عباس بالآية في تحليل لحم الحمر الأهلية . وعائشة في لحوم السباع . وعكرمة في إباحة كل شيء سوى ما في الآية . وعن الشعبي ؛ أنه كان يبيح لحم الفيل ويتلو هذه الآية .
ولا تعلق لجميعهم بالآية . لأنه تعالى بين ما يحرم في تلك الأحوال . انتهى .
وقال السيوطي في " الإكليل " : أحتج بها كثير من السلف في إباحة ما عدا المذكور فيها . فمن ذلك الحمر الأهلية ، أخرجه البخاري عن عَمْرو بن دينار قال : قلت لجابر بن يزيد : يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن حُمرُ الأهلية . فقال : قد كان يقول ذلك الحكم بن عَمْرو الغفاريّ عندنا بالبصرة . ولكن أبى ذلك البحرُ ( ابن عباس ) وقرأ : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ } الآية . وأخرج أبو داود عن ابن عمر أنه سئل عن أكل القنفذ ؟ فقرأ : { قُل لاَّ أَجِدُ } الآية . وأخرج ابن أبي حاتم وغيره . بسند صحيح عن عائشة أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير ؟ تَلَتْ : { قُل لاَّ أَجِدُ } الآية . وأخرج عن ابن عباس أنه قال : ليس من الدواب شيء حرام إلا ما حرم الله في كتابه { قُل لاَّ أَجِدُ } الآية . انتهى .
وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذراً . فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه . فما أحل فهو حلال وما حرّم فهو حرام . وما سكت عنه فهو معفوّ . وتلا : { قُل لاَّ أَجِدُ } الآية .
وذكرنا ضعف التعلق بهذه الآية على ما ذهبوا إليه .
قال في " فتح البيان " : معنى الآية أنه تعالى أمره صلى الله عليه وسلم بأن يخبرهم أنه لا يجد في شيء مما أوحي إليه محرّماً غير هذه المذكورات . فدل على انحصار المحرمات فيها ، لولا أنها مكية . وقد نزل بعدها بالمدينة سورة المائدة وزيد فيها على هذه المحرمات : المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة . وصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وتحريم الحمر الأهلية والكلاب ، ونحو ذلك .
بالجملة ، فهذا العموم إن كان بالنسبة إلى ما يؤكل من الحيوانات ، كما يدل عليه السياق ويفيده الاستثناء ، فيضم إليه كل ما ورد بعده في الكتاب أو السنة مما يدل على تحريم شيء من الحيوانات . وإن كان هذا العموم هو بالنسبة إلى كل شيء حرمه الله من حيوان وغيره ، فإنه يضم إليه كل ما ورد بعده مما فيه تحريم شيء من الأشياء . وقد روي عن ابن عباس وابن عمر وعائشة ؛ أنه لا حرام إلا ما ذكره الله في هذه الآية وروي ذلك عن مالك . وهو قول ساقط ومذهب في غاية الضعف لاستلزامه لإهمال غيرها , مما نزل بعدها من القرآن , وإهمال ما صح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال بعد نزول هذه الآية . بلا سبب يقتضي ذلك ولا موجب يوجبه . وقول جابر ( لكن أبى ذلك البحر ابن عباس ) في رواية البخاريّ المتقدمة , أقول : وإن أبى ذلك البحر , فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والتمسك بقول صحابيٍّ في مقابلة قول النبيّ صلى الله عليه وسلم من سوء الاختيار وعدم الإنصاف . انتهى كلام الفتح .
وفي " نيل الأوطار " : الاستدلال بهذه الآية إنما يتمّ في الأشياء التي لم يرد النصّ بتحريمها . وأمّا الحمر الإنسية فقد تواترت النصوص على ذلك . والتنصيص على التحريم مقدم على عموم التحليل , وعلى القياس . وأيضاً الآية مكية . انتهى .
وقد ثبت عن ابن عمر رجوعه عن التعلق بعمومها .
روى سيعد بن منصور والإمام أحمد وأبو داود عن نميلة الفزازي قال : كنت عند ابن عمر , وإنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ عليه : { قُل لاَّ أَجِدُ } . . الآية . فقال شيخ عنده : سمعت أبا هريرة يقول : ذُكِرَ عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : خبيث من الخبائث . فقال ابن عمر : إن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قاله فهو كما قال .
أي والخبائث محرّمة بنص القرآن , فهو مخصص لعموم هذه الآية .
وعن المقدام بن معدي كرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله . فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه . وما وجدنا فيه حراما حرمناه . وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله تعالى . أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن غريب .
ولأبي داود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه . لا يوشك رجل شبعانُ على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن , فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه . وما وجدتم فيه حرام فحرموه . ألا لا يحل لكم ( لحم ) الحمار الأهليّ ولا كل ذي ناب من السبع ولا لُقَطَةُ معاهد ألا أن يستغني عنها صاحبها . ومن بزل بقوم فعليهم أن يَقْرُوه . فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه . ( أي : يأخذ منهم عوضاً عما حَرَموه من القرى ) .
هذا والزمخشري فسر محرماً بـ ( طعاماً محرماً من المطاعم التي حرمتموها ) وجعل الاستثناء منطقاً . أي : لا أجد ما حرمتوه لكم أجد الأربعة محرّمة . وهذا لا دلالة فيه على الحصر حتى ترد المحرمات الأخر . إذ الاستثناء المنقطع ليس كالمتصل في الحصر . وغير الزمخشري لم يقّيده بما ذكر . لأن الأصل الاتصال وعدم التقييد وأوّلوها بما قدمنا قبل . وحينئذ يكون الاستثناء من أعم الأوقات أو أعم الأحوال مفرغاً . بمعنى : لا أجد شيئاً من المطاعم المحرمات في وقت من الأوقات ، أو حال من الأحوال , إلا في وقت أو حال كون الطعام أحد الطعام أحد الأربعة . فإني أجد حينئذ محرماً . فالمصدر للزمان أو الهيئة . وفيه أن المصدر المؤول من ( أن والفعل ) لا ينصب على الظرفية . ولا يقع حالاً , لأنه معرفة . والله أعلم .
الثاني -في قوله تعالى : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً } إيذان التحريم إنما بالوحي لا بالهوى . قال الشهاب : كني بعدم الوجدان عن عدم الوجود . ومبنى هذه الكناية على أن طريق التحريم التنصيص منه تعالى . وتفسيره بمطلق الوحي استظهروه . ولذا قال : أوحي ولم يقل : أنزل .
الثالث -قال السيوطي في " الإكليل " : استدل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : { عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } على أنه إنما حرم من الميتة أكلها . وأن جلدها يطهر بالدبغ . فأخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال : ماتت شاة لسودة بنتَ زَمْعَة فقالت : يا رسول الله ! ماتت فلانة ( يعني الشاة ) فقال : فلولا أخذتم مَسْكها ؟ فقالت : نأخذ مسك شاة قد ماتت ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما قال الله عز وجل : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ } . فإنكم لا تطعمونه . إن تدبغوه تنتفعوا به . فأرسلت إليها فسلختْ مسكها فدبغته , فاتخذت منه قربة , حتى تخرَّقت عندها .
الرابع - استدل بقوله تعالى : { مَّسْفُوحاً } على إباحة غيره . وذلك لأن الدم المسفوح هو ما سال من الحيوان في حال الحياة , أو عند الذبح -لا كالكبد والطحال -وكذا ما اختلط باللحم من الدم لأنه غير سائل . قال عِمْرَان بن جدير : سألت أبا مجلز عما يختلط باللحم من الدم , وعن القدر يرى فيها حمرة الدم فقال : لا بأس بذلك ! إنما نهى عن الدم المسفوح .
وقال إبراهيم النَّخَعِي : لا بأس بالدم في عِرقٍ أو مخّ , إلاّ المسفوح .
وقال عِكْرِمَة : لولا هذه الآية لتتبع المسلمون الدم من العروق ما تتبع اليهود .
ثم بيّن تعالى أنه حرم على اليهود أشياء أخرى غير هذه الأربعة , تحقيقاً لافتراء المشركين فيما حرّموه , إذْ لم يوافق شيئاً مما أنزله تعالى ,فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ } [ 146 ]
{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا } أي : اليهود خاصة : { حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } قال سعيد بن جبير : هو الذي ليس منفرج الأصابع - كالجمل والوَبْر والأرنب - فإنها من ذوات الأظفار الغير المشقوقة - أي : المنفرجة - وأما ذو الظفر المشقوق وهو يجترّ من البهائم , فلم يحرم عليهم .
{ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا } لا لحومهما : { إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } يعنى : ما علق بالظهر من الشحوم : { أَوِ الْحَوَايَا } أي : الأمعاء والمصارين - أي : ما حملته من الشحوم - : { أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ } كالمخ والعصعص : { ذَلِكَ } أي : تحريم تلك الأطايب عليهم : { جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ } بسبب ظلمهم , وهو قتلهم الأنبياء بغير حقٍ , وأكلهم الربا - وقد نهوا عنه - وأكلهم أموال الناس بالباطل كقوله تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً } [ النساء : 160 ] .
قال المهايميّ : أي : ولم يكن لغيرهم ذلك البغي , فلا وجه لتحريمها عليهم مع كونها أطايب في أنفسها .
{ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } أي : في جميع أخبارنا التي من جملتها هذا الخبر ؛ وهو تخصيص التحريم بهم , لبغيهم . قال ابن جرير : لا كما زعموا من أن إسرائيل هو الذي حرّمه على نفسه .
قال أبو السعود : ولقد ألقمهم الحجر قوله تعالى : { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ آل عِمْرَان : 93 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [ 147 ]
{ فَإِنْ كَذَّبُوكَ } الضمير إمَّا لليهود لأنهم ذكراً , ولذكْرِ المشركين بعد ذلك بعنوان الإشراك ؛ وإما للمشركين , وإما للفريقين . أي : فإن كذبتك اليهود في التخصيص وزعموا أن تحريم الله لا ينسخ , وأصرّوا على ادعاء قدم التحريم ؛ في أو المشركون فيما فصل من أحكام التحليل والتحريم ,أو هما فيما أدّعيا : { فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ } يمهلكم على التكذيب فلا تغتروا بإمهاله فإنه لا يهمل : { وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } أي : ومع رحمته فهو ذو بأس شديد . وفيه ترغيبٌ لهم في ابتغاء رحمة الله الواسعة , وذلك في اتباع رضوانه , وترهيبٌ من المخالفة .
وليعلم أن المشركين لما لزمتهم الحجة - ببطلان ما كانوا عليه من الشرك بالله وتحريم ما لم يحرمه الله - أخبر تعالى عنهم بما سيقولونه من شبهة يتشبثون بها لشركهم وتحريم ما حرّموا . وفائدة الإخبار بما سوف يقولونه , توطين النفس على الجواب , ومكافحتهم بالردّ , وإعداد الحجة قبل أوانها , فقال تعالى :(/)
القول في قوله تعالى :
{ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ } [ 148 ]
{ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا } يعني مشركي قريش والعرب : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } يعني ما حرموه من البحائر والسوائب وغيرهما : { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا } أي : حتى أنزلنا عليهم العذاب : { قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } أي : أمر معلوم يصحّ الاحتجاج به فيما قلتم فتظهروه لنا : { إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ } أي : أنتم عليه من الشرك وتحريم ما حرّمتم : { وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ } تكذبون .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [ 149 ]
{ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ } البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات . ومنه : ( أيمان بالغة ) أي : مؤكدة . أو ( البالغة ) التي بلغ بها صاحبها صحة دعواه فهي ( كعيشة راضية ) { فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } أي : ولكنه لم يشأ ذلك . بل شاء هداية بعضٍ صرفوا اختيارهم إلى سلوك طريق الحقّ . وضلالَ آخرين صرفوا كسبهم إلى خلاف ذلك , من غير صارفٍ يلويهم ولا عاطف يثنيهم , فوقع ذلك على الوجه الذي شاءه .
قال الإمام أبو منصور الماتريدي في " تأويلاته " : قيل : الآية في مشركي العرب . قالوا ذل حين لزمتهم المناقضة وانقطع حجاجهم في تحريم ما حرّموا من الأشياء . وأضافوا ذلك إلى الله , وهو صلة قوله : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } -إلى قوله - : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا } [ الأنعام : 143 - 144 ] . فلما لزمتهم المناقضة وانقطع حجاجهم فزعوا إلى هذا القول : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا } [ الأنعام 148 ] . انتهى .
والقصد : الاعتذار عن كل ما يقدمون عليه من الإشراك وتحريم الحلال . أي : ولكنه لم يشأ الترك وشاء الفعل , ففعلنا طوع مشيئته , وهو لا يشاء إلا الحق , لأنه قادر . فلو لم يكن حقّاً يرضاه لمنعنا منه . وهو لم يمنعنا منه فهو حقّ . وفي حكاية هذه المناظرة والمجادلة بيانٌ لنوع من كفرهم شنيع جداً . . !
تنبيه :
هذه الآية تكرر نظيرها في التنزيل الكريم في عدة سور , وهي من الآيات الجديرة بالتدبر لتمحيص الحق في المراد منها .
فقد زعم المعتزلة أن فيها دلالة واضحة لمذهبهم من أن الله لا يشاء المعاصي والكفر , كما تبجّح بذلك منهم الطبرسي الشيعي في " تفسيره " وقال : إن فيها تكذيباً ظاهراً لمن أضاف مشيئة ذلك إلى الله سبحانه ؛ وكذا الزمخشري في " تفسيره " .
ومعلومٌ أنّ عقيدة الفرقة الناجية , الإيمانُ بأن : ما شاء الله كان , وما لم يشأ لم يكن , وأنه ما في السماوات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه , لا يكون في ملكه إلاّ ما يريد , وهو خالقٌ لأفعال العباد . !
وقد خالف في ذلك عامة القدرية - الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة - فقالوا : لا إرادة إلا بمعنى المشيئة , وهو لم يرد إلا ما أمر به , ولم يخلق شيئاً من أفعال العباد . فعندهم أكثر ما يقع من أفعال العباد على خلاف أرادته تعالى . ولما كان قولهم هذا في غاية الشناعة . تبرأ منهم الصحابة . وأصل بدعتهم - كما قال ابن تيمية - كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر الله والإيمان بأمره ونهيه . وسنبيّن تحقيق ذلك بعد أن نورد شبهتهم في هذه الآية وندمغها -بعونه تعالى -بعدة وجوه فنقول :
قالوا : إن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم قالوا : أشركنا بإرادة الله تعالى . ولو أراد عدم إشراكنا لما أشركنا ، ولَمَا صدر عنا تحريم المحللات فقد أسندوا كفرهم وعصيانهم إلى إرادته تعالى كما تزعمون أنتم . ثم إنه تعالى ردّ عليهم مقالتهم وبيّن بطلانها وذمّهم عليها وأوعدهم عليها وعيداً شديداً . فلو كان يجوز إضافة المشيئة إلى الله تعالى في ذلك ، على ما تضيفون أنتم ، لم يكن يرد ذلك عليهم ويتوعّدهم ؟
قلنا : إن المشيئة في الآية تتخرّج على وجوه :
أحدهما : ما قال الحسن والأصمّ -إن المشيئة ههنا الرضا -فمرادهم : أنّ الله رضي بفعلنا وصنيعنا - حيث فعل آباؤنا ما فعلنا - فلم يَحُل الله بينهم وبين ذلك ، ولا أخذ على أيديهم ، ولا منعهم عن ذلك ؛ فلو لم يرض بذلك عنهم لكان يمنعهم عنه !
قال أبو منصور : وإنما استدلوا بالرضا من الله والإذن فيما كانوا فيه ، أنهم كانوا يخوفون بالهلاك والعذاب على صنيعهم ، ثم رأوا آباءهم ماتوا على ذلك ولم يأتهم العذاب ، فاستدلوا بتأخير نزول العذاب عليهم على أنّ الله رضي بذلك .
وبالجملة ، أرادوا بقولهم ذلك . أنهم على الحق المشروع المرضي عند الله . ولما كانت حجتهم داحضة باطلة -لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه ودمّر عليهم وأدال عليهم رسله الكرام - قال تعالى : { قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } أي : بأن الله راض عليكم فيما أنتم فيه ! وهذا من التَهكّمِ والشهادة بأن مثل قولهم محال أن يكون له حجة .
وفي " الوجيز " : الحاصل أن المشركين اعتقدوا عدم التفرقة بين المأمور المرضيّ والمشيئة ، كما اعتقدت المعتزلة ، فاحتجوا على حقيّة الإشراك . وينادي على ذلك قوله : { كَذَلِكَ كَذَّبَ } فإنه لو كان المراد أنّ ذلك ليس بمشيئة الله تعالى لقال ( كَذَلكَ كَذَبَ ) بالتخفيف لا التشديد . وهذه الآية - عند من له أذن واعية -تصيح على المعتزلة بالويل والثبور ، لكن في آذانهم وقر ، ومن لم يهده الله فلا هادي له . انتهى .
الوجه الثاني : إن المشيئة في الآية بمعنى الأمر والدعاء إلى ذلك . أي : يقولون : إن الله أمرهم بذلك ودعاهم إليه ، كما أخبر عنهم في سورة الأعراف بقوله : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا } فردّ تعالى عليهم بقوله : { قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء } .
الوجه الثالث : إن قولهم ذلك كان على سبيل الاستهزاء والسخرية دافعاً لدعوته صلى الله عليه وسلم ، وتعللاً لعدم إجابته وانقياده ، لا تفويضاً للكائنات إلى مشيئة الله تعالى . فما صدر عنهم كلمةُ حقّ أريد بها باطل . ولذلك ذمَّهم الله بالتكذيب لأنهم قصدوا به تكذيب النبيّ صلى الله عليه وسلم في وجوب اتباعه والمتابعة ، فقال : { كَذَلِكَ كَذَّبَ } بالتشديد ، ولم يذمهم بالكذب في قولهم ذلك ، وإلا لقال ( كَذَلِكَ كَذَبَ ) بالتخفيف ، إشارة إلى أن ذلك الكلام في نفسه حق وصدق .
وقال آخر : { قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } فأشار إلى صدق مقالتهم وفساد غرضهم . فالعتاب الذي لحقهم والوعيد الذي أوعدهم ، إنما كان لاستهزائهم .
كما ذكر في قوله تعالى : { وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً } [ مريم : 66 ] . وهي كلمة حقّ . لكن قالها استهزاء فلحقه الذم .
وهذا الوجه اقتصر عليه العضد في " المواقف " وقرره أيضاً أبو منصور في " تأويلاته " .
قال الحسن بن الفضيل : لو قالوا هذه المقالة تعظيماً لله وإجلالاً له ومعرفةً بحقه وبما يقولون ، لما عابهم بذلك . ولكنهم قالوا هذه المقالة تكذيباً وجَدَلاً . من غير معرفة بالله وبما يقولون .
الوجه الرابع : ما يستفاد من قول الإمام : إنّ في كلام المشركين مقدمتين :
إحداهما : أن الكفر بمشيئة الله تعالى .
و الثانية : أنه يلزم منه اندفاع دعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم . وما ورد من الذمّ والتوبيخ إنما هو على الثانية ، إذ الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فله أن يشاء من الكافر الكفر ويأمره بالإيمان ويعذبه على خلافه ويبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعاة إلى دار السلام ، وإن كان لا يهدي إلاَّ من يشاء .
الوجه الخامس : إن قولهم ذلك كان على سبيل العناد والعتوّ .
قال البقاعي في قوله تعالى : { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } : أي : بما أوقعوا من نحو هذه المجادلة في قولهم : إذا كان الكل بمشيئة الله كان التكليف عبثاً ، فكانت دعوى الأنبياء باطلة . وهذا القول من المشركين عناد بعد ثبوت الرسالات بالمعجزات وإخبار الرسل بأنه يشاء الشيء ويعاقب عليه لأن ملكه تامّ ، لا يسأل عما يفعل .
وقال الإمام القاشاني قدس الله سره ، في قوله تعالى : { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي : كذب المنكرون الرسل من قبلهم بتعليق كفرهم بمشيئة الله ، عناداً وعتوّاً ، فعذّبوا بكفرهم .
ثم قال في قوله تعالى : { قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } أي : إن كان لكم علمٌ بذلك وحجةّ ، فبيّنوا . وإنما قال ذلك ، إشارة إلى قولهم : { لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا } لأنهم لو قالوا ذلك عن علمٍ ، لعلموا أن إيمان الموحدين وكل شيء ، لا يقع إلا بإرادة الله . فلم يعادوهم ولم ينكروهم بل والوْهم ، ولم يبق بينهم وبين المؤمنين خلاف . ولعمري إنهم لو قالوا ذلك عن علمٍ ، لما كانوا مشركين بل كانوا موحّدين ، ولكنهم اتبعوا الظن في ذلك ، وبنوا على التقدير والتخمين لغرض التكذيب والعناد ، وعلى ما سمعوا من الرسل إلزاماً لهم وإثباتاً لعدم امتناعهم عن الرسل . لأنهم محجوبون في مقام النفس . وأنَّى لهم اليقين ؟ ومن أين لهم الاطلاع على مشيئة الله ؟ وقوله تعالى : { قل فللَّه الحجة البالغة } أي : إن كان ظنكم صدقاً في تعليق شرككم بمشيئة الله ، فليس لكم حجة على المؤمنين وعلى غيركم من أهل دين ، لكون كل دين حينئذٍ بمشيئة الله ، فيجب أن توافقوهم وتصدقوهم ، بل لله الحجة عليكم في وجوب تصديقهم وإقراركم بأنكم أشركتم ، بمن لا يقع أمرٌ إلا بإرادته ، ما لا أثر لإرادته أصلاً . فأنتم أشقياء في الأزل مستحقّون للبعد والعقاب . وقوله تعالى : { فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } أي : بلى ، صدقتم . ولكن كما شاء كفركم لو شاء لهداكم كلكم ، فبأي شيءٍ علمتم أنه لم يشأ هدايتكم حتى أصررتم ؟ وهذا تهييج لمن عسى أن يكون له استعداد منهم فيقمع ويهتدي فيرجع عن الشرك ويؤمن . انتهى .
الوجه السادس : ما في " لباب التأويل " من أنه قيل في معنى الآية : أنهم كانوا يقولون الحق بهذه الكلمة - وهو قولهم : { لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا } -إلاّ أنهم كانوا يعدّونه عذراً لأنفسهم ، ويجعلونه حجّة لهم في ترك الإيمان ، والردّ عليهم في ذلك : أن أمر الله بمعزل عن مشيئته وإرادته ؛ فإن الله تعالى مريد لجميع الكائنات غير آمرٍ بجميع ما يريد ، فعلى العبد أن يتبع أمره وليس له أن يتعلق بمشيئته ، فإن مشيئته لا تكون عذراً لأحد عليه في فعله ، فهو تعالى يشاء الكفر من الكافر ولا يرضى به ولا يأمر به ، ومع هذا فيبعث الرسل إلى العبد ويأمره بالإيمان . وورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع . فالحاصل : أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم يتمسكون بمشيئة الله تعالى في شركهم وكفرهم ، فأخبر الله تعالى أن هذا التمسك فاسدٌ باطل ، فإنه لا يلزم من ثبوت المشيئة لله تعالى في كلّ الأمور دفع دعوة الأنبياء عليهم السلام . انتهى .
الوجه السابع : ما قرره الناصر في " الانتصاف " : إنّ الرد عليهم إنَّما كان لاعتقادهم أنهم مسلوبون اختيارهم وقدرتهم ، وإن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الاضطرار ، وزعموا أنهم يقيمون الحجَّة على الله ورسله بذلك . فرد الله قولهم وكذبهم في دعواهم - عدم الاختيار لأنفسهم -وشبَّهَهُمْ بمن اغترّ قبلهم بهذا الخيال فكذب الرسل . وأشرك بالله ، واعتمد على أنه إنما يفعل ذلك كلّه بمشيئة الله ، ورامّ إفحامّ الرسل بهذه الشبهة . ثم بيَّن الله تعالى أنهم لا حجّة لهم في ذلك وأن الحجة البالغة له لا لهم ، بقوله : { فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ } . ثم أوضح تعالى أنّ كل واقع بمشيئته ، وإنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم . وأنه لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعون بقوله : { فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } : والمقصود من ذلك : أن يتمحّض وجه الردّ عليهم ، ويتخلص عقيدة نفوذ المشيئة ، وعموم تعلقها بكل كائن عن الرّد ؛ وينصرف الرّد إلى دعواهم بسلب الاختيار لأنفسهم ، وإلى إقامتهم الحجة بذلك خاصة . وإذا تدبّرت هذه وجدتها كافية في الرد على من زعم من أهل القبلة أن العبد لا اختيار له ولا قدرة البتة . بل هو مجبور على أفعاله مقهورٌ عليها . وهم الفرقة المعروفون بـ ( المجبرة ) . والزمخشري يغالط في الحقائق فيسمي أهل السنة مجبرة وإن أثبتوا للعبد اختياراً وقدرةً ، لأنهم يسلبون تأثير قدرة العبد ويجعلونها مقارنة لأفعاله الاختيارية مميزة بينها وبين أفعاله القسرية . فمن هذه الجهة سوّى بينهم وبين المجبرة ، ويجعله لقباً عاماً لأهل السنة . وبإجماع الرد على المجبرة - الذين ميزناهم عن أهل السنة -في قوله تعالى : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ } -إلى قوله تعالى : { قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ } . وتتمة الآية ردٌّ صراح على ( طائفة الاعتزال ) القائلين بأنّ الله تعالى شاء الهداية منهم أجمعين . فلم تقع من أكثرهم ! ووجه الردّ : أن ( لو ) إذا دخلت على فعل مثبت نفته ؛ فيقتضي ذلك أن الله تعالى لما قال : { فَلَوْ شَاء } لم يكن الواقع أنه شاء هدايتهم . ولو شاءها لوقعت . فهذا تصريح ببطلان زعمهم ومحلّ عقدهم . فإذا ثبت اشتمال الآية على ردّ عقيدة الطائفتين المذكورتين -المجبرة في أوّلها والمعتزلة في آخرها - فاعلم أنها جامعة لعقيدة السنة منطبقة عليها . فإن أوّلها - كما بيّنا - يثبت للعبد اختياراً وقدرةً على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان ، وآخرها يثبت نفوذ الله في العبد ، وأنّ جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية ، خيراً أو غيره . وذلك عين عقيدتهم . فإنهم -كما يثبتون للعبد مشيئةً وقدرة -يسلبون تأثيرها ، ويعتقدون أن ثبوتهما قاطع لحجّته ، ملزم له بالطاعة على وفق اختياره . ويثبتون نفوذ مشيئة الله أيضاً وقدرته في أفعال عباده فهم -كما رأيت -تبعٌ للكتاب العزيز : يثبتون ما أثبت ، وينفون ما نفى ، مؤيدون بالعقل والنقل . والله الموفق . انتهى .
وقد أخرج الحاكم عن ابن عباس أنه قيل له : إن ناساً يقولون : ليس الشرّ بقَدَرَ . فقال ابن عباس : بيننا وبين أهل القدر هذه الآية : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا } [ الأنعام 148 ] - إلى قوله : { فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } .
وبتحقيق هذه الوجوه يسقط قول الطبرسي المعتزلي : لو كان الأمر على ما قاله أهل الجبر - من أن الله تعالى شاء منهم الكفر - لكانت الحجة للكفّار على الله ، من حيث فعلوا ما شاء الله ، ولكانوا بذلك مطيعين له . لأن الطاعة هي امتثال الأمر المراد ، ولا تكون الحجة لله عليهم على قولهم ، من حيث إنه خلق فيهم الكفر وأراد منهم الكفر . فأيّ حجّة له عليهم مع ذلك ؟ انتهى .
وكذا قول الزمخشري : ما حكي عن المشركين كمذهب المجبرة بعينه . ولذا قال النحرير : نعم ! هو كمذهبهم في كون كل كائن بمشيئة الله . لكن الكفرة يحتجّون بذلك على حقية الإشراك وتحريم الحلال وسائر ما يرتكبون من القبائح . وكونها ليست بمعصية لكونها موافقة للمشيئة التي تساوي معنى الأمر ، على ما هو مذهب القدرية : من عدم التفرقة بين المأمور والمراد ، وأنّ كلّ ما هو مرادٌ لله فهو ليس بمعصية منهي عنها . والمجبرة - اعتقدوا أن الكلّ بمشيئة الله- لكنهم يعتقدون أن الشرك وجميع القبائح معصية ومخالفة للأمر يلحقها العذاب بحكم الوعيد ، ويعفو عن بعضها بحكم الوعد . فهم -في ذلك - يصدّقون الله فيما دلّ عليها العقل والشرع من امتناع أن يكون أكثر ما يجري في ملكه على خلاف ما يشاء . والكفرة يكذّبونه في لحوق الوعيد على ما هو بمشيئته تعالى . انتهى .
فصل
قال الإمام شمس الدين ابن القيّم الدمشقي رحمه الله في كتابه " طريق الهجرتين " بعد أن أطال في سرد أحاديث القدرة وآثاره ، ما نصّه :
فالجواب أنّ ههنا مقامين : مقام إيمانٍ وهدىً ونجاة ، ومقام ضلالٍ وردى وهلاك ، زلت فيه أقدام فهوت بأصحابها إلى دار الشقاء .
فأما مقام الإيمان والهدى والنجاة ، فمقام إثبات القدر والإيمان به ، وإسناد جميع الكائنات إلى مشيئة ربها وبارئها وفاطرها ، وأن ما شاء كان وإنْ لم يشأ الناس . وما لم يشأ لم يكن ، وإن شاء الناس . وهذه الآثار - التي كلها تحقق هذا المقام- تبيّن أن من لم يؤمن بالقدر فقد انسلخ من التوحيد ، ولبس جلباب الشرك ، بل لم يؤمن بالله ولم يعرفه . وهذا في كل كتاب أنزله الله على رسله .
وأما المقام الثاني وهو مقام الضلال والردى والهلاك فهو الاحتجاج به على الله ، وحمل العبد ذنبه على ربّه ، وتنزيه نفسه الجاهلة الظالمة الأمّارة بالسوء ، حتى يقول قائل هؤلاء :
~ألقاه في اليمّ مكتوفاً وقال له : إيّاك ! إيّاك ! أن تبتلّ بالماء
ويقول قائلهم :
~دعاني وسدَّ الباب دوني . فهل إلى دخولي سبيلٌ ؟ بيّنوا لي قصتّي
ثم ساق -رحمه الله -قصصاً غريبة في ذلك ، ثم قال :
وسمعته -يعني شيخ الإسلام ابن تيميّة -يقول :
القدرية المذمومون في السنة وعلى لسان السلف هم هؤلاء الفرق الثلاثة : نفاة القدر وهم ( القدرية المجوسيّة ) . والمعارضون به للشريعة الذين قالوا : { لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا } وهم ( القدرية المشركية ) . والمخاصمون به للربّ سبحانه وتعالى وهم أعداء الله وخصومه وهم ( القدرية الإبليسية ) وشيخهم إبليس . وهو أول من احتج على الله بالقدر فقال : { فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي } [ الأعراف 16 ] . ولم يعترف بالذنب ويُبؤْ به كما اعترف به آدم . فمن أقرّ بالذنب وباء به ونزّه ربَّه فقد أشبه أباه آدم ، ومن أشبه أباه فما ظلم . ومن برّأ نفسه واحتجّ على ربّه بالقدر فقد أشبه إبليس . ولا ريب أن هؤلاء القدرية الإبليسية والمشركية شر من القدرية النفاة . لأن النفاة إنما نفوه تنزيهاً للرب وتعظيماً له أن يقدّر الذنب ثم يلوم عليه ويعاقب . ونزهوه أن يعاقب العبد على ما لا صنع للعبد فيه البتة . بل هو بمنزلة طوله وقصره وسواده وبياضه . . ونحو ذلك . كما يحكى عن بعض الجبرية إنه حضر مجلس بعض الولاة . فأتى بطرّار ( وهو الذي يقطع الهمايين أو الأكمام ويستلّ ما فيها ) . أحولَ . فقال له الوالي : ما ترى فيه ؟ فقال : اضربه خمسة عشر - يعني سوطاً -فقال له بعض الحاضرين - ممن ينفي الجبر- بل ينبغي أن يضرب ثلاثين سوطاً : خمسة عشر لطرّه ومثلها لحَولِهِ . فقال الجبريّ : كيف يضرب على الحَولَ ولا صنع له فيه ؟ فقال كما يضرب على الطرّ ولا صنع له ليه ، عندك . . فبُهتَ الجبري .
وأما ( القدرية الإبليسية والمشركية ) فكثير منهم منسلخ عن الشرع ، عدوّ لله ورسوله ، لا يقرّ بأمر ولا نهي ، وتلك وراثة عن شيوخه الذي قال الله فيهم : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْء } [ الأنعام 148 ] ، وقال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } [ النحل : 35 ] . وقال تعالى : { وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } [ الزخرف : 20 ] . وقال : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [ يس : 47 ] ، فهذه أربعة مواضع في القرآن بَيَّنَ سبحانه فيها أن الاحتجاج بالقدر من فعل المشركين للرسل .
وقد افترق الناس في الكلام على هذه الآيات أربع فرق :
الفرقة الأولى : جعلت هذه الحجة حجة صحيحة ، وأنّ للمحتج بها الحجة على الله . ثم افترق هؤلاء فرقتين : ( فرقة ) كذبت بالأمر والوعد والوعيد ، وزعمت أن الأمر والنهي والوعد والوعيد ، بعد هذا ، يكون ظلماً ، والله لا يظلم من خلقه أحداً ! و ( فرقة ) صدقت بالأمر والنهي والوعد والوعيد وقالت : ليس ذلك بظلم . والله يتصرف في ملكه كيف يشاء ويعذب العبد على ما لا صنع له فيه ، بل يعذبه على فعله هو سبحانه لا على فعل عبده . إذ العبد فعل له ، والملك ملكه ولا يسأل عما يفعل وهم يُسألُونَ . فإنَّ هؤلاء الكفار إنما قالوا هذه المقالة - التي حكاها الله عنهم -استهزاء منهم ، ولو قالوا - اعتقاداً للقضاء والقدر ، وإسناداً لجميع الكائنات إلى مشيئته وقدرته -لم ينكر عليهم . ومضمون قول هذه الفرقة إنّ هذه حجة صحيحة إذا قالوها على وجه الاعتقاد -لا على جهة الاستهزاء - فيكون للمشركين على الله الحجّة ، وكفى بهذا القول فساداً وبطلاناً .
الفرقة الثانية : جعلت هذه الآيات حجة لها في إبطال القضاء والقدر والمشيئة العامة إذْ لو صحت المشيئة العامة -وكان الله قد شاء منهم الشرك والكفر وعبادة الأوثان- لكانوا قد قالوا الحق ، وكان الله يصدقهم عليه ولم ينكر عليهم . فحيث وصفه بالخرص -الذي هو الكذب- ونفى عنهم العلم , دلّ على أن هذا الذي قالوه ليس بصحيح , وأنهم كاذبون فيه ؛ إذْ لو كان علماً لكانوا صادقين في الإخبار به , ولم يقل لهم : هل عندكم من علم .
وجعلت هذه الفرقة هذه الآيات حجة لها على التكذيب بالقضاء والقدر , وزعمت بها أن يكون في ملكه ما لا يشاء , ويشاء ما لا يكون , وإنه لا قدرة له على أفعال عبادة من الإنس والجن والملائكة , ولا على أفعال الحيوانات . وإنه لا يقدر أن يضل أحداً , ولا يهديه , ولا يوافقه أكثر مما فعل به , ولا يعصمه من الذنوب والكفر , ولا يلهمه رشدَه , ولا يجعل في قلبه الإيمان , ولا هو الذي جعل المصلي مصلياً والبرَّ برّاً والفاجر فاجراً والمؤمن مؤمناً والكافر كافراً . بل هم جعلوا أنفسهم كذلك .
فهذه الفرقة شاركت الفرقة التي قبلها في إلقاء الحرب والعداوة بين الشرع والقدر . فالأولى تحيزت إلى القدر وحاربت الشرع . والثانية تحيزت إلى الشرع, وكذبت القدر . والطائفتان ضالتان , وإحداهما أَضلّ من الأخرى .
و الفرقة الثالثة : آمنت بالقضاء والقدر وأقرت بالأمر والنهي . ونزّلوا كلّ واحدٍ منزله : فالقضاء والقدر يُؤمن به ولا يُحتجّ به , والأمر والنهي يمتثل ويطاع . فالإيمان بالقضاء والقدر -عندهم -من تمام التوحيد وشهادة أن لا إله إلاَّ الله . والقيام بالأمر . والنهي موجب شهادة أن محمداً رسول الله . وقالوا : من لم يقرّ بالقضاء والقدر , ويقم بالأمر والنهي فقد كذَّب بالشهادتين وإنْ نطق بهما بلسانه . ثمّ افترقوا في وجه هذه الآيات فرقتين : ( فرقة ) قالت : إنما أنكر عليهم استدلالهم بالمشيئة العامة والقضاء والقدر على رضاه ومحبته لذلك . فجعلوا مشيئته له وتقديره له , دليلاً على رضاه به ومحبته له . إذ لو كرهه وأبغضه لحال بينه وبينهم . فإنّ الحكيم إذا كان قادراً على دفع ما يكرهه ويبغضه . دفعه ومنع من وقوعه . وإذا لم يمنع من وقوعه , لزم إما عدم قدرته وإما عدم حكمته . وكلاهما ممتنع في حق الله . فعلم محبته لما نحن عليه من عبادة غيره ومن الشرك به .
وقد وافق هؤلاء من قال : إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضى بها . ولكن خالفهم في أنه نهى عنها وأمر بأضدادها ويعاقب عليها , فوافقهم في نصف قولهم وخالفهم في الشطر الآخر .
وهذه الآيات من أكبر الحجج على بطلان قول الطائفتين , وإن مشيئة الله تعالى وقضاءه وقدره لا تستلزم محبته ورضاه لكل ما شاءه وقدّره .
وهؤلاء المشركون - لمّا استدلوا بمشيئته على محبته ورضاه - كذبهم وأنكرَ عليهم , وأخبر أنه لا علم لهم بذلك , وأنهم خارصون مفترون . فإن محبة الله للشيء ورضاه به , إنما يعلم بأمره به على لسان رسوله , لا بمجرد خلقه . فإنه خلق إبليس وجنوده -وهم أعداؤه- وهو سبحانه يبغضهم ويلعنهم وهم خلقه . . فهكذا في الأفعال . خلق خيرها وشرها وهو يحبّ خيرها ويأمر به ويثيب عليه . ويبغض شرها وينهى عنه ويعاقب عليه . وكلاهما خلقه . ولله الحكمة البالغة التامة في خلقه ما يبغضه ويكرهه , من الذوات والصفات والأفعال , كلٌّ صادر عن حكمته وعلمه , كما هو صادر عن قدرته ومشيئته . .
وقالت الفرقة الثانية : إنما أنكر عليهم معارضة الشرع بالقدر, ودفع الأمر بالمشيئة . فلما قامت عليهم حجة الله ولزمهم أمره ونهيه دفعوه بقضائه وقدره . فجعلوا القضاء والقدر إبطالاً لدعوة الرسل , ودفعاً لما جاءوا به . وشاركهم في ذلك إخوانهم وذريتهم الذين يحتجون بالقضاء والقدر على المعاصي والذنوب في نصف أقولهم , وخالفوهم في النصف الآخر وهو إقرارهم بالأمر والنهي .
فانظر كيف انقسمت هذه المواريث على هذه السهام , وورث كلّ قوم أئمتهم وأسلافهم , إما في جميع تركتهم , وإما في كثير منها , وإما في جزء منها . وهدى الله بفضله ورثة أنبيائه ورسله لميراث بينهم وأصحابه , فلم يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض, بل آمنوا بقضاء الله وقدره ومشيئته العامة النافذة , وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن , وأنه مقلب القلوب ومصرفها كيف أراد , وأنه هو الذي جعل المؤمن مؤمناً والمصلي مصلياً والمتقي متقياً , وجعل أئمة الهدى يهدون بأمره , وأئمة الضلالة يدعون إلى النار ، وأنه ألهم كلّ نفس فجورها وتقواها ، وأنه يهدي من يشاء بعدله وحكمته ، وأنه هو الذي وفق أهل الطاعة لطاعته فأطاعوه ولو شاء لخذلهم فقصوه ، وأنه حال بين الكفار وقلوبهم - فإنه يحول بين المرء وقلبه- فكفروا به . ولو شاء لوفقهم فآمنوا به وأطاعوه ، وأنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأنه لو شاء ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } .
و ( القضاء والقدر ) عندهم أربع مراتب جاء بها نبيهم وأخبر بها عن ربه تعالى :
الأولى - علمه السابق بما هم عاملوه قبل إيجادهم .
الثانية - كتابة ذلك في الذكر عنده قبل خلق السماوات والأرض .
الثالثة - مشيئته المتناولة لكل موجود ، فلا خروج لكائن عن مشيئته ، كما لا خروج له عن علمه .
الرابعة - خلقه له وإيجاده وتكوينه ، فإنه لا خالق إلا الله ، والله خالق كل شيء . فالخالق -عندهم- واحد وما سواه فمخلوق . ولا واسطة - عندهم- بين الخالق والمخلوق . ويؤمنون - مع ذلك - بحكمته ، وأنه حكيم في كل ما فعله وخلقه . وأن مصدر ذلك جميعه عن حكمة تامة هي التي اقتضت صدور ذلك وخلقه . وأن حكمته حكمة حق عائدة إليه قائمة به كسائر صفاته ، وليست عبارة عن مطابقة علمه لمعلومه وقدرته لمقدوره -كما تقوله نفاة الحكمة الذين يقرّون بلفظها دون حقيقتها- بل هي أمر وراء ذلك ، هي الغاية المحبوبة له المطلوبة التي هي متعلق محبته وحمده ولأجلها خلق فسوى وقدّر فهدى ، وأمات وأحيى ، وأشقى وأضلّ وهدى ، ومنع وأعطى . وهذه الحكمة هي الغاية والفعل وسيلة إليها ، فإثبات الفعل مع نفيها إثبات للوسائل ونفي للغايات ، وهو محال ، إذ نفي الغاية مستلزم لنفي الوسيلة . فنفي الوسيلة -وهي الفعل- لازم لنفي الغاية وهي الحكمة . ونفي قيام الفعل والحكمة به نفي لهما في الحقيقة ؛ إذ فعلٌ لا يقوم بفاعله ، وحكمةٌ لا تقوم بالحكيم- شيء لا يعقل . وذلك يستلزم إنكار ربوبيته وإلهيته . وهذا لازم لمن نفى ذلك ولا محيد له عنه ، وإن أبى التزامه . وأما من أثبت حكمته وأفعاله على الوجه المطابق للعقل والفطرة وما جاءت به الرسل ، لم يلزم من قوله محذور البتة ، بل قوله حق ، ولازم الحق حق ، كائناً ما كان . والمقصود : أن ورثة الرسل وخلفاءهم -لكمال ميراثهم لنبيهم- آمنوا بالقضاء والقدر والحِكَم والغايات المحدودة في أفعال الرب وأوامره ، وقاموا- مع ذلك بالأمر والنهي ، وصدّقوا بالوعد : فآمنوا بالخلق الذي من تمام الإيمان به إثبات القدر والحكمة . وبالأمر الذي من تمام الإيمان به الإيمان بالوعد والوعيد وحشر الأجساد والثواب والعقاب ؛ فصدّقوا بالخلق والأمر ولم ينفوهما بنفي لوازمهما -كما فعلت القدرية المجوسية والقدرية المعارضة للأمر بالقدر- وكانوا أسعد الناس بالخلق وأقربهم عصبة في هذا الميراث النبويّ ، و : { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } .
واعلم أن الإيمان بحقيقة القدر والشرع والحكمة ، لا يجتمع إلا في قلوب خواص الخلق ولبّ العالم ، وليس الشأن في الإيمان بألفاظ هذه المسميات وجحد حقائقها كما يفعل كثير من طوائف الضلالاّ . فإن القدرية تؤمن بلفظ ( القدر ) ، ومنهم من يرده إلى العلم ، ومنهم من يرده إلى الأمر الدينيّ ويجعل قضاءه وقدره هو نفس أمره ونهيه ونفس مشيئة الله لأفعال عباده بأمره لهم بها ، وهذا حقيقة إنكار القضاء والقدر . وكذلك ( الحكمة ) فإن الجبرية تؤمن بلفظها ويجحدون حقيقتها ، فإنهم يجعلونها مطابقة علمه تعالى لمعلومه تعالى وإرادته لمراده تعالى ، فهي -عندهم- وقوع الكائنات على وفق علمه وإرادته . . والقدرية النفاة لا يرضون بهذا ، بل يرتفعون عنه طبقة ، ويثبتون حكمة زائدة على ذلك ، لكنهم ينفون قيامها بالفاعل الحكيم ، ويجعلونها مخلوقاً من مخلوقاته ، كما قالوا في كلامه وإرادته . فهؤلاء كلهم أقروا بلفظ ( الحكمة ) وجحدوا معناها وحقيقتها . وكذلك ( الأمر ) و ( الشرع ) فإن من أنكر كلام الله وقال : إن الله لم يتكلم ولا يتكلم ، ولا قال ولا يقول ، ولا يحب شيئاً ولا يبغض شيئاً ، وجميع الكائنات محبوبة له ، وما لم يكن فهو مكروه له ، ولا يحب ولا يرضى ولا يغضب ولا فرق في نفس الأمر بين الصدق والكذب والفجور والسجود للأصنام والشمس والقمر . ولا ريب أن هذا يرفع الشرائع والأمر والنهي بالكلية . ولولا تناقض القائلين به لكانوا منسلخين من دين الرسل ، ولكن مشى الحال بعض الشيء بتناقضهم ، وهو خير لهم من طرد أصولهم والقول بموجبها .
والمقصود : أنه لم يؤمن بالقضاء والقدر والحكمة والأمر والنهي والوعد والوعيد ، حقيقة الإيمان ، إلا أتباع الرسل وورثتهم .
والقضاء والقدر منشؤه عن علم الرب وقدرته . ولهذا قال الإمام أحمد : القدر قدرة الله . واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد غاية الاستحسان وقال : إنه شفى بهذه الكلمة وأفصح بها عن حقيقة القدر .
ولهذا ، كان المنكرون للقدر فرقتين : فرقة كذبت بالعلم السابق ونَفَتْهُ ، وهم غلاتهم الذين كفّرهم السلف والأئمة وتبرّأ منهم الصحابة . وفرقة جحدت كمال القدرة ، وأنكرت أن تكون أفعال العباد مقدورة لله تعالى ، وصرّحت بأنّ الله لا يقدر عليها . فأنكر هؤلاء قدرة الرب ، وأنكرت الأخرى كمال علمه . وقابلهم الجبرية : فجاءت على إثبات القدرة والعلم ، وأنكرت الحكمة والرحمة .
ولهذا ، كان مصدر الخلق والأمر والقضاء والشرع عن علم الربّ وعزته وحكمته . ولهذا يقرن تعالى بين الاسمين والصفتين من هذه الثلاثة كثيراً كقوله : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } [ النمل : 6 ] ، وقال : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ غافر : 2 ] ، وقال : { حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [ الجاثية : 2 ] ، وقال في ( حم فصّلت ، بعد ذكر تخليق العالم ) : { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ فصلت 12 ] ، وذكر نظير هذا في ( الأنعام ) فقال : { فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ الأنعام : 96 ] . فارتباط الخلق بقدرته التامة يقتضي أن لا يخرج موجود عن قدرته . وارتباطه بعلمه التام يقتضي إحاطته به وتقدّمه عليه . وارتباطه بحكمته يقتضي وقوعه على أكمل الوجوه وأحسنها ، واشتماله على الغاية المحمودة المطلوبة للربّ سبحانه . وكذلك أمره بعلمه وحكمته وعزته ، فهو عليم بخلقه وأمره ، حكيم في خلقه وأمره . ولهذا كان ( الحكيم ) من أسمائه الحسنى . فالحكمة من صفاته العُلَى ، والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة ، والرسول المبعوث بها مبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة . والحكمة هي سنة الرسول ، وهي تتضمّن العلم بالحق والعمل به والخبر عنه والأمر به . فكلّ هذا يسمّى حكمة . وفي الأثر : الحكمة ضالّة المؤمن . وفي الحديث : < إنّ من الشعر الحكمة > . فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته ، فهكذا لا يخرج عن حكمته وحمده . وهو محمود على جميع ما في الكون من خير وشرٍّ حمداً استحقه لذاته ، وصدر عنه خلقُه وأمرُه . فمصدر ذلك كله عن الحكمة فإنكار الحكمة إنكار لحمده في الحقيقة ، والله أعلم . انتهى .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، في خلال بعض فتاويه ، في حقيقة الاحتجاج بالقضاء والقدر ، ما نصّه :
وإن هؤلاء القدرية الجبرية الجهمية أهل الفناء في توحيد الربوبية . حقيقة قولهم من جنس قول المشركين الذين قالوا : { لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا } الآية ؛ فإن هؤلاء المشركين لما أنكروا ما بعثت به الرسل من الأمر والنهي ، وأنكروا التوحيد -الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له- وهم يقرّون بتوحيد الربوبية وأن الله خالق كل شيء ، ما بقي عندهم من فرق ، من جهة الله تعالى ، بين مأمور ومحظور فقالوا : { لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } ، وهذا حق فإن الله لو شاء أن لا يكون هذا لم يكن . ولكن أي : فائدة لهم في هذا ؟ غايته أن هذا الشرك والتحريم بقدر ، ولا يلزم إذا كان مقدراً أن يكون محبوباً مرضيّاً لله . ولا علم عندهم بأن الله أمر به ولا أحبه ولا رضيه ، بل ليسوا في ذلك إلاّ على ظنّ وخَرْص . انتهى .
وقال بعض المحققين في حقيقة العقيدة :
ثبت بالبرهان أنّ قدرة الله تعالى متصرفة في الممكنات عن إرادة واختيار . وأن الإرادة لا تخرج عما ينكشف بالعلم من مواقع الحكمة ، ووجوه النظام . وأنه خالق كلّ شيء وإليه يرجع الأمر كله . ومن الممكنات التي اقتضاها الحكمة والنظام وجودُ مخلوقٍ ذي قدرةٍ وإرادةٍ وعلمٍ ، يعمل بقدرته ما تنبعث إليه إرادته بمقتضى علمه بوجوه المصلحة والمنفعة لنفسه ، وهو الإنسان . وهذا - عند البعض- هو معنى كونه خليفة الله في الأرض يعمرها ويظهر حكمة الله وبدائع أسراره فيها ، ويقيم سننه الحكيمة حتى يعرف كماله بمعرفة كمال صنعه . ولا يزال الإنسان يظهر الآيات من هذه المكونات آناً بعد آن ، ولا يعلم مبلغه من ذلك إلاّ الله تعالى . والمشهور أن الخلافة خاصة بأفراد من الإنسان وهم الأنبياء عليهم السلام . ولا يستلزم واحد من القولين أن الله تعالى استخلفهم لحاجة به إلى ذلك . حاشاه .
قال البيضاوي في " بيان أن كلّ نبيٍّ خليفة " : استخلفهم في عُمارة الأرض ، وسياسة الناس ، وتكميل نفوسهم ، وتنفيذ أمره فيهم -لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه -بل لقصور المستخلف عليه من قبول فيضه وتلقي أمره بغير وسط . ولذلك لم يستنبئ مَلَكاً كما قال : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً } [ الأنعام 9 ] . انتهى . وكذلك إذا قلنا : إن كل النوع خليفة في العوالم الأرضية .
فعلم من كلٌّ من القولين ؛ أن في الإنسان معنى ليس في غيره . فإذا كانت خلقة المَلَك لا تساعد على إرشاد الناس ، لأنه ليس من جنسهم ولا يمكن لكلّ واحد التلقّي منه ، فكذلك لا تساعد خلقته . وليس من وظيفتها ، إظهار خواص الأجسام وقواها ووجوه الانتفاع بها . ولو كان إيجاد مخلوقٍ - على ما ذكرنا في خلق الإنسان - غير ممكن لما وجد . ولا ينكر كونه على ما ذكرنا إلاّ من ينكر الحسّ والوجدان ، وهما أصل كلّ برهان . ومثل هذا لا يخاطب ولا يطلب منه التصديق بشيءٍ ما .
إذن ، معنا قضيّتان قطعيّتا الثبوت :
إحداهما : كون الْإِنْسَاْن يعمل بقدرة وإرادة يبعثها علمه على الفعل أو الترك والكف ، وهي بديهية .
و الثانية : هي أن الله هو الخالق الذي بيده ملكوت كلّ شيءٍ ، وهي نظرية ويتولّد من هاتين القضيتين القطعيّتين مسألتان نظريتان :
الأولى : ما الفرق بين علم الله تعالى وإرادته وقدرته ، وبين علم الإنسان وإرادته وقدرته ؟ والجواب من وجوه :
إحداها : أن صفات الله قديمة بقدمه فهي ثابتة له لذاته . وصفات الإنسان حادثة بحدوثه وهي موهوبة له من الله تعالى كذاته .
ثانيها : أن علم الله محيط بكلّ شيءٍ : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ } [ البقرة 255 ] . وأما الإنسان فما أوتي : { مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً } [ الإسراء 85 ] ! وإرادة الله تعالى لا تتغيّر ولا تقبل الفسخ لأنها عن علمٍ تامٍّ . بخلاف إرادة الإنسان فإنها تتردد لتردّده في العلم بالشيء . وتفسخ لظهور الخطأ في العلم الذي بنيت عليه . وتتجدّد لتجدد علمٍ لمن لم يكن له من قبل . وقدرةُ الله تعالى متصرّفة في كلّ ممكن . فيفعل كلّ ما يعلم أنّ فيه الحكمة . وقدرة الإنسان لا تصرّف لها ولا كسب إلاّ في أقلّ القليل من الممكنات . فكم من أمرٍ يعلم أن فيه مصلحته ومنفعةً له وهو لا يقدر على القيام به .
ثالثها : أن صفات الإنسان عرضة للضعف والزوال ، وصفات الله تعالى أبدية كما أنّها أزلية . وبالجملة : إنّ المشاركة بين صفات الله تعالى وصفات عباده إنّما هي في الاسم ، لا في الجنس كما زعم بعضهم ، فبطل زعم من قال : إن إثبات كون الأفعال التي تصدر من الإنسان هي بقدرته وإرادته -يقتضي أن يكون شريكاً لله تعالى : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ الصافات : 180 ] .
المسألة الثانية : - وهي عضلة العقد ومحكّ المنتقد - أن القضاء عبارة عن تعلّق علم الله تعالى أو إرادته في الأزل ؛ بأنّ الشيء يكون على الوجه المخصوص من الوجوه الممكنة ، والقدر وقوع الأشياء فيما لا يزال على وفق ما سبق في الأزل .
ومن الأشياء التي يتعلق بها القضاء والقدر أفعال العباد الاختيارية . فإذا كان قد سبق القضاء المبرم -بأن زيداً يعيش كافراً ويموت كافراً -فما معنى مطالبته بالإيمان وهو ليس في طاقته ؟ ولا يمكن في الواقع ونفس الأمر أن يصدر منه . لأنه في الحقيقة مجبور على الكفر في صورة مختار له ؟ كما قال بعضهم .
والجواب عن هذا : أن تعلق العلم والإرادة بأن فلاناً يفعل كذا ، لا ينافي أن يفعله باختيار ، إلا إذا تعلق العلم بأن يفعله مضطراً كحركة المرتعش مثلاً . ولكن أفعال العباد الاختيارية قد سبق في القضاء بأنها تقع اختيارية ، أي : بإرادة فاعليها لا رغماً عنهم . وبهذا صح التكليف ولم يكن التشريع عبثاً ولا لغواً .
وثم وجه آخر في الجواب ، وهو : لو كان سبق العلم أو الإرادة بأن فاعلاً يفعل كذا ، يستلزم أن يكون ذلك الفاعل مجبوراً على فعله ، لكان الواجب ، تعالى وتقدس ، مجبوراً على أفعاله كلها . لأن العلم الأزليّ قد تعلق بذلك ، وكل ما تعلق به العلم الصحيح لا بد من وقوعه .
فتبين -بهذا -أن الجبرية ومن تلا تلوهم قد غفلوا عن معنى الاختيار ، واشتبهت عليهم الأنظار ، فكابروا الحسّ والوجدان ، ودابروا الدليل والبرهان ، وعطلوا الشرائع والأديان ، وتوهموا أنهم يعظمون الله ولكنهم ما قدروه حق قدره ، ولا فقهوا سر نهيه وأمره ، حيث جرّؤا الجهال على التنصل من تبعة الذنوب والأوزار ، وادعاء البراءة لأنفسهم والإحالة باللوم على القضاء والقدر ، وذلك تنزيه لأنفسهم من دون الله ولا حول ولا قوة إلاّ بالله . بل ذلك إغراء للإنسان بالانغماس في الفسوق والعصيان . فيا عجباً لهم كيف جعلوا أعظم الزواجر من الإغراء ، وهو الاعتقاد بإحاطة علم الله بالأشياء ! أليس من شأن من لم يفسد الجبر فطرته ، ويظلم الجهل بصيرته ، أن يكون أعظم مهذب لنفسه ، ومؤدب لعقله وحسه ، اعتقاده بأن الله عليهم بما يسر ويعلن ، ويظهر ويبطن ، وأنه ناظر إليه ومطلع عليه . ؟ بلى ! إن الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، وأما الذين ضلوا السبيل ، واتبعوا فاسد التأويل ، فيقولون كما قال من قبلهم وقص الله علينا ذلك بقوله عزّ وجلّ { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا } [ وفي المطبوع : سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا . . ] الآية . فانظر كيف رماهم العليم الحكيم بالجهل ، وجعل احتجاجهم بالقدر من أسباب وقوع البأس والبلاء بهم .
وفي هذا القدر كفاية لمن لم ينطمس نور الفطرة من قبله ، والله عليم حكيم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ 150 ]
قوله تعالى : { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ } أي : أحضروهم : { الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا } يعني ما تقولون من الأنعام والحرث . والمراد بـ ( شهدائهم ) قدوتهم الذين ينصرون قولهم . وإنما أمروا باستحضارهم ليلزمهم الحجة ، ويظهر بانقطاعهم ضلالتهم ، وأنه لا متمسك لهم ، كمن يقلدهم فيحق الحق ويبطل الباطل : { فَإِنْ شَهِدُوا } أي : بعد حضورهم بأن الله حرم هذا : { فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ } أي : فلا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم ، لما علمت من افترائهم على الله ومشيهم مع أهويتهم .
وفي " العناية " : { فَلا تَشْهَدْ } استعارة تبعية . وقيل مجاز مرسل ، من ذكر اللازم وإرادة الملزوم . لأن الشهادة من لوازم التسليم . وقيل كناية . وقيل مشاكلة { وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } من وضع المظهر موضع المضمر ، للدلالة علة أن من كذب بآيات الله وعدل به غيره ، أي : سوَّى به الأصنام ، فهو متبع للهوى لا غير ، لأنه لو اتبع الدليل لم يكن إلا مصدقاً بالآيات ، موحّداً لله تعالى .
ولما بيّن تعالى فساد ما ادعوا من أن إشراكهم وإشراك آبائهم وتحريم ما حرموه ، بأمر الله ومشيئته ، بظهور عجزهم عن إبراز ما يتمسك به في ذلك ، وإحضار شهداء يشهدون بذلك ، بعد ما كلفوه مراراً -أمر الرسولَ بأن يبين لهم من المحرمات ما يقتضي الحال بيانه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ 151 ]
فقال تعالى : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً } من الأوثان : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } أي : وأحسنوا بالوالدين إحساناً . قال الحاكم : والإحسان ما يخرج عن حد العقوق ، ومثل هذا قوله تعالى : { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً } [ لقمان 15 ] . ولما كان إيجاب الإحسان تحريماً لترك الإحسان ، ذكر في المحرمات . وكذا حكم ما بعده من الأوامر . فإن الأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضده . بل هو عينه عند البعض . كأن الأوامر ذكرت وقُصِدَ لوازمها ، ومن سر ذلك هنا -أعني وضع : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } موضع ( النهي عن الإساءة إليهما ) -المبالغة والدلالة عن أن ترك الإساءة في شأنهما غير كاف في قضاء حقوقهما ، بخلاف غيرهما { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ } أي : من أجل فقر ، ومن خشيته . والمراد بالقتل : وأد البنات وهن أحياء ، وكانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية . فنهاهم الله عن ذلك وحرمه عليهم : { نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } لأن رزق العبيد على مولاهم : { وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ } يعني : الزنى لقوله : { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [ الإسراء 32 ] وإنما جيء بصيغة الجميع قصداً إلى النهي عن أنواعه أو مبالغة باعتبار تعدد من يصدر منه : { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } يعني : علانيته وسره : { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ } أي : قتلها لأيمانها أو أمانها : { إِلَّا بِالْحَقِّ } أي : بالعدل ، يعني بالقَوَد والرجْم والارتداد : { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ } تلطفاً ورأفة : { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } يعني : لتعقلوا عظمها عند الله تعالى فتكفوا عن مباشرتها .
قال المهايمي : فالشرك وعقوق الوالدين وقتل الأولاد للفقر ، منشؤه الجهل بما في الشرك من استهانة المنعم بالإيجاد ، وبما في الإساءة إلى الأبوين من مقابلة الإحسان بالإساءة ، وقربان الفواحش من متابعة الهوى ، والقتل من متابعة الغضب ؛ وكلها أضداد العقل .
تنبيه :
قال بعض ( الزيدية ) : قوله تعالى : { مِّنْ إمْلاَقٍ } خرج على العادة . وإلا فهو محرم ، خشي الفقر أم لا . وقد دلت على تحريم قتل الأولاد .
قال الحاكم : فيدخل في ذلك شرب الدواء لقتل الجنين . قال الإمام يحيى : إذا نفخ فيه الروح دون إفساد النطفة والعلقة والمضغة قبل أن ينفخ فيها الروح . وفي " الأحكام " يجب على من انقطع حيضها أن توقى من الأدوية ما يخاف على الجنين منها ، إذا كانت من ذوات البعول . وفي قوله تعالى : { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ } تأكيد للزوم ما تقدم . انتهى .
لطيفة :
قال القاشاني : لما كان الكلام مع المشركين في تحريم الطيبات ، عدّد المحرمات ليستدل بها على المحللات . فحصر جميع أنواع الفضائل بالنهي عن أجناس الرذائل . وابتدأ بالنهي عن رذيلة القوة النطقية التي هي أشرفها . فإن رذيلتها أكبر الكبائر مستلزمة لجميع الرذائل . بخلاف رذيلة أخويها من القوتين البهيمية السبعية . فقال : { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } إذ الشرك من خطئها في النظر ، وقصورها عن استعمال العقل ودرك البرهان . وعقبه بإحسان الوالدين . إذ معرفة حقوقهما تتلو معرفة الله في الإيجاد والربوبية . لأنهما سببان قريبان في الوجود والتربية . وواسطتان جعلهما الله تعالى مظهرين لصفتي إيجاده وربوبيته ولهذا قال : ( من أطاع الوالدين فقد أطاع الله ورسوله ) فعقوقهما يلي الشرك ولا يقع الجهل بحقوقهما إلا عن الجهل بحقوق الله تعالى ومعرفة صفاته . ثم بالنهي عن قتل الأولاد خشية الفقر . فإن ارتكاب ذلك لا يكون إلا عن الجهل والعمى عن تسبيبه تعالى الرزق لكل مخلوق . وأن أرزاق العباد بيده ، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر . والاحتجاب عن سر القدر ، فلا يعلم أن الأرزاق مقدرة بإزاء الأعمار كتقدير الآجال . فأولاها لا تقع إلا من خطئها في معرفة ذات الله تعالى . والثانية من خطئها في معرفة صفاته . والثالثة من معرفة أفعاله . فلا يرتكب هذه الرذائل الثلاث إلا منكوس محجوب عن نذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ؛ وهذه الحجب أُمُّ الرذائل وأساسها . ثم بيّن رذيلة القوة البهيمية لأن رذيلتها أظهر وأقدم فقال : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ } ، ثم أشار إلى رذيلة القوة السبعية بقوله : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ } . الآية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ 152 ]
وقوله تعالى : { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ } أي : بوجه من الوجوه : { إِلَّا بِالَّتِي } أي : بالخصلة التي : { هِيَ أَحْسَنُ } يعني أنفع له . كتثميره أو حفظه أو أخذه قرضاً . لا بأكله ، وإنفاقه في مآربكم وإتلافه ، فإنه أفحش . وقد ذكرنا طرفاً فيما رخص فيه لوليّ اليتيم أو وصيه في قوله تعالى في سورة النساء : { وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } [ النساء : 6 ] وقد روى أبو داود عن ابن عباس قال : لما أنزل الله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ } الآية ، و : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى } [ النساء 10 ] الآية ، انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه . فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله ، أو يفسد . فاشتد ذلك عليهم . فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله : { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } [ البقرة 220 ] فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه . قيل : إنما خص تعالى مال اليتيم بالذكر ، لكونه لا يدفع عن نفسه ولا عن ماله هو ولا غيره . فكانت الأطماع في ماله أشد . فعزم في النهي عنه لأنه حماه ومقدمته ، وأمر بتنميته { حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } أي : قوته التي يقر بها على حفظه واستنمائه ، وهذا غاية لما يفهم من الاستثناء لا للنهي ، كأنه قيل : احفظوه حتى يصير بالغاً رشيداً . فحينئذ سلموه إليه كما في قوله تعالى : { فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } . والأشد جمع ( شدة ) كنعمةً وأنعم ، أو شَدّ ككلب وأكلب ، أو شد كصِرّ وآصُر . وقيل هو مفرد كآنك : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ } أي : بالعدل والتسوية في الأخذ والإعطاء . وقد توعد تعالى على تركه في قوله : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ المطففين : 1 - 6 ] .
قال ابن كثير : وقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال . روى الترمذي عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحاب الكيل والميزان : < إنكم وليتم أمرين هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم > . ثم ضعفه وصحح وقفة على ابن عباس . وروى نحوه ابن مردويه مرفوعاً ، ولفظه : < إنكم معشر الموالي قد بشركم الله بخصلتين ، بهما هلكت القرون المتقدمة : بالمكيال والميزان > .
{ لا نُكَلِّفُ نَفْساً } أي : عند الكيل والوزن : { إِلَّا وُسْعَهَا } أي : جهدها بالعدل . وهذا الاعتراض جيء به عقيب الأمر بالعدل ، لبيان أن مراعاة الحدّ من القسط ، الذي لا زيادة فيه ولا نقصان ، مما يجري فيه الحرج ، لصعوبة رعايته . فأمر ببلوغ الوسع ، وأن الذي ما وراءه معفوّ عنه . وقد روى ابن مردويه عن سعيد بن المسيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < : { أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } : من أوفى على يده في الكيل والميزان ، والله أعلم بصحة نيته بالوفاء فيهما ، لم يؤاخذ > .
قال ابن المسيّب : وذلك تأويل ( وسعها ) .
قال ابن كثير : هذا غريب .
وفي " العناية " : يحتمل رجوع قوله تعالى : { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } إلى ما تقدم . أي : جميع ما كلفناكم ممكن ، ونحن لا نكلف ما لا يطاق . انتهى . والأول أولى .
{ وَإِذَا قُلْتُمْ } أي : في حكومة أو شهادة ونحوهما : { فَاعْدِلُوا } أي : فيها أي : لا تقولوا الحق : { وَلَوْ كَانَ } أي : المقول له أو عليه : { ذَا قُرْبَى } أي : ذا قرابة منكم . فلا تميلوا في القول له أو عليه ، إلى زيادة أو نقصان .
قال بعض الزيدية : معنى قوله تعالى : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ } أي : اصدقوا في مقالتكم . قال : وهذه اللفظة من الأمور العجيبة في عذوبة لفظها وقلة حروفها وجمعها لأمور كثيرة من الإقرار والشهادة والوصايا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والفتاوى والأحكام والمذاهب .
ثم إنه تعالى أكد ذلك ، وبين أنه يلزم العدل في القول ، ولو كان المقول له ذا قربى . كقوله تعالى : { وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } [ النساء 135 ] .
{ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا } أي : ما عهد إليكم من الأمور المعدودة ، أو أي : عهد كان . فيدخل فيه ما ذكر دخولاً أوليّاً . أو ما عاهدتم الله عليه من الأيمان والنذور : { ذَلِكُمْ } إشارة إلى ما ذكر في هذه الآيات : { وَصَّاكُمْ بِهِ } أي : أمركم بالعمل به في الكتاب : { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي : تتعظون . وفي قوله تعالى : { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ } تأكيد آخر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ 153 ]
{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ } يقرأ بفتح همزة ( أن ) والتشديد . ومحلها مع ما في حيزها بحذف لام العلة . أي : ولأن هذا الذي وصيتكم به . من الأمر والنهي طريقي وديني الذي ارتضيته لعبادي قويماً لا اعوجاج فيه ، فاعلموا به . وجوز أن يكون محلها مع ما في حيزها النصب على ( ما حرم ) أي : وأتلو عليكم أن هذا صراطي . وقُرئ بكسر الهمزة على الاستئناف { وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ } يعني الأديان المختلفة أو طرق البدع الضلالات : { فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } أي : فتفرقكم عن صراطه المستقيم وهو دين الإسلام الذي ارتضاه لعباده . روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : خطّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطّاً ثم قال : هذا سبيل الله ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله ثم قال : هذه سبل ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه . ثم قرأ : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً } الآية . ورواه الحاكم وصححه .
لطائف :
قال الكيا الهراسي : في الآية دليل على منع النظر والرأي ، مع وجود النص .
قال ابن كثير : إنما وحد ( سبيله ) لأن الحق واحد ولهذا جمع ( السبل ) لتفرقها وتشعبها . كما قال تعالى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَات } [ البقرة 257 ] .
قال ابن عطية : وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية ، وسائر أهل الملل وأهل البدع والضلالات ، من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع ، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام . وهذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد .
قال قتادة : اعلموا أن السبيل سبيل واحد . جماعة الهدى ، ومصيره الجنة . وأن إبليس استبدع سبلاً متفرقة . جماعة الضلالة ، ومصرها إلى النار . وروى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية وفي قوله : { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله .
{ ذَلِكُمْ } إشارة إلى ما ذكر من اتباع سبيله تعالى وترك اتباع سائر السبل : { وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي : اتباع الكفر والضلالة . وفيه تأكيد أيضاً . روى الترمذيّ وحسنه ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه ، فليقرأ هؤلاء الآيات : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً } -إلى قوله - : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } . وروى الحاكم ، وصححه عن ابن عباس قال : في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب ثم قرأ : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } الآيات .
وروى الحاكم وصححه وابن أبي حاتم عن عُبَاْدَة بن الصامت قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث ؟ ثم قوله تعالى : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } حتى فرغ من ثلاث آيات . ثم قال : ومن وفى بهن فأجره على الله . ومن انتقص منهن شيئاً ، فأدركه الله في الدنيا ، كانت عقوبته . ومن أخره إلى الآخرة . كان أمره إلى الله . إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه > .
لطيفة :
قال النسفيّ : ذكر أولاً ( تَعْقِلُونَ ) ثم ( تَذَكَّرُونَ ) ثم ( تَتَّقُونَ ) لأنهم إذا عقلوا تفكروا ، ثم تذكروا ، أي : اتعظوا ، فاتقوا المحارم . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ } [ 154 ]
{ ثُمَّ آتَيْنَا } أي : أعطينا : { مُوسَى الْكِتَابَ } يعني التوراة : { تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ } يقرأ بفتح النون على أنه فعل ماض وفاعله إما ضمير ( الَّذي ) أي : تماماً للكرامة والنعمة على الذي أحسن . أي : على من كان محسناً صالحاً . يريد جنس المحسنين . وتدل عليه القراءة عبد الله ( عَلَى الذين أحسنوا ) وإما ضمير موسى عليه السلام ومفعوله محذوف . أي : تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وفي كل ما أمر به . أو تماماً على الذي أحسن موسى من العلم والشرائع . من ( أحسن الشيء ) إذا أجاد معرفته ، أي : زيادة على علمه على وجه التتميم وعلى الأول فـ ( تماماً ) في موقع المفعول له . وجاز حذف اللام لكونه في معنى ( إتماماً ) أو مصدر لقوله ( ءَاتَيْنَا ) من معناه . لأن إيتاء الكتاب إتمام للنعمة . كأنه قيل : أتممنا النعمة إتماماً . فـ ( تمام ) بمعنى ( إتمام ) كنبات في قوله تعالى : { وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً } . أو ( أصله إيتاء تمام ) . وعلى الوجه الثاني هو حال من الكتاب . وقرأ يحيى بن يعمر ( عَلَى الَّذِي أَحْسَنُ ) بالرفع أي : على الذي هو أحسن ، أو على الوجه الذي هو أحسن ما يكون عليه الكتب . فـ ( تماماً ) حال من الكتاب بمعنى ( تاماً ) أي : حال كون الكتاب تامّاً كائناً على أحسن ما يكون . قال ابن جرير : هذه قراءة لا استجير القراءة بها . وان كان في العربية له وجه صحيح { وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ } أي : وبياناً مفصلاً لكل ما يحتاج إليه بنو إسرائيل في الدين : { وَهُدىً } لهم إلى ربهم في سلوك سبيله : { وَرَحْمَةً } عليهم بإفاضة الفوائد : { لَعَلَّهُم } أي : أهل الكتاب : { بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ } يصدقون بلقائه للجزاء .
لطيفة
قال السيوطي في " الإكليل " : استدل بقوله تعالى : { ثُمَّ آتَيْنَا } مَن قال إن : { ثُمَّ } لا تفيد الترتيب . انتهى
قال ابن كثير و : { ثُمَّ } ههنا لعطف الخبر بعد الخبر ، لا للترتيب كما قال الشاعر :
~قل لمن سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ثُمَّ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ
وقال أبو السعود : و : { ثُمَّ } للتراخي في الأخبار كما في قولك : بلغني ما صنعت اليوم ، ثم ما صنعت أمس أعجبُ . أو للتفاوت في الرتبة كأنه قيل : ذلك وصاكم به قديماً وحديثاً . ثم أعظم من ذلك أنا آتينا موسى التوراة . فإن إيتاءها مشتملة على الوصية المذكورة وغيرها ، أعظم من التوصية بها فقط . انتهى .
ثم أشار إلى أن التوراة . وإن كانت تماماً على النهج الأحسن ، فالقرآن أتم منه وأزيد حسناً . فهو أولى بالمتابعة ، فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ 155 ]
{ وَهَذَا } أي : القرآن : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } أكثر نفعاً من التوراة ديناً ودنيا : { فَاتَّبِعُوهُ } أي : اعملوا بما فيه من الأوامر والنواهي والأحكام : { وَاتَّقُوا } يعني مخالفته واتباع غيره لكونه منسوخاً به : { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي : لترحموا بواسطة اتباعه ، وهو العمل بما فيه . وفيه إشارة إلى أنه لا رحمة بمتابعة المنسوخ وإن آمن صاحبها بلقاء ربه .
قال بعض الزيدية : وفي قوله تعالى : { فَاتَّبِعُوهُ } دلالة على وجوب تعلم القرآن ليمكن الاتباع له . لكن هو كسائر العلوم فرض كفاية إلا ما يتعين على كل مكلف ، كتعلم ما لا تصح الصلاة إلا به ، فإنه يجب عليه . انتهى . : { مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً } [ الأحقاف 12 ] [ وفي المطبوع : هود : 17 ] ، وقوله أول السورة : { قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى } [ الأنعام 91 ] ، ثم قال : { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } [ الأنعام 92 ] الآية ، وقوله تعالى مخبراً عن المشركين : { فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى } [ القصص 48 ] . وقوله تعالى مخبراً عن الجن أنهم قالوا : { يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } [ الأحقاف 30 ] الآية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ } [ 156 ]
{ أَنْ تَقُولُوا } علة لـ ( أَنْزَلْنَاهُ ) . أي : كراهة أن تقولوا يوم القيامة . أو لئلا تقولوا : { إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا } اليهود والنصارى : { وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ } عن تلاوة كتابهم : { لَغَافِلِينَ } لا علم لنا بشيء منها لأنها ليست بلغتنا .
قال أبو السعود : ومرادهم بذلك دفع ما يرد عليهم من أن نزوله عليهما لا ينافي عموم أحكامه . فلِمَ لَمْ تَعْملوا بأحكامه العامة ؟ والمعنى : وإن كنا لا ندري ما في كتابهم ، إذ لم يكن على لغتنا حتى نتلقى منه تلك الأحكام العامة ونحافظ عليها ، وإن لم يكن منزلاً علينا . وبهذا تبين أن معذرتهم هذه ، مع أنهم غير مأمورين بما في الكتابين لاشتمالهما على الأحكام المذكورة المتناولة لكافة الأمم ، أن قطع تلك المعذرة بإنزال القرآن لاشتماله أيضاً عليها ، لا على سائر الشرائع والأحكام فقط . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ } [ 157 ]
{ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ } أي : كما أنزل عليهم : { لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ } أي : إلى الحق وأسرع منهم إجابة للرسول لمزيد ذكائنا وجدّنا في العمل : { فَقَدْ جَاءَكُمْ } قال أبو السعود : متعلق بمحذوف ينبئ عنه الفاء الفصيحة ، إما معلل به ، أي : لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم . وإما شرط له . أي : إن صدقتم فيما كنتم تعدون من أنفسكم من كونكم أهدى من الطائفتين على تقدير نزول الكتاب عليكم ، فقد حصل ما فرضتم وجاءكم : { بَيِّنَةٌ } أي : كتاب حجة واضحة : { مِنْ رَبِّكُمْ } متعلق بـ ( جَاءَكُمْ ) أو بمحذوف صفة لـ ( بَيِّنَةٌ ) أي : بينة كائنة منه تعالى لا يتوهم فيه السحر : { وَهُدىً } بإقامة الدلائل ورفع الشبه : { وَرَحْمَةٌ } بإفاضة الفوائد وتسهيل طريقكم وتيسيرها إلى أشرف الكمالات : { فَمَنْ أَظْلَمُ } . قال أبو السعود : الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها . فإن مجيء القرآن المشتمل على الهدى والرحمة موجب لغاية أظلمية من يكذبه . أي : وإذا كان الأمر كذلك : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا } أي : صَرَفَ الناس وصدَّهُم عنها . فجمع بين الضلال والإضلال . والمعنى إنكار أن يكون أحد أظلم منه أو مساوياً له : { سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ } الناس : { عَنْ آيَاتِنَا } أي : التي لو لم يصدفوا عنها لعرفوا إعجازها : { سُوءَ الْعَذَابِ } أي : العذاب السيء : { بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ } وهذا كقوله تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ } [ النحل : 88 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ } [ 158 ]
{ هَلْ يَنْظُرُونَ } يعني قد أقمنا حجج الوحدانية وثبوت الرسالة وأبطلنا ما كانوا يعتقدون من الضلالة . فما ينتظر هؤلاء بعد تكذيبهم الرسل وإنكارهم القرآن وصدّهم عن آيات الله ؟ .
قال البيضاوي : يعني أهل مكة . وهم ما كانوا منتظرين لذلك . ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر ، شبهوا بالمنتظرين { إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } يعني للحكم وفصل القضاء بين الخلق يوم القيامة .
قال ابن كثير : وذلك كائن يوم القيامة . وقد تقدم الكلام في معنى الآية في سورة البقرة عند قوله تعالى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } [ البقرة 210 ] بما فيه كفاية .
ومذهب السلف : إمرار ذلك بلا كيفٍ ، كما مرّ مراراَ .
قيل : { إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ } أي : ملائكة الموت لقبض أرواحهم : { أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } وذلك قبل يوم القيامة ، كائن من أمارات الساعة وأشراطها حين يرون شيئاً من ذلك . كما روى البخاريّ في تفسير هذه الآية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها . فإذا رآها الناس آمن من عليها . فذاك حين لا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل . ورواه مسلم أيضاً ، ولمسلم والترمذيّ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً : طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، ودابة الأرض > { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ } صفة ( نفساً ) : { أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً } عطف على ( ءَامَنَتْ ) والمعنى أن بعض أشراط الساعة إذا جاء ، وهي آية ملجئة مضطرة ، ذهب أوان التكليف عندها ، فلم ينفع الإيمان حينئذ نفساً غير مقدّمة إيمانها من قبل ظهور الآيات . أو مقدمة الإيمان غير كاسبة في إيمانها خيراً لفسقها . فتوبتها حينئذ لا تجدي .
قال الطبري : معنى الآية لا ينفع كافراً لم يكن آمن قبل الطلوع ، إيمانٌ بعد الطلوع . ولا ينفع مؤمناً لم يكن عمل صالحاً قبل الطلوع ، عملٌ صالح بعد الطلوع . لأن حكم الإيمان والعمل الصالح حينئذ ، حكم من آمن أو عمل عند الغرغرة . وذلك لا يفيد شيئاً . كما قال تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } [ غافر 85 ] . وكما ثبت في الحديث الصحيح : < إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر > . انتهى .
وبالجملة : فالمعنى أنه لا ينفع من كان مشركاً إيمانُه . ولا تقبل توبة فاسق عند ظهور هذه الآية العظيمة التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة . وذلك لذهاب زمن التكليف .
قال الضحاك : من أدركه بعض الآيات ، وهو على عمل صالح مع إيمانه ، قبل الله منه العمل الصالح بعد نزول الآية ، كما قبل منه قبل ذلك . فأما من آمن من شركٍ أو تاب من معصية عند ظهور هذه الآية ، فلا يقبل منه . لأنه حالة اضطرار . كما لو أرسل الله عذاباً على أمة فآمنوا وصدقوا . فإنهم لا ينفعهم إيمانهم ذلك ، لمعاينتهم الأهوال والشدائد ، التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة .
وقال ابن كثير : إذا أنشأ الكافر إيماناً يومئذ لم يقبل منه . فأما من كان مؤمناً قبل ذلك ، فإن كان مصلحاً في عمله ، فهو بخير عظيم . وإن لم يكن مصلحاً ، فأحدث توبة حينئذ ، لم تقبل منه توبته . كما دلت عليه الأحاديث . وعليه يحمل قوله تعالى : { أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً } أي : لا يقبل منها كسب عمل صالح ، إذا لم يكن عاملاً به قبل . انتهى .
والأحاديث المشار إليها ، منها ما رواه ( مسلم ) عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه . > وروى الترمذيّ وصححه عن صفوان بن عسال المرادي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < بابٌ من قِبَل المغرب مسيره عرضه - أو قال يسير الراكب في عرضه - أربعين أو سبعين سنة خلقه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض . مفتوحاً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه > . ولأبي داود والنسائي من حديث معاوية رفعه : < لا تزال تقبل التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها > .
قال ابن حجر : سنده جيد . وأخرجه أحمد والدارمي وعبد بن حميد من حديثه أيضاً بلفظ : لا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها . وروى اللإمام أحمد عن ابن السعديّ ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < لا تنقطع الهجرة مادام العدوّ يقاتل > . فقال معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عَمْرو بن العاص : إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < إن الهجرة خصلتان : إحداهما أن تهجر السيئات ، والأخرى أن تهاجر إلى الله ورسوله ولا تنقطع ما تُقُبِّلَتِ التوبة ، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب فإذا طلعت طُبِعَ على كل قلب بما فيه ، وكُفِيَ الناسُ العملَ > .
قال ابن كثير : هذا الحديث حسن الإسسناد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة .
وهاهُنا مسائل :
الأولى : ذهب الجمهور إلى أن المراد بـ ( البعض ) في الآية هو طلوع الشمس من مغربها . كما في حديث الصحيحين السابق . ولا يقال يخالف ذلك حديث مسلم : ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها . . الحديث . وفي ثبوت ذلك بخروج الدجال نظراً . لأن نزول عيسى صلى الله عليه وسلم بعده . وفي زمنه خير كثير دنيويّ وأخرويّ . فالإيمان مقبول وقتئذ . لأنا نقول : لا منافاة . وذلك لأن ( البعض ) في الآية ، إن كان عدة آيات ، فطلوع الشمس هو آخرها المتحقق به عدم القبول ، وإن كان إحدى آيات ، فهو محمول على المعيّن في الحديث ، لأنه أعظمها . كذا في " العناية " .
قال ابن عطية : إذا أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بتخصيص ِمانع القبول بالطلوع ، في الحديث الصحيح ، لم يجز العدول عنه ، وتعيّن أنه معنى الآية . انتهى .
وقال القاضي عياض : المعنى لا تنفع توبة بعد ذلك . بل يختم على عمل كل أحد بالحالة التي هو عليها . والحكمة في ذلك أن هذا أول ابتداء قيام الساعة بتغير العالم العلويّ . فإذا شوهد ذلك حصل الإيمان الضروري بالمعاينة . وارتفع الإيمان بالغيب . فهو كالإيمان عند الغرغرة وهو لا ينفع . فالمشاهدة لطلوع الشمس من المغرب مثله . الثانية : قال السيوطي في " الإكليل " : استدل المعتزلة بهذه الآية على أن الإيمان لا ينفع مع عدم كسب الخير فيه . وهو مردود . ففي الكلام تقدير . والمعنى : لا ينفع نفساً لم تكن آمنت من قبلُ ، إيمانُهَا حينئذ ، ولا ينفع نفساً لم تكسب خيراً قبلُ ، توبتُها حينئذ .
وقال الشهاب السمين : قد أجاب الناس بأن المعنى في الآية إنه إذا أتى بعض الآيات لا ينفع نفساً كافرة ، إيمانُها الذي أوقعته إذ ذاك . ولا ينفع نفساً سبق إيمانها ولم تكسب فيه خيراً . فقد علق نفي الإيمان بأحد وصفين : إما نفي سبق الإيمان فقط ، وإما سبقه مع نفي كسب الخير . ومفهوم الصفة قويّ فيستدل بالآية لمذهب أهل السنة . ويكون فيه قلب دليل المعتزلة ، دليلاً عليهم .
وأجاب ابن المنير في " الانتصاف " فقال : هذا الكلام من البلاغة يلقب ( اللف ) وأصله : يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً ، لم تكن مؤمنة قبلُ ، إيمانُها بعدُ . ولا نفساً لم تكسسب خيراً قبلُ ، ما تكتسبه من الخير بعدُ ، فَلَفَّ الكلامين فجعلهما كلاماً واحداً إيجازاً . وبهذا التقرير يظهر أنها لا تخالف مذهب أهل الحق . فلا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير ولو نفع الإيمان المتقدم من الخلود . فهي بالرد على المعتزلة أولى من أن تدل لهم .
وقال ابن الحاجب في " أماليه " : الإيمان قبل مجيء الآية نافع لو لم يكن عمل صالح غير ، ومعنى الآية : لا ينفع نفساً إيمانها ولا كسبها العمل الصالح ، لم يكن الإيمان قبل الآية ، أو لم يكن العمل مع الإيمان قبلها . فاختصر للعلم .
ونقل الطيبيّ كلام الأئمة في ذلك . ثم قال : المعتد ما قال ابن المنير وابن الحاجب . وبسطه : أن الله تعالى ، لما خاطب المعاندين بقوله تعالى : { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ } [ الأنعام 155 ] الآية ، علل الإنزال بقوله : { أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ } [ الأنعام 156 ] الخ ، إزالة للعذر وإلزاماً للحجة . وعقبه بقوله : { فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ } الخ ، تبكيتاً لهم وتقريراً لما سبق ممن طلب الاتباع . ثم قال : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ } الآية . أي : أنه أنزل هذا الكتاب المنير كاشفاً لكل ريب وهادياً إلى الطريق المستقيم ورحمة من الله للخلق ، ليجعلوه زاداً لمعادهم فيما يقدمونه من الإيمان والعمل الصالح . فجعلوا شكر النعمة أن كذبوا بها ومنعوا من الانتفاع بها . ثم قال : { هَلْ يَنظُرُونَ } الآية . أي : ما ينتظر هؤلاء المكذبين إلا أن يأتيهم عذاب الدنيا بنزول الملائكة بالعقاب الذي يستأصل شأفتهم . كما جرى لمن مضى من الأمم قبلهم . أو يأتيهم عذاب الآخرة بوجود بعض قوارعها ، فحينئذ تفوت تلك الفرصة السابقة فلان ينفعهم شيء مما كان ينفعهم من قبلُ ، من الإيمان ، وكذا العمل الصالح مع الإيمان ، فكأنه قيل : يؤم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها ولا كسبها العمل الصالح في إيمانها حينئذ ، إذ لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً من قبل . ففي الآية لف . لكن حذفت إحدى القرينتين بإعانة النشر ، ونظيره قوله تعالى : { وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً } [ النساء 172 ] .
قال : فهذا الذي عناه ابن المنير بقوله : إن هذا الكلام في البلاغة يقال له ( اللف ) والمعنى يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً ، لم تكن مؤمنة من قبل ذلك ، إيمانها من بعد ذلك ، ولا ينفع نفساً كانت مؤمنة ، لكن لم تعمل في إيمانها عملاً صالحاً قبل ذلك ، ما تعمله من العمل الصالح بعد ذلك . قال : وبهذا التقرير يظهر مذهب أهل السنة . فلا ينفع بعد ظهور الآية اكتساب الخير ، أي : لإغلاق باب التوبة ورفع الصحف والحفظة ، وإن كان ما سبق قبل ظهور الآية من الإيمان ينفع صاحبه في الجملة .
ثم قال الطيبي : وقد ظفرتُ ، بفضل الله بعد هذا التقرير ، على آية أخرى تشبه هذه الآية وتناسب هذا التقرير معنىً ولفظاً ، من غير إفراط ولا تفريط . وهي قوله تعالى : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ } [ الأعراف : 52 - 53 ] . فإنه يظهر منه أن الإيمان المجرد قبل كشف قوارع الساعة نافع . وأن الإيمان المقارن بالعمل الصالح أنفع . وأما بعد حصولها أنفع . وأما بعد حصولها فلا ينفع شيء أصلاً . والله أعلم . انتهى ملخصاً .
الثالثة : قال في " الوجيز " في قوله تعالى : { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } أي : لفصل القضاء بين خلقه . وإتيانه نؤمن به ولا نعرف كيفه . انتهى .
وفي حواشي " جامع البيان " : كيف لا يؤمن بإتيانه ومجيئه تعالى يوم القيامة ، وقد جاء في القرآن في عدة مواضع : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } [ البقرة 210 ] { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } [ الفجر : 22 ] { إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } [ النحل 33 ] . وأي أمر أصرح منه في القرآن ؟ .
وروي الطبري في " تفسيره " عن ابن عباس مرفوعاً : إن في الغمام طاقات يأتي الله فيها ، محفوفاً . وذلك قوله : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الإمام وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ } [ البقرة : 210 ] .
قال عِكْرِمَة : والملائكة حوله ، فهذا من صفات الله تعالى . يجب علينا الإيمان بظاهرها ونؤمن بها كما جاءت وإن لم نعرف كيفيتها . وعدم علمنا بكيفيتها ، بمنزلة عدم علمنا بكيفية ذاته . فلا نكذب بما علمناه لعدم علمنا بما لم نعلمه . وهذا هو مذهب سلف هذه الأمة وأعلام أهل السنة . انتهى .
وقوله تعالى : { قُلِ انتَظِرُواْ } أي : قل لهؤلاء الكافرين ، بعد بيان حقيقة الحال على وجه التحديد : انتظروا ما تنتظرونه من إتيان أحد الأمور الثلاثة لتروا أي : شيء تنتظرون .
{ إِنَّا مُنتَظِرُونَ } أي : لذلك ، لنشاهد ما يحل بكم من سوء العاقبة .
ثم بيّن تعالى أحوال أهل الكتاب ، إثر بيان حال المشركين بقوله سبحانه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ 159 ]
{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } أي : اختلفوا فيه ، مع وحدته في نفسه ، فجعلوه أهواء متفرقة : { وَكَانُواْ شِيَعاً } أي : فرقاً تشيع كل فرقة إماماً لها بسحب غلبة تلك الأهواء .
فلم يتعبدوا إلا بعادات وبدع ، ولم ينقادوا إلا لأهواء وخدع : { لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } أي : من عقابهم . أو أنت بريء منهم محميّ الجناب عن مذاهبهم . أو المعنى : اتركهم فإن لهم مالهم .
وقال القاشاني : أي : لست من هدايتهم إلى التوحيد في شيء . إذ هم أهل التفرقة لا يجتمع هممهم ، ولا يتحد قصدهم : { إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ } أي : في جزاء تفرقهم ومكافأتهم ، لا إليك : { ثُمَّ يُنَبِّئُهُم } يعني إذا وردوا يوم القيامة : { بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } أي : من السيئات والتفرقة ، لمتابعة الأهواء . ويجازيهم على ذلك بما يماثل أفعالهم .
تنبيه :
قال مجاهد وقتادة والضحاك والسدّي : نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى . وروى العوفي عن ابن عباس في الآية ؛ أن اليهود والنصارى اختفوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فتفرقوا ، وحمل بعضهم الآية على أهل البدع وأهل الشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة . وآخر على الخوارج ، وأسندوا في ذلك حديثاً رفعوه .
قال ابن كثير : وإسناد ذلك لا يصحّ . ثم قال : والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفاً له ، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق . فمن اختلف فيه ( وكانوا شيعاً ) أي : فرقاً كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات ، فإن الله تعالى قد بّرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما هم فيه ، وهذه الآية كقوله تعالى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } الآية [ الشورى 13 ] . وفي الحديث : < نحن معاشر الأنبياء أولاد عَلاَّت . ديننا واحد > . فهذا هو الصراط المستقيم ، وهو ما جاءت به الرسل من عبادة الله وحده لا شريك له ، والتمسك بشريعة الرسول المتأخر ، وما خالف ذلك فضلالات وجهالات وآراء وأهواء . والرسل برءاء منها كما قال الله تعالى : { لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } ؛ ثم قال : وقوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } كقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [ الحج : 17 ] انتهى .
وقد أخرج أبو داود عن معاوية قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < ألا إِنَّ مَن قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملّة . وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين . اثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة ، وهي الجماعة > . ورواه الترمذي عن عبد الله بن عَمْرو ، وفيه : قالوا من هي يا رسول الله ؟ قال : من كان على ما أنا عليه وأصحابي .
ثم بين لطفه سبحانه في حكمه وعدله يوم القيامة . فقال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } . [ 160 ]
{ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ } أي : جاء يوم القيامة بالأعمال الحسنة : { فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } يعني : عشر حسنات أمثالها في الحسن .
قال المهايمي : كمن أهدى إلى سلطان عنقود يعطيه بما يليق بسلطنته ، لا قيمة العنقود . انتهى . والعشر أقل ما وعد من الأضعاف . وقد جاء الوعد بسبعين ، وبسبعمائة وبغير حساب . ولذلك قيل : المراد بذكر العشر بيان الكثرة لا الحصر في العدد الخاص : { وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ } أي : بالأعمال السيئة : { فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا } في القبح .
قال المهايمي : فمن كفر خلد في النار ، فإنه ليس أقبح من كفره . كمن أساء إلى سلطان يقصد قتله . ومن فعل معصية عذب بقدرها كمن أساء إلى آحاد الرعية . انتهى .
{ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي : بنقص الثواب وزيادة العقاب .
لطيفة :
قال القاشاني في قوله تعالى : { فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } : هذا أقل درجات الثواب . وذلك أن الحسنة تصدر بظهور القلب والسيئة بظهور النفس . فأقل درجات ثوابها أنه يصل إلى مقام القلب الذي يتلوا مقام النفس في الارتقاء ، تلو مرتبة العشرات للآحاد في الأعداد . وأما في السيئة فلأنه لا مقام أدون من مقام النفس . فينحط إليه بالضرورة . فيرى جزاءه في مقام النفس بالمثل . ومن هذا يعلم أن الثواب من باب الفضل . فإنه يزيد به صاحبه ويتنورّ استعداده ويزداد قبوله لفيض الحق . فيتقوى على أضعاف ما فعل ويكتسب به أجوراً متضاعفة إلى غير نهاية ، بازدياد القبول على فعل كل حسنة وزيادة القدرة والشغف على الحسنة عند زيادة الفيض إلى ما لا يعلمه إلا الله . كما قال بعد ذكر أضعافها إلى سبعمائة : { وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } [ البقرة 261 ] ، وأن العقاب من باب العدل إذ العدل يقتضي المساواة . ومن فعل بالنفس ، إذا لم يعف عنه ، يجازي بالنفس سواء . انتهى .
تنبيه :
وردت أحاديث كثيرة في معنى الآية . فروى الإمام أحمد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فيما يروي عن ربه تعالى : < إن ربكم تبارك وتعالى رحيم . من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة . فإن عملها كتبت له عشرة إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة . ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة . فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله ولا يهلك على الله إلا هالك > . ورواه البخاريّ ومسلم والنسائيّ . وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي ذرّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < يقول الله تبارك وتعالى : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } أو أزيد . ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر . ومن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ,من تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً . ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة بعد أن لا يشرك بي شيئاً ، لقيته بمثلها مغفرة > . وروى الشيخان عن أبي هريرة . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < يقول الله تعالى : إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإن عملها فاكتبوها بمثلها . وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة ، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة ، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة > لفظ البخاري . وروى الطبراني عن أبي مالك الأشعريّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < الجمعة كفارة لما بينها وبين الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام . وذلك لأن الله تعالى قال : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } > . وروى الإمام أحمد عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الدهر كله > . ورواه النسائي والترمذيّ وزاد : فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه : { مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } ، اليوم بعشرة أيام . وبقيت أخبار أخرى . وفيما ذكر كفاية .
ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبر أولئك المفرقين دينهم بما أنعم سبحانه عليه ، من إرشاده إلى دينه القويم بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ 161 ]
{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وهو دين الإسلام الذي ارتضاه لعباده المخلصين : { دِيناً } نصب على البلد من محل ( إلى صراط ) لأن معناه هداني صراطاً .
بدليل قوله : { وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً } [ النساء 175 ] ، أو مفعول لمضمر يدل عليه المذكور . أي : عرفني ديناً . أو مفعول ( هداني ) . و ( هدى ) يتعدى إلى اثنين : { قِيَماً } صفة ( ديناً ) يقرأ بالتشديد أي : ثابتاً أبداً لا تغيره الملل والنحل ، ولا تنسخه الشرائع والكتب ، مقوماً لأمر المعاش والمعاد . ويقرأ بالتخفيف . على أنه مصدر نعت به . وأصله قوَم كَعِوَض . فأُعلَّ لإعلال فعله كالقيام { مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } المتفق على صحتها وهي التي أعرض بها عن كل ما سواه تعالى . عطف بيان لـ ( ديناً ) : { حَنِيفاً } حال من : { إِبْرَاهِيمَ } أي : مائلاً عن كل دين وطريق باطل ، فيه شركٌ ما ، وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } اعتراض مقرر لنزاهته عليه السلام عما عليه المفرقون لدينه من عقد وعمل . أي : ما كان منهم في أمر من أمور دينهم أصلاً وفرعاً . صرح بذلك ردّاً على الذين يدعون أنهم على ملته من مشركي مكة واليهود والنصارى . أفاده أبو السعود .
تنبيه :
قال ابن كثير : هذه الآية كقوله تعالى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ النحل : 123 ] وليس يلزم من كونه أمر باتباع ملة إبراهيم الحنيفية ، أن يكون إبراهيم أكمل منه فيها . لأنه عليه السلام قام بها قياماً عظيماً ، وأكملت له إكمالاً تامّاً لم يسبقه أحد إلى هذا الكمال . ولهذا قال : أنا خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم على الإطلاق وصاحب المقام المحمود الذي يرغب إليه الخلق ، حتى الخليل عليه السلام ، وروى ابن مردويه عن ابن أَبْزَى عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال : < أصبحنا على ملة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا وملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين > . وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أي : الأديان أحب إلى الله تعالى ؟ قال : < الحنيفية السمحة > ، وروى الإمام أحمد عن عائشة قالت : وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذقني على منكبيه لأنظر إلى زَفْنِ الحبشة . حتى كنت التي مللت ، فانصرفت عنهم . وقالت عائشة : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ : < ليعلم يهود أن في ديننا فسحة . إني أرسلت بحنيفية سمحة > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 162 ]
{ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي } لما أن المأمور به متعلق بفروع الشرائع ، وما سبق بأصولها . أي : إن صلاتي إلى الكعبة : { وَنُسُكِي } أي : طوافي وذبحي للهدايا في الحج والعمرة ، أو عبادتي كلها : { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي } أي : وما آتيه في حياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح . أو طاعات الحياة والخيرات المضافة إلى الممات ، كالوصية والتدبير . أو الحياة والممات أنفسهما : { لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [ 163 ]
{ لاَ شَرِيكَ لَهُ } أي : خالصة لله لا أشرك فيها غيره : { وَبِذَلِكَ } أي : القول أو الإخلاص : { أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } أي : من هذه الأمة . لأن إسلام كل نبيّ متقدم على إسلام أمته .
قال ابن كثير : يأمر تعالى نبيه أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله تعالى ويذبحون لغير اسمه ؛ أنه مخالف لهم في ذلك . فإن صلاته لله ونسكه على اسمه وحده لا شريك له .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [ 164 ]
{ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً } فأشركه في عبادته ، وهو جواب عن دعائهم له عليه الصلاة والسلام إلى عبادة آلهتهم ، وفي إيثار نفي البغية والطلب ، على نفي العبادة ، أبلغيّة لا تخفى : { وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } حال في موضع العلة للإنكار والدليل له . أي : وكل ما سواه مربوب مثلي لا يصلح للربوبية ، فلا أكون عبداً لعبده .
قال ابن كثير : أي : فلا أتوكل إلا عليه ولا أنيب إلا إليه . لأنه رب كل شيء ومليكه وله الخلق والأمر . ففي هذه الآية الأمر بإخلاص العبادة والتوكل . كما تضمنت الآية التي قبلها إخلاص العبادة له لا شريك له . وهذا المعنى يقرن بالآخر كثيراً . كقوله تعالى مرشداً لعباده أن يقولوا : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . وقوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود 123 ] ، وقوله : { قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [ الملك 29 ] . وقوله : { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً } [ المزمل : 9 ] وأشباه ذلك من الآيات .
{ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } .
قال ابن كثير : إخبار عن الواقع يوم القيامة من جزاء الله تعالى وحكمه وعدله أن النفوس إنما تجازى بأعمالها إن خيراً فخير وإن شراً فشر . وأنه لا يحمل من خطيئة أحد على أحد . وهذا من عدله تعالى .
وقال أبو السعود : كانوا يقولون للمسلمين : { اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } إما بمعنى ليكتب علينا ما عملتم من الخطايا لا عليكم ، وإما بمعنى لنحمل يوم القيامة ما كتب عليكم من الخطايا - فهذا رد له بالمعنى الأول . أي : لا تكون جناية نفس من النفوس إلا عليها . ومحال أن يكون صدورها عن شخص وقرارها على شخص آخر ، حتى يتأتى ما ذكرتم ، وقوله تعالى : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } رد له بالمعنى الثاني . أي : لا تحمل يومئذ نفس حاملة ، حمل نفس أخرى ، حتى يصح قولكم .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : هذه الآية أصل في أنه لا يؤاخذ أحد بفعل أحد ، وقد ردت عائشة به على من قال : إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه . أخرجه البخاري ، وأخرج ابن أبي حاتم عنها ؛ أنها سئلت عن ولد الزنى ؟ فقال ليس عليه من خطيئة أبويه شيء . وتلت هذه الآية .
قال : الكيا الهراسيّ : ويحتج بقوله : { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } في عدم نفوذ تصرف زيد على عَمْرو إلاَّ ما قام عليه الدليل . قال ابن الفرس : واحتج به من أنكر ارتباط صلاة المأموم بصلاة الإمام .
وقال بعض الزيدية : قوله تعالى : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } يعني في أمر الآخرة . فيبطل قول إن أطفال المشركين يعذبون بكفر آبائهم . ويلزم أن لا يعذب الميت ببكاء أهله عليه . حيث لا سبب له . وأما في أمر الدنيا ، فقد خص هذا بحديث العاقلة ، وكذلك أسر أولاد الكفار ونحو ذلك . انتهى . : { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ } أي : رجوعكم بعد الموت يوم القيامة : { فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } يتميز الحق من الباطل . وهذه الآية كقوله تعالى : { قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } [ الزخرف : 25 - 26 ] [ في المطبوع : الزخرف : 32 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 165 ]
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ } جمع خليفة . أي : يخلف بعضكم بعضاً فيها ، فتعمرونها خلفاً بعد سلف ، للتصرف بوجوه مختلفة : { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } أي : فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوئ والمناظر والأشكال والألوان ، وله الحكمة في ذلك . كقوله تعالى : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً } [ الزخرف 32 ] ، وقوله سبحانه : { انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } [ الإسراء : 21 ] ، وقوله تعالى : { لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ } أي : ليختبركم في الذي أنعم به عليكم ، أي : امتحنكم ، ليختبر الغنيّ في غناه ويسأله عن شكره ، والفقير في فقره ويسأله عن صبره . وفي صحيح مسلم ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الدنيا حلوة خضرة . وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون . فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ، فغن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء . أفاده ابن كثير .
ثم رهب تعالى من معصيته ورغّب في طاعته بقوله سبحانه : { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ } أي : لمن عصاه وخالف رسله : { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : لمن والاه واتبع رسله .
لطائف :
الأولى : قال السيوطيّ في " الإكليل " . استدل بقوله تعالى : { جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ } مَنْ أجاز أن يقال للإمام : خليفة الله . انتهى .
أي : بناء على وجهٍ في الآية . وهو أن المعنى : جعلكم خلائف الله في الأرض تتصرفون فيها . ذكره المفسرون . وآثرتُ ، قبلُ ، غير هذا الوجه لأنه أدق وأظهر ، والله أعلم .
الثانية : قال القاضي : وصف العقاب ولم يضفه إلى نفسه ، ووصف ذاته بالمغفرة وضم إليه الوصف بالرحمة ، وأتى ببناء المبالغة واللام المبالغة واللام المؤكدة - تنبيهاً على أنه سبحانه وتعالى غفور بالذات ، معاقب بالعرض ، كثير الرحمة مبالغ فيها ، قليل العقوبة مسامح فيها . انتهى .
الثالثة : قال ابن كثير : إن الحق تعالى ، كثيراً ما يقرن في القرآن بين هاتين الصفتين كقوله : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } [ الرعد : 6 ] ، وقوله : { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيم ُ *وأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ } [ الحجر : 49 - 50 ] . إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على الترغيب والترهيب .
فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة وصفة الجنة والترغيب فيما لديه ، وتارة يدعوهم إليه بالرهبة وذكر النار وأنكالها وعذابها والقيامة وأهوالها . وتارة بهما . لينجع في كلّ بحسبه . جعلنا الله ممن أطاعه فيما أمر ، وترك ما نهى عنه وزجر ، إنه قريب مجيب .
قد تم بحمده تعالى الكلام على " محاسن تأويل " سورة الأنعام . وذلك ضحوة الأربعاء في 28 ربيع الأول . في شباك السدّة اليمنى العليا من جامع السنانية عام 1321 . وكان تخلّل مدة شهر ونصف ، وقفت عن كتابة شيء من هذه السورة فيها ، وذلك من آخر البحث في قوله تعالى : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ } الآية ، لعارض رحلتي إلى بيت المقدس في 28 محرم من العام المذكور . وبعد العود إلى الوطن في 8 ربيع الأول بدأت من قوله تعالى : { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ } الآية . في 20 ربيع الأول ، وتمت السورة في التاريخ المتقدم ، وَالْحَمدُ للهِ الَّذي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أنْ هَدَانَا اللهُ . بقلم جامعه جمال الدين القاسميّ .
ويليه الجزء الخامس - ويحتوي على تفسير سُوَر :
7 - الأعراف ، 8 - الأنفال ، 9 - التوبة .(/)
سورة الأعراف
بسم الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
القول في تأويل قوله تعالى :
{ المص } [ 1 ] .
{ المص } تقدم الكلام في أول سورة البقرة ، على حروف فواتح السور ، والمذاهب فيها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } [ 2 ] .
{ كِتَابٌ } أي : هذا كتاب : { أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ } أي : لا يكن فيك ضيق صدر من تبليغه ، مخافة أن يكذبوك ، أو أن تقصر في القيام بحقه .
فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف قومه ، وتكذيبهم له ، وإعراضهم عنه ، وأذاهم . فكان يضيق صدره من الأداء ، ولا ينبسط له ، فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم .
قال الناصر : ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ } الآية : { لِتُنْذِرَ بِهِ } أي : بالكتاب المنزل ، المشركين ليؤمنوا : { وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } أي : عظة لهم .
وتخصيص الذكرى بالمؤمنين للإيذان باختصاص الإنذار بالمشركين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ } [ 3 ] .
قوله تعالى : { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } خطاب منه تعالى لكافة المكلفين بالأمر باتباع ما أنزل ، وهو القرآن ، والمراد بـ : { مَا أُنزِلَ } : القرآن والسنة ، وقوفا مع عمومه ، لقوله سبحانه : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : استدل به بعضهم على أن المباح مأمور به ، لأنه من جملة ما أنزل الله ، وقد أمرنا الله باتباعها - انتهى - .
وأقول : هذا غلو في الاستنباط ، وتعمق بارد ، ويرحم الله القائل : إذا اشتد البياض صار بَرَصاً .
{ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } أي : لا تتبعوا أولياء غيره تعالى ، من الجن والإنس ، فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع .
{ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ } أي : ما تتعظون إلا قليلا ، حيث لا تتأثرون ولا تعملون بموجبه ، وتتركون دينه تعالى ، وتتبعون غيره .
ثم حذرهم تعالى بأسه ، إن لم يتبعوا المنزل إليهم ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } [ 4 ] .
{ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } أي : أردنا إهلاكها بسبب مخالفة المنزل إليهم .
{ فَجَاءَهَا بَأْسُنَا } أي : فجاء أهلها عذابنا .
{ بَيَاتاً } أي : بائتين . كقوم لوط . والبيتوتة : الدخول في الليل ، أي : ليلا قبل أن يصبحوا .
{ أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } أي : قائلين نصف النهار ، كقوم شعيب . والمعنى : فجاءها بأسنا غفلة ، وهم غير متوقعين له ، ليلا وهم نائمون ، أو نهاراً وهم قائلون وقت الظهيرة ، وكل ذلك وقت الغفلة .
والمقصود أنه جاءهم العذاب على حين غفلة منهم ، من غير تقدم أمارة تدلهم على وقت نزول العذاب ، وفيه وعيد وتخويف للكفار ، كأنه قيل لهم : لا تغتروا بأسباب الأمن الراحة ، فإن عذاب الله إذا نزل ، نزل دفعة واحدة .
ونظير هذه الآية قوله تعالى : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَو َأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ } ؟
ثم تأثر تعالى عذابهم الدنيوي ببيان عذابهم الأخروي ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } [ 6 ]
{ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ } أي : المرسل إليهم وهم الأمم ، يسألهم عما
أجابوا عنه رسلهم كما قال : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } { وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } أي : عما أجيبوا به ، كما قال سبحانه : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } والمراد بالسؤال توبيخ الكفرة وتقريعهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ } [ 7 ] .
{ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ } أي : على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم { بِعِلْمٍ } أي : عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة .
{ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ } أي : عنهم وعما وجد منهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ 8 ] .
{ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ } أي : وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها ، يوم يسأل الله الأمم ورسلهم ، العدل .
{ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } أي : حسناته في الميزان .
{ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : الناجون من السخط والعذاب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ } [ 9 ] .
{ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } أي : حسناته في الميزان { فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } بالعقوبة { بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ } أي : يكفرون .
تنبيهات :
الأول : قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآية ذكر الميزان ، ويجب الإيمان به . انتهى .
وقال الإمام الغزالي في " المضنون " : تعلق النفس بالبدن كالحجاب لها عن حقائق الأمور ، وبالموت ينكشف الغطاء كما قال تعالى : { فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ } ، ومما يكشف له تأثير أعماله مما يقربه إلى الله تعالى ويبعده ، وهي مقادير تلك الآثار ، وإن بعضها أشد تأثيراً من البعض ، ولا يمتنع في قدرة الله تعالى أن يجري سبباً يعرف الخلق في لحظة واحدة مقادير الأعمال ، بالإضافة إلى تأثيراتها في التقريب والإبعاد . فحدّ الميزان ما يتميز به الزيادة من النقصان ، ومثاله في العالم
المحسوس مختلف ، فمنه الميزان المعروف ، ومنه القبان للأثقال ، والإصطرلاب لحركات الفلك والأوقات ، والمسطرة للمقادير والخطوط ، والعروض لمقادير حركات الأصوات . فالميزان الحقيقي ، إذا مثله الله عز وجل للحواس ، مثله بما شاء من هذه الأمثلة أو غيرها .
فحقيقة الميزان وحده موجود في جميع ذلك ، وهو ما يعرف به الزيادة من النقصان ، وصورته تكون مقدرة للحس عند التشكيل ، وللخيال عند التمثيل ، والله تعالى أعلم بما يقدره من صنوف التشكيلات ، والتصديق بجميع ذلك واجب . انتهى .
الثاني : الذي يوضع في الميزان يوم القيامة . قيل : الأعمال وإن كانت أعراضاً إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساماً .
قال البغوي : يروى هذا عن ابن عباس ، كما جاء في " الصحيح " : < أن البقرة وآل عِمْرَان يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غَيابتان ، أو فِرقان من طير صَوَاف > .
ومن ذلك في " الصحيح " : قصة القرآن وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللون ، < فيقول : من أنت ؟ فيقول أنا القرآن الذي أسهرت ليلك ، وأظمأت نهارك > ، وفي حديث البراء في قصة سؤال القبر : < فيأتي المؤمن شاب حسن اللون ، طيب الريح ، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك الصالح > . وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق .
فالأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية ، تبرز على هذا القول في النشأة الآخرة بصور جوهرية ، مناسبة لها في الحسن والقبح .
فالذنوب والمعاصي تتجسم هناك ، وتتصور بصورة النار ، وعلى ذلك حمل قوله تعالى : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } ، وقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } . الآية
وكذا قوله صلى الله عليه وسلم في حق من يشرب من إناء الذهب والفضة : < إنما يجرجر في بطنه نار جهنم > ، ولا بعد في ذلك ، ألا يرى أن العلم يظهر في عالم المثال على صورة اللبن .
وقيل : صحائف الأعمال هي التي توزن ، ويؤيده حديث البطاقة ، فقد أخرج أحمد والترمذي وصححه ، وابن ماجه والحاكم والبيهقي وابن مردويه عن عبد الله بن عُمَر وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً ، كل سجل منها مد البصر ، فيقول : أتنكر من هذا شيئاً ؟ أظلمك كتبتي الحافظون ؟ فيقول : لا ، يا رب ! فيقول : أفلك عذر أو حسنة ؟ فيهاب الرجل ، فيقول : لا يا رب ، فيقول : بلى ، إن لك عندنا حسنة ، فإنه لا ظلم عليك اليوم ، فيخرج له بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، فيقول : يا رب ! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقال : إنك لا تظلم ، فتوضع السجلات في كفة ، والبطاقة في كفة ، فطاشت السجلات ، وثقلت البطاقة > .
وقيل : يوزن صاحب العمل ، كما في الحديث : < يؤتى يوما القيامة بالرجل
السمين ، فلا يزن عند الله جناح بعوضة ، ثم قرأ : { فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً } > .
وفي مناقب عبد الله بن مسعود ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < أتعجبون من دقة ساقيه ؟ والذي نفسي بيده ! لهما في الميزان أثقل من أحد > .
قال الحافظ ابن كثير : وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار ، بأن يكون ذلك كله صحيحاً ، فتارة توزن الأعمال ، وتارة يوزن محلها ، وتارة يوزن فاعلها . والله أعلم - انتهى .
قال أبو السعود : وقيل : الوزن عبارة عن القضاء السوي ، والحكم العادل ، وبه قال مجاهد والأعمش والضحاك ، واختاره كثير من المتأخرين ، بناء على أن استعمال لفظ الوزن في هذا المعنى شائع في اللغة والعرف بطريقة الكناية ، قالوا : إن الميزان إنما يراد به التوصل إلى معرفة مقادير الشيء ، ومقادير أعمال العباد لا يمكن إظهارها بذلك ، لأنها أعراض قد فنيت ، وعلى تقدير بقائها ، لا تقبل الوزن . انتهى . وأصله للرازي .
قال في " العناية " : فمنهم من أول الوزن بأنه بمعنى القضاء والحكم العدل ، أو مقابلتها بجزائها ، من قولهم : وازنه ، إذا عادله ، وهو إما كناية أو استعارة ، بتشبيه ذلك بالوزن المنتصف بالخفة والثقل ، بمعنى الكثرة والقلة ، والمشهور من مذهب أهل السنة أنه حقيقة بمعناه المعروف . انتهى .
فإن جمهور الصدر الأول على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل .
قال في " فتح البيان " : وأما المستبعدون لحمل هذه الظواهر على حقائقها فلم يأتوا في استبعادهم بشيء من الشرع يرجع إليه ، بل غاية ما تشبثوا به مجرد الإستبعادات العقلية ، وليس في ذلك حجة لأحد ، فهذا إذا لم تقبله عقولهم ، فقد قبلته عقول قوم هي أقوى من عقولهم ، من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، حتى جاءت البدع كالليل المظلم ، وقال كلٌ ما شاء ، وتركوا الشرع خلف ظهورهم ، وليتهم جاءوا
بأحكام عقلية يتفق العقلاء عليها ، ويتحد قبولهم لها ، بل كل فريق يدعي على العقل ما يطابق هواه ، ويوافق ما يذهب إليه هو ومن تابعه ، فتتناقض عقولهم على حسب ما تناقضت مذاهبهم ، يعرف هذا كل منصف ، ومن أنكره فليصفِّ فهمه وعقله عن شوائب التعصب والتمذهب ، فإنه إن فعل ذلك أسفر الصبح لعينيه .
وقد ورد ذكر الوزن والميزان في مواضع من القرآن كقوله : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } وقوله : { فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } وقوله : { وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } .
والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً مذكورة في كتب السنة المطهرة ، وما في الكتاب والسنة يغني عن غيرهما ، فلا يلتفت إلى تأويل أحد أو تحريفه مع قوله تعالى وقول رسوله الصادق المصدوق ، والصباح يغني عن المصباح . انتهى .
وخلاصته ، أن الأصل في الإطلاق الحقيقة ، ولا يعدل عنها إلى المجاز إلا إذا تعذرت ، ولا تعذر هاهنا .
الثالث : إن قلت : أليس الله عز وجل يعلم مقادير أعمال العباد ؟ فما الحكمة في وزنها ؟ قلت : فيه حكم :
منها : إظهار العدل ، وإن الله عز وجل لا يظلم عباده .
ومنها : امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا وإقامة الحجة عليهم في العقبى .
ومنها : تعريف العباد ما لهم من خير وشر ، وحسنة وسيئة .
ومنها : إظهار علامة السعادة والشقاوة .
ونظيره ، أنه تعالى أثبت أعمال العباد في اللوح المحفوظ ، ثم في صحائف الحفظة الموكلين ببني آدم ، من غير جواز النسيان عليه سبحانه وتعالى ، كذا في " اللباب " .
وقال أبو السعود : إن قيل : إن المكلف يوم القيامة إما مؤمن بأنه تعالى حكيم منزه عن الجور ، فيكفيه حكمه تعالى بكيفيات الأعمال وكمياتها ، وإما منكر له فلا يسلم حينئذ أن رجحان بعض الأعمال على بعض لخصوصيات راجعة إلى ذوات
تلك الأعمال ، بل يسنده إلى إظهار الله تعالى إياه على ذلك الوجه ، فما الفائدة في الوزن ؟
أجيب بأنه ينكشف الحال يومئذ ، وتظهر جميع الأشياء بحقائقها على ما هي عليه ، وبأوصافها وأحوالها في أنفسها من الحسن والقبح ، وغير ذلك ، وتنخلع عن الصور المستعارة التي بها ظهرت في الدنيا ، فلا يبقى لأحد ممن يشاهدها شبهة في أنها هي التي كانت في الدنيا بعينها ، وأن كل واحد منها قد ظهر في هذه النشأة بصورته الحقيقية المستتبعة لصفاته ، ولا يخطر بباله خلاف ذلك - انتهى .
وقد سبقه إلى نحوه الرازي .
ولما أمر تعالى أهل مكة باتباع ما أنزل إليهم ، ونهاهم عن اتباع غيره ، وبيّن لهم وخامة عاقبته بالإهلاك في الدنيا ، والعذاب في الآخرة ، ذكرهم فنون نعمه ترغيباً في اتباع أمره ونهيه ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } [ 10 ]
{ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ } أي : جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً ، أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها .
{ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ } جمع معيشة ، وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها ، أو ما يتوصل به إلى ذلك من المتاجر والمزارع والصنائع .
{ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } الكلام فيه كالذي في قوله : { قليلاً ما تذكرون } وقد مرّ قريباً ، والتذييل مسوق لبيان سوء حال المخاطبين وتحذيرهم ، أي : ما مننا عليكم بذلك إلا لتشكروا بمتابعة ما أنزلنا إليكم ، وترك متابعة من دوننا ، فتحصلوا معايش السعادات الأبدية .
ثم بيّن تعالى نعمته على آدم التي سرت إلى بنيه ، وبيّن لهم عداوة إبليس وما انطوى عليه من الحسد لأبيهم ، ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ } [ 11 ] .
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ }
هذا كقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } وفي تصدير هذه الآية بالقسم وحرف التحقيق ، كالتي قبلها ، إعلام بكمال العناية بمضمونها .
قال أبو السعود : وإنما نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين ، مع أن المراد بهما خلق آدم عليه السلام وتصويره حتما ، توفية لمقام الإمتنان حقه ، وتأكيدا لوجوب الشكر عليهم ، بالرمز إلى أن لهم حظا من خلقه عليه السلام وتصويره ، لما أنهما ليسا من الخصائص المقصورة عليه ، بل من الأمور السارية إلى ذريته جميعاً ، إذ الكل مخلوق في ضمن خلقه على نمطه ، ومصنوع على شاكلته ، فكأنهم الذي تعلق به خلقه وتصويره ، أي : خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصوّر ، ثم صوّرناه أبدع تصوير ، وأحسن تقويم ، سار إليكم جميعاً . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ 12 ]
{ قَالَ } سبحانه وتعالى : { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } أي : أن تسجد كما وقع في سورة : { ص } ، و لا ، مزيدة للتنبيه على أن الموبّخ عليه ترك السجود ، ولتوكيد لمعنى الفعل الذي دخلت عليه وتحقيقه ، كما في قوله تعالى : { لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ } ، كأنه قيل : ليتحقق علم أهل الكتاب ، وما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك .
وتوقف بعض المحققين في وجه إفادة لا النافية تأكيد ثبوت الفعل مع إيهام نفيه ، واستظهر الشهاب أنها لا تؤكده مطلقاً ، بل إذا صحبت نفياً مقدماً أو مؤخراً صريحاً أو غير صريح ، كما في : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } ، وكما هنا ، فإنها تؤكد تعلق المنع به . انتهى .
وقيل : ما منعك ، محمول على ما حملك وما دعاك ، مجازاً أو تضميناً .
وقال الراغب : المنع ضد العطية ، وقد يقال في الحماية ، والمعنى ما حماك عن عدم السجود ؟ ولا يخفى أن السؤال عن المانع من السجود ، مع علمه به ، للتوبيخ ولإظهار معاندته وكفره وكبره ، وافتخاره بأصله وتحقيره أصل آدم عليه السلام ، كما أوضحه قوله تعالى : { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } قال ابن كثير : هذا من العذر الذي هو أكبر من الذنب . انتهى .
وإنما قال هذا ولم يقل : منعني كذا ، مطابقة للسؤال ، لأن في هذه الجملة
التي جاء بها مستأنفة ، ما يدل على المانع ، وهو اعتقاده أنه أفضل منه ، والفاضل لا يفعل مثل ذلك للمفضول ، مع ما في طيّها من إنكار أن يؤمر مثله بالسجود لمثله .
فالجملة متضمنة لجواب بقياس استدلاليّ ؛ وهي من الأسلوب الأحمق كما في قصة نمرود . وقد علل ما ادعاه من الخيرية والفضل بزعمه أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين ، لأنها جوهر نورانيّ ، وهو ظلمانيّ ، ولقد أخطأ اللعين حيث خص الفضل بما من جهة المادة والعنصر ، وغفل عما يكون باعتبار الفاعل ، كما أنبأ عنه قوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } . أي : بغير واسطة ، وباعتبار الصورة ، كما نبه عليه بقوله : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } ، وباعتبار الغاية وهو ملاك الأمر ، ولذلك أمر الملائكة بالسجود له لما بين لهم أنه أعلم منهم بما يدور عليه أمر الخلافة في الأرض ، وأن له خواصّ ليست لغيره .
وبالجملة فالشيء كما يشرف بمادته ، يشرف بفاعله وغايته وصورته ، والثلاثة في آدم عليه السلام دونه ، فاستبان غلطه .
وفي " اللباب " أن عدو الله إبليس جهل وجه الحق ، وأخطأ طريق الصواب ، لأن من المعلوم أن من جوهر النار الخفة والطيش والارتفاع والاضطراب ، وهذا الذي حمله ، مع سابقة شقائه على الاستكبار عن السجود لآدم عليه السلام ، والاستخفاف بأمر ربه ، فأورده ذلك العطب والهلاك .
ومن جوهر الطين الرزانة والأناة والصبر والحلم والحياء والتثبت ، وهذا كان الداعي لآدم عليه السلام ، مع سابقة سعادته ، إلى التوبة من خطيئته ، ومسألته ربه العفو عنه والمغفرة .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجانّ من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم > . رواه مسلم .
تنبيه :
روى ابن جرير بإسناد صحيح عن الحسن في قوله تعالى :
{ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } قال : قال إبليس وهو أول من قاس .
وأخرج أيضاً بإسناد صحيح عن ابن سيرين قال : أول من قاس إبليس ، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس ، ولذا احتج بهذه الآية من ذهب إلى عدم جواز تخصيص النص بالقياس ، وإلا لما استوجب إبليس هذا الذم الشديد .
قال الرازي : بيان الملازمة أن قوله تعالى للملائكة : { اسجدوا لآدم } خطاب عام يتناول جميع الملائكة ، ثم إن إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس ، وهو أنه مخلوق من النار ، والنار أشرف من الطين ، ومن كان أصله أشرف فهو أشرف ، والأشرف لا يجوز أن لا يؤمر بخدمة الأدنى ، والدليل عليه أن هذا الحكم ثابت في جميع النظائر ، ولا معنى للقياس إلا ذلك .
وقد ثبت أن إبليس لما خصص العموم بهذا القياس استحق الذم ، وما ذاك إلا لعدم جوازه ، وأيضاً ففي الآية دلالة على ذلك من وجه آخر : وذلك لأن إبليس لما ذكر هذا القياس قال تعالى : { فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكونُ لَكَ أَن تَتكبَّرَ فِيهَا } فوصفه الله تعالى بكونه متكبراً ، بعد أن حكى عنه ذلك القياس الذي يوجب تخصيص النص ، وهذا يقتضي أن من حاول تخصيص عموم النص بالقياس تكبّر على الله .
ودلت هذه الآية على أن التكبر عليه تعالى يوجب العقاب الشديد ، والإخراج من زمرة الأولياء .
ثبت أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز ، وهذا هو المراد مما نقله الواحديّ في " البسيط " عن ابن عباس أنه قال : كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس ، فعصى ربه وقاس ، وأول من قاس إبليس فكفر بقياسه ، فمن قاس الدين بشيء من رأيه ، قرنه الله مع إبليس ، هذا ما نقله الواحدي في " البسيط " عن ابن عباس ، وأفاده الرازي .
وقد روي عن السلف آثار كثيرة في ذم القياس ، منها ما تقدم عن الحسن وابن سيرين وابن عباس ، وعن مسروق قال : لا أقيس شيئاً بشيء ، فتزلّ قدمي بعد ثبوتها .
وعن الشعبي : إياكم والقياس ، وإنكم إن أخذتم به أحللتم الحرام ، وحرمتم الحلال ، ولأن أتغنى غنية ، أحب إليّ من أن أقول في شيء برأيي .
وقد ذكر الحافظ ابن عبد البر رحمه الله من هذا المعنى آثاراً وافرة في " جامع بيان العلم وفضله " وقال : احتج من نفى القياس بهذه الآثار ومثلها ، وقالوا في حديث معاذ : إن معناه أن يجتهد رأيه على الكتاب والسنة ، وتكلم داود في إسناد حديث معاذ ، وردّه ودفعه من أجل أنه عن أصحاب معاذ ، ولم يُسَمُّوا ، قال الحافظ ابن عبد البر : وحديث معاذ صحيح مشهور ، رواه الأئمة العدول ، وهو أصل في الاجتهاد والقياس على الأصول ، ثم قال : وسائر الفقهاء قالوا في هذه الآثار وما كان مثلها في ذم القياس : إنه القياس على غير أصل ، أو القياس الذي يردّ به أصل ، والقول في دين الله بالظن ، ألا ترى إلى قول من قال منهم : أول من قاس إبليس ؟ لأن إبليس ردّ أصل العلم بالرأي الفاسد ، والقياس لا يجوز عند أحد ممن قال به إلا في رد الفروع إلى أصولها ، لا في رد الأصول بالرأي والظن ، وإذا صح النص من الكتاب والأثر بطل القياس
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } الآية ، و أي : أصل أقوى من أمر الله تعالى لإبليس بالسجود ، وهو العالم بما خُلق منه آدم ، وما خلق منه إبليس ؟ ثم أمره بالسجود له فأبى واستكبر لعلة ليست بمانعة من أن يأمره الله بما يشاء ، فهذا ومثله لا يحلّ ولا يجوز ، وأما القياس على الأصول ، والحكم للشيء بحكم نظيره ، فهذا ما لا يختلف فيه أحد من السلف ، وبل كل من رُوي عنه ذم القياس قد وجد له القياس الصحيح منصوصاً ، لا يدفع هذا إلا جاهل أو متجاهل ، مخالف للسلف في الأحكام .
وقال مسروق الوراق :
~كلنا من الدين قبل اليوم في سعةٍ
حتى ابتلينا بأصحاب المقاييس
~قاموا من السوق إذ قلت مكاسبهم فاستعملوا الرأي عند الفقر والبوس
~أما العُرَيب فقوم لا عطاء لهم وفي الموالي علاماتُ المفاليس
فلقيه أبو حنيفة فقال : هجوتنا ، نحن نرضيك ، فبعث إليه بدراهم فقال :
~إذا ما أهل مصرٍ بادَهونا بآبدةٍ من الفُتيا لطيفهْ
~أتيناهم بمقياسٍ صحيحٍ صَليبٍ من طراز أبي حنيفهْ
~إذا سمِعَ الفقيهُ بهِ وَعاهُ وأثبته بحِبر في صحيفهْ
قال ابن عبد البر : اتصلت هذه الأبيات ببعض أهل الحديث والنظر من أهل ذلك الزمن ، فقال :
~إذا ذو الرأي خاصَمَ عن قياسٍ وجاء ببدعة منه سخيفهْ
~أتيناهم بقول الله فيها وآثار مبرّزَةٌ شريفهْ
هكذا حكاه ابن عبد البر في " جامع فضل العلم " ، وله فيه في باب ما جاء في ذم القول في دين الله بالرأي والقياس على غير أصل ، مقالات سابغة جديرة بالمراجعة .
ومما ذكر فيه : أن أهل الحديث أفرطوا في أبي حنيفة ، وتجاوزوا الحدّ .
قال : والسبب الموجب لذلك ، عندهم ، إدخاله الرأي والقياس على الآثار ، واعتبارهما ، وأكثرُ أهل العلم يقولون : إذا صح الأثر بطل النظر ، وكان ردّه لما ردّ من أخبار الآحاد بتأويل محتمل ، وكثير منه قد تقدمه إليه غيره ، وتابعه عليه مثله ممن قال بالرأي
وجُلّ ما يوجد له من ذلك ما كان منه اتباعاً لأهل بلده ، كإبراهيم النَّخَعِي وأصحاب ابن مسعود ، إلا أنه أغرق هو وأصحابه في تنزيل النوازل ، والجواب فيها برأيهم واستحسانهم ، فأتى منهم في ذلك خلاف كبير للسلف ، ثم قال : وما أعلم أحداً من أهل العلم إلا وله تأويل في آية ، أو مذهب في سنة ، ردّ من أجل ذلك المذهب سنة أخرى بتأويل سائغ ، أو ادعاء نسخ ، إلا أن لأبي حنيفة من ذلك كثيراً ، وهو يوجد لغيره قليل .
قال : لليث بن سعد أنه قال : أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة كلها مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، مما قال مالك فيها برأيه . قال : وقد كتبت إليه أعظه في ذلك . هذا كلام ابن عبد البر ملخصاً .
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاويه : أنه روي عن علي وزيد أنهما احتجا بقياس ، فمن ادعى إجماعهم - أي : الصحابة - على ترك العمل بالرأي والقياس مطلقاً فقد غلط ، ومن ادعى أنه من المسائل ما لم يتكلم فيها أحد منهم إلا بالرأي والقياس فقد غلط ، بل كان كل منهم يتكلم بحسب ما عنده من العلم ، فمن رأى دلالة الكتاب ذكرها ، ومن رأى دلالة الميزان ذكرها . انتهى .
وقال ابن تيمية رحمه الله في فتوى أخرى : والصحابة كانوا يحتجون في عامة مسائلهم بالنصوص كما هو مشهور عنهم ، وكانوا يجتهدون رأيهم ويتكلمون بالرأي ، ويحتجون بالقياس الصحيح أيضاً .
والقياس الصحيح نوعان :
أحدهما : أن يعلم أنه لا فارق بين الفرع والأصل إلا فرقاً غير مؤثر في الشرع ، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن ، فقال : < ألقوها وما حولها ، وكلوا سمنكم > ، وقد أجمع المسلمون على أن هذا الحكم ليس مختصاً بتلك الفأرة وذلك السمن ، فلهذا قال جماهير العلماء : أن [ في المطبوع : إنه ] أي : نجاسة وقعت في دهن من الأدهان كالفأرة التي تقع في الزيت ، وكالهرّ الذي يقع في السمن ، فحكمها حكم تلك الفأرة التي وقعت في السمن .
ومن قال من أهل الظاهر : إن هذا الحكم لا يكون إلا في فأرة وقعت في سمن ، فقد أخطأ ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص الحكم بتلك الصورة ، لكن لما استفتى عنها أفتى فيها ، و الاستفتاء إذا وقع عن قضية معينة أو عن نوع ، فأجاب المفتي عن ذلك ، خصه لكونه سئل عنه ، لا لاختصاصه
بالحكم ، ومثل هذا أنه سئل عن رجل أحرم بالعمرة وعليه جبة مضمّخة بخلوق فقال : انزع عنك الجبة الخلوق ، واصنع في عمرتك ما كنت تصنع في حجك .
فأجابه عن الجبة ، ولو كان عليه قميص أو نحوه ، كان الحكم كذلك بالإجماع .
والنوع الثاني من القياس : أن ينص على حكم لمعنى من المعاني ، ويكون ذلك المعنى موجوداً في غيره ، فإذا قام دليل من الأدلة على أن الحكم متعلق بالمعنى المشترك بين الأصل والفرع سوى بينهما ، وكان هذا قياساً صحيحاً .
فهذان النوعان كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يستعملونهما ، وهما من باب فهم مراد الشارع ، فإن الاستدلال بكلام الشارع يتوقف على أن يعرف ثبوت اللفظ عنه ، وعلى أن يعرف مراده باللفظ ، وإذا عرفنا مراده ، فإن علمنا أنه حكم للمعنى المشترك ، لا لمعنى يخص الأصل ، أثبتنا الحكم حيث وجد المعنى المشترك ، وإن علمنا أنه قصد تخصيص الحكم بمورد النص ، منعنا القياس ، كما أنا علمنا أن الحج خص به الكعبة ، وأن الصيام الفرض خص به شهر رمضان ، وأن الاستقبال خص به جهة الكعبة ، وأن المفروض من الصلوات خص به الخمس ، ونحو ذلك ، فإنه يمتنع هنا أن نقيس على المنصوص غيره .
وإذا عين الشارع مكاناً أو زماناً للعبادة ، كتعيين الكعبة وشهر رمضان ، أو عين بعض الأقوال والأفعال ، كتعيين القراءة في الصلاة ، والركوع والسجود ، بل وتعيين التكبير وأم القرآن ، فإلحاق غير المنصوص به يشبه حال أهل اليمن الذين أسقطوا تعيين الأشهر الحرم ، وقالوا : المقصود أربعة أشهر من السنة ، فقال تعالى : { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ } وقياس الحلال بالنص على الحرام بالنص ، من جنس قياس الذين قالوا : { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ للَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا }
وكذلك قياس المشركين الذين قاسوا الميتة بالمذكّي وقالوا أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله ؟ قال تعالى : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } . فهذه الأقيسة الفاسدة ، وكل قياس دل النص على فساده فهو فاسد ، وكل من الحق منصوصاً بمنصوص يخالف حكمه ، فقياسه فاسد . وكل من سوى بين شيئين بغير الأوصاف المعتبرة في حكم الله ورسوله فقياسه فاسد . لكن من القياس ما يعلم صحته ، ومنه ما يعلم فساده ، ومنه ما لم يتبين أمره . فمن أبطل القياس مطلقاُ فقوله باطل . ومن استدل بالقياس المخالف للشرع فقوله باطل .
ومن استدل بقياس لم يقم الدليل على صحته ، فقد استدل بما لا يعلم صحته ، بمنزلة من استدل برواية رجل مجهول لا يعلم عدالته ، فالحجج الأثرية والنظرية تنقسم إلى ما يعلم صحته ، وإلى ما يعلم فساده ، وإلى ما هو موقوف حتى يقوم الدليل على أحدها .
ولفظ النص يراد به تارة ألفاظ الكتاب والسنة ، سواء كان اللفظ دلالته قطعية أو ظاهرة ، وهذا هو المراد من قول من قال : النصوص تتناول أفعال المكلفين .
ويراد بالنص ما دلالته قطعية لا تحتمل النقيض ، كقوله :
{ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } و : { اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ } ، فالكتاب هو النص ، والميزان هو العدل . والقياس الصحيح من باب العدل ، فإنه تسوية بين المتماثلين ، وتفريق بين المختلفين ، ودلالة القياس الصحيح توافق دلالة
النص ، فكل قياس خالف دلالة النص فهو قياس فاسد ، ولا يوجد نص يخالف قياساً صحيحاً ، كما لا يوجد معقول صريح يخالف المنقول الصحيح ، ومن كان متبحراً في الأدلة الشرعية ، أمكنه أن يستدل على غالب الأحكام بالنصوص وبالأنيسة ، فثبت أن كل واحد من النص والقياس دل على هذا الحكم كما ذكرناه من الأمثلة ، فإن القياس يدل على تحريم كل مسكر ، كما يدل النص على ذلك ، فإن الله حرم الخمر لأنها توقع بيننا العداوة والبغضاء ، وتصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة كما دل القرآن على هذا المعنى ، وهذا المعنى موجود في جميع الأربة المسكرة ، لا فرق في ذلك بين
شراب وشراب ، فالفرق بين الأنواع المشتركة من الجنس تفريق بين المتماثلين ، وخروج عن موجب القياس الصحيح ، كما هو خروج عن موجب النصوص .
وهم معترفون بأن قولهم خلاف القياس ، لكن يقولون : معنا آثار توافق ، اتبعناها ، ويقولون : إن اسم الخمر لم يتناول كل مسكر ، وغلطوا في فهم النص ، وإن كانوا مجتهدين مثابين على اجتهادهم .
ومعرفة عموم الأسماء الموجودة في النص وخصوصها ، من معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله ، وقد قال تعالى :
{ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } والكلام في ترجيح نفاة القياس ومثبتيه يطول استقصاؤه ولا يحتمل المقام بسطه أكثر من هذا - والله أعلم - انتهى كلامه رحمه الله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ } [ 13 ] .
{ قَالَ } تعالى لإبليس : { فَاهْبِطْ مِنْهَا } أي : بسبب عصيانك لأمري وخروجك عن طاعتي ، وأكثر المفسرين على أن الضمير عائد إلى الجنة ، والإضمار قبل ذكرها لشهرة كونه من سكانها .
قال ابن كثير : ويحتمل أن يكون عائداً إلى المنزلة التي هو فيها من الملكوت الأعلى . انتهى .
وعليه اقتصر المهايمي حيث قال : فاهبط منها أي : من رتبة الملكية إلى رتبة العناصر : { فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا } أي : فما يصح ولا يستقيم ، فإنها مكان المطيعين الخاضعين : { فَاخْرُجْ } تأكيد للأمر بالهبوط ، متفرع على علته : { إنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ } أي : من الأذلاء وأهل الهوان على الله تعالى وعلى أوليائه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ 14 ]
{ قَالَ أَنْظِرْنِي } أي : أمهلني ولا تمتني { إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي : آدم وذريته من القبور .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِين } [ 15 ]
{ قَالَ } أي : الله له : { إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ } أي : من المؤجلين إلى نفخة الصور
الثانية .
قال ابن كثير : أجابه تعالى إلى ما سأل ، لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع ، ولا معقب لحكمه .
وقال الإمام أبو سعد المحسن بن كرامة الجشميّ اليماني في تفسيره " التهذيب " : ومتى قيل : ما وجه سؤاله مع أنه مطرود وملعون ؟ فجوابنا علمه بإحسانه تعالى إلى خلقه من أطاع ومن عصى ، فلم يمنعه من السؤال ما ارتكب من المعصية ، ومتى قيل : هل خاطبه بهذا ؟ قلنا : يحتمل ذاك ، ويحتمل أنه أمر ملكاً فخاطبه به ، ومتى قيل : هل يجوز إجابة دعاء الكافر ؟ فيه خلاف .
الأول : قيل لا ، لأنه إكرام وتعظيم - عن أبي علي - ولذلك يقال : فلان مستجاب الدعوة ، وإنظاره لا على سبيل إجابة دعائه ، لأنه ملعون ولأنه لم يسأل على وجه الخضوع .
الثاني : يجوز إجابة دعائه استصلاحاُ له ، لأنه تفضل - عن أبي بكر أحمد بن علي - وليس بالوجه .
ومتى قيل : إذا أنظر هل يكون إغراء بالمعصية ؟ قلنا : لا ، لأنه لم يعلم ما الوقت المعلوم ، فلا يكون إغراء مع تجويزه هجوم الموت عليه ، ولأنه تعالى لما أعلمه أنه يدخله النار ، ولعنه - علم أنه لا يختار الإيمان أبداً .
ومتى قيل : ما فائدة إنظاره ؟ قلنا : لطف له ، لأنه يمكنه من استدراك أمره ، وهل يضل به أحد ؟ قال أبو علي ، لا ، لقوله تعالى : { مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ } { إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ } ولأنه لو ضل به ، لكان بقاؤه مفسدة ن فكان الله تعالى لا ينظره .
فأما أبو هاشم فيجوِّز أن يضل به أحد ، ويكون بمنزلة زيادة الشهوة ، ويجوز أن يكون لطفاً من وجوه :
أحدها أن المكلف مع وسوسته إذا امتنع من القبيح ، كان ثوابه أكثر ، ولأنه تعالى عرفنا عداوته ، والعاقل يجتهد في أن يغيظ عدوه ويغمه ، وذلك إنما يكون بطاعة ربه ، ومن أطاعه فمن قِبَل نفسه أتى ، لا من قبل ربه . انتهى كلام الجشمي ، وهو جارٍ على أصول المعتزلة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } [ 16 ]
{ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي } أي : أضللتني عن الهدى ، أو حكمت بغوايتي ، والباء للقسم ، كما في قوله تعالى : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ } أي : فأقسم لإغوائك إياي ، وقيل : هي بمعنى لام التعليل ، أي : لأجل إغوائك إياي : { لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ } أي :
لآدم وبنيه ترصداً كما يقعد القطاع للطريق على السابلة : { صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } أي : طريقك السوي ، وهو طريق الحق ومعناه لا أفتر عن إفسادهم ، وانتصابه على الظرفية أو على نزع الجار .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ 17 ]
{ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } أي : من جميع الجهات الأربع ، مثل قصده إياهم بالتسويل والإضلال من أي : وجه يمكنه ، بإتيان العدو من الجهات الأربع التي يعتاد هجومه منها ، ولذلك لم يذكر الفوق والتحت .
{ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } أي : مستعملين لقواهم وجوارحهم وما أنعم الله به عليهم ، في طريق الطاعة والتقرب إلى الله ، وإنما قال ذلك لما رآه من الأمارات على طريق الظن ، كقوله : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } .
روى الإمام أحمد عن سَبْرة بن الفاكه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه ، فقعد له بطريق الإسلام ، فقال : أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك ؟ قال : فعصاه فأسلم ، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال : أتهاجر وتدع أرضك وسماؤك ، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول ، قال : فعصاه فهاجر ، قال : ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له : هو جهاد النفس والمال ، فتقاتل فتقتل فتنطح المرأة ويقسم المال ؟ قال : فعصاه فجاهد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فمن فعل ذلك منهم فمات ، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة ، أو قتل كان حقاً على الله عز وجل أن يدخله الجنة ، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة ، أو وقصته دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة > .
وقال الحافظ : ورد في الحديث استعاذة من تسلط الشيطان على الْإِنْسَاْن من جهاته كلها فروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان
والحاكم عن عبد الله بن عُمَر قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَع هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي : < اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي ، وأهلي ومالي ، اللهم استر عوراتي ، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي ، وعن يميني وعن شمالي ، ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي > . ورواه البزار عن ابن عباس .
فائدة :
قال الجشمي : تدل الآية أنه سأل الإنظار ، وأنه تعالى أنظره ، وقد بينا ما قيل فيه ، وتدل على شدة عداوته لبني آدم وحرصه على إضلالهم ، وتدل على أن أكثر بني آدم غير شاكرين ، وتدل على أن الإضلال فعل إبليس ، والقبول عنه فعلهم ، لذلك أضافه إليهم ، وذمهم عليه ، ولو كان خلقاً له لما صح ذلك . انتهى .
والكلام في أمثالها معروف .
ثم أكد تعالى على إبليس اللعنة والطرد والإبعاد عن محل الملأ الأعلى ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ } [ 18 ] .
{ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوما } بالهمزة في القراءة المشهورة ، من ذأمهُ ، إذا حقره وذمه ، وقرئ ( مذوماُ ) بذال مضمومة وواو ساكنة ، وهي تحتمل أن تكون مخففة من المهموز ، بنقل حركة الهمزة إلى الساكن ثم حذفها ، وأن تكون من المعتل ، وكان قياسه مذيم كمبيع ، إلا أنه أبدلت الواو من الياء ، على حد قولهم مَكُول في مكيل ، و مَشوب في مشيب .
{ مَدْحُوراً } مقصياً مطروداً .
{ لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ } اللام فيه ، لتوطئة القسم ، وجوابه
{ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ } ، أي : لمن أطاعك من الجن والإنس ، لأملأن جهنم من كفاركم ، كقوله تعالى : { قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً } .
قال الجشميّ : وإنما قال ذلك لأنه لا يكون في جهنم إلا إبليس وحزبه من الشياطين ، وكفار الإنس وفساقهم ، الذين انقادوا له وتركوا أمر الله لأمره ، فجمعهم في الخطاب ، ومتى قيل : لم ضيَّق جهنم ووسَّع الجنة ؟ قلنا : لأن جهنم حبس ، والجنة دار ملك .
ومتى قيل : فما الفائدة في قوله : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ } قلنا : لطفاً ليكون
المكلف تبعاً للأنبياء دون الشياطين ، ولطفاً لإبليس وحزبه ، لأنه غاية في الزجر والنهي .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية على الوعيد لمن تبع إبليس ، وأنه يملأ جهنم منهم ، ولا بد فيه من شرط ، وهو أن لا يتوب ، أو لا يكون معه طاعة أعظم ، وتدل على إذلال إبليس وطرده ولعنه بسبب عصيانه ، تحذيراً عن مثل حاله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِين } [ 19 ]
قوله تعالى : { وَيَا آدَمُ } أي : وقلنا يا آدم : { اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } أي : جنة الخلد ، أو جنة في الأرض .
قال الجشمي : وقد تقدم ذكر هذه القصة ، والفائدة في إعادتها أن القرآن نزل في بضع وعشرين سنة ، والعوارض تعرض ، والوفود تقدم ، فكانت القصة تعاد ، ليسمع من لم يسمع ، استصلاحاُ ولطفاً ، لأن في إعادة قصة واحدة ، في مواضع بألفاظ مختلفة ، كل واحد منها في نهاية الحسن ، من إعجاز القرآن .
{ فَكُلا مِنْ حَيْثُ } أي : من كل مكان : { شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } أي : فتصير من الذين ظلموا أنفسهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا ما وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهَ ِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ } [ 20 ]
{ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ } أي : إبليس بأكل الشجرة مخيلاً لهما النفع .
{ لِيُبْدي لَهُمَا } أي : يظهر لهما : { مَا وُورِيَ } أي : ستر : { عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا } أي : عوراتهما واللام في : { لِيُِبْدي } إما للعاقبة ، لأنه لم يعلم صدوره منهما ، أي : فكان عاقبة وسوسته أن أظهر سوآتهما ، أو للتعليل والغرض ، وهو الأصل فيها ، بناء على حدسه أو علمه بطريق ما .
تنبيه :
في الآية دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور ، وأنه مستهجن في الطباع ولذلك سميت سوأة ، لأنه يسوء صاحبها . .
قال الحاكم : وقد استدل قوم بالآية على وجوب ستر العورة ، وأنه كان في شريعة آدم عليه السلام .
قال القاضي : لا دليل في الآية على الوجوب ، لأنه ليس فيها إلا أنهما فعلا ذلك .
قال الأصم : في الآية دليل على أنهما كرها التعريّ ، وإن لم يكن لهما ثالث ، ففي ذلك دليل على قبح التعري ، وإن لم يكن مع المتعري أحد ، إلا لحاجة { وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا } أي : إلا كراهة أن تكونا : { مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ } أي : من الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين .
وقد استدل بهذا من رأى تفضيل الملائكة على الأنبياء ، لارتكابهما ذلك طمعاً في نيل ما ذكر ، وأجاب من لم ير هذا ، باحتمال أن تكون هذه الواقعة قبل نبوة آدم ، ولئن كانت بعدها ، فلعل آدم رغب في الملكية للقوة والشدة والقدرة ، أو لخلقة الذات ، بان يصير جوهراً نورانياُ - أشار له الرازي .
وقال الناصر : لا يلزم من اعتقاد إبليس لذلك ووسوسته لأن الملائكة أفضل ، أن يكون الأمر كذلك في علمه تعالى ، ألا ترى إبليس قد أخبر أن الله تعالى منعهما من الشجرة حتى لا يخلدا أو لا يكونا ملكين ، وهو في ذلك كاذب مبطل فلا دليل فيه إذاً ، وليس في الآية ما يوجب تقرير الله تعالى لإبليس على ذلك ، ولا تصديقه فيه ، بل ختمت الآية بما يدل على أنه كذب لهما وغرهما ، إذ قال الله تعالى : { فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ } فلعل تفضيل الملائكة على النبوة من جملة غروره . انتهى .
قال السيوطي في " الإكليل " : وأنا أقول : لا أزال أتعجب ممن أخذ يستدل من هذه الآية ، والكلام الذي فيها ، حكاه الله تعالى عن قول إبليس في معرض المناداة عليه بالكذب والغرور والزور والتدليس ، وإنما يستدل من كلامه تعالى ، أو من كلام حكاه عن بعض أنبيائه ، وإن لم يكن ذلك ، فكلام حكاه راضياً به مقراً له . انتهى .
على أنه قرئ ( مَلِكين ) بكسر اللام ، كان يقرؤها كذلك ابن عباس ويحيى بن أبي كثير . قال الواحدي : إنما أتاهما إبليس من جهة الملك . ويدل على هذا قوله تعالى : { هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى } . انتهى .
والقراءة الشاذة قد تكون تفسيراً للمتواترة ، كما لا يخفى ، وبه يندفع ما للرازي هنا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } [ 21 ]
{ وَقَاسَمَهُمَا } أي : أقسم لهما : { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } أي : في هذا الأمر .
قال ابن كثير : أي : حلف لهما بالله على ذلك حتى خدعهما ، وقد يخدع المؤمن بالله . انتهى .
وعن قتادة : إنما يخدع المؤمن بالله . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا رأى من عبده طاعة وحسن صلاة ، أعتقه ، فكان عبيده يفعلون ذلك طلباً للعتق ، فقيل له : إنهم يخدعونك ، فقال : من خدعنا بالله انخدعنا له .(/)
القول في تأويل قوله تعالى : { فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ } [ 22 ]
{ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ } أي : أطمعهما ، وأصله : الرجل العطشان يدلي في البئر ليروي من مائها ، فلا يجد فيها ماء ، فيكون مدلياً فيها بغرور ، فوضعت التدلية موضع الإطماع فيها لا يجدي نفعاً ، وفيه إشعار بأنه أهبطهما بذلك من درجة عالية ، إلى رتبة سافلة ، فإن التدلية والإدلاء إرسال الشيء من أعلى إلى أسفل .
وقيل : معنى دلاهما جرَّأهما بغروره ، والأصل فيه دلَّلَهما ، والدلّ والدالة الجرأة كما قال :
~أظن الحلم دلَّ عليَّ قوْمي وقد يُستَجْهلُ الرجل الحليم
فأبدل أحد حرفي التضعيف ياءً :
{ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا } أي : أخذتهما العقوبة وشؤم المعصية فتهافت عنهما اللباس ، فظهرت لهما عوراتهما .
قال السيوطي في " الإكليل " : استدل له بعضهم على أن من ذاق الخمر عصى . انتهى .
وهذا وقوف مع ظاهر ما ههنا ، فإن الذوق وجود الطعم بالفم ، وظاهر أنه قد يعبر به عن الأكل اليسير ، وهو المراد هنا ، لأنه وقع في آية أخرى مصرحاً بالأكل فيها : { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ } أي : أخذا يرقعان
ويلزقان ورقة فوق ورقة : { عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ } أي : ليستترا به .
قال الجشمي : تدل على أن ستر العورة كان من شريعة آدم عليه السلام ، وقد استدل قوم بالآية على وجوب الستر .
قال القاضي : وليس في الآية ما يوجب الوجوب ، إذا ليس فيها أكثر من أنهما فعلا ذلك .
قال الأصم : وتدل على أن الستر من خلق آدم وحواء ، وأنهما كرها العري وإن لم يكن لهما ثالث ، ففي ذلك دليل على قبح التعري إلا عند الحاجة .
{ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا } أي : يذكرهما النهي السابق والأمر والتجنب عن الشيطان .
{ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ } أي : عن الأكل منها : { وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ 23 ] .
{ قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا } أي : أضررناها بالمعصية : { وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا } أي : ما سلف : { وَتَرْحَمْنَا } أي : بالتوبة وقبولها { لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } أي : لنصيرن ممن خسر جميع ما حصل له من الكمالات .
قال الضحاك بن مُزَاحم في قوله : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا } الآية : هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه .
لطيفة :
قال الجشمي : يقال إن آدم عليه السلام سعد بخمسة أشياء : إعترف بالذنب ، وندم عليه ، ولام نفسه ، وسارع إلى التوبة ، ولم يقنط من الرحمة ، وشقي إبليس بخمسة أشياء : لم يقر بالذنب ، ولم يندم ، ولم يلم نفسه بل أضاف إلى ربه فلم يتب ، وقنط من الرحمة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } [ 24 ]
{ قَالَ اهْبِطُوا } أي : من الجنة إلى ما عداها ، وقال أبو مسلم : معناه اذهبوا ، وهو خطاب لآدم وحواء وإبليس .
قال ابن كثير : والعمدة في العداوة آدم وإبليس ، ولهذا قال في سورة طه : { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَما جَمِيعاً } الآية ، وحواء تبع لآدم ، والحية إن كان ذِكْرها صحيحاً فهي تبع لإبليس .
وقد ذكر المفسرون الأماكن
التي هبط فيها كل منهم ، ويرجع حاصل تلك الأخبار إلى الإسرائيليات ، والله أعلم بصحتها ، ولو كان في تعيين تلك البقاع فائدة ، تعود على المكلفين ، في أمر دينهم أو دنياهم ، لذكرها الله تعالى في كتبه ، أو رسوله صلى الله عليه وسلم . انتهى .
{ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ } أي : استقرار أو موضع استقرار { وَمَتَاعٌ } أي : تمتع ومعيشة .
{ إِلَى حِينٍ } أي : إلى تقضيّ آجالكم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } [ 25 ]
{ قَالَ فِيهَا } أي : الأرض { تَحْيَوْنَ } تعيشون { وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } أي : يوم القيامة للجزاء ، كقوله تعالى
{ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } . ثم ذكرهم سبحانه بنعمته في تبوئة الدار والمستقر في الأرض وكسوتهم لباساً يسترون به سوءاتهم ، بعدما نزع عنهما لباس الجنة ، وذلك لما هم بعد الإهباط ، من الحاجة إلى اللباس والمعاش ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } [ 26 ] .
{ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً } يعني ما يلبس من الثياب وغيره .
قال الزمخشري : جعل ما في الأرض منزلاًَ من السماء ، لأنه قضى ثمة وكتب ، أي : قضى وقسم لكم ، وقضاياه وقسمه توصف بالنزول من السماء ، حيث كتب في اللوح المحفوظ .
وقال أبو البقاء : لما كان الريش واللباس ينبتان بالمطر ، والمطر ينزل ، جعل ما هو المسبب بمنزلة السبب . انتهى .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في فتوى له في معنى النزول : لا حاجة إلى إخراج اللفظ عن معناه المعروف لغة ، في اللباس والأثاث ، وهذا - والله أعلم - معنى إنزاله ، فإنه ينزله من ظهور الأنعام ، وهو كسوة الأنعام من الأصواف والأوبار والأشعار ، وينتفع به بنو آدم في اللباس والرياش ، فقد أنزلها عليهم ، وأكثر أهل الأرض كسوتهم من جلود الدواب ، فهي لدفع الحر والبرد ، وأعظم مما يصنع من القطن والكتان .
{ يُوَارِي سَوْآتِكُمْ } أي : يستر عوراتكم التي قصد إبليس إبداءها من أبويكم حتى اضطرا إلى خصف الأوراق ، وأنتم مستغنون عن ذلك .
{ وَرِيشاً } عطفه إما من عطف الصفات ، فوصف اللباس بشيئين : مواراة السوأة والزينة ، فالريش بمعنى الزينة ، لأنه زينة الطير فاستعير منه ، وأما من عطف الشيء على غيره ، أي : أنزلنا لباسين :
لباس مواراة ، ولباس زينة ، فيكون مما حذف فيه الموصوف ، أي : لباساً ريشاً ، أي : ذا ريش ، والريش مشترك بين الاسم والمصدر .
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وحكاه البخاري عنه : الريش المال ، وحكاه غير واحد من السلف ، قال الإمام ابن تيمية : وبعض المفسرين أطلق عليه لفظ المال ، والمراد به مال مخصوص ، قال ابن زيد : جمالا ، قال ابن السكيت : الرياش هو الأثاث من المتاع والأموال ، وقد يكون في الثياب دون الأموال ، وإنه لحسن الريش ، أي : الثياب . انتهى .
ويقال : راش فلان ، أي : جمع الريش ، وهو المال والأثاث . وراش الصديق أطعمه وسقاه وكساه ، وأصله من الريش كأن الفقير المملق لا نهوض له ، كالمقصوص منه الجناح وكل من أوليته خيراً ، فقد رشته ، كذا في تاج العروس .
فائدة :
روى الإمام أحمد عن أبي أمامة عن عُمَر بن الخطاب قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم : < من استجد ثوباً فلبسه ، فقال حين يبلغ ترقوته : الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي ، وأتجمل به في حياتي ، ثم عمد إلى الثوب الذي أخلق فتصدق به كان في ذمه الله تعالى وفي جوار الله ، وفي كنف الله حياً وميتاً > . ورواه الترمذي وابن ماجة ، وروى الإمام أحمد عن أبي مطر أنه رأى علياً رضي الله عنه أتى
غلاماً حدثاً ، فاشترى منه قميصاً بثلاثة دراهم ، ولبسه إلى ما بين الرسغين إلى الكعبين ، ويقول ولبسه : الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس ، وأواري به عورتي . فقيل : هذا شيء ترويه عن نفسك أو عن نبي الله صلى الله عليه وسلم عند الكسوة : الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس وأواري به عورتي .
ولما بين تعالى ساتر الظاهر وزينته ، أشار إلى ساتر عيوب الباطن وزينته بقوله : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى } أي : خشية الله ، أو الإيمان ، أو السمت الحسن ، والكل متقارب ، ورفعة بالابتداء خبره جملة : { ذَلِكَ خَيْرٌ } أو خيرٌ ، وذلك صفته ، كأنه قيل : ولباس التقوى المشار إليه خير .
قال المهايمي : لأن الظاهر محل نظر الخلق ، والباطن محل نظر الحق ، والعيوب الباطنة أفحش من العورات الظاهرة .
وقال القاشاني : لباس التقوى صفة الورع والحذر من صفة النفس ، ذلك خير لأنه من جملة أركان الشرائع ، لأنه أصل الدين وأساسه ، كالحمية في العلاج . انتهى .
قال أبو علي الفارسي : معنى الآية : ولباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به ، وأقرب له إلى الله تعالى ، مما خلق من اللباس والرياش الذي يتجمل به ، قال : وأضيف اللباس إلى التقوى ، كما أضيف إلى الجوع في قوله : { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ } . انتهى .
أي : فهو استعارة مكنية وتخييلية بأن يتوهم للتقوى حالة شبيهة باللباس ، تشتمل على جميع بدنه ، بحسب الورع والخشية من الله ، اشتمال اللباس على اللابس ، أو من قبيل
لجين الماء . وقرأ نافع وابن عامر والكسائي ( ولباس التقوى ) بالنصب ، عطفاً على ( لباساً ) .
{ ذَلِكَ } أي : إنزال اللباس : { مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } الدالة على فضله ورحمته على عباده { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } أي : نعمته عليهم فيعرفون عظمتها فيشكرونها .
قال الزمخشري : وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدو السوآت ، وخصف الأوراق عليها ، إظهاراً للمنة فيما خلق من اللباس ، ولما في العري ، وكشف العورة من المهانة والفضيحة ، وإشعاراً بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية على عظيم نعمه تعالى بهذه النعم التي عدها ، وذهب علي بن موسى القمي إلى أنها تدل على وجوب ستر العورة ، وقال آخرون : لا تدل ، وليس في الظاهر إلا الإنعام به من حيث نفي الحر والبرد وستر العورة والتجمل به ، فأما أنه واجب ، فبعيد ، ولو ثبت وجوبه عليه ، احتجنا إلى وجوبه في شريعتنا إلى دليل مستأنف ، وقد ثبت في هذه الشريعة وجوبه بالخبر المستفيض والإجماع ، فلا حاجة إلى الرجوع إلى شريعة أخرى .
وتدل على أنه تعالى كما أنعم بنعم الدنيا ، أنعم بنعم الدين ، فإن الأقرب أن لباس التقوى العلم والعمل الصالح ، فكأنه ضم إلى نعم الدنيا نعم الدين التي بها يحصل الفوز بالثواب ، فتحصل نعمة الدارين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ } [ 27 ] .
{ يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ } أي : لا يخدعنكم عن دخول الجنة ، بنزع لباس الشريعة والتقوى عنكم ، فيخرجكم من نظر الله بالرحمة إليكم : { كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ } نعت لمصدر محذوف ، أي : لا يفتننكم فتنةً مثل إخراج أبيكم .
{ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا } أي : الظاهر بسبب نزع لباس التقوى { لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا } أي : الظاهرة الدالة على السوأة الباطنة . وجملة : { يَنْزِعُ } حال من : { أَبَوَيْكُمْ } أو من فاعل : { أَخْرَجَ }
أي : أخرجهما نازعاً لباسهما ، بأن كان سبباً في أن نزع عنهما ، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة .
تنبيهان :
الأول : قال السيوطي في " الإكليل " : استدل بهذه الآية أيضاً على وجوب ستر العورة ، واستدل بالآيتين من قال : إن العورة هي السوأتان خاصة . انتهى .
الثاني : قال الإمام الرازي : أعلم أن المقصود من ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام حصول العبرة لمن يسمعها ، فكأنه تعالى لما ذكر قصة آدم ، وبين فيها شدة عداوة الشيطان لآدم وأولاده ، أتبعها بأن حذر أولاده من قبول وسوسة الشيطان ، فقال : { يَا بَنِي ءَادَمَ } الآية ، وذلك لأن الشيطان لما بلغ أثر كيده ، ولطف
وسوسته ، وشدة اهتمامه ، إلى أن قدر على إلقاء آدم في الزلة الموجبة لإخراجه من الجنة ، فبأن يقدر على أمثال هذه المضار في حق بني آدم أولى .
فبهذا الطريق حذر تعالى بني آدم بالإحتراز عن وسوسته .
وقوله تعالى : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ } أي : جنوده من الشياطين : { مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } أي : من مكان لا ترونهم فيه .
والجملة استئناف لتعليل النهي ، وتأكيد التحذير من فتنته بأنه بمنزلة العدو المداجي ، يكيدكم ويغتالكم من حيث لا تشعرون .
عن مالك بن دينار : إن عدواً يراك ولا تراه ، لشديد المؤنة ، إلا من عصم الله .
تنيبه :
قال السيوطي في " الاكليل " : قال ابن الفرس : استدل بها بعضهم على أن الجن لا يرون وأن من قال إنهم يُرون فهو كافر . انتهى .
ومراده بالبعض ، المعتزلة ، ولذا قال الزمخشري : فيه دليل بين أن الجن لا يرون ولا يظهرون للإنس ، وأن إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم ، وأن زعم من يدعي رؤيتهم زور ومخرقة . انتهى .
وقال الجشمي : تدل على بطلان قول العامة إن الشيطان يتصور لنا ونراه ، ثم قال : ومتى قيل : أليس يُرون زمن الأنبياء ، ويرى المعاين الملَك ؟ فجوابنا : أنه يزداد قوة الشعاع أو تتكاثف أبدانهم ، فيكون معجزة للنبي . انتهى .
وأجاب أهل السنة كما في " العناية " : بأنه قد ثبتت رؤيتهم ، بالأحاديث الصحيحة المشهورة ، وهي لا تعارض ما في الآية لأن المنفي فيها رؤيتهم إذا لم يتمثلوا لنا .
وقال في فتح البيان : وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على أن رؤية الشيطان غير ممكنة ، وليس في الآية ما يدل على ذلك ، وغاية ما فيها أنه يرانا من حيث لا نراه وليس فيها أنا لا نراه أبداً ، فإن انتفاء الرؤية منّاً له ، وفي وقت رؤيته لنا ، لا يستلزم انتفاءها مطلقاً .
والحق جواز رؤيتهم كما هو ظاهر الأحاديث الصحيحة ، وتكون الآية مخصوصة بها ، فيكونون مرئيين في بعض الأحيان لبعض الناس دون بعض . انتهى .
وقد أوضح الغزالي رحمه الله رؤيا الجن والشياطين برؤيا الملائكة حيث قال في الركن الثاني : الملائكة والجن والشياطين جواهر قائمة بأنفسها . مختلفة
بالحقائق إختلافاً يكون بين الأنواع ، ثم قال : ويمكن أن تشاهد هذه الجواهر - أعنى جواهر الملائكة - وإن كانت غير محسوسة ، وهذه المشاهدة على ضربين :
إما على سبيل التمثيل ، كقوله تعالى : { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } .
وكما كان النبي عليه الصلاة والسلام ، يرى جبريل في صورة دَحْيَة الكلبي .
والقسم الثاني : أن يكون لبعض الملائكة بدن مخصوص ، كما أن نفوسنا غير محسوسة ولها بدن محسوس هو محل تصرفها وعالمها الخاص بها ، فكذلك بعض الملائكة ، وربما كان هذا البدن المحسوس موقوفاً على إشراق نور النبوة ، كما أن محسوسات عالمنا هذا موقوفة عند الإدراك على إشراق نور الشمس ، وكذا في الجن والشياطين . انتهى .
وقوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } قال الزجاج : يعني سلطناهم عليهم ، يزيدون في غيهم . انتهى .
والجملة تعليل آخر للنهي ، وفيه تحذير أبلغ من الأول .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ 28 ] .
{ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً } أي : ما تناهى قبحه من الذنوب ، كالشرك وكشف العورة في الطواف { قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا } أي : إذا فعلوها إعتذروا بأن آباءهم كانوا يفعلونها ، فاقتدوا بهم ، وبأن الله أمرهم بأن يفعلوها ، حيث أقرنا عليها
إذ لو كرهها لنقلنا عنها ، وهما باطلان ، لأن أحدهما تقليد للجهال ، والتقليد ليس بطريق للعلم ، والثاني افتراء على ذي الجلال .
قال الشهاب : في قوله تعالى : { وَاللّهُ أَمَرَنَا } : مضاف مقدر أي : أمر آباءنا ، فلا يقال الظاهر أمرهم بها ، والعدول عن الظاهر إشارة إلى إدعاء أن أمر آباءهم أمر لهم .
{ قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء } أي : هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة ، والله لا يأمر بمثل ذلك ، لأن عادته سبحانه وتعالى جرت على الأمر بمحاسن الأفعال والحث على مكارم الخصال : { أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } إنكار لإضافتهم الأمر بالفحشاء إليه سبحانه ، يتضمن النهي عن الإفتراء عليه تعالى ، وفيه شهادة على أن مبنى قولهم على الجهل المفرط .
قال الشهاب : ولا دليل في الآية لمن نفى القياس ، بناء على أن ما يثبت به مظنون لا معلوم ، لأنه مخصوص في عمومها بإجماع الصحابة ومن يعتد به ، أو بدليل آخر .
تنبيه :
قال مجاهد : كان المشركون يطوفون بالبيت عراةً ، يقولون : نطوف كما ولدتنا أمهاتنا ، فتضع المرأة على قُبُلها النِّسعة أو الشيء وتقول :
~اليومَ يبدو بعضهُ أو كلُّهُ وما بدا منه فلا أُحِلُّهُ
فأنزل الله : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً } الآية ، قال ابن كثير : كانت العرب ، ما عدا قريشاً ، لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها ، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها .
وكانت قريش - وهم الحمس - يطوفون في ثيابهم ، ومن أعاره أحمسي ثوباً طاف فيه ، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه ، فلا يتملكه أحد ، ومن لم يجد ثوباً جديداً ، ولا أعاره أحمسي ثوباً ، طاف عرياناً ، وربما كانت امرأة ، فتطوف عريانة ، فتجعل على فرجها شيئاً ليستره بعد الستر ، فتقول : اليوم يبدو . . . - البيت - وأكثر ما كان النساء يطفن بالليل ، وكان هذا شيئاً قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم ، واتبعوا فيه آباءهم ، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع ، فأنكر تعالى عليهم ذلك .
وذكر السيوطي في " الإكليل " عن ابن عباس أيضاً ، أنه نزلت في طوافهم بالبيت عراة ، رواه أبو الشيخ وغيره ، قال : ففيها وجوب ستر العورة في الطواف .
تنبيهان :
الأول : ذهب المعتزلة إلى أن الإرادة مدلول الأمر ، ولازمة له ، والفحشاء - أعني الشرور والمعاصي - غير مأمور بها بنص الآية ، فلا تكون مرادة له تعالى .
وأجاب أهل السنة بأن الأمر قد ينفك عن الإرادة ، بمعنى أنه يوجد بدون الإرادة ، فلا تكون الإرادة تابعة له وجوداً ، ومما يوضح أن الشيء قد يؤمر به ولا يكون مراداً ، أن السيد إذا أراد أن يظهر على الحاضرين عصيان عبده ، يأمره بالشيء ولا يريده منه .
ومنها أن الأمر أمران :
أمر تكويني : يحصل به وجود الأشياء ، وهو خطاب كن وهو تابع للإرادة ، يعم جميع الكائنات . فالطاعات والمعاصي كلها مأمورة ومرادة بهذا الأمر ، ولا يتعلق بهذا الأمر الطاعة والعصيان والثواب والعقاب ، لأنه يتعلق بالأشياء حال العدم .
وأمر تشريعي تدويني : أي : شرعه الله لعباده ، وكلفهم به ، مما دون في كتب الشريعة وبُين ، وهذا الأمر يتعلق به الطاعة والعصيان والثواب والعقاب والرضا والسخط ، والكفر والمعاصي ليست مأمورة بهذا الأمر .
والمعتزلة لم يفرقوا بين الأمرين ، وقالوا : إن الكفر والمعاصي لو كانت مراده تعالى ، لكانت مأموراً بها ، وإتيان المأمور به طاعة ، فيكون الكافر والفاسق مطيعين ، فإنهما مأمور بهما بالأمر الأول ، وليس مأموراً بهما بالأمر الثاني ، حتى يكون إتيانهما طاعة .
قال السيلكوتي : ولا يخفى عليك تقسيم الأمر إلى أمرين ، إنما يستقيم إذا كان قوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } على ظاهره ، كما ذهب إليه البعض .
وأما إذا كان عبارة عن الإيجاد من غير أن يتعلق بها خطاب ، كما ذهب إليه الأشعري ومن تبعه ، فلا . انتهى .
والمسألة مبسوطة في محالها المعروفة .
الثاني : قوله تعالى : { قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء } جواب عن شبهتهم الثانية .
ولم يذكر جواباً عن الأولى ، قال الإمام : لأنها إشارة إلى محض التقليد ، وقد تقرر في المعقول أنه طريقة فاسدة ، لأن التقليد حاصل في الأديان المتناقضة ، فلو كان التقليد حقاً ، لزم القول بحقية الأديان المتناقضة ، فلما كان فساده ظاهراً ، لم يذكره تعالى .
الثالث : قال في " فتح البيان " : في هذه الآية الشريفة أعظم زاجر ، وأبلغ واعظ ، للمقلدة الذين يتبعون آباءهم في المذاهب المخالفة للحق ، فإن ذلك من الاقتداء بأهل الكفر ، لا بأهل الحق ، فإنهم القائلون : { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ }
والقائلون : { وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا } . والمقلد ، لولا اغتراره بكونه وجد آباءه على ذلك المذهب ، مع اعتقاده بأنه الذي أمر الله به ، وأنه الحق لم يبق عليه .
وهذه الخصلة هي التي بقى بها اليهودي على يهوديته ، والنصراني على نصرانيته ، والمبتدع على بدعته ، فما أبقاهم على هذه الضلالات إلا كونهم وجدوا آباءهم في اليهودية والنصرانية والبدعة ، وأحسنوا الظن بهم بأن ما هم عليه هو الحق الذي أمر الله به ، ولم ينظروا لأنفسهم ولا طلبوا الحق كما يجب ، ولا بحثوا عن الله كما ينبغي ، وهذا هو التقليد البحت القصور الخالص .
ثم قال : وإن من أعجب الغفلة وأعظم الذهول عن الحق ، اختيار المقلدة لآراء الرجال ، مع وجود كتاب الله ووجود سنة رسوله بين ظهرانيهم ، ووجود من يأخذونهما عنه بين أيديهم ، ووجود آلة الفهم لديهم ، وملكة العقل عندهم . انتهى .
ولما نفى ما تقولوه عليه وأخبر أنه لا يأمر بالفحشاء ، بين ما أمر به بقوله تعالى(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } [ 29 ] .
{ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } أي : بالعدل ، وللسلف فيه هنا
وجوه : ما ظهر في العقول كونه حسناً ، أو التوحيد ، أو كلمة الإخلاص .
وعن أبي مسلم : جميع الطاعات ، قال الحاكم : وهو الوجه : ولا يخفى أن الجميع مما يشمله : { القِسْط } فلا منافاة .
{ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } معطوف على الأمر الذي ينحل إليه المصدر مع : { أن } ، أي : بأن أقسطوا وأقيموا ، والمصدر ينحل إلى الماضي والمضارع والأمر ، كما نقله المُعرب ، أو معطوف على : { أمَرَ رَبِّي } أي : قل أقيموا .
قال الجرجاني : الأمر معطوف على الخبر ، لأن المقصود لفظه ، أو لأنه إنشاء معنى . انتهى .
والوجوه مجاز عن الذوات . ومسجد إما مصدر ، والوقت مقدر قبله ، و : { عِنْدَ } بمعنى في ، أي : أقيموا ذواتكم في كل وقت سجود ، وذلك بمنعها عن الالتفات إلى الغير فيه ، وبمراعاة موافقة الأمر مع صدق النية ، أو باستقبال القبلة فيه ، وإما اسم زمان أو مكان بالمعنى اللغوي ، أي : في كل وقت سجود أو مكانه .
والسجود على هذه الأوجه مجاز عن الصلاة ، أو المسجد هو المصطلح عليه ، والمعنى : في أيّ
مسجد حضرتكم الصلاة ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم ، والأمر على هذا الوجه للندب ، قيل : وهو لا يناسب المقام ، وإما على ما قبله ، فهو للوجوب .
وهذه الوجود مستفادة مما روي عن السلف . قال في
" اللباب " : معنى الآية في قول مجاهد والسدّيّ : وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة .
وقال الضحاك : المعنى إذا حضرت الصلاة وأنتم عند المسجد فصلّوا فيها ، ولا يقولن أحدكم : أصلي في مسجدي ، أو مسجد قومي ، وقيل معناه اجعلوا سجودكم لله خالصاً .
{ وَادْعُوهُ } أي : اعبدوه : { مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } أي : الطاعة بتخصيصها له ، لأنه استحق عبادتكم بإبدائه إياكم ، ولا يسعكم تركها ، إذا إليه عودكم بالآخرة ، فإنه : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } أي : كما أنشأكم ابتداء ، يعيدكم إليه أحياء ، فيجازيكم على أعمالكم ، فأخلصوا له العبادة . وإنما شبه الإعادة بالابتداء ، تقريراً لإمكانها والقدرة عليها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } [ 30 ] .
{ فَرِيقاً هَدَى } بأن وفقهم للإيمان : { وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ } وهم الكافرون : { إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء } أي : أنصاراً وأرباباً : { مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } أي : أنهم على هداية وحق فيما اعتقدوا .
تنبيهان :
الأول : قال ابن جرير : قوله تعالى : { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } من أبين الدلالة على خطأ قول من زعم أن الله لا يعذب أحداً على معصية ركبها ، أو ضلالة اعتقدها ، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها ، فيركبها عناداً منه لربه فيها ، لأن ذلك لو كان كذلك ، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل ، وهو يحسب أنه مهتد ، وفريق الهدى فرقٌ ، وقد فرق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية . انتهى .
وحاصله ، كما قال القاضي : إن الآية دلت على أن الكافر المخطئ والمعاند سواء في استحقاق الذم .
قال القاضي : وللفارق أن يحمله على المقصر في النظر ،
أي : يحمل الضمير في : { اتَّخَذُوا } على الكافر المقصر في النظر ، وأما الذين اجتهدوا وبذلوا الوسع فمعذورون ، كما هو مذهب البعض ، كذا في " العناية " .
الثاني : قال الرازي : هذه الآية تدل على أن مجرد الظن والحسبان لا يكفي في صحة الدين ، بل لا بد فيه من الجزم والقطع واليقين ، لأنه تعالى عاب الكفار بأنهم يحسبون كونهم مهتدين ، ولولا أن هذا الحسبان مذموم ، لما ذمهم بذلك . انتهى .
قال المهايمي : ومما حسبوا فيه أنهم مهتدون بمتابعة الشيطان ، تركهم التزين والتلذذ مع العبادة ، فطافوا عراة ، وتركهم اللحم والسم مع الإحرام ، فقال عز وجل :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } [ 31 ] .
{ يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ } أي : من اللباس : { عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } أي : بيت بُنِي للعبادة ، على أنه اسم مكان ، أو مصدر بمعنى السجود ، مراداً به الصلاة والعبادة ، فإن العبادة أولى أوقات التزين : { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ } أيام الحج تقوياً على العبادة : { وَلاَ تُسْرِفُواْ } أي : إسرافاً يوجب الإنهماك في الشهوات ويشغل عن العبادة ، أو لا تحرموا الطيبات من الرزق واللحم والدسم : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } المعتدين .
تنبيهات :
الأول : كما أسلفنا في مقدمة هذا التفسير ، أن من فوائد معرفة سبب النزول الوقوف على المعنى ، وإزالة الإشكال ، وهذه الآية إنما أجملنا تفسيرها بما ذكرنا ، لأنها نزلت في ذلك .
فقد روى مسلم عن ابن عباس قال : كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عُريانة ، فتقول : من يعيرني تِطْْوافاً ؟ تجعله على فرجها وتقول :
~اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أُحله
فنزلت هذه الآية : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ } الآية . ونزلت : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّه } الآية .
وعند ابن جرير عن ابن عباس قال : كانوا يطوفون عراة ، الرجال بالنهار ، والنساء بالليل ، وكانت المرأة تقول :
~اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أُحله
فنزلت : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ } . قال في " اللباب " : وفي رواية أخرى عنه : فأمرهم الله تعالى أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعروا . وروى العوفي عن ابن عباس أيضاً في الآية قال : كان رجال يطوفون بالبيت عراة ، فأمرهم الله بالزينة ، والزينة اللباس ، وهو ما يواري السوأة ، وما سوى ذلك من جيد البزّ والمتاع ، فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد .
وأخرج أبو الشيخ عن طاوس قال : أُمروا بلبس الثياب ، وأخرج من وجه آخر عنه قال : الشملة من الزينة ، وقال مجاهد : كان حيٌّ من أهل اليمن إذا قدم أحدهم حاجاً أو معتمراً يقول : لا ينبغي لي أن أطوف في ثوب قد عصيت فيه فيقول : من يعيرني مئزراً ؟ فإن قدر عليه وإلا طاف عرياناً . فأنزل الله تعالى فيه ما تسمعون : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ } الآية .
وقال الزهري : إن العرب كانت [ في المطبوع : كنت ] تطوف بالبيت عراة إلا الحمس - وهم قريش وأحلافهم - فمن جاء من غير الحمس ، وضع ثيابه ، وطاف في ثوب أحمسي ، ويرى أنه لا يحل له أن يلبس ثيابه ، فإن لم يجد من يعيره من الحمس فإنه يلقي ثيابه ، ويطوف عرياناً ، وإن طاف في ثياب نفسه ألقاها ، وإذا قضى طوافه وحرمها ، أي : جعلها حراماً عليه ، فلذلك قال تعالى : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } .
والمراد من الزينة الثياب التي تستر العورة . قال مجاهد : ما يواري عوراتكم ، ولو عباءة - انتهى -
قال ابن كثير : هكذا قال مجاهد وعطاء وإبراهيم النَّخَعِي ، وسعيد بن جبير وقتادة والسدي ، والضحاك ومالك عن الزهري وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها : أنها نزلت في طواف المشركين بالبيت عراة . انتهى .
فظهر أن المراد بالزينة ما يستر العورة لأنه اللازم المأمور به الذي بينه سبب النزول ، دون لباس التجمل المتبادر منه ، لأن المستفاد من : { خُذُواْ } هو وجوب الأخذ ، ولباس التجمل مسنون - قاله الشهاب - وأقول دلت الآية بما أفاده سبب نزولها على أن الزينة لا تختص لغة بالجيد من اللباس كما توهم ، وبين ذلك العوفي عن ابن عباس فيما نقلناه .
وفي " التهذيب " : الزينة إسم جامع لكل شيء يتزين به . ومثله في " الصحاح " و " القاموس " وعبارته : الزينة ما يتزين به .
وقال الحراني : الزينة تحسين الشيء بغيره من لبسة أو حلية أو هيئة .
وقال الراغب : الزينة الحقيقية ما لا يشين الْإنسَان في شيء من أحواله ، ولا في الدنيا ولا في الآخرة . انتهى .
وقد نقل الرازي إجماع المفسرين على أن المراد بالزينة لبس الثياب التي تستر العورة .
قال : والزينة لا تحصل إلا بالستر التام للعورات ، قال : وأيضاً إنه تعالى قال في الآية المتقدمة : { قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشا } فبين أن اللباس الذي يواري السوأة من قبيل الرياش والزينة .
ثم إنه تعالى أمر بأخذ الزينة في هذه الآية ، فوجب أن يكون المراد من هذه الزينة هو الذي تقدم ذكره في تلك الآية .
وأيضاً فقوله : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ } أمر ، والأمر للوجوب ، فثبت أن أخذ الزينة واجب ، وكل ما سوى اللبس فغير واجب ، فوجب حمل الزينة على اللبس عملاً بالنص بقدر الإمكان ، ولا يقال : إن قوله : { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ } أمر إباحة ، فيكون المعطوف عليه كذلك ، لأنه لا يلزم من ترك الظاهر في المعطوف ، تركه في المعطوف عليه .
هذا ، وقد روى الحافظ ابن مردويه من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي عن قتادة عن أنس مرفوعاً : أنها نزلت في الصلاة في النعال ، وكذا أخرجه أبو الشيخ عنه ، وعن أبي هريرة مثله ، قال ابن كثير : وفي صحته نظر - والله أعلم -
قلت : لا نظر ، لأن ذلك مما تشمله الزينة ، وقد أسلفنا في المقدمة أن قولهم : نزلت في كذا ، لا يقصد به أن حكم الآية مخصوص به ، بل مخصوص بنوعه ، فتعم ما أشبهه ، فتذكر .
والأحاديث في مشروعية الصلاة في النعل كثيرة جداً ، منها : عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد ، قال : سألت أنساً : أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه ؟ قال : نعم . متفق عليه .
قال العراقي في " شرح الترمذي " : وممن كان يفعل ذلك - يعني لبس النعل في الصلاة - عُمَر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وعويمر بن ساعدة وأنس بن مالك وسلمة بن الأكوع وأوس الثقفي ، ومن التابعين :
سعيد بن المسيب والقاسم وعروة بن الزبير وسالم بن عبد الله وعطاء بن يسار ، وعطاء بن أبي رَبَاح ومجاهد ة وطاوس وشريح القاضي ، وأبو مجلز وأبو عمر الشيباني والأسود بن يزيد وإبراهيم النَّخَعِي وإبراهيم التَّيمي وعلي بن الحسين وإبنه أبو جعفر . انتهى .
وقد أخرج أبو داود من حديث أبي سعيد أنه قال : قال صلى الله عليه وسلم : < إذاجاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصل فيهما > .
وحديث عَمْرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حافياً ومنتعلاً . أخرجه أبو داود وابن ماجة .
الثاني : دلت الآية على وجوب الستر عند الطواف ، لأنه سبب النزول ، قالوا : واللفظ شامل للصلاة لأنها مفعولة في المسجد .
الثالث : حاول بعضهم استنباط التجمل عند الصلاة منها حيث قال : لما دلت على وجوب أخذ الزينة بستر العورة في الصلاة ، فُهِم منها في الجملة ، حسن التزين بلبس ما فيه حسن وجمال فيها .
قال الكيا الهراسي : ظاهر الآية الأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد ، للفضل الذي يتعلق به تعظيماً للمسجد و الفعل الواقع فيه ، مثل الاعتكاف والصلاة والطواف .
وقال ابن الفرس : استدل مالك بالآية على كراهية الصلاة في مساجد القبائل بغير أردية ، واستدل بها قوم من السلف على أنه لا يجوز للمرأة أن تصلي بغير قلادة أو قرطين ، كذا في " الإكليل " ، والأخير من الغلو في النزع .
وقال ابن كثير : ولهذه الآية وما ورد في معناها من السنة ، يستحب التجمل عند الصلاة ، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد ، والطيب لأنه من الزينة ، والسواك لأنه من تمام ذلك ، ومن أفضل اللباس البياض لما روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إلبسوا من ثيابكم البياض ، فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم ، وإن من خير أكحالكم الِإثمد ، يجلو البصر وينبت الشعر > ولأحمد وأهل السنن ، عن سمُرة بن جُنْدب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < عليكم بالثياب البيض فالبسوها فإنها أطهر وأطيب ، وكفنوا فيها موتاكم > .
وروى الطبراني بسند صحيح ، عن قتادة عن محمد بن سيرين : أن تميماً الداري اشترى رداءً بألف ، وكان يصلي فيه .
الرابع : وجه تأثر الأمر بأخذ الزينة ، بالأمر بالأكل والشرب في قوله تعالى : { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ } ما رواه الكلبي أن بني عامر كانوا لا يأكلون في أيام حجهم إلا قوتاً ، ولا يأكلون دسماً ، يعظمون بذلك حجهم .
فقال المسلمون : نحن أحق أن نفعل ذلك يا رسول الله . فأنزل الله عز وجل : { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ } .
وقال السدي : كان الذين يطوفون بالبيت عراة يحرمون عليهم الودك ما أقاموا في الموسم . فقال الله تعالى لهم : { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ } الآية .
الخامس : فسر الإسراف بمجاوزة الحد فيما أحل ، وذلك بتحريمه ، وقال الجشمي اليمني في تفسيره " التهذيب " : تدل الآية على المنع من الإسراف . وذلك على وجهين :
أولهما : إنفاق في معصية كالفخَار واللعب والزنى والخمر ونحوها .
وثانيهما : أن يتعدى الحدود وذلك مختلف بحال اليسار والإعسار ، لأن من له قدر يسير ، لو أنفقه في ضيافة أو طيب أو ثياب خز ، وهو وعياله يحتاجون إليه ، فهو سرف محرم .
ومثله في الموسرين لا يقبح ولا يكون سرفاً ، وتدل على أن الأشياء على الإباحة .
والعقل يدل على ذلك ، لأنه تعالى خلقه لمنافعهم ، والسمع ورد مؤكداً ، ولذلك قال : { مَنْ حَرَّمَ } مطالباً بدليل سمعي .
وقد روى الإمام أحمد عن عَمْرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف ، فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده > .
وأخرج النسائي وابن ماجة نحوه .
وقال البخاري : قال ابن عباس : كلْ ما شئت ، ما أخطأتك اثنتان : سرف أو مخيلة .
ورواه ابن جرير عنه أيضاً بلفظ : أحل الله الأكل والشرب ، ما لم يكن سرفاً أو مخيلة .
قال الشهاب : هذا ـ أي : ما قاله ابن عباس ـ لا ينافي ما ذكره
الثعالبي وغيره من الأدباء ، أن ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي ، ويلبس ما يشتهيه الناس ، كما قيل :
~نصيحة نصيحة قالت بها الأكياس
~كل ما اشتهيت والبس نَّ ما اشتهته الناس
فإنه لِترك ما لم يعتد بين الناس ، وهذا لإباحة كل ما اعتادوه . و المخيلة : الكبر . و ما دوامية زمانية . و أخطأتك ، من قولهم أخطأ فلان كذا ، إذا عدمه .
وفي الأساس : من المجاز لن يخطئك ما كُتب لك و وأخطأ المطر الأرض : لم يصبها ، وتخاطأته النبل : تجاوزته وتخطأته . انتهى .
وفي قوله تعالى : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } وعيد تهديد لمن أسرف في هذه الأشياء ، لأن من لم يحبه الله لم يرض عنه .
السادس : تناقل المفسرون وغيرهم ما قيل إن قوله تعالى : { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ } الآية ، جمع الطب كله . وأصله ما حكاه الزمخشري والكرماني في عجائبه ، أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق ، فقال لعلي بن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شيء ، والعلم علمان : علم الأبدان ، وعلم الأديان .
فقال له : قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه ، قال : وما هي ؟ قال : قوله تعالى : { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ } ، فقال النصراني : ولا يؤثر من رسولكم شيء في الطب ! فقال : قد جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة ، قال : وما هي ؟ قال قوله : < المعدة بيت الداء ، والحمية رأس الدواء ، وأعط كل بدن ما عودته > فقال النصراني : ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً .
قال في " العناية " : وترك بعضهم تمام القصة ، لأن في ثبوت هذا الحديث كلاماً للمحدثين .
وفي شعب الإيمان للبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < المعدة حوض البدن ، والعروق إليها واردة ، فإذا صحت المعدة صدرت العروق بالصحة ، وإذا فسدت المعدة صدرت العروق بالسقم > . انتهى .
أقول : إن صحت هذه الحكاية ، فصواب جواب النصراني في سؤاله الثاني بالتفنيد والفرية ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُثر عنه من بدائع الطب وأصناف العلاج ما لم يؤثر عن نبي قط ، وللمحدثين في عهد السلف منه قسم كبير في جوامعهم ومسانيدهم . وأما أعلام المتأخرين فقد اضطرهم وفرة ما روي في ذلك إلى تدوينه في
أسفار مطولة ومختصرة بعنوان " الطب النبوي " .
وقد بين الإمام ابن القيم : عليه الرحمة ، اشتمال التنزيل العزيز على أصول الطب ، والسنة المطهرة على بدائعه ، في كتابه " زاد المعاد " ، بياناً يدهش الألباب ، وفوق كل ذي علم عليم ، قال عليه الرضوان في كتابه " زاد المعاد في هدي خير العباد " :
فصل
قد أتينا على جمل من هديه صلى الله عليه وسلم في المغازي والسير والبعوث والسرايا والرسائل والكتب التي كتب بها إلى الملوك ونوابهم ، ونحن نتبع ذلك بذكر فصول نافعة في هديه في الطب الذي تطبب به ، ووصفه لغيره ، ونبين ما فيه من الحكمة التي يعجز أكثر عقول أكثر الأطباء عن الوصول إليها ، وأن نسبة طبهم إليها كنسبة طب العجائز إلى طبهم ، فنحن نقول وبالله المستعان :
المرض نوعان :
مرض القلوب ، ومرض الأبدان ، وهما مذكوران في القرآن .
ومرض القلب نوعان : مرض شبهة وشك ، ومرض شهوة وغي ، وكلاهما في القرآن .
قال تعالى في مرض الشبهة : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً } وقال تعالى : { وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً } ، وقال تعالى في حق من دعي إلى تحكيم القرآن والسنة فأبى وأعرض : { وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ، فهذا مرض الشبهات والشكوك .
وأما مرض الشهوات فقال تعالى : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً } ، فهذا مرض شهوة الزنى - والله أعلم ـ .
وأما مرض الأبدان فقال تعالى : { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } ، وذكر مرض البدن في الحج والصوم والوضوء لسر بديع ، يبين ذلك عظمة القرآن والاستغناء به ، لمن فهمه وعقله ، عن سواه ، وذلك أن قواعد طب الأبدان ثلاثة : حفظ الصحة ، والحمية عن المؤذي ، واستفراغ المواد الفاسدة ، فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في هذه المواضع الثلاثة . فقال في آية
الصوم : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر } .
فأباح الفطر للمريض لعذر المرض ، والمسافر ، طلباً لحفظ صحته وقوته ، لئلا يذهبه الصوم في السفر ، لاجتماع شدة الحركة وما يوجبه من التحليل وعدم الغذاء الذي يخلف ما تحلل ، فتخور القوة وتضعف ، فأباح للمسافر الفطر حفظاً لصحته وقوته عما يضعفها .
وقال في آية الحج : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُك } فأباح للمريض ومن به أذى من رأسه ، من قمل أو حكة أو غيرهما ، أن يحلق رأسه في الإحرام استفراغاً لمادة الأبخرة الرديئة التي أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر ، وإذا حلق رأسه تفتحت المسامات فخرجت تلك الأبخرة منها .
فهذا الإستفراغ يقاس عليه استفراغ يؤذي انحباسه . والأشياء التي يؤذي انحباسها ومدافعتها عشرة : الدم إذا هاج ، والمني إذا سبغ ، والبول والغائط والريح والقيء والعطاس والنوم والجوع والعطش .
وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داء من الأدواء بحبسه ، وقد نبه سبحانه باستفراغ أدناها وهو البخار المحتقن في الرأس ، على استفراغ ما هو أصعب منه ، كما هي طريقة القرآن ، التنبية بالأدنى على الأعلى .
وأما الحمية ، فقال في آية الوضوء : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّبا } فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حميةٌ له أن يصيب جسده ما يؤذيه .
وهذا تنبيه على الحمية عن كل مؤذٍ له ، من داخل أو خارج . فقد أرشد سبحانه عباده إلى أصول الطب ، ومجامع قواعده .
ونحن نذكر هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ونبين أن هديه فيه أكمل هدي .
فأما طب القلوب ، فمسلّم إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم ، وعلى أيديهم ، فإن صلاح القلوب أن تكون عرافة بربها وفاطرها ، وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه ، وأن تكون مؤثرة لمرضاته ولمحابه ، متجنبة لمناهيه ومساخطه .
ولا صحة لها ولا حياة لها البتة إلا بذلك ، ولا سبيل إلى تلقيه إلا من جهة الرسل .
وما يظن من حصول القلب بدون اتباعهم ، فغلط ممن يظن ذلك ، وإنما ذلك حياة نفسه البهيمية الشهوانية وصحتها وقوتها ، وحياة قلبه وصحته وقوته عن ذلك بمعزل . ومن لم يميز بين هذا وبين هذا ، فليبك على حياة قلبه ، فإنه من
الأموات ، وعلى نوره ، فإنه منغمس في بحار الظلمات . انتهى .
وقد قرر رحمه الله هذا المقام بأسلوب آخر في كتاب " طريق الهجرتين " نورده أيضاً لبداعة أسلوبه قال عليه الرحمة :
ولما كان مرض البدن خلاف صحته وصلاحه وهو خروجه عن اعتداله الطبيعي بفساد يعرض له ، يفسد به إدراكه وحركته الطبيعية ، فإما أن يذهب إدراكه بالكلية كالعمى والصمم والشلل ، وإما أن ينقص إدراكه لضعف في آلات الإدراك مع استقامة إدراكه وإما أن يدرك الأشياء على خلاف ما هي عليه ، كما يدرك الحلو مراً ، والخبيث طيباً ، والطيب خبيثاً .
وأما فساد حركته الطبيعية ، فمثل أن تضعف قوته الهاضمة أو الماسكة أو الدافعة أو الجاذبة .
فيحصل له من الألم بحسب خروجه عن الاعتدال ، ولكن مع ذلك لم يصل إلى حد الموت والهلاك ، بل فيه نوع قوة على الإدراك والحركة ، سبب هذا الخروج عن الاعتدال ، إما فساد في الكمية أو في الكيفية ، فالأول إما نقص في المادة فيحتاج إلى زيادتها ، وإما زيادة فيها فيحتاج إلى نقصانها .
والثاني إما بزيادة الحرارة أو البرودة ، أو الرطوبة أو اليبوسة أو نقصانها عن القدر الطبيعي ، فيداوى بمقتضى ذلك ، ومدار الصحة على حفظ القوة والحمية عن المؤذي ، واستفراغ المواد الفاسدة ، نظر الطبيب دائر على هذه الأصول الثلاثة ، وقد تضمنها الكتاب العزيز ، وأرشد إليها من أنزله شفاء ورحمة .
فأما حفظ القوة فإنه سبحانه أمر المسافر والمريض أن يفطرا في رمضان ، ويقضي المسافر إذا قدم ، والمريض إذا برأ ، حفظاً لقوتهما عليهما .
فإن الصوم يزيد المريض ضعفاً ، والمسافر محتاج إلى توفير قوته عليه لمشقة السفر ، فالصوم يضعفها .
فأما الحمية عن المؤذي ، فإنه سبحانه حمى المريض عن استعمال الماء البارد في الوضوء والغسل إذا كان يضره ، وأمره بالعدول إلى التيمم ، حمية له عن ورود المؤذي عليه من ظاهر بدنه ، فكيف بالمؤذي له في باطنه ؟ وأما استفراغ المادة الفاسدة ، فإنه سبحانه أباح للمُحرم الذي به أذى من رأسه أن يحلقه ، فيستفرغ الحلق الأبخرة المؤذية له ، وهذا من أسهل أنواع الإستفراغ وأخفها ، فنبه به على ما هو أحوج إليه منه .
وذاكرت مرة بعض رؤساء الطب بمصر بهذا فقال : والله لو سافرت إلى الغرب في معرفة هذه الفائدة ، لكان سفراً قليلاً أو كما قال . انتهى .
ثم ردّ تعالى على من حرَّم شيئاً من المآكل والمشارب والملابس ، من تلقاء نفسه من غير شرع من الله ، تأكيداً لما سبق ، بقوله سبحانه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ 32 ] .
{ قُلْ } أي : لهؤلاء المشركين الذي يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم : { مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ } أي : من الثياب وسائر ما يتجمل به : { اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } من النبات كالقطن والكتان ، والحيوان كالحرير والصوف ، والمعادن كالدروع ، هكذا عمم المفسرون هنا ، وجهه أن تخصيصه يغني عنه ما مر : { وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ } أي : المستلذات من المآكل والمشارب .
قال المهايمي : يعني إن زعموا أن التزين والتلذذ ينافيان التذلل الذي هو العبادة ، فيحرمان معها ، فأعلمهم أن قد أخرجها لعباده الذين خلقهم لعبادته ليتزينوا بها حال العبادة ، فعل عبيد الملوك إذا حضروا خدمتهم ، ولا ينافي ذلك تذللهم لهم ، وكذلك الطيبات التي خلقها التي خلقها لتطييب قلوب عباده ليشكروه ، والشكر عبادة ، فلا ينافي التلذذ العبادة ، بل قد يكون داعية إليها . انتهى .
تنبيهات :
الأول : فسرت الطيبات بالحلال ، وفسرت باللحم والدسم الذي كانوا يحرمونه أيام الحج كما تقدم ، وفسرت بالبحائر والسوائب كما قال تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً } . وظاهر أن لفظ الآية أعم من ذلك ، وإن كان يدخل فيه ما ذكر دخولاً أولياً ، لأنها إنما وردت نعياً عليهم فيه ، والعبرة بعموم اللفظ .
قال الرازي : لفظ الزينة يتناول جميع أنواع التزين ، ومنه تنظيف البدن ، ومنه المركوب ، ومنه أنواع الحي يعني للنساء . ثم قال : ويدخل تحت الطيبات ، كل ما يستلذ ويشتهى من أنواع المأكولات والمشروبات ، ويدخل تحته التمتع بالنساء والطيب ، وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون ، ما هم به من الإختصاء والتبتل .
الثاني : دلت الآية على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإباحة ، لأن الاستفهام في : { مَنْ } لإنكار تحريمها على وجه بليغ ، لأن إنكار الفاعل يوجب إنكار الفعل لعدمه بدونه .
الثالث : في الآية رد على من تورّع من أكل المستلذات وليس الملابس الرقيقة ، لأنه لا زهد في ترك الطيب منها ، ولهذا جاءت الآية معنونة بالاستفهام المتضمن للإنكار على من حرم ذلك على نفسه ، أو حرمه على غيره ، وما أحسن ما قال ابن جرير الطبري : لقد أخطأ من آثر لباس الشعر والصوف ، على لباس القطن والكتان ، مع وجود السبيل إليه من حله ، ومن أكل البقول والعدس ، واختاره على خبر البر ، ومن ترك أكل اللحم خوفاً من عارض الشهوة . انتهى .
الرابع : قال ابن الفرس : واستدل بالآية من أجاز لبس الحرير والخز للرجال .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سنان بن سلمة أنه كان يلبس الخز ، فقال له الناس مثلك يلبس هذا ؟ فقال لهم : من ذا الذي يحرم زينة الله التي أخرج لعباده ؟ ولكن أخرج عن طاوس أنه قرأ هذه الآية وقال : لم يأمرهم بالحرير ولا الديباج ، ولكنه كانوا إذا طاف أحدهم وعليه ثيابه ضرب وانتزعت عنه . كذا في " الإكليل " .
أقول : عدم شمول الآية للحرير غني عن البيان ، لأنه ما خصه الدليل لا يتناوله العام ، والأحاديث في تحريم الحرير لا تحصى كثرة ، فاستنباط حله منها مردود على زاعمه .
{ قُلْ هِي } أي : زينة الله والطيبات ، مخلوقة : { لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } بالأصالة ، والكفرة وإن شاركوهم فيها فتبع : { خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : لا يشاركهم فيها غيرهم ، لأن الله حرم الجنة على الكافرين وانتصابها على الحالية ، وقرئ بالرفع ، أي : على أنه خبر بعد خبر .
لطيفة :
قال المهايمي : إنما خلقت للمؤمنين ليعلموا بها لذات الآخرة ، فيرغبوا فيها مزيد رغبة ، لكن شاركهم الكفرة فيها لئلا يكون هذا الفرق ملجئاً لهم إلى الإيمان .
فإذا ذهب هذا المعنى ، تصير خالصة لهم يوم القيامة ، فلو حرمت على المؤمنين لكانت مخلوقة للكافرين ، وهو خلاف مقتضى الإيمان ، وهو العبادة والتقوى ، ولكن من غير انهماك في الشهوات .
{ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : الحكمة في خلق الأشياء ، واستعمال الأشياء على نهج ينفع ولا يضر .
فإن زعموا أنه يُخاف من التزين والتلذذ الوقوع في
الكبر ، والإنهماك في الشهوات ، فيحرمان على أهل العبادة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ 33 ] .
{ قُلْ } إنهما من المنافع الخاصة في أنفسهما . والإفضاء احتمال غير محقق ، فإذا أفضى ، فالحرام هو المفضى إليه بالذات لأنه : { إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ } أي : ما تفاحش قبحه من الذنوب ، أي : تزايد وهي الكبائر ، وهي ما يتعلق بالفروج .
{ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } أي : ما جاهر به بعضهم بعضاً ، وما ستره بعضهم عن بعض ، وما ظهر من أفعال الجوارح ، وما بطن من أفعال القلوب .
{ وَالإِثْمَ } أي : ما يوجب الإثم ، وهو عام لكل ذنب وذكره للتعميم بعد التخصيص ، ويقال إن الإثم هو الخمر ، قال الشاعر :
~نهانا رسول الله نقرب الزنى وأن نشرب الإثم الذي يُوجب الوزرا
وأنشد الأخفش :
~شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تذهب بالعقول
وهومنقول عن ابن عباس والحسن .
وذكره أهل اللغة كالأصمعي وغيره ، قال الحسن : ويصدقه قوله تعالى : { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } .
وقال ابن الأنباري : لم تسم العرب الخمر إثماً في جاهلية ولا إسلام ، والشعر المذكور موضوع ، ورد بأنه مجاز لأنه سببه . وقال أبو حيان : هذا التفسير غير صحيح هنا
لأن السورة مكية ، ولم تحرم الخمر إلا بالمدينة بعد أُحد وقد سبقه إلى هذا غيره .
وأيضاً ، الحصر يحتاج إلى دليل ، كذا في " العناية " .
{ وَالْبَغْيَ } أي : الاستطالة على الناس وظلمهم ، إنما أفرده بالذكر ، مع دخوله فيما قبله ، للمبالغة في الزجر عنه .
وذلك لأن تخصيصه بالذكر يقتضي أنه تميز من بينها حتى عد نوعاً مستقلاً .
{ بِغَيْرِ الْحَقِّ } متعلق بالبغي ، مؤكد له معنى ، وقيل : البغي قد يخرج عن كونه ظلماً إذا كان بسبب جائز في الشرع كالقصاص ، إلا أنه مثله لا يسمى بغياً حقيقة ، بل مشاكلة : { وَ } قد حرم : { أَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } أي : برهاناً أي : ما لم يقم عليه حجة .
قال الزمخشري : فيه تهكم ، لأنه لا يجوز أن ينزل برهاناً بأن يشرك به غيره .
وفي " العناية " : إنما جاء التهكم من حيث إنه يوهم أنه لو كان عليه سلطان
لم يكن محرماً ، دلالة على تقليدهم في الغي ، والمعنى على نفي الإنزال والسلطان معاً على الوجه الأبلغ . انتهى .
قال الرازي : وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بالتقليد باطل .
وتبعه القاضي فقال : في الآية تنبيه على تحريم اتباع ما لم يدل عليه برهان : { وَ } قد حرم عليكم : { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي : تتقولوا عليه ، وتفتروا الكذب في التحليل والتحريم ، أو في الشرك .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية على تحريم جميع الذنوب ، لأن قوله الفواحش والإثم ، يشتمل على الصغير والكبير ، والأفعال القبيحة ، والعقود المخالفة للشرع ، والأقاويل الفاسدة ، والاعتقادات الباطلة .
ودخل في قوله : { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } أفعال الجوارح ، وأفعال القلوب والخيانات ، والمكر ، والخديعة ، ودخل تحت قوله : { وَالْبَغْيَ } كل ظلم يتعدى على الغير ، فيدخل فيه ما يفعله البغاة والخوارج ، والأمراء إذا انتصروا بغير حق . ودخل تحت قوله
{ وَأَن تُشْرِكُواْ } تحريم كل شرك وعبادة لغير الله . ودخل تحت قوله : { وَأَن تَقُولُواْ } كل بدعة وضلالة وفتوى بغير حق ، وشهادة زور ونحوه .
فالآية جامعة في المحرمات ، كما أن ما قبلها جامعة في المباحات ، وفيه تعليم للآداب ، ديناً ودنيا ، وتدل على بطلان التقليد ، لأنه أوجب اتباع الحجة ، لقوله : { ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } ، والسلطان الحجة .
وتدل على أن لكل أحد وقت حياة ، ووقت موت ، لا يجوز فيه التقديم والتأخير ، فيبطل قول من يقول : المقتول مات قبل أجله . انتهى .
ثم أوعد تعالى أهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عنده سبحانه ، كما نزل بالأمم ، فقال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ 34 ] .
{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } أي : مدة أو وقت لنزول العذاب بهم : { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ } أي : ميقاتهم المقدر لهم .
{ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } أي : لا يتركون بعد الأجل شيئاً قليلاً من الزمان ، ولا يهلكون قبله كذلك ، والساعة مثل في غاية القلة من الزمان .
لطائف :
1 - وقع هذا التركيب في موضع من التنزيل ، وفيه بحث مشهور : وهو أنه لما
كان الظاهر عطف لا يستقدمون ، على لا يستأخرون ، كما أعربه الحوفيّ وغيره ، أُورد عليه أنه فاسد ، لأن إذا ، إنما يترتب عليها الأمور المستقبلة لا الماضية ، و الاستقدام حينئذ بالنسبة إلى محل الأجل متقدم عليه ، فكيف يترتب عليه ما تقدمه ؟ ويصير باب الإخبار بالضروري الذي لا فائدة فيه ، كقولك : إذا قمت فيما يأتي ، لم يتقدم قيامك فيما مضى .
وأجيب بأن المراد بالمجيء الدنو ، بحيث يمكن التقدم في الجملة ، كمجيء اليوم الذي ضرب لهلاكهم ساعة فيه .
وقيل : إن جملة : { لا يَسْتَقْدِمُونَ } مستأنفة . وقيل : إنها معطوفة على الشرط وجوابه ، أو على القيد والمقيد ، أو أن مجموع لا يستأخرون ولا يستقدمون ، كناية عن أنهم لا يستطيعون تغييره .
والتحقيق أنه عطف على : { يَسْتَأْخِرُونَ } لكن لا لبيان انتفاء التقدم ، مع إمكانه في نفسه كالتأخر ، كما يتوهم ، بل للمبالغة في انتفاء التأخر ، يعني أن التأخر مساو للتقدم في الاستحالة ، ولذا نظمه معه في سلك ، كما في قوله سبحانه : { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } فإن من مات كافراً مع ظهور أن لا توبة له رأساً ، قد نظم في عدم القبول ، في سلك من سوّفها إلى حضور الموت ، إيذاناً بتساوي وجود التوبة حينئذ وعدمها بالمرة .
2 - تقديم بيان انتفاء الإستئخار ، لما أن المقصود بالذات بيان عدم خلاصهم من العذاب . وأما ما ، في قوله تعالى : { مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } من سبق السبق في الذكر ، فلما أن المراد هناك بيان سر تأخير إهلاكهم مع استحقاقهم له حسبما ينبئ عنه قوله تعالى : { ذََرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } . فالأهم هناك بيان انتفاء السبق .
3 - صيغة الإستفعال للإشعار بعجزهم وحرمانهم عن ذلك ، مع طلبهم له ، أفاده أبو السعود .
ثم أنذر تعالى بني آدم بأنه سيبعث إليهم رسلاً يهدونهم وبشّر وأنذر بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ 35 ] .
{ يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي }
شرط ذكره بحرف
الشك ، للتنبيه على أن إتيان الرسل أمر جائر غير واجب . وضمت إليها ، ما لتأكيد معنى الشرط ، ولذلك أكد فعلها بالنون الثقيلة أو الخفيفة .
والمراد ببني آدم جميع الأمم ، وهو حكاية لما وقع مع كل قوم وليس المراد بالرسل نبينا صلى الله عليه وسلم ، وببني آدم أمته كما قيل ، فإنه خلاف الظاهر ، كذا في " القاضي و حواشيه " ، وجواب الشرط قوله تعالى : { فَمَنِ اتَّقَى } أي : التكذيب : { وَأَصْلَحَ } أي : عمله { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } من العذاب : { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } في الآخرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 36 ] .
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ } أي : تكبروا : { عَنْهَا } فلم يؤمنوا بها : { أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
تنبيه : على وجوب اتباع الرسل
قال الجشمي : تدل الآية ، وقبول ما يؤدون ، وتدل على أن الصلاح في الرسل أن تكون من جملة من بعث إليهم ، لأنهم يكونون بطريقته أعرف ، ومن النفار عنه أبعد ، وإلى السكون إليه أقرب ، وتدل على أن الغرض بالرسول ما يؤدي من الأدلة ، فلذلك قلنا لا يجوز أن يكون رسولاً إلا ومعه ما يؤديه : وتدل على أن الجنة تنال بشيئين : بالأعمال الصالحة ، واتقاء المعاصي ، فبطل قول المرجئة .
وتدل على أن المؤمن في الآخرة لا يخاف ولا يحزن ، خلاف ما يقوله الأحسدية كذا ، والحشوية هكذا ، قاله أكثر أصحابنا .
وقال أبو بكر أحمد بن علي : قوله : { فلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } كقول الطبيب للمريض لا بأس عليك ، يعني أن أمره يؤول إلى العافية .
وليس هذا بالوجه لأنه نفى الخوف والحزن مطلقاً ، وتدل على الوعيد للمكذبين ، كما تدل على الوعيد للمطيعين ، ترغيباً وترهيباً ، وتدل على أن التقوى والصلاح والتكذيب فعل العبد فبطل قولهم في المخلوق والاستطاعة . انتهى كلامه رحمه الله .
ثم ذكر تعالى وعيد المكذبين الذين تقدم ذكرهم ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } [ 37 ] .
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } أي : ممن تقول على الله كذباً بالتحليل والتحريم ، أو بنسبة الولد والشريك ، أو كذب بآياته المنزلة .
{ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ } أي : يصيبهم حظهم مما كتب لهم من الرزق والعمر وغير ذلك ، أي : مع ظلمهم وافترائهم وتكذيبهم ، لا يُحرمون ما قدر لهم من العمر والرزق إلى انقضاء آجالهم .
وفي الآية وجوه أخر ، هذا أظهرها وأقواها في المعنى ، وتتمة الآية تدل عليه ، وحينئذ تتلاقى مع نظائرها ، كقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } .
وقوله تعالى : { وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً } الآية .
{ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ } أي : ملائكة الموت تقبض أرواحهم
{ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ } أي : أين الآلهة التي كنتم تعبدونها ليكونوا لكم شفعاء ، فلا نراهم يخلِّصونكم مما تحقق عليكم من هذه الشدائد .
وفائدة السؤال وجهان :
توبيخ تبكيت لهم يزيدهم غماً إلى غم ، ولطف بالمكلف لأنه إذا تصور ذلك صرفه عن التكذيب ، و ما ، وقعت موصولة بأين في خط المصحف العثماني ، ومقتضى الإصطلاح الفصل ، لأنها موصولة .
{ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا } أي : غابوا عنا فلم يخلصونا من شيء .
{ وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } أي : عابدين لما لا يستحق العبادة ، اعترفوا بأنهم لم يكونوا على شيء فيما كانوا عليه ، وأنهم لم يحمدوه في العاقبة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ } [ 38 ] .
{ قَالَ } أي : الله سبحانه لهم في الآخرة : { ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ } أي : في
جملة أمم قد مضت : { مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ } يعني كفار الأمم الماضية من النوعين .
{ فِي النَّارِ } متعلق بـ : { ادخلوا } .
{ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ } أي : في النار : { لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } أي : التي قبلها لضلالها بها ، كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام :
{ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ } الآية .
{ حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً } أي : تداركون ، بمعنى لاحقوا واجتمعوا في النار { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ } وهم الأتباع ، { لأُولاَهُمْ } أي : لأجل أولاهم إذ الخطاب مع الله سبحانه ، لا معهم .
قال ابن كثير : أي : قالت أخراهم دخولاً وهم الأتباع لأولادهم وهم المتبعون ، لأنهم أشد جرماً من أتباعهم ، فدخلوا قبلهم ، فيشكوهم الأتباع إلى الله يوم القيامة ، لأنهم هم الذين أضلوهم عن سواء السبيل ، فيقولون : { رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا } أي : سنوا لنا الضلال ، ودعوا إليه ، فاقتدينا بهم { فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ } أي : مضاعفاً لأنه ضلوا وأضلوا .
{ قَالَ } أي : تعالى : { لِكُلٍّ ضِعْفٌ } أي : عذاب مضاعف ، أما القادة والرؤساء فبالضلال والإضلال ، وأما الأتباع والسفلة ، فبالضلال وتقليد أهل الضلال ، مع وجود الهادين بالبراهين القاطعة : { وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ } أي : ما لكم ، أو ما لكل فرقة ، وقرئ بالياء ، وعليها ، فهو تذييل لم يقصد إدراجه في الجواب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } [ 39 ] .
{ وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } أي : لا فضل لكم علينا في ترك الكفر والضلال حتى يكون عذابنا مضاعفاً دونكم ، فقد ضللتم كما ضللنا ، فنحن وإياكم متساوون في الضلال واستحقاق العذاب .
وقوله تعالى : { فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } من قول القادة ، أو من قول الله تعالى للفريقين ، وهو أظهر .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية على أن الكفار والضلال والمبتدعة وإن تناصروا وتعاونوا على ضلالتهم ، وتوادوا في الدنيا ، فإنهم في الآخرة يتلاعنون ويتقاطعون ويسألون العذاب لمن أضلهم ، وتدل على فساد التقليد ، والاغترار بقول علماء السوء ، وتدل على أن الداعي إلى الضلال مضل ، وتدل على أن إضلال غيره إياه ليس بعذر له .
وتدل على أن اشتراكهم في العذاب لا يوجب لهم راحة ، بخلاف الإشتراك
في محن الدنيا .
وتدل على أن ذلك الإضلال فعلهم ، فيبطل قول المجبرة في المخلوق ، والهدى والضلال .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ } [ 40 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء } أي : لا تفتح لأعمالهم ، ولا لدعائهم ، ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله ، أي : لا يقبل ذلك منهم لأنه ليس صالحاً ولا طيباً ، وقد قال سبحانه : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه } ، قال ابن عباس : أي : لا يرفع لهم منها عمل صالح ، ولا دعاء . رواه جماعة عنه وقاله مجاهد وابن جبير .
أو المعنى : لا تنزل عليهم البركة والرحمة ، ولا يغاثون ، لأنه أجرى العادة بإنزال الرحمة من السماء ، كما في قوله : { فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ } ، أو المعنى : لا يؤذن لهم في صعود السماء ولا يطرق لهم إليها ليدخلوا الجنة ، على ما روي أن الجنة في السماء .
أو المعنى لا تفتح لأرواحهم إذا ماتوا ، أبواب السماء ، كما تفتح لأرواح المؤمنين . رواه الضحاك عن ابن عباس .
ورواه ابن جرير عن البراء : < أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح الفاجر ، وأنه يصعد بها إلى السماء ، فيصعدون بها ، فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذا الروح الخبيث ؟ فيقولون فلان ! بأقبح أسمائه التي كان يدعى بها في الدنيا ، حتى ينتهوا بها إلى السماء ، فيستفتحون له ، فلا يفتح له ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء } الآية > .
قال ابن كثير : هكذا رواه .
وهو قطعة من حديث طويل رواه الإمام أحمد مطولاً وأبو داود والنسائي وابن ماجة من طرق .
تنبيهات :
الأول : قال الشهاب كون السماء لها أبواب ، وأنها تفتح للدعاء الصالح ، وللأعمال الصاعدة أ وللأرواح ، وارد في النصوص القرآنية ، والأحاديث النبوية ، فلا حاجة إلى تأويل . انتهى .
وهذا على قاعدة أهل الظاهر في مثل ذلك ، إلا أن الإطلاق لا ينحصر في الحقيقة ، والتنزيل الكريم إنما ورد على مناحٍ للعرب معروفة في لسانهم . والله أعلم .
الثاني : التضعيف في تفتح ، لتكثير المفعول ، لا الفعل لعدم مناسبة المقام .
الثالث : قرئ بالتخفيف في تفتح ، وبالتخفيف ، والياء ، وقرئ على البناء للفاعل ، ونصب الأبواب ، على أن الفعل للآيات مجازاً ، وبالياء على أنه لله تعالى .
{ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ } أي : يدخل : { الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } أي : ثقب الإبرة ، وهو غير ممكن ، فكذا دخولهم .
لطائف :
الأول : قرأ الجمهور الجَمَل ، بفتح الجيم والميم ، وفسروه : بأنه الجمل المعروف وهو البعير .
قال الفراء : الجمل زوج الناقة ، وقال شمر : البكر والبكر بمنزلة الغلام والجارية ، والجمل والناقة منزلة الرجل والمرأة .
وقرئ في الشواذ الجُمّل ، كسكَّر وصُرد وقُفل ، وعُنق وجبْل بمعنى حبل السفينة الغليظ الذي يقال له القَلْس .
وقال أبو البقاء : يقرأ في الشاذ بسكون الميم ، والأحسن أن يكون لغة ، لأن تخفيف المفتوح ضعيف ، ويقرأ بضم الجيم وفتح الميم وتشديدها ، وهو الحبل الغليظ ، وهو جمع مثل صُوَّم وقُوَّم ، ويقرأ بضم الجيم والميم مع التخفيف وهو جمع مثل أسَد وأُسُد ، ويقرأ كذلك إلا أن الميم ساكنة ، وذلك على تخفيف المضموم . انتهى .
وذكر الكواشي أن القراءات المذكورة كلها لغات في البعير ، ما عدا جُمَّلاً كسُكَّر وقفل ، ونوقش في ذلك . انتهى .
وقراءته كسُكَّر على معنى الحبل المذكور ، رواها مجاهد وعكرمة عن ابن عباس ، واختارها سعيد بن جبير .
قال الزمخشري : وعن ابن عباس رضي الله عنه ، أن الله أحسن تشبيهاً من أن يشبه بالجمل ، أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة ، والبعير لا يناسبه ، إلا أن قراءة العامة أوقع ، لأن سم الإبرة مثل في ضيق المسلك ، يقال : أضيق من خَرْتِ الإبرة .
وقالوا للدليل الماهر خُرِّيت للإبتداء به في المضايق المشبهة بأخْرات الإبر ، والجمل مثل في عظم الجرم ، قال : جسم الجمال وأحلام العصافير .
إن الرجال ليسوا بجَزَر تراد منهم الأجسام ، فقيل : لايدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبداً من ولوج هذا الحيوان الذي لا يلج إلا في باب واسع ، وفي ثقب الإبرة .
وعن ابن مسعود : أنه سئل عن الجمل ؟ فقال : زوج الناقة ، استجهالاً للسائل ، وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلف . انتهى .
وحاصله أن الجمل لما كان مثلاً في عظم الجسم ، لأنه أكثر الحيوانات جسماً عند العرب ، وخرق الإبرة مثلاً في الضيق ، ظهر التناسب .
على أن في إيثار الجمل ، وهو مما ليس من شأنه الولوج في سم الإبرة مبالغة في استبعاد دخولهم الجنة .
الثانية : السَّم : الثقب الضيق . قال أبو البقاء : بفتح السين وضمها ، لغتان . انتهى .
وصح بالتثليث فيه ، وفي القاتل المعروف ، صاحب القاموس وغيره ، إلا أنهم قالوا : المشهور في الثقب الفتح كما في التنزيل ، والأفصح في القاتل الضم .
قال العلامة الفاسي : قال الزبيديّ : لم أر من تعرض لكسرهما ، وكأنها عامية .
قلت : قال الزمخشري : وقرئ : { فيِ سَمِّ الْخيَاطِ } بالحركات الثلاث ، وكفى به مرجعاً .
الثالثة : الخِياط ككِتاب ومِنبر ، ما خيط به الثوب ، والإبرة ، كذا في القاموس .
قال الزمخشري : وقرأ عبد الله ( في سم المخيط ) . قال الشهاب : بكسر الميم وفتحها ، كما ذكره المُعرب ، وهي قراءة شاذة .
الرابعة : قال السيوطي في " الإكليل " : في قوله تعالى : { حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ } الخ ، جواز فرض المحال ، والتعليق عليه كما يقع كثيراً للفقهاء . انتهى .
والتعليق على المحال معروف في كلام العرب ، كقوله :
~إذا شاب الغراب أتيت أهلي وصار القارُ كاللبن الحليب
وقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ } أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع
{ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } [ 41 ] .
{ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ } أي : فرش من تحتهم : { وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } أي : أغطية ، إذا أحاطت بهم الخطيئة { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } أي : بالكفر ، وإنما عبر عنهم بالمجرمين تارة ، وبالظالمين أخرى ، إشعاراً بأنهم بتكذيبهم الآيات ، اتصفوا بكل واحد من ذينك الوصفين القبيحين .
وذكر الجرم مع الحرمان من دخول الجنة ، والظلم مع التعذيب بالنار الذي هو أشد من الحرمان المذكور ، تنبيهاً على أنه أعظم الجرائم ، ثم تأثر تعالى وعيده بوعده ، على سنته في تنزيله الكريم ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 42 ] .
{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } قال أبو البقاء : والذين آمنوا مبتدأ ، وفي الخبر وجهان :
أحدهما : { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } ، والتقدير منهم ، فحذف العائد ، كما حذف في قوله : { وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } .
والثاني : أن الخبر : { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ } و : { لا نُكَلِّفُ } معترض بينهما . انتهى .
وعلى الثاني اقتصر غير واحد من المحققين ، قالوا : وسر الإعتراض ، الترغيب في اكتساب ما يؤدي إلى النعيم المقيم ببيان سهولة مناله ، وتيسير تحصيله ، والذي حسنه سبق العمل الصالح قبله ، أي : وإذ علم أن مبنى التكليف على الوسع زادت الرغبة في ذلك الإكتساب ، لحصوله بما فيه يسر لا عسر .
لطيفة :
الوسع : ما يقدر عليه الْإِنْسَاْن بسهولة ويستمر . قال الرازي ، أخذاً من قول معاذ في الآية ، يسرها لا عسرها ، قال : وأما أقصى الطاقة فيسمى جهداً لا وسعاً ، وغلط
من ظن أن الوسع بذلك المجهود .
قلت : في القاموس : الوسع ـ مثلثةـ الجدة والطاقة كالسعة . وفيه : الجهد الطاقة ـ ويضم ـ والمشقة . انتهى .
قال ابن الأثير : الجهد بالفتح المشقة ، وقيل : المبالغة والغاية ، وبالضم الوسع والطاعة وقيل : وهما لغتان في الوسع والطاعة ، فأما في المشقة والغاية ، فالفتح لا غير . انتهى .
وبه يعلم أن ما جرى عليه الرازي قول للغويين ، ليس وفاقاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ 43 ] .
{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } أي : نخرج من قلوبهم أسباب الحقد والحسد والعدواة ، أو نطهرها منها ، حتى لا يكون بينهم إلا التواد والتعاطف ، وصيغة الماضي للإيذان بتحققه وتقرره .
{ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا } أي : لما جزاؤه هذا ، أي : لأسباب هذا العلو ، بإرسال الرسل والتوفيق للعمل .
{ وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ } أي : ما كنا لنرشد لذلك العلم الذي هذا ثوابه ، لولا أن وفقنا الله بدلائله وألطافه وعنايته .
{ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } أي : فاهتدينا بإرشادهم قال الزمخشري : يقولون ذلك ، أي : { الْحَمْدُ لِلّهِ } الخ سروراً واغتباطاً بما نالوا ، وتلذذاً بالتكلم به ، لا تقرباً ولا تعبداً ، كما ترى من رزق خيراً في الدنيا يتكلم بنحو ذلك ، ولا يتمالك أن لا يقوله ، للفرح والتوبة .
{ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : أعطيتموها بسبب أعمالكم في الدنيا ، فالميراث مجاز عن الإعطاء ، تجوّز به عنه إشارة إلى أن السبب في ليس موجبا ، ً وإن كان سباً بحسب الظاهر ، كما أن الإرث ملك بدون كسب وإن كان النسب مثلاً سبباً له .
وعلى ما تقرر ، فلا يقال إنه معارض لما ثبت في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم : < واعلموا أن
أحدكم لن يدخله عمله الجنة ! قالوا ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل > .
ولا يحتاج إلى الجواب عنه ، ولا أن يقال الباء للعوض لا للسبب ، وهذا تنجيز للوعد بإثابة المطيع ، لا بالإستحقاق والإستيجاب ، بل هو بمحض فضله تعالى ، كالإرث كذا في " العناية " .
روى الإمام مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إذا دخل أهل الجنة الجنةَ ، نادى مناد إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً ، وإن لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبداً ، وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبداً ، وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبداً > ، فذلك قوله عز وجل : { وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ } الآية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى
الظَّالِمِينَ } [ 44 ] .
{ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ } أي : إذا استقروا في منازلهم
{ أَصْحَابَ النَّارِ } توبيخاً وتحسيراً لهم : { أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً } حيث نلنا هذه المراتب العالية : { فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً } من تنزيلكم إلى أسفل سافلين ، لاستكباركم على الآيات والرسل .
{ قَالُواْ نَعَمْ } أي : وجدناه حقاً { فَأَذَّنَ } أي : نادى : { مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ } أي : بين الفريقين ليسمعهم ، زيادة في شماتة أحد الفريقين وندامة الآخر : { أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ } [ 45 ] .
{ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ } أي : يمنعون أنفسهم وغيرهم عن دينه القويم ، الذي بيّنه على ألسنة رسله ، لمعرفته وعمارة الدارين .
{ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } أي : يبغون لها زيغاً وميلاً عما هي عليه ، حتى لا يتبعها أحد .
{ وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ } أي : وهم بلقاء الله في الدار الآخرة جاحدون لا يؤمنون به ، فلهذا لا يبالون ، فيأتون المنكر من
القول والعمل ، لأنهم لا يرجون حساباً عليه ولا عقاباً ، فهم شر الناس .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } [ 46 ] .
{ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ } أي : بين الفريقين سور وستر ، أو بين الجنة والنار ، ليمنع وصول [ في المطبوع : ووصل ] أثر إحداهما إلى الأخرى .
وقد سمي هذا الحجاب سوراً في آية : { فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } ، وقوله تعالى : { وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ } أي : على أعراف الحجاب وشرفاته وأعاليه ، وهو السور المضروب بينهما ، جمع عرف ، مستعار من عرف الفرس ، وعرف الديك ، وكل ما ارتفع من الأرض عرف ، فإنه بظهوره أعرف مما انخفض .
وقد حكى المفسرون أقوالاً كثيرة في رجال الأعراف ، عن التابعين وغيرهم ، أنهم فضلاء المؤمنين ، أو هم الشهداء ، أو الأنبياء ، أو قوم أوذوا في سبيل الله ، فاطّلعوا على أعدائهم ليشمتوا بهم ، فعرفوهم بسيماهم ، وسلموا على أهل الجنة .
واللفظ ، لإبهامه ، يحتمل ذلك ؛ لأن السياق يدل على سمو قدرهم ، لا سيما بجعل منازلهم الأعراف ، وهي الأعالي ، والشرف ، كما تقدم ومن ذكر كلهم جديرون بذلك ـ والله أعلم - .
{ يَعْرِفُونَ كُلاًّ } أي : من أهل الجنة والنار { بِسِيمَاهُمْ } أي : بعلامتهم التي أعلمهم الله بها ، كبياض الوجه وسواده .
فائدة :
السيما مقصورة وممدودة ، والسيمة والسيمياء بكسرهن العلامة .
قال القاضي : السيمى فعلى من سام إبله ، إذا أرسلها في المرعى معلمة ، أو من وسم على القلب كالجاه من الوجه . انتهى .
وعلى الثاني اقتصر ابن دريد : { وَنَادَوْاْ } أي : رجال الأعراف : { أَصْحَابَ الْجَنَّةِ } أي : حين رأوهم من أعرافهم ، وقد عرفوهم من سيماهم أنهم أهل الجنة
{ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } بطريق الدعاء والتحية ، أو بطريق الإخبار بنجاتهم من المكاره .
والوجه الأول هو المأثور عن ابن عباس رضي الله عنه فيما رواه عنه العوفي .
قال رضي الله عنه : أنزلهم الله بتلك المنزلة ليعرفوا من في الجنة والنار ، وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه ، يتعوذوا بالله أن يجعلهم مع القوم الظالمين ، وهم
في ذلك يحيون أهل الجنة بالسلام : { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } الضميران في الجملتين لأصحاب الأعراف ، والأولى حال من الواو ، والثانية حال من فاعل
{ يَدْخُلوها } ، أي : نادوهم وهم لم يدخلوا الجنة بعد ، حال كونهم طامعين في دخولها ، مترقبين .
قال الجشمي رحمه الله : قيل : إذا كان أصحاب الأعراف أفاضل المؤمنين ، فلم تأخر دخولهم ؟ قلنا : هم تعجلوا اللذة بالشماتة من الأعداء وإن تأخر دخولهم ، لظهور فضلهم ، وجلالة طريقهم إلى منازلهم .
ولا يبعد عندي أن تكون [ في المطبوع : يكون ] جملة : { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } حالاً من : { أصحاب الجنة } أي : نادوهم بالسلام وهم في الموقف على طمع دخول الجنة يبشرونهم بالأمان والفوز من العذاب ، إشارة إلى سبق أهل الأعراف على غيرهم في دخول الجنة ، وعلو منازلهم على سواهم - والله أعلم - .
وذهب أبو مجلز إلى أن الضميرين لأصحاب الجنة ، أي : نادى أهل الأعراف أصحاب الجنة بالسلام ، حال كون أصحاب الجنة لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها ، وهو وجه جيد ، فالجملة الأولى حال من المفعول وهو أصحاب الجنة ، والثانية حال من فاعل يدخلوها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ 47 ] .
{ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ } أي : أبصار أهل الأعراف أو أهل الجنة .
قال الجشمي : وإنما قال : { صُرِفَتْ } لأن نظرهم إلى أهل النار نظر عداوة ، فلا ينظرون إلا أن تصرف وجوههم إليهم .
فأما أهل الجنة فوجوههم إليهم سروراً بهم ، فلا يحتاج إلى تكلف ، وقيل : لأنهم مع أهل الجنة بُعَداء من أهل النار ، فيحتاجون إلى صرف أبصارهم تلقاء أصحاب النار .
ثم قال الجشمي : تدل الآية على وجوب الاجتناب من الظَلمة في الدنيا ، كيلا يكون معهم في الآخرة . انتهى .
{ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ } أي : إلى جهنم { قَالُواْ } من شدة خوفهم تعوّذاً بالله { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي : في النار ، وقال أبو السعود : في وصفهم بالظلم ـ دون ما هم عليه حينئذ من العذاب وسوء الحال الذي هو الموجب للدعاء - إشعارٌ بأن المحذور عندهم ليس نفس العذاب فقط ، بل ما يوجبه ويؤدي إليه من الظلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } [ 48 ] .
{ وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً } يعني من عظماء أهل الضلالة { يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ } أي : التي تدل على أعيانهم إن تغيرت صورهم { قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ } أي : كثرتكم أو جمعكم للأموال التي تدفع بها الآفات { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } عن الحق ، أو على الخلق .
وقرئ ( تَسْتَكْثِرُونَ ) من الكثرة ، أي : من الأتباع الذين يستعان بهم في دفع الملمات .
قال ابن القيم : يعني ما نفعكم جمعكم وعشرتكم وتجرؤكم على الحق ولا استكباركم .
وهذا إما نفي وإما استفهام وتوبيخ ، وهو أبلغ وأفحم .
ثم نظروا إلى الجنة فرأوا من الضعفاء الذين كان الكفار يسترذلونهم في الدنيا ، ويزعمون أن الله لا يختصهم دونهم في الدنيا ، فيقول لهم أهل الأعراف .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } [ 49 ] .
{ أَهَؤُلاءْ } الضعفاء من المؤمنين : { الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ } برفع درجاتهم في الآخرة ، فهاهم في الجنة يتمتعون ويتنعمون ، وفي رياضها يُحبرون .
وقوله تعالى : { ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } أي : لا خوف عليكم من العذاب النازل بالكفار ، ولا تحزنون كحزن الكفار على فوات النعيم ، وهذا إما من قول أصحاب الأعراف ، يتآمرون بينهم بدخول الجنة بعد تبكيت أهل النار ، فيقول بعضهم لبعض : ادخلوا الجنة ، وإما من كلام أهل الأعراف للمؤمنين ، أي : يقولون لهم : أدخلوا الجنة ، أو من تتمة مخاطبة أهل الأعراف للرجال ، كأنه قيل لهم : أنظروا إلى هؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمته ، كيف نالوها ، حيث قيل من قِبَله تعالى : { ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ } .
وعلى : كل فالجملة مبنية على قول محذوف إيجازاً ، للعلم به .
لطيفة :
بيّن الزمخشري سر حبسهم على الأعراف ، ثم إدخالهم الجنة أبدع بيان ، فقال رحمه الله : يقال لأصحاب الأعراف : ادخلوا الجنة ، وذلك بعد أن يحبسوا على الأعراف ، وينظروا إلى الفريقين ، ويعرفوهم بسيماهم ، ويقولوا ما يقولون .
وفائدة ذلك بيان أن الجزاء على قدر الأعمال ، وأن التقدم والتأخر على حسبها ، وأن أحداً لا يسبق عند الله إلا بسبقه في العمل ، ولا يتخلف عنده إلا بتخلفه فيه ، وليرغب السامعون في حال السابقين ويحرصوا على إحراز قصبتهم ، وليتصوروا أن كل أحد يُعرف ذلك اليوم بسيماه التي استوجب أن يوسم بها من أهل الخير والشر ، فيرتدع المسيء عن إساءته ، ويزيد المحسن في إحسانه وليعلم أن العصاة يوبخهم كل أحد ، حتى أقصر الناس عملاً . انتهى .
ثم بين تعالى ذلة أهل النار وسؤالهم أهل الجنة من شرابهم وطعامهم ، بعد التكبر عليهم ، وبعد ما أقسموا لا ينالهم الله برحمة ، وأنهم لا يجابون إلى ذلك ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ } [ 50 ] .
{ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء } أي : الذي رحمكم الله به ليسكن حرارة النار والعطش .
قال الجشمي : وذكروا لفظ الإفاضة ، لأن أهل الجنة أعلى مكاناً .
{ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ } أي : من الأطعمة والفواكه { قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ } أي : منعهما عنهم ، لأنه أنعم عليهم في الدنيا ، فلم يشكروه ، فمنعهم نِعَمَه في الآخرة . فالتحريم تحريم منع ، لا تحريم تعبد . ثم وصف الكافرين بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } [ 51 ] .
{ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً } أي : مما زينه لهم الشيطان . واللهو : كل ما
صد عن الحق ، واللعب : كل أمر باطل ، أي : ليس دينهم في الحقيقة إلا ذلك ، إذ هو دأبهم وديدنهم : { وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } بزخارفها العاجلة ، فلم يعملوا : { فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ } أي : نتركهم ترك المنسي ، فلا نرحمهم بما نرحم به من عمل للآخرة .
{ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا } أي : كما فعلو بلقائه ، فعل الناسين ، فلم يُخطروه ببالهم ، ولم يهتموا به .
لطيفة :
قال الشهاب : { نَنْسَاهُمْ } تمثيل ، شبّه معاملته تعالى مع هؤلاء بالمعاملة مع من لا يعتد به ، ويلتفت لغيه ، فينسى ، لأن النسيان لا يجوز على الله تعالى ، أي : لأنه تعالى لا يشذ عن علمه شيء ، كما قال : { فِيْ كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } ، والنسيان يستعمل بمعنى الترك كثير في لسان العرب .
ويصح هنا أيضاً ، فيكون استعارة تحقيقية ، أو مجازاً مرسلاً ، وكذا نسيانهم لقاء الله أيضاً ، لأنهم لم يكونوا ذاكري الله حتى ينسوه ، فشبه عدم إخطارهم لقاء الله والقيامة ببالهم ، وقلة مبالاتهم بحال من عرف شيئاً ، ثم نسيه ، وليست الكاف للتشبيه ، بل للتعليل ، ولا مانع من التشبيه أيضاً . انتهى .
وقال تعالى : { وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } أي : وكما كانوا منكرين أنها من عند الله تعالى .
روى الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < يؤتى بالعبد يوم القيامة ، فيقول الله : ألم أجعل لك سمعاً وبصراً ومالاً وولداً ، وسخرت لك الأنعام والحرث ، وتركتك ترأس وتربع ، فكنت تظن أنك ملاقي يومك هذا ؟ قال فيقول : لا ! فيقول له : اليوم أنساك كما نسيتني > .
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم : < فيلقى العبد ربه ، فيقول : أي : قل ! ألم
أكرمك وأسوّدك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأتركك ترأس وتربع ؟ فيقول : بلى يا رب ! فيقول : أظننت أنك ملاقي ؟ فيقول : إني أنساك كما نسيتني ! >
ولما أخبر تعالى عن خسارتهم في الآخرة ذكر أنه أزاح عللهم في الدنيا بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ 52 ] .
{ وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ } أي : بيّنا فيه الإعتقادات والأحكام والأمور الأخروية تفصيلاً مبيناً { عَلَى عِلْمٍ } أي : عالمين كيف نفصل أحكامه ومواعظه وقصصه وسائر معانيه ، حتى جاء محكماً قيماً غير ذي عوج ، وهذا كقوله تعالى : { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِه } .
{ هُدًى } أي : دلالة ترشدهم إلى الحق ، وتنجيهم من الضلالة .
{ وَرَحْمَةً } أي : ينجيهم من العذاب لما فيه من الدلائل ورفع الشبه : { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } لأنهم المغتنمون لفوائده .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [ 53 ] .
{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } أي : ما ينتظرون إلا ما يؤول إليه أمره ، من تبين صدقه ، بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد .
قال الشهاب : فالنظر هنا بمعنى الإنتظار لا بمعنى الرؤية . والتأويل بمعنى العاقبة ، وما يقع في الخارج ، وهو أصل معناه ، ويطلق على التفسير أيضاً ، والمعنى : أنهم قبل وقوع ما هو محقق ، كالمنتظرين له ، لأن كل آت قريب ، فهم على شرف ملاقاة ما وعدوا به ، فلا يقال : كيف ينتظرونه مع
جحدهم ؟ فإنهم وإن جحدوه ، إلا أنهم بمنزلة المنتظرين وفي حكمهم ، من حيث أن تلك الأحوال تأتيهم لا محالة [ في المطبوع : لامحاله ] .
{ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } يعني يوم القيامة ، لأنه يوم الجزاء ، وما تؤول إليه أمورهم { يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ } أي : تركوه ترك المنسي ، حين كان ينفعهم الذكر ، فلم يؤمنوا به عند معاينة العذاب .
{ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } أي : بما هو واقع من
الإعتقادات والوعد والوعيد .
{ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا } في إزالة العذاب : { أَوْ نُرَدُّ } إلى مكان العمل : { فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } من الجحود واللهو ، واللعب وأعمال الدنيا .
قال عز وجل : { قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ } بصرف أعمالهم في الكفر : { وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي : ذهب عنهم ما كانوا يفترون من أن معبوديهم شفعاؤهم عند الله ، وعلموا أنهم كانوا في دعواهم كاذبين .
ولما قدّم سبحانه ذكر الكفار وعبادتهم غيره ، سبحانه ، احتج عليهم ، مبيناً بأفعاله أنه لا معبود سواه بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ 54 ] .
{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أي : إن سيدكم ومالككم ومدبركم الذي يجب أن تعبدوه أيها الناس ، الذي أنشأ أعيان السموات والأرض في مقدار ستة أيام .
وفي هذه الآية مسائل :
الأولى : قال الشهاب : اليوم في اللغة مطلق الوقت ، فإن أريد هذا ، فالمعنى في ستة أوقات ، كقوله تعالى : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَه } .
وإن أريد المتعارف ، وهو زمان طلوع الشمس إلى غروبها ، فالمعنى في مقدار ستة أيام ، لأن اليوم إنما كان بعد خلق الشمس والسموات ، فيقدر فيه مضاف . انتهى .
وفي شرح القاموس : إن اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها ، أو من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس ، وإن الثاني تعريف شرعي عند الأكثر .
ونقل عن الفاسي شارحه : أن اليوم عند المنجمين من الطلوع إلى الطلوع ، أو من الغروب إلى الغروب .
ثم قال الزبيدي : ويستعمل بمعنى مطلق الزمان ، نقله عن ابن هشام ، وحكاه عن سيبويه في قولهم : أنا ، اليوم ، أفعل كذا ، فإنهم لا يريدون يوماً بعينه ، ولكنهم يريدون الوقت الحاضر .
قال : وبه فسروا قوله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } .
ثم قال : وقد يراد باليوم الوقت مطلقاً ، ومنه والحديث : تلك أيام الهرج ، أي : وقته ولا يختص بالنهار دون الليل . انتهى .
وإرادة الوقت مطلقاً منه ، عين إرادة مطلق الزمان قبله ، كما يتبادر .
والظاهر أن إطلاقه على المتعارف والوقت مطلقاً ، لغوي فيهما - كما نقلهما شارح القاموس - خلافاً لظاهر كلام الشهاب السابق ، فتثبتْ هذا .
الثانية : قال ابن كثير : يخبر تعالى أنه خلق العالم ، سماواته وأرضه وما بين ذلك في ستة أيام ، كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن ، والستة الأيام : الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة ، وفيه اجتمع الخلق كله ، وفيه خلق آدم عليه السلام .
واختلفوا في هذه الأيام : هل كل يوم منها كهذه الأيام ، كما هو المتبادر إلى الأذهان ، أو كل يوم كألف سنة ، كما نص على ذلك مجاهد والإمام أحمد بن حنبل ؟ ويروى من رواية الضحاك عن ابن عباس .
فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق ، لأنه اليوم السابع ، ومنه سمي السبت ، وهو القطع ، فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة قال : < أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق الجلال فيها يوم الأحد ، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر يوم الجمعة ، آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة ، فيما بين العصر إلى الليل > فقد رواه مسلم بن الحجاج في
" صحيحه " والنسائي ، من غير وجه ، وفيه استيعاب الأيام
السبعة ، والله تعالى قد قال : في ستة أيام ، ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث ، وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار,
ليس مرفوعاً - والله أعلم - انتهى .
وقد بسطت الكلام فيه في شرحي على " الأربعين العجلونية " .
الثالثة : قال القاضي : في خلق الأشياء مدرجاً ، مع القدرة على إيجادها دفعة دليل للإختيار ، أي : لأنه لو كان بالإيجاب ، لصدر دفعة واحدة ، وفيه حث على التأني في الأمور .
وقوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } اعلم أن الاستواء ورد على معان اشترك لفظه فيها ، فجاء بمعنى الإستقرار ومنه : { وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِي } ، وبمعنى القصد ومنه :
{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } ، وكل من فرغ من أمر وقصد لغيره فقد استوى له ، وإليه قال الفراء : تقول العرب : استوى إليّ يخاصمني ، أي : أقبل عليّ ، ويأتي بمعنى الاستيلاء ، قال الشاعر :
~قد استوى بشر على العراق
وقال آخر :
~فلما علونا واستوينا عليهم تركناهم صرعى لنسر وكاسر
ويأتي بمعنى العلو ، ومنه آية : { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْك } ومنه هذه الآية .
قال البخاري في آخر " صحيحه " ، في كتاب الرد على الجهمية ، في باب قوله تعالى : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } قال مجاهد : استوى ، علا على العرش . انتهى .
وفي كتاب " العلو " للحافظ الذهبي قال إسحاق بن راهويه : سمعت غير واحد من المفسرين يقول : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } أي : ارتفع .
ونقل ابن جرير عن الربيع بن أنس أنه بمعنى ارتفع ، وقال : إنه في كل مواضعه بمعنى علا وارتفع ، وأقول : لا حجة إلى الإستكثار من ذلك ، فإن الاستواء غير مجهول ، وإن كان الكيف مجهولاً .
روى الإمام أحمد بن حنبل في كتابه " الرد على الجهمية " عن شريح بن النعمان ، عن عبد الله بن نافع قال : قال مالك بن أنس : الله في السماء ، وعلمه في كل مكان ، لا يخلو منه شيء .
وروى البيهقي عن ابن وهب قال : كنت عند مالك ، فدخل رجل فقال : يا أبا عبد الله ! : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } كيف استوى ؟ فأطرق مالك ، وأخذته
الرُّحَضَاء ، ثم رفع رأسه فقال : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } كما وصف نفسه ، ولا يقال : كيف و كيف عنه مرفوع ، وأنت صاحب بدعة .
وفي رواية قال : الكيف غير معقول ، والاستواء منه غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .
قال الحافظ الذهبي في كتاب " العلو " - بعدما ساق هذا - ما نصه :
وهو قول أهل السنة قاطبة ، أن كيفية الاستواء لا نعقلها بل نجهلها ، وأن استواءه معلوم ، كما أخبر في كتابه ، وأنه كما يليق به ، لا نتعمق ولا نتحذلق ، لا نخوض في لوازم ذلك نفياً ولا إثباتاً ، بل نسكت ونقف ، كما وقف السلف ، ونعلم أنه لو كان له تأويل ، لبادر إلى بيانه الصحابة والتابعون ، ولما وسعهم إقراره وإمراره ، والسكوت عنه ، ونعلم يقيناً مع ذلك أن الله جل جلاله ، لا مثل له في صفاته ، ولا في استوائه ، ولا في نزوله ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً .
ثم قال الذهبي : قال الإمام العلَم ، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري صاحب التصانيف الشهيرة ، في كتابه
" مختلف الحديث " : نحن نقول في قوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُم } ، أنه معهم ، يعلم ما هم عليه ، كما تقول للرجل وجهته إلى بلد شاسع : احذر التقصير فإني معك ، يريد أنه لا يخفى علي تقصيرك .
وكيف يسوغ لأحد أن يقول : إن الله سبحانه بكل مكان ، على الحلول فيه ، مع قوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } ومع قوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّب } ، كيف يصعد إليه شيء هو معه ؟ وكيف تعرج الملائكة والروح إليه وهي معه ؟ قال : ولو أن هؤلاء رجعوا إلى فطرتهم ، وما ركبت عليه ذواتهم من معرفة الخالق ، لعلموا أن الله عز وجل هو العلي وهو الأعلى ، وأن الأيدي ترفع بالدعاء إليه ، والأمم كلها عجميُّها وعربيها يقول : إن الله في السماء ، ما تُركت على فِطَرِها . انتهى .
ثم قال الذهبي أيضاً : عن يزيد بن هارون شيخ الإسلام ، أنه قيل له : من الجهمية ؟ قال : من زعم أن : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } على خلاف ما يقر في قلوب العامة ، فهو جهمي .
قال الذهبي والعامة ، مراده بهم ، جمهور الأمة وأهل العلم ، والذي وقر في قلوبهم من الآية ، وهو ما دل عليه الخطاب ، مع يقينهم بأن المستوي : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ، هذا هو الذي وقر في فطرهم السليمة ، وأذهانهم الصحيحة ، ولو كان له معنى وراء ذلك ، لتفوهوا به ، ولما أهملوه ، ولو تأول أحد منهم الاستواء
لتوفرت الهمم على نقله ، ولو نقل لاشتهر . فإن كان في بعض جهلة الأغبياء من يفهم من الإستواء ما يوجب نقصا أو قياساً للشاهد على الغائب ، وللمخلوق على الخالق ، فهذا نادر . فمن نطق بذلك زُجر وعُلم ، وما أظن أحداً من العامة يقر في نفسه ذلك - والله أعلم - انتهى .
وقال الشيخ الإمام العارف قدوة العارفين ، الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله روحه في كتابه " تحفة المتقين وسبيل العارفين " في باب اختلاف المذاهب في صفات الله عز وجل ، وفي ذكر اختلاف الناس في الوقف عند قوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه } قال إسحاق : في العلم ، إلى أن قال : والله تعالى بذاته على العرش ، علمه محيط بكل مكان والوقف عند أهل الحق على قوله : { إِلاَّ اللّهُ } .
وقد روي ذلك عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الوقف حسن لمن اعتقد أن الله بذاته على العرش ، ويعلم ما في السموات والأرض ، إلى أن قال : ووقف جماعة من منكري استواء الرب عز وجل على قوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ } وابتدؤوا بقوله : { استوى له ما في السموات وما في الأرض } يريدون بذلك نفي الاستواء الذي وصف به نفسه ، وهذا خطأ منهم ، لأن الله تعالى استوى على العرش بذاته .
وقال في كتابه " الغنية " : أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الإختصار ، فهو أن تعرف وتتيقن أن الله واحد أحد .
إلى أن قال : لا يخلو من علمه مكان ، ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان ، بل يقال إنه في السماء على العرش ، كما قال جل ثناؤه : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } ، وقوله : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ } ، وقال تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } ، والنبي صلى الله عليه وسلم حكم بإسلام الأَمَة لما قال لها : أين الله ؟ فأشارت إلى السماء .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله
عنه : < لما خلق الله الخلق ، كتب كتاباً على نفسه ، وهو عنده فوق العرش ، إن رحمتي غلبت غضبي > .
وفي لفظ آخر : < لما قضى الله سبحانه الخلق ، كتب على نفسه في كتاب ، فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي > .
وينبغي إطلاق صفة الإستواء من غير تأويل ، وأنه استواء الذات على العرش ، لا على معنى القعود والممَاسّة ، كما قالت المجسمة والكرامية ، ولا على معنى العلو والرفعة ، كما قالت الأشعرية ، ولا على الإستيلاء والغلبة ، كما قالت المعتزلة ، لأن الشرع لم يرد بذلك ، ولا نقل عن أحد من الصحابة والتابعين من السلف الصالح من أصحاب الحديث ، ذلك ، بل المنقول عنهم حمله على الإطلاق .
وقد روي عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } : < الكيف غير معقول ، والإستواء غير مجهول ، والإقرار به واجب ، والجحود به كفر > .
وقد أسنده مسلم بن الحجاج عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم في " صحيحه " ، وكذلك في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه .
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله قبل موته بقريب : أخبار الصفات تُمر كما جاءت ، بلا تشبيه ولا تعطيل ، وقال أيضاً في رواية بعضهم : لست بصاحب كلام ، ولا أرى الكلام في شيء من هذه الأماكن ، وفي كتاب الله عز وجل ، أو حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو عن أصحابه رضي الله عنهم ، أو عن التابعين ، فأما غير ذلك ، فإن الكلام فيه غير محمود ، فلا يقال في صفات الرب عز وجل كيف ؟ و لِمَ ؟ لا يقول ذلك إلا شكاك .
وقال أحمد رضي الله عنه في رواية عنه ، في موضع آخر : نحن نؤمن بأن الله عز وجل على العرش كيف شاء ، وكما شاء ، بلا حد ولا صفة يبلغها واصف ويحدها حاد ، لما روي عن سعيد بن المسيب ، عن كعب الأحبار ، قال ، قال الله تعالى في " التوراة " : أنا الله فوق عبادي ، وعرشي فوق جميع خلقي ، وأنا على عرشي ، عليه أدبر عبادي ، ولا يخفى عليّ شيء من عبادي .
وكونه عز وجل على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل ، بلا كيف ، ولأن الله تعالى - فيما لم يزل - موصوف بالعلو والقدرة والإستيلاء والغلبة على جميع خلقه ، من العرش وغيره .
فلا يحمل الإستواء على ذلك ، فالإستواء من صفات الذات ، بعد ما أخبرنا به ، ونص عليه وأكده في سبع آيات من كتابه ، والسنة المأثورة به ، وهو صفة لازمة له ، ولائقة به ، كاليد والوجه والعين والسمع والبصر ، والحياة والقدرة ، وكونه خالقاً ورازقاً ومحيياً ومميتاً ، موصوف بها ، ولا نخرج من الكتاب والسنة ، نقرأ الآية والخبر ، ونؤمن بما فيهما ، ونَكِل الكيفية في الصفات إلى علم الله عز وجل ، كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله ، كما وصف الله تعالى نفسه في كتابه ، فتفسيره قراءته .
لا تفسير له غيرها ، ولم نتكلف غير ذلك ، فإنه غيب لا مجال للعقل في إدراكه ، ونسأل الله تعالى العفو والعافية ، ونعوذ به من أن نقول فيه وفي صفاته ما لم يخبرنا به هو أو رسوله عليه السلام . انتهى كلام الكيلاني قدس سره .
وروى أبو إسماعيل الأنصاري في " ذم الكلام وأهله " عن أبي زرعة الرازي ، أنه سئل عن تفسير : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } فغضب وقال : تفسيره كما تقرأ ، هو على عرشه ، وعلمه في كل مكان ، من قال غير هذا فعليه لعنة الله .
وأسند عن عبد الرحمن بن أبي حاتم قال : سألت أبي وأبا زرعة عن مذهب أهل السنة في أصول الدين ، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار ، وما يعتقدان من ذلك ؟ فقالا : أدركنا العلماء في جميع الأمصار ، حجازاً وعراقاً ، ومصراً وشاماً ويمناً ، فكان من مذهبهم أن الله تبارك وتعالى على عرشه ، بائن من خلقه ، كما وصف نفسه ، بلا كيف ، أحاط بكل شيء علماً .
تنبيهات :
الأول : في بطلان تأويل استوى باستَوْلَى :
قال الإمام عبد العزيز بن يحيى الكِنَانِي ، صاحب الشافعي رحمهما الله تعالى ، في كتاب " الرد على الجهمية " :
زعمت الجهمية أن معنى استوى استولى من قول العرب : استوى فلان على مصر ، يريدون استولى عليها . قال : فيقال له : هل يكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس بمستول عليه ؟ فإذا قال لا ، قيل له : فمن زعم ذلك فهو كافر ، فيقال له : يلزمك أن تقول : إن العرش أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه ، وذلك لأنه أخبر أنه سبحانه خلق العرش قبل خلق السموات والأرض ، ثم استولى عليه بعد خلقهن ، فيلزمك أن تقول : المدة التي كان العرش قبل خلق السموات والأرض ليس بمستول عليه فيها ، ثم ذكر كلاماً طويلاً في تقرير العلو والاحتجاج عليه .
وقال ابن عرفة في كتاب " الرد على الجهمية " : حدثنا داود بن علي قال : كنا عند ابن الأعرابي ، فأتاه رجل فقال : ما معنى قوله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } ؟ قال : هو على عرشه كما أخبر ، فقال : يا أبا عبد الله ! إنما معناه استولى .
فقال : اسكت ، لا يقال استولى على الشيء حتى يكون له فيه مضاد ، فأيهما غلب
قيل : استولى ، والله تعالى لا مضاد له ، وهو على عرشه كما أخبر . ثم قال الاستيلاء بعد المغالبة ، كما قال النابغة :
~إلا لمثلك أو من أنت سابقه سَبْق الجواد إذا استولى على الأمد
وروى الخطيب البغدادي عن محمد بن أحمد بن النضر قال : كان ابن الأعرابي جارنا ، وكان ليله أحسن ليل ، وذكر لنا أن ابن أبي دؤاد سأله : أتعرف في اللغة استوى بمعنى استولى ؟ فقال لا أعرفه !
وفي رواية : أرادني ابن أبي دؤاد أن أطلب له في بعض لغات العرب ومعانيها : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } استوى بمعنى استولى ، فقلت له : والله ما يكون هذا ، ولا وجدته . وابن الأعرابي أبو عبد الله كان لغوي زمانه - كما قال الذهبي - .
وقال الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه " الإبانة في أصول الديانة " ، وقد ذكر أصحابه أنه آخر كتاب صنفه ، وعليه يعتمدون في الذبّ عنه ، عند من يطعن عليه ، فقال :
فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة
فإن قال قائل : قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة ، فعرفونا قولكم الذي به تقولون .
قيل له : قولنا نقول به التمسك بكتاب ربنا ، وسنة نبينا ، وما روي عن الصحابة والتابعين ، وأئمة الحديث ، ونحن بذلك معتصمون ، وبما كان يقول أبو عبد الله أحمد بن حنبل ، نضر الله وجهه ، ورفع درجته ، وأجزل مثوبته قائلون ، ولما خالف قوله مخالفون ، لأنه الإمام الفاضل ، والرئيس الكامل ، الذي أَبَان الله به الحق ، ودفع به الضلال ، وقمع به بدع المبتدعين ، وزيغ الزائغين .
ثم قال في باب الاستواء على العرش : إن قال قائل : ما تقولون في الإستواء ؟ قيل له : نقول : إن الله مستو على عرشه كما قال : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وقد قال الله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } ، وقال : { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْه } ، وقال : { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } ، وقال حكاية عن فرعون : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً }
كذّب موسى في قوله : إن الله فوق السموات ، وقال : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ } ، فالسموات فوقها العرش ، فلما كان العرش فوق السموات قال : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } ، لأنه مستو على العرش الذي هو فوق السموات ، وكل ما علا فهو سماء ، والعرش أعلى السموات ، وليس إذا قال : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } ، يعني جميع السماء ، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات .
ألا ترى أن الله ذكر السموات فقال : { وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً } ، فلم يرد أن القمر يملؤهن ، وأنه فيهن جميعاً .
ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم ، إذا دعوا ، نحوالسماء لأن الله على العرش الذي هو فوق السموات ، فلولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش ، كما لا يحطونها ، إذا دعوا ، إلى الأرض .
ثم قال :
فصل : وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية : إن معنى قوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } أنه استولى وملك وقهر ، وأن الله عز وجل في كل مكان ، وجحدوا أن يكون الله على عرشه ، كما قال أهل الحق ، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة ، فلو كان هذا كما ذكروه ، كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة ، لأن الله قادر على كل شيء ، فالله قادر على الأرض ، وعلى الحشوش ، وعلى كل ما في العالم .
فلو كان الله مستوياً على العرش بمعنى الإستيلاء ، وهو
عز وجل مستول على الأشياء كلها ، لكان مستوياً على العرش ، وعلى الأرض ، وعلى السماء ، وعلى الحشوش والأقذار لأنه قادر على كل الأشياء ، مستول عليها ، وإذا كان قادراً على الأشياء كلها ، ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول إن الله مستو على الحشوش والأخلية ، لم يجز أن يكون الإستواء على العرش الإستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها ، وجب أن يكون معنى الإستواء يختص العرش دون الأشياء كلها .
وذكر دلالات من القرآن والحديث والإجماع والعقل . انتهى .
قلت : وكلام أبي الحسن الأشعري الأخير مأخوذ من كتاب رد الإمام أحمد على الجهمية ، حيث قال في كتابه المذكور :
ومما أنكرت الجهمية الضُّلال أن يكون الله سبحانه على العرش ، فقلنا لِمَ
أنكرتم ذلك ؟ إن الله سبحانه على العرش ، وقد قال سبحانه
{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } ، وقال : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } ، قالوا : هو تحت الأرضين السابعة كما هو على العرش ، فهو على العرش ، وفي السموات ، وفي الأرض ، وفي كل مكان ، لا يخلو منه مكان ، ولا يكون في مكان دون مكان .
وتلَوا آيات من القرآن : { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ }
فقلنا : قد عرف المسلمون أماكن كثيرة ، وليس فيها من عظمة الله شيء فقالوا : أي : مكان ؟ فقلنا : أحشاؤكم وأجواف الخنازير والحشوش والأماكن القذرة ليس فيها من عظمة الرب سبحانه شيء ، وقد أخبرنا أنه في السماء ، فقال سبحانه : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ } ، وقال : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ } وقال : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ } وقال : { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْه } وقال : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم } ، وقال : { تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْه } ، وقال : { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } فهذا أخبر الله أنه في السماء ، ووجدنا كل شيء أسفل مذموماً .
قال الله تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّار } { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ } ، وقلنا لهم : أليس تعلمون أن إبليس كان مكانه ، والشياطين مكانهم ؟ فلم يكن الله ليجتمع هو وإبليس ، ولكن إنما معنى قوله تبارك وتعالى : { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ } يقول : هو إله من في السموات ، وإله من في الأرض ، وهو على العرش ! وقد أحاط بعلمه ما دون العرش ، لا يخلو من علم الله مكان ، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان ، وذلك قوله : { لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } .
قال : ومن الاعتبار في ذلك : لو أن رجلاً كان في يده قدح من قوارير صاف ، وفيه شيء ، كان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح ، فالله سبحانه - وله المثل الأعلى - قد أحاط بجميع خلقه ، من غير أن يكون في شيء من خلقه . وخصلة أخرى : لو أن رجلاً بنى داراً بجميع مرافقها ، ثم أغلق بابها وخرج منها ، كان ابن آدم لا يخفى عليه كم بيتاً في داره ، وكم سعة كل بيت ، من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار . فالله سبحانه - وله المثل الأعلى - قد أحاط
بجميع ما خلق ، وقد علم كيف هو ، وما هو ، من غير أن يكون في شيء مما خلق .
قال أحمد رضي الله عنه : ومما تأول الجهمية من قول الله سبحانه : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُم } إلى أن قال : { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } قالوا : إن الله عز وجل معنا وفينا . فقلنا : لم قطعتم الخبر من أوله ؟ إن الله يقول : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُم } يعني أن الله بعلمه رابعهم ، ولا خمسة إلا هو سادسهم ، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم بعلمه فيهم ، يفتح الخبر بعلمه ، ويختمه بعلمه . انتهى .
ثم قال الإمام أحمد في آخر كتابه المذكور : وقلنا للجهمية : زعمتم أن الله في كل مكان ، لا يخلو منه مكان ، فقلنا لهم : أخبرونا عن قوله الله جل ثناؤه : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً } .
لِمَ تجلى ، إذا كان فيه بزعمكم ؟ ولو كان فيه كما تزعمون ، لم يكن يتجلى لشيء ، لكن الله تعالى على العرش ، وتجلى لشيء لم يكن فيه ، ورأى الجبل شيئاً لم يكن يراه قط قبل ذلك .
وقلنا للجهمية : الله نور ؟ فقالوا : نور كله . فقلنا : قال الله عز وجل : { وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } .
فقد أخبر جل ثناؤه أن له نوراً ، قلنا : أخبرونا ، حين زعمتم أن الله في كل مكان ، وهو نور ، فلم لا يضيء البيت المظلم من النور الذي هو فيه إذا زعمتم أن الله في كل مكان ؟ وما بال السراج إذا أدخل البيت المظلم يضيء ؟ فعند ذلك تبين كذبهم على الله .
فرحم الله من عقل عن الله ورجع عن القول الذي يخالف الكتاب والسنة ، وقال بقول العلماء ، وهو قول المهاجرين والأنصار ، وترك دين الشيطان ، ودين جهم وشيعته . انتهى .
وقال الإمام الحافظ ابن عبد البر في كتاب " التمهيد " في شرح حديث : < ينزل ربنا كل ليلة > الحديث ، ما نصه : هذا الحديث ثابت من جهة النقل ، صحيح الإسناد ، لا يختلف أهل الحديث في صحته ، وفيه دليل على أن الله تعالى
في السماء ، على العرش من فوق سبع سموات ، كما قالت الجماعة ، وهو حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم : إن الله في كل مكان ، وليس على العرش .
والدليل على صحة ما قاله أهل الحق في ذلك قوله تعالى :
{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } ثم ساق عدة آيات في ذلك ، وقال : هذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول المعتزلة .
وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء ، وقولهم في تأويل : { اسْتَوى } استولى ، فلا معنى له ، لأنه غير ظاهر في اللغة . ومعنى الإستيلاء في اللغة المغالبة ، والله تعالى لا يغالبه أحد ، وهو الواحد الصمد .
ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته ، حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز ، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا تعالى إلا على ذلك ، وإنما يوجه كلام الله عز وجل على الأشهر والأظهر من وجوه ، ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم .
ولو ساغ ادّعاء المجاز لكل مدع ، ما ثبت شيء من العبادات . وجل الله أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب ، من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين ، والإستواء معلوم في اللغة مفهوم ، وهو العلو والإرتفاع على الشيء ، والإستقرار والتمكن فيه .
قال أبو عبيدة في قوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } قال : علا ، قال : تقول العرب : استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت .
وقال غيره : استوى أي : استقر ، واحتج بقوله تعالى : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } انتهى شبابه واستقر ، فلم يكن في شبابه مزيد .
قال ابن عبد البر : الاستواء : الإستقرار في العلو ، وبهذا خاطبنا الله تعالى في كتابه فقال : { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ } وقال تعالى : { وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيّ } ، وقال تعالى : { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلىْ الْفُلْكِ } وقال الشاعر :
~فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة وقد حلق النجم اليماني فاستوى
وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد استولى ، لأن النجم لا يستولي .
وقد ذكر النضر بن شميل - وكان ثقة مأموناً جليلاً في علم الديانة واللغة - قال : حدثني الخليل - وحسبك بالخليل - قال : أتيت أبا ربيعة الأعرابي ، وكان من أعلم ما رأيت ، فإذا هو على سطح ، فسلمنا ، فرد علينا السلام ، وقال : استووا ، فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال ، فقال لنا أعرابي إلى جانبه : إنه أمركم أن ترفعوا ، فقال الخليل : هو من قول الله : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } ، فصعدنا إليه ، قال : وأما من نزع منهم
بحديث يرويه عبد الله بن داود الواسطي ، عن إبراهيم بن عبد الصمد عن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } قال : استولى على جميع بريته ، فلا يخلو منه مكان .
فالجواب : أن هذا حديث منكر على ابن عباس رضي الله عنهما ، ونقلَتُه مجهولة وضعفاء ، فأما عبد الله بن داود الواسطي وعبد الوهاب بن مجاهد فضعيفان .
وإبراهيم بن عبد الصمد مجهول لا يُعرف ، وهم لا يقبلون بأخبار الآحاد ، فكيف يسوغ لهم الإحتجاج بمثل هذا الحديث ، لو عقلوا وأنصفوا ؟ أما سمعوا الله سبحانه حيث يقول : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً } ؟ فدل على أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يقول : إلهي في السماء وفرعون يظنه كاذباً . قال الشاعر :
~فسبحان من لا يقدرالخلق قدره ومن هو فوق العرش فرد مُوحد
~مليك على عرش السماء مهيمن لعزته تعنو الوجوه وتسجد
وهذا الشعر لأمية بن أبي الصلت . وفيه يقول في وصف الملائكة :
~وساجدهم لا يرفع الدهر رأسه يعظم رباً فوقه ويُمجد
قال : فإن احتجوا بقوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } وبقوله تعالى : { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ } ، وبقوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُم } ، وزعموا أن الله سبحانه في كل مكان بنفسه وذاته - تبارك وتعالى جده - قيل : لا خلاف بيننا وبينكم وبين سائر الأمة أنه ليس في الأرض دون السماء بذاته ، فوجب حمل هذه الآيات على المعنى الصحيح المجمع عليه ، وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء ، وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض ، وكذا قال أهل العلم بالتفسير .
وظاهر هذا التنزيل يشهد أنه على العرش ، فالإختلاف في ذلك ساقط ، وأسعد الناس به من ساعده الظاهر ، وأما قوله في الآية الأخرى : { وفِي الأَرْضِ إِلهٌ } فالإجماع والإتفاق قد بين أن المراد أنه معبود من أهل الأرض . فتدبر هذا فإنه قاطع .
ومن الحجة أيضاً في أنه عز وجل على العرش فوق السموات السبع ، أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم ، إذا كربهم أمر ، أو نزلت بهم شدة ، رفعوا
وجوههم إلى السماء ، ونصبوا أيديهم رافعين مشيرين بها إلى السماء ، يستغيثون الله ربهم تبارك وتعالى ، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة ، من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته .
لأنه اضطراري لم يخالفهم عليه أحد ، ولا أنكره عليهم مسلم ، وقد قال صلى الله عليه وسلم للأمة التي أراد مولاها عتقها ، إن كانت مؤمنة ، فاختبرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن قال لها : < أين الله ؟ > فأشارت إلى السماء . ثم قال لها : < من أنا ؟ > قالت أنت رسول الله . قال : < أعتقها فإنها مؤمنة > . فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها برفع رأسها إلى السماء ، واستغنى بذلك عما سواه .
قال : وأما احتجاجهم بقوله : تعالى : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية : هو على العرش ، وعلمه في كل مكان وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله .
وذكر سُنَيْد عن مقاتل بن حيان عن الضحاك بن مُزَاحم في قوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } قال : هو على عرشه ، وعلمه معهم أينما كانوا .
قال : وبلغني عن سفيان الثوري مثله . قال سُنَيْد : حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بَهْدَلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : الله فوق العرش ، وعلمه في كل مكان ، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم .
ثم ساق من طريق يزيد بن هارون ، عن حماد بن سلمة عن عاصم بن بَهْدَلة عن زر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ما بين السماء و الأرض مسيرة خمسمائة عام ، وما بين كل سماء إلى الأخرى خمسمائة عام ، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام ، وما بين الكرسي إلى الماء مسيرة خمسمائة عام ، والعرش على الماء ، والله على العرش ، ويعلم أعمالكم . وذكر هذا الكلام أو قريباً منه في كتاب " الإستذكار " .
وقال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في " الرسالة المدنية " : إذا وصف الله بصفة أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم ، أو وصفه بها المؤمنون
الذين اتفق المسلمون على هدايتهم ودرايتهم ، فصرفها عن ظاهرها اللائق بجلاله سبحانه ، وحقيقتها المفهومة منها إلى باطن يخالف الظاهر ، ومجاز يخالف الحقيقة ، لا بد فيه من أربعة أشياء :
أحدها : أن ذلك اللفظ مستعمل بالمعنى المجازي ، لأن الكتاب والسنة وكلام السلف جاءوا باللسان العربي ، لا يجوز أن يراد منه خلاف لسان العرب ، أو خلاف الألسنة كلها ، فلا بد أن يكون ذلك المعنى المجازي مما يراد به اللفظ ، وإلا فيمكن كل مُبطل أن يفسر أي : لفظ بأي معنى ناسخ له ، وإن لم يكن له أصل في اللغة .
الثاني : أن يكون معه دليل يوجب صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه ، وإلا فإذا كان يستعمل في معنى بطريق الحقيقة ، وفي معنى بطريق المجاز ، لم يجز حمله على المجازي بغير دليل يوجب الصرف بإجماع العقلاء ، ثم ادعى وجوب صرفه عن الحقيقة ، فلا بد من دليل مرجح للحمل على المجاز .
الثالث : أنه لا بد من أن يسلم ذلك الدليل الصارف عن معارض ، وإلا فإذا قام دليل قرآني أو إيماني يبين أن الحقيقة مرادة ، امتنع تركها .
ثم إن كان هذا الدليل لم يلتفت إلى نقيضه وإن كان ظاهراً فلا بد من الترجيح .
الرابع : أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تكلم وأراد به خلاف ظاهره ، وضد حقيقته فلا بد أن يبين للأمة أنه لم يرد حقيقته وإنما أراد مجازه ، سواء عينه أو لم يعينه ، لا سيما في الخطاب العلمي الذي أريد منهم فيه الإعتقاد والعلم ، دون عمل الجوارح ، فإنه سبحانه جعل القرآن نوراً وهدىً وبياناً للناس وشفاء لما في الصدور ، وأرسل الرسول ليبين للناس ما نُزّل إليهم ، وليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، و : { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } .
ثم هذا الرسول الأمي العربي بعث بأفصح اللغات ، وأبين الألسنة والعبارات .
ثم الأمة الذين أخذوا عنه كانوا أعمق الناس علماً ، وأنصحهم للأمة ، وأبينهم للسنة ، فلا يجوز أن يتكلم هو وهؤلاء بكلام يريدون به خلاف ظاهره ، إلا وقد نصب دليلاً يمنع من حمله على ظاهره ، إما بأن يكون عقلياً ظاهراً مثل قوله : { وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْء } فإن كل أحد يعلم بعقله أن المراد أوتيت من جنس ما يؤتاه مثلها .
وكذلك قوله : { خَالِقُ كُلِّ شَيْء } يعلم المستمع أن المراد أن الخالق لا يدخل في هذا العموم ، أو سمعياً ظاهراً مثل الدلالات في الكتاب والسنة التي تصرف بعضها الظواهر .
ولا يجوز أن يحيلهم على دليل خفي لا يستنبطه إلا أفراد الناس ، سواء كان سمعياً أو عقلياً ، لأنه إذا تكلم بالكلام الذي يفهم منه معنى ، وأعاده مرات كثيرة ، وخاطب به الخلق كلهم ، وفيهم الذكي والبليد ، والفقيه وغير الفقيه ، وقد أوجب عليهم أن يتدبروا ذلك الخطاب شيئاً من ظاهره ، لأن هناك دليلاً خفياً يستنبطه أفراد الناس يدل على أنه لم يرد ظاهره كان تدليساً أو تلبيساً ، وكان نقيض البيان ، وضد الهدى ، وهو بالألغاز والأحاجي أشبه منه بالهدى والبيان ، فكيف إذا كانت دلالة ذلك الخطاب على ظاهره ، أقوى بدرجات كثيرة من دلالة ذلك الدليل الخفي على أن الظاهر غير مراد ، كيف إذا كان ذلك الخفي شبهة ليس لها حقيقة ؟ انتهى .
الثاني : يتوهم كثير أن القول بالعلو والإستواء يلزم منهما القول بالتجسيم ، وقد رمى بذلك كثيرة من المحدثين ، وممن رماهم بذلك الجلال الدواني في " شرح العقائد العضدية " حيث قال ـ عفا الله عنه ـ : وأكثر المجسمة هم الظاهريون المتبعون لظاهر الكتاب والسنة ، وأكثرهم المحدثون ، ولابن تيمية أبي العباس وأصحابه ميل عظيم إلى إثبات الجهة ، ومبالغة في القدح في نفيها .
ورأيت في بعض تصانيفه أنه لا فرق عند بديهة العقل بين أن يقال : هو معدوم ، أو يقال : طلبته في جميع الأمكنة فلم أجده ، ونسب النافين إلى التعطيل ، هذا مع علو كعبه في العلوم العقلية والنقلية ، كما يشهد به من تتبع تصانيفه .
ومحصل كلام بعضهم في بعض المواضع ، أن الشرع ورد بتخصيصه تعالى بجهة الفوق ، كما خصص الكعبة بكونها بيت الله تعالى ، ولذلك يتوجه إليها في الدعاء .
ولا يخفى أنه ليس في هذا القدر غائلة أصلاً ، لكن بعض أصحاب الحديث من المتأخرين لم يرض بهذا القول ، وأنكر كون الفوق قبلة الدعاء ، بل قال : قبلة الدعاء هو نفسه ، كما أن نفس الكعبة قبلة الصلاة ، وقد صرح بكونه جهة الله تعالى حقيقة من غير تجوز . انتهى كلام الدواني .
وتعقبه غير واحد :
منهم : الشيخ إبراهيم الكوراني في حاشيته عليه المسماة " مجلى المعاني " قال : إن ابن تيمية ليس قائلاً بالتجسيم ، فقد صرح بأن الله تعالى ليس جسماً ، في رسالة تكلم فيها على حديث النزول .
وقال في رسالة أخرى : من قال إن الله تعالى مثل بدن الْإِنْسَاْن ، أو إن الله يماثل شيئاً من المخلوقات فهو مفتر على الله سبحانه
بل هو على مذهب السلف قائل بأن الله تعالى فوق العرش حقيقة ، مع نفي اللوازم ، ونقل عليه إجماع السلف ، صرح به في الرسالة القدرية . انتهى .
ومنهم : ولي الله الدهلوي قدس سره ، قال في كتابه " حجة الله البالغة " : واستطال هؤلاء الخائضون على معشر أهل الحديث ، وسموهم مجسمة ومشبهة ، وقالوا : هم المتسترون بالبلكفة ، وقد وضح علي وضوحاً بيناً أن استطالتهم هذه ليست بشيء ، وأنهم مخطئون في مقالتهم رواية ودراية ، وخاطئون في طعنهم أئمة الهدى . انتهى .
ومنهم : الشهاب الألوسي المفسر ، فإنه كتب على كلام الدواني ما نصه : حاشا لله تعالى أن يكون - يعني ابن تيمية - من المجسمة ، بل هو أبرأ الناس منهم .
نعم يقول بالفوقية ، وذلك مذهب السلف ، وهو بمعزل عن التجسيم .
وجلال الدين وأضرابه أجهل الناس بالأحاديث ، وكلام السلف الصالح ، كما لا يخفى على العارف المنصف ، نقله عنه ابنه في " محاكمة الأحمدين " .
وأقول . إن كل من رمى مثل هذا الإمام بالتجسيم فقد افترى وما درى ، إلا أن عذره أنه لم ينقب عن غرر كلامه ، في فتاويه التي أوضح فيها الحق وأنار بها مذهب السلف قاطبة .
وهاك شذرة من درره . قال رحمه الله في بعض فتاويه :
والأصل في هذا الباب أن كل ما ثبت في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وجب التصديق به ، مثل علو الرب ، واستوائه على عرشه ، ونحو ذلك ، وأما الألفاظ المبتدعة في النفي والإثبات ، مثل قول القائل : هو جهة أو ليس في جهة ، وهو متحيز أو ليس بمتحيز ، ونحو ذلك من الألفاظ التي تنازع فيها الناس ، وليس مع أحدهم نص ، لا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان ، ولا أئمة المسلمين ، هؤلاء لم يقل أحد منهم إن الله تعالى في جهة ، ولا قال ليس هو في جهة ، ولا قال هو متحيز ، ولا قال ليس بمتحيز ، بل ولا قال هو جسم أو جوهر ، ولا قال ليس بجسم ولا بجوهر . فهذه الألفاظ ليست منصوصة في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع ، والناطقون بها قد يريدون معنى صحيحاً .
فإن يريدوا معنى صحيحاً يوافق الكتاب والسنة كان ذلك مقبولاً منهم ، وإن أرادوا معنى فاسداً يخالف الكتاب والسنة كان ذلك المعنى مردوداً عليهم .
فإذا قال القائل : إن الله تعالى في جهة ، قيل : ما تريد بذلك ؟ أتريد بذلك أنه سبحانه في جهة موجودة تحصره وتحيط به ، مثل أن يكون في جوف السموات ، أم تريد بالجهة أمراً عدمياً ، وهو
ما فوق العالم شيء من المخلوقات .
فإن أردت الجهة الوجودية ، وجعلت الله تعالى محصوراً في المخلوقات ، فهذا باطل ، وإن أردت بالجهة العدمية وأردت الله تعالى وحده فوق المخلوقات بائن عنها ، فهذا حق ، وليس في ذلك أن شيئاً من المخلوقات حصره ، ولا أحاط به ، ولا علا عليه ، بل هو العالي عليها ، المحيط بها ، وقد قال تعالى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه } الآية .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : < أن الله عز وجل يقبض الأرض يوم القيامة ، ويطوي السموات بيمينه ، ثم يهزهن فيقول : أنا الملك ، أين ملوك الأرض > ؟ وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما السموات السبع ، والأرضون السبع ، وما فيهن ، وما بينهن ، في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم .
وفي حديث آخر أنه يرميها كما يرمي الصبيان الكرة .
فمن يكون جميع المخلوقات بالنسبة إلى قبضته تعالى ، وإلى هذا الحقر والصغار ، كيف تحيط به وتحصره ؟
ومن قال إن الله تعالى ليس في جهة ، قيل له : ما تريد بذلك ؟ فإن أراد بذلك أنه ليس فوق السموات رب يعبد ، ولا على عرش إله ، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إلى الله تعالى ، والأيدي لا ترفع إلى الله تعالى في الدعاء ، ولا تتوجه القلوب إليه فهذا فرعوني معطل ، جاحد لرب العالمين . وإن كان يعتقد أنه مقر به فهو جاهل متناقض في كلامه . ومن هنا دخل أهل الحلول والإتحاد وقالوا : إن الله تعالى بذاته في كل مكان ، وإن وجود المخلوقات هو وجود الخالق .
وإن قال : مرادي بقولي ليس في جهة ، أن لا تحيط بها
المخلوقات فقد أصاب في هذا المعنى .
وكذلك من قال إن الله تعالى متحيز أو قال ليس بمتحيز : إن أرد بقوله متحيز أن المخلوقات تحوزه وتحيط به فقد أخطأ وإن أراد به منحاز عن المخلوقات لا تحوزه فقد أصاب ، وإن أراد ليس ببائن عنها ، بل هو لا داخل فيها ، ولا خارج عنها ، فقد أخطأ .
والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف : أهل الحلول والاتحاد ، وأهل النفي والجحود ، وأهل الإيمان والتوحيد والسنة .
فأهل الحلول يقولون : إنه بذاته في كل مكان ، وقد يقولون بالإتحاد والوحدة ، فيقولون : وجود المخلوقات وجود الخالق .
وأما أهل النفي والجحود فيقولون : لا هو داخل العالم ، ولا خارج ، ولا مباين له ، وهذا قول متكلمة الجهمية المعطلة ، كما أن الأول عَبَّاد الجهمية . فمتكلمة الجهمية لا يبعدون شيئاً ، ومتعبدة الجهمية يعبدون كل شيء ، وكلامهم يرجع إلى التعطيل والجحود ، الذي هو قول فرعون .
وقد علم أن الله تعالى كان قبل أن يخلق السموات والأرض ، ثم خلقها ، فإما أن يكون دخل فيهما ، وهذا حلول باطل ، وإما أن يكونا دخلا فيه ، وهو أبطل وأبطل ، وإما أن يكون الله سبحانه بائناً عنهما ، لم يدخل فيهما ، ولم يدخل فيه ، وهذا قول أهل الحق والتوحيد والسنة .
ولأهل الجحود والتعطيل في هذا الباب شبهات يعارضون بها كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها ، وما فطر الله تعالى عليه عباده ، وما دلت عليه الدلائل العقلية الصحيحة ، فإن هذه الأدلة كلها متفقة على أن الله تعالى فوق مخلوقاته ، عال عليها ، قد فطر الله تعالى على ذلك العجائز والأعراب والصبيان في الكتاب ، كما فطرهم على الإقرار بالخالق تعالى .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح :
< كل مولود يولد على الفطرة ، فأبوه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ؟ > ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه : إقرؤوا إن شئتم : { فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَر َالنَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه } وهذا معنى قول عُمَر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى عليه ، فإن الله سبحانه فطر عباده على الحق ، والرسل بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها ، لا بتحويل الفطرة وتغييرها .
وأما أعداء الرسل كالجهمية الفرعونية و نحوهم ، فيريدون أن يغيروا فطرة الله تعالى ، ودينه عز وجل ، ويوردون على الناس شبهات بكلمات مشتبهات ، لا
يفهم كثير من الناس مقصودهم بها ، ولا يحسن أن يجيبهم . وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع ، وأصل ضلالهم تكلمهم بكلمات مجملة لا أصل لها في كتاب الله تعالى ، ولا سنة رسوله عليه الصلاة والسلام ، ولا قالها أحد من أئمة المسلمين .
كلفظ : المتحيز والجسم والجهة ونحو ذلك ، فمن كان عارفاً بحال شبهاتهم بينها ، ومن لم يكن عارفاً بذلك فليعرض عن كلامهم ، ولا يقبل إلا ما جاء به الكتاب والسنة ، كما قال تعالى : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِه } .
ومن تكلم في الله تعالى وأسمائه وصفاته بما يخالف الكتاب والسنة ، فهو من الخائضين في آيات الله تعالى بالباطل ، وكثير من هؤلاء ينسب إلى أئمة المسلمين ما لم يقولوه .
وكثير منهم قرؤوا كتباً من كتب الكلام ، فيها شبهات أضلتهم ، ولم يهتدوا لجوابهم ، فإنهم يجدون في تلك الكتب أنه لو كان الله تعالى فوق الخلق للزم التجسيم والتحيز والجهة ، وهم لا يعرفون حقائق هذه الألفاظ ، ولا ما أراد بها أصحابها ، فإن ذكر لفظ الجسم في أسماء الله تعالى وصفاته ، بدعة لم ينطق كتاب ولا سنة ، ولا قالها أحد من سلف الأمة وأئمتها ، ولم يقل أحد منهم : إن الله تعالى جسم ولا أن الله تعالى ليس بجسم ، ولا أن الله تعالى جوهر ، ولا أن الله تعالى ليس بجوهر .
ولفظ الجسم لفظ مجمل ، فمعناه في اللغة هو البدن ، ومن قال إن الله تعالى مثل بدن الْإِنْسَاْن فهو مفتر على الله عز وجل ، بل من قال إن الله تعالى يماثل شيئاً من مخلوقاته فهو مفتر على الله ضال ، ومن قال إن تعالى ليس بجسم ، وأراد بذلك أنه لا يُرى في الآخرة ، وأنه لم يتكلم بالقرآن العربي ، بل القرآن العربي مخلوق أو هو تصنيف جبريل عليه السلام ، أو نحو ذلك ، فهو مفتر على الله تعالى فيما نفاه عنه .
وهذا أصل ضلال الجهمية من المعتزلة ، ومن وافقهم على مذهبهم ، فإنهم يظهرون للناس التنزيه ، وحقيقة كلامهم التعطيل ، فيقولون : نحن لا نجسم ، بل نقول : الله ليس بجسم ، ومرادهم بذلك نفي حقيقة أسمائه وصفاته .
إلى أن قال : فهو سبحانه موصوف بصفات الكمال ، منزه عن كل نقص وعيب ، ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل ، فيثبتون ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات ، وينزهونه عما نزه عنه نفسه من مماثلة المخلوقات ، إثبات بلا تمثيل ، وتنزيه بلا تعطيل . قال عز شأنه : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }
فقوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } رد على الممثلة ، وقوله تعالى : { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } رد على المعطلة . انتهى ملخصاً .
قال رضي الله عنه في جواب على سؤال رفع إليه نصه : الإستواء هل هو حقيقة أو مجاز ؟ : ما نصه ملخصاً :
القول في الإستواء والنزول كالقول في سائر الصفات التي وصف بها نفسه في كتابه ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن الله تعالى سمى نفسه بأسماء ، ووصف بصفات ، فالقول في بعض هذه الصفات ، كالقول في بعض ، ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن نصف الله تعالى بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ، فلا يجوز نفي صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه ، ولا يجوز تمثيلها بصفات المخلوقين .
ومعلوم بالإضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز نفي صفات الله تعالى لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات ، بل هذه جحد للخالق ، وتمثيل له بالمعدومات . وقد قال ابن عبد البر : أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها ، وحملها على الحقيقة لا على المجاز ، لأنهم لا ينفون شيئاً من ذلك ، ولا يجدون فيه صفة محصورة ، وأما أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والخوارج ، فينكرونها ولا يحملونها على الحقيقة ، ويزعمون أن من أقر بها مشبه ، وهم عند من أقرَّ بها ، نافون للمعبود ، لا مثبتون ، والحق فيما قاله القائلون ، مما نطق به الكتاب والسنة ، وهم أئمة الجماعة . هذا الذي حكاه ابن عبد البر .
ومن أنكر أن يكون شيء من هذه الأسماء والصفات حقيقة ، فإنما أنكر لجهله لمسمى الحقيقة ، أو لكفره وتعطيله لما يستحقه رب العالمين ، وذلك أنه قد نظن أن إطلاق ذلك يقتضي أن يكون المخلوق مماثلاً للخالق ، فيقال له : هذا باطل ، فإن الله موجود حقيقة ، والعبد موجود حقيقة ، وله تعالى ذات حقيقة ، والعبد له ذات حقيقة ، وليس ذاته تعالى كذات المخلوقات ، وكذلك له علم وسمع وبصر حقيقة ، وللعبد سمع وبصر ، وعلم حقيقة ، وليس علمه وسمعه وبصره مثل علم العبد وسمعه وبصره .
ولله كلام حقيقة ، وليس كلام الخالق مثل كلام المخلوقين .
والله استوى على عرشه حقيقة ، وللعبد استواء على الفلك حقيقة ، وليس استواء الخالق كاستواء المخلوق ، فإن الله لا يفتقر إلى شيء ، ولا يحتاج إلى شيء ، بل هو الغني عن كل شيء ، والله تعالى يحمل العرش وحملته ، بقدرته و
{ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا } .
فمن ظن أن معنى قول الأئمة : الله مستو على عرشه حقيقة ، يقتضي أن يكون استواؤه مثل استواء العبد على الفلك والأنعام ، لزمه أن يكون قولهم : إن الله له علم حقيقة ، وسمع وبصر حقيقة ، و كلام حقيقة ، يقتضي أن يكون علمه وسمعه وبصره وكلامه مثل علم المخلوقين وسمعهم وبصرهم وكلامهم .
فمن ظن أن الحقيقة إنما تتناول صفة العبد المخلوقة دون صفة الخالق ، كان في غاية الجهل ، فإن صفة الله أكمل وأتم وأحق بهذه الأسماء الحسنى ، فلا نسبة بين صفة العبد وصفة الرب ، كما لا نسبة بين ذاته وذاته .
فكيف يكون العبد مستحقاً للأسماء الحسنى حقيقة ، والرب لا يستحق ذلك إلا مجازاً ؟ ومعلوم أن كل كمال حصل للمخلوق فهو من الخالق سبحانه وتعالى ، فله المثل الأعلى .
فكل كمال حصل للمخلوق ، فالخالق أحق به ، وكل نقص ينزه عنه مخلوق ، فالحق أحق أن ينزه عنه ولهذا كان لله المثل الأعلى ، فإنه لا يقاس بخلقه ولا يمثل بهم ولا تضرب به الأمثال ، فلا يشترك هو والمخلوق بمثل ولا في قياس .
ومذهب أهل السنة والجماعة إثبات الصفات لله تبارك وتعالى ، بل صفات الكمال لازمة لذاته ، يمتنع ثبوت ذاته بدون صفات الكمال اللازمة له ، بل يمتنع تحقق ذات من الذات عريّةً عن جميع الصفات ، وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع .
فإذا قال : وجود الله ، وذات الله ، وعلم الله ، وقدرة الله ، وسمع الله ، وبصر الله ، وكلام الله ، ورحمة الله ، وغضب الله ، واستواء الله ، ونزول الله ، ومحبة الله ، ونحو ذلك ، كانت هذه الأسماء كلها حقيقة لله تعالى من غير أن يدخل فيها شيء من المخلوقات ، ومن غير أن يماثله فيها شيء من المخلوقات .
وإذا قال : وجود العبد وذاته ، وماهيته وعلمه ، وقدرته وسمعه وبصره ، وكلامه واستواؤه ونزوله ، كان هذا حقيقة للعبد مختصة به ، من غير أن تماثل صفاته صفات الله تعالى .
بل أبلغ من ذلك ، أن الله أخبر أن في الجنة من المطاعم والمشارب ، والملابس والمناكح والمساكن ، ما ذكره في كتابه ، كما ذكر أن فيها لبناً وعسلاً وخمراً ولحماً وحريراً وذهباً وفضة وحوراً وقصوراً وغير ذلك .
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء .
فتلك الحقائق التي في الجنة ليست مماثلة لهذه الحقائق التي في الدنيا ، وإن كانت مشابهة لها من بعض الوجوه ، والإسم يتناولهما حقيقة ، ومعلوم أن الخالق أبعد عن مشابهة المخلوق ، والمخلوق عن مشابهة الخالق ، فكيف يجوز أن يظن أن فيما أثبته الله تعالى من أسمائه وصفاته مماثلاً لمخلوقاته ، وأن يقال ليس ذلك بحقيقة ! وهل يكون أحق بهذا الأسماء الحسنى والصفات العليا من رب السموات والأرض ، مع أن
مباينتهما للمخلوقات أعظم مباينة كل مخلوق لكل مخلوق ؟ والجاهل يضل بأن يقول : العرب إنما وضعوا لفظ الإستواء لاستواء الْإِنْسَاْن على السرير أو الفلك ، أو استواء السفينة على الجودي ولنحو ذلك من استواء بعض المخلوقات ، فهو كما يقول القائل : إنما وضعوا لفظ السمع والبصر والكلام لما يكون محله حدقة وأجفاناً ، وأصمخة وآذاناًَ ، وشفتين ولساناً ، وإنما وضعوا لفظ العلم والرحمة والإرادة لما يكون محله مضغة لحم وفؤاء ، وهذا كله جهل منه . فإن العرب إنما وضعت للإنسان ما أضافت إليه ، فإذا قالت سمع العبد وبصره وكلامه ، وعلمه وإرادته ورحمته ، مما يختص به ، يتناول ذلك خصائص العبد .
وإذا قيل سمع الله وبصره وكلامه وعلمه وإرادته ورحمته ، كان هذا متناولاً لما يختص به الرب ، لا يدخل في ذلك شيء من خصائص المخلوقين ، وكذلك إذا قيل استواء الرب ، فهذا الإستواء المضاف إلى الله كالعلم والسمع و البصر ، المضاف إلى الله لا يجوز أن يتناول ذلك شيئاً من خصائص المخلوقين .
وهؤلاء الجهال يمثلون في ابتداء فهمهم صفات الخالق بصفات المخلوق ، ثم ينفون ذلك ويعطلونه ، فلا يفهمون من ذلك إلا ما يختص بالمخلوق ، وينفون مضمون ذلك ، فيكونون قد جحدوا ما يستحقه الرب من خصائصه وصفاته ، وألحدوا في أسماء الله تعالى وآياته ، وخرجوا عن القياس العقلي والنص الشرعي ، فلا يبقى بأيديهم لا معقول صريح ، ولا منقول صحيح .
ثم لا بد لهم من إثبات بعض ما يثبته أهل الإثبات من الأسماء والصفات : فإذا أثبتوا البعض ونفوا البعض ، قيل لهم ما الفرق بين ما أثبتموه وما نفيتموه ؟ ولم كان هذا حقيقة ، ولم يكن هذا حقيقة ؟ لم يكن لهم جواب أصلاً ، وظهر بذلك جهلهم وضلالهم شرعاً وعقلاً .
ونظائر هذا كثيرة ، فمن ظن أن أسماء الله تعالى وأسماء صفاته ، وإذا كانت حقيقة لزم أن يكون مماثلاً للمخلوقين ، وأن تكون صفاته مماثلة لصفاتهم ، كان من أجهل الناس ، وكان أول كلامه سفسطة ، وآخره زندقة لأنه يقتضي نفي جميع أسماء الله وصفاته وهذا هو غاية الزندقة والإلحاد .
وإن فرق بين صفة وصفة ، مع تساويهما في أسباب الحقيقة والمجاز ، كان متناقضاً في قوله ، متهافتاً في مذهبه مشابهاً لمن آمن ببعض الكتاب ، وكفر ببعض .
وإذا تأمل اللبيب الفاضل هذه الأمور ، تبين له أن مذهب السلف والأئمة في غاية الاستقامة والسداد والصحة والاطراد ، وأنه مقتضى المعقول الصريح ، والمنقول الصحيح ، وأن من خالفه ، كان مع تناقض قوله المختلف الذي يؤفك عنه من أفك خارجاً عن موجب العقل والسمع ، مخالفاً للفطرة والشرع ، والله يتم نعمته علينا وعلى سائر إخواننا المسلمين المؤمنين ، ويجمع لنا ولهم خير الدنيا والآخرة . انتهى .
فائدة : في منشأ هذا التعطيل
وبين رضي الله عنه ، في فتوى أخرى له في الصفات ، مورد هذا التعطيل .
حيث قال رضي الله عنه :
ثم أصل هذه المقالة إنما هو مأخود عن تلامذة اليهود والمشركين ، وضلال الصابئين ، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة - أعني أن الله ليس على العرش حقيقة وإنما
{ استوى } استولى ونحو ذلك - أول ما ظهرت هذه المقالة من جعد بن درهم وأخذها عنه الجهم بن صفون وأظهرها ، فتنسب مقالة الجهمية إليه ، والجعد أخذ مقالته عن أَبَان بن سمعان ، وأخذها أَبَان من طالوت ابن أخت لَبِيد بن أعصم ، وأخذها طالوت من لَبِيد بن أصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم .
وكان الجعد هذا - فيما قيل - من أهل حران ، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة ، والفلاسفة ، بقايا أهل دين النمرود الكنعانيين ، الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم ، وكانوا يعبدون الكواكب ، ويبنون لها الهياكل ، ومذهبهم في الرب أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية ، أو مركبة منهما ، وهم الذين بُعث إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم إليهم ، فيكون الجعد قد أخذها عن الصابئة الفلاسفة ، وأخذها الجهم أيضاً - فيما ذكره الإمام أحمد وغيره - من السمنية بعض فلاسفة الهند ، وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات ، فهذه أسانيد الجهم ترجع إلى اليهود والصائبين والمشركين .
والفلاسفة الضالون هم إما من الصابئين ، وإما من المشركين . ثم لما عربت الكتب الرومية في حدود المئة الثانية ، زاد البلاء مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضلال ، ابتداء من جنس ما ألقاه في قولب أشباههم .
ولما كان في حدود المئة الثانية ، انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية ، بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته ، وكلام الأئمة - مثل مالك رضي الله عنه وسفيان بن عيينة ، وأبي يوسف والشافعي ، وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر الحافي وغيرهم - في بشر المريسي هذا كثير في ذمة وتضليله .
وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس ، مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب " التأويلات " ، وذكرها أبو عبد الله محمد بن عُمَر الرازي في كتابه الذي سماه " تأسيس التقديس " ويوجد كثير منها في كلام خلق غير هؤلاء ، مثل أبي علي الجبائي وعبد الجبار بن أحمد الهمداني ، وأبي الحسين البصري وابن عقيل وأبي حامد
الغزالي وغيرهم ، وهي بعينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسي في كتابه ، وإن كان قد يوجد في كلام هؤلاء رد التأويل وإبطاله أيضاً ، ولهم كلام حسن في أشياء ، فإنما بيَّنت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات المريسي . وعلمنا ذلك بكتاب " الرد " الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي أحد الأئمة المشاهير في زمن البخاري ، صنف كتاباً سماه " نقض عثمان بن سعيد ، على الكاذب العنيد ، فيما افترى على الله في التوحيد " حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي ، بكلام يقتضي أن المريسي أقعد بها ، وأعلم بالمعقول والمنقول من هؤلاء المتأخرين الذي اتصلت إليهم من جهته ، ثم ردها عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكيّ ، علم حقيقة ما كان عليه السلف فتبين له ظهور الحجة لطريقهم ، وضعف حجة من خالفهم .
ثم إذا رأى الأئمة - أئمة الهدى - قد أجمعوا على ذم المريسية ، وأكثرهم كفّروهم ، أو ضللوهم ، وعلم أن هذا القول الساري في هؤلاء المتأخرين ، هو مذهب المريسي تبين له الهدى لمن يريد الله هدايته ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ثم قال رضي الله عنه :
مذهب السلف بين التعطيل وبين يمثلون صفات الله بصفات خلقه ، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه ، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه ، أو وصفه به رسوله ، فيعطلون أسماءه الحسنى ، وصفاته العليا ، ويحرفون الكلم عن مواضعه ، ويلحدون في أسماء الله وآياته .
وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل ، فهو جامع بين التعطيل والتمثيل ، أما المعطلون ، فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق . ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات ، فقد جمعوا بين التمثيل والتعطيل ، مثلوا أولاً ، وعطلوا آخراً ، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته ، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم ، تعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى .
فإنه إذا قال القائل : لو كان الله فوق العرش للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساوياً ، وكل ذلك محال ، ونحو ذلك من الكلام ، فإنه لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان ، على أي : جسم كان ، وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم ، أما استواء يليق بجلال الله ، ويختص به ، فلا يلزمه شيء من اللوازم الثلاثة ، كما يلزم سائر الأجسام . وصار هذا مثل قول الممثل : إذا كان للعالم صانع ، فإما أن يكون جوهراً أو عرضاً ، إذا لا يعقل موجود إلا هذان ، أو قوله : إذا كان مستوياً على العرش ، فهو مماثل لاستواء الْإِنْسَاْن على السرير أو الفُلك ، إذا لا يعلم الاستواء إلا هكذا ، فإن كليهما مثّل ، كلاهما عطّل
حقيقة ما وصف الله به نفسه ، وامتاز الأول بتعطيل كل مسمى للإستواء الحقيقي ، وامتاز الثاني بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين ، والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط ، من أن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله ويختص به ، فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم ، وعلى كل شيء قدير ، وأنه سميع بصير ، ونحو ذلك ، ولا يجوز أن نثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي لعلم المخلوقين وقُدرهم ، فكذلك هو سبحانه فوق العرش ، ولا نثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق ولوازمها .
واعلم أنه ليس في العقل الصحيح ، ولا في النقل الصريح ، ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية أصلاً ، لكن هذا الموضع لا يتسع للجواب عن الشبهات الواردة عن الحق ، فمن كان في قلبه شبهة وأحب حلها ، فذلك سهل يسير . انتهى كلامه .
ومن أحاط عقله بهذه الغرر ، علم براءة ساحة السلف مما رموا به من التجسيم .
وفي هذه النفائس من الفوائد ما يشفع لدى الواقف بطوله .
الثالث : يطلق العرش على معان : السرير ، ومنه آية : { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } والملك ، يقال : ثل عرشهم . وسقف البيت ، ومنه آية : { وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } ، وحديث < كالقنديل المعلق بالعرش > أو البناء ، ومنه : { وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ } أي : يبنون ومنه : العريش ، وهو ما يستظل به . والعرش المضاف إلى الله تعالى لا يحد .
قال في القاموس : العرش ، عرش الله تعالى ، ولا يحدّ . انتهى .
وقال الراغب : عرش الله عز وجل مما لا يعلمه البشر إلا بالإسم على الحقيقة ، ولذا لم يصح في صفته حديث ، وكل ما روي في ذلك فليس من مرويات الصحاح .
قال البيهقي في كتاب " الأسماء والصفات " : وأقاويل أهل التفسير على أن العرش هو السرير ، وأنه جسم مجسم ، خلقه الله تعالى ، وأمر ملائكته بحمله ، وتعبدهم بتعظيمه والطواف به ، كما خلق في الأرض بيتاً ، وأمر بني آدم بالطواف به واستقباله في الصلاة ، وفي أكثر الآيات دلالة على صحة ما ذهبوا إليه ، وفي الأخبار والآثار الواردة في معناه دليل على صحة ذلك . انتهى .
وقال الحافظ الذهبي في كتاب " العلو " : اعلم أن الله عز وجل ، قد أخبرنا ، وهو أصدق القائلين ، بأن عرش بلقيس عرش عظيم : { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ }
ثم ختم الآية بقوله : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم } ، فكان عرشها عظيماً بالنسبة إليها ، وما نحيط الآن علماً بتفاصيل عرشها ولا بمقداره ولا بماهيته .
ثم قال : فما الظن بما أعد الله تعالى من السُّرر والقصور في الجنة لعباده ، فما الظن بالعرش العظيم الذي اتخذه العلي العظيم لنفسه في ارتفاعه وسعته ، وقوائمه وماهيته وحملته الحافين من حوله ، وحسنه ورونقه وقيمته ؟ اسمع وتعقل ما يقال ، والجأ إلى الإيمان بالغيب ، فليس الخبر كالمعاينة ، فالقرآن مشحون بذكر العرش ، وكذلك الآثار ، بما يمتنع أن يكون المراد به الملك . فدع المكابرة والمراء ، فإن المراء في القرآن كفر .
آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون ، لا إله إلا الله الحليم الكريم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السموات السبع ورب العرش الكريم ، الحمد لله رب العالمين . انتهى كلام الذهبي ـ رحمه الله تعالى - .
الرابع : سئل الشيخ تقي الدين بن تيمية ، عليه الرحمة والرضوان ، عن العرش : هل هو كري أم لا ، فإذا كان كرياً والله من ورائه محيط به بائن عنه ، فما فائدة توجه العبد إلى الله سبحانه حين الدعاء والعبادة ، فيقصد العلو دون غيره ، إذا لا فرق حينئذ بين الجهات التي تحيط بالداعي ، ومع هذا نجد في قلوبنا قصداً يطلب العلو ، لا يلتفت يمنة ولا يسرة . فأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا وقد فطرنا عليها .
فأجاب رحمه الله بقوله :
إن لقائل أن يقول : لم يثبت بدليل يعتمد عليه أن العرش فلك من الأفلاك المستديرة الكرّية ، وإنما ذكره طائفة من المتأخرين الذين نظروا في علم الهيئة ، فرأوا أن الأفلاك تسعة ، وأن التاسع ، وهو الأطلس ، محيط بها ، وهو الذي يحركها الحركة الشرقية ، وإن كان لكل فلك حركة تخصه ، ثم سمعوا في أخبار الأنبياء ذكر عرش الله سبحانه وكرسيه والسموات السبع ، فقالوا بطريق الظن : إن العرش هو الفلك التاسع ، لاعتقادهم أنه ليس وراء ذلك شيء ، إما مطلقاً وإما أنه ليس وراءه مخلوق .
ثم إن منهم من رأى أنه هو الذي يحرك الأفلاك كلها ، فجعلوه مبدأ الحوادث ، وربما سماه بعضهم الروح أو النفس . وجعله بعضهم هو اللوح المحفوظ ، وبعض الناس ادعى أنه علم ذلك بطريق الكشف ، وذلك غير صحيح ، بل أخذه من هؤلاء المتفلسفة ، كما فعل أصحاب " رسائل إخوان الصفاء " .
والأخبار تدل أن العرش مباين لغيره من المخلوقات ، وأنه قبل السموات والأرض . فقد ثبت في صحيح
البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال : < كان الله ولم يكن شيء غيره ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ، وخلق السموات والأرض ، وأن له قوائم > كما في حديث أبي سعيد : < فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش > .
وقد استدل من قال إنه مقبب ، بما رواه أبو داود من قوله عليه الصلاة والسلام < وإن الله تعالى على عرشه ، وإن عرشه على سمواته ، وسمواته فوق أرضه هكذا ، وقال بأصابعه مثل القبة > .
وهذا لا يدل على أنه فلك من الأفلاك ، ولا مستدير مثل ذلك ، لكن لفظ القبة يستلزم استدارة من العلو ، لا من جميع الجوانب ، إلا بدليل منفصل ، ولفظ الفلك يستدل به على الإستدارة مطلقاً ، كما قال ابن عباس في : { كُلٌّ فِي فَلَكٍ } : في فلكة مثل فلكة المغزل ، وأما لفظ القبة فإنه لا يتعرض لهذا المعنى ، لا بنفي ولا إثبات ، لكن يدل على الإستدارة من العلو .
واعلم أن العرش ، وسواء كان هذا الفلك التاسع ، أو جسماً محيطاً به أو كان فوقه من جهة وجه الأرض ، محيط به ، أو قيل فيه غير ذلك ، فيجب أن يعلم أن العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخالق تعالى في غاية الصغر ، كما قال تعالى :
{ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < يقبض الله تبارك وتعالى الأرض
يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول : أنا الملك ، أين ملوك الأرض ؟ > ، وفي الصحيحين عن عبد الله بن عُمَر ، عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال :
< يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة ، ثم يأخذهن بيده اليمنى ، ثم يقول : أنا الملك ، أين الجبارون ، أين المتكبرون ؟ ثم يطوي الأرضين بشماله ، ثم يقول : أنا الملك ، أين الجبارون ، أين المتكبرون ؟ > .
وفي لفظ : ويتميل رسول الله صلى الله عليه وسلم على يمينه وعلى شماله ، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفله شيء .
وفي رواية أخرى قال : قرأ على المنبر : { وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة } الآية ، قال : مطويّة في كفه ، يرمي بها كما يرمي الغلام بالكرة ، ففي هذه الأحاديث وغيرها ، المتفق على صحتها ، ما يبين أن السماوات والأرض وما بينهما بالنسبة إلى عظمته عز وجل ، أصغر من أن تكون مع قبضه لها ، إلا كالشيء الصغير في يد أحدنا ، حتى يدحوها كما تدحى الكرة .
ثم قال في الجواب : فما وصف الله تعالى من نفسه وأسمائه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سميناه كما سماه ، ولم نتكلف علم ما سواه ، فلا نجحد ما وصف ، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف ، وإذا كان كذلك ، فهو قادر على أن يقضها ويدحوها كالكرة ، في ذلك من الإحاطة بها ما لا يخفى ، وإن شاء لم يفعل .
وبكل حال فهو مباين لها ، ليس بمجانب لها ، ومن المعلوم أن الواحد منا - ولله المثل الأعلى - إذا كان عنده خردلة ، إن شاء قبضها ، فأحاطت بها قبضته ، وإن شاء لم يقبضها ، بل جعلها تحته ، فهو في الحالين مباين لها ، وسواء قدر أن العرش هو محيط بالمخلوقات ، كإحاطة الكرة بما فيها ، أم قيل إنه فوقها وليس محيطاً بها كوجه الأرض الذي نحن عليها بالنسبة إلى جوفها ، وكالقبة بالنسبة إلى ما تحتها ، أو غير ذلك ، فعلى التقدير يكون العرش فوق المخلوقات ، والخالق سبحانه فوقه ، والعبد في توجهه إليه عز وجل ، يقصد العلو ، دون التحت .
وتمام هذا البحث بأن يقال : لا يخلو إما أن يكون العرش كرياً كالأفلاك
ويكون محيطاً بها ، وإما أن يكون فوقها ، وليس بكري .
فإن كان الأول ، فمن المعلوم - باتفاق من يعلم هذا - أن الأفلاك مستديرة كرية ، وأن الجهة العليا هي جهة المحيط ، وهو المحدود ، وأن الجهة السفلى هي المركز ، وليس للأفلاك إلا جهتان : العلو والسفل فقط ، وأما الجهات الست فهي للحيوان ، فإن له ست جوانب : يؤم جهة فتكون أمامه ، ويخلف أخرى فتكون خلفه ، وجهة تحاذي شماله ، وجهة تحاذي يمينه ، وجهة تحاذي رأسه ، وجهة تحاذي رجليه . وليس لهذه الجهات في نفسها صفة لازمة ، بل هي بحسب النسبة والإضافة ، فيكون يمين هذا ما يكون يسار هذا ، ويكون فوق هذا ما يكون تحت هذا ، لكن جهة العلو والسفل للأفلاك لا تتغير ، فالمحيط هو للعلو ، والمركز هو السفل ، مع أن وجه الأرض التي وضعها الله تعالى للأنام ، وأرساها بالجبال ، هو الذي عليه الناس والبهائم وغيرهما .
فأما الناحية الأخرى منها فالبحر محيط بها ، وليس هناك شيء من الآدميين وما يتبعهم ، ولو قدر أن هناك أحداً ، لكان على ظهر الأرض ، ولم يكن مَن في هذه الجهة تحت مَن في هذه الجهة ، ولا مَن في هذه تحت مَن في هذه . كما أن الأفلاك محيطة بالمركز ، وليس أحد جانبي الفلك تحت الآخر ، ولا القطب الشمالي تحت الجنوبي ، ولا بالعكس ، وإن كان الشمالي هو الظاهر لنا بحسب بعد الناس عن خط الإستواء ، فما كان بعده عن خط الاستواء ثلاثين درجة مثلاً ، كان ارتفاع القطب عنده ثلاثين درجة ، وهوالذي يسمى عرض البلد ، فكما أن جوانب الأرض المحيطة بها ، وجوانب الفلك المستدير ليس بعضها فوق بعض ولا تحته ، فكذلك من يكون على الأرض لا يقال إنه تحت أولئك ، وإنما هذا جبال يتخيله الْإِنْسَاْن ، وهو تحت إضافي .
كما لو كانت نملة تمشي تحت سقف ، فالسقف فوقها ، وإن كانت رجلاه تلي السماء ، وكذلك قد يتوهم الْإِنْسَاْن إذا كان في أحد جانبي الأرض أو الفلك ، أن الجانب الآخر تحته ، وهذا أمر لا يتنازع فيه اثنان ممن يقول إن الأفلاك مستديرة ، وهذا كما أنه قول أهل الهيئة والحساب ، فهو الذي عليه علماء المسلمين ، كما ذكره أبو الحسن المناوي وأبو محمد بن حزم وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهم ، وهو المأخوذ من قول ابن عباس وغيره .
ومن ظن أن من يكون في الفلك من ناحية يكون تحته من في الفلك من الناحية الأخرى في نفس الأمر ، فهو متوهم عندهم .
فإذا كان الأمر كذلك ، فإذا قدر أن العرش مستدير محيط بالمخلوقات كان هو أعلاها ، وسقفها وهو فوقها مطلقاً ، فلا يتوجه إليه وإلى ما فوقه الْإِنْسَاْن إلا من العلو .
ومن توجه إلى الفلك الثامن أو التاسع مثلاً من غير جهة العلوّ,
كان جاهلاً باتفاق العقلاء ، فكيف بالتوجه إلى العرش أو إلى ما فوقه ! وغاية ما يقدر أن يكون كريّ الشكل ، والله تعالى محيط بالمخلوقات كلها إحاطة تليق بجلاله ، فإن السماوات السبع والأرض في يده أصغر من الحمصة في يد أحدنا .
وأما قول القائل : إذا كان كريّاً ، الله من ورائه محيط بائن عنه ، فما الفائدة في التوجه إلى العلو دون التحت ، ومع هذا نجد في قلوبنا قصد العلو ؟ فيقال : هذا إنما ورد لتوهم أن نصف الفلك يكون تحت الأرض ، وتحت ما على وجه الأرض ، من الآدميين والبهائم ، وهذا غلط .
فلو كان الفلك تحت الأرض من جهة ، لكان تحتها من كل جهة ، فكان يلزم أن يكون الفلك تحت الأرض مطلقاً ، وهذا قلب للحقائق إذ الفلك هو فوق الأرض مطلقاً ، وأهل الهيئة يقولون : لو أن الأرض مخروقة إلى ناحية أرجلنا ، وألقي في الخرق شيء ثقيل كالحجر ونحوه ، لكان ينتهي إلى المركز ، حتى لو ألقي من تلك الناحية حجر آخر ، لالتقيا جمعياً في المركز ، الذي هو النقطة المتوسطة في كرة الأرض ، ولو قدر أن إنسانين التقيا في المركز بدل الحجر ، لالتقت رجلاهما ، ولم يكن أحدهما تحت الآخر ، بل كلاهما فوق المركز ، وكلاهما تحت الفلك .
وإذا كان مطلوب أحد ما فوق الفلك لم يطلبه إلا من الجهة العليا ، لأن مطلوبه من تلك الجهة أقرب ، لأنه لو قدر أن رجلاً أو ملكاً يصعد إلى السماء ، كان صعوده مما يلي رأسه ، ولا يقول عاقل إنه يخرق الأرض ثم يصعد من تلك الناحية ، أو يذهب يميناً أو شمالاً ثم يصعد .
ولو أن رجلاً أراد مخاطبة القمر ، فإنه لا يخاطبه إلا من الجهة العليا ، مع أنه قد يشرق ويغرب ، فكيف بما هو فوق كل شيء لا يأفل ولا يغيب سبحانه وتعالى .
وكما أن حركة الحجر تطلب مركزها بأقصر طريق ، وهو الخط المستقيم ، فالطلب الإرادي الذي يقوم بقلوب العباد ، كيف يعدل عن الصراط المستقيم ؟ مطلب في حديث الإدلاء
إلى أن قال :
وحدث الإدلاء ، الذي رواه أبو هريرة وأبو ذر ، قد رواه الترمذي وغيره من
حديث الحسن عن أبي هريرة ، وهو منقطع ، فإن الحسن لم يسمع من أبي هريرة ، ولكن يقويه حديث أبي ذر المرفوع . فإن كان ثابتاً ، فمعناه موافق لهذا ، فإن قوله صلى الله عليه وسلم : < لو أدلى أحدكم بحبل لهبط على الله > ، إنما هو تقدير مفروض ، أي : لو وقع الإدلاء لوقع عليه ، لكن لا يمكن أن يدلي أحد على الله عز وجل شيئاً ، لأنه عال بالذات ، وإذا أُهبط شيء إلى جهة الأرض وقف في المركز ، والمقصود بيان إحاطة الخالق سبحانه ، كما بين أنه يقبض السموات ، ويطوي الأرض ، ونحو ذلك مما فيه بيان إحاطته تعالى ، ولهذا قرأ في تمام الحديث :
{ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وهذا كله على تقدير صحته ، فإن الترمذي لما رواه قال : وفسره بعض أهل العلم بأنه هبط على علم الله .
وبعض الحلولية والإتحادية يظن أن فيه ما يدل على زعمه الباطل من أنه سبحانه حال بذاته في كل مكان ، أو أن وجوده وجود الأمكنة ونحو ذلك .
وكذلك تأويله بالعلم غير مستقيم ، بل على تقدير ثبوته ، فالمراد به الإحاطة ، ونحن لا نتكلم إلا بما نعلم ، وما لم نعلمه أمسكنا عنه ، وقد فطر الله تعالى الناس على التوجه في الدعاء إلى جهة العلو ، وقال تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلِدّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها } فجاءت الشريعة بالعبادة والدعاء بما يوافق الفطرة .
وقد ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال : < إذ قام أحدكم إلى الصلاة فلا
يبصق قِبل وجهه ، فإن الله تعالى قبل وجهه ، ولا عن يمينه فإن يمينه ملكاً ، وليبصق عن يساره أو تحت رجله > .
وفي رواية : إنه أذن أن يبصق في ثوبه ، وفي حديث أبي رَزين المشهور : لما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه ما من أحد إلا سيخلو به ربه ، فقال له أبو رَزين : كيف يسعنا يا رسول الله وهو واحد ونحن جمع ؟ فقال : < سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله تعالى : هذا القمر آية من آيات الله تعالى كلكم يراه مخلياً به ، فالله أكبر > .
وفي الصحيحين : < لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم في الصلاة ، أو لا ترجع إليهم أبصارهم > .
واتفق العلماء على أن رفع المصلي بصره إلى السماء منهي عنه ، وروى محمد بن سيرين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع بصره في الصلاة إلى السماء ، حتى نزل : { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } فكان بصره لا يجاوز موضع سجوده .
فهذا مما جاءت به الشريعة تكميلاً للفطرة ، لأن الداعي المأمور بالذل ، لا يناسب حاله أن ينظر إلى ناحية من يدعوه ، خلافاً للجهمية الذين لا يفرقون بين العرش وقعر البحر ، وقد قال تعالى : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ } الآية ، ثم بين تأويل : الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله تعالى وقبل يمينه ، وقال : قد ظنوا أن هذا وأمثاله محتاج إلى التأويل ، وهذا وهم ، لأنه لو كان هذا اللفظ ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه صريح في أن الحجر ليس هو من صفاته تعالى ، وتقييده بالأرض يدل على أنه ليس هو يده على الإطلاق ، فلا تكون اليد حقيقة . وقوله : فكأنما صافح الله تعالى . . . الخ ، صريح في أن المصافح ليس مصافحاً له تعالى ، لأن المشبه ليس هو المشبه به .
إلى أن قال : فهذا كله بتقدير كرّية العرش ، وأما إذا قدر لأنه ليس بكري الشكل ، بل هو فوق العالم من الجهة التي هي وجه الأرض ، وأنه فوق الأفلاك الكرية ، كما أن وجه الأرض الموضع للأنام ، فوق نصف الأرض الكريّ ، أو غير ذلك من المقادير التي يقدر فيها أن العرش فوق ما سواه ، فعلى كل تقدير لا يتوجه إلى الله تعالى إلا
إلى العلو ، مع كونه على عرشه مبايناً لخلقه .
وعلى ما ذكرناه لا يلزم شيء من المحذور والتناقض ، وهذا يزيل كل شبهة تنشأ من اعتقاد فاسد ، وهو أن يظن أن العرش إذا كان كريّاً ، والله تعالى فوقه كما تقتضيه ذاته ـ سبحانه عن مشابهة المخلوقين - وجب فيما عند الزاعم أن يكون سبحانه كرياً ، ثم يعتقد أنه إذا كان كريّاً فيصح التوجه إلى ما هو كري كالفلك التاسع من جميع الجهات ، وهذا خطأ ، فإن القول بأن العرش كري لا يجوز أن يظن أنه مشابه للأفلاك في أشكالها وأقدارها أو في صفاتها ، بل قد تبين أن سبحانه أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده أصغر من الحمصة في يد أحدنا ، فإذا كانت الحمصة مثلاً في يد الْإِنْسَاْن أو تحته أو نحو ذلك ، هل يتصور عاقل ، إذا استشعر علو الْإِنْسَاْن على ذلك وإحاطته ، بأن يكون الْإِنْسَاْن كالفلك ؟ فالله تعالى - وله المثل الأعلى - أعظم من أن يظن به ذلك .
وإنما يظنه الذين لم يقدروا الله : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
وإذا لم يكن كريّاً ، فالأمر ظاهر مما تقدم ، وبهذا يظهر الجواب عن السؤال من وجوه متعددة ، والله تعالى أعلم .
وإنما أشبعنا الكلام في هذا المقام ، لأنه من أصول العقائد الدينية ، ومهمات المسائل التوحيدية ، وقد كثر فيه تعارك الآراء ، وتصادم الأهواء ، ولم يأت جمهور المتكلمين المؤولين بشيء يعلق بقلب الأذكياء ، بل اجتهدوا في إيراد التمحلات التي تأتي تأباها فطرة الله أشد الغباء ، فبقيت نفوس أنصار السنة المحققين ، مائلة إلى مذهب السلف الصالحين ، فإن الأئمة منهم ، كان عقدهم ما بيناه فلا تكن من الممترين ، والحمد لله رب العالمين .
وقوله تعالى : { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ } أي : يغطيه به ، يعني أنه تعالى يأتي بالليل على النهار ، فيغطيه ويلبسه ، حتى يذهب بنوره ، ويصير الجو مظلماً ، بعد ما كان مضيئاً .
قال الشهاب : وجوز جعل الليل والنهار مغشى على الإستعارة ، بأن يجعل غشيان مكان النهار وإظلامه بمنزلة غشيانه للنهار نفسه ، فكأنه لف عليه لف الغشاة ، أو شبه تغييب كل منهما ، بطريانه عليه ، بستر اللباس للابسه . انتهى .
ولم يذكر العكس للعلم به ، أو لأن اللفظ يحتملها ، ولذلك قرئ : { يَغْشى اللَّيْلَ النَّهارُ } بنصب الليل ، ورفع النهار : { يَطْلُبُهُ حَثِيثاً } أي : يعقبه سريعاً ، كالطالب له ، لا يفصل بينهما شيء .
قال الرازي : وإنما وصف سبحانه هذه الحركة السرعة,
لأن تعاقب الليل والنهار إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم ، وتلك الحركة أشد الحركات سرعة ، وأكملها شدة ، حتى إن الباحثين عن أحوال الموجودات قالوا : الْإِنْسَاْن إذا كان في العدو الشديد الكامل ، فإلى أن يرفع رجله ويضعها يتحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل ، وإذا كان الأمر كذلك ، كانت تلك الحركة في غاية الشدة والسرعة ، فلهذا السبب قال تعالى : { يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } أي : مذللات لما يراد منها من طلوع وغروب وسير ورجوع بقضائه وتصريفه .
قال الشهاب : وسماه أمرا على التشبيه ، إذ جعل هذه الأشياء لكونها تابعة لتدبيره وتصريفه كما يشاء كأنهم مأمورات منقادة لأمره ، ويصح حمله على ظاهره . انتهى .
أي : وهو الكلام ، فيكون تعالى أمره هذه الأجرام بالسير الدائم ، والحركة المستمرة إلى انقضاء الدنيا ، وخراب هذا العالم . وقد قرئ : { وَالشَّمْسَ } وما بعده بالنصب ، عطفاً على
{ السَّمَوَات } ونصب : { مُسَخَّرَاتٍ } على الحال . وقرأها ابن عامر كلها بالرفع على الإبتداء ، والخبر : { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ } أي : هو الذي خلق الأشياء كلها ، وهو الذي صرفها على حسن إرادته ، وفسر الأمر بالقضاء والحكم .
تنبيهان :
الأول : استخرج سفيان بن عيينة من هذا المعنى ، أن كلام الله عز وجل ليس بمخلوق ، فقال : إن الله تعالى فرق بين الخلق والأمر ، فمن جمع بينهما فقد كفر ، يعني أن من جعل الأمر الذي هو كلامه تعالى ، من جملة ما خلقه فقد كفر ، لأن المخلوق لا يقوم بمخلوق مثله . كذا في " اللباب " .
قال في " الإكليل " : استدل به ابن عيينة على أن القرآن غير مخلوق ، أخرجه ابن أبي حاتم . لأن الأمر هو الكلام ، وقد عطفه على الخلق ، فاقتضى أن يكون غيره ، لأن العطف يقتضي المغايرة ، وسبقه إلى هذا الاستنباط محمد بن كعب القرظي . انتهى .
الثاني : قال في " اللباب " : في الآية دليل على أنه لا خالق إلا الله عز وجل ، أي : للحصر المستفاد من تقديم الظرف ، ففيه رد على من يقول : إن للشمس والقمر والكواكب تأثيرات في هذا العالم .
{ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } أي : تقدس وتنزه وتعالى وتعاظم . قال في " التاج " : سئل أبو العباس عن تفسير : { تَبَارَكَ اللّهُ } فقال : ارتفع . انتهى .
ولما ذكر تعالى الدلائل على كما القدرة والحكمة ، ليفردوه بالألوهية ، أمرهم بأن يدعوه وحده متذللين مخلصين ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [ 55 ] .
{ ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } نصب على الحال ، أي : ذوي تضرع وخفية ، والتضرع تفعل من الضراعة وهو الذل .
والخفية بضم الخاء وكسرها ، مصدر خفي كرضي بمعنى اختفى ، أي : استتر وتوارى ، وإنما طلب الدعاء مع تينك الحالتين لأن المقصود من الدعاء أن يشاهد العبد حاجته وعجزه وفقره لربه ذي القدرة الباهرة ، والرحمة الواسعة . وإذا حصل له ذلك ، فلا بد من صونه على الرياء ، وذلك بالإختفاء ، وتوصلاً للإخلاص .
فوائد :
في هذه الآية مشروعية الدعاء ، بشرطيه المذكورين :
قال السيوطي في " الإكليل " : ومن التضرع رفع الأيدي في الدعاء ، فيستحب .
وقد أخرج البزار عن أنس : < رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه بعرفة يدعو ، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : هذا الإبتهال . ثم خاضت الناقة ، ففتح إحدى يديه فأخذها وهو رافع الأخرى > . انتهى .
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال : رفع الناس أصواتهم بالدعاء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أيها الناس ! اربعوا على أنفسكم ، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً ، إن الذي تدعون سميع قريب > الحديث .
وقال عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فَضَالة ، عن الحسن قال : إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعربه الناس ، وإن كان الرجل لقد فقه الكثير وما يشعر به الناس ، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزَّوْر وما يشعرون به ، ولقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر
فيكون علانية أبداً . ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ، وما يسمع لهم صوت ، إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم وذلك أن الله تعالى يقول : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } . وذلك أن الله ذكر عبداً صالحاً رضي فعله فقال : { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً } .
وقال ابن جريج : يكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء ، ويؤمر بالتضرع والإستكانة .
وقال الناصر في " الانتصاف " : وحسبك في تعين الإسرار في الدعاء اقترانه بالتضرع في الآية ، فالإخلال بالضراعة إلى الله في الدعاء ، وإن دعاء لا تضرع فيه ولا خشوع ، لقليل الجدوى ، فكذلك دعاء لا خفية ولا وقار يصحبه .
وترى كثيراً من أهل زمانك يعتمدون الصراخ والصياح في الدعاء ، خصوصاً في الجوامع ، حتى يعظم اللغط ويشتد ، وتستكّ المسامع وتستدّ ، ويهتز الداعي بالناس ، ولا يعلم أنه جمع بين بدعتين : رفع الصوت في الدعاء ، وفي المسجد ، وربما حصلت للعوام حينئذ رقة ، لا تحصل مع خفض الصوت ، ورعاية سمت الوقار ، وسلوك السنة الثابتة بالآثار . وما هي إلا رقة شبيهة بالرقة العارضة للنساء والأطفال ، ليست خارجة عن صميم الفؤاد ، لأنها لو كانت من أصل ، لكانت عند اتباع السنة في الدعاء ، وفي خفض الصوت به ، أوفر وأوفى وأزكى .
فما أكثر التباس الباطل بالحق ، على عقول كثيرة من الخلق ، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه . انتهى .
وقد روى الحافظ أبو الشيخ في " الثواب " عن أنس مرفوعاً : < دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية > .
وقوله تعالى : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } أي : لا يحب دعاء المجاوزين لما أُمروا به في كل شيء ، ويدخل فيه الإعتداء بترك الأمرين المذكورين ، وهما التضرع والإخفاء دخولاً أولياً .
قال السيوطي في " الإكليل " : في الآية كراهية الإعتداء في الدعاء . وفسره زيد ابن أسلم بالجهر ، وأبو مجلز بسؤال منازل الأنبياء ، وسعيد بن جبير بالدعاء على المؤمن بالسر . أخرج ذلك ابن أبي حاتم ، ولا يخفى أن هذا جميعه مما يشمله الإعتداء .
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود ، أن سعداً سمع ابناً له يدعو وهو يقول : اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ، ونحواً من هذا ، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها فقال : لقد سألت الله خيراً كثيراً ، وتعوذت بالله من شر كثير وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء > وفي لفظ : < يعتدون في الطهور والدعاء ، وقرأ هذه الآية : { ادْعُوا رَبَّكُمْ } الآية > ، وإن بحسبك أن تقول : اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل .
وروى الإمام أحمد وأبو داود أن عبد الله بن مُغَفَّل سمع ابنه يقول : اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها . فقال : يا بنيّ سل الله الجنة ، وعُذ به من النار ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } [ 56 ] .
{ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } قال أبو مسلم : أي : لا تفسدوها بعد إصلاح الله إياها ، بأن خلقها على أحسن نظام ، وبعث الرسل ، بين الطريق ، وأبطل الكفر .
قال أبو حيان : هذا نهي عن إيقاع الفساد في الأرض ، وإدخال ماهيته في الوجود بجميع أنواعه ، من إفساد النفوس والأموال والأنساب والعقول والأديان .
ومعنى : { بَعْدَ إِصْلاحِها } : بعد أن أصلح الله خلقها على الوجه الملائم لمنافع الخلق ، ومصالح المكلفين . انتهى .
{ وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً } أي : ذوي خوف من وبيل العقاب ، نظراً إلى قصور
أعمالكم ، طمع فيما عنده من جزيل الثواب ، نظراً إلى سعة رحمته ، وفور فضله وإحسانه : { إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } أي : أن رحمته مرصدة للمحسنين الذي يتبعون أوامره ، ويتركون زواجره ، كما قال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُون } الآية .
لطائف :
الأولى : قال في " اللباب " : إن قلت : قال في أول الآية
{ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } وقال هنا : { وادْعُوهُ } ، وهذا هو عطف الشيء على نفسه ، فما فائدة ذلك ؟
قلت : الفائدة فيه أن المراد بقوله تعالى : { ادْعُوا رَبَّكُمْ } أي : ليكن الدعاء مقروناً بالتضرع والإخبات ، وقوله : { وادْعُوهُ خَوْفاً وطَمعاً } أن فائدة الدعاء أحد هذين الأمرين ، فكانت الآية الأولى في بيان شرط صحة الدعاء ، والآية الثانية في بيان فائدة الدعاء .
وقيل : معناه كونوا جامعين في أنفسكم بين الخوف والرجاء في أعمالكم كلها ، ولا تطمعوا أنكم وفيتم حق الله في العبادة والدعاء ، وإن اجتهدتم فيهما .
الثانية : في قوله تعالى : { إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ } الآية ، ترجيح للطمع على الخوف ، لأن المؤمن بين الرجاء والخوف ، ولكنه إذا رأى سعة رحمته وسبقها ، غلب الرجاء عليه .
وفيه أيضاً تنبيه على ما يتوسل به إلى الإجابة ، وهو الإحسان في القول والعمل .
قال مطر الوراق : استنجزوا موعود الله بطاعته ، فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين .
الثالثة : تذكير قريب ، لأن الرحمة بمعنى الرحم ، أو لأنه صفة لمحذوف ، أي : أمر قريب ، أو على تشبيه بفعيل ، الذي هو بمعنى مفعول ، أو الذي هو مصدر كالنقيض والصهيل ، أو للفرق بين القريب من النسب والقريب من غيره ، فإنه يقال : فلانة قريبة مني لا غير ، وفي المكان وغيره يجوز الوجهان ، أو لاكتسابه التذكير من المضاف إليه ، كما أن المضاف يكتسب التأنيث من المضاف إليه ، وقد أوصلوا توجيه تذكيره إلى خمسة عشر وجهاً .
ولما ذكر تعالى أنه خالق السموات والأرض ، وأنه المتصرف الحاكم المدبر المسخر ، وأرشد إلى دعائه لأنه على ما يشاء قدير ، نبه تعالى على أنه الرزاق ، وأنه يعيد الموتى يوم القيامة ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ 57 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } أي : قدام رحمته التي هي المطر ، فإن الصبا تثير السحاب ، والشمال تجمعه والجنوب تدره ، والدبور تفرقه . وهذا كقوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ } وقوله سبحانه : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ } .
قال الثعالبي : المبشرات التي تأتي بالسحاب والغيث .
تنبيه :
قال أبو البقاء : يقرأ : { نُشُراً } بالنون والشين مضمومتين ، وهو جمع ، في واحده وجهان :
أحدهما : { نَشُور } مثل صبور وصبر ، فعلى هذه يجوز أن يكون فعول بمعنى فاعل ، أي : ينشر الأرض ، ويجوز أن يكون بمعنى مفعول ، كركوب بمعنى مركوب ، أي : منشورة بعد الطي ، أو منشرة أي : مُحياة ، من قولك أنشر الله الميت فهو مُنشر ، ويجوز أن يكون جمع ناشر ، مثل بازل وبُزل . ويقرأ بضم النون وإسكان الشين ، على تخفيف المضموم . ويقرأ نشراً بفتح النون وإسكان الشين ، وهو مصدر نشر بعد الطي ، أو من قولك أنشر الله الميت فنشر أي : عاش .
ونصبه على الحال ، أي : ناشرة ، أو ذات نشر ، كما تقول : جاء ركضاً أي : راكضاً .
ويقرأ : بُشراً بالباء وضمتين ، وهو جمع بشير ، مثل قليب وقُلب ، ويقرأ كذلك إلا أنه بسكون الشين على التخفيف . ويقرأ بشرى مثل حُبلى ، أي : ذات بشارة ويقرأ بَشر بفتح الباء وسكون الشين ، وهو مصدر بشرته - أي : بالتخفيف - إذا بشرته . انتهى .
{ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ } أي : حملت : { سَحَاباً ثِقَالاً } أي : من كثرة ما فيها من الماء : { سُقْنَاهُ } أي : السحاب .
قال الشهاب : السحاب إسم جنس جمعي ، يفرق بينه وبين واحده بالتاء ، كتمر وتمرة ، وهو يذكر ويؤنث ويفرد وصفه ، ويجمع ، وأهل اللغة تسميه جمعاً ، فلذا روعي فيه الوجهان ، في وصفه وضميره . انتهى .
أي : أرسلناه
مع أن طبعه الهبوط : { لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ } أي : لأجله ولمنفعته ، أو لإحيائه أو لسقيه . و ميت ، قرئ مشدداً ومخففاً { فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء } أي : الضمير . والضمير في به للبلد : { فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ } أي : المختلفة الأنواع ، مع أن ماءها واحد . والمراد بكل الثمرات ، المعادة في كل بلد تخرج به على الوجه الذي أجرى الله العادة بها ودبرها .
والضمير في به ، للماء أو لبلد { كَذَلِكَ } أي : مثل ذلك الإخراج { نُخْرِجُ الْموْتَى } أي : نحييها بعد صيرورتها رميماً يوم القيامة ، ينزل الله سبحانه وتعالى ماء من السماء ، فتمطر الأرض أربعين يوماً ، فتنبت منه الأجساد في قبورها ، كما ينبت الحب في الأرض : { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي : إنما وصفنا من هذا التمثيل لكي تتذكروا ، من أحوال الثمرات التي أعيدت إلى حالها بعد تلفها ، أحوال الآخرة ، فتعلموا أن من قدر على ذلك ، قدر على هذا بلا ريب .
تنبيه :
من أحكام الآية كما قال الجشمي : أنها تدل على عظم نعمه تعالى علينا بالمطر ، وتدل على الحجاج في إحياء الموتى بإحياء الأرض بالنبات ، وتدل على أنه أراد من الجميع التذكر ، وتدل على أنه أجرى العادة بإخراج النبات بالماء . وإلا فهو قادر على إخراجه من غير ماء ، فأجرى العادة على وجوه دبرها عليها على ما نشاهده ، لضرب من المصلحة ديناً ودنيا .
ومنها إذا رأى الأرض الطيبة تزرع دون الأرض السبخة ، وأنها قطع متجاورات ، علم فساد التقليد ، وأنه يجب أن يتفحص عن الحق حتى يعتقده .
ومنها أنه إذا زرع وعلم وجوب حفظه من المبطلات ، علم وجوب حفظ الأعمال الصالحة من المحبطات .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } [ 58 ] .
{ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ } أي : الأرض الكريمة التربة { يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ } أي : يخرج نباته وافياً حسناً غزير النفع ، بمشيئته وتيسيره { وَالَّذِي خَبُثَ } أي : كالحرة ، وهي الأرض ذات الحجارة السود . وكالسبخة بكسر الباء ، وهي الأرض ذات الملح { لاَ يَخْرُجُ } أي : نباته : { إِلاَّ نَكِداً } أي : قليلاً ، عديم النفع . يقال : عطاء نكد ، أي : قليل
لا خير فيه ، وكذا رجل نكد . قال :
~فأعطِ ما أعطيتَه طيباً لا خيرَ في المنْْكُودِ والنَّاكِدِ
وقال :
~لا تُنْجِزِ الوَعْدَ إن وعَدْتَ وإن أعطيتَ ، أعطيتَ تافهاً نكِدا
تنبيه :
قال ابن عباس في الآية : هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر .
وقال قتادة : المؤمن سمع كتاب الله فوعاه بعقله ، وانتفع به ، كالأرض الطيبة أصابها الغيث فأنبتت ، والكافر بخلاف ذلك ، وهذا كما في الصحيحين عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير ، أصاب أرضاً ، فكانت منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعَلِمَ وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ، ولم يقبل هدى الله الذي أُرسلتُ به > .
لطيفة :
قال أبو البقاء : يقرأ : { يَخْرُجُ نَباَتُهُ } بفتح الياء وضم الراء ورفع النبات . ويقرأ كذلك إلا أنه بضم الياء ، على ما لم يسم فاعله . ويقرأ بضم الياء وكسر الراء ونصب النبات أي : فيخرج الله أو الماء . ثم قال : ويقرأ : { نَكِداً } بفتح النون وكسر الكاف ، وهو حال ، يقرأ بفتحهما على أنه مصدر أي : ذا نكد . ويقرأ بفتح النون وسكون الكاف وهو مصدر أيضاً ، وهو لفة ويقرأ : يُخرج بضم الياء وكسر الراء ، ونكداً مفعوله .
{ كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ } أي : نبين وجوه الحجج ونرددها ونكررها : { لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } يعني كما ضربنا هذا المثل ، كذلك نبين الآيات الدالة على التوحيد والإيمان آية بعد آية ، وحجة بعد حجة ، لقوم يشكرون الله تعالى على إنعامه عليهم بالهداية ، وأن جَنَّبهم سبيل الضلالة ، وإنما خص الشاكرين بالذكر لأنهم هم الذين انتفعوا بسماع القرآن .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ 59 ] .
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ } اعلم أن الله تعالى لما ذكر في أول السورة قصة آدم ، وما اتصل بها من آثار قدرته ، وغرائب صنعته الدالة على توحيده وربوبيته ، وأقام الحجة الدامغة على صحة البعث بعد الموت ، أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وما جرى لهم مع أممهم .
قال الرازي : وفيه فوائد :
أحدها : التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول هذه الدلائل والبينات ، ليس من خواص قوم النبي صلى الله عليه وسلم ، بل هذه العادة المذمومة كانت حاصلة في جميع الأمم السالفة ، والمصيبة إذا عمت خفت ، فكان ذكر قصصهم ، وحكاية إصرارهم وعنادهم ، يفيد تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، وتخفيف ذلك على قبله .
ثانيها : أنه تعالى يحكي في هذه القصص أن عاقبة أمر أولئك المنكرين كان إلى اللعن في الدنيا ، والخسارة في الآخرة ، وذلك يقوي قلوب المحقين ، ويكسر قلوب المبطلين .
وثالثها : التنبيه على أنه تعالى ، وإن كان يمهل هؤلاء المبطلين ، ولكنه لا يهملهم ، بل ينتقم منها على أكمل الوجوه .
ورابعها : بيان هذه القصص دالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه كان أمياً ، وما طالع كتاباً ، ولا تلمذ أستاذاً . فإذا ذكر هذه القصص على الوجه من غير تحريف ولا خطأ ، دلّ ذلك على أنه إنما عرفها بالوحي من الله تعالى .
ونوح عليه السلام هو ابن لامَك بن مَتُوشَالَحَ بن أخْنوخَ بن يارَدَ بن مَهلَئِيل بن قَيْنانَ بن أنُوشَ بن شيث بن آدم عليه السلام ، هكذا نسبه ابن إسحاق وغير واحد من الأئمة ، وأصله من التوراة .
ومعنى أرسلنا : بعثنا ، وهو أول نبي بعثه الله بعد إدريس ، كذا في " اللباب " . وإدريس هو أخنوخ فيما يزعمون .
قاله ابن كثير : قال محمد بن إسحاق : ولم يلق نبي من قومه من الأذى مثل نوح ، إلا نبيّ قتل ، وقال يزيد الرَّقَاشِي : إنما سمي نوحاً لكثرة ما ناح على نفسه . انتهى .
وفيه نظر ، لأنه إنما يصح ما ذكره ، لو كان نوح لقباً مع وجود إسم له غيره ، واللفظ عربياً ، لمناسبة الاشتقاق . أما وهو إسمه
الوضعي ، واللفظ غير عربي ، فلا .
وفي كتاب " تأويل الأسماء الواقعة في الكتب السالفة " أن نوحاً معناه راحة أو سلوان ، فتثبَّتْ .
وكان قبل بعثة نوح عليه السلام ، قوم عرفوا الله وعبدوه خصوصاً في عائلة شيث عليه السلام ، ثم فسد نسل شيث أيضاً ، واختلطوا مع الأشرار ، وامتلأت الأرض من جرائمهم ، وزاغوا عن الصراط المستقيم ، وصاروا يعبدون الأوثان والأصنام ، فأرسل الله تعالى إليهم نوحاً عليه السلام ، ليدلهم على طريق الرشاد .
قال ابن كثير : قال عبد الله بن عباس وغير واحد من علماء التفسير : كان أول ما عبدت الأصنام أن قوماً صالحين ماتوا ، فبنى قومهم عليهم مساجد ، وصوروا صور أولئك فيها ، ليتذكروا حالهم وعبادتهم فيتشبهوا بهم ، فلما طال الزمان جعلوا أجساداً على تلك الصور ، فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين : وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً ، فلما تفاقم الأمر بعث الله سبحانه - وله الحمد والمنة - رسوله نوحاً فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له : { فَقَالَ يَا قَوْمِ } أي : الذين حقهم أن يشاركوني في كمالاتي : { اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ } أي : مستحق للعبادة في الوجود : { غَيْرُهُ } ، قرئ بالحركات الثلاث ، فالرفع صفة لإله ، باعتبار محله الذي هو الرفع على الإبتداء أو الفاعلية ، وبالجر على اللفظ ، وبالنصب على الإستثناء ، وحكم غير ، حكم الاسم الواقع بعد إلا ، أي : ما لكم من إله إلا إياه .
{ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ } أي : إن تركتم عبادته أو عبدتم غيره .
{ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } هو يوم القيامة إذا لقيتم الله وأنتم مشركون به ، أو يوم نزول العذاب عليهم ، وهو الطوفان . ووصف اليوم بالعظم لبيان عظم ما يقع فيه ، وتكميل الإنذار .
قال الزمخشري : فإن قلت : فما موقع الجملتين بعد قوله :
{ اعْبُدُوا اللَّهَ } ؟ قلت :
الأولى : بيان لوجه اختصاصه بالعبادة ، والثانية : بيان للداعي إلى عبادته ، لأنه هو المحذور عقابه ، دون ما كانوا يعبدونه من دون الله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ 60 ] .
{ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ } أي : الأشراف ، أو الجماعة ، أو ذوو الشارة والتجمع .
{ إِنَّا لَنَرَاكَ } أي : بأمرك بعبادة الله ، وترك عبادة غيره وتخويف العذاب على ترك عبادة الله ، وعلى عبادة غيره .
{ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي : في ذهاب عن طريق الحق والصواب
لكونه خلاف ما وجدنا عليه آباءنا .
قال ابن كثير : وهكذا حال الفجار ، إنما يرون الأبرار في ضلالة ، كقوله : { وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ }
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ } إلى غير ذلك من الآيات .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } [ 61 ]
[ لم يفسر القاسمي هذه الآية ](/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ 62 ] .
{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي } أي : ما أوحي إليّ في الأوقات المتطاولة ، أو في المعاني المختلفة ، من الأوامر والنواهي ، والمواعظ والزواجر ، والبشائر والنذائر .
ويجوز أن يريد رسالاته إليه وإلى الأنبياء قبله من صحف جده ، إدريس ، فهذا نكتة جمع الرسالات ، وإلا فرسالة كل نبي واحدة ، وهي مصدر ، والأصل فيه أن لا يجمع ، فجمع لما ذُكر .
{ وَأَنصَحُ لَكُمْ } وأصد صلاحكم بإخلاص { وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي : من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا من طريق الوحي ، أشياء لا علم لكم بها ، أو أعلم من قدرته الباهرة ، وشدة بطشه على أعدائه ، وأن بأسه لا يُرد عن القوم المجرمين ما لا تعلمونه .
قال ابن كثير : وهذا شأن الرسول أن يكون مبلغاً فصيحاً ناصحاً عالماً بالله ، لا يدركه أحد من خلق الله في هذه الصفات ، كما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم عرفة ، وهم أوفر ما كانوا وأكثر
جميعاً : < أيها الناس ! إنكم مسؤولون عني ، فما أنتم قائلون ؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت ، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء ، وينكسها عليهم ويقول اللهم اشهد ، اللهم اشهد > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ 63 ] .
{ أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ } أي : موعظة : { مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ } أي : من العذاب إن لم تؤمنوا : { وَلِتَتَّقُواْ } أي : وليوجد منكم التقوى ، وهي الخشية بسبب الإنذار ، { وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي : ولترحموا بالتقوى إن وُجدت منكم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ } [ 64 ] .
{ فَكَذَّبُوهُ } أي : أصروا على تكذيبه ، مع طول مدة إقامته فيهم ولم يؤمن معه منهم إلا قليل { فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ } أي : عن الحق ، فلم يستبصروا الحق ولم يستنيروا بنور الوحي الذي هو كالشمس ، ولا بظهور الآيات ، ولا بآية الطوفان المغرق لهم ، بعد إنذاره به على تكذيبهم ، والعمى ذهاب بصر العينين وبصر القلب . يقال : عَمي فهو أعمى وعمٍ ، كما في القاموس .
وكان من أمر نوح عليه السلام ، أن قومه لما أعرضوا عن الإيمان ، وتمادوا على العصيان ، وعبدة الأوثان ، وطال عليه أمرهم ، شكاهم إلى الله تعالى ، فأوحى الله إليه أنه : { لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَن } ، وهم ناس قليل ، فحينئذ دعا عليهم فقال : { وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً } .
فأوحى الله إليه أن يصنع السفينة ، وصار قومه يسخرون منه ، ويقولون : يا نوح ! قد صرت نجاراً بعد النبوة ! فقال : { إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ } .
فلما فرغ من صنع السفينة ، أمره الله تعالى أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين من أنواع الحيوانات ، حتى لا ينقطع نسلها . وحشرها إليه من كل جهة .
ولما رأى فوران
التنور ، وكان هو العلامة بينه وبين الله تعالى في ابتداء الطوفان ، ركب الفلك هو ومن آمن معه ، وحمل من كل زوجين اثنين ، وأمر الله تعالى السماء أن تمطر ، والأرض أن تتفجر عيوناً ، وارتفع الماء في هذا الطوفان رؤوس الجبال ، فهلك جميع ما على الأرض من جنس الحيوان ، ولم يبق حياً غير أهل السفينة .
وفي التوراة : أن الأمطار هطلت أربعين يوماً وليلة دون انقطاع ، حتى غمرت المياه وجه الأرض ، وعلت خمسة عشر ذراعاً فوق الجبال الشامخة وهلك بالطوفان كل جسم حي .
ثم أرسل الله ريحاً عاصفة ، فانقطعت الأمطار ونقصت المياه شيئاً فشيئاً ، وقضى نوح سنة كاملة داخل الفلك ، وحين خروجه منه بنى مذبحاً للقرابين ، شكراً لله تعالى ، وتناسلت الناس من أولاد نوح الثلاثة : سام وحام ويافث وتوطن سام بلاد آسية ، وأقام حام بنواحي أفريقية ، وسكن يافث الديار الأوروبية ـ والله أعلم ـ
تنبيه :
قال الجشمي : في الآيات فوائد منها : أن نوحاً دعاهم أولاً إلى التوحيد ، والرسولُ وإن حمل الشرائع ، فلا طريق له إلى بيان الشرائع إلا بعد العلم بالتوحيد ، ولأنهم لا ينتفعون بذلك إلا بعد اعتقاد التوحيد ، فلذلك بدأ به .
وجميع الرسل بدؤوا بالتوحيد ثم بالشرائع ولذلك كان أكثر حجاج نبينا عليه السلام بمكة ، في التوحيد . انتهى .
وقال ابن كثير : بين تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه ، وأنجى رسوله والمؤمنين ، وأهلك أعداءهم الكافرين ، كقوله : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا } الآية ، وهذه سنة الله في عباده ، في الدنيا والآخرة ، أن العاقبة للمتقين ، والظفر والغلب لهم ، كما أهلك قوم نوح بالغرق ، ونجى نوحاً وأصحابه المؤمنين .
قال مالك عن زيد بن أسلم : كان قوم نوح قد ضاق بهم السهل والجبل . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما عذب الله قوم نوح إلا والأرض ملأى بهم ، وليس بقعة من الأرض إلا ولها مالك وحائز .
قوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } [ 65 ] .
{ وَإِلَى عَادٍ } متعلق بمضمر ، معطوف على قوله تعالى :
{ أرْسَلْنا } في قصة
نوح . أي : وأرسلنا إلى عاد ، وهي قبيلة كانت تعبد الأصنام ، وكانت ذات بسطة وقوة ، قهروا الناس بفضل القوة .
قال الشهاب : عاد إسم أبيهم ، سميت به القبيلة أو الحيّ فيجوز صرفه وعدمه ، كثمود - كما ذكره سيبويه - .
قال الليث : وعاد الأولى ، وهم عاد بن عاديا بن سام بن نوح الذين أهلكهم الله .
قال زهير :
وأهلك لقمان بن عاد وعاديا
وأما عاد الأخيرة ، فهو بنو تميم ، ينزلون رمال عالج .
وفي " كتاب الأنساب " : عاد هو ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح ، كان يعبد القمر ، ويقال إنه رأى من صلبه وأولاد أولاده أربعة آلاف ، وأنه نكح ألف جارية ، وكانت بلادهم إرم المذكورة في القرآن ، وهي من عُمان إلى حضرموت . ومن أولاده شَدَّاد بن عاد صاحب المدينة المذكورة ، كذا في " تاج العروس " .
وقال ابن عرفة : قوم عاد كانت منازلهم في الرمال وهي الأحقاف .
وقال ابن إسحاق : الأحقاف رمل فيما بين عُمان إلى حضرموت .
وقوله تعالى : { أَخَاهُمْ هُوداً } أي : أخاهم في النسب ، لأنه منهم ، في قول النسابين . وقيل : الناس كلهم إخوة في النسب ، لأنهم ولد آدم وحواء ، فالمراد صاحبهم ، وواحد في جملتهم ، كما يقال : يا أخا العرب ، للواحد منهم ، وإنما أرسل منهم ، لأنهم أفهم لقوله من قول غيره ، وأعرف بحاله في صدقه وأمانته وشرف أصله ، وأرغب في اقتفائه .
قال الشهاب : اشتهر أن هوداً عربي ، وظاهر كلام سيبويه أنه أعجمي ، ويشهد له ما قيل : إن أول العرب يعرب . انتهى .
وهود هو على ما قال ابن إسحاق : ابن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ويقال غير ذلك - والله أعلم - .
وروى ابن إسحاق بن عامر بن واثلة ، قال : سمعت علياً يقول لرجل من حضرموت : هل رأيت كثيباً أحمر يخالطه مَدرَةٌ حمراء ، ذا أراكٍ وسدرٍ كثير ، بناحية
كذا وكذا ، من أرض حضرموت ، هل رأيته ؟ قال : نعم ، يا أمير المؤمنين ! والله إنك لتنعته نعت رجل قد رآه ! قال : لا ، ولكني قد حُدِّثت عنه ، فقال الحضرمي : وما شأنه يا أمير المؤمنين ؟ قال : فيه قبر هود عليه السلام - ورواه ابن جرير - .
قال ابن كثير : وهذا فيه فائدة أن مساكنهم كانت باليمن ، فإذا هوداً عليه السلام دفن هناك . وقال : إنهم كانوا يأوون إلى العُمُد في البر ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ } ، وذلك لشدة بأسهم وقوتهم ، كما قال تعالى : { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ } .
ولذا دعاهم هود عليه السلام إلى عبادة الله وحده ، لا شريك له ، وإلى طاعته وتقواه ، كما قال تعالى .
{ قَالَ } أي : هود : { يَا قَوْمِ } أي : الذين حقهم أن يكونوا مثلي : { اعْبُدُواْ اللّهَ } أي : وحده : { مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } أي : تخافون عذابه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } [ 66 ] .
{ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ } أي : في خفة حلم ، وسخافة عقل ، حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر ، وجعلت السفاهة ظرفاً على طريق المجاز ، أرادوا أنه متمكن فيها ، غير منفك عنها { وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } أي : في إدعائك الرسالة ، إذ استبعدوا [ في المطبوع : إذا أستبعدوا ] أن يرسل الله أحداً من أهل الأرض إليهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } [ 67 ] .
{ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } أي : إليكم لإصلاح أمر نشأتيكم [ كذا ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } [ 68 ] .
{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } أي : ناصح لكم فيما آمركم به من
عبادته تعالى وحده ، وأمين على تبليغ الرسالة ، لا أكذب فيه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ 69 ] .
{ أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ } أي : أيام الله ولقاءه ، أي : لا تعجبوا واحمدوا الله على ذلكم { وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } أي : خلفتموهم في مساكنهم ، أو في الأرض بأن جعلكم ملوكاً بعدهم ، فإن شَدَّاد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض ، من رمل عالج إلى شحْر عُمان - كذا قالوا - : { وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً } أي : قامة وقوة .
{ فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ } أي : في استخلافكم ، وبسطة أجرامكم ، وما سواهما من عطاياه ، لتخصصوه بالعبادة : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : تفوزون بالفلاح .
تنبيهان :
الأول : قال الزمخشري : في إجابة الأنبياء عليهم السلام ، من نسبهم إلى الضلال والسفاهة ، بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء ، وتارك المقابلة بما قالوا لهم ، مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم أدب حسن ، وخلق عظيم . وحكاية الله عز وجل ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسلبون أذيالهم ، على ما يكون منهم . انتهى .
وزاد القاضي : إن في ذلك كمال النصح والشفقة ، وهضم النفس وحسن المجادلة قال : وهكذا ينبغي لكل ناصح . انتهى .
الثاني : لا يعتمد على ما يذكره بعض المؤرخين المولعين بنقل الغرائب ، بدون وضعها على محك النظر والنقد ، من المبالغة في طول قوم عاد ، وضخامة أجسامهم ، وأن أطولهم كان مائة ذراع ، وأقصرهم كان ستين ذراعاً ، فإن ذلك لم يقم عليه دليل عقلي ولا نقلي ، وهو وهم .
وأما قوله جل شأنه مخاطباً لقوم عاد : { وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً } فإنه لا يدل على ما أرادوا ، وإنما يدل على عظم أجسامهم وقوتهم وشدتها ، وهذا من الأمور المعتادة ، فإن الأمم ليست متساوية في ضخامة الجسم وطوله وقوته ، بل تتفاوت لكن تفاوتاً قريباً .
ومما يدل على أن أجسام من سلف
كأجسامنا ، لا تتفاوت عنها تفاوتاً كبيراً ، مساكن ثمود قوم صالح الباقية ، وآثارهم البادية ، ومثله ، بل أعرق منه في الوهم ، ما ينقلونه وصف عوج بن عنق الجبار ملك بيسان ، من أنه كان يحتجز بالسحاب ويشرب منه من طوله ، ويتناول الحوت من قرار البحر ، فيشويه بعين الشمس ، يرفعه إليها . والحال أن الشمس كوكب لا مزاج له من حر أو برد وإنما حرارتها من انعكاس شعاعها ، بمقابلة سطح الأرض والهواء ، فشدة حرارتها في الأرض ، وتتناقص الحرارة فيما علا عنها بمقدار الإرتفاع .
وقد أنكر العلامة ابن خلدون جميع ذلك في " مقدمة تاريخه " ، وأبان أن الذي أدخل الوهم على الناس في طول الأقدمين هو ما يشاهدونه من بعض آثارهم الجسمية ، ومصانعهم العظيمة ، كأهرام مصر وإيوان كسرى ، فيتخيلون لأصحابها أجساماً تناسب ذلك .
والحال أن عظم هذه المصانع والآثار في أمة من الأمم ناشئ عن عظم ذواتها ، وإتساع [ في المطبوع : وإاساع ] ممالكها ، وقوة شوكتها ، ونماء ثروتها ، واستعانتها بالماهرين في فن جر الأثقال ، فإنه يقوم بحمل ما تعجز القوى البشرية عن معشاره .
وأنكر أيضاً ما ينقلون من قصة جنة عاد ، وأنها مدينة عظيمة قصورها من الذهب ، وأساطينها من الزبرجد والياقوت ، وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة ، وأنها بنيت في مدة ثلاثمائة سنة في صحارى عدن ، بناها شَدَّاد بن عاد حيث سمع وصف الجنة ، وأنها لما تم بناؤها ، أرسل الله على أهلها صيحة ، فهلكوا كلهم ، وأن اسمها إرم ذات العماد ، وأنها المشار إليها بقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ } ، ويزعمون أنه لم تزل باقية في بلاد اليمن وإنما حجبت عن الأبصار .
وحيث إن ذلك لم يُرو عن الصادق الأمين فلا نعول عليه ، ولا نلتفت إليه ، وأغلب المولعين بنقل مثل هذه الغرائب المصنعة ، هم المؤرخون الذي يعتمدون على أخبار بني إسرائيل ، ويقلدونهم من غير برهان ودليل ، والله الهادي إلى سواء السبيل - كذا أفاده بعض المحققين - .
ثم أخبر تعالى عن تمرد عاد وطغيانهم وإنكارهم على هود عليه السلام ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [ 70 ] .
{ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ } أي : لنخصه بالعبادة : { وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا
فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا }
أي : من العذاب المدلول عليه بقوله تعالى :
{ أفَلَا تَتَّقُونَ } . [ ؟ ؟ ]
{ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } أي : في الإخبار بنزول العذاب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ } [ 71 ] .
{ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ } أي : عذاب ، والرجس والرجز بمعنى ، حتى قيل إن أحدهما مبدل من الآخر ، كالأسد والأزد . وأصل معناه الإضطراب ، يقال : رجست السماء : رعدت شديداً وتمخضت ، وهم في مرجوسة من أمرهم ، أي : في اختلاط والتباس ، ثم شاع في العذاب لاضطراب من حل به .
وادعى بعضهم أن الرجس بمعنى العذاب مجاز ، قال : لأنه حقيقة في الشيء القذر ، فاستعير لجزائهم .
وظاهر اللغة أنه حقيقة ، ووجه التعبير بالماضي عما سيقع ، تنزيل المتوقع كالواقع كما في : { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا } .
{ وَغَضَبٌ } أي : سخط لإشراكهم معه من هو في غاية النقص ، في أعلى كمالاته التي هي الإلهية .
{ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم } أي : في أشياء ما هي إلا أسماء وليس تحتها مسميات ، لأنكم تسمونها آلهة ، ومعنى الإلهية فيها معدوم ومُحال وجوده . وهذا كقوله تعالى : { مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ } ـ كذا في الكشاف - .
قال الشهاب : جعل الأسماء عبارة عن الأصنام الباطلة ، كما يقال لما لا يليق : ما هو إلا مجرد إسم ، فالمعنى : والضمير حينئذ راجع لأسماء وهي المفعول الأول للتسمية ، والثاني آلة ، ولو عكس لزم الإستخدام . انتهى .
وقوله تعالى : { مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } أي : حجة ودليل على هذه التسمية ، لأن المستحق للمعبودية بالذات ليس إلا من أوجد الكل ، وإنها لو استحقت لكان ذلك بجعله تعالى ، إما بإنزال آية أو نصب حجة وكلاهما مستحيل ، فتحقق بطلان ما هم عليه .
قال الجشمي : دلت الآية على فساد التقليد ، حين ذمهم بسلوك طريقة آبائهم . وتدل على أن المعارف مكتسبة ، وتدل على بطلان كل مذهب لا دليل عليه .
ويدل
قوله : { أَتُجَادِلُونَنِي } على أن المبطل مذموم في جداله ، والواجب عليه النظر ليعرف الحق . انتهى .
وقال القاضي : بين تعالى أن منتهى حجتهم وسندهم ، أن الأصنام تسمى آلهة من غير دليل يدل على تحقيق المسمى ، وإسناد الإطلاق إلى من لا يؤبه بقوله ، إظهاراً لغاية جهالتهم ، وفرط غباوتهم .
{ فَانتَظِرُواْ } أي : نزول العذاب الذي طلبتموه بقولكم : { فَأْتِنا بِما تَعِدُنَا } ، لأنه وضح الحق ، وأنتم مصرون على العناد .
{ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ } أي : لما يحل بكم .
قال المهايمي : جاء منتظرهم بحيث لا ينجو منه بمجرى العادة أحد ، وجعل من قبيل الريح التي تتقدم الأمطار ، لكفرهم برياح الإرسال .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } [ 72 ] .
{ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ } أي : من آمن به ، على خرق العادة { بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } ليدل على رحمتنا عليهم في الآخرة { وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } أي : استأصلناهم .
قال الشهاب : قطع الدابر ، كناية عن الإستئصال إلى إهلاك الجميع ، لأن المعتاد في الآفة إذا أصابت الآخر أن تمرّ على غيره ، والشيء إذا امتد أصله أخذ برمته ، والدابر بمعنى الآخر .
{ وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } عطف على : { كَذَّبُواْ } داخل معه في حكم الصلة .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما فائدة نفي الإيمان عنهم في قوله : { وَما كانُواْ مُؤْمِنينَ } مع إثبات التكذيب بآيات الله ؟ قلت : هو تعريض بمن آمن منهم ، كمرثد بن سعد ، ومن نجا مع هود على السلام ، كأنه قال : وقطعنا دابر الذين كذبوا منهم ، ولم يكونوا مثل من آمن منهم ، ليؤذن أن الهلاك خص المكذبين ، ونجى الله المؤمنين . انتهى .
قال الطيبي : يعني إذا سمع المؤمن أن الهلاك اختص بالمكذبين ، علم أن سبب النجاة هو الإيمان لا غير ، تزيد رغبته فيه ، ويعظم قدره عنده . انتهى .
قال ابن كثير : قد ذكر الله سبحانه صفة إهلاكهم في أماكن أخر من القرآن
بأنه أرسل عليهم الريح العقيم : { مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } ، كما قال في الآية الأخرى : { وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ } لما تمردوا وعتوا ، أهلكم الله بريح عاتية ، فكانت تحمل الرجل منهم ، فترفعه في الهواء ثم تنكسه على أم رأسه فتثلع رأسه حتى تُبينَهُ من جثته .
وقال محمد بن إسحاق : كانت منازل عاد وجماعتهم ، حين بعث الله فيهم هوداً ، الأحقاف قال : و الأحقاف الرمل ، فيما بين عُمان إلى حضرموت ، فاليمن كله .
وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض كلها ، وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله ، وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله : صنم يقال له صُداء ، وصنم يقال له ، صمود وصنم يقال له الهباء : فبعث الله إليهم هوداً ، وهو من أوسطهم نسباً وأفضلهم موضعاً ، فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يجعلوا معه إلهاً غيره ، وأن يكفوا عن ظلم الناس .
لم يأمرهم فيما يذكر ، والله أعلم ، بغير ذلك ، فأبوا عليه وكذبوه ، وقالوا : { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } .
واتبعه منهم ناس ، وهم يسير مكتتمون بإيمانهم ، وكان ممن آمن به وصدقه رجل من عاد يقال له مرثد بن سعد بن عُفَيْر ، وكان يكتم إيمانه . فلما عتوا على الله تبارك وتعالى وكذبوا نبيهم ، وأكثروا في الأرض الفساد ، وتجبروا وبنوا بكل ريع ريع آية عبثاً بغير نفع ، كلمهم هود فقال : { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } .
{ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوء } أي : ما هذا الذي جئتنا به إلا جنون أصابك به بعض آلهتنا هذه التي تعيب { قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ } إلى قوله : { صِراطٍ مُّسْتَقيمٍ } .
فلما فعلوا ذلك ، أمسك الله عنهم المطر من السماء ثلاث سنين ، فيما يزعمون ، حتى جهدهم ذلك .
وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء أو جهد ، فطلبوا إلى الله الفرج منه ، كانت طلبتهم إلى الله عند بيته الحرام بمكة ، مسلمهم ومشركهم ، فيجتمع بمكة ناس كثير شتى مختلفة أديانهم ، وكلهم معظِّم لمكة ، يعرف حرمتها ومكانها من الله .
قال ابن إسحاق : وكان البيت في ذلك الزمان معروفاً مكانه ، والحرم قائم فيما يذكرون ، وأهل مكة يومئذ العماليق ، وإنما سموا العماليق ، لأن أباهم عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح ، وكان سيد العماليق إذ ذاك بمكة ، فيما يزعمون ، رجلاً يقال لهم معاوية بن بكر ، وكان أبوه حياً في ذلك الزمان ، ولكنه كان قد كبر ، وكان ابنه يرأس قومه ، وكان السؤدد والشرف من العماليق فيما يزعمون ، في أهل ذلك البيت .
وكانت أم معاوية بن بكر ، كلهدة ابنة الخبيري ، رجل من عاد ، فلما قحط المطر عن عاد وجُهدوا قالوا : جهزوا منكم وفداً إلى مكة فليستسقوا لكم ، فإنكم قد هلكتم ! فبعثوا عقيل بن عنز ولقيم بن هزّال بن هزيل ، وعتيل بن صُد بن عاد الأكبر ، ومرثد بن سعد بن عُفَيْر ، وكان مسلماً يكتم إسلامه ، وجُلهُمة بن الخبيري ، خال معاوية بن بكر أخو أمه .
ثم بعثوا لقمان بن عاد بن فلان بن فلان بن صُد بن عاد الأكبر . فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم معه رهط من قومه حتى بلغ عدة وفدهم سبعين رجلاً ، فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر ، وهو بظاهر مكة خارجاً من الحرم ، فأنزلهم وأكرمهم ، وكانوا أخواله وصهره .
فلم نزل وفد عاد على معاوية بن بكر ، أقاموا عنده شهراً يشربون الخمر ، تغنيهم الجرادتان - قينتان لمعاوية بن بكر - وكان مسيرهم شهراً ومقامهم شهراً .
فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم ، وقد بعثهم قومهم يتعوذون بهم من البلاء الذي أصابهم ، شق ذلك عليه ، فقال : هلك أخوالي وأصهاري ! وهؤلاء مقيمون عندي ، وهم ضيفي نازلون علي ! والله ما أدري كيف أصنع بهم ؟ أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا له فيظنوا أنه ضيق مني بمقامهم عندي ، وقد هلك من وراءهم من قومهم جهداً وعطشاً ! أو كما قال :
فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين ، فقالتا : قل شعراً نغنيهم به ، لا يدرون من قاله ، لعل ذلك أن يحركهم ! .
فقال معاوية بن بكر ، حين أشارتا عليه بذلك :
~ألا يا قيل ، ويحك ! قم فهينم لعل الله يصبحنا غماما
~فيسقي أرض عاد ، إن عاداً قد أمسوا لا يبينون الكلاما
~من العطش الشديد فليس نرجو به الشيخ الكبير ولا الغلام
~وقد كانت نساؤهم بخير فقد أمست نساؤهم عيامى
~وإن الوحش تأتيهم جهارا ولا تخشى لعادي سهاما
~وأنتم ها هنا فيما اشتهيتم نهاركم وليلكم التماما
~فقبح وفدكم من وفد قوم ولا لقوا التحية والسلاما
فلما قال معاوية ذلك الشعر ، غنتهم به الجرادتان ، فلما سمع القوم ما غنتا به ، قال بعضهم لبعض : يا قوم ، إنما بعثكم قومكم يتعوذون بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم ، وقد أبطأتم عليهم ! فادخلوا هذا الحرم واستسقوا لقومكم ! .
فقال لهم مرثد بن سعد بن عُفَيْر : إنكم والله لا تسقون بدعائكم ، ولكن إن أطعتم نبيكم وأنبتم إليه سقيتم ! فأظهر إسلامه عند ذلك .
فقال لهم جلهمة بن الخبيري خال معاوية بن بكر ، حين سمع قوله ، وعرف أنه قد ابتع دين هود وآمن به :
~أبا سعدٍ فإنك من قبيل ذوي كرم وأمَّك من ثمود
~فإنا لن نطيعك ما بقينا ولسنا فاعلين لما تريد
~أتأمرنا لنترك دين رفدٍ ورمل وآل صد والعُبُودِ
~ونتركَ دين آباء كرام ذوي رأي ، ونتْبَعَ دينَ هودِ
ثم قال لمعاوية بن بكر وأبيه بكر : أحبسا عنا مرثد بن سعد ، فلا يقدمنّ معنا مكة ، فإنه قد اتبع دين هود ، ترك ديننا !
ثم خرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد ، فلما ولوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية بن بكر حتى أدركهم بها قبل أن يدعوا الله بشيء مما خرجوا له . فلما انتهى إليهم ، قام يدعوا الله بمكة ، وبها وفد عاد قد اجتمعوا يدعون ، يقول : اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد .
وكان قَيْلُ بن عنز رأس وفد عاد .
وقال وفد عاد : اللهم أعط قيلا ما سألك ، واجعل سؤلنا مع سؤله .
وكان قد تخلف عن وفد عاد حين دعا ، لقمان بن عاد ، وكان سيد عاد .
حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام فقال : اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي ، فأعطني سؤلي .
وقال قيل بن عنز حين دعا : يا إلهنا ، إن كان هود صادقاً فاسقنا ، فإنا قد هلكنا .
فأنشأ الله لهم سحائب ثلاثاً : بيضاء وحمراء وسوداء ، ثم ناداه مناد من السحاب : يا قيل ! اختر لنفسك ولقومك من هذه السحائب . فقال : اخترت السحابة السوداء ، فإنها أكثر السحاب ماء . فناده مناد : اخترتَ رماداً رمْددَا ، لا تُبقي من آل عاد أحداً ، لا والداً تترك ولا ولداً ، إلا جعلته همداً إلا بني اللُّوذيَّة المُهَدَّى ، وبنو اللوذية ، بنو لقيم بن هزّال بن هزيلة بن بكر ، وكانوا سكاناً بمكة مع أخوالهم ، ولم يكونوا مع عاد بأرضهم ، فهم عادٌ الآخرة ، ومن كان نسلهم الذين بقوا من عاد وساق الله السحابة السوداء ، فيما يذكرون ، التي اختارها قيل بن عنز بما فيها من النقمة إلى عاد ، حتى خرجت عليهم من واد يقال له المغيث .
فلما رأوها استبشروا بها وقالوا : { هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } يقول الله : { بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } أي : كل شيء أُمِرَتْ به .
وكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح ، فيما يذكرون ، امرأة من عاد يقال لها مَهْدَد ، فلما [ في المطبوع : فما ] تيقنت ما فيها صاحت ثم صعقت . فلما أفاقت قالوا : ماذا رأيت يا مهدد ؟ قالت : رأيت ريحاً فيها ، كشهب النار ، أمامها رجال يقودونها !
ف : { سَخَّرَها } الله : { عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوما } ، كما قال الله ـ والحسوم الدائمة - فلم تدع من عاد أحداً إلا هلك . فاعتزل هود فيما ذكر لي ، ومن معه من المؤمنين في حظيرة ، مايصيبه ومن معه من الريح ، إلا ما تلين عليه الجلود وتلذ الأنفس .
وإنها لتمر على عاد بالظَّعن بين السماء والأرض ، وتدمغهم بالحجارة .
وخرج وفد عاد من مكة حتى مروا بمعاوية بن بكر وأبيه ، فنزلوا عليه .
فبينما هم عنده ، إذ أقبل رجل على ناقة له في ليلة مقمرة ، مُمْسَى ثالثة في مُصاب عاد ، فأخبرهم الخبر ، فقالوا له : أين فارقت هوداً وأصحابه ؟ قال : فارقتهم بساحل البحر
فكأنهم شكوا فيما حدثهم به ، فقالت هزيلة بنت بكر : صدق ، ورب الكعبة .
قال ابن كثير : وهو سياق غريب ، فيه فوائد كثيرة ، وقد قال الله تعالى : { وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } .
وروى الإمام أحمد عن أبي وائل ، عن الحارث البكري قال :
خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمررت بالربذة ، فإذا بعجوز من بين تميم منقطع بها ، فقالت لي : يا عبد الله ! إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة ، فهل أنت مبلغي إليه ؟ قال : فحملتها ، فأتيت المدينة ، فإذا المسجد غاص بأهله ، وإذا راية سوداء تخفق ، وإذا بلال متقلد السيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : ما شأن الناس ؟ قالوا : يريد أن يبعث عَمْرو بن العاص وجهاً ، فجلست ، فدخل منزله - أو قال رحله - فاستأذنت عليه ، فأذن لي ، فدخلت فسلمت ، فقال : هل كان بينكم وبين تميم شيء ؟ قلت : نعم . قال وكانت لنا الدبرة عليهم ، ومررت بعجوز من بين تميم منقطع بها ، فسألتني أن أحملها إليك ، وها هي بالباب ، فأذن لها ، فدخلت . فقلت : يا رسول الله ! إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزاً ، فاجعل الدهنا . فحميت العجوز واستوفزت ، وقالت : يا رسول الله ! فإلى أين تضطر مضرك ؟ قال قلت : إن مثلي مثل ما قال الأول : معزاء حملت حتفها ، حملتُ هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصماً ، أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد ! قال : هيه ، وما وافد عاد ؟ وهو أعلم بالحديث منه ، ولكن يستطعمه ، قلت : إن عاداً قحطوا فبعثوا وافداً لهم يقال له قيل ، فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهراً يسقيه الخمر ، وتغنيه جاريتان يقال لهما الجرادتان ، فلما مضى الشهر ، خرج جبل تهامة فنادى : اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه ، ولا إلى أسير فأفاديه ، اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيه ! فمرت به سحابات سود ، فنودي منها : اختر ، فأومأ إلى سحابة منها سوداء ، فنودي منها : خذها رماداً رمدداً ، لا تبقي من عاد أحداً . قال : فما بلغني أنه بُعث عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا ، حتى هلكوا . قال أبو وائل : وصدق . قال : فكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافداً لهم قالوا : لا تكن كوافد عاد - هكذا رواه الإمام أحمد في المسند ، ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير - .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 73 ] .
{ وَإِلَى ثَمُودَ } أي : وأرسلنا إلى ثمود ، وهي قبيلة أخرى من العرب سموا باسم جدهم ثمود بن عامر بن إرم بن سام بن نوح ، وهو أخو جديس بن عابر . وكذلك قبيلة طسم ، كل هؤلاء كانوا أحياء من العرب العاربة ، قبل إبراهيم الخليل عليه السلام .
وكانت ثمود بعد عاد ، ومساكنهم مشهورة فيما بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله .
وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ديارهم وهو ذاهب إلى تبوك سنة تسع - نقله ابن كثير - .
وثمود كصبور ، تضم ثاؤه ، وقرئ به أيضاً ، وقرئ بصرفه ، أو ومنعه ، أما الثاني فلأنه اسم القبيلة ، ففيه العلمية والتأنيث . وأما الأول فلأنه اسم للحي ، أو لأنه لما كان إسمها الجد القليل من الماء كان مصروفاً ، لأنه علم مذكر ، أو اسم جنس ، فبعد النقل حُكي أصله . كذا في " العناية " .
{ أَخَاهُمْ صَالِحاً } هو - على ما قاله علماء التفسير والنسب - : ابن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود : { قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } دعاهم عليه الصلاة والسلام بما يدعو به الرسل أجمعون ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له . كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } .
وقال : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت } { قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } أي : حجة ظاهرة للدلالة على صحة نبوتي : { هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً } أي : خلقها حجة وعلامة على رسالتي ، وأضافها إليه تفضيلاً وتخصيصاً كبيت الله ، أو لأنه لا مالك لها غيره تعالى ، أو لأنها حجته عليهم في أنهم ، إن حفظوها وأطلقوا لها رعيها وسقيها حفظوا ، وإن غدروا بها أُهلكوا ، ولذا قال : { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ } أي : التي لا يملكها غيره ، العشب : { وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ } أي : لا تضربوها ولا تطرودها ، ولا تُريبوها بشيء من الأذى ، ولو تأذت منها دوابكم ، إكراماً لآية الله : { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ } أي : في الدارين لجرأتكم على آيات الله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [ 74 ] .
{ وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ } قال الشهاب : لم يقل : خلفاء عاد ، إشارة إلى أن بينهما زماناً طويلاً .
{ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ } أي : أنزلكم في أرض الحجر . والمباءة المنزل .
{ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً } أي : تبنون في سهولها قصوراً لتسكنوها أيام الصيف . فمن بمعنى في ، كقوله تعالى :
{ نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَة } أو هي ابتدائية ، أو تبعيضية ، أي : تعملون القصور من مادة مأخوذة من السهل وهي الطين . والسهل خلاف الحَزْن ، وهو موضع الحجارة والجبال : { وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً } أي : لتسكنوها أيام الشتاء .
والجبال إما مفعول ثان بتضمين نحت معنى اتخذ ، أو منصوب بنزع الخافض ، على ما جاء في الآية الأخرى : والنحت معروف في كل صلب ، ومضارعه مكسور الحاء . وقرأ الحسن بالفتح لحرف الحلق : وقرئ تنحاتون بالإشباع ، كينباع ، أفاده الشهاب .
بحث الإشباع في وسط الكلمة :
أقول : بهذه القراءة يستدل على ثبوت الإشباع في وسط الكلمة لغة . ومثله ينباع المذكورة ، هي من قول عنترة :
يَنْباعُ من ذِفْرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ
أي : ينبع العرق من خلف أذن ناقة غضوب ، فأشبع الفتحة لإقامة الوزن ، فتولدت من إشباعها ألف .
ومثله قولنا آمين ، والأصل أمين فأشبعت الفتحة ، فتولدت من إشباعها ألف - قاله الزوزني - .
ومثله استكان على القول بأنه افتعل من السكون ، فزيدت الألف لإشباع الفتحة كما في " شرح الشافية " .
ومنه عَقْرَاب - قال في " تاج العروس " : سمع العَقْرَاب في اسم الجنس .
قال :
~أعوذ بالله من العَقْرَابِ الشائلاتِ عُقَد الأذْنابِ
قال : وعند أهل الصرف ألف عقراب للإشباع ، لفقدان فعلال بالفتح . انتهى .
وقوله تعالى : { فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ } أي : نعمه عليكم لتصرفوها إلى ما خلقها لأجله .
{ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } بالمعاصي وعبادة غيره تعالى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ } [ 75 ] .
{ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ } أي : عن الإيمان بعد ظهور آية الناقة والكلمات الناصحة .
{ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ } أي : استضعفهم رؤساء الكفار واستذلوهم ، إذ لم يكن لهم استكبار يمنعهم من الانقياد .
{ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } بدل من الذي استضعفوا بإعادة الجار ، بدل الكل ، إن كان الضمير لقومه ، فيدل على أن استضعافهم كان مقصوراً على المؤمنين بدل البعض ، إن كان الضمير
{ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ } فيدل على أن المستضعفين كانوا مؤمنين وكافرين .
قال أبو السعود : والأول هو الوجه ، إذ لا داعي إلى توجيه الخطاب أولا ً إلى جميع المستضعفين ، مع أن المجاوبة مع المؤمنين منهم ، على أن الإستضعاف مختص بالمؤمنين ، أي : قالوا للمؤمنين الذين استضعفوهم واسترذلوهم : { أَتَعْلَمُونَ } أي : من آية الناقة ومن الكلمات الناصحة : { أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ } إليكم لعبادته تعالى وحده لا شريك له .
وهذا قالوه على سبيل السخرية والإستهزاء ، لأنهم يعلمون بأنهم عالمون بذلك ، ولذلك لم يجيبوهم على مقتضى الظاهر ، بل عدلوا منه ، كما قال تعالى : { قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ } عدلوا عن الجواب الموافق لسؤالهم بأن يقولوا نعم أو إنه مرسل منه تعالى ، مسارعة إلى تحقيق الحق ، وإظهار ما لهم من الإيمان الثابت المستمر الذي تنبئ عنه الجملة الإسمية ، وتنبيهاً على أن أمر إرساله من الظهور بحيث لا ينبغي أن يسأل عنه وإنما الحقيق بالسؤال عنه هو الإيمان به . أفاده أبو السعود .
فهذا من الأسلوب الحكيم ، وهو تلقي السائل والمخاطب بخلاف ما يترقب
تنبيهاً على أنه هو الذي ينبغي أن يسأل عنه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [ 76 ] .
{ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } وإنما لم يقولوا : إنا بما أرسل به كافرون ، إظهاراً لمخالفتهم إياهم ، وردا لمقالتهم .
قال في " الانتصاف " : ولو طابقوا بين الكلامين لكان مقتضى المطابقة أن يقولوا : إنا بما أرسل به كافرون ، ولكن أبوا ذلك حذراً مما في ظاهره من إثباتهم لرسالته ، وهم يجحدونها ، وقد يصدر مثل ذلك على سبيل التهكم ، كما قال فرعون :
{ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } ، فأثبت إرساله تهكماً ، وليس هذا موضع التهكم ، فإن الغرض إخبار كل واحد من الفريقين ، والمكذبين ، عن حاله ، فلهذا خلص الكافرون قولهم عن إشعار الإيمان بالرسالة ، احتياطاً للكفر ، وغلواً في الإصرار . انتهى .
ولذلك أنكروا آية الناقة وكذبوه في إصابة العذاب عن مسها بالسوء . كما قال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } [ 77 ] .
{ فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ } أي : نحروها ، والعقر : الجرح ، وأثر كالخز في قوائم الفرس والإبل يقال : عقره بالسيف يعقره بالكسر ، وعقره تعقيراً ، قطع قوائمه بالسيف وهو قائم .
قال الأزهري : العقر عند العرب كشف عرقوب البعير ، ثم يجعل النحر عقراً ، لأن ناحر الإبل يعقرها : ثم ينحرها .
وفي اللسان : عقر الناقة وعقرها ، وإذا فعل بها ذلك حتى تسقط ، فينحرها مستمكناً منها ، أي : لئلا تشرد عند النحر .
وفي الحديث : < لا عقر في الإسلام > .
قال ابن الأثير : كانوا يعقرون الإبل على قبور الموتى ، أي :
ينحرونها ويقولون إن
صاحب القبر كان يعقر للأضياف أيام حياته ، فنكافئه بمثل صنيعه بعد وفاته . كذا في " تاج العروس " .
وأسند العقر إلى جميعهم ، لأنه كان برضاهم ، وإن لم يباشره إلا بعضهم . ويقال للقبيلة الضخمة : أنتم فعلتم كذا وما فعله إلا واحد منهم . كذا في " الكشاف " .
قال أبو السعود : وفيه من تهويل الأمر وتفظيعه ، بحيث أصابت غائلته الكل ما لا يخفى .
{ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ } أي : استكبروا عن امتثاله ، وهو عبادته وحده ، أو الحذر من مس الناقة بسوء . وزادوا في الإستهزاء : { وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } أي : من العذاب على عقر الناقة . والأمر للإستعجال لأنهم يعتقدون أنه لا
يتأتى ذلك ، ولذا قالوا : { إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } أي : فإن الله ينصر رسله على أعدائه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [ 78 ] .
{ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } أي : الصحية التي يحصل منها الزلزلة الشديدة بدل صوت الناقة عند عقرها ، وبدل حركتها عند نزع الروح : { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ } في بلادهم أو مساكنهم .
{ جَاثِمِينَ } أي : ساقطين على وجوههم ، هامدين لا يتحركون ، ميتين بدل موت الناقة وسقوطها . والصيحة والزلزلة من آثار الريح المرسلة التي كانت رحمة فانقلبت عذاباً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ } [ 79 ] .
{ فَتَوَلَّى } أي : فأعرض صالح : { عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي } المتضمنة لتخويف العذاب عنه { وَنَصَحْتُ لَكُمْ } فأمرتكم بكل خير ، ونهيتكم عن كل شر { وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ } أي : من الرسل والأنبياء والعلماء لمخالفتهم أهوايتكم .
والظاهر أن صالحاً عليه السلام كان مشاهداً لما جرى عليهم ، وأنه تولى عنهم ، بعد ما أبصرهم جاثمين ، تولِّيَ مُغتمٍّ متحسرٍّ على ما فاته من إيمانهم ، يتحزن لهم بقوله
{ يا قَوْمِ } الخ ، كذا في " الكشاف " ، أو خاطبهم خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
أهل قليب بدر حيث قال : < إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً > - كما رواه البخاري - لا تحزناً ، ولكن إعلاماً بنصر الله له ، وتحقيق رسالته ، زيادةً في حزنهم وتوبيخهم ، فإن الأحياء ليسوا بأسمع منهم ، ولكن لا يتكلمون . كما في " الصحيح " . ويجوز عطف قوله
{ فَتَوَلَّى } على قوله : { فأخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } ، فيكون الخطاب لهم حين أشرفوا على الهلاك ، لا بعده . فيكون عليه السلام تولى عنهم تولي ذاهب عنهم ، منكر لإصرارهم حين رأى علامات نزول العذاب . والمتبادر الأول لظهور الفاء في التعقيب - والله أعلم - .
تنبيهات
الأول : نأثر هنا ما رواه علماء التاريخ والنسب في بسط قصة ثمود ، لمكان العظة والإعتبار مفصلاً ، وإلا فجلي أن ما أجمله التنزيل الكريم لا غاية وراءه في ذلك ، وما سكت عن بيانه من تلك القصص ، فلا حاجة إلى السعي وراءه لفقد
القطع به ، اللهم إلا لزيادة الإتعاظ ، و تقوية العبرة ، ولذا صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : < حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج > .
وخلاصة ما رووه عن ثمود أن عاداً لما هلكت ، عمرت ثمود بلادها ، وخلفوهم في الأرض ، وكانوا في سعة ورخاء من العيش ، فعتوا على الله ، وأفسدوا في الأرض ، وعبدوا الأوثان ، فبعث الله تعالى إليهم صالحاً عليه السلام ، وكانوا قوماً عرباً ، وصالح من أوسطهم نسباً ، فدعاهم إلى عبادته تعالى وحده ، فلم يتبعه إلا قليل منهم مستضعفون ، فحذرهم وأنذرهم ، فسألوه آية ، واقترحوا عليه بأن يخرج لهم ناقة عُشَرَاءَ ، تمخض من صخرة صماء ، عينوها بأنفسهم ، وكانت صخرة منفردة في ناحية الجبل ، يقال لها الكائبة ، فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق : لئن أجابهم الله إلى طلبتهم ليؤمنن به وليتبعنه .
فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم ، قام صالح عليه السلام إلى صلاته ، ودعا الله عز وجل ، فتحركت تلك الصخرة ، ثم انصدعت
عن ناقة جوفاء وبراء ، يتحرك جنينها بين جنبيها ، كما سألوا . فعند ذلك آمن رئيسهم جندع بن عَمْرو بن لَبِيد ، والخباب صاحب أوثانهم ، ورباب بن صعمر بن جلمس .
وكان لجندع بن عَمْرو ابن عم له ، شهاب بن خليفة بن محلاة بن لَبِيد بن جواس ، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها ، فأراد أن يسلم أيضاً فنهاه أولئك الرهط ، فأطاعهم فقال في ذلك رجل من مؤمني ثمود يقال له مهوش بن عنمة بن الزميل رحمه الله :
~وكانت عصبةٌ من آل عمروٍ إلى دين النبيّ دعوا شهابا
~عزيزَ ثمودَ كلِّهم جميعاً فهم بأن يجيب ولو أجابا
~لأصبح صالحٌ فينا عزيزاً وما عدلوا بصاحبهم ذُؤابا
~ولكن الغواة مِنَ آل حجر تولوا بعد رشدهُم ذُبابا
وأقامت الناقة وفصيلها ، بعد ما وضعته ، بين أظهرهم مدة ، تشرب من بئرها يوماً ، وتدعه لهم يوماً ، وكانوا يشربون لبنها يوم شربها ، يحتلبونها فيملؤون ما شاؤوا من أوعيتهم وأوانيهم ، كما قال في الآية الأخرى : { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ } وقال تعالى : { هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } .
وكانت تسرح في بعض تلك الأودية ، ترد من فج وتصدر من غيره ، ليسعها . لأنها كانت تتضلع من الماء ، وكانت - على ما ذكر - خلقاً هائلاً ، ومنظراً رائعاً ، إذا مرت بأنعامهم نفرت منها ، فما طال عليهم ذلك ، واشتد تكذيبهم لصالح النبي عليه السلام ، عزموا على قتلها ليستأثروا بالماء كل يوم .
فيقال إنهم اتفقوا كلهم على قتلها . قال قتادة : بلغني أن الذي قتلها طاف عليهم كلهم أنهم راضون لقتلها ، حتى على النساء في خدورهن . قال ابن كثير : قلت وهذا هو الظاهر لقوله تعالى : { فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا }
وقال : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا } ، وقال
{ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ } فأسند ذلك إلى مجموع القبيلة ، فدل على رضى جميعهم بذلك - والله أعلم - .
وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير ، وغيره من علماء التفسير ، أن سبب قتلها ، أن امرأة من ثمود يقال لها عنيزة بن غنم بن مجلز ، تكنى بأم غنم ، وهي من بين عبيد بن المهل ، أخي رُميل بن المهل ، وكانت امرأة ذؤاب بن عَمْرو ، وكانت عجوزاً مسنة ، وكانت ذات بنات حسان ، وكانت ذات مال من إبل وبقر وغنم
وامرأة أخرى يقال لها صدوف بن المحيا بن دهر بن المحيا ، سيد بني عبيد وصاحب أوثانهم في الزمن الأول ، وكان الوادي يقال له وادي المحيا ، وهو المحيا الأكبر ، جد المحيا الأصغر أبي صدوف .
وكانت صدوف من أحسن الناس ، وكانت غنية ذات مال من إبل وغنم وبقر ، وكانتا من أشد امرأتين في ثمود عداوة لصالح ، وأعظمه به كفراً .
وكانتا تحتالان أن تُعقر الناقة مع كفرهما به ، لما أضرت به من مواشيهما .
وكانت صدوف عند ابن خال لها يقال له صنتم بن هراوة بن سعد بن الغطريف ، من بني هلس ، فأسلم وحسن إسلامه .
وكانت صدوف قد فوضت إليه مالها ، فأنفقه على من أسلم معه من أصحاب صالح ، حتى رق المال .
فاطلعت على ذلك من إسلامه صدوف ، فعاتبته على ذلك ، فأظهر لها دينه ، ودعاها إلى الله وإلى الإسلام فأبت عليه وبيّتت له ، فأخذت بنيه وبناته منه فغيبتهم في بني عبيد ، بطنها الذي هي منه .
وكان صنتم زوجها من بني هليل ، وكان ابن خالها ، فقال لها : ردي عليّ ولدي فقالت : حتى أنافرك إلى بني صنعان بن عبيد أو إلى بني جندع بن عبيد ، فقال لهم صنتم : بل أنافرك إلى بني مرداس بن عبيد ، وذلك أن بني مرداس بن عبيد كانوا قد سارعوا في الإسلام وأبطأ عنه الآخرون .
فقالت : لا أنافرك إلا إلى من دعوتك إليه .
فقال بنو مرداس : والله لتعطِنّه ولده طائعة أو كارهة .
فلما رأت ذلك أعتطته إياهم .
ثم إن صدوف وعنيزة محلتا في عقر الناقة للشقاء الذي نزل ، فدعت صدوف رجلاً من ثمود يقال له الحُبَاب لعقر الناقة ، وعرضت عليه نفسها بذلك إن هو فعل فأبى عليها ، فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهرج بن المحيا ، وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة . وكانت من أحسن الناس ، وكانت غنية كثيرة المال ، فأجابها إلى ذلك .
ودعت عنيزة بنت غنم قدار بن سالف بن جندع ، رجلاً من أهل قُرْح ،
وكان قدار رجلاً أحمر أزرق قصيراً ، يزعمون أنه كان لزنية ، من رجل يقال له صهياد ، ولم يكن لأبيه سالف الذي يدعى إليه ، ولكنه قد ولد على فراش سالف ، وكان يدعى له وينسب إليه .
فقالت : أعطيتك أي : بناتي شئت ، على أن تعقر الناقة .
وكانت عنيزة شريفة من نساء ثمود ، وكان زوجها ذؤاب بن عَمْرو ، من أشراف رجال ثمود ، وكان قدار عزيزاً منيعاً في قومه .
فانطلق قدار بن سالف ، وصدع بن مهرج ، فاستنفرا غُواة من ثمود ، فاتبعهما سبعة نفر ، فكانوا تسعة نفر .
أحد النفر الذي اتبعوهما رجل يقال له ، هويل بن مبلغ خال قدار بن سالف ، أخو أمه لأبيها وأمها ، كان عزيزاً فيأهل حجر ، و دعير بن غنم بن داعر ، وهو من بني خلاوة بن المهل .
و دأب بن مهرج ، أخو مصدع بن مهرج ، وخمسة لم تحفظ لنا أسماؤهم .
فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء ، وقد كمن لها قُدار في أصل شجرة على طريقها ، وكمن لها مصدع في أصل أخرى ، فمرت على مصدع فرماها بسهم ، فانتظم به عضلة ساقها ، وخرجت أم غنم عنيزة وأمرت ابنتها ، وكانت من أحسن الناس وجهاً ، فأسفرت لقدار وأرته إياه ، ثم ذمرت فشد على الناقة بالسيف فخشف عرقوبها ، فخرت ورغت رغاة واحدة تحذر سقبها ، ثم طعن في لبتها فنحرها .
انطلق سقبها حتى أتى جبلاً منُيفاً ، ثم أتى صخرة في رأس الجبل فزعاً ولاذ بها ، وإسم الجبل فيما يزعمون صنو ، فأتاهم صالح ، فلما رأى الناقة قد عقرت ، قال انتهكتم حرمة الله ، فأبشروا بعذاب الله تبارك وتعالى ونقمته ، فاتبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة ، وفيهم مصدع بن مهرج ، فرماه مصدع بسهم ، فانتظم قلبه ، ثم جر برجله فأنزله ، ثم ألقوا لحمه مع لحم أمه .
فلما قال لهم صالح : أبشروا بعذاب الله ونقمته ، قالوا له وهم يهزءون به : ومتى ذلك يا صالح ؟ وما آية ذلك ؟ - وكانوا يسمون الأيام فيهم : الأحد أول ، والاثنين أهون ، والثلاثاء وبار ، والأربعاء جبار ، والخميس مؤمن ، والجمعة العروبة ، والسبت شيار ، وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء - فقال لهم صالح حين قالوا له
ذلك : تصبحون غداة يوم مؤمن ، يعني يوم الخميس ، ووجوهكم مصفرة ، ثم تصبحون يوم العروبة ، يعني يوم الجمعة ووجوهكم محمرة ، ثم تصبحون يوم شيار ، يعني يوم السبت ، وجوهكم مسودة ، ثم يصبحكم العذاب يوم الأول ، يعني يوم الأحد .
فلما قال لهم صالح ذلك ، قال التسعة الذين عقروا الناقة : هلم فلنقتل صالحاً ، إن كان صادقاً عجلناه ، قبلنا ، وإن كان كاذباً يكون قد ألحقناه بناقته .
فأتوه ليلاً ليبيّتوه في أهله ، فدمغتم الملائكة بالحجارة ، فلما أبطأوا على أصحابهم ، أتوا منزل صالح فوجدهم مشدخين قد رُضخوا بالحجارة ، فقالوا لصالح : أنت قتلتهم ! ثم هموا به . فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح وقالوا لهم : والله لا تقتلونه أبداً ، فقد وعدكم أن العذاب نازل لكم في ثلاث ، فإن كان صادقاً لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضبا ، إن كان كاذباً فأنتم من وراء ما تريدون !
فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك ، والنفر الذين رضخهم الملائكة بالحجارة ، التسعة الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن بقوله تعالى : { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ } إلى قوله : { لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } .
فأصبحوا من تلك الليلة التي انصرفوا فيها عن صالح ، وجوههم مصفرة ، فأيقنوا بالعذاب ، وعرفوا أن صالحاً قد صدقهم فطلبوه ليقتلوه ، وخرج صالح هارباً منهم حتى لجأ إلى بطن من ثمود يقال لهم بنو غنم ، فنزل على سيدهم رجل منهم يقال له نفيل يكنى بأبي هدب ، وهو مشرك ، فغيبه ، فلم يقدروا عليه .
فغدوا على أصحاب صالح فعذبوهم ليدلوهم عليه ، فقال رجل من أصحاب صالح يقال له ميدع بن هرم : يا نبي الله ، إنهم يعذبوننا لندلهم عليك ، أفندلهم عليك ؟ قال : نعم ، فدلهم عليه ميدع بن هرم .
فلما علموا بمكان صالح ، أتوا أبا هدب فكلموه فقال لهم : عندي صالح وليس لكم إليه سبيل ، فأعرضوا عنه وتركوه ، وشغلهم عنه ما أنزل الله بهم من عذابه .
فجعل بعضهم يخبر بعضاً بما يرون في وجوههم حين أصبحوا من يوم الخميس ، وذلك أن وجوههم أصبحت مصفرة ، ثم أصبحوا يوم الجمعة ووجوههم
محمرة ، ثم أصبحوا يوم السبت ووجوههم مسودة ، حتى إذا كان ليلة الأحد خرج صالح من بين أظهرهم ومن أسلم معه إلى الشام ، فنزل رملة فلسطين ، وتخلف رجل من أصحابه يقال له ميدع بن هرم فنزل قُرح - وهي وادي القرى ، وبين القُرح وبين الحجر ثمانية عشر ميلاً - فنزل على سيدهم رجل يقال له عَمْرو بن غنم ، وقد كان أكل من لحم الناقة ولم يشرك في قتلها .
فقال له ميدع بن هرم : يا عَمْرو بن غنم ، أخرج من هذا البلد ، فإن صالحاً قال : من أقام فيه هلك ، ومن خرج منه نجا .
فقال عَمْرو : ما شركت في عقرها ، وما رضيت ما صُنع بها .
فلما كانت صبيحة الأحد ، أخذتهم الصيحة ، فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا هلك ، إلا جارية مُقعدة يقال لها الزُّريعة وهي الكلبة ابنة السلق ، كانت كافرة شديدة العداوة لصالح ، فأطلق الله لها رجليها بعدما عاينت العذاب أجمع ، فخرجت كأسرع ما يُرى شيء قط ، حتى أتت أهل قُرح فأخبرتهم بما عاينت من العذاب وما أصاب ثمود منه ، ثم استسقت من الماء فسُقيت ، فلما شربت ماتت .
الثاني : قال الرازي : زعم بعض الملحدين أن ألفاظ التنزيل في حكاية هذه الواقعة اختلفت ، وهي الرجفة والطاغية والصيحة .
والجواب ما قاله أبو مسلم : إن الطاغية إسم لكل ما تجاوز حده ، سواء كان حيواناً أو غير حيوان ، وألحق الهاء به للمبالغة ، فالمسلمون يسمون الملك العاتي بالطاغية والطاغوت . وقال تعالى : { كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } . ويقال طغى طغياناً ، وهو طاغ وطاغية ، وقال تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ } ، أي : غلب وتجاوز عن الحد .
وأما الرجفة فهي الزلزلة في الأرض ، وهي حركة خارجة عن المعتاد ، فلم يبعد إطلاق إسم الطاغية عليها ، وأما الصيحة ، فالغالب أن الزلزلة لا تنفك عن الصيحة العظيمة الهائلة .
وأما الصاعقة ، فالغالب أنها الزلزلة ، وكذلك الزجرة ، قال تعالى : { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } . فبطل ما زعمه ذلك البعض .
الثالث : قال علماء التفسير : ولم يبق من ذرية ثمود أحد سوى صالح عليه السلام ، ومن تبعه رضي الله عنهم ، إلا أن رجلاً يقال له أبو رغال ، كان لما وقعت النقمة بقومه ، مقيماً إذ ذاك في الحرم ، فلم يصبه شيء ، فلما خرج في بعض الأيام إلى الحل ، جاءه حجر من السماء فقتله .
روى الإمام أحمد عن جابر قال : لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال : < لا تسألوا الآيات ، فقد سألها قوم صالح ، فكانت - يعني الناقة - ترد من هذا الفج ، وتصدر من هذا الفج ، فعتوا عن أمر ربهم ، فعقروها ، وكانت تشرب ماءهم يوماً ويشربون لبنها يوماً فعقروها ، فأخذتهم صيحة أخمد الله من تحت أديم السماء منهم ، إلا رجلاً واحداً كان في حرم الله فقالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال أبو رغال . فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه > .
قال ابن كثير : وهذا الحديث ليس في شي من الكتب الستة ، وهو على شرط مسلم .
وروى عبد الرزاق عن معمر : أخبرني إسماعيل بن أمية ، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر أبي رغال فقال : < أتدرون من هذا ؟ > قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : < هذا قبر أبي رغال ، رجل من ثمود ، كان في حرم الله ، فمنعه حرم الله عذاب الله ، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه ، فدفن ههنا ، ودفن معه غصن من ذهب > ، فنزل القوم ، فابتدروه بأسيافهم ، فبحثوا عنه ، فاستخرجوا الغصن .
وأبو رغال هو أبو ثقيف الذين كانوا يسكنون الطائف ، كما روي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم - أخرجه أبو داود وغيره ـ .
الرابع : ذكرنا قبل ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على ديار ثمود المعروفة الآن بمدائن صالح ، وهو ذاهب إلى غزوة تبوك ، سنة تسع ، وأمر أصحابه أن يدخلوا خاشعين وجلين أن يصيبهم ما أصاب أهلها ، ونهاهم أن يشربوا من مائها .
فروى الإمام أحمد عن ابن عمر قال : نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس عام تبوك ، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود ، فاستسقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود ، فعجنوا منها ، ونصبوا القدور باللحم . فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فأهراقوا القدور ، وعلفوا العجين الإبل ، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عُذبوا ، وقال : < إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم ، فلا تدخلوا عليهم > .
وروى أحمد والبخاري ومسلم عن ابن عمر قال : لما مر رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالحجر قال : < ا تدخلوا على هؤلاء المعذبين ، إلا أن تكونوا باكين ، فلا تدخلوا عليهم ، أن يصيبكم مثل ما أصابهم > . ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاوز الوادي .
وللبخاري ، أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من آبارها ولا يستقوا منها . فقالوا قد عجنا منها ، واستقينا ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرحوا ذلك العجين ، ويهريقوا ذلك الماء .
الخامس : قال ابن كثير : ذكر بعض المفسرين أن كل نبي هلكت أمته ، كان يذهب فيقيم في الحرم ، حرم مكة ، والله أعلم .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا زَمْعَة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عِكْرِمَة عن ابن عباس قال : لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي عُسفان حين حج قال :
< يا أبا بكر ! أي : واد هذا ؟ > ، قال : هذا وادي عُسفان . قال : < لقد مر به هود وصالح على بكرات حُمر خُطُمها الليف ، أُزُرهم العباء ، وأرديتهم النِّمَار ، يُلبُّونَ ، يحجون البيت العتيق > .
قال ابن كثير : هذا حديث غريب من هذا الوجه ، لم يخرجه أحد منهم .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ } [ 80 ] .
{ وَلُوطاً } منصوب بفعل مضمر معطوف على ما سبق ، أي : وأرسلنا لوطاً . ولفظه أعجمي معناه في العربية ملفوف أو مُرّ ، كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل - وهو فيما قاله علماء النسب والتفسير - ابن هاران بن تارح ، ويقال آزر ، وهو ابن أخ إبراهيم الخليل عليهما السلام . وكان قد آمن مع إبراهيم عليهما السلام ، وهاجر معه إلى الشام وتوطنا بلد الكنعانيين من فلسطين ، وهي الأرض المقدسة ، ثم حدثت مشاجرة بين رعاتهما فنزح لوط إلى وادي الأردن ، وسكن مدينة سدوم فبعثه الله إلى أهلها ، وإلى ما جاورها من القرى . فصار يدعوهم إلى الله
تعالى ، يأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والفواحش التي اخترعوها ، ولم يسبقهم بها أحد من العالمين ، من بني آدم ، لا غيرهم ، وهو إتيان الذكور .
قال ابن كثير : وهذا شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه ، ولا يخطر ببالهم ، حتى صنعه أهل سدوم ، عليهم لعائن الله .
قال عَمْرو بن دينار : ما زنا ذكر على ذكر ، حتى كان قوم لوط .
وقال الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي ، باني جامع دمشق : لولا أن الله عز وجل قص علينا خبر قوم لوط ، ما ظنت أن ذكراً يعلو ذكراً .
ثم بين تعالى إنكار لوط عليهم بقوله سبحانه : { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ } أي : الفعلة المتناهية في القبح . وقوله تعالى : { مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ } أي : ما علمها أحد قبلكم ، الباء للتعدية ، من قولك سبقته بالكرة ، إذا ضربتها قبله ، منه قوله صلى الله عليه وسلم : < سبقك بها عُكاشة > . كذا في
" الكشاف " .
قال أبو السعود : والجملة مستأنفة مسوقة لتأكيد النكير ، وتشديد التوبيخ والتقريع ، فإن مباشرة القبح قبيح ، واختراعه أقبح ، فأنكر تعالى عليهم أولاً إتيان الفاحشة ، ثم وبخهم بأنهم أول من عملها ، ثم استأنف بيان تلك الفاحشة تأكيداً للإنكار السابق وتشديداً للتوبيخ بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } [ 81 ] .
{ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ } أي : الذين خلقهم الله ليأتوا النساء ، لا ليأتيهم الرجال . وقرئ بهمزتين صريحتين ، وبتليين الثانية ، بغير مد وبمد أيضاً . وفي زيادة إن و اللام مزيد توبيخ وتقريع ، كأن ذلك أمر لا يتحقق صدوره عن أحد . وفي إيراد لفظ الرجال دون الغلمان والمردان ونحوهما ، مبالغة في التوبيخ وتأتون ، من أتى المرأة إذا غشيها . قاله الزمخشري .
وفي " تاج العروس " : أتى الفاحشة : تلبس بها ، ويكنى بالإتيان عن الوطء وهو من أحسن الكنايات ، ورجل مأتي أُتي فيه ، ومنه قول بعض المولدين :
~يأتي ويؤتى ليس ينكر ذا ولا هذا كذلك إبرة الخياط
انتهى .
وقوله تعالى : { شَهْوَةً } مفعول له ، أي : للإشتهاء ، أي : لا حامل لكم عليه إلا مجرد الشهوة من غير داع آخر ، ولا ذم أعظم منه ، لأنه وصف لهم بالبهيمية ، وأنه لا داعي لهم من جهة العقل البتة كطلب النسل أو نحوه ، أو حال بمعنى مشتهين تابعين للشهوة ، غير ملتفتين إلى السماحة . كذا في " الكشاف " .
{ مِّن دُونِ النِّسَاء } أي : مجاوزين عن مواتاه النساء اللاتي خلقن لذلك . قال أبو السعود : ويجوز أن يكون المراد من قوله : { شَهْوَةً } الإنكار عليهم ، وتقريعهم على اشتهائهم تلك الفعلة الخبيثة المكروهة ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : { مِّن دُونِ النِّسَاء } أي : متجاوزين النساء اللاتي هن محال الإشتهاء كما ينبئ عنه قوله تعالى : { هُنَّ أَطْهَرُ لَكُم } .
{ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحال التي توجب ارتكاب القبائح ، وتدعوا إلى اتباع الشهوات .
وهو أنهم قوم عادتهم الإسراف ، وتجاوز الحدود في كل شيء ، فمن ثَمَّ أسرفوا في باب قضاء الشهوة ، حتى تجاوزوا المعتاد إلى غير المعتاد . ونحوه : { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } . كذا في " الكشاف " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ
يَتَطَهَّرُونَ } [ 82 ] .
{ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } أي : المستكبرين في مقابلة نصحه ، [ في المطبوع : نصحة ] .
{ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم } أي : لوطاً والمؤمنين معه { مِّن قَرْيَتِكُمْ } أي : بلدكم .
قال الزمخشري : يعني ما أجابوه بما يكون جواباً عما كلمهم به لوط عليه السلام من إنكار الفاحشة ، وتعظيم أمرها ، ووسمهم بسمة الإسراف الذي هو أصل الشر كله ، ولكنهم جاءوا بشيء آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته ، من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم ، ضجراً بهم ، وبما يسمعونه من وعظهم ونصحهم .
وقولهم : { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } سخرية بهم ، وبتطهرهم من الفواحش ، وافتخار بما كانوا فيه من القذارة ، كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم : أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد .
قال ابن كثير : قال يتطهرون من أدبار الرجال وأدبار النساء . وروي مثله عن ابن عباس .
قال السيوطي في " الإكليل " : فيستدل به على تحريم أدبار النساء ، أي : بناء على أن تفسير الصحابي له حكم المرفوع .
ورجح ابن القيم أنه حكم الموقوف .
والمسألة تقدمت مستوفاة في قوله تعالى : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُم } فتذكر .
تنبيه :
قال الإمام شمس الدين بن القيم رحمه الله في كتابه " إغاثة اللهفان " :
قد وسم الله سبحانه الشرك والزنى واللواطة بالنجاسة والخبث في كتابه ، دون سائر الذنوب ، وإن كان مشتملاً على ذلك ، لكن الذي وقع في القرآن قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } ، وقوله تعالى في حق اللوطية : { وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ } ، وقالت اللوطية : { أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } ، فأقروا مع شركهم وكفرهم ، أنهم هم الأخباث الأنجاس ، وأن لوطاً وآله مطهرون من ذلك ، باجتنابهم له .
وقال تعالى في حق الزناة : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَات } ، وأما نجاسة الشرك فهي نوعان :
نجاسة مغلظة ، ونجاسة مخففة . فالمغلظة : الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله عز وجل ، فإن الله عز وجل لا يغفر أن يُشرك به ، والمخففة : الشرك الأصغر ، كيسير الرياء ، و التصنع للمخلوقات والحَلِف به ، وخوفه ورجائه .
ثم قال : ونجاسة الزنى واللواطة أغلظ من غيرها من النجاسات ، من جهة أنها تفسد القلب ، وتضعف توحيده جداً . ولهذا أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شركاً ، فكلما كان الشرك في العبد أغلب ، كانت هذه النجاسة والخبائث فيه
أكثر ، وكلما كان أعظم إخلاصاً ، كان منها أبعد ، كما قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } فإن عشق الصور المحرمة نوع تعبُّد لها بل هو من أعلى أنواع التعبد ، ولا سيما إذا استولى على القلب ، تمكن منه ، صار تتّيماً ، والتَّتَيِّمُ : التعبد ، فيصير العاشق عابداً لمعشوقه ، وكثيراً ما يغلب حبه وذكره والشوق إليه والسعي في مرضاته ، وإيثار محابّه على حب الله وذكره ، والسعي في مرضاته . بل كثيراً ما
كم قلت العاشق يذهب ذلك بالكلية ، ويصير متعلقاً بمعشوقة من الصور - كما هو مشاهد - فيصير المعشوق هو إلهه من دون الله عز وجل ، يقدم رضاه وحبه على رضا الله وحبه ، ويتقرب إليه ما لا يتقرب إلى الله وينفق في مرضاته ما لا ينفقه في مرضاة الله ، ويتجنب سخطه ، ما لا يتجنب من سخط الله تعالى ، فيصير آثر عنده من ربه ، حباً وخضوعاً وذلاً وسمعاً وطاعة .
ولهذا كان العشق والشرك متلازمين ، وإنما حكى الله سبحانه العشق عن المشركين من قوم لوط وعن امرأة العزيز ، وكانت إذ ذاك مشركة ، فكلما قوي شرك العبد ، بُلي بعشق الصور ، وكلما قوي توحيده صرف ذلك عنه .
الزاني واللواطة ، كمال لذته إنما يكون مع العشق ، ولا يخلو صاحبهما منه ، وإنما لتنقله من محل إلى محل ، لا يبقى عشقه مقصوراً على محل واحد ، ينقسم على سهام كثيرة ، لكل محبوب نصيب من تألهه وتعبده فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين ، ولهما خاصية في تبعيد القلب من الله ، فإنهما من أعظم الخبائث ، فإذا انصبغ القلب بهما بَعُدَ ممن هو طيب ، لا يصعد إليه إلا طيب ، وكلما ازداد خبثاً ، ازداد من الله بعداً .
ولهذا قال المسيح ، فيما رواه الإمام أحمد ، في كتاب " الزهد " : لا يكون البطالون من الحكماء ، ولا يلج الزناة ملكوت السماء . ولما كانت هذه حال الزنى ، كان قريناً للشرك في كتاب الله تعالى قال الله تعالى : { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } .
ثم قال رحمه الله : والمقصود أن الله سبحانه وتعالى سمى الزواني والزناة خبيثين وخبيثات ، وجنس هذا الفعل قد شرعت فيه الطهارة ، وإن كان حلالاً ، وسمى فاعله جنباً ، لبعده عن قراءة القرآن ، وعن الصلاة ، وعن المساجد ، فمنع من ذلك كله حتى يتطهر بالماء .
فكذلك إذا كان حراماً ، يبعد القلب عن الله تعالى ، وعن الدار الآخرة ، بل يحول بينه وبين الإيمان ، حتى يحدث طهراً كاملاً بالتوبة ، وطهراً لبدنه بالماء .
وقول اللوطية : { أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } من جنس قوله سبحانه في أصحاب الأخدود : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } ، وقوله تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْل } ، وهكذا المشرك ، إنما ينقم على السنيّ تجريده متابعة الرسول ، وأنه لم يَشُبْها بآراء الرجال ، ولا بشيء مما خالفها .
فصبر الموحد المتبع للرسول على ما ينقمه عليه أهل الشرك والبدعة ، خير له وأنفع ، وأسهل عليه من صبره على ما ينقمه الله ورسوله من موافقة أهل الشرك والبدعة :
~إذا لم يكن بدّ من الصبر فاصطبر على الحق ذاك الصبرُ تُحْمَدُ عُقْبَاهُ
انتهى .
ولما همّ قوم لوط بإخراجه ونفيه ومن معه من بين أظهرهم ، أخرجه الله تعالى سالماً ، وأهلكهم في أرضهم صاغرين مهانين ، كما أشار لذلك بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } [ 83 ] .
{ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ } أي : ومن يختص به من ذويه ، أو من المؤمنين لطيبهم . قال ابن كثير : ولم يؤمن به أحد منهم سوى أهل بيته فقط ، كما قال تعالى : { فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } .
{ إِلاَّ امْرَأَتَهُ } أي : فإنا لم ننجها لخبثها .
قال ابن كثير : إنها لم تؤمن به ، بل كانت على دين قومها ، تمالئهم عليه وتُعلِمهُمْ بمن يقدم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم .
ولهذا لما أُمر لوط عليه السلام ليسري بأهله ، أُمر أن لا يُعلمها ولا يخرجها من البلد . ومنهم من يقول بل اتبعتهم ، فلما جاء العذاب التفتت هي ، فأصابها ما أصابهم .
الأظهر أنها لم تخرج من البلد ، ولا أعلمها لوط ، بل بقيت معهم ، ولهذا قال ههنا : { إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } أي : من الذين غبروا في ديارهم ، أي : بقوا فهلكوا .
وقيل : من الهالكين وهو تفسير باللازم ، التذكير للتغليب ، ولبيان استحقاقها لما يستحقه المباشرون للفاحشة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } [ 84 ] .
{ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً } أي : وأرسلنا عليهم نوعاً من المطر عجيباً غير متعارف ، وهو مبين بقوله تعالى : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ } ، أي : طين متحجر .
قال المهايمي : ولكفرهم بمطر الشرائع المحيي بإبقاء النسل وغيره ، انقلب عليهم في صورة العقاب .
وقرأت في التوراة المعربة ، أن الملكين اللذين جاءا لوطاً عليه السلام ، يخبرانه ويبشرانه بهلاك قومه ، قالا له : أخرج من هذا الموضع ، من لك ههنا من أصهارك وبنيك وبناتك وجميع من لك ، فإنا بعَثَنَا الرب لنهلك هذه المدينة .
ولما كان عند طلوع الفجر ألح الملكان على لوط بأخذ امرأته وابنتيه ، ثم أمسكا بأيديهم جميعاً وصيراهم خارج المدينة وقالا : لا يلتفت أحد منك إلى ورائه ، وتخلصا إلى الجبل .
ولما أشرقت أمطر الرب من السماء على سدوم وعمورة كبريتاً وناراً ، وقلب تلك المدن ، وكل البقعة وجميع سكان المدن ونَبْتَ الأرض ، والتفتت امرأته إلى ورائها صارت نُصُبَ مِلْح ، وقدم إبراهيم غدوة من أرضه ، فتطلع إلى جهة سدوم وعمورة ، فإذا دخان الأرض صاعد كدخان الأتُون . انتهى .
وقرأت في نبوة حَزْقيال عليه السلام ، في الفصل السادس عشر : في بيان إثم سدوم ما نصه :
إن الإستكبار والشبع من الخبز ، وطمأنينه الفراغ ، كانت في سدوم وتوابعها ، ولم تعضد يد البائس والمسكين ، وتشامخن وصنعن الرجس أمامي ، فنزعتهن كما رأيت . انتهى .
وقد صار موضع تلك المدن بحر ماء أجاج ، لم يزل إلى يومنا هذا ، ويعرف بالبحر الميت ، أو بحيرة لوط ، والأرض التي تليها قاحلة لا تنبت شيئاً .
قال في " مرشد الطالبين " : بحر لوط ، هو بحر سدوم ، ويدعى أيضاً البحر الميت ، وهو بركة مالحة في فلسطين ، طولها خمسون ميلاً ، وعرضها عشرة أميال ، وهي أوطأ من بحر الروم بنحو 1250 قدماً ، وموقعها في الموضع الذي كانت عليه سدوم وعمورة وأدمة وصبوييم . انتهى .
وقوله : { فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } أي : هؤلاء أجرموا بالكفر وعمل الفواحش ، كيف أهلكناهم .
والنظر تعجيباً من حالهم ، وتحذيراً من أعمالهم ، فإن من تستولي عليه رذيلة الدعارة ، تكبحه عن التوفيق نفساً وجسداً ، وتورده موارد الهلكة والبوار ، جزاء ما جنى لهم اتباع الأهواء .
تنبيه في حد اللوطي :
اعلم أنه وردت السنة بقتل من لاط بذكر ، ولو كان بكراً ، كذلك المفعول
به إذا كان مختاراً ، لحديث ابن عباس ، عند أحمد وأبي داود وابن ماجة والترمذي والحاكم والبيهقي ، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من وجدتموه يعمل عمل قو لوط ، فاقتلوا الفاعل والمفعول به > .
قال ابن حجر : رجاله موثقون ، إلا أن فيه اختلافاً .
وأخرج ابن ماجة والحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعاً : < اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا > - وإسناده ضعيف - .
قال ابن الطلاع في " أحكامه " : لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم في اللواط ، ولا أنه حكم فيه . وثبت عنه أنه قال : اقتلوا الفاعل والمفعول به - رواه عنه ابن عباس وأبو هريرة - انتهى .
وأخرج البيهقي عن علي أنه رجم لوطياً .
وأخرج البيهقي أيضاً عن أبي بكر ، أنه جمع الناس في
حق رجل ينكح كما تنكح النساء ، فسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فكان من أشدهم يومئذ قولاً ، علي بن أبي طالب قال : هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة ، صنع الله بها ما قد علمتم ، نرى أن نحرقه بالنار ، فاجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرقه بالنار ، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يحرقه بالنار .
وأخرج أبو داود عن سعيد بن جبير ومجاهد ، عن ابن عباس : في البكر يؤخذ على اللوطية ، يرجم .
وأخرج البيهقي عن ابن عباس أيضاً ، أنه سئل عن حد اللوطي فقال : ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى به منكساً ، ثم يتبع بالحجارة .
وقال المنذري : حرق اللوطية بالنار أبو بكر وعلي ، وعبد الله بن الزبير وهشام بن عبد الملك .
وبالجملة : فلما ثبت أن حده القتل بقي الإجتهاد في هيئته حرقاً أو تردية أو غيرهما .
وقال بعض المحققين : إن كان اللواط مما يصح اندراجه تحت عموم أدلة الزنى فهو مخصص بما ورد فيه من القتل لكل فاعل ، محصناً أو غيره ، وإن كان غير داخل تحت أدلة الزنى ، ففي أدلته الخاصة له ما يشفي ويكفي . انتهى .
وقال الإمام الجشمي اليمني : لو كان في اللواط حد معلوم لما خفي على الصحابة ، حتى شاورهم في ذلك أبو بكر رضي الله عنه ، لما كتب إليه خالد بن الوليد .
وقال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " : لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قضى في اللواط بشيء ، لأن هذا لم تكن تعرفه العرب ، ولم يرفع إليه صلى الله عليه وسلم ، ولكن ثبت عنه أنه قال : اقتلوا الفاعل والمفعول به - رواه أهل السنن الأربعة وإسناده صحيح - وقال الترمذي : حديث حسن ، وحكم به أبو بكر الصديق ، وكتب به إلى خالد ، بعد مشاورة الصحابة ، وكان علي كرم الله وجهه أشدهم في ذلك .
وقال ابن القصار وشيخنا : أجمعت الصحابة على قتله ، وإنما اختلفوا في كيفية قتله ، فقال أبو بكر الصديق : يرمى من شاهق ، وقال علي كرم الله وجه : يهدم عليه حائط ، وقال ابن عباس : يقتلان بالحجارة . فهذا اتفاق منهم على قتله ، وإن اختلفوا في كيفيته .
وهذا موافق لحكمه صلى الله عليه وسلم فيمن وطئ ذات محرم ، لأن الوطء في الموضعين لا يباح للواطئ بحال . ولهذا جمع بينهما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، فإنه روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : < من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه > .
وروي أيضاً عنه : من وقع على ذات رحم فاقتلوه . وفي حديثه أيضاً بالإسناد : < من أتى بهيمة فاقتلوه معه > .
وهذا الحكم على وفق حكم الشارع ، فإن المحرمات كلما تغلظت ، تغلظت عقوبتها ، ووطء من لا يباح بحال أعظم جرماً من وطء من يباح في بعض الأحوال ، فكون حده أغلظ .
وقد نص أحمد في إحدى الروايتين عنه ، أن حكم من أتى بهيمة حكم اللواط سواء ، فيقتل بكل حال ، أو يكون حده حد الزاني .
واختلف السلف في ذلك ، فقال الحسن : حده حد الزاني .
وقال أبو سلمة : يقتل بكل حال . وقال الشعبي والنخعي : يعزّر ، وبه أخذ الشافعي
ومالك وأبو حنيفة وأحمد في رواية ، فإن ابن عباس أفتى بذلك ، وهو راوي الحديث . انتهى .
وقد طعن الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث " الهداية " في دعوى إجماع الصحابة على قتل اللوطي في رواية البيهقي : أن أبا بكر جمع الصحابة فسألهم ، فكان أشدهم في ذلك قولاً علي ، فقال : نرى أن نحرقه بالنار ، فاجتمع رأيهم على ذلك . قال ابن حجر : قلت : وهو ضعيف جداً ، ولو صح لكان قاطعاً للحجة . انتهى .
وجليٌّ أن عقوبات القتل أعظم الحدود ، فلا يؤخذ فيها إلا بالقواطع من كتاب أو سنة متواترة ، أو إجماع أو حديث صحيح السند والمتن ، قطعي الدلالة .
ولذا كان على الحاكم بذل جهده في ذلك استبراءاً لدينه - والله أعلم - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ 85 ] .
{ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } أي : وأرسلنا إليهم . قال ابن إسحاق : هم من سلالة مدين بن إبراهيم ، وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر بن مدين .
قال ابن كثير : مدين تطلق على القبيلة وعلى المدينة التي بقرب معان من طريق الحجار وهم أصحاب الأيكة .
{ قَالَ يَا قَوْمِ } أي : الذين أحب كمالهم ديناً ودنيا : { اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } وهذه دعوة الرسل كلهم كما قدمنا
{ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُم } أي : ما تبين به الحق من الباطل .
يعني دعوته وإرشاده ، ومن هنا قال بعضهم : عُني بالبينة مجيء شعيب ، وأنه لم تكن له آية إلا النبوة ، ومن فسر البينة بالحجة والبرهان ، والمعجزة المحسوسة ذهاباً إلى أن النبي لما كان يدعو إلى شرع يوجب قبوله ، فلا بد من دليل يعلم صدقه به ، وما ذاك إلا المعجزة .
قال : إن معجزة شعيب لم تذكر في القرآن ، وليست كل آيات الأنبياء مذكورة في القرآن ، ولا يخفى أن البينة أعم من المعجزة بعرفهم ، فكل من أبطلت شبهة ضلاله ، وأظهرت له حجة الحق الذي يدعى إليه فقد جاءته البينة ، لأن حقيقة البينة كل ما يبين الحق ، فاحفظه .
قال الجشمي : واختلفوا ، فقيل : لا يجوز أن يبعث إلا ومعه شرع - عن أبي هاشم - .
وقيل : يجوز أن يدعو إلى ما في العقل - عن أبي علي - انتهى .
وقد دلت الآيات هذه على أن شعيباً عليه السلام ، دعاهم إلى التوحيد والشرائع ، على ما جرت به عادة الرسل ، فمنها قوله : { فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ } أي : فأتموهما للناس بإعطائهم حقوقهم : { وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ } أي : لا تنقصوهم حقوقهم فلا تخونوا الناس في أموالهم ، وتأخذوها على وجه البخس ، وهو نقص المكيال والميزان خفية وتدليساً كما قال تعالى : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } إلى قوله : { لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } .
يقال : بخسه حقه أي : نقصه إياه ، وظلمه فيه .
قال الزمخشري : كانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعاتهم ، أو كانوا مكاسين لا يدعون شيئاً غلا مكسوه .
قال زهير :
~أفي كلِّ أسواقِ العراقِ إتاوةٌ وفي كلِّ ما باع امرُؤٌ مَكْسُ دِرَْهمِ
قال القاضي : وإنما قال : { أشْيَآءَهُمْ } للتعميم ، تنبيهاً على أنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير والقليل والكثير . انتهى .
والنهي عن النقص يوجب الأمر بالإيفاء . فقيل في فائدة التصريح بالمنهي عنه بيان لقبحه .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله تعالى : { ولاَ تَبْخَسُواْ } الآية ، قال : أي : لا تسمّوا لهم شيئاً ، وتعطوا لهم غير ذلك .
ودلت الآية على أن إيفاء الكيل والميزان واجب على حسب ما يعتاد في صفة الكيل والوزن .
{ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ } أي : بالكفر والظلم { بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } أي : بعد ما أصلح أمرها وأهلها الأنبياء ، وأتباعهم الصالحون العاملون بشرائعهم ، من وضع الكيل والوزن والحدود والأحكام .
{ ذَلِكُمْ } إشارة إلى العمل بما أمروا به ونهوا عنه { خَيْرٌ لَّكُمْ } في الحال لتوجه الناس إليكم بسبب حسن الأحدوثة ، وفي المآل : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي : مصدقين قولي .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ 86 ] .
{ وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ } نهي عن قطع الطريق الحسي . أي : لا
تجلسوا على كل طريق فيه ممر الناس الغرباء ، تضربونهم وتخوفونهم ، تأخذون ثيابهم ، وتتوعدونهم بالقتل ، إن لم يعطوكم أموالهم .
قال مجاهد : كانوا عشارين - أخرجه أبو الشيخ ـ وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي مثله .
وعن ابن عباس وغير واحد أي : تتوعدون المؤمنين الآتين إلى شعيب ليتبعوه .
قال ابن كثير : والأول أظهر ، لأنه قال : { بِكُلِّ صِراطٍ } وهو الطريق ، وهذا الثاني هو قوله : { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً } أي : تصرفون عن دين الله وطاعته من آمن بشعيب ، وتطلبون لها عوجاً بإلقاء الشبه ، ووصفها بما ينقصها لتغييرها : { وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ } بالعدد والعُدد ، فاشكروا نعمة الله عليكم في ذلك : { وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } أي : من الأمم الخالية ، والقرون الماضية ، وما حل بهم من العذاب والنكال باجترائهم على معاصي الله وتكذيب رسله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } [ 87 ] .
{ وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ } يعني وإن اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين مؤمنة وكافرة { فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا } أي : بين الفريقين بنصر المحقين على المبطلين ، فهو وعد للمؤمنين ، ووعيد للكافرين .
قال الشهاب : وخطاب اصبروا للمؤمنين ، ويجوز أن يكون للفريقين ، أي : لصبر المؤمنون على أذى الكفار ، والكفار على ما يسوؤهم من إيمانهم . أو للكافرين أي : تربصوا لتروا حكم الله بيننا وبينكم { وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } لأنه منزه عن الجور في حكمه ، فسيجعل العاقبة للمتقين ، والدمار على الكافرين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } [ 88 ] .
{ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ } أي : عن الإيمان
{ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ }
أي : إلى ترك دعوة الرسالة ، والإقرار بها داخلين : { فِي مِلَّتِنَا } أي : ملة المشركين .
قال الجشمي : الملة الديانة التي يجمع على العمل بها فرقة عظيمة . والأصل فيه تكرر الأمر ، من قولهم : طريق ممل ومليل ، إذا تكرر سلوكه حتى صار معلماً . ومنه الملل : تكرار الشيء على النفس حتى تضجر منه . انتهى .
{ قَالَ } أي : شعيب : { أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } أي : أتجبروننا على ذلك وإن كنا كارهين له ؟ مع أنه لا فائدة في الإكراه ، لأن دينكم إن كان حقاً ، لم نكن بالإكراه منقادين له ، وإن كان باطلاً ، لم نكن بالإكراه متصفين به ، لأنه بالحقيقة صفة القلب ، ولا يسري إكراهكم إليه . وكيف لا نكرهه وهو يستلزم غاية القبح والظلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } [ 89 ] .
{ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِباً } أي : اختلفنا عليه باطلاً بأن له شريكاً { إِنْ عُدْنَا } إلى ترك دعوى الرسالة والإقرار بها ، لندخل : { فِي مِلَّتِكُم } القائلة بأن له شريكاً .
{ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا } فأرانا أنه كالإنجاء من النار .
{ وَمَا يَكُونُ } أي : ينبغي : { لَنَا أَن نَّعُودَ } أي : عن دعوى الرسالة والإقرار بها فنصير : { فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا } أي : الذي يربينا بما علم من استعدادنا ، لأنه : { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } أي : فعلم استعداد كل واحد في كل وقت ، لكن : { عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا } أي : لحفظنا عن المصير إليها : { رَبَّنَا } إن قصدوا إكراهنا عليها ، أو إخراجنا من قريتهم : { افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ } فغلبنا عليهم { وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } أي : خير الحاكمين ، فلا تغلّب الظالمين وإن كثروا ، على المظلومين إذا استفتحوك .
تنبيهات :
الأول : اعلم أن ظاهر قوله تعالى : { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } وقوله : { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا } يدل على أن شعيباً عليه السلام كان على ملتهم قبل بعثته ، ومعلوم عصمة الأنبياء عن الكبائر ، فضلاً عن الشرك .
وفي " المواقف وشرحها " : أن الأمة أجمعت على عصمة الأنبياء من الكفر قبل النبوة وبعدها ، غير أن الأزارقة من الخوارج جوزوا عليهم الذنب ، وكل ذنب عندهم كفر ، فلزمهم تجويز الكفر ، وجوز الشيعة إظهار الكفر تقية عند خوف الهلاك ، واحترازاً عن إلقاء النفس في التهلكة . ومثله في " شرح التجريد " .
ولما تقرر إجماع الأمة على ما ذكر ، كان للعلماء في هذه الآية وجوه :
منها : أن العود المقابل للخروج ، هو العود إلى ترك دعوى الرسالة والإقرار بها .
والجار والمجرور حال ، أي : ليكن منكم الخروج من قريتنا ، أو العود إلى ترك دعوى الرسالة والإقرار بها ، داخلين في ملتنا ، وهذا الوجه اقتصر عليه المهايمي ، وسايرناه فيه مع تفسير تتمة الآية .
ومنها : أن العود المذكور إلى ما خرج منه ، وهو القرية . والمجرور حال كالسابق ، أي : ليكن منكم الخروج من قريتنا أو العود إليها ، كائنين في ملتنا . وعُدِّي عاد بفي كأن الملة لهم منزلة الوعاء المحيط بهم .
ومنها : أن هذا القول جار على ظنهم أنه كان في ملتهم ، لسكوته قبل البعثة عن الإنكار عليهم .
ومنها : أنه صدر عن رؤسائهم تلبيساً على الناس ، وإيهاماً لأنه كان على دينهم ، وما صدر عن شعيب عليه السلام كان على طريق المشاكلة .
ومنها : أن : { لَتَعُودُنَّ } بمعنى لتصيرن ، إذ كثيراً ما يرد عاد بمعنى صار ، فيعمل عمل كان ، ولا يستدعي الرجوع إلى حالة سابقة ، بل عكس ذلك ، وهو الانتقال من حال سابقة ، إلى حال مؤتنفة مثل صار .
وكأنهم قالوا - والله أعلم - : لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا ، أو لتصيرن كفاراً مثلنا .
قال الرازي : تقول العرب : قد عاد إليَّ من فلان مكروه ، يريدون : قد صار إلي من المكروه ابتداء .
قال الشاعر :
~فإن تكنِ الأيام أحسنّ مدةً إليّ فقد عادت لهنَّ ذُنُوبُ
أراد [ في المطبوع : أردا ] : فقد صارت لهن ذنوب ، ولم يرد أن ذنوباً كانت لهن قبل الإحسان . انتهى .
ومنه حديث معاذ . قال له النبي صلى الله عليه وسلم : < أعُدت فتّاناً يا معاذ ؟ > أي : صرت .
ومنه حديث خزيمة : < عاد لها النِّقادُ مُجْرَنثماً > أي : صار .
وفي حديث كعب : وددت أن هذا اللبن يعود قطراناً ، أي : يصير . فقيل له : لم ذلك ؟ قال تتبعت قريش أذناب الإبل ، وتركوا الجماعات .
قال الشهاب : إلا أنه قيل إنه لا يلائم قوله : { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا } إلا أن يقال بالتغليب فيه ، أو يقال : التنجية لا يلزم أن تكون بعد الوقوع في المكروه ، ألا ترى إلى قوله : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ } وأمثاله ؟
ومنها : أن العود يطلق ، ويراد به الابتداء . حققه الراغب والجار بردي وغير واحد .
وأنشدوا قول الشاعر :
وعادَ الرأسُ مِنِّي الكثَّغَامِ
ومعنى الآية : لتدخلّن في ملتنا ، وقوله تعالى : { إنْ عُدْنا } أي : دخلنا ـ كذا في " تاج العروس " ـ .
ومنها : إبقاء صيغة العود على ظاهرها ، من استدعائها رجوع العائد ، إلى حال كان عليها قبل ، كما يقال : عاد له ، بعد ما كان أعرض عنه ، إلا أن الكلام من باب التغليب .
قال الزمخشري : لما قالوا : { لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ } فعطفوا على ضميره ، الذين دخلوا في الإيمان منهم بعد كفرهم ، قالوا : { لَتَعُودُنَّ } فغلبوا الجماعة على الواحد ، فجعلوهم عائدين جميعاً ، إجراءاً للكلام على حكم التغليب .
وعلى ذلك أجرى شعيب عليه السلام جوابه فقال : { إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا } وهو يريد عود قومه ، إلا أنه نظم نفسه في جملتهم ، وإن كان بريئاً من ذلك ، إجراء لكلامه على حكم التغليب . انتهى .
ومنها : ما قاله الناصر في " الانتصاف " : إنه يسلم استعمال العود بمعنى الرجوع إلى أمر سابق ، ويجاب عن ذلك بمثل الجواب عن قوله تعالى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } .
والإخراج يستدعي دخولاً سابقاً فيما وقع الإخراج منه ، نحن نعلم أن المؤمن الناشئ في الإيمان لم يدخل قط في ظلمة الكفر ولا كان فيها ، وكذلك الكافر الأصلي لم يدخل قط في نور الإيمان ، ولا كان فيه ، ولكن لما كان الإيمان والكفر من الأفعال الإختيارية التي خلق الله العبد متيسراً لكل واحد منها متمكناً منه لو أراده ، فعبر عن تمكن المؤمن من الكفر
ثم عدوله عنه إلى الإيمان ، إخباراً بالإخراج من الظلمات إلى النور ، توفيقاً من الله له ، ولطفاً به ، بل وبالعكس في حق الكافر .
وقد مضى نظير هذا النظر عند قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى } ، وهو من المجاز المعبر فيه عن السبب بالمسبب ، وفائدة اختياره في هذه المواضع تحقيق التمكن والإختيار لإقامة حجة الله على عباده - والله أعلم - انتهى .
الثاني : في قوله : { إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا } رد إلى الله تعالى مستقيم .
قال الواحدي : والذي عليه أهل العلم والسنة في هذه الآية ، أن شعيباً وأصحابه قالوا : ما كنا لنرجع إلى ملتكم ، بعد أن وقفنا على أنها ضلالة تكسب دخول النار ، إلا أن يريد إهلاكنا ، فأمورنا راجعة إلى الله ، غير خارجة عن قبضته ، يسعد من يشاء بالطاعة ، ويشقي من يشاء بالمعصية وهذا من شعيب وقومه استسلام لمشيئة الله .
ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة ، وانقلاب الأمر . ألا ترى إلى قول الخليل عليه الصلاة والسلام : { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } ؟ وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول : < يا مقلب القلوب ! ثبت قلبي على دينك > .
وقال الزجاج : المعنى : وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يكون قد سبق في علم الله ومشيئته أن نعود فيها ، وتصديق ذلك قوله : { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } ، يعني أنه تعالى يعلم ما يكون ، من قبل أن يكون ، وما سيكون ، وأنه تعالى كان عالماً في الأزل بجميع الأشياء ، فالسعيد من سعد في علم الله تعالى ، والشقي من شقي في علم الله تعالى .
وقال الناصر في " الانتصاف " : موقع قوله : { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } الإعتراف بالقصور عن علم العاقبة ، والإطلاع على الأمور الغائبة ، فإن العود إلى الكفر جائز في قدرة الله أن يقع من العبد ، ولو وقع فبقدرة الله ومشيئته المغيبة عن خلقه ، فالحذر قائم ، والخوف لازم .
ونظيره قول إبراهيم عليه السلام : { وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ } لما رد الأمر إلى المشيئة ، وهي مغيبة ، مجد الله تعالى بالإنفراد بعلم الغائبات - والله أعلم ـ .
وقال أبو السعود : معنى : { وما يَكُونُ لَنا } الآية ، أي : ما يصح لنا أن نعود فيها حال من الأحوال ، أو في وقت من الأوقات ، إلا أن يشاء الله ، أي : إلا حال
مشيئة الله تعالى ، أو وقت مشيئته تعالى لعودنا فيها ، وذلك مما لا يكاد يكون ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : { رَبَّنا } فإن التعرض لعنوان ربوبيته تعالى لهم ، مما ينبئ عن استحالة مشيئته تعالى لارتدادهم قطعاً ، وكذا قوله : { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا } فإن تنجيته تعالى لهم منها ، من دلائل عدم مشيئته لعودهم فيها .
وقيل معناه : إلا أن يشاء الله خذلاننا ، فيه دليل على أن الكفر بمشيئته تعالى ، وأياً ما كان ، فليس المراد بذلك بيان أن العود فيها في حيز الإمكان ، وخطر الوقوع ، بناء على كون مشيئته تعالى كذلك ، بل بيان استحالة وقوعها . كأنه قيل : وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا ، وهيهات ذلك ، بدليل ما ذكر من موجبات عدم مشيئته تعالى له . انتهى .
ولايخفى أن إفهام ذلك الإستحالة ، هو باعتبار الواقع وما يقتضيه منصب النبوة ، وأما إذا لوحظ مقام الخوف والخشية ، الذي هو من أعلى مقامات الخواص ، فيكون ما ذكرناه أولاً أدق ، وبالقبول أحق .
قال الإمام ابن القيم في " طريق الهجرتين " : قد أثنى الله سبحانه على أقرب عباده إليه بالخوف منه ، فقال عن أنبيائه ، بعد أن أثنى عليهم ومدحهم : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً } ، فالرغب الرجاء ، والرهب الخوف والخشية .
وقال عن ملائكته الذين قد آمنهم من عذابه : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < إني أعلمكم بالله ، وأشدكم له خشية > . وفي لفظ آخر : < إني أخوفكم لله وأعلمكم بما أتقي > . وكان صلى الله عليه وسلم يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء .
وقد قال تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } ، فكلما كان العبد بالله أعلم ، كان له أخوف .
الثالث : قال الفراء : أهل عُمان يسمون القاضي ، الفاتح والفتاح . لأنه يفتح مواضع الحق ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ما كنت أدري ما قوله : { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ } حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها : تعال أفاتحك ، أي : أحاكمك .
وقال الشهاب : الفتح ، بمعنى الحكم ، وهي لغةٌ لِحْمَير أو لمراد ، الفُتاحة
بالضم عندهم الحكومة . أو هو مجاز بمعنى : أظهر وبين أمرنا ، حتى ينكشف ما بيننا وبينهم ، ويتميز المحق من المبطل .
ومنه فتح المشكل لبيانه وحلّه ، تشبيهاً له بفتح الباب وإزالة الأغلاق ، حتى يوصل إلى ما خلفها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } [ 90 ] .
{ وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً } أي : فيما يأمركم به وينهاكم عنه { إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } أي : لجاهلون مغبونون ، لاستبدالكم ضلالته بهداكم ، أو لفوات ما يحصل لكم من بخس الكيل والميزان .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [ 91 ] .
{ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } أي : الزلزلة الشديدة .
قال ابن كثير : أخبر تعالى هنا أنهم أخذتهم الرجفة ، كما أرجفوا شعيباً وأصحابه وتوعدوهم بالجلاء ، كما أخبر عنهم في سورة هود ، فقال : { وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا
الصَّيْحَة } ، والمناسبة هناك - والله أعلم - أنهم لما تهكموا به في قولهم
{ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُك } الآية ، فجاءت الصيحة فأسكتتهم .
وقال تعالى في الشعراء : { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } ، وما ذاك إلا لأنهم قالوا له في سياق القصة : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاء } ، الآية فأخبر أنه أصابهم عذاب يوم الظلة .
وقد اجتمع عليهم ذلك كله ، أصابهم عذاب يوم الظلة ، وهي سحابة أظلتهم ، فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم ، ثم جاءتهم صيحة من السماء ، ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم ، فزهقت الأرواح ، وفاضت النفوس ، وخمدت الأجسام .
{ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ } أي : مدينتهم { جَاثِمِينَ } أي : ساقطين ميتين ، لا ينتفعون برؤوس أموالهم ولا بزوائدها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ
الْخَاسِرِينَ } [ 92 ] .
{ الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } استئناف لبيان ابتلائهم بشؤم قولهم :
{ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا } وعقوبتهم بمقابلته .
والموصول مبتدأ ، وخبره جملة : { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } أي : استؤصلوا بالمرة ، وصاروا كأنهم لما أصابتهم النقمة ، لم يقيموا بديارهم التي أرادوا إجلاء الرسول وصحبه منها .
ثم قال تعالى مقابلاً السابق : { الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ } ديناً ودنيا ، لا الذين صدقوه واتبعوه كما زعموا .
قال ابن السعود : استئناف آخر لبيان ابتلائهم بعقوبة قولهم الأخير ، وإعادة الموصول والصلة كما هي ، لزيادة التقرير ، والإيذان بأن ما ذكر في حيز الصلة ، هو الذي استوجب العقوبتين ، أي : الذين كذبوه عليه السلام ، عوقبوا بمقالتهم الأخيرة ، فصاروا هم الخاسرين ، لا المتبعون له ، وبهذا القصر اكتفى عن التصريح بإنجائه عليه الصلاة والسلام ، كما وقع في سورة هود من قوله تعالى : { وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَه } .
وقال الزمخشري : في هذا الإستئناف والإبتداء وهذا التكرير ، مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم ، تسفيه لرأيهم ، واستهزاء بنصحهم لقومهم ، واستعظام لما جرى عليهم .
وفي " العناية " : أن من عادة العرب الإستئناف من غير عطف ، في الذم والتوبيح ، فيقولون : أخوك الذي نهب مالنا ، أخوك الذي هتك سترنا . انتهى .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ } [ 93 ] .
{ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ } أي : أعرض عن شفاعتهم والحزن عليهم
{ وَقَالَ } أي : في الإعتذار { يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي } أي : بالأمر والنهي { وَنَصَحْتُ لَكُمْ } أي : حذرتكم من عذاب الله ، ودعوتكم إلى التوبة والإيمان بما يفيد ربح الدارين ، ويمنعكم خسرانهما ، لكنكم كفرتم { فَكَيْفَ آسَى } أي : أحزن حزناً شديدا ، ً : { عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ } أي : بالله إن هلكوا ، فضلاً عن أن أشتغل بشفاعتهم ، يعني أنه لا يأسى عليهم ، لأنهم ليسوا أحقاء بالأسى .
تنبيه :
قال الجشمي : من أحكام الآية أنها تدل على أن قوم شعيب أهلكوا بعذاب الإستئصال لما لم يقبلوا نصيحة نبيهم ، فتدل على وجوب قبول النصيحة في الدين .
وتدل على أنه لا يجوز الحزن على هلاك الكفرة والظلمة ، بل يجب أن يحمد الله ويشكر ، كما قال تعالى : { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .
لطيفة :
ذكروا أن شعيباً ، عليه السلام ، يقال له خطيب الأنبياء لفصاحة عبارته ، وجزالة موعظته ، وأصله ما أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنه عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيباً يقول : < ذاك خطيب الأنبياء ، لحسن مراجعته قومه > .
والمراجعة مفاعلة من الرجوع ، وهي مجاز عن المحاورة . يقال : راجعه القول ، وإنما عنى النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر في هذه السورة ، كما يعلم بالتأمل فيه . كذا في " العناية " .
ثم أشار تعالى إلى أحوال سائر الأمم مع أنبيائهم إجمالاً ، إثر بيان الأمم المذكورة تفصيلاً فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } [ 94 ] .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ } أي : كذبه أهلها { إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا } أي : قبل الإهلاك الكلي { بِالْبَأْسَاء } أي : شدة الفقر { وَالضَّرَّاء } أي : المرض ، لاستكبارهم عن اتباع نبيهم ، وتعززهم عليه { لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } ليتضرعوا ويتذللوا ، ويحطّوا أردية الكبر والعزة ، فيؤمنوا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ 95 ] .
{ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ } أي : أعطيناهم ـ بدل ما كانوا فيه من البلاء
كالشدة والمرض ـ السعةَ والصحةَ : { حَتَّى عَفَواْ } أي : كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم ، من قولهم : عفا النبات ، وعفا الشحم والوبر ، إذا كثرت ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم < وأعفوا اللحى > .
{ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء } يعني وأبطرتهم النعمة وأشروا ، فقالوا كفراناً لها : هذه عادة الدهر ، يعاقب في الناس بين الضراء والسراء ، وقد مس آباءنا نحو ذلك فصبروا على دينهم ، فنحن مثلهم ، نقتدي بهم ، وما هو بابتلاء من الله لعباده ، تصديقاً لوعد الرسل ، فازدادوا كفراً بعد الإعلام القوليّ والفعليّ .
والمعنى : أن الله تعالى ابتلاهم بالسيئة لينيبوا إليه ، فما فعلوا ، ثم بالحسنة ليشكروا ، فما فعلوا ، وإذا لم ينجع فيهم هذا ولا ذاك ، فلم يبق إلا أن يأخذهم بالعذاب ، وقد فعل ، كما قال سبحانه : { فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي : فأخذناهم أشد الأخذ وأفظعه ، وهو أخذهم فجأة ، من غير شعور منهم ، ولا خطور شيء من المكارة ببالهم ، كقوله تعالى : { حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا } الآية ، وفي الحديث : < موت الفجأة راحة للمؤمن وأخذة أسف للفاجر > . رواه الإمام أحمد والبيهقي عن عائشة مرفوعاً .
تنبيه :
اعتقاد أن مناوبة الضراء والسراء عادة الدهر ، من غير أن يكون هناك داعية تؤدي إليهما ، ولا حكمة فيهما ، هو من اعتقاد الكافرين .
قال ابن كثير : المؤمن من يتفطن لما ابتلاه الله به من الضراء والسراء ، فيشكر الله على السراء ، ويصبر على الضراء . ولهذا جاء في الحديث : < لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نقيّاً من ذنوبه والمنافق مَثَله كمثل الحمار لا يدري فيم ربطه أهله ، ولا فيما أرسلوه > أو كما قال .
وفي الصحيحين : < عجباً لأمر المؤمن ، إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر ، فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ 96 ] .
{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى } أي : القرى المهلكة { آمَنُواْ } أي : بالله ورسلهم { وَاتَّقَواْ } أي : الكفر والمعاصي { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ } أي : لوسعنا عليهم الخير ، ويسرناه لهم من كل جانب ، مكان ما أصابهم من فنون العقوبات ، التي بعضها من السماء ، وبعضها من الأرض . ففتحنا : استعارة تبعية ، لأنه شبه تيسير البركات عليهم بفتح الأبواب في سهولة التناول ، أو مجاز مرسل فيلازمه ، وهو التيسير ، أو أريد ببركات السماء : المطر ، وبركات الأرض : النبات والثمار { وَلَكِن كَذَّبُواْ } أي : الرسل { فَأَخَذْنَاهُم } أي : عاقبناهم : { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من الكفر والمعاصي .
تنبيه :
أفادت الآية قلة إيمان أهل القرى الذين أرسل فيهم الرسل ، كقوله تعالى : { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } أي : ما آمنت قرية بتمامها إلا قوم يونس ، فإنهم آمنوا ، وذلك بعد ما عاينوا من العذاب ، كما قال تعالى عنهم : { فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين } .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ } [ 97 ] .
{ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى } أي : القرى المذكورة : { أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا } أي : عذابنا ونكالنا { بَيَاتاً } أي : ليلاً ، أي : وقت بيات : { وَهُمْ نَآئِمُونَ } أي : حال كمال الغفلة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [ 98 ] .
{ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } أي : يخوضون في الباطل ويلهون من فرط الغفلة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } [ 99 ] .
{ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ } وهو أخذه العبد من حيث لا يحتسب
{ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } أي : لا يأمن أحدٌ أخذَه تعالى العبدَ من حيث لا يشعر ، مع كثرة ما رأى من أخذه العباد من حيث لا يحتسبون ، إلا القوم الذي خسروا عقولهم ، وأضاعوا فطرة الله التي فطر الناس عليها ، الإستعداد القريب المستفاد من النظر في الآيات ، فصاروا خاسرين إنسانيتهم ، بل أخس من البهائم ، وفي وقوله تعالى : { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ } تكرير للنكير في قوله : { أفأمِنَ أهْلُ الْقرُى } لزيادة التقرير .
قال الزمخشري : فعلى العاقل أن يكون في خوف من مكر الله ، كالمحارب الذي يخاف من عدوه الكمين ، البيات ، والغيلة . وعن الربيع بن خُثيم أن ابنته قالت : ما لي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام ؟ فقال : يا بنتاه إن أباك يخاف البيات . أراد قوله : { أن يأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً } . انتهى .
وقال الحسن البصري : المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف ، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن .
تنبيه :
الأمن من مكر الله كبيرة عند الشافعية ، وهو الإسترسال في المعاصي ، اتكالاً على عفو الله - كما في جمع الجوامع - .
وقال الحنفية : إنه كفر كاليأس ، لقوله تعالى : { إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } .
واستدل الشافعية بحديث ابن مسعود رضي الله عنهما ، أنه صلى الله عليه وسلم سئل : < ما الكبائر ؟ فقال : الشرك بالله ، والإياس من روح الله ، والأمن من مكر الله > . قال بعضهم : والأشبه أن يكون موقوفاً .
قال ابن حجر : وبكونه أكبر الكبائر ، صرح ابن مسعود : كما رواه عنه عبد الرزاق والطبراني .
قال الكمال بن أبي شريف : عطفهما - يعني الإياس والأمن - في الحديث على الإشراك بالله ، المحمول على مطلق الكفر ، ظاهر في أنهما غير الكفر .
وقال أيضاً : مراد الشافعية بكونه كبيرة ، أن من غلب عليه الرجاء غلبة دخل بها في حد الأمن من المكر ، كمن استبعد العفو عن ذنوبه لعظمها استبعاداً دخل به في حد اليائس . وأما من كان أمنه لاعتقاد أن لا مكر ، كمن كان يأسه لإنكار سعة الرحمة ذنوبه ، فينبغي أن يكون كل منها كافراً عند الشافعية أيضاً ، ويحمل عليه نص القرآن . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } [ 100 ] .
{ أَوَلَمْ يَهْدِ } : أي : يتبين { لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا } أي : المأخوذين .
{ أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ } أي : كما أصبنا من قبلهم فأهلكنا الوارثين كما أهلكنا الموروثين { وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } أي : نختم عليها فلا يقبلون موعظة ولا إيماناً .
قال أبو البقاء : يقرأ يهد بالياء ، وفاعله أن لو نشاء . وأن مخففة من الثقلية ، أي : أو لم يبين لهم علمهم بمشيئتنا .
ويقرأ بالنون و أن لو نشاء مفعوله .
وقيل : فاعل يهدي ضمير اسم الله تعالى . انتهى .
ويؤيده قراءة النون ، وجوز أن يكون ضميراً عائداً على ما يفهم مما قبله ، أي : أولم يهد ما جرى للأمم السابقة ، وتعدية يهد باللام ، لأنه بمعنى يبين إما بطريق المجاز ، أو التضمين .
قال الشهاب : وإنما جعل بمعنى يبين ، وإن كان هدى يتعدى بنفسه ، وباللام وبإلى ، لأن ذلك في المفعول الثاني لا في الأول ، كما هنا ، فهذا استعمال آخر .
وقيل : لك أن تحمل اللام على الزيادة ، كما : { رَدِفَ لَكُم } . والمراد بالذين ، أهل مكة ومن حلوها ، كما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما انتهى .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ } [ 101 ] .
{ تِلْكَ الْقُرَى } أي : المذكورة وهي قرى قوم نوح وعاد وثمود ، وقوم لوط ، وقوم شعيب : { نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا } مما يدل على مؤاخذتهم بذنوبهم لإصرارهم عليها بعد التنبيه .
ثم بين تعالى أنه أعذر إليهم بأن بين لهم بالحجج على ألسنة الرسل بقوله : { وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } عند مجيء الرسل بالبينات والدلائل القاطعة { بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ } أي : بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم ، إذ تمرنوا على التكذيب ، فلم تفدهم الآيات ، واستوت عندهم الحالتان ، كقوله : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّة }
ولهذا قال : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ } أي : من المذكورين وغيرهم ، فلا يكاد يؤثر فيها الآيات والنذر ، لما علم أنهم يختارون الثبات على الكفر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } [ 102 ] .
{ وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ } أي : من وفاء عهد { وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } أي : خارجين عن الطاعة مارقين ، فلذلك أخذناهم .
قال الزمخشري : الضمير للناس على الإطلاق ، أي : وما وجدنا لأكثر الناس من عهد ، يعني : أن أكثر الناس نقض عهد الله وميثاقه في الإيمان والتقوى ، والآية اعتراض .
ويجوز أن يرجع الضمير إلى الأمم المذكورين ، وأنهم كانوا,إذا عاهدوا الله في ضرّ ومخافة ، لئن أنجيتنا لنؤمنن ، ثم نجاهم ، نكثوا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ 103 ] .
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم } أي : الرسل المتقدم ذكرهم ، وهم نوح وهود وصالح
ولوط وشعيب ، أو الأمم المحكية من بعد هلاكهم : { مُّوسَى بِآيَاتِنَا } وهي العصا ، واليد البيضاء ، والسنون ، ونقص الثمرات ، والطوفان ، والجراد ، والقُمل ، والضفادع ، والدم ، حسبما يأتي مفصلاً .
{ إِلَى فِرْعَوْنَ } وهو ملك مصر في عهد موسى : { وَمَلَئِهِ } أي : قومه { فَظَلَمُواْ بِهَا } أي : كفروا بها ، أجرى الظلم مجرى الكفر في تعديته بالباء ، وإن كان يتعدى بنفسه ، لأنهما من واد واحد { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ، أو هو بمعنى الكفر مجازاً أو تضميناً ، أي : كفروا بها واضعين الكفر غير موضعه ، وهو موضع الإيمان ، لأنه أوتي الآيات لتكون موجبة للإيمان بما جاء به ، فعكسوا ، حيث كفروا فوضعوا الشيء في غير موضعه ، أو الباء سببية ، ومفعوله محذوف ، أي : ظلموا أنفسهم بسببها ، بأن عرضوها للعذاب الخالد ، أو ظلموا الناس لصدّهم عن الإيمان بها ، والمراد به الإستمرار على الكفر بها إلى أن لقوا من العذاب ما لقوا ، كما يشير له قوله تعالى : { فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } أي : لعقائد الخلق ، أفسد الله عليهم ملكهم ، وآتاه أعداءهم ، فأغرقهم عن آخرهم ، وبمرآى من موسى وقومه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } [ 104 ] .
{ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } أي : أرسلني إليك الذي هو خالق كل شيء وربه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ 105 ] .
{ حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ } أي : جدير بذلك وحري به ، لما علمت من حالي . والباء وعلى يتعاقبان ، يقال : رميت بالقوس وعلى القوس ، وجاء على حال حسنة وبحال حسنة . وقرأ أبي رضي الله عنه ( حقيق بأن لا أقول ) { قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } أي : آية منه تشهد على صدقي فيما جئتكم به بالضرورة .
{ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } روي أنه تعالى أمره أن يأتي فرعون ويقول له : إن إلهنا أمرنا أن يسير ثلاثة أيام في البرّية ، ونقرب له قرابين ونعبده ، وقد علم تعالى أن فرعون لا يدعهم يمضون ، ولكن ليظهر آياته على يد موسى ، ويهلك عدوه ، فلما
أتى موسى فرعون وكلمه في أن يرسل معه قومه ، أنكر أمر الرب له ، وقال : لماذا نعطل الشعب عن أعماله ؟ وكانوا مسخرين لفرعون في عمل اللبن ، وأمر بزيادة عملهم ، بأن يجمعوا التبن من أنفسهم ، بعد أن كانوا يعطونه من قبل فرعون .
ثم طلب فرعون موسى آية ، كما قال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [ 106 ] .
{ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } .
[ لم يفسر القاسمي رحمه الله هذه الآية ](/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } [ 107 ] .
{ فَأَلْقَى عَصَاهُ } التي هي جماد { فَإِذَا هِيَ } أي : من غير سترة ولا معالجة سبب { ثُعْبَانٌ } أي : حية كبيرة هائلة ، فاضت عليه الحياة لتدل على فيضان الحياة العظيمة على يديه : { مُّبِينٌ } أي : ظاهر لا مُتخيل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ } [ 108 ] .
{ وَنَزَعَ يَدَهُ } أي : أخرج يده من درعه بعدما أدخلها فيه { فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ } أي : بيضاء بياضاً نورانياً خارجاً عن العادة ، يجتمع عليه النظارة تعجباً من أمرها ، فيدل على أنه يظهر على يديه شرائع تغلب أنوارها المعنوية الأنوار الحسية ، ويتقوى بها الحياة بالله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } [ 109 ] .
{ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ } أي : الأشراف يكرهون شرف الغير عليهم ، في دفع هذه الآيات الظاهرة عن خواطر الخلق : { إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } أي : ماهر فيه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } [ 110 ] .
{ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ } أي : من أرض مصر بسحره ليتملك عليها
{ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } أي : تشيرون في أمره ، وهذا من تمام الحكاية عن قول الملأ ، أو مستأنف من قول فرعون ، تقديره فقال : ماذا تأمرون ؟ ويدل عليه قوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ } [ 111 ] .
{ قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } أي : أخر أمرهما وأصدرهما عنك ، حتى ترى رأيك فيهما ، وتدبر شأنهما ، لئلا تنسب إلى الظلم الصريح .
قال أبو منصور : والأمر بالتأخير دل على أنه تقدم منه أمر آخر ، وهو الهم بقتله ، فقالوا أخره ليتبين حاله للناس .
وأصل : { أَرْجِهْ } أرجئه ، كما قرئ كذلك : من ( أرجات ) .
{ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ } أي : مدائن الصعيد من نواحي مصر { حَاشِرِينَ } أي : من يحشر لك السحرة ويجمعهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ }[ 112 ] .
{ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ } وقرء ( سحَّار ) { عَلِيمٍ } أي : ماهر في باب السحر ، ليعارضوا موسى ما أراهم من البينات .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية على عظيم معجزة لموسى ، وتدل على جهل فرعون وقومه ، حيث لم يعلموا أن قلب العصا حية تسعى لا يقدر عليه غير الله تعالى ، حتى نسبوه إلى السحر . وتدل على أن عادة البشر ، أن من رأى أمراً عظيماً أن يعارضه ، فلذلك دعا فرعون بالسحرة ، فدل على أن العرب لو قدروا على مثل القرآن ، لعارضوه .
وتدل على أن الطريق في المعجزات ، المعارضة بإتيان مثله ، ولذلك قال تعالى في القرآن : { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ } ، ولذلك لم يتكلف فرعون وقومه غير المعارضة وإيقاع الشبه .
وتدل أنهم أنكروا أمره محافظة على الملك والمال ، لذلك قالوا : { يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُم } فيدل على أن من أقوى الدواعي إلى ترك الدين المحافظة على الرياسة والمال
والجاه ، كما هو عادة الناس في هذا الزمن . انتهى .
ثم تسابقت شُرط فرعون ، فحشروهم . كما قال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ } [ 113 ] .
{ وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ } .
[ لم يفسر القاسمي هذه الآية ](/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } [ 114 ] .
{ قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } ولما توثقوا من فرعون .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِين } [ 115 ] .
{ قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ المُلْقِينَ } أي : أول من ألقى ، كما في الآية الأخرى ، قيل : خيروا موسى إظهاراً للجلادة ، فلم يبالوا بتقدمه أو تأخره .
وقال الزمخشري : تخييرهم إياه أدب حسن ، راعوه معه كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا ، كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوا في الجدال ، والمتصارعين قبل أن يتآخذوا للصراع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } [ 116 ] .
{ قَالَ } أي : موسى لهم : { أَلْقُوْاْ } أي : ما أنتم ملقون ، وإنما سوغ لهم التقدم ازدراءاً لشأنهم ، وقلة مبالاة بهم ، وثقةً بما كان بصدده من التأييد الإلهي ، وأن المعجزة لن يغلبها سحر أبداً .
{ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ } أي : خيلوا لها ما ليس في الواقع : { وَاسْتَرْهَبُوهُمْ } أي : وخوفوهم وأفزعوهم بما فعلوا من السحر ، كما في الآية الأخرى : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى } { وَجَاءوا بِسِحْرٍ
عَظِيمٍ } أي : في باب السحر ، أو في عين من رآه ، فإنه ألقى كل واحد عصاه ، فصارت العصي ثعابين .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآيات على أن القوم أتوا بما في وسعهم من التمويه ، وكان الزمان زمان سحر ، والغالب عليهم الإشتغال به ، فأتى موسى عليه السلام من جنس ما هم فيه ، وما لم يقدر عليه أحد ، ليعلموا أنه معجز وليس بسحر . وهكذا ينبغي في المعجزات أن تكون من جنس ما هو شائع في القوم ، ويتعذر عليهم مثله . وكان الطب هو الغالب في زمن عيسى ، فجاء بإحياء الميت ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وليس في وسع طبيب . وكان الغالب في زمن نبينا عليه السلام الفصاحة والخطب والشعر ، فجاء القرآن وتحداهم به . وتدل على أنهم بالحيل جعلوا الحبال والعصي متحركة حتى أوهموا أنها أحياء ، ولكن لما وقف على أصل ما فعلوه وعُلم ، وكان مثله مقدوراً لكل من تعاطى صناعتهم ، عُلم أنه شعبذة . ولهذا تتفارق المعجزة والشعبذة ، أنه يوقف على أصلها ، ويمكن إتيان مثلها ، ويخفى أمرها ، بخلاف المعجزة .
ثم قال : وتدل على اعتراف فرعون بالذل والضعف ، حيث استغاث بهم وبمهنتهم لدفع مكروه . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } [ 117 ] .
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ } أي : تبتلع : { مَا يَأْفِكُونَ } أي : ما يلقونه ويوهمون أنه حق ، وهو باطل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 118 ] .
{ فَوَقَعَ الْحَقُّ } أي : ثبت الإعجاز : { وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : من السحر لإبطال الإعجاز .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ } [ 119 ] .
{ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ } أي : في مكان الوعد الذي اجتمع فيه أهل مصر بدعوته ، لظنه
غلبة السحرة : { وَانقَلَبُواْ } أي : رجعوا : { صَاغِرِينَ } أي : ذليلين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } [ 120 ] .
{ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } .
[ لم يفسر القاسمي هذه الآية ](/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ } [ 121 ] .
{ قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ } .
[ لم يفسر القاسمي هذه الآية ](/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } [ 122 ] .
{ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } قال الجشمي : دلت الآية على أن السحرة عرفوا أن أمر العصا ليس من جنس السحر ، فآمنوا في الحال .
وتدل على أنهم بتلك الآيات استدلوا على التوحيد والنبوة ، لذلك اعترفوا بهما .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }[ 123 ] .
{ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا } أي : الصنع ، { لَمَكْرٌ } أي : حيلة : { مَّكَرْتُمُوهُ } أي : دبرتموه أنتم وموسى ، { فِي الْمَدِينَةِ } أي : في مصر قبل الخروج للميعاد { لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } وعيد أجمله ثم فصله بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } [ 124 ] .
{ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ } أي : من كل جانب ، عضواً مغايراً للآخر ، كاليد من أحدهما ، والرجل من آخر .
قال الشهاب : { مِّنْ خِلافٍ } حال ، أي : مختلفة ، وقيل : { من } تعليلية متعلقة بالفعل ، أي : لأجل خلافكم ، وهو بعيد .
{ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } أي : تفضيحاً لكم . وتنكيلاً لأمثالكم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } [ 125 ] .
{ قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } أي : فلا نبالي بما تهددنا به ، لأنه هو الذي يقربنا إلى من آمنا به ، فيحيينا بحياة خير من الحياة الدنيوية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } [ 126 ] .
{ وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا } أي : ما تعيب منا إلا الإيمان بآيات الله ، أي : وما عبته وأنكرته هو أعظم محاسننا ، لأنه خير الأعمال ، وأعظم المناقب ، فلا نعدل عنه طلباً لمرضاتك .
{ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً } أي : أفض علينا صبراً واسعاً لنثبت على دينك : { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } أي : ثابتين على الإسلام .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } [ 127 ] .
{ وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ } أي : خوفاً من انقلاب الخلائق عليهم حين رأوا السحرة جاهروا بالإسلام ، ولم يبالوا بالتوعد .
{ أَتَذَرُ } أي : أتترك : { مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ } أي : في أرض مملكتك بتغيير الناس عنك .
{ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } الآلهة جمع إله ، بمعنى المعبود ، وكان للمصريين آلهة كثيرة منها المسمى أوسيرس ، وكانوا يعتقدون أن روحه توجد في الثور المسمى أبيس ، فيعبدونه أيضاً ، ويعبدون كثيراً من الحيوانات ، وكانوا يعبدون الظلام أيضاً ، ويعبدون بعلز بوب ، صنم عقرون يعتقدون أن وظيفته طرد الذبان .
وبالجملة فقد فاقوا كل سواهم في الضلال ، فكانوا يسجدون للشمس والقمر والنجوم والأشخاص البشرية
والحيوانات ، حتى الهوام وأدنى حشرات الأرض . هكذا حكى عنهم بعض المدققين .
وقد ذكر الشهرستاني في " الملل والنحل " أن فرعون كان أول أمره على مذهب الصابئة ، ثم انحرف عن ذلك ، وادعى لنفسه الربوبية ، إذ رأى في نفسه قوة الإستعمال والإستخدام . انتهى .
وتقدم في سورة البقرة بيان مذهب الصابئة . فتذكر .
وقال بعضهم : إن كلمة الآلهة لفظة اصطلاحية عند العبرانيين ، يراد بها القضاة والحكام الذين يقضون بأمر الله ، وأنها لو حملت على هذا ههنا ، لم يبعد ، ويكون المعنى : وبذرك وقضاتك وذوي أمرك ، ويكون الغرض من ذكرهمم معه تهويل الأمر ، وإلهاب قلب فرعون على موسى ، وإثارة غضبه ، وقد صرح غير واحد بوقوع ألفاظ من غير العربية في القرآن ، كما نقله السيوطي في النوع الثامن والثلاثين من " الإتقان " . انتهى .
والأظهر ما قدمناه أولاً .
{ قَالَ سَنُقَتِّلُ } قرئ بالتخفيف والتشديد { أَبْنَاءهُمْ } المولودين { وَنَسْتَحْيِي } أي : نستبقي : { نِسَاءهُمْ } أي : للإستخدام { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } أي : بالغلبة والقدرة عليهم ، ففعلوا بهم ذلك ، فشكا بنو إسرائيل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ 128 ] .
{ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ } أي : على أذاهم : { إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا } أي : يعطيها : { مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } يعني أن النصر والظفر للمتقين على عدوهم .
وكان تعالى وعد موسى بأنه سيطرد المصريين من أرضهم ، ويهلكهم وينجي قومه من عذاب آل فرعون لهم .
تنبيه :
قال الجمشي : تدل الآيات على أن قوم فرعون لما عجزوا عن موسى في آياته ، عدلوا إلى إغراء فرعون بموسى ، وأوهموه أن تركه فساد في الأرض ، وأنه عند ذلك أوعده . وذلك من أدل الدليل على نبوة موسى ، لأن قتل صاحب المعجزة لا يقدح في معجزته ، ولهذا قال مشايخنا : إن العرب لما عدوا عن معارضة القرآن ، التي في إيرادها إبطال أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، إلى القتال ، الذي لا يفيد ذلك ، دل على عجزهم .
وهكذا حال كل ضال مبتدع ، إذا أعيته الحجة ، عدل إلى التهديد والوعيد ، وتدل على أن عند الخوف من الظلمة يجب الفزع إلى الله تعالى ، والإستعانة به والصبر .
ولا مفزع إلا في هذين : وهو الإنقطاع إلى الله تعالى بطلب المعونة في الدفع ، واللطف له في الصبر . وتدل على أن العاقبة المحمودة تنال بالتقوى ، وهي اتقاء الكبائر والمعاصي . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [ 129 ] .
{ قَالُواْ } أي : قوم موسى { أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } أي : فعلوا بنا من الهوان والإذلال من قبل بعثتك وبعدها .
ثم صرح لهم موسى بما رمز إليه من البشارة قبل .
{ قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } أي : فرعون وجنوده { وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } أي : فيرى الكائن منكم من العمل ، حسنه وقبيحه ، وشكر النعمة وكفرانها ، ليجازيكم على حسب ما يوجد منكم .
ثم بين تعالى ما أحل بفرعون وقومه من الضراء ، لما تأبى عن إجابة موسى وإرسال قومه معه ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } [ 130 ] .
{ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ } أي : بالجدب والقحط ، { وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } أي : يتعظون فيرجعوا عما هم فيه من الكفر إلى أمر موسى ، وذلك لأن الشدة ترقق القلوب ، وترغب في الضراعة إلى الله تعالى .
قال الجشمي : تدل الآية على أن الشدة والبؤس قد يكونان لطفاً وصلاحاً في الدين ، لذلك قال : { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } .
ثم بين تعالى أنهم مع تلك المحن عليهم ، والشدائد ، لم يزدادوا إلا تمرداً وكفراً ، فقال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ 131 ] .
{ فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ } أي : الصحة والخصب { قَالُواْ لَنَا هَذِهِ } أي : لأجلنا
واستحقاقنا ، ولم يروا ذلك من فضل الله عليهم ، فيشكروه على إنعامه { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } شدة : { يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ } أي : يتشاءموا .
وأصله يتطيروا ، يعني أنهم يقولون : هذه بشؤمهم { أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ } أي : شدتهم ، وما طار إليهم من القضاء والقدر عند الله ، ولا عند غيره ، أي : من قِبَلِهِ تعالى { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي : أن ما أصابهم من الله تعالى ، ما يقولون ، مما حكى عنهم .
ثم أخبر تعالى عن شدة تمرد فرعون وقومه وعتوهم ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } [ 132 ] .
{ وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } أي : بمصدقين بالرسالة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } [ 133 ] .
{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ } أي : على آل فرعون ، وأما قوم موسى فلطف تعالى بهم ، فلم ينلهم ولا محالهم سوء من الطوفان ولا غيره .
والطوفان لغة هو المطر الغالب ، ويطلق على كل حادثة تطيف بالْإِنْسَاْن وتحيط به ، فعم الطوفان الصحراء ، وأتلف عشبها ، كسر شجرها ، تواصلت الرعود والبروق ، ونيران الصواعق في جميع أرض مصر { وَالْجَرَادَ } فأكل جميع عشب أرض مصر والثمر ، مما تركه الطوفان ، حتى لم يبق شيء من ثمرة ولا خضرة في الشجرة ، ولا عشب في الصحراء { وَالْقُمَّلَ } فعم أرض مصر ، وكان على الناس والبهائم ، وهو بضم وتشديد كسُكَّر صغار الذر ، أو شيء صغير بجناح أحمر ، أو دواب صغار من جنس القردان ، أو الدبي الذي لا أجنحة له ، وهو الجراد الصغار .
قال أبو البقاء : القمّل ، يقرأ بالتشديد والتخفيف مع فتح القاف وسكون الميم . قيل : هما لغتان .
قيل : هما القمل المعروف في الثياب ونحوها ، والمشدد يكون في الطعام . انتهى .
وردّ ابن سيده ، وتبعه المجد في " القاموس " القول بأن المراد به قمل الناس .
{ وَالضَّفَادِعَ } فصعدت من الأنهار والخلج والمناقع ، وغطت أرض مصر { وَالدَّمَ } فصارت مياه مصر جميعها دماً عبيطاً ، ومات السمك فيها ، وأنتنت الأنهار ، ولم يستطع المصريون أن يشربوا منها شيئاً .
{ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ } أي : مبينات لا يشكل على عاقل أنها آيات الله تعالى ونقمته ، أو مفرقات بعضها إثر بعض . و آيات حال من المنصوبات قبل .
{ فَاسْتَكْبَرُواْ } أي : عن الإيمان ، فلم يؤمنوا لموسى ، ويرسلوا معه بني إسرائيل : { وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } أي : عاصين كافرين .
قال الجشمي : تدل الآية على عناد القوم ، وإصرارهم على الكفر وجهلهم ، حيث عاهدوا في كل آية يأتي بها على صدقه وإثبات العهد ، أنهم لا يؤمنون بها وليس هذه عادة من غرضه الحق .
وتدل على ذم من يرى الآيات ولا يتفكر فيها ، وتدل على وجوب التدبر في الآيات . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ } [ 134 ] .
{ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ } أي : نزل بهم العذاب المفصل ، { قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } أي : بعهده عندك ، وهو النبوة ، فما مصدرية .
قال الشهاب : سميت النبوة عهداً ، لأن الله عهد إكرام الأنبياء بها ، وعهدوا إليه تحمل أعبائها ، أو لأن لها حقوقاً تحفظ ، كما تحفظ العهود ، أو لأنها بمنزلة عهد ومنشور من الله تعالى .
انتهى .
{ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ } أي : الذين أُرسلت لطلبهم ، ليعبدوا ربهم تعالى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } [ 135 ] .
{ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ } يعني إلى الوقت الذي أجل لهم ، وهو وقت إهلاكهم بالغرق في اليم .
{ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } أي : ينقضون العهد الذي التزموه ، فلم يفوا به ، فإن فرعون كان كلما حلّ بمصر نقمة مما تقدم ، يدعو موسى
ويطب منه أن يشفع إلى الله تعالى بكشفها ، ويعده أنها إذا كشفت أطلق شعبه لعبادته تعالى ، حتى إذا كشفت أخلف ما وعد ، وقسا قلبه ، ولما لم يتعظوا بما شاهدوه مما تقدم ، أتتهم النقمة القاضية ، كما قال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } [ 136 ] .
{ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ } أي : البحر { بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } أي : كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بآيات الله تعالى وإعراضهم ، وعدم تفكرهم ومبالاتهم بها . وقد روي أن فرعون ، بعد أن أبصر ما أبصر من الضربات الربانية على مصر ، أذن لموسى وقومه أن يخرجوا من مصر ، ليقيموا عبادة الله تعالى حيث شاؤوا ، فارتحل بنو إسرائيل على عجلٍ ليلاً ، وساروا بكل ما معهم من غنم وبقر ومواشٍ ، من عين شمس إلى سُكُّوت ، وسلكوا طريق برية البحر الأحمر ، ولما سمع فرعون بارتحالهم ، ندم على ما فعل ، من إطلاقهم من خدمته ، فجمع جيشه ومراكبه الحربية ، ولحقهم فأدركهم ، وكانوا قد وصلوا إلى شاطئ البحر الأحمر . حينئذ خاف الإسرائيليون ، وأخذوا يتذمرون على موسى ، فقال لهم : لا تخافوا ، إن الله معنا ، ثم أمر تعالى موسى ، فمد يده إلى البحر الأحمر ، فانشق ماؤه ، وصار فيه طريق واسعة ، وأرسل الله ريحاً شرقية شديدة ، فيبس قعره ، فعبر فيه الإسرائيليون ، والماء عن يمينهم وشمالهم ، فتبعهم فرعون وجنوده وتوسطوا البحر ، فمد موسى يده ، بإذن الله ، على البحر ، فارتد ماؤه سريعاً ، وغمر فرعون وجنوده ومراكبه ، فغرقوا جميعاً ، ثم طفت جيفهم على وجه الماء ، وانقذفت إلى الساحل ، فشاهدها الإسرائيليون عياناً .
هذا ملخص ما روي هنا .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية أنه تعالى أهلكهم بعد أن أزاح العلة بالآيات ، وتدل على أن ما أصابهم كان عقوبة وجزاء على فعلهم ، وتدل على قبح الإعتراض على آيات الله ، وتدل على وجوب النظر ، وتدل على أن النكث فعلهم ، والإعراض ، فلذلك عاقبهم عليهما . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ } [ 137 ] .
{ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ } أي : بالإستعباد وقتل الأبناء ، وفي التعبير عنهم بهذا ، إظهار لكمال لطفه تعالى بهم ، وعظيم إحسانه إليهم ، وفي رفعهم من حضيض المذلة إلى أوج العزة .
{ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا } أي : الأرض المقدسة ، أي : جوانبها الشرقية والغربية ، حيث ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة ، وتصرفوا في أكنافها حيث شاءوا .
وقوله تعالى : { الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } أي : بالخصب وسعة الأرزاق .
{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ } أي : مضت واستمرت عليهم ، وهي وعده إياهم بالنصر والتمكين .
{ بِمَا صَبَرُواْ } أي : بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من فرعون وقومه .
قال الزمخشري : وحسبك به حاثّاً على الصبر ، ودالاً على أن من قابل البلاء بالجزع ، وكله الله إليه ، ومن قابله بالصبر وانتظار النصر ، ضمن الله له الفرج .
وعن الحسن : عجبت ممن خفّ كيف خفّ ، وقد سمع قوله تعالى - وتلا الآية - ومعنى خفّ طاش جزعاً وقلة صبر ، ولم يرزن أولي الصبر .
{ وَدَمَّرْنَا } أي : خربنا وأهلكنا : { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } أي : ما كانوا يعملون ويسووّن من العمارات وبناء القصور : { وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ } بكسر الراء وضمها ، أي : من الجنات .
أو ما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء ، كصرح هامان ، وهذا كما قال تعالى : { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } ، وقال تعالى : { كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ } .
قال الزمخشري : وهذا آخر ما اقتص الله من نبأ فرعون والقبط ، وتكذيبهم بآيات الله ، وظلمهم ومعاصيهم ، ثم أتبعه اقتصاص نبأ إسرائيل ، وما أحدثوه بعد
إنقاذهم من مُلكَةِ فرعون واستعباده ، ومعاينتهم الآيات العظام ، ومجاوزتهم البحر من عبادة البقر ، وطلب رؤية الله جهرة ، وغير ذلك من أنواع الكفر والعاصي ، ليعلم حال الْإِنْسَاْن وأنه كما وصفه : { لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } ، جهول كنود ، إلا من عصمه الله : { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } ، وليسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أري من بني إسرائيل بالمدينة ، فقال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [ 138 ] .
{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ } أي : الذي أغرق فيه أعداءهم ، وهو بحر القلزم كقنفذ ، بلد كان في شرقي مصر ، قرب جبل الطور ، أضيف إليه ، لأنه على طرفه ، ويعرف البلد الآن بالسويس ، ومن زعم أن البحر هو نيل مصر ، فقد أخطأ ، كما في " العناية .
{ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ } قرئ بضم الكاف وكسرها ، { عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ } أي : يواظبون على عبادتها ويلازمونها { قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً } أي : صنماً نعكف عليه : { كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } أي : أصنام يعكفون عليها : { قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } أي : شأن الألوهية وعظمتها ، وأنه لا يستحقها إلا الله وحده .
قال البغوي رحمه الله : ولم يكن ذلك شكاً من بني إسرائيل في وحدانية الله تعالى ، وإنما معناه : اجعل لنا شيئاً نعظمه ، ونتقرب بتعظيمه إلى الله تعالى ، وظنوا أن ذلك لا يضر بالديانة ، وكان ذلك لشدة جهلهم . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 139 ] .
{ إِنَّ هَؤُلاء } يعني عَبْدة تلك التماثيل { مُتَبَّرٌ } أي : مهلك .
{ مَّا هُمْ فِيهِ } أي : من الشرك { وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : عبادة الأصنام ، وإن كان قصدهم بذلك التقرب إلى الله تعالى ، فإنه كفر محض .
قال الرازي : أجمع كل الأنبياء ، عليهم السلام ، على أن عبادة غير الله تعالى كفر ، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلهاً للعالم ، أو اعتقد أن عبادته تقرب إلى الله
تعالى ، لأن العبادة نهاية التعظيم ، فلا تليق إلا بمن يصدر منه غاية الإنعام ، وهي بخلق الجسم والحياة والشهوة والقدرة والعقل وخلق الأشياء المنتفع بها .
والقادر على هذه الأشياء ليس إلا الله تعالى ، فوجب أن لا تليق العبادة إلا به . انتهى .
وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة حنين مر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط ، فقالوا : يا رسول الله ! اجعل لنا ذات أنواط ، كما لهم ذات أنواط . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < سبحان الله ! هذا كما قال قوم موسى : { اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَة } والذي نفسي بيده ! لتركبن سنن من كان قبلكم > - أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير وغيرهم - .
وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي : انظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ، فيعظمونها و يرجون البرء والشفاء من قبلها ، ويضربون بها المسامير والخرق ، فهي ذات أنواط ، فاقطعوها .
وقال الحافظ أبو شامة الشافعي الدمشقي في كتاب " البدع والحوادث " : وقد عم الإبتلاء بتزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد ، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه ، مع تضييعهم فرائض الله وسننه ، ويظنون أنهم متقربون بذلك ، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم ، فيعظمونها ، ويرجون الشفاء لمرضاهم ، وقضاء حوائجهم ، وبالنذر لها ، هي من بين عيون وشجر وحائط وحجر .
ثم شرح شجرة مخصوصة فقال : ما أشبهها بذات أنواط ، التي في الحديث .
وروى ابن وضاح في كتابه قال : سمعت عيسى بن يونس يقول : أمر عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت ، لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها ، فخاف عليهم الفتنة . ولهذا البحث تتمة مهمة في " إغاثة اللهفان " لابن القيم . فلتنظر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ 140 ] .
{ قَالَ } أي : موسى ، مذكراً لقومه نعمه تعالى عليهم ، الموجبة لتخصيصه
تعالى بالعبادة : { أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً } أي : أطلب لكم معبوداً . يقال : أبغاه الشيء طلبه له ، كبغاه إياه ، يتعدى إلى مفعولين ، وليس من باب الحذف والإيصال .
وفي الحديث : أبغني أحجاراً أستطيب بها ، بهمزة القطع والوصل . وقال الشاعر :
~وكم آمل من ذي غنى وقرابة لتبغيه خيراً وليس بفاعل
والإستفهام في الآية للإنكار والتعجب والتوبيخ : { وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } أي : والحال ، أنه تعالى خصكم بنعم لم يعطها غيركم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } [ 141 ] .
{ وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ } أي : من فرعون وقوم .
{ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ } أي : يكلفونكم إياه ، أو يولونكم إياه ، يقال : سامه الأمر يسومه ، كلفه إياه وجشمه وألزمه . أو أولاه إياه : { يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } أي : فنجاكم منه وحده ، من غير شفاعة أحد .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية على أن هلاك الأعداء نعمة من الله يجب مقابلتها بالشكر . وتدل على أن المحن في الأولاد والأهل بمنزلة المحن في النفس ، ويجري مجراه . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } [ 142 ] .
{ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } .
روي أن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر ، نزلوا في برّية طور سيناء ، وكانت مدة خروجهم إلى أن نزلوا شهراً ونصفاً . ولما نزلوا تلقاء الجبل ، صعد موسى إليه
وسمع كلامه تعالى وأوامره ووصاياه . . . ثم انحدر موسى إلى قومه ، وأعلمهم بما أمروا به ، وصاروا يشاهدون على الجبل ضباباً ، وصوت رعود ، وبروقاً ، ثم أمر تعالى موسى أن يصعد إلى الجبل ليؤتيه الشرائع التي كتبها على قومه ، فصعد موسى الجبل ، وكان مغطى بالغمام ، فدخل موسى في وسط الغمام وأقام في الجبل أربعين يوماً ، لم يأكل ولم يشرب ، لما أُمد من القوة الروحانية ، والتجليات القدسية ، وأُوتي في برهتها الألواح التي كتبت فيها شرائعهم ، ولما رجع إلى قومه ، كان على وجهه أشعة نور مدهشة ، فخافوا من الدنو منه ، فجعل على وجهه برقعاً ، فكان إذا صعد الجبل للمناجاة ، رفعه ، وإذا أتاهم وضعه . والله أعلم .
{ وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ } أي : حين توجه للمناجاة ، { اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي } أي : كن خليفتي فيهم : { وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } أي : لا تتبع من سلك الإفساد ولا تطع من دعاك إليه .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية على أنه استخلف هارون عند خروجه لما رأى أنهم أشد طاعة له ، وأكثر قبولاً منه ، ومخاطبات موسى عليه السلام لهارون وجوابه له كقوله : { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } ، كل ذلك كالدال على أن موسى كان يختص بنوع من الولاية وإن اشتركا في النبوة .
والظاهر أنه استخلفه إلى أن يرجع لأنه المعقول من الإستخلاف عند الغيبة .
وتدل على أنه يجوز أن ينهاه عن شيء يعلم أنه لا يفعله ، ويأمره بما يعلم أن سيفعله ، عظة له واعتباراً لغيره ، وتأكيداً ومصلحة للجميع . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } [ 143 ] .
{ وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا } أي : حضر الجبل لوقتنا الذي وقتنا له وحددنا .
{ وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } أي : خاطبه من غير واسطة ملك { قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي
وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } أي : لن تطيق رؤيتي ، لأن هذه البنية الآدمية في هذه النشأة الدنيوية ، ولا طاقة لها بذلك ، لعدم استعدادها له ، بل ما هو أكبر جرماً ، وأشد خلقاً وصلابة - وهو الجبل - لا يثبت لذلك ، بل يندك ، ولذا قال تعالى : { انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ } أي : الذي هو أقوى منك .
{ فإِنِ اسْتَقَرَّ } أي : ثبت مكانه ، حين أتجلى له ، ولم يتزلزل : { فَسَوْفَ تَرَانِي } ، أي : تثبت لرؤيتي إذا تجليت عليك ، وإلا فلا طاقة .
وفيه من التلطيف بموسى والتكريم له ، والتنزل القدسي ما لا يخفى .
{ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } أي : ظهر له وبان - قاله الزجاج - .
{ جَعَلَهُ } أي : التجلي : { دَكّاً } أي : مفتتاً ، فلم يستقر مكانه . فنبه تعالى على أن الجبل ، مع شدته وصلابته ، إذا لم يستقر ، فالآدمي مع ضعف بنيته أولى بأن لا يستقر ، وفيه تسكين لفؤاد موسى ، بأن المانع من الإنكشاف الإشفاق عليه ، وأما أن المانع محالية الرؤية ، فليس في القرآن إشارة إليه .
{ وَخَرَّ } أي : وقع : { موسَى صَعِقاً } أي : مغشياً عليه من هول ما رأى .
{ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ } أي : من الإقدام على سؤالي الرؤية { وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } أي : بأنه لا يستقر لرؤيتك أحد في هذه النشأة .
قال في " الإنتصاف " : إنما سبح موسى عليه السلام لما تبين له من أن العمل قد سبق بعدم وقوع الرؤية في الدنيا ، والله تعالى مقدس عن وقوع خلاف معلومه ، وعن الخلف في خبره الحق وقوله الصدق ، فلما تبين أن مطلوبه كان خلاف المعلوم ، سبح الله ، وقدس علمه وخبره عن الخلف .
وأما التوبة في حق الأنبياء فلا تستلزم كونها عن ذنب ، لأن منصبهم الجليل ينبغي أن يكون منزهاً مبرأًَ من كل ما ينحط به ، ولا شك أن التوقف في سؤال الرؤية على الإذن كان أكمل . وقد ورد : سيئات المقربين ، حسنات الأبرار .
تنبيه :
قالا متكلمون : دلت الآية على جواز رؤيته تعالى من وجهين :
الأول : أن سؤال موسى عليه السلام الرؤية يدل على إمكانها ، لأن العاقل ، وفضلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يطلب المحال ، ولا مجال للقول بجهل موسى عليه السلام بالإستحالة ، فإن الجاهل بما لا يجوز على الله ، لا يصلح للنبوة ، إذ الغرض من النبوة هداية الخلق إلى العقائد الحقة ، والأعمال الصالحة ، ولا ريب في نبوة موسى عيه السلام ، وأنه من أولي العزم .
الثاني : أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل ، وهو أمر ممكن في نفسه
والمعلق على الممكن ممكن ، لأن معنى التعليق الإخبار بوقوع المعلق عند وقوع المعلق به ، والمحال لا يثبت على شيء من التقادير الممكنة .
وأما زعم المعتزلة أن الرؤية مجاز عن العلم الضروري ، فمعنى قوله : { أرِنِي } أي : اجعلني عالماً بك علماً ضرورياً خلاف ظاهر . فإن النظر الموصول بإلى نص في الرؤية البصرية فلا يترك بالإحتمال ، مع أن طلب العلم الضروري لمن يخاطبه ويناجيه غير معقول .
وكذا زعمهم أن موسى عليه السلام ، كان سألها لقومه حيث قالوا : { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } ، فسأل ليعلموا امتناعها ، فإنه خلاف الظاهر ، وتكلف يذهب رونق النظم ، فترده ألفاظ الآية . وقد ثبت وقوع رؤيته تعالى في الآخرة ، بالكتاب والسنة ، أما الكتاب فلقوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَة إلى ربِّهاَ ناظِرةٌ } ، وأما السنة فلا تحصى أحاديثها ولكن إذا أصيب أحد بداء المكابرة في الحق الصراح ، عسر إقناعه مهما قوي الدليل وعظمت الحجة .
قال في " فتح البيان " : رؤيته تعالى في الآخرة ، ثبتت بها الأحاديث المتواترة تواتراً لا يخفى على من يعرف السنة المطهرة ، والجدال في مثل هذا والمراوغة لا تأتي بفائدة . ومنهج الحق واضح ، ولكن الإعتقاد لمذهب نشأ الْإِنْسَاْن عليه ، وأدرك عليه أباه ، وأهل بلده ، مع عدم التنبه لما هو المطلوب من العباد من هذه الشريعة المطهرة يوقع في التعصب . والمتعصب ، وإن كان بصره صحيحاً ، فبصيرته عمياء ، وأذنه عن سماع الحق صماء ، يدفع الحق وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل ، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق ، غفلة منه ، وجهلاً بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح ، وتلقى ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم ، وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع ، فإنه صار بها باب الحق مرتجاً ، وطريق الإنصاف مستوعرة ، والأمر لله سبحانه والهداية :
~يأبى الفتى إلا اتّباعَ الهوى ومَنْهَجُ الحقِّ له واضِحُ
انتهى .
وهذا تعريض بالمعتزلة ، وفي مقدمتهم الزمخشري ، وقد انتقل ـ عفا الله عنه ـ أخيراً إلى هجاء أهل السنة بما أنشده :
~لجماعة سموا هواهم سنة وجماعة حمر لعمري موكفه
~قد شَبَّهُوهُ بِخَلْقِهِ وتَخَوَّفُوا شُنْعَ الورى فَتَسَتَّرُوا بِالْبَلْكَفَهْ
والبلكفة نحتٌ ، كالبسملة ، أي : بقولهم : بَلا كَيْفَ .
قال في " الإنتصاف " : ولولا الإستنان بحسان بن ثابت الأنصاري ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاعره ، والمنافح عنه ، وروح القدس معه ، لقلنا لهؤلاء المتلقبين بالعدلية وبالناجين سلاماً ، ولكن كما نافح حسان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءه ، فنحن ننافح عن أصحاب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءهم ، فنقول :
~وجماعةٌ كفروا برؤية ربِّهم حقاً ووعدُ الله ما لن يُخلفَهْ
~وتلقَّبوا عدليَّة قلنا : أجل عدلوا بربهم فحسبهمو سفَهْ
~وتلقَّبوا الناجين كلاَّ إنهم إن لم يكونوا في لظى فَعلَى شفَهْ
وقال أبو حيان في الرد عليه :
~شبهت جهلاً صدر أمة أحمدٍ وذوي البصائر بالحمير المُوكَفَهْ
~وجب الخسار عليك فانظر منصفاً في آية الأعراف فهي المنصفهْ
~أتُرى الكليم أتى بجهلٍ ما أتى وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفهْ
~إن الوجوه إليه ناظرةٌ بذا جاء الكتاب فقلتم : هذا سفهْ
~نطق الكتاب وأنت تنطق بالهوى فهوى الهوى بك في المهاوي المتلفهْ
وقال العلامة الجاربردي :
~عجباً لقوم ظالمين تستَّروا بالعدل ما فيهم لعمري معرفهْ
~قد جاءهم من حيث لا يدرونه تعطيل ذات الله مع نفي الصِّفهْ
وقد ساق السبكي في " طبقاته " في ترجمة الجاربردي عدة قصائد ومقاطيع في الرد عليه ، ثم ذكر الله تعالى أن خاطب موسى باصطفائه ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ } [ 144 ] .
{ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ } أي : اخترتك على أهل زمانك ، وآثرتك عليهم { بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي }
أي : وبتكليمي إياك : { فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ } أي : ما أعطيتك من شرف النبوة والمناجاة : { وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ } أي : على النعمة في ذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } [ 145 ] .
{ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ } من الحال والحرام .
{ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } أي : بعزم على العمل بما فيها : { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } أي : بما أروا به دون ما نهوا عنه { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } وهي الأرض التي وعدوا بها من فلسطين ، فإنهم لم يعطوها إلا بعد أربعين سنة من خروجهم من مصر وبقائهم في البرية .
فإن موسى عليه السلام لما مات ، خلفه يشوع بن نون ، فحارب الأمم والملوك الذين كانوا يسكنون أرض كنعان ، وفتح بلادهم ، وصارت ملكة للإسرائيليين .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية على حدوث كلامه ، لأن قوله :
{ اصْطَفَيْتُكَ } أي : اختصصتك به ، ولو كان قديماً لكان موسى وغيره سواء ، ولما صح الإختصاص ، ويدل قوله :
{ وَكَتَبْنا } أنه أعطاه التوراة مكتوبة في الألواح عند الميقات ، لتكون محروسة ، وليبلغه الحاضرون إلى الباقين ، ليقع لهم العلم ضرورة .
ويدل على أن في التوراة شرائع ، وجميع ما يحتاج إليه . ويدل قوله : { بِقُوَّةٍ } أن العبد قادر على الفعل قبل الفعل ، وأنه يفعل بقدرة . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } [ 146 ] .
{ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ } أي : سأمنع فهم الحج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي ، قلوب المتكبرين عن طاعتي ، والمتكبرين على الناس ، أي : فكما استكبروا أذلهم الله بالجهل ، كقوله تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } ، وقوله تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم } ، وقوله تعالى : { بِغَيْرِ الْحَقِّ } إما صلة للفعل ، أي :
يتكبرون بما ليس بحق ، وهو دينهم الباطل ، أو حال من فاعله ، أي : يتكبرون غير محقين .
{ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ } أي : حجة من الآيات والحجج المنزلة عليهم .
{ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا } تكبراً عليها { وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ } يعني طريق الحق والهدى والإستقامة واضحاً ظاهراً { لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } لمنافاته أهويتهم { وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ }
أي : الضلال عن الحق والهلاك { يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } أي : طريقاً يميلون إليه { ذَلِكَ } أي : الصرف عن الآيات ، أو اتخاذهم الغي سبيلاً .
{ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } أي : لاهين لا يتفكرون فيها ، ولا يتعظون بها ، أو غافلين عما ينزل بهم من مخافة الرسل ، ثم بين وعيد المكذبين بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 147 ] .
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ } أي : القيامة ، وهي الكرة الثانية ، سميت آخرة لتأخرها عن الدنيا ، { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } أي : بطلت : فلم تعقب نفعاً ، والمراد جزاء أعمالهم ، لأن الحابط إنما يصح في المنتظر ، دون ما تقضى ، وهذا كقوله : { لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ } .
{ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : إلا جزاء علمه من الكفر والمعاصي .
تنبيه :
ذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي } الخ ، كلام مع قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو متصل بما سبق من قصصهم ، وهو : { أوَ لَمْ يَهْدِ } الخ .
وإيراد قصة موسى وفرعون للإعتبار .
وقال الكعبي وأبو مسلم الأصفهاني : إن هذا الكلام تمام لما وعد الله موسى عليه السلام به من إهلاك أعدائه ، ومعنى صرفهم إهلاكهم ، فلا يقدرون على منع موسى من تبليغها ، ولا على منع المؤمنين من الإيمان بها ، وهو شبيه بقوله :
{ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } ، فأراد تعالى أن يمنع أعداء موسى عليه السلام من إيذائه ، ومنعه من القيام بما يلزمه في تبليغ النبوة والرسالة . انتهى . والله أعلم(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } [ 148 ] .
{ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } يخبر تعالى عن ضلال من ضل من بين إسرائيل ، في عبادتهم العجل الذي اتخذه لهم السامري من حلي القبط ، الذي كانوا استعاروه منهم ، فشكل لهم منه عجلاً ، جسداً لا روح فيه ، وقد احتال بإدخال الريح فيه ، حتى صار يسمع له خوار ، أي : صوت كصوت البقر ، وإنما أضاف الصوت إليه ، لأنه كان محله عند دخول الريح جوفه ، وكان هذا منهم بعد ذهاب موسى لميقات ربه تعالى وأعلمه الله تعالى بذلك وهو على الطور ، حيث يقول إخباراً عن نفسه الكريمة : { فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } .
لطائف :
قال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل : { واتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى عِجْلاً } والمتخذ هو السامري ؟ قلت : فيه وجهان :
أحدهما : أن ينسب الفعل إليهم ، لأن رجلاً منهم باشره ، ووُجد فيما بين ظهرانيهم ، كما يقال : بنو تميم قالوا كذا وفعلوا كذا والقائل والفاعل واحد . ولأنهم كانوا مريدين لاتخاذه ، راضين له ، فكأنهم أجمعوا عليه .
والثاني : أن يراد : واتخذوه إلهاً وعبدوه . فإن قلت : لم قال : { مِنْ حُلِّيِهِمْ } ولم يكن الحلي لهم ، إنما كانت عواري في أيديهم ؟ قلت : الإضافة تكون بأدنى ملابسة وكونها في أيديهم عواري ، كفى به ملابسة ، على أنهم قد ملكوها بعد المُهلكين ، كما قال تعالى : { وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ } . انتهى .
قال النسفي : وفيه دليل على أن من حلف أن لا يدخل دار فلان ، فدخل داراً استعارها يحنث ، وأن الإستيلاء على أموال الكفار يوجب زوال ملكهم عنها . انتهى .
والحُليُّ بضم الحاء والتشديد ، جمع حَلْي بفتح فسكون ، كثَدْي وثُدِيّ ، وهو اسم لما يتحسن به من الذهب والفضة .
وقوله تعالى : { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً } تقريع على فرط ضلالهم وإخلالهم بالنظر ، والمعنى : ألم يروا ، حين اتخذوه إلهاً ، أنه لا يقدر على كلام ، ولا على إرشاد سبيل ، كآحاد البشر ؟ فهو جماد لا ينفع ولا يضر ، فكيف يكون إلهاً ؟
وقوله تعالى : { اتَّخَذُوهُ } تكرير لتأكيد الذم ، أي : اتخذوه إلهاً وعبدوه { وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } أي : واضعين الأشياء في غير مواضعها ، والجملة إما استئنافية ، أو اعتراض تذييلي للإخبار بأن ذلك دأبهم وعادتهم قبل ذلك ، فلا ينكر هذا منهم . أو حالية ، أي : اتخذوه في هذه الحالة المستقرة لهم .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية على صحة الحجاج في الدين ، وأنه تعالى دلهم ، في بطلان اتخاذ العجل إلهاً ، بأنه لا يتكلم ولا يهدي ، وإنما ذكر الكلام لأن الخوار تنفد فيه الحيلة ، ولا تنفد في الكلام .
وتدل على أن إزالة الشبه في الدين واجب ، كما أزالها الله تعالى ، وتدل على أن القوم كانوا جهالاً غير عارفين حقيقة الأشياء ، لذلك عبدوا العجل ، وتدل على أن تلك الحلي كانت ملكاً لبني إسرائيل ، لذلك قال : { حُلِّيِهِمْ } ، فإن ثبت أنهم استعاروه ، فيدل على زوال ملكهم ، وانتقال الملك إلى بني إسرائيل ، كما تملك أموال أهل الحرب ، وتدل على أن الإتخاذ فعلهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ 149 ] .
{ وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ } أي : ندموا على عبادة العجل { وَرَأَوْاْ } أي : علموا وأيقنوا : { أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ } أي : عن الحق والهدى .
{ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا } أي : بقبول توبتنا { وَيَغْفِرْ لَنَا } أي : ما قدمنا من عبادة العجل { لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } أي : بالعقوبة ، أي : ممن خسروا أعمالهم وأعمارهم .
لطيفة :
يقال للنادم على ما فعل ، الحسر على ما فرط منه قد سُقِطَ في يده و أُسقط مضمومتين - قاله الزجاج - .
وقال الفراء : يقال سُقط في يده وأسقط ، من الندامة ، و سُقط أكثر وأجود .
وأنكر أبو عَمْرو أُسقط بالألف ، وجوزه الأخفش .
قال الزمخشري : من شأن من اشتد ندمه وحسرته ، أن يعض يده غماً ، فتصير يده مسقوطاً فيها ، لأن فاه قد وقع فيها .
وقال الزجاج : معناه : سقط الندم في أيديهم ، أي : في قلوبهم وأنفسهم ، كما يقال : حصل في يده مكروه ، وإن كان محالاً أن يكون في اليد ، تشبيهاً لما يحصل في القلب وفي النفس ، بما يحصل في اليد ، ويرى بالعين . انتهى .
وقال الفارسي : أي : ضربوا أكفهم على أكفهم من الندم ، فإن صح ذلك فهو إذن من السقوط .
وفي " العباب " : هذا نظم لم يسمع به قبل القرآن ، ولا عرفته العرب ، والأصل فيه نزول الشيء من أعلى إلى أسفل ، ووقوعه على الأرض ، ثم اتسع فيه فقيل للخطأ من الكلام سقط ، لأنهم شبهوه بما لا يحتاج إليه ، فيسقط ، وذكر اليد لأن الندم يحدث في القلب ، وأثره يظهر في اليد ، كقوله تعالى : { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَق } ، ولأن اليد هي الجارحة العظمى فربما يسند إليها ما لم تباشره ، كقوله تعالى : { ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاك } . انتهى .
وعليه ، فيكون سُقط من السقاط ، وهو كثرة الخطأ كما قال :
~كيف يرجون سِقَاطِي بَعْدَ ما لَفَعَ الرأسَ بياضٌ وَصَلعْ
وقيل : من عادة النادم أن يطأطئ رأسه ، يضعه على يده ، معتمداً عليه وتارة يضعها تحت ذقنه ، وشطر من وجهه على هيئة لو نزعت يده لسقط على وجهه ، فكانت اليد مسقوطاً فيها ، لتمكن السقوط فيها .
ويكون قوله : { سُقِطَ فِي أيْدِيهِمْ } بمعنى سقط على أيديهم ، كقوله : { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْل } ، أي : عليها ، و سُقط عده بعضهم من الأفعال التي لا تتصرف ، كنعم وبئس . وقرئ رباعي مجهول ، وهي لغة نقلها الفراء والزجاج ، كما قدمنا .
ثم بين تعالى ما جرى من موسى عليه السلام بعد رجوعه من الميقات ، وكان أعلمه تعالى بفتنة قومه فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ 150 ] .
{ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً } أي : شديد الغضب على قومه لعبادتهم العجل ، وحزيناً أي : على ما فاته من مناجاة ربه { قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ } أي : بئسما عملتم خلفي ، أو قمتم مقامي ، وكنتم خلفائي من بعدي والخطاب إما لعبدة العجل ، من السامري وأشياعه ، أو لوجوه بني إسرائيل ، وهم هارون عليه السلام والمؤمنون معه . ويدل عليه قوله : { اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي } ، وعلى التقدير يكون المعنى : بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوا من عبادة غير الله تعالى .
قال الرازي : { أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ } أي : ميعاده الذي وعدنيه من الأربعين ، فلم تصبروا إلى تمامها ، وكانوا استبطأوا نزوله من الجبل ، فتآمروا في صنع وثن يعبدونه ، وينضمون إليه ، وفعلوا ذلك وجعلوا يغنون ويرقصون ويأكلون ويشربون ويلعبون حوله ويقولون : هذا الإله الذي أخرجنا من مصر - عياذاً بالله - .
وقال أبو مسلم : معناه سبقتم أمر الله ، فعبدتم ما لم يأمركم به : { وَأَلْقَى الألْوَاحَ } أي : طرحها من شدة الغضب ، وفرط الضجرة بين يديه فتكسرت ، وهي ألواح من حجارة كتب فيها الشرائع والوصايا الربانية ، وإنما ألقاها ، عليه السلام ، لما لحقه من فرط الدهش عند رؤيته عكوفهم على العجل ، فإنه عليه السلام لما نزل من الجبل ، ودنا من محلتهم رأى العجل ورقصهم حوله ، اتقد غضبه فألقاها غضباً لله ، وحمية لدينه ، وكان هو في نفسه حديداً ، شديد الغضب ، وكان هارون ألين منه جانباً ، ولذلك كان محبباً إلى قومه .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : استدل ابن تيمية بقوله تعالى
{ وألْقَى الألواحَ } على أن من ألقى كتاباً على يده ، إلى الأرض وهو غضبان ، لا يلام . انتهى . وهو ظاهر .
{ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ } أي : بشعره { يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } ظناً أن يكون قصر في نهيهم ، كما قال في الآية الأخرى : { قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي
قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي }
وقال ههنا : { قَالَ ابْنَ أُمَّ } قرئ الفتح والكسر .
وأصله يا ابن أمي ، خفف بحذف حرف النداء والياء ، وذكر الأم ليرققه عليه ، وقوله : { إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي } إزاحة لتوهم التقصير في حقه .
والمعنى : بذلت وسعي في كفّهم حتى قهروني واستضعفوني ، وقاربوا قتلي ، { فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء } أي : بالإساءة إلي . الشماتة سرور الأعداء بما يصيب المرء { وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي : في عقوبتك لي ، في عدادهم ، أو لا تعتقد أني منهم ، مع براءتي وعدم تقصيري .
قال الجشمي : تدل الآية على أن الأمر بالمعروف قد يسقط في حال الخوف على النفس ، وفي الحال الذي يعلم أنه لا ينفع ، لذلك قال هارون : { اسْتَضْعَفُونِي } . وتدل على أن الغضب والأسف على المبتدع محمود في الدين . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [ 151 ]
{ قَالَ } أي : موسى عليه السلام ، متضرعاً إلى ربه استنزالاً لرحمته ، وتعوذاً بمغفرته من سخطه ، ولا يخفى اقتضاء المقام لذلك : { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } .
وقال الزمخشري : لما اعتذر إليه أخوه ، وذكر له شماتة الأعداء قال : { ربِّ اغْفِرْ لِي ولأخِي } ليرضي أخاه ، ويظهر لأهل الشماتة رضاه عنه ، فلا تتم لهم شماتتهم . واستغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه ولأخيه أن عسى فرط في حسن الخلافة ، وطلب أن لا يتفرقا عن رحمته ، ولا تزال منتظمة لهما في الدنيا والآخرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } [ 152 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } أي : من افترى بدعة ، فإن ذل البدعة ومخالفة الرسالة على كتفيه ، كما قال الحسن البصري : إن ذل البدعة على أكتافهم ، وإن هملجت بهم البغال ، وطقطقت بهم البراذين .
وهكذا روى أيوب عن أبي قلابة الجَرْمي أنه قرأ هذه الآية
{ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } قال : هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة .
وقال سفيان بن عيينة : كل صاحب بدعة ذليل .
ثم نبه تعالى عباده وأرشدهم إلى أنه يقبل التوبة من أي : ذنب كان ، ولو كفراً بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 153 ] .
{ وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا } إلى الله : { وَآمَنُواْ } أي : أخلصوا الإيمان { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : محاء لذنوبهم ، منعم عليهم بالجنة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } [ 154 ] .
{ وَلَمَّا سَكَتَ } أي : سكن : { عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ } أي : التي كان ألقاها من شدة الغضب فتكسرت { وَفِي نُسْخَتِهَا } أي : فيما نسخ منها ، أي : كتب .
والنسخة فعلة بمعنى مفعول ، كالخطبة : { هُدًى وَرَحْمَةٌ } بالشرائع والوصايا الربانية ، المرشدة لما فيه الخير والصلاح : { لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } أي : يخشون .
لطيفتان :
الأولى : قال أبو السعود : في هذا النظم الكريم ، يعني قوله تعالى : { وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ } من البلاغة والمبالغة بتنزيل الغضب ، الحامل له على ما صدر عنه من الفعل والقول ، ومنزلة الآمر بذلك ، المغرى عليه بالتحكم والتشديد ، والتعبير عن سكونه بالسكوت ـ ما لا يخفى ـ انتهى .
وأصله للزمخشري حيث قال : هذا مثلٌ ، كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له : قل لقومك كذا ، وألق الألواح ، وجر برأس أخيك إليك فترك النطق بذلك ، وقطع الإغراء . ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذي طبع سُلَيم ، وذوق صحيح إلا لذلك ، ولأنه من قبيل شعب البلاغة ، وإلا فما لقراءة معاوية بن قرة ( وَلَمَّا سَكَنَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ ) لا تجد النفس عندها شيئاً من تلك الهمزة ، وطرفاً من تلك الروعة ؟ انتهى .
ومراده بالمثل كونه استعارة مكنية ، حيث شبه الغضب بشخص آمرٍ ناهٍ ، وأثبت له السكوت تخييلاً .
وعد بعض أهل العربية الآية من المقلوب ، أي : من نمط قلب الحقيقة إلى المجاز ، وكأن الأصل : { وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ } كما في خرق الثوب المسمار .
قال في " الإنتصاف " والتحقيق أنه ليس منه ، وأن هذا القلب أشرف وأفصح ، لما فيه من المعنى البليغ ، وهو أن الغضب كان متمكناً من موسى ، حتى كأنه كان يصرفه في أوامره . ومثل هذه النكتة الحسناء ، لا تلفى في خرق الثوب المسمار .
انتهى .
وقرئ سكن وسكَّت وأسكت ، أي : أسكته الله ، أو أخوه باعتذاره إليه .
الثانية - اللام في للذين متعلقة بمحذوف ، صفة لرحمة ، أي : كائنة لهم ، أو هي لام الأجل ، أي : هدى ورحمة لأجلهم : واللام في لربهم لتقوية عمل الفعل المؤخر كما في قوله تعالى : { إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ } ، أو هي أيضاً لام العلة ، والمفعول محذوف ، أي : يرهبون المعاصي لجل ربهم ، لا للرياء والسمعة ـ أفاده أبو السعود ـ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } [ 155 ] .
{ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا } .
روى محمد بن إسحاق أن موسى عليه السلام ، لما رجع إلى قومه فرأى ما هم فيه من عبادة العجل ، وقال لأخيه وللسامري ما قال ، وحرق العجل ، وذراه في اليم ، اختار من بني إسرائيل سبعين رجلاً ، الخير فالخير ، وقال : انطلقوا إلى الله ، فتوبوا إليه مما صنعتم واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم ، صوموا وتطهروا ، وطهروا ثيابكم . فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه ، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم ، فقال له السبعون - فيما ذكر لي ـ حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا معه للقاء ربه ، لموسى : اطلب لنا نسمع كلام ربنا ، فقال : أفعل .
فلما دنا موسى من الجبل ، وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ، ودنا موسى فدخل فيه ، وقال للقوم : ادنوا . وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهة موسى نور ساطع ، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه
فضرب دونه بالحجاب ، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجوداً ، فسمعوه وهو يكلم موسى ، يأمره وينهاه ، افعل ولا تفعل ، فلما فرغ إليه من أمره ، انكشف عن موسى الغمام ، أقبل إليهم ، فقالوا لموسى : { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَة } وهي الصاعقة التي يحصل منها الإضطراب الشديد ، فماتوا جميعاً فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول : { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ } قد سفهوا ، أتهلك من ورائي من بني إسرائيل ؟
وفي رواية السدّي : فقام موسى يبكي ويقول : يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا لقيتهم ، وقد أهلكت خيارهم { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ } .
وقال ابن إسحاق : اخترت منهم سبعين رجلاً ، الخيّر فالخير ، أرجع إليهم ، وليس معي رجل منهم واحد ، فما الذي يصدقونني أو يأمنونني عليه بعد هذا ؟ وعلى هذا فالمعنى : لو شئت أهلكتهم من قبل خروجنا ، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهمونني .
وقال الزجاج : المعنى لو شئت أمتهم من قبل أن تبتليهم ، بما أوجب عليهم الرجفة . انتهى .
قال ابن القيم في " إغاثة اللهفان " بعد نقل كلام من ذكرنا : وهؤلاء كلهم حاموا حول المقصود ، والذي يظهر - والله أعلم بمراده ومراد نبيه - أن هذا استعطاف من موسى عليه السلام لربه ، وتوسل إليه بعفوه عنهم من قبل ، حتى عبد قومهم العجل ، ولم ينكروا عليهم ، يقول موسى : إنهم قد تقدم منهم ما يقتضي هلاكهم ، ومع هذا فوسعهم عفوك ومغفرتك ، ولم تهلكهم ، فيسعهم اليوم ما وسعهم من قبل ، وهذا كمن واخذه سيده بجرم يقول : لو شئت واخذتني قبل هذا بما هو أعظم من هذا الجرم ، ولكن وسعني عفوك أولاً ، فيسعني اليوم .
ثم قال نبي الله : أهلكنا بما فعل السفهاء منا ؟ فقال ابن الأنباري وغيره [ في المطبوع : وغير ] : هذا استفهام على معنى الجحد ، أي : لست تفعل ذلك ، والسفهاء هنا عَبْدة العجل .
قال الفرّاء : ظن موسى أنهم أهلكوا باتخاذ قومهم العجل ، فقال : أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ؟ وإنما كان إهلاكهم بقولهم : { أرِنا اللَّهَ جَهْرَةً } . انتهى .
واستظهار أن هذا استفهام استعطاف ، سبقه إليه المبرد .
تنبيه :
قال في " اللباب " : معظم الروايات أنهم ماتوا بسبب تلك الرجفة ، أي : ثم
أحيوا .
وقال وهب بن منبه : لم تكن تلك الرجفة موتاً ، ولكن القوم لما رأوا تلك الهيئة ، وأخذتهم الرعدة وقلقوا ورجفوا ، حتى كادت أن تبين مفاصلهم فلما رأى موسى ذلك ، راحمهم وخاف عليهم الموت ، واشتد عليه فقدهم ، وكانوا له وزراء على الخير ، سامعين له مطيعين ، فعند ذلك دعا موسى وبكى وناشد ربه ، فكشف الله عنهم تلك الرجفة ، فاطمأنوا وسمعوا كلام الله . والله أعلم .
{ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء } أي : ما الفتنة التي وقع فيها السفهاء إلا اختبارك وابتلاؤك ، وامتحانك لعبادك فأنت ابتليتهم وامتحنتهم ، فالأمر كله لك وبيدك ، لا يكشفه إلا أنت ، كما لم يمتحن به ويختبر إلا أنت . فنحن عائدون بك منك ، ولاجئون منك إليك .
يعني إن الأمر إلاَّ أمرك ، والحكم إلا لك فما شئت كان ، تضل من تشاء وتهدي من تشاء .
قال : { أَنتَ وَلِيُّنَا } أي : متولي أمورنا القائم بتا { فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } [ 156 ] .
{ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً } أي : أثبت لنا فيها خصلة حسنة ، كالعافية والحياة الطيبة ، والتوفيق للطاعة : { وَفِي الآخِرَةِ } أي : حسنة أيضاً ، وهي المثوبة الحسنى والجنة .
{ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } أي : تبنا إليك . يقال : هاد إليه يهود ، إذا رجع وتاب ، فهو هائد . ولبعضهم :
~يا راكب الذنب هُدْ ، هُدْ واسجد كأنك هُدْهُدْ
وقال آخر :
إني أمرؤ مما جَنَيْتُ هائِدُ
قال أبو البقاء : المشهور ضم الهاء ، وهو من هاد يهود إذا تاب .
وقرئ بكسرها ، من هاد يهيد إذا تحرك أو حرك ، أي : حركنا إليك نفوسنا ، وعلى القراءتين ، يحتمل الوجهين ، البناء للفاعل وللمفعول ، بمعنى ملنا أو أمالنا غيرنا ، أو حركنا
أنفسنا ، أو حركنا غيرنا ، وذلك لاتحاد الصيغة وصحة المعنى ، وإن اختلف التقدير .
{ قَالَ } استئناف وقع جواباً عن سؤال ينساق إليه الكلام ، كأنه قيل : فماذا قال تعالى في جواب دعاء موسى ؟ فقيل قال : { عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء } أي : تعذيبه من العصاة { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } تطلق الرحمة على التعطف والمغفرة والإحسان المراد هنا ، بدليل مقابلتها بالعذاب قبل ، كما قابل الآية التي ذكرناها بقوله : { وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } ، والله أعلم .
{ فَسَأَكْتُبُهَا } أي : هذه الرحمة : { لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } أي : الكفر والشرك والفواحش { وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } أي : يعطون زكاة أموالهم { وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا } أي : بكتابنا ورسولنا : { يُؤْمِنُونَ } أي : يصدقون .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية على حسن سؤال نعيم الدنيا ، كما يحسن سؤال نعيم الآخرة ، وتدل على أن الواجب على الداعي أن يقرن بدعائه التوبة والإخلاص ، لذلك قالوا : { إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ } .
وتدل على أنه تعالى ينعم على البر والفاجر ، ويخص بالثواب المؤمن ، فلذلك فصل ، ومن تأمل هذا السؤال والجواب ، عرف عظيم محل هذا البيان ، لأنه عليه السلام ، سأل نعيم الدنيا والدين عقيب الرجفة ، فكان من الجواب أن العذاب خاصة يصاب به من يستحقه ، فأما النعم فما كان من باب الدنيا يسع كل شيء يصح عليه التنعم ، وما كان من باب الآخرة يكتب لمن له صفات ذكرها .
وتدل على أن الرحمة لا تنال بمجرد الإيمان الذي هو التصديق ، حتى ينضم إليه الطاعات ، فيبطل قوله المرجئة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ 157 ] .
{ الَّذِينَ } بدل من الموصول الأول بد الكل ، أو منصوب على المدح ، أو
مرفوع عليه ، أي : أعني الذين أو هم الذين : { يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ } أي : الذي أرسل إلى الخلائق لتكميلهم : { النَّبِيَّ } أي : الذي نبئ بأكمل الإعتقادات ، والأعمال والأخلاق والأحوال والمقامات من جهة الوحي { الأُمِّيَّ } أي : الذي لم يحصل علماً من بشر : { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً } أي : باسمه محمد وأحمد ونعوته { عِندَهُمْ } زيد هذا لزيادة التقرير ، وأن شأنه عليه الصلاة والسلام حاضر عندهم لا يغيب عنهم أصلاً .
{ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ } يعني الإيمان بالله ، ووحدانيته والشرائع ومكارم الأخلاق ، لأن جميع ذلك تعرف صحته إما بالعقل وإما بالشرع .
{ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ } يعني الكفر والشرك والمعاصي ومساوئ الأخلاق ، لأن العقل والشرع ينكره .
{ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ } أي : التي حرمت عليهم لمعاصيهم .
{ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ } أي : التي كانوا يتناولونها كالخنزير والميتة والدم - هذا في باب المأكولات ـ .
{ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ } أي : الأمر الذي يثقل عليهم من التكاليف الشاقة { وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } جمع غُل بالضم ، وهو ما يوضع في العنق أو اليد من الحديد ، يستعار للشرائط الحرجة والمواثيق الشديدة ، أي : يخفف عنهم ما كلفوه منها - وهذا في باب العبادات ـ .
{ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ } أي : بالنبي الأمي وهو محمد صلى الله عليه وسلم : { وَعَزَّرُوهُ } أي : عظموه ووقروه : { وَنَصَرُوهُ } أي : على أعدائه في الدين فمنعوهم عنه { وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ } وهو القرآن ، فأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه .
ولا يقال : القرآن أنزل مع جبريل ، فما معنى : { أُنزِلَ مَعَهُ } ؟ لأن المراد أنزل مع نبوته ، لأن استنباءه كان مصحوباً بالقرآن مشفوعاً به ، ويجوز أن يعلق باتبعوا أي : واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته ، وبما أمر ونهى عنه ، فيكون أمراً بالعلم بالكتاب والسنة ، أو هو حال ، أي : اتبعوا القرآن كما اتبعه ، مصاحبين له في اتباعه .
وفي التعبير عن القرآن بالنور ، المنبئ عن كونه ظاهراً بنفسه لإعجازه ، ومظهراً لغيره من الأحكام ، لمناسبة الإتباع .
{ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } الفائزون بالرحمة والناجون من النقمة .
تنبيهات :
الأول : يظهر من سياق الآية أن قوله تعالى : { قالَ عَذَابِي } الخ ، جواب لموسى عليه السلام ، وذلك أنه دعا بالمغفرة لقومه أجمعين ، كتابه حسنتي الدنيا والآخرة لهم ، فأجيب أولاً بأن ذلك لا يحصل لقومه كلهم ، برًّ أو فاجراً ، لما سبق من تقديره سبحانه العذاب لمن يشاء من الفجار حكمة منه وعدلاً . ولذلك قرأ الحسن
وزيد بن علي هنا لمن أساء ، فعل ماض من الإساءة ، وفي طيه أن ما أصاب قومه من الرجفة من عذابه تعالى ، الذي شاء إصابتهم به لأفاعيلهم ، وثانياً إنه لا يستأهل كتابة الحسنتين إلا المتقون المتصدقون المؤمنون بالآيات ، والمتبعون للنبي الأمي ، فمن استقام على هذا الشرائط ، كتب له ذلك ، ولا يقال - على هذا - كيف يتبعونه ولم يدركوا زمنه ؟ لأنا نقول الإتباع أعم من الإتباع بالقوة ، وذلك بالإيمان به إجمالاً ، حسبما أشار له الكتابان لمن تقدم موته على زمن بعثته ، وإما بالفعل لمن لحق زمان بعثته .
وفيه تبشير لموسى بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وتعريف له بشأنه وإعلام بشأنه ، بأن كتابة الرحمة موقوفة على اتباعه . وعليه فيكون قوله تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ } بدلاً من الموصول الأول ، بدل الكل ، أو منصوب على المدح ، أو مرفوع عليه ، أي : أعني الذين ، أو هم الذين .
وقال بعضهم : إن الجواب موسى ينتهي إلي قوله تعالى :
{ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ } وما بعده مستأنف ، فكأنه تعالى أعلم موسى بأنه ذو عذاب يصيب به من يشاء ، كما أصاب أصحاب الرجفة ، وذو رحمة واسعة تكتب للمتقين المتصدقين المؤمنين بالآيات ، أي : فأمر قومك بأن يكونوا من الفريق المرحوم بالمشي على هذا الوصف المرقوم .
ثم استأنف تعالى الإخبار عمن يتبع النبي الأمي بأنهم المفلحون حقاً ، عليه فيكون قوله تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ } مبتدأ خبره : { أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ، وتكون القصة استتبعت أعقاب بني إسرائيل ، بأنهم إذا اتبعوا النبي الأمي ، كانوا هم المفلحين .
وجوز بعضهم أن يكون قوله تعالى : { قالَ عَذاَبِي } ارتجال خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، قصد به إعلام أهل الكتاب المعاصرين له ، صلى الله عليه وسلم بأنهم إذا اتبعوه وآمنوا به وصدقوه حقت لهم رحمته تعالى الواسعة ، وإلا فلا يأمنوا أن يصابوا بانتقامه تعالى ، كما جرى لأسلافهم .
وفي ذلك كله من التنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه المتقين ، ما لا يخفى .
الثاني : تطلق الرحمة على التعطف والمغفرة والإحسان - هذا ما ذكر في اللغة ـ وعني أن القرآن الكريم قد تطلق فيه على الجنة ، كما قال تعالى : { يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ } ، فلعل الرحمة في قوله تعالى هنا : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } بمعنى الجنة ، بدليل مقابلتها بالعذاب قبل . والله أعلم .
وقال أبو المنصور : ما من أحد مسلم وكافر ، إلا وعليه من آثار رحمته في هذه الدنيا ، بها يتعيشون ويؤاخون ويوادون وفيها ينقلبون ، لكنها للمؤمنين خاصة في الآخرة ، لا حظ للكافر فيها ، وذلك قوله : { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } أي : معصية الله ، والخلاف له { وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ } كقوله تعالى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَة } جعل طيبات الدنيا ونعيمها مشتركة بين المسلم و الكافر ، خالصة للذين آمنوا يوم القيامة ، لاحظ للكافر فيها .
فعلى ذلك رحمته نالت كل أحد في هذه الدنيا ، لكنها للذين آمنوا واتقوا الشرك خاصة في الآخرة ، ويحتمل قوله ـ و الله أعلم ـ : { وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ } أنهم سألوا الرحمة ، فقال : سأكتبها للذين يتقون معاصي الله ومخالفته . انتهى .
الثالث : إنما أفرد الزكاة بالذكر ، ومع دخولها في التقوى قبل ، لعلوها وشرفها ، فإنها عنوان الهداية ، ولأنها كانت أشق عليهم ، فذكرها لئلا يفرطوا فيها .
الرابع : كونه صلى الله عليه وسلم لا يكتب ولا يقرأ ، أمر مقرر مشهور . وهل صدر عنه ذلك في كتابة صلح الحديبية كما هو ظاهر الحديث المشهور ، أو أنه لم يكتب ، وإنما أسند إليه مجازاً ، أو أنه أصدر منه ذلك معجزة ؟ - انظر في " فتح الباري " تفصيله - .
و الأمي نسبة إلى أمة العرب ، لأن الغالب عليهم كان ذلك ، كما في الحديث : < إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب > ، وأما نسبته إلى أم القرى فلأن أهله كانوا كذلك ، أو إلى أُمه كأنه على الحالة التي ولدته أمه عليها .
وقيل : إنه منسوب إلى الأم - بفتح الهمزة - بمعنى القصد ، لأنه المقصود ، وضم الهمزة من تغيير النسب ، ويؤيده قراءة يعقوب ( الأمي ) - بفتح الهمزة - ، وإن احتملت أن تكون من تغيير النسب أيضاً ، وإنما وصفه تعالى به تنبيهاً على أن كمال علمه مع حاله إحدى معجزاته ، فهي له مدح وعلو كعب ، لأنها معجزة له ، كما قال البوصيري .
كفَاكَ بالعلمِ في الأمِّي مُعْجزةَ
كما أن صفة التكبر لله مادحة ، وفي غيره ذامة ، كذا في " العناية " .
الخامس : في قوله تعالى : { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ } إشارة إلى بشائر الأنبياء عليهم السلام ، بنبوته صلى الله عليه وسلم .
قال الماوردي في " إعلام النبوة " في الباب الخمس عشر في بشائر الأنبياء بنبوته عليه الصلاة والسلام :
إن الله تعالى عوناً على أوامره ، وإغناءاً عن نواهيه ، فكأن أنبياء الله تعالى معانون على تأسيس النبوة ، بما تقدمه من بشائره ، وتبديه من أعلامها وشعائرها ، ليكون السابق مبشراً ونذيراً ، واللاحق مصدقاً وظهيراً ، فتدوم بهم طاعة الخلق ، وينتظم بهم إستمرار الحق .
وقد تقدمت بشائر من سلف من الأنبياء بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، مما هو حجة على أممهم ومعجزة تدل على صدقه عند غيرهم ، بما أطلعه الله تعالى على غيبه ، ليكون عوناً للرسول ، وحثاً على القبول .
فمنهم من عيّنه باسمه ، ومنهم من ذكره بصفته ، ومنهم من عزاه إلى قومه ، ومنهم من أضافه إلى بلده ، ومنهم من خصه بأفعاله ، ومنهم من ميزه بظهوره وإنتشاره .
وقد حقق الله تعالى جميعها فيه ، حتى صار جلياً بعد الإحتمال ويقيناً بعد الإرتياب ، ثم سرد الماوردي البشائر من نصوص كتبهم .
وجاء في " إظهار الحق " ما نصه : إن الإخبارات الواقعة في حق محمد صلى الله عليه وسلم ، كثيرة إلى الآن أيضاً ، مع وقوع التحريفات في هذه الكتب ، ومن عرف أولاً طريق إخبار النبي المتقدم ، عن النبي المتأخر ، على ما عرفت في الأمر الثاني - يعني في كلامه - ثم نظر ثانياً بنظر الإنصاف إلى هذه الإخبارات ، وقابلها بالإخبارات التي نقلها الإنجيليون في حق عيسى عليه السلام ، جزم بأن الإخبارات المحمدية في غاية القوة .
وجاء في " منية الأذكياء في قصص الأنبياء " ما نصه : إن نبينا عليه الصلاة والسلام قد بشرت به الأنبياء السالفون ، وشهدوا بصدق نبوته ، ووصفوه وصفاً رفع كل احتمال ، حيث صرحت باسمه وبلده وجنسه وحليته وأطواره وسمته . غير أن أهل الكتاب حذفوا اسمعه - يعني من نسخهم الأخيرة - إلا أن ذلك لم يجدهم نفعاً ، لقاء الصفات التي اتفق عليها المؤرخون من كل جنس وملة وهي أظهر دلالة
من الاسم على المسمى ، إذ قد يشترك اثنان في اسم ، ويمتنع اشتراك اثنين في جميع الأوصاف . لكن من أمد غير بعيد ، قد شرعوا في تحريف بعض الصفات ، ليبعد صدقها على النبي عليه الصلاة والسلام ، فترى كل نسخة متأخرة تختلف عما قبلها في بعض المواضع ، اختلافاً لا يخفى على اللبيب أمره ، ولا ما قصد به ، ولم يفدهم ذلك غير تقوية الشبهة عليهم لانتشار النسخ بالطبع ، وتيسر المقابلة بينها ، وها نحن نورد شذرة من البشائر لديهم :
فمنها : في الباب السادس عشر من سفر التكوين في حق هاجر هكذا :
11 - وقال لها ملاكُ الربُ أنتِِ حُبلى فتلدين إبناً ، وتدعين اسمه إسماعيل لأن الرب قد سمع لمذلتك .
12 - وإن يكون إنساناً وحشياً ، يده علي كل واحد ويد كل واحد عليه ، وأمام جميع إخوته يسكن .
هذه بشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، لا بجده إسماعيل ، لأن إسماعيل عليه السلام ، لم تكن يده فوق يد الجميع ، ولا كانت يد الجميع ، لا كانت يد الجميع مبسوطة إليه بالخصوص ، بل في التوراة أن إسماعيل وأمه هاجر أُخرج من وطنهما مكرهين ، ولم يرث إسماعيل مع إسحاق ، وكان الملك والنبوة في بني إسحاق ، وكان بنو إسماعيل في البراري العطاش ، ولم يسمع أن الأمم دانت لهم ، حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدانت له الملوك ، خضعت له الأمم ، وعلت يده وأيدي بني إسماعيل على كل يد ، وصارت يد كل بهم فكان ذكر إسماعيل مقصوداً به ولده .
كما أن في مواضع كثيرة من التوراة ، ذكر يعقوب ، والمقصود بالذكر ولد يعقوب .
فمن ذلك قوله في السفر الخامس : يا إسرائيلُ ! ألا تخشى الله ربَّك ، وتسلك في سَبِيِلهِ وتعمل له ؟
فهذا خطاب لبني إسرائيل باسم أبيهم ، وكذلك قوله لقوم موسى : اسمع إسرائيل ، ثم احفظ ، واعمل يحسن إليك ربك ، وتكثر وتنعم . ونظائره كثيرة .
فظهر أنه قد يذكر إسم الأب ، ويراد الإبن مجازاً ، بقرينة الحال ، وإلا لزم الخلف في خبره تعالى .
ومنها : في الباب الثالث والثلاثين من سفر التثينة هكذا :
1 - وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجلُ الله بني إسرائيل قبل موته .
2 - فقال : جاء الرب من سيناء ، وأشرق لهم من سَعِيرَ ، وتلألأ من جبل فَارَان ، وأتى من ربواتِ القُدسِ ، وعن يمنيه نار شريعةٍ لهم .
ولا غموض بأن مجئ الله جل وعلا من سيناء عبارة عن إنزاله التوراة على موسى بطور سينا - هكذا يفسره أهل الكتاب - والأمر كذلك فيجب أن يكون إشراقه من سُعَيْر عبارة عن إنزاله الإنجيل على المسيح ، وكان المسيح يسكن أرض الجليل من سُعَيْر بقرية تدعى ناصرة ، وإسم النصارى مأخوذ منها .
وإستعلاؤه من جبال فاران عبارة عن إنزاله القرآن على محمد في جبل فاران ، وفاران هي مكة ، ولا يخالفنا في ذلك أهل الكتاب .
ففي الباب الحادي والعشرين من سفر التكوين في حال إسماعيل عليه السلام هكذا :
20 - وكان الله مع الغلام فكبر ، وسكن في البرية ، وكان ينمو رامِيَ قوس .
21 - وسكن في برِّيَّة فاران ، وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر .
ولا شك أن إسماعيل كان سكنه في مكة ، وفيها مات ، وبها دفن ، وهذا البشارة صريحة في نبينا صلى الله عليه وسلم ، ظاهرة لا تخفى إلا على أكمة لا يعرف القمر .
فأي نبي ظهر في مكة بعد موسى غير محمد ، وأنتشر دينه في مشارق الأرض ومغاربها ، كما يقتضيه الإستعلان المذكور في البشارة .
ومنها : في الباب الثامن عشر من سفر التثنية هكذا :
17 - قال لي الرب قد أحسنوا في ما تكلموا .
18 - أُقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك واجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به .
19 - ويكون أن الْإِنْسَاْن الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه .
هذا البشارة في حق نبينا صلى الله عليه وسلم قطعاً ، لأنه من ذرية إسماعيل ، وذريته يسمون إخوة لبني إبراهيم ، بدليل ما ذكر في التوارة في حق إسماعيل وأنه قبالة إخوته ، ينصب المضارب .
وقد جرت عادة الكتب المنزلة بتسمية أبناء الأعمام ، عن بعد بعيد ، إخوةَ كما دعى في القرآن هود وصالح ، إخوة لعاد وثمود مع أنهما على بعد بعيد من أولاد الأعمام .
وكما قيل في سفر العدد في الباب العشرين :
14 - وأرسل موسى رسلاً من قَادشَ إلى ملك أدُومَ : وهكذا يقول أخوك إسرائيل قد عرفت كل المشقة التي أصابتناـ مع أنهما أعمام على بعد بعيد ـ .
وليست هذه الشهادة في حق أحد من أنبياء بني إسرائيل ، وإلَّا لقال : وسوف
أقيم لهم نبياً مثلك منهم أو من أنفسهم كما قال تعالى إخباراً بدعوة إبراهيم عليه السلام لولد إسماعيل : { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُم } ، وكما قال تعالى في خطاب بني إسماعيل :
{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ } وأما ما زعمته اليهود من أن المراد يوشع فتى موسى ، فهو باطل من وجوه :
1 - أن المبشر به من إخوة بني إسرائيل ، لا من نفس بني إسرائيل ، ويوشع كان من نفس بني إسرائيل .
2 - أن يوشع لم يكن مثل موسى عليه السلام لما في آخر سفر التثنية " الإصحاح الرابع والعشرون " .
10 - ولم يقم بعدُ نبيُّ في بني إسرائيل مثلُ موسى الذي عرفه الرب وجهاً لوجه .
ولأن موسى عليه السلام صاحب كتاب وشريعة جديدة مشتملة على أوامر ونواه ، ويوشع ليس كذلك ، بل هو مأمور باتباع شريعة موسى .
3 - أن يوشع عليه السلام كان حاضراً هناك ، وقد أشير بعبارة صريحة قبل هذه ففي الباب الأول من هذا السفر .
38 - يَشُوعُ بن نونٍ الواقف أمامك هو يدخل هناك ، شدَّده لأنه هو يقسمها لإسرائيل .
فأي مقتض للرمز والتلويح ، بعد هذا التصريح ؟ وأي موجب لإدخال سوف الدالة على الإستقبال على فعل حاصل في الحال ؟
وأما ما زعمته النصارى من أن المارد به عيسى عليه السلام ، فهو أيضاً باطل لوجوه :
1 - أنه من بني إسرائيل ، والمبشر به هنا من غيرهم .
2 - أن موسى بَّشر بنبيّ مثله ، وهم يدّعون أن عيسى إله ، وينكرون كونه نبياً مرسلاً ، وإلا لزم اتحاد المرسِل والمرسَل ، وهو غير معقول ، على أن مشابهة موسى لنبينا عليهما الصلاة والسلام أقوى من مشابهته لعيسى ، لاتحادهما في أمور :
1 - كونهما ذََوى والدين وأزواج بخلاف عيسى عليه السلام .
2 - كونهما مأمورين بالجهاد ، بخلاف عيسى عليه السلام . وقد أشار في هذه البشارة بقوله :
19 - ويكون أي : الْإِنْسَاْن الذي لا يسمع لكلامي ، الذي يتكلم به
باسمي ، أنا أطالبه .
إلى كون هذا النبي مأموراً بجهاد من كفر بما جاء به من عند الله ، والإنتقام منه بسيفه البتّار .
وزعمت النصارى أن الإنتقام هنا بمعنى العذاب الأخرويّ لمنكريه ، وهو خطأ ، لأن ذلك لا يختص بهذا النبي ، بل كل من أنكر ما جاء به نبي من الأنبياء ينتقم منه في الآخرة ، فلا معنى لتخصيص هذا النبي بالذكر حينئذ .
3 - كون شريعتهما مشتملة على الحدود والقصاص والتعزير وإيجاب الغسل على الجنب والحائض والنفساء ، وإيجاب الطهارة وقت العبادة ، وهذا كلها ليست موجودة في شريعة عيسى عليه السلام - على ما تقول النصارى - ونظائر ذلك كثيرة .
وفي هذا البشارة إشارة إلى كون هذا النبي أمياً لا يقرأ ، حيث قال : يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي .
وبذلك تعرف سر وصفه به في قوله تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ } الآية التي نحن في صددها .
ومنها : في الباب الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا : إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي ، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر ليثبت معكم إلا الأبد ، روح الحق الذي لن يطيق العالم أن يقبله لأنه ليس يراه ، ولا يعرفه ، وأنتم تعرفونه ، لأنه مقيم عندكم ، وهو ثابت فيكم .
وهذا بشارة من المسيح عليه السلام بأن الله تعالى سيبعث للناس من يقوم مقامه ، وينوب في تبليغ رسالته ، وسياسة خلقه ، ومنابه ، وتكون شريعته باقية مخلدة أبداً ، وهل هذا إلا محمد صلى الله عليه وسلم . و الأب هنا بمعنى الرب والإله ، لأنه إصطلاح أهل الكتابين .
وقد أشار عيسى عليه السلام بكونه روح الحق إلى أن الحق قبل مبعثه ، يكون كالميت لا حراك له ، ولا إنتعاش ، وأنه إذا بعث يكون كالروح له ، فيرجع حينئذ قائماً في الأرض .
ولا خفاء أنه عليه الصلاة والسلام ، هو الذي أحيى الله به الحق بعد عيسى عليه السلام بعد ما اندرس ، ولم يبق فيه نفس . ثم قال : الفارقليط روح القدس الذي يرسله الأب باسمي هو يعلمكم كل شي ، وهو يذكركم كل ما قلته لكم .
ولا شك بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الذي علم كل شيء من الحقائق ، وأوضح ما خفي من الدقائق ، وذكر أمة عيسى ما نسوه من أقواله المتضمنة أنه عبد من عَبَّاد الله تعالى ، وقربه إليه بالرسالة واصطفاه ، وأنه لم يدْعُ لسوى عبادة الله وتوحيده ، وتنزيهه وتمجيده . وقوله : باسمي أي : بالنبوة .
ثم أَبَان لهم سبب إخبارهم به قبل أن يأتي فقال : والآن قد قلت لكم قبل أن يكون ، حتى إذا كان ، تؤمنون .
وفي الباب الخامس عشر من الإنجيل المذكور : فأما إذا جاء الفارقليط الذي
أرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من الأب ينشق ، وهو يشهد لأجلي ، وأنتم تشهدون لأنكم معي من الابتداء .
وفي الباب السادس عشر منه : لكني أقول لكم الحق ، إنه خير لكم أن أنطلق لأني إن لم أنطلق ، لم يأتكم الفارقليط ، فأما إن انطلقت أرسلته إليكم ، فإذ جاء ذاك فهو يوبخ العالم على خطيئة ، وعلى بر ، وعلى حكم ، أما على الخطيئة فلأنهم لم يؤمنوا بي ، وأما على البر فلأني منطلق إلى الأب ، ولستم ترونني بعد ، وأما على الحكم ، فإن رئيس هذا العالم قد دين ، وإن لي كلاماً كثيراً أقوله لكم ، ولكنكم لستم تطيقون حمله ، وإذا جاء روح الحق ذاك ، فهو يعلمكم جميع الحق ، لأنه ليس ينطق من عنده ، بل يتكلم بكل ما يسمع ، ويخبركم بما سيأتي ، وهو يمجدني ، لأنه يأخذ مما هو لي ، ويخبركم جميع ما هو للأب ، فهو لي . من أجل هذا قلت : إن مما هو لي يأخذ ويخبركم .
ومن أمعن النظر في هذا العبارات ، ولاحظ ما اشتملت عليه من الفحوى والإشارات جزم بأن الفارقليط هو محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه هو الذي ظهر بعد عيسى عليه السلام ، شهد لعيسى بالنبوة والرسالة ، ومجده وبرأه مما افتراه عليه النصارى من دعوى الربوبية ، ومما افتراه عليه اليهود من كونه ساحراً كذاباً ، وعلى والدته من كونها غير طاهرة الذيل ، بريئة الساحة ، وهو الذي وبخ العالم ـ سيما اليهود ـ على الخطايا ، لا سيما خطيئة الكفر بعيسى عليه السلام ، والطعن في والدته الطاهرة البتول ، وهو الأمين الصادق ، الذي علم جميع الحقائق ، هو الذي أَبَان من الأسرار ما لم تطق تحمله قبل مجيئه الأفكار ، وهو الذي ، لا ينطق عن الهوى { إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } .
وفسر العلامة ابن قتيبة روح الحق الذي من الأب ينبثق ، أي : يصدر بكلام الله المنزل ، واستدل بقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا } ، والمراد به هنا القرآن الكريم ، لأنه هو الذي يشهد للمسيح بالنبوة والنزاهة
[ في المطبوع : النزهة ] ، عما افتري عليه ، وبأنه روح الله وكلمته وصفيه ورسوله ، كما شهد الحواريون الذين كانوا معه ، واهتدوا بهديه ، ولم يثبت شهادة كتاب غير القرآن بذلك فتعين أن يكون هو المراد .
وفي قول عيسى عليه السلام : إن خير لكم أن أنطلق ، لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط .
إشارة إلى أن نبينا عليه الصلاة والسلام أفضل .
ولفظ فارقليط يوناني الأصل ، قيل : أصله باراكلي طوس ، بمعنى كان لسان
قومه ، وما كان يتكلم باليوناني ، لأنه كان عبرانياً ابن عبرانية ، نشأ في قومه العبرانيين ، فنقل أقواله في هذه الأناجيل ، نقل بالمعنى .
فترجيح من رجح من النصارى ، أن أصل فارقلط هو الأول ترجيح بلا مرجح ، والتفاوت بين اللفظين يسير جداً ، الحروف اليونانية متشابهة .
وأياً كان أصله ، فالإستدلال صحيح ، لصدق اللفظ بمعانيه كلها على النبي صلى الله عليه وسلم صدقاً جلياً ، لايخفى إلا على مشاغب .
وقد كانت هذه البشائر سبب إسلام الفاضل عبد الله الترجمان ، كما بينه في كتابه " تحفة الأديب في الرد على أهل الصليب " .
وقد نبذ النصارى بعد الأناجيل المصرحة باسم محمد ، لكونها شجى في حلوق أهوائهم ، كإنجيل برنابا ففيه التصريح بقوله : إلى أن يجئ محمد رسول الله . كما نقله في " إظهار الحق " .
وإذا كان حالهم في تراجمهم ، في لقب إلههم ، ولقب خليفته ما علم ، فكيف يرجى منهم صحة بقاء محمد أو أحمد ؟
إلا أن سيف الحق أمضى ، وسهام الصوب أنفذ ، فثمة من الأوصاف الصريحة ، والأشائر الصحيحة ، ما لا يبق معه وقفه لحائر .
هذا ، وفي كتبهم بشائر كثيرة ، تعرض لذكرها جلة من العلماء ، مما أناف على العشرين .
قال الماوردي : لعل ما لم يصل إلينا منها أكثر .
وقد اقتصرنا على ما قدمنا ، رَوْماً للإختصار ، ولسهولة الوقوف على البقية ، من مثل " أعلام النبوة " للماوردي و " إظهار الحق " وغيرهما .
وقد قال صاحب " إظهار الحق " الشيخ رحمه الله : إن من أسلم من علماء اليهود والنصارى في القرن الأول ، شهد بوجود البشارات المحمدية في كتب العهدين ، مثل عبد الله بن سلام ، وأبني سعية ، وبنيامين ، ومخيريق ، وكعب الأحبار ، وغيرهم من علماء اليهود ، ومثل بحيرا ونسطورا الحبشي ، وضغاطر ، وهو الأسقف الرومي الذي أسلم على يد دِحْية الكلبي وقت الرسالة فقتلوه ، والجارود ، والنجاشي ، والسوس ، والرهبان الذين جاءوا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله
عنه ، وغيرهم من علماء النصارى .
وقد اعترف بصحة نبوته ، وعموم رسالته ، هرقل قيصر الروم ، ومقوقس صاحب مصر ، وابن صوريا ، وحُيّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب وغيرهم ، ممن حملهم الحسد على الشقاء ولم يسلموا .
ولما ورد على النبي صلى الله عليه وسلم نصارى نجران ، وحاجهم في شأن عيسى عليه السلام وحجهم ، دعاهم إلى المباهلة بأمره تعالى ، فنكصوا على أعقابهم ، خوفاً من شؤم مغبتها ، فكانوا كقوم فرعون آمنوا بها : { وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } .
السادس : قوله تعالى : { يأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ } يحتمل أن يكون مستأنفاً ، وأن يكون مفسراً : { مَكْتُوباً } أي : لما كتب .
السابع : الطيبات أعم من الطيبات في المأكل كالشحوم ، وكذا البحائر والسوائب والوصائل والحام .
ومن الطيبات في حكم الشريعة كالبيع ، وما خلا كسبه عن سحت ، وكذا الخبائث ما يستخبث ، من نحو الدم والميتة ولحم الخنزير وما أُهل لغير الله به ، أو ما خبث في الحكم كالربا والرشوة وغيرهما من المكاسب الخبيثة .
قيل : يستبعد إرادة ما طاب أو خبث في الحكم ، لأن معناه حينئذ ما حكم الشرع بحله ، أو حكم بحرمته ، فيرجع الكلام إلى أنه يحل ما يحكم بحله ، ويحرم ما يحكم بحرمته ، ولا فائدة فيه .
وردوه بأن يفيد فائدة وأي فائدة ! لأن معناه أن الحل والحرمة بحكم الشرع ، لا بالعقل والرأي .
الثامن : في قوله تعالى : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم جاء بالتيسير والسماحة ، كما ورد الحديث من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < بعثت بالحنيفية السمحة > . وقال صلى الله عليه وسلم لأميريه معاذ وأبي موسى
الأشعري ، لما بعثهما إلى اليمن : < بشرا ولا تنفرا [ في المطبوع : تنفراص ] ، ويسراً ولا تعسراً ، وتطاوعاً ولا تختلفاً > .
وقدمنا أن الإصر والأغلال استعارة لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة ، فمنها تحريم طبخ الجدي بلبن أمه ، ومنها نظام الأعياد التي يعيدونها لله في السنة وهي عيد الفطير وعيد الحصاد وعيد المظال ، وكذلك عيد كل سبت ، لا يعلم فيه أدنى علم .
وكذلك سبت المزارع ، ففي كل سنة سابعة سبت للأرض ، لا يزرع فيها ، ولا يقطف الكرم ، بل تترك الأراضي عطلاً ، غلت الكروم مأكلاً لفقراء شعبهم ووحوش البرية .
ومنه أن من ضرب أباه أو أمه أو شتمهما أو تمرد عليهما وعصاهما
يقتل حداً . وكذا من يعمل يوم السبت يقتل ، ومن كان به جن أو تابعة يرجم بالحجارة حتى يموت ، ومن تزوج فتاة فادعى أنه لم يجد لها عذرة ، ثم تبين كذبه ، جميعاً يقتلان ، وإذا أمسكت امرأة عورة رجل تقطع يدها ، وإذا نطح ثور رجلاً أو امرأة فمات المنطوح يرجم الثور ولا يؤكل لحمه ، ومن اضطجع مع امرأة طمث يقطعان من شعبهم ، ومن طلق امرأته ثم تزوجت آخر ، وطلقها أو مات عنها ، فلا يجوز لزوجها الأول أن يرجعها ، وغير ذلك من الآصار التي تقدم بعضها في آخر سورة البقرة - فراجعه - .
التاسع : قال الجشمي : تدل الآية على أن شريعته صلى الله عليه وسلم أسهل الشرائع ، وأنه وضع عن أمته كل ثقل كان في الأمم الماضية ، وذلك نعمة عظيمة على هذا الأمة .
وتدل على وجوب تعظيم الرسول ، ونصره بالجهاد ، ونصرته بنصرة دينه ، وكل أمر يؤدي إلى توهين ما يتصل بذلك ، لأن جميع ذلك من باب النصرة .
وهذا لا يختص بعصره ، فجميع ذلك لازم إلى انقضاء التكليف ، ولعل الجهاد بالبيان ، وإيراد الحجة ، ووضع الكتب فيه ، وحل شبه المخالفين ، يزيد في كثير من الأوقات على الجهاد بالسيف ، ولهذا قلنا : منازل العلماء في ذلك أعظم المنازل .
العاشر : قال العلامة البقاعي : لما تراسلت الآي ، وطال المدى في أقاصيص موسى عليه السلام ، وبيان مناقبه العظام ، ومآثره الجسام ، وكان ذلك ربما أوقع في بعض النفوس أنه أعلى المرسلين منصباً ، وأعظمهم رتبة ، ساق سبحانه هذه الآيات هذا السياق ، على هذا الوجه ، الذي بين أعلاهم مراتب ، وأزكاهم مناقب ، الذي خص برحمته من يؤمن به من خلقه قوة أو فعلاً .
وجعل سبحانه ذلك في أثناء قصة بني إسرائيل ، إهتماماً به ، وتعجيلاً له ، مع ما سيذكر ، مما يظهر أفضليته ، ويوضح أكمليته ، بقصته مع قومه ، في مبدأ أمره وأوسطه ومنتهاه ، وفي سورة الأنفال وبراءة بكمالها .
ثم قال البقاعي : لما تم ما نظمه تعالى في أثناء هذه القصص ، من جواهر أوصاف هذا النبي الكريم ، حث على الإيمان به ، إيجاباً على وجه علم منه أنه رسول الله إلى كل مكلف ، تقدم زمانه أو تأخر ، أمره سبحانه أن يصرح بما تقدم التلويح إليه ، ويصرح بما أخذ ميثاق الرسل عليه ، تحقيقاً لعموم رسالته ، وشمول دعوته ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [ 158 ] .
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } أي : كافة .
{ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي
وَيُمِيتُ } نعوت للفظ الجلالة ، أي : الذي أرسلني هو خالق كل شيء وربه ومليكه الذي بيده الملك والإحياء والإماتة .
والآية نص في عموم بعثته للأحمر والأسود ، والعربي والعجمي . وفي الحديث : < أعطيت خمس لم يعطهن نبي قبلي - ولا أقولهن فخراً - بعثت إلى الناس كافة ، الأحمر والأسود ، ونصرن بالرعب مسيرة شهر ، وأُحلت لي الغنائم ، ولم تحل لأحد قبلي ، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، وأعطيت الشفاعة ، فأخرتها لأمتي ، فهي لمن لا يشرك بالله شيئاً > . رواه الإمام أحمد عن ابن عباس مرفوعاً ، ورواه أيضاً عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص قال : < قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد أعطيت الليلة خمساً ما أعطيهن أحد قبلي ، أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة ، وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه ، ونُصرت على العدو بالرعب ، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ منه رعباً ، وأحلت لي الغنائم ، آكلها ، وكان من قبلي يعظمون أكلها ، كانوا يحرقونها ، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت وكان من قبلي يعظمون ذلك ، إنما كانوا يصلون في بيعهم وكنائسهم ، والخامسة هي ما هي ! قيل لي : سل ، فإن كل نبيه قد سأل ، فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة ، فهي لكم ، ومن يشهد أن لا إله إلا الله > .
قال الحافظ ابن كثير : إسنادهما جيد قوي .
وروى الإمام أحمد بمعناه عن ابن عمر وأبي موسى ، وهو ثابت في الصحيحين عن جابر :
وأخرج مسلم عن أبي موسى قال : < قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي
بيده ! لا يسمع بي رجل من هذه الأمة ، يهودي ولا نصراني ، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار > .
{ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ } أي : الذي نبئ ما يرشد الخلائق كلهم ، مع كونه أمياً ، وفي نعته بذلك زيادة تقرير أمره وتحقيق أنه المكتوب في الكتابين .
{ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ } أي : ما أنزل عليه وعلى من تقدمه من الرسل من كتبه ووحيه { وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ 159 ] .
{ وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ } أي : موقنين ثابتين ، يهدون الناس بكلمة الحق ، ويدلونهم على الإستقامة ، ويرشدونهم .
{ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } وبالحق يعدلون بينهم في الحكم ، ولا يجورون .
والآية سيقت لدفع ما عسى يوهمه تخصيص كتب الرحمة والتقوى والإيمان بمتبعي رسول الله صلى الله عليه وسلم من حرمان أسلاف قوم موسى عليه السلام ، من كل خير ، وبين أن كلهم ليسوا كما حكيت أحوالهم .
وقيل هم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ويأباه أنه قد مر ذكرهم فيما سلف . أفاده أبو السعود .
وهذه الآية كقوله تعالى : { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } ، وقوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ 160 ] .
{ وَقَطَّعْنَاهُمُ } أي : قوم موسى { اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً } أي : صيرناهم قطعاً ، أي : فرقاً ، وميزنا بعضهم من بعض . والأسباط : أولاد الولد ، وكانوا اثنتي عشرة قبيلة ، من اثني عشر ولداً ، من ولد يعقوب عليه السلام .
{ أُمَماً } أي : عظيمة وجماعة كثيفة
العدد : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ } أي : في التيه
{ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ } فضربه : { فَانبَجَسَتْ } أي : انفجرت : { مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً } بعدد الأسباط .
{ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ } أي : سبط منهم { مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ } في التية من حر الشمس { وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } حيث أوجبوا لها العذاب الدائم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ } [ 161 ] .
{ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ } يعني بيت المقدس ، والقائل موسى عليه السلام ، دعاهم إلى دخول بيت المقدس ، أو يوشع ، فإنه دعاهم بعد وفاة موسى ، إلى غزو بيت المقدس : { وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ } أي : قولوا حط عنا ذنوبنا .
وقيل : أمروا بكلمة إذا قالوها حط عنهم أوزارهم { وَادْخُلُواْ الْبَابَ } أي : باب القرية : { سُجَّداً } أي : ساجدين أو خاضعين . أُمروا بأن يدخلوها بالتواضع ، وكان ذلك شرطاً في قبول فعلهم : { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ } [ 162 ] .
{ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ } وقد تقدم تفسير هذا كله في سورة البقرة بما يغني عن إعادته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [ 163 ] .
{ واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } هذا السياق هو بسط لقوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } .
فقوله تعالى : { وَاسْألْهُمْ } عطف على اذكر المقدر عند قوله : { وَإِذْ قِيلَ } أي : وأسأل اليهود المعاصرين لك ، سؤال تقريع وتقرير ، بقديم كفرهم وتجاوزهم حدود الله ، وإعلاماً بأن هذا من علومهم التي لا تعلم إلا بكتاب أو وحي ، فإذا أعلمهم به من يقرأ كتابهم ، علم أنه من جهة الوحي .
قوال ابن كثير : أي : واسأل هؤلاء اليهود بحضرتك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله ، ففاجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة ، وحذر هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في كتبهم ، لئلا يحل بهم ما حل بإخوانهم وسلفهم .
وهذه القرية هي أيلة ، بين مدين والطور ، وقيل هي متنا ، بين مدين وعينونا .
ومعنى كونها : { حَاضِرَةَ الْبحْرُ } أنها قريبة منه ، راكبة لشاطئه .
وقوله تعالى : { إِذْ يَعْدُونَ فِي السِّبْتِ } أي : يتجاوزون حد الله فيه ، وهو اصطيادهم في يوم السبت ، وقد نهوا عنه ، فقد أخذت عليهم العهود والمواثيق أن يحفظوا السبوت من عملٍ ما .
و الحيتان السمك ، وأكثر ما تستعمل العرب الحوت ، في معنى السمكة .
و : { شُرَّعاً } جمع شارع ، من شرع بمعنى دنا . يقال : شرع علينا فلان ، إذا دنا منا ، وأشرف علينا ، وشرعت على فلان في بيته ، فرأيته يفعل كذا ، وهو حال من : { حِيتاَنُهُمْْ } أي : تأتيهم يوم سبتهم ظاهرة على وجه الماء ، قريبة من الساحل ، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم أصلاً إلى السبت المقبل .
قرئ : { يُسْبِتُونَ } ثلاثياً ، ومزيداً فيه ، من أسبت معلوماً ومجهولاً أيضاً ، بمعنى ، لا يدخلون في السبت ولا يدار عليهم .
وقوله تعالى : { كَذَلِكَ نَبْلُوهُم } أي : مثل ذلك البلاء العجيب الفظيع ، نختبرهم بإظهار السمك لهم على ظهر الماء ، في اليوم المحرم عليهم صيده ، وإخفائه عنهم في اليوم الحلال لهم صيده ، أي : نعاملهم معاملة من يختبرهم ، بسبب فسقهم ، فيظهر عدوانهم ، فيستحقون المؤاخذة .
ثم بين تعالى تماديهم في العدوان ، وعدم انزجارهم عنه ، بعد العظات والإنذارات ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ 164 ] .
{ وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ } أي : جماعة من صلحائهم ، يحاورون فريقاً ممن دأب في عظتهم { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ } أي : مخترمهم ومطهّر الأرض منهم : { أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } أي : بل معذبهم عذاباً شديداً ، إذ مجرد الإهلاك قد يوجد معه لطف ، وأما شدة العذاب فتلك القاصمة .
{ قَالُواْ } أي : الوعاظ : { مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ } أي : نعظهم معذرة إليه تعالى ، لئلا ننسب إلى التفريط في وصيته بالنهي عن المنكر .
وقرئ بالرفع ، أي : موعظتنا معذرة { وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي : ورجاء في أن يتقوا فيتوبوا فينجوا من الإهلاك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } [ 165 ] .
{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } أي : فلما تركوا ما ذكرهم به صلحاؤهم ، ترك الناسي للشيء ، وأعرضوا عنه إعراضاً كلياً ، بحيث لم يخطر ببالهم شيء من تلك المواعظ أصلاً .
{ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ } أي : المرتكبين المنكر .
{ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } أي : شديد وزناً ومعنى { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } بفعل المنكر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [ 166 ] .
{ فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ } أي : تكبروا وأبوا أن يتركوا ما نهوا عنه { قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } أي : صاغرين أذلاء ، بُعداء من الناس .
قال الزجاج : أمروا بأن يكونوا كذلك بقولٍ سُمع .
وقال غيره : المراد بالأمر هو الأمر التكويني ، لا القولي ، أي : التكليفي ، لأنه ليس في وسعهم حتى يؤمروا به .
وفي الكلام استعارة تخييلية ، شبه تأثير قدرته تعالى في المراد من غير توقف ، ومن غير مزاولة عمل واستعمال آلة ، بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور به ، من غير توقف . كذا في " العناية " .
وظاهر الآية يقتضي أن الله تعالى عذبهم أولاً بعذاب شديد ، فعتوا بعد ذلك فمسخهم ، ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريراً وتفصيلاً لما قبلها .
تنبيهات :
الأول : قال الجشمي : تدل الآية على أنهم تعبدوا بتحريم الصيد يوم السبت ، وأنه شدد التكليف عليهم بظهورها يومئذ ، وأنهم خالفوا أمر الله ، وهذا القدر يقتضيه الظاهر .
ومتى قيل : أفظهور الحيتان يوم السبت دون غيره من الأيام ، هل كانت معجزة ؟
قلنا : اختلفوا فيه ، فقيل : كان معجزة لنبي ذلك الزمان ، لأنه لا يتفق للسمك أن يأتي الأنهار كثيراً في يوم واحد ، ولا يظهر في سائر الأيام ، فإن كان كذلك ، فلا بد أن الله تعالى قوى دواعي الحيتان يوم السبت ، فظهروا ، وصرفهم في سائر الأيام ، فلم يظهروا ، فكانت معجزة .
وقيل : كانت جرت عادتهم بترك الصيد يوم السبت ، فعلموا ذلك فكثروا في ذلك اليوم على عادتهم ، كما اعتاد الدواب كثيراً من الأشياء . انتهى .
وقد روي في اعتدائهم في السبت روايات :
منها : أنهم تحيلوا لاصطياد الحيتان فيه بوضع الحبائل والبرك قبل يوم السبت ، حتى إذا جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة ، نشبت بتلك الحبائل ، فلم تخلص منها يومها ، فإذا كان الليل ، أخذوها بعد انقضاء السبت .
ومنها : أنهم كانوا يأخذونها يوم السبت بالفعل ، ولكن يأكلونها في غيره من الأيام ، فتأول لهم الشيطان أن النهي عن الأكل فيه منها ، لا عن صيدها ، فنهتهم طائفة منهم عن ذلك وقالت : ما نراكم تصبحون حتى يصبحكم الله بخسف ، أو قذف ، أو بعض ما عنده من العذاب ، فلما أصبحوا وجدوهم أصابهم من المسخ ما أصابهم ، وإذا هم قردة - رواه عبد الرزاق وابن جرير - وثمة روايات أخر .
وروي عن مجاهد أنهم مسخت قلوبهم ، لا أبدانهم - والله أعلم - .
الثاني : اسُتدل بهذه القصة على تحريم الحِيَلِ .
قال الإمام ابن القيم في " إغاثة اللهفان " : ومن مكايد الشيطان التي كاد بها الإسلام وأهله ، الحيل والمكر والخداع ، الذي يتضمن تحليل ما حرم الله ، وإسقاط ما فرضه ، ومضادته في أمره ونهيه ، وهي من الرأي الباطل الذي اتفق السلف على ذمه .
فإن الرأي رأيان : رأي يوافق النصوص ، وتشهد له بالصحة والإعتبار ، وهو الذي اعتبره السلف ، وعملوا به ، ورأي يخالف النصوص ، وتشهد له بالإبطال والإهدار ، فهو الذي ذموه وأنكروه .
وكذلك الحيل نوعان : نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله تعالى به ، وترك ما نهى عنه ، والتخلص من الحرام ، وتخليص المحق من الظالم المانع له ، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي ، فهذا النوع محمود ، يثاب فاعله ومعلمه . ونوع يتضمن إسقاط الواجبات ، وتحليل المحرمات ، وقلب المظلوم ظالماً ، والظالم مظلوماً ، والحق باطلاً ، والباطل حقاً ، فهذا الذي اتفق السلف على ذمه ، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض .
ثم ساق الوجوه العديدة على تحريمه وإبطاله .
وقال في سادسها :
إن الله تعالى أخبر عن أهل السبت من اليهود بمسخهم قردة لما اختالوا على إباحة ما حرمه الله تعالى عليهم من الصيد ، بأن نصبوا الشباك يوم الجمعة ، فلما وقع فيها الصيد ، أخذوه يوم الأحد .
قال بعض الأئمة : ففي هذا زجر عظيم لمن يتعاطى الحيل على المناهي الشرعية ، ممن يتلبس بعلم الفقه ، وهو غير فقيه ، إذ الفقيه من يخشى الله تعالى بحفظ حدوده ، وتعظيم حرماته ، والوقوف عندها ، ليس المتحيل على إباحة محارمه ، وإسقاط فرائضه .
ومعلوم أنهم لم يستحلوا ذلك تكذيباً لموسى عليه السلام وكفراً بالتوراة ، وإنما هو استحلال تأويل ، واختيال ظاهره ظاهر الإيفاء ، وباطنه باطن الاعتداء ، ولهذا - والله أعلم - مسخوا قردة ، لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الْإِنْسَاْن ، وفي أوصافه شبه منهم ، وهو مخالف له في الحد والحقيقة .
فلما نسخ أولئك المعتدون دين الله تعالى بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين في بعض ظاهره ، دون حقيقته ، مسخهم الله قردة يشبهونهم في بعض ظواهرهم ، دون الحقيقة ، جزاء وفاقاً .
ثم روي في عاشرها عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود ، وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل > .
الثالث : دلت الآيات على أن أهل هذه القرية صاروا إلى ثلاث فرق : فرقة ارتكبت المحذور ، واحتالوا على صيد السمك يوم السبت ، كما بينا . وفرقة نهت
عن ذلك واعتزلتهم ، وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه ، ولكنها قالت للمنكرة : لم تنهون هؤلاء ، وقد علمتم أنهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة من الله فلا فائدة في نهيكم إياهم ؟
فأجابتها المنكرة : بأنا نفعل ذلك اعتذاراً إلى ربنا فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ثم نص الله على نجاة الناهين ، وهلاك الظالمين .
وقال ابن كثير : وسكت عن الساكتين ، لأن الجزاء من جنس العمل ، فهم لا يستحقون مدحاً فيمدحوا ولا ارتكبوا عظيماً فيذموا ، ومع هذا فقد اختلف الأئمة فيهم : هل كانوا من الهالكين ، أو من الناجين ؟ على قولين .
ويروى أن ابن عباس كان توقف فيهم ، ثم صار إلى نجاتهم ، لما قال له غلامه عِكْرِمَة : ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه ، خالفوهم ، وقالوا : لم تعظون قوماً الله مهلكهم ؟ فكساه حلة .
الرابع : دل قوله تعالى : { قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } على أن النهي عن المنكر لا يسقط ، ولو علم المنكر عدم الفائدة فيه ، إذ ليس من شرطه حصول الإمتثال عنه ، ولو لم يكن فيه إلا القيام بركن عظيم من أركان الدين ، والغيرة على حدود الله ، والإعتذار إليه تعالى ، وإذ شدد في تركه لكفاه فائدة .
ولما ذكر تعالى بعض مساوئ اليهود ، تأثره ببيان أنه حكم عليهم بالذل والصغار إلى يوم القيامة فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 167 ] .
{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ } أي : آذن ، كتوعد بمعنى أوعد ، من الإيذان بمعنى الإعلام ، أُجري مجرى فعل القسم ، كعلم الله ، وشهد الله .
ولذلك أجيب بما يجاب به القسم ، وهو قوله : { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ } والمعنى : وإذ ختم ربك وحكم ليسلطن على اليهود : { إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } كالإذلال وضرب الجزية وغير ذلك ، بسبب عصيانهم ومخالفتهم أوامر الله وشرعه ، واحتيالهم على المحارم ، وقد بعث الله تعالى بعد سليمان عليه السلام بختنصر مالك بابل ، فخرب ديارهم ، وقتل مقاتلتهم ، وسبى نساءهم وذراريهم ، وضرب الجزية على من بقي منهم ، وجلى [ في المطبوع : وجلاً ] كثيراً منهم إلى بابل - قصبة ممكلته - وأقاموا فيها سبعين سنة ، ثم تسلطت عليهم ملوك شتى ، ولبثوا زماناً طويلاً يكابدون بلاء عنيفاً ، من تواتر تسلطت عليهم ملوك شتى ، ولبثوا زماناً طويلاً يكابدون بلاء عنيفاً ، من تواتر
الحروب على بلادهم ، إلى أن صاروا جميعاً تحت سلطة الرومان ، بعد ولادة عيسى عليه السلام بإحدى وسبعين سنة ، واستؤصلوا من أرضهم ، تفرقوا في البلاد شذر مذر ، صاغرين مقهورين .
ومن ها هنا ، استدل من استدل بأنهم لا يكون لهم دولة ولا عز ، وباتصال ذلهم .
{ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ } لمن أقام على كفره ، ونبذ وصاياه : { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : لمن تاب وآمن وعمل صالحاً .
ثم أخبر تعالى عن تبددهم في الأقطار بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ 168 ] .
{ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً } أي : فرقنا بني إسرائيل في الأرض ، وجعلنا كل فرقة منهم في قطر من أقطارها ، بحث لا تخلو ناحية منها منهم ، تكملة لإدبارهم حتى لا تكون لهم شوكة .
{ مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ } أي : من ينحط عن درجة الصلاح ، لكفر أو فسق { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ } أي : النعم والنقم التي هي أمثلة جزاء الصلاح والفسق { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي : عن أسباب السيئات إلى الحسنات .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ 169 ] .
{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ } أي : من بعد هؤلاء المذكورين { خَلْفٌ } أي : بدل سوء ، والمراد بهم الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والخلف مصدر ، ولذا يوصف به المفرد وغيره ، وقد شاع في الطالح ، ومفتوح اللام بالصالح ، وربما جاء عكسه .
{ وَرِثُواْ الْكِتَابَ } أي : التوراة من أسلافهم المختلفين ، يقرؤونها ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي ، والتحليل والتحريم ، ولا يعملون بها كما قال :
{ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى } أي : حطام هذا الشيء الأدنى ، يريد الدنيا ، وما يتمتع به منها .
وفي قوله : { هَذا الأدْنى } تخسيس وتحقير . والعرض بفتح الراء ، ما لا ثبات له ، ومنه استعار
المتكلمون العرض لمقابل الجوهر .
و الأدنى إما من الدنو ، بمعنى القرب ، لأنه عاجل قريب بالنسبة إلى الآخرة ، وإما من دنو الحال وسقوطها وقلتها .
{ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } أي : يعتاضون عن بذل الحق ونشره ، بعرض الحياة الدنيا ، ويتحكمون على الله تعالى بأنه لا يؤاخذهم بما أخذوا .
{ وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } الواو للحال ، أي : يرجون المغفرة ، وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم ، غير تائبين ، كلما لاح لهم مثل الأول أخذوه .
{ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ } أي : الميثاق الوارد فيه ، { أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ } أي : فلوا صح ما تحكموا به على الله ، لم يكن لأخذ هذا الميثاق معنى .
ثم أخبر تعالى أن أخذهم ليس عن جهلهم بذلك الميثاق بقوله : { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } أي : قرؤوا ما في الكتاب من الميثاق مرة بعد مرة .
{ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ } أي : من ذلك العرض الخسيس
{ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } أي : أخذ هذا الأدنى بدل كتم الحق .
{ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي : فتعلموا ذلك ، فلا تستبدلوا الأدنى المؤدي إلى العقاب ، بالنعيم المخلد ، وقرئ بالياء ، وفي الإلتفات تشديد للتوبيخ .
ثم أثنى تعالى على تمسك بكتابه الذي يقوده إلى اتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، كما هو مكتوب فيه ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ } [ 170 ] .
{ وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ } أي : يتمسكون به في أمور دينهم . يقال : مسك بالشيء وتمسك به . وقرئ ( يُمْسكون ) ، من الإمساك ، وتمسكوا واستمسكوا .
{ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ } من وضع الظاهر موضع المضمر ، تنبيهاً على أن الإصلاح كالمانع من التضييع ، لأن التعليق بالمشتق يفيد علة مأخذ الاشتقاق فكأنه قيل : لا نضيع أجرهم لإصلاحهم .
فإن قلت : التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة ، ومنها إقامة الصلاة ، فكيف أفردت ؟
أجيب : بأن إفرادها ، إظهاراً لمزية الصلاة لكونها عماد الدين ، وفارقة بين الكفر والإيمان .
قال الجشمي : تدل الآية على وعيد المعرض عن الكتاب ، وعد من تمسك به ، تنبيهاً لنا وتحذيراً عن سلوك طريقتهم . وتدل على أن الإستغفار باللسان ، وتمني المغفرة لا ينفع حتى يكون معهما التوبة والعمل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ 171 ] .
{ وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ } أي : رفعناه : { كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ } أي : سحابة : { وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } أي : ساقط عليهم ، لأن الجبل لا يثبت في الجو .
{ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم } أي : وقلنا ، أو قائلين : خذوا ما آتيناكم من أحكام التوراة : { بِقُوَّةٍ } أي : عزيمة وجد : { وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ } أي : بالعمل ولا تتركوه كالمنسي : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي : مساوئ الأعمال ، أو راجين أن تنظموا في سلك المتقين . وهذه الآية كقوله : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّور } .
وقد روي عن ابن عباس وغيره من السلف : أنهم راجعوا موسى في فرائض التوراة وشرائعها ، حتى رفع الله الجبل فوق رؤوسهم ، فقال لهم موسى : ألا ترون ما يقول ربي عز وجل ؟ لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها ، لأرمينكم بهذا فخروا سجداً ، فَرَقاً من أن يسقط عليهم . رواه النسائي وسُنَيْد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } [ 172 ] .
{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } أي : أخرج من أصلابهم نسلهم على ما يتوالدون قرناً بعد قرن ، من أنهم كانوا نطفة قذفت إلى رحم الأمهات ، ثم جعلت علقة ، ثم مضغة ، ثم أنشأهم بشراً سوياً حياً مكلفاً ، فجعل خلقه إياهم كذلك ، إخراجاً من أصلابهم ، لأن أصلهم خرج منها ، و
{ مِن ظُهُورِهِمْ } بدل من : { بني آَدَمَ } بدل البعض ، وقرئ
( ذرياتهم ) .
{ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ } أي : أشهد كل واحدة من أولئك الذاريات المأخوذين من ظهور آبائهم على نفسها ، تقريراً لهم بربوبيته التامة .
قال الجشمي : أي : أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته ، وعجائب خلقته ، وغرائب صنعته ، من أعضاء سوية ، وحواس مدركة ، وجوارح ظاهرة ، وأعصاب وعروق وغير ذلك ، مما يعلمه من تفكر فيه ، وكلها تدل عليه وعلى صفاته ووحدانيته ، فبالإشهاد بالأدلة ، صار كأنه أشهدهم بقوله .
وقوله تعالى : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ } على إرادة القول ، أي : قائلاً ألست بربكم ، ومالك أمركم ومربيكم على الإطلاق ، من غير أن يكون لأحد مدخل في شأن من شؤونكم ، فينتظم استحقاق المعبودية ، ويستلزم اختصاصه به تعالى : { قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا } أي : على أنفسنا بأنك ربنا وإلهنا لا رب غيرك ، لأنهم بما ظهر عليهم من آثار الصنعة صاروا كأنهم قالوا : { بلى } ، وإن لم يكن هناك قول باللسان .
فالآية من باب التمثيل المعروف في كلام العرب ، مثل تعالى خلقهم على فطرة التوحيد ، وإخراجهم من ظهور آبائهم ، شاهدين بربوبيته شهادة لا يخالجها ريب ، بحمله إياهم على الإعتراف بها بطريق الأمر ، ومسارعتهم إلى ذلك من غير تلعثم أصلاً .
والقصد من الآية الإحتجاج على المشركين بمعرفتهم ربوبيته تعالى معرفة فطرية ، لازمة لهم لزوم الإقرار منهم والشهادة . قال تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } ، والفطرة هي معرفة ربوبيته .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ؟ > .
والجمعاء سالمة الأذن والجدعاء مقطوعتها .
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم < يقول إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين ، فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم > .
وروى الطبري عن الحسن عن الأسود بن سريع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواها يهوّدانها أو ينصّرانها > .
قال الحسن : والله لقد قال الله في كتابه : { وإِذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بِني آَدمَ } الآية ـ رواه الإمام أحمد والنسائي ـ بدون استشهاد الحسن بالآية .
وأما الأخبار المروية في إخراج الذرية من صلب آدم عليه السلام ، وتكليمه تعالى إياهم ونطقهم ، ثم إعادتهم إلى صلب أبيهم ، فغير صحيحة الإسناد .
وما حسن إسناده منها فغير صريح في ذلك ، بل هو أقرب إلى ألفاظ الآية ، كما بينه الحافظ ابن كثير ، قال رحمه الله :
ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف : إن المراد بهذا الإشهاد فطرهم على التوحيد كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض والأسود . وقد فسر الحسن الآية بذلك .
قالوا : ومعنى أشهدهم أي : أوجدهم شاهدين بذلك ، قائلين له حالاً وقالاً .
والشهادة تارة تكون بالقول ، كقوله : { قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } الآية ، وتارة تكون حالا كقوله تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْر } أي : حالهم شاهداً عليهم بذلك ، لأنهم قائلون ذلك ، وكذا قوله تعالى : { وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } ، كما أن السؤال تارة يكون بالقال ، وتارة يكون بالحال ، كقوله : { وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوه } .
قالوا : مما يدل على أن المراد هذا ، أن جعل الإشهاد حجة عليهم في الإشراك ، فلو كان قد وقع كما قاله من قاله ، لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه .
فإن قيل : إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم به كاف في وجوده ، فالجواب : أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره ، وهذا جعل حجة مستقلة عليهم ، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد .
{ أَن تَقُولُواْ } أي : كراهة أن تقولوا .
{ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : الذي يسأل فيه عن الربوبية والتوحيد .
{ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا } أي : عن ربوبيته وتوحيده { غَافِلِينَ } أي : لم ننبه عليه .
فإنهم حيث جبلوا على ما ذكر ، صاروا محجوبين عاجزين عن الإعتذار بذلك ، إذ لا سبيل لأحد إلى إنكار ما ذكر من خلقهم على الفطرة السليمة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ } [ 173 ] .
{ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا } أي : سنوا الإشراك واخترعوه : { مِن قَبْلُ } أي : من
قبل زماننا : { وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ } أي : فنشأنا على طريقتهم ، احتجاجاً بالتقليد ، وتعويلاً عليه ، فقد قطعنا العذر بما بيّنا من الآيات .
{ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ } أي : أتؤاخذنا بما فعل آباؤنا من الشرك ، وأسسوا من الباطل ، أو بفعل آبائنا الذي أبطلوا تأثير والعقول ، وأقوال الرسل ؟ والإستفهام للإنكار ، أي : أنت حكيم لا تأخذ الأبناء بفعل الآباء ، وقد سلكنا طريقهم والحجة عليهم بما شعروا لنا من الباطل .
والمعنى : أزلنا الشبهتين بأن الإقرار بالربوبية والتوحيد ، هو في أصل فطرتكم ، فلم لم ترجعوا إليه عند دعوة العقول والرسل ؟ والفطرة أكبر دليل ، فهي تسد باب الإعتذار بوجه ما ، لا سيما والتقليد عند قيام الدلائل ، والقدرة على الإستدلال بها ، مما لا مساغ له أصلاً .
تنبيهات :
الأول : وافق الإمام ابن كثير ، في هذا المقام أيضاً الجشمي في تفسيره ، قال : ويروي أصحاب الحديث أسلافهم من الآثار موقوفة ومرفوعة ، ويجعلون ذلك تأويلاً للآية ، وهو أنه تعالى مسح ظهر آدم ، فأخرج منه ذريته ، أمثال الذر ، فقال : ألست بربكم ؟ فقالوا : بلى طائعين ، ثم أعادهم في صلب آدم . وإن تأويل الآية على ذلك .
قال : وقد ذكر مشايخنا رحمهم الله أن ذلك فاسد ، وأن ظاهر الآية يخالف ذلك ، وذكروا في الرواية ما نذكره .
قالوا : فمما يدل على فساده وجوه :
منها : أنه لو كان حال كما ذكروا ، لذكرناه ، لأن مثل ذلك الأمر العظيم لا ينساه العاقل ، خصوصاً إذا كان أشهاداً عليه ، ليعمل به .
ومنها : ما ذكره شيخنا أبو علي ، أن ظهر آدم لا يسع هذا الجمع العظيم ، وهذا شنيع من الكلام .
ومنها : أنه ذكر أنه خلقنا من نطفة ، وكل ولد ولد من أب ومن نطفة ، فلو خلقهم ابتداء لا من شيء ، لم يصح ذلك .
ومنها : أن الجزء الواحد ، لا يجوز أن يكون حياً عاقلاً ، لأن تلك البنية ، لا تحمل الحياة ، فلا بد من أن يكون مؤلفاً من أجزاء ، وحينئذ لا يصح أن يكون الجميع في ظهر آدم .
ومنها : أنه يفتح باب التناسخ ، والقول بالرجعة ، لأن لهم أن يقولوا : إذا جاز الإعادة ثمة ، لم ينكر التناسخ .
ومنها : أنه لا بد أن يكون فيه فائدة ، وفائدته أن يذكره ليجري على تلك الطريقة ، وإذا لم يذكره بطلت فائدته .
ومنها : أن الإعتراف لا يصح إلا وقد تقدم حال لهم عرفوا
ذلك ، فكيف يصح في ابتداء الخلق ، إلى غير ذلك مما لا يقبله العقل .
ثم قال : قال مشايخنا رحمهم الله : والآية ظاهرها بخلاف قولهم من وجوه :
منها : أنه : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ } ولو يقل : من آدم . وقال : { مِن ظُهُورِهِمْ } ولم يقل : من ظهره ، وقال : { ذُرِّيَّتَهُمْ } ولم يقل : ذريته .
ومنها : أنه قال : { أَن تَقُولُواْ } يعني فعل ذلك ، لكيلا تقولوا : { إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } وأي غفلة أعظم من أن جميع العقلاء لا يذكرون شيئاً من ذلك .
ومنها : أنه قال : { إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا } ولم يكن لهم يومئذ أب مشرك .
وكل ذلك يبين فساد ما قالوا ، ولم يصحح أحد من مشايخنا هذه الرواية ، ولا قبلها ، بل ردها ، غير أبي بكر أحمد بن علي ، فإنه جوز ذلك من غير قطع على صحته ، غير أنه قال : ليس ذلك بتأويل الآية ، وذكر أن فائدة ذلك أن يجروا على الأعراق الكريمة في شكر النعمة ، والإقرار بالربوبية .
كما قال : إنهم ولدوا على الفطرة ، قال : وأخرجهم كالذر ثم ألهمهم حتى قالوا بلى . انتهى ما قاله الجشمي .
الثاني : استدل بهذه الآية والأحاديث المتقدمة في معناها ، أن معرفته تعالى فطرية ضرورية ، قال تعالى : { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكّ } ، و قال تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } .
{ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ } .
وعن عِمْرَان بن حصين قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي : < يا حصين : كم تعبد اليوم إلهاً ؟ > قال أبي : سبعة ، ستاً في الأرض ، وواحداً في السماء ؟ قال : < فأيهم تُعد لرغبتك ورهبتك ؟ > قال : الذي في السماء . - رواه الترمذي-
فالله تعالى فطر الخلق كلهم
على معرفته فطرة توحيد ، حتى من خلق مجنوناً مطبقاً مصطلماً لا يفهم شيئاً ، ما يحلف إلا به ، ولا يلهج لسانه بأكثر من اسمه المقدس ، فطرة بالغة .
قال التقي ابن تيمية : إن الإقرار والإعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس ، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته ، حتى يحتاج إلى نظر ، يحصل له به المعرفة وهذا قول جمهور الناس ، وعليه حذاق النظار أن المعرفة تحصل بالضرورة ، وقد تحصل بالنظر لمن فسدت فطرته ، كما اعترف بذلك خلائق من أئمة المتكلمين .
وقال أيضاً : ذهب طوائف من النظار إلى أن معرفة الله واجبة ، ولا طريق لها إلا بالنظر فأوجبوا النظر على كل أحد . وهذا القول إنما اشتهر في الأمة عن المعتزلة ونحوهم .
ولهذا قال أبو جعفر السمناني وغيره : إيجاب الأشعري النظر في المعرفة بقية بقيت عليه من الإعتزال .
وذكر رحمه الله أن الذي يدل عليه كلامه الأئمة والسلف - وهو أعدل الأقوال - أن النظر يجب في حال دون حال ، وعلى شخص دون شخص ، فوجوبه من العوارض التي تجب على بعض الناس في بعض الأحوال ، لا من اللوازم العامة .
والذين أوجبوا النظر ليس معهم ما يدل على عموم وجوبه ، إنما يدل على أنه قد يجب ، كقوله تعالى : { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض } ، وقوله : { فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ } فإنه خطاب مع المتكبرين الجاحدين ، أُمروا بالنظر ، ليعرفوا الحق ، ويقروا به ، ولا ريب أن النظر يجب على هؤلاء .
قال أبو حيان التوحيدي في " مقابساته " ، في المقابسة الثانية والأربعين :
قيل لأبي الخير : حدثنا عن معرفة الله ، تقدس وعلا ، ضرورة هي أم استدلال ؟ فإن المتكلمين في هذا اختلفوا اختلافاً شديداً ، وتنابذوا عليه تنابذاً بعيداً ، ونحب أن يحصل لنا جواب ، فيفسر على حد الإختصار مع البيان .
فقال : هي ضرورة من ناحية العقل ، واستدلال من ناحية الحس ، ولما كان كل مطلوب من العلم إما أن يطلب بالعقل في المعقول ، أو بالحس في المحسوس ، ساغ أن يظن مرة أن معرفته تعالى اكتساب واستدلال ، لأن الحسن يتصفح ويستقوي بمؤازرة العقل ومظاهرته وتحصيله ، وأن يظن تارة أنها ضرورة ، فإن العقل السليم من الآفة ، البريء من العاهة ، يحث على الإعتراف بالله تقدس اسمه ، ويحظر على صاحبه جحده وإنكاره والتشكك فيه لكن ضرورة فيه لكن ضرورة لائقة بالعقل ، لأن ضرورة العقل ليست
كضرورة الحس ، لأن ضرورة الحس فيها جذب واختيار ، وحمل وإكراه ، وضرورة العقل لطيفة جداً ، لأنه يعظ ويلاطف وينصح ويخفف .
ثم ضرب مثلاً لطيفاً ، وقال بعده : فعلى هذا ، فإن الله تقدس اسمه ، معروف عند العقل بالإضطرار ، لا ريب عنده في وجوده ، ومستدل عليه عند الحس ، لأنه يستحيل كثيراً ولا يثبت أصلاً ، فمن استدل ترقى من الجزئيات ، ومن ادعى الإضطرار انحدر من الكليات .
وكلا الطريقين قد وضح بهذا الإعتبار و كُفي مؤونة الخبط والإكثار .
فأما ما ينظر منه في الجدال ، فلا يرث منه إلا الشك والفرقة والحمية والعصبية ، وهناك للهوى ولادة وحضانة ، وللباطل استيلاء وجولة ، وللحيرة ركود وإقامة . أخذ الله بأيدينا ، وكفانا الهوى الذي يؤذينا . انتهى .(/)
وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ 174 ] .
{ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي : مثل ما ذكرنا ، نُبين الأدلة والحجج ، ليرجعوا إلى الحق .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } [ 175 ] .
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ } أي : على قومك أو على اليهود : { نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا } أي : علم الكتاب ، فلطف به حتى تعلم وفهم المعاني ، وصار عالماً بها { فَانسَلَخَ مِنْهَا } بأن نزع العلم عنه فكفر بها ، وخرج منها خروج الحية من جلدها { فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ } أي : فلحقه وأدركه وصار قريناً له حتى أضله
{ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ 176 ] .
{ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } أي : لعظمناه بالعمل بها { وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ } أي :
مال إلى الدنيا ورغب فيها { وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } وذلك لأنه استوى في حقه إيتاء الآيات ، والتكليف بها ، والتعظيم من أجلها ، وعدم ذلك .
كالكلب يدلع لسانه بكل حال ، إن تحمل عليه ، أي : تشد عليه وتهيجه ، أو تتركه غير متعرض له بالحمل عليه ، فلهثه موجود في الحالتين جميعاً .
{ ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } أي : من التوراة أو غيرها { فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } [ 177 ] .
{ سَاء } أي : ما مثل به { مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا }
أي : حيث شبهوا بالكلاب ، إما في استواء الحالتين في النقصان وأنهم ضالون ، وعظوا أم لم يوعظوا كما قدمنا ، وإما في الخسة ، فإن الكلاب لا همة لها إلا في تحصيل أكلة أو شهوة ، فمن خرج عن حيز الهدى والعلم ، وأقبل على هواه ، صار شبيهاً بالكلب ، وبئس المثل مثله .
ولهذا ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال : < ليس لنا مثل السوء ، العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه > .
{ وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } اعلم أن من السلف من ذهب إلى أن هذه الآية مثل ضربه الله لمن عرض عليه الإيمان فأبى أن يقبله وتركه ، وهو قول قتادة وعكرمة واختاره أبو مسلم ، حيث قال : قوله : { آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا } أي : بيناها ، فلم يقبل ، وعرى منها .
وسواء قولك : انسلخ وعرى وتباعد ، وهذا يقع على كافر لم يؤمن بالأدلة ، وأقام على الكفر .
قال : نظيره قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُم } ، وقال في حق فرعون : { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى } .
ومنهم من ذهب إلى أن الموصول فيها أريد به معين ، فروي عن عبد الله بن عُمَر وسعيد بن المسيب وزيد ابن أسلم وأبي روق أنه أمية بن أبي الصلت ، فإنه كان قد قرأ الكتب ، وعلم أن الله مرسل رسولاً في ذلك الوقت ، ورجا أن يكون هو ، فلما أرسل الله محمداً عليه الصلاة والسلام ، حسده ، ثم مات كافراً ، ولم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي قال فيه رسول الله : < إنه آمن شعره وكفر قلبه > يريد أن شعره كشعر المؤمنين ، وذلك أنه يوحد الله في شعره ، ويذكر دلائل توحيده .
وقيل : نزلت في أبي عامر الراهب ، الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم الفاسق ، كان يترهب في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام ، وأمر المنافقين باتخاذ مسجد الضرار والشقاق ، وأتى قيصر واستنجده على النبي صلى الله عليه وسلم ، فمات هناك طريداً وحيداً . وهو قول سعيد بن المسيب .
وقيل نزلت في منافقي أهل الكتاب ، كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنكروه . عن الحسن والأصم .
وقيل : إنه فرعون ، والآيات آيات موسى ، كأنه لما اقتص أنبياء بني إسرائيل عاد إلى قصة فرعون وضرب المثل .
ومن الأقوال التي تناقلها المفسرون أنها نزلت في بلعام بن بعور ، ويحكون عنه قصة لم تُرو في جوامع الآثار الصحيحة عندنا ، ولا هي مطابقة لما عند أهل الكتاب .
فقد ذكر نبؤه في الفصل الثاني والعشرين والثالث والعشرين من سفر العدد ، من تاريخ التوراة ، بغير ما يرويه المفسرون عنه ، ثم رأيت الجشمي لم يصحح ذلك ، فحمدت المولى على الموافقة . وعبارته :
وعن مجاهد قال : هو نبي يقال له بلعم ، رشاه قومه فكفر . وهذا لا يجوز ، لأن الأنبياء لا يجوز عليهم الكفر ، لأن ذلك ينفر الخلق عن الأنبياء ، والقبول منهم ، ويحقرهم في النفوس ، ولأنهم حجج الله على خلقه اصطفاهم .
فالأقرب أنه لا يصح عن مجاهد . انتهى .
وهو كذلك لأن من قرأ نبأه السفر المتقدم ، رأى من ثباته ، وعدم موافقته لبالاق ، ملك مؤاب ، على ما أراد منه - ما يبرئه عن ذلك .
تنبيه :
قال الجشمي : إن قيل : كيف تتصل الآية بما قبلها ؟
قلنا : على القول بأنه عنى بها فرعون فقد اتصلت قصته بقصة بني إسرائيل .
وقيل لما نهى عن تقليد الآباء في الدين ، بين في هذه الآية حال علماء السوء ، الذين يختارون الدنيا على الآخرة ، نهياً عن تقليدهم واتباعهم ، كما نهى عن تقليد الآباء .
وقيل : لما تقدم ذكر أخذ الميثاق ، بين حال من آتاه الله الآيات فانسلخ منها ولم يتبعها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [ 178 ]
{ مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } قال أبو السعود : لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقص قصص المنسلخ على هؤلاء الضالين الذين مثلهم كمثله ، ليتفكروا فيه ، ويتركوا ما هم عليه من الإخلاد إلى الضلالة ، ويهتدوا إلى الحق عقب ذلك بتحقيق أن الهداية والضلالة من جهة الله عز وجل ، وإنما العظة والتذكير من قبيل الوسائط العادية في حصول الإهتداء ، من غير تأثير لها فيه ، سوى كونها دواعي إلى صرف العبد اختياره نحو تحصيله ، حسبما نيط به خلق الله تعالى إياه ، كسائر أفعال العباد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [ 179 ] .
{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا } أي : خلقنا { لِجَهَنَّمَ } أي : لدخولها والتعذيب بها { كَثِيراً مِّنَ الْجِنِ وَالإِنسِ } وهم الكفار من الفريقين ، الموصوفون بقوله تعالى : { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } أي :
آيات الله الهادية إلى الكمالات { وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا } أي : دلائل وحدته ، بصَرَ اعتبار { وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا } أي : الآيات والمواعظ سماع تدبر واتعاظ ، يعني أنهم لا ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله سبباً للهداية ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّه }
{ أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ } أي : السارحة التي لا تنتفع بهذه الحواس منها ، إلا في الذي يقيتها ، كقوله تعالى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاء } أي : ومثلهم في حال دعائهم إلى الإيمان ، كمثل الأنعام إذا دعاها راعيها ، لا تسمع إلا صوته ، ولا تفقه ما يقول .
وقوله تعالى : { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } أي : الأنعام ، إذ ليس للأنعام قوة تحصيل تلك الكمالات ودفع تلك النقائص ، وهم مع ما لهم من تلك القوة قد خلوا عن الكمالات ، وعن دفع أضدادها ، فكانوا أردأ حالاً منها ، لنقصهم مع وجود قوة الكمال فيهم . وأيضاً : الأنعام تبصر
منافعها ومضارها ، فتلزم بعض ما تبصره ، وهؤلاء أكثرهم يعلم أنه معاند ، فيقدم على النار .
وأيضاً : الأنعام قد تستجيب لراعيها ، وإن لم تفقه كلامه ، بخلاف هؤلاء ، وأيضاً : إنها تفعل ما خلقت له ، إما بطبعها ، وإما بتسخيرها ، بخلاف هؤلاء ، فإنهم خلقوا ليعبدوا الله ، ويوحدوه ، فكفروا به وأشركوا .
{ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } أي : عن تلك الكمالات والنقائص ، ليهتموا لتحصيلها ودفعها ، اهتمامهم لجر المنافع الدنيوية ، ودفع مضارها .
تنبيه :
قال أبو السعود : المراد بهؤلاء الذي ذُرئوا لجهنم ، الذين
حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة ، لكن لا بطريق الجبر ، من غير أن يكون من قبلهم ما يؤدي إلى ذلك ، بل لعلمه تعالى بأنهم لا يصرفون اختيارهم نحو الحق أبداً ، بل يصرون على الباطل من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم من الآيات والنذر .
فبهذا الإعتبار جعل خلقهم مغياً بها ، كما أن جميع الفريقين باعتبار استعدادهم الكامل الفطري للعبادة ، وتمكنهم التام منها ، جعل خلقهم مغياً بها . كما نطق به قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 180 ] .
{ وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى } روى مقاتل أن رجلاً دعا الله في صلاته ، ودعا الرحمن ، فقال بعض المشركين : إن محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يعبدون رباً واحداً ، فما بال هذا يدعو اثنين ؟ فنزلت الآية .
و الحسنى تأنيث الأحسن ، والمعنى : لله الأسماء التي هي أحسن الأسماء وأجلها ، لإنبائها عن أحسن المعاني وأشرفها : { فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ } أي : يميلون عن الإقرار بها ويجحدونها ، ويعدلون عنها كفراً بها .
كقوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً } أي : زادهم ذكر الرحمن نفوراً ، ولذا قال تعالى : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ } وقوله تعالى : { سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعني في الآخرة ، من جحدهم إياها ونفورهم عن الإيمان بها .
تنبيهات :
الأول : قال السيد محمد بن المرتضى اليماني في " إيثار الحق " : مقام معرفة كمال هذا الرب الكريم ، وما يجب له من نعوته وأسمائه الحسنى ، من تمام التوحيد ، الذي لا بد منه ، لأن
كمال الذات بأسمائها الحسنى ، ونعوتها الشريفة ، ولا كمال لذات لا نعت لها ولا اسم .
ولذلك عد مذهب الملاحدة في مدح الرب بنفيها ، من أعظم مكائدهم للإسلام ، فإنهم عكسوا المعلوم عقلاً وسمعاً ، فذموا الأمر المحمود ومدحوا الأمر المذموم ، القائم مقام النفي والجحد المحض ، وضادوا كتاب الله ونصوصه الساطعة .
قال الله جل جلاله : { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى } الآية .
وقال : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَن } الآية ، فما كان منها منصوصاً في كتاب الله ، وجب الإيمان به على الجميع ، والإنكار على من جحده ، أو زعم أن ظاهره اسم ذم لله سبحانه ، وما كان في الحديث وجب الإيمان به على من عرف صحته ، وما نزل عن هذه المرتبة ، أو كان مختلفاً في صحته ، لم يصح استعماله ، فإن الله أجل من أن يسمى باسم لم يتحقق أنه تسمى به . انتهى .
الثاني : روى الشيخان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن لله تسعة وتسعين اسماً ، من حفظها دخل الجنة ، والله وتر يحب الوتر > ، وفي رواية : < من أحصاها > ، ثم قال : ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث . ورواه ابن ماجة أيضاً . فسرد الأسماء بزيادة ونقصان .
قال الحافظ ابن كثير : والذي عول عليه جماعة من الحفاظ ، أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه ، وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعاني ، عن زهير بن محمد بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك ، أي : أنهم جمعوها من القرآن ، كما روي عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وأبي زيد اللغوي . انتهى . وقال النووي : اتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى . وليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين ، وإنما المقصود من الحديث الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها ، لا الإخبار بحصرها . ولهذا جاء في الحديث الآخر : < أسألك بكل اسم سميت به نفسك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك > . وقد ذكر الحافظ أبو بكر بن العربي المالكي عن بعضهم ، أن لله ألف اسم . انتهى .
وقال السيد اليماني في " إيثار الحق " : عادة المتكلمين أن يقتصروا هنا على اليسير من الأسماء ، لا ينبغي ترك شيء منها ، ولا اختصاره ! فإن ذلك كالإختصار للقرآن الكريم ، ولو كان منها شيء لا ينبغي اعتقاده ولا ذكره ، ما ذكره الله تعالى في القرآن العظيم .
وعادة بعض المحدثين أن يوردوا جميع ما ورد في الحديث المشهور في تعدادها ، مع الإختلاف الشهير في صحته . وحسبك أن البخاري ومسلماً تركا تخريجه مع رواية أوله . واتفاقهما على ذلك يشعر بقوة العلة فيه ، ولكن الأكثرين اعتمدوا ذلك تعرضاً لفضل الله العظيم في وعده ، من أحصاها بالجنة كما اتفق على صحته .
وليس يستيقن إحصاؤها بذلك إلا لو لم يكن لله سبحانه إسم غير تلك الأسماء .
فأما إذا كانت أسماؤه سبحانه أكثر من أن تحصى ، بطل اليقين بذلك ، وكان الأحسن الاقتصار على ما في كتاب الله ، وما اتفق على صحته بعد ذلك ، وهو النادر وقد ثبت أن أسماء الله تعالى أكثر من ذلك المروي بالضرورة والنص . أما الضرورة ، فإن في كتاب الله أكثر من ذلك ، وأما النص ، فحديث ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما قال عبد أصابه همّ أو حَزْن : اللهم إني عبد وابن عبدك وابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماضٍ فيَّ حكمك ، عدل فيّ قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداً من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب ، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي وغمي ، إلا أذهب الله همه وغمه ، وأبدله مكان حزنه فرحاً > - رواه أحمد ، وأبو عوانة في " صحيحه " وأبو يعلى والبزارـ .
ثم أخذ اليمانيّ يذكر ما وجده من الأسماء منصوصاً ، غير معرَّج على التقليد . فانظره في " إيثار الحق " فإنه جوّد البحث بمنزع شريف .
الثالث : قال بعض مفسري الزيدية في قوله تعالى : { فادعوه بها } : المعنى سموه بها ، وفي ذلك أمر بدعائه بالأسماء الحسنى ، وهو أمر ندب إذا حمل على التلاوة بالتسعة والتسعين ، وحث على ذلك في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم ، وإن أريد بالتسمية بما فيه مدح ، دون ما فيه إلحاد ، فذلك وجوب .
الرابع : قال السيد اليماني في " إيثار الحق " : هل يجوز تسمية محامد الرب تعالى وأسمائه الحسنى صفات له سبحانه وتعالى ؟
قال الله : { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى } ، وذكر أهل التفسير واللغة أنه الوصف الأعلى ، وكذلك جاء في كلام علي عليه السلام أنه قال : فعليك أيها السائل بما دل عليه القرآن من صفته - ذكره السيد أبو طالب في " الأمالي " بإسناده ، والسيد الرضي في " النهج " كلاهما في جوابه عليه السلام ، على الذي قال له : صف لنا نار ربنا - .
وهذا لا يعارض قوله عز وجل : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُون } ، لأنه لم ينزه ذاته عن الوصف مطلقاً ، حتى يعم الوصف الحسن ، وإنما ينزه عن وصفهم له بالباطل القبيح . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ 181 ] .
{ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا } أي : للجنة ، لأنه في مقابلة : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ } - قاله النسفي - .
{ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ } أي : يدعون إليه { وَبِهِ يَعْدِلُونَ } أي :
يعملون ويقضون ، وقد جاء في الآثار ، أن المراد بالأمة ، هذه الأمة المحمدية ، وقال قتادة : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ الآية يقول : هذه لكم ، وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها .
وعن الربيع بن أنس - في هذه الآية - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن من أمتي قوماً على الحق ، حتى ينزل عيسى بن مريم متى ما نزل > . وفي الصحيحين عن معاوية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين ، لا يضرهم من خذلهم ، ولا من خالفهم ، حتى تقوم الساعة > . وفي رواية : < حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك > .
قال الشهاب : استدل بالآية على أن الإجماع حجة في كل عصر ، وعلى أنه لا يخلو عصر من مجتهد إلى قيام الساعة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } [ 182 ] .
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } أي :
سنأخذهم بالعذاب من طريق لا يعلمونها ، أو نفتح لهم من الأحوال ما يلائم أهويتهم ، ثم نهلكهم .
وأصل الإستدارج : أن يتدرج إلى الشيء قليلاً قليلاً ، تشبيهاً بمن يرقى درجة درجة ، حتى ينتهي إلى العلو .
وقيل : أصله من الدرج الذي يطوى فكأنه منزلة بعد منزلة ، كما يطوى الدرج .
وقيل : لأنه من الدرجة فيكون ، لأنه ينحط درجة بعد درجة حتى ينتهي إلى حال الهلاك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } [ 183 ] .
{ وَأُمْلِي لَهُمْ } أي : أمهلهم ليزدادوا إثماً { إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } أي : قوي شديد .
والمعنيون بهذا الخطاب كفار مكة .
قال في " التنوير " : هم أبو جهل وأصحابه المستهزئون ، أخذهم الله بعذابه في يوم أحد ، وأهلك كل واحد بهلاك غير هلاك صاحبه . انتهى .
ويدل قوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [ 184 ] .
{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ } أي : كما يختلقون . والإستفهام ، للإنكار والتوبيخ ، أي : أو لم يتفكروا في أنه ليس بصاحبهم الذي هو أعظم الأمة الهادية بالحق ، شيء من جنة .
وجوز أن يكون الكلام تمّ عند قوله : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ } إنكاراً لعدم تفكرهم في شأنه ، الموقف على صدقه ، وصحة نبوته . ثم ابتدأ نفي الجنة عنه تعجيباً وتبكيتاً .
و : { الجِنَّةُ } مصدر ، كالجلسة ، بمعنى الجنون ، وليس المراد به الجن ، كما في قوله تعالى : { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } ، لأنه يحوج إلى تقدير
مضاف ، أي : مسه جنة أو تخبطها .
والتعبير عنه صلى الله عليه وسلم بصاحبهم للإيذان بأن طول مصاحبتهم له ، مما يطلعهم على نزاهته عما ذكره ، ففيه تأكيد للنكير ، وتشديد له : { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ } أي : رسول مخوف : { مُّبِينٌ } أي : موضح إنذاره ، مبالغة في الإعذار .
ولما نعى عليهم تفكرهم في شأنه صلى الله عليه وسلم ، أنكر إخلالهم في التأمل بالآيات التكوينية المنصوبة في الآفاق والأنفس ، الشاهدة بصحة الآيات المنزلة ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } [ 185 ] .
{ أَوَلَمْ يَنظُرُواْ } أي : نظر استدلال : { فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ } من الشمس والقمر والنجوم والسحاب .
والملكوت : الملك العظيم : { وَالأَرْضِ } أي : وفي ملكوت الأرض ، من البحار والجبال والدواب والشجر .
{ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ } أي : وفيما خلق الله مما يقع عليه اسم الشيء ، من أجناس لا يحصرها العدد ، ولا يحيط بها الوصف : { وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ } عطف على ملكوت .
أي : في احتمال أن يهلكوا عما قريب ، فيفارقوا الدنيا ، وهم على أتعس الأحوال .
{ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ } أي : القرآن : { يُؤْمِنُونَ } أي : إذا لم يؤمنوا به ، وهو المعجز الجامع لكل ما يفيد الهداية ، وفي هذا قطع لاحتمال إيمانهم رأساً ، ونفي له بالكلية .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية على وجوب النظر في وجوب النظر في الأدلة ، وأنها طريق المعرفة . وتدل على أنه لا شيء ينظر فيه ، إلا ويعرف الله تعالى به .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ 186 ] .
{ مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } أي : في كفرهم يتحيرون ، يعني أن من كتب عليه الضلالة ، فلا يهديه أحد ، ولا يغنيه النظر ، ولا الإنذار ، كما قال تعالى : { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } { وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ 187 ] .
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ } أي : عن قيامها وحينها { أَيَّانَ مُرْسَاهَا } أي : متى إرساؤها أو وقت إرسائها ، أي : إثباتها وإقرارها .
والرسو يستعمل في الأجسام الثقلية ، وإطلاقه على المعاني ، تشبيهاً لها بالأجسام .
{ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ } أي :
لا يظهرها في وقتها إلا هو .
{ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : عظمت وكبرت على أهلها لهولها وما فيها من المحاسبة والمجازاة ، أو ثقل علم وقتها على أهلهما ، أو عظم وصفها على أهل السموات والأرض ، من انتشار النجوم ، وتكوير الشمس ، وتسيير الجبال : { لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } أي : فجأة على حين غفلة منكم .
{ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } أي : عالم بها : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أي : أن علمها عند الله ، لم يؤته أحداً من خلقه .
لطيفة :
قال الزمخشري : فإن قلت : لم كرر : { يَسْأَلُونَكَ } و : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ } ؟ قلت : للتأكيد ، وما جاء به من زيادة قوله : { كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } وعلى هذا تكرير العلماء الحذاق في كتبهم ، لا يُخلون المكرر من فائدة زائدة . انتهى .
وقال الناصر في " الإنتصاف " : وفي هذا النوع من التكرير نكتة لا تلفى إلى في الكتاب العزيز ، وهو أجل من أن يشارك فيها ، وذلك أن المعهود في أمثال هذا التكرير ، أن الكلام إذا بُني على مقصد ، واعتراض في أثنائه عارض ، فأريد الرجوع لتتميم المقصد الأول ، وقد بعد عهده ، طُرِّي بذكر المقصد الأول ، لتتصل نهايته ببدايته .
وقد تقدم لذلك في الكتاب العزيز أمثال ، وسيأتي ، وهذا منها .
فإنه لما ابتدأ الكلام بقوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا } ثم اعترض ذكر الجواب المضمن في قوله : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } إلى قوله : { بَغْتَةً } أريد تتميم سؤالهم عنها بوجه من الإنكار عليهم ، وهو المضمن في قوله : { كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } وهو شديد التعلق بالسؤال ، وقد بعد عهده ، فَطُرِّيَ ذكره تطرية عامة ، ولا نراه أبداً يطرى إلا بنوع من الإجمال ، كالتذكرة للأول ، مستغنى عن تفصيله بما تقدم .
فمن ثم قيل : { يَسْأَلُونَكَ }
ولم يذكر المسؤول عنه ، وهوالساعة اكتفاء بما تقدم فلما كرر السؤال لهذا الفائدة كرر الجواب أيضاً مجملاً ، فقال : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ } .
ويلاحظ هذه في تلخيص الكلام بعد بسطه . ومن أدق ما وقفت عليه العرب في هذا النمط من التكرير لأجل بعد العهد ، تطرية للذكر ، قوله :
~عجِّلْ لنا هذا وألحقنا بذا ال شحم إن قد مللنا بَجلْ
أي : فقط ، فذكر الألف واللام ، خاتمة للأول من الرجزين ، ثم لما استفتح الرجز الثاني ، استبعد العهد بالأولى ، فطري ذكرها ، وأبقى الأول في مكانها .
ومن ثم استدل ابن جني على أن ما كان من الرجز على ثلاثة أجزاء ، فهو بيت كامل ، وليس بنصف ، كما ذهب إليه أبو الحسن .
قال : ولو كان بيتاً واحداً ، لم يكن عهد الأولى متباعداً ، فلم يكن محتاجاً إلى تكريرها ، ألا ترى أن عبيداً لما جاء بقصيدة طويلة الأبيات ، وجعل آخر المصراع الأول أل ، لم يعدها أول المصراع الثاني ، لأنها بيت واحد ، فلم يرعهدها بعيداً ، وذلك قول عبيد بن الأبرص الأسدي :
~يا خليليّ ارْبَعا واستخبرا ال منزل الدَّارس عن أهل الحلالِ
~مثل سحق البُردِ عفّى بَعْدَكَ ال قَطْرُ مَغْنَاهُ وتَأْوِيبُ الشمالِ
إربعا : أقيما ، الحلال : اسم امرأة ، سحق البرد : يريد مثل البرد المسحوق أي : البالي ، وعفى بالتشديد : محا ، القطر : المطر ، مغناه : هو الموضع الذي كانوا يسكنونه ، والشمال - بالفتح والكسر - من الرياح ، ما مهبه من مطلع الشمس وبنات نعش ، وهي لا تكاد تهب ليلاً ، وتأويبها : هبوبها النهار كله .
ثم استرسل فيها كذلك بضعة عشر بيتاً . فانظر هذه النكته ، كيف بالغت العرب في رعايتها ، حتى عدت القريب بعيداً ، والمتقاصر مديداً ، فتأملها فإنها تحفة إنما تنفق عند الحذاق الأعيان ، في صناعتي العربية والبيان ، والله المستعان . انتهى .
والقصيدة بتمامها في " مختارات ابن الشجري " بالصفحة رقم 37 .
ثم أمره تعالى أن يخبر بعبوديته الكاملة ، بما ينبئ عن عجزه عن علم الساعة بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ 188 ] .
{ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً } أي : لا أقدر لأجل نفسي ، على جلب نفعٍ ما
ولا على دفع ضر ما : { إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ } أي : تمليكه لي من ذلك بأن يلهمنيه ، فيمكنني منه ، ويقدرني عليه . وهذا كقوله تعالى في سورة يونس : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ } أي : النفع بترتيب أسبابه ، فكنت مثلاً أعد للسنة المجدبة من المخصبة ، ولوقت الغلاء من الرخص { وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ } أي : الضر ، للتوقي عن أسبابه : { إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } أي : عبد أرسلت نذيراً وبشيراً ، وما من شأني أني أعلم الغيب .
وقوله تعالى : { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يجوز أن يتعلق بـ : { بَشِيرٌ } وحده ، ومتعلق النذير محذوف ، أي : للكافرين ، وحذف للعلم به .
وقال الشهاب : ليطهر اللسان منهم .
ثم بيّن تعالى عظم جناية الكفرة في جراءتهم على الإشراك ، بتذكير مبادئ أحوالهم المنافية له ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } [ 189 ] .
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } وهي نفس آدم عليه السلام { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } أي : من جنسها ، كقوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } .
{ لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } أي : ليطمئن إليها ويميل ، ولا ينفر ، لأن الجنس إلى الجنس أميل ، وبه آنس ، وإذا كانت بعضاً منه كان السكون والمحبة أبلغ ، كما يسكن الْإِنْسَاْن إلى ولده ، ويحبه محبة لكونه بضعة منه .
وذُكّر : { لِيَسْكُنَ } بعد ما أنث في قوله : { وَاحِدةٍ } و : { مِنْها زَوْجَها } ذهاباً إلى معنى النفس ، ليبين أن المراد بها آدم ، ولأن الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويتغشاها ، فكان التذكير أحسن طباقاً للمعنى . أفاده الزمخشري .
{ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } أي : وطئها . والتغشي كناية عن الجماع ، وكذلك الغشيان والإتيان .
{ حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً } أي : خف عليها ، وذلك أول الحمل ، لا تجد المرأة له ألماً ، إنما هي النطفة ، ثم العلقة ، ثم المضغة
{ فَمَرَّتْ بِهِ } أي : فاستمرت به خفيفة ، وقامت وقعدت .
{ فَلَمَّا أَثْقَلَت } أي : صارت ذات ثقل ، لكبر الولد في بطنها
{ دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً } أي : ولداً سوياً قد صلح بدنه ، أو
غلاماً : { لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } أي : على نعمائك التي منها هذه النعمة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ 190 ] .
{ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً } أي : كما طلبا : { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا } أي : أخَلا بالشكر في مقابلة نعمة الولد الصالح أسوأ إخلال ، إذا استبدلوه بالإشراك . وقوله تعالى : { فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } تنزيه فيه معنى التعجب .
تنبيه :
هذه الآية سيقت توبيخاً للمشركين في جنايتهم ، ونقضهم ميثاقهم ، في جريهم على خلاف ما يعاهدون الله عليه ، وذلك أنه تعالى ذكر ما أنعم عليهم من الخلق من نفس واحدة ، وجعل أزواجهم من أنفسهم ليأنسوا بهن ، ثم إنشائه إياهم بعد الغشيان ، متدرجين في أطوار الخلق من العدم إلى الوجود ، ومن الضعف إلى القوة ، ثم بين إعطاءهم المواثيق إن آتاهم ما يطلبون وولد لهم ما يشتهون ، ليكونن من الشاكرين ، ثم أخر عن غدرهم وكفرانهم هذه النعم ، التي امتن سبحانه بها عليهم ، ونقضهم ميثاقهم في إفراده الشكر ، حيث أشركوا معه غيره في ذلك .
ونظير هذه الآية ، في الإخبار عن تبديل المشركين نعمة الله كفراً ، قوله تعالى في سورة يونس : { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } ، وقد ذكر المفسرون ههنا أحاديث وآثاراً تفهم أن المراد بهذا السياق آدم وحواء . ولا حاجة بنا إلى روايتها لأنها واهية الإسناد معلولة ، كما بينه الحافظ ابن كثير في تفسيره .
وتقبُّل ثُلةٍ من السلف لها وتلقيها ، لا يجدي في صحتها شيئاً ، إذا أصلها مأخوذ من أقاصيص مسلمة أهل الكتاب ، كما برهن عليه ابن كثير .
وتهويل بعضهم بأنها مقتبسة من مشكاة النبوة ، إذا أخرجها فلان وفلان ، من تنميق الألفاظ لتمزيق المعاني ، فإن المشكاة النبوية أجلُّ من أن يقتبس منها إلا كل ما عرفت جودته .
إذا علمت ذلك ، تبين لك أن من استند إلى تلك الأحاديث والآثار ، فذهب إلى أن المراد بالنفس الواحدة وقرينتها ، آدم وحواء ، ثم أورد على نفسه أنهما بريئان من
الشرك ، وأن ظاهر النظم يقتضيه ، ثم أخذ يؤوله ، إما بتقدير مضاف ، أي : جعل أولادهما له شركاء ، فيما آتى أولادهما ، وإما بأن المراد جعل أحدهما وهو حواء من إطلاق المثنى وإرادة المفرد ، وإما بغير ذلك ، فإنه ذهب في غير مذهب .
وقد قرر ما ارتضيناه في معنى الآية غير واحد .
قال الحسن البصري ، فيما روى عنه ابن جرير : إن الآية عنى بها ذرية آدم ، ومن أشرك منهم بعده .
وفي رواية عنه : كان هذا في بعض الملل ، ولم يكن بآدم .
قال ابن كثير : والأسانيد إلى الحسن ، في تفسير هذا صحيحة ، وهو من أحسن التفاسير ، وأولى ما حملت عليه الآية .
قال : ولو كان الحديث المرفوع ، في أنها في آدم وحواء ، محفوظاً عنده من رواية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما عدل عنه هو ولا غيره ، لا سيما مع تقواه وورعه .
فهذا يدل على أنه - إن صح - موقوف على الصحابي ، لا مرفوع . انتهى .
وقال القفال : إنه تعالى ذكر هذا القصة على تمثيل ضرب المثل ، وبيان هذا الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم ، وقولهم بالشرك . وتقرير هذا الكلام ، كأنه تعالى يقول : هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة ، وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الْإِنْسَاْنية ، فلما تغشى الزوج زوجته ، وظهر الحمل ، دعا الزوج والزوجة ربهما ، لئن آتيتنا ولداً صالحاً سوياً لنكونن من الشاكرين لآلائك ونعمائك ، فلما آتاهما الله ولداً صالحاً سوياً ، جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما ، لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع ، كما هو قول الطبائعيين ، وتارة إلى الكواكب ، كما هو قول المنجمين ، وتارة إلى الأصنام والأوثان ، كما هو قول عَبْدة الأصنام .
وقال الناصر في " الإنتصاف " - متعقباً على الزمخشري - : الأسلم والأقرب ـ والله أعلم ـ أن يكون المراد جنسي الذكر والأنثى ، لا يقصد فيه إلى معين ، وكأن المعنى - والله أعلم - خلقكم جنساً واحداً ، وجعل أزواجكم منكم أيضاً ، لتسكنوا إليهن ، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر ، الجنس الآخر ، الذي هو الأنثى ، جرى من هذين الجنسين كيت وكيت ، وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس ، وإن كان فيهم الموحدون ، على حد بنو فلان قتلوا قتيلاً ، يعني من نسبة ما صدر من البعض إلى الكل .
فائدة :
قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة هذا الآية أنه تعالى لما قال : { فَلَمَّا أثْقَلت }
جعل حال الإثقال يخالف ما قبله ، وأنه يختص فيه الدعاء لأجل أنه حال الخوف .
وقد ذهب الهادي إلى أن الحامل إذا أتى عليها من الحمل ستة أشهر ، كانت تصرفاتها كتصرفات المريض ، تنفذ من الثلث . وهو قول مالك والليث ، واحتجا بالآية ، لأنه تعالى فرق بين حال الخفة والإثقال .
وقال غيرهما : تصرفها من الجميع ، ما لم يأخذها الطلق . قلنا : إنه يجوز عليها بعد الستة ، وضع الحمل في كل وقت . انتهى .
ثم قال : ودلت الآية على أنه يجوز الدعاء لطلب أمور الدنيا ، وإن حصول الولد منة يجب الشكر عليها . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [ 191 ] .
{ أَيُشْرِكُونَ } أي : بخالق الأشياء تعالى وتقدس { مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً } أي : لا يقدر على خلق شيء ما ، كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا } أي : ومن هذه صفته كيف يعبد ؟ ومن حق المعبود أن يكون خالقاً لعابده لا محالة .
{ وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أي : بل هم مخلوقون مصنوعون ، كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُون } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } [ 192 ] .
{ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ } أي : لعبدتهم إذا حزبهم أمر { نَصْراً } أي : بجلب نفع ، أو دفع ضر { وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } إذا اعترتهم حادثة من الحوادث ، كما قال تعالى : { وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ } ، وكما كان الخليل عليه الصلاة والسلام يكسر أصنام قومه ، ويهينها غاية الإهانة .
وقد حكى ابن كثير أن معاذ بن عَمْرو بن الجموح ، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما أسلما لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، وكانا شابين ، فكانا يعدوان في الليل على
أصنام المشركين ، يكسرانها ويتلفانها ، ويتخذانها حطباً للأرامل ، ليعتبر قومها .
وكان لعمرو بن الجموح - وكان سيداً في قومه - صنم يعبده ويطيبه ، فكانا يجيئان في الليل ، فينكسانه على رأسه ، ويلطخانه بالعذرة ، فيجيء عَمْرو بن الجموح ، فيرى ما صنع به ، فيغسله ويطيبه ، ويضع عنده سيفاً ، ويقول له : انتصر ، ثم يعودان لمثل ذلك ، ويعود إلى صنيعه أيضاً . حتى أخذاه مرة ، فقرناه مع كلب ميت ، ودلياه في حبل في بئر هناك ، فلما جاء عَمْرو بن الجموح ، ورأى ذلك نظر فعلم أن ما كان عليه من الدين باطل . وقال :
~تالله لو كنت إلهاً مستدن لم تك والكلب جميعاً في قرن
مستدن : ذليل مستعبد . والقرن : الحبل .
ثم أسلم فحسن إسلامه ، وقتل يوم أحد شهيداً ، رضي الله عنه وأرضاه .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية على صحة الحجاج في الدين ، لأن قوله : { أيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ } الآية - حجاج ، وتدل على أن المستحق للعبادة الذي يخلق وينعم ويقدر على النفع والضر هو الله تعالى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ } [ 193 ] .
{ وَإِن تَدْعُوهُمْ } أيها المشركون : { إِلَى الْهُدَى } أي : إلى ما فيه رشاد : { لاَ يَتَّبِعُوكُمْ } أي : إلى مرادكم وطلبتكم : { سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ } يعني أن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها ، كما قال إبراهيم : { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً } .
وجوز في الآية أن يكون المعنى : وإن تدعوهم إلى أن يهدوكم وتطلبوا منهم ، كما تطلبون من الله ، الخير والشر ، لا يجيبوكم كما يجيبكم الله ، لقوله تعالى بعد : { فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 194 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ } أي : تبعدونهم وتسمعونهم آلهة : { عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ }
أي : مخلوقات مماثلة لكم { فَادْعُوهُمْ } أمر تعجيز وتبكيت . أي : فادعوهم لجلب نفع ، أو كشف ضر : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي : في زعمكم أنها آلهة .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ } [ 195 ] .
{ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } تبكيت إثر تبكيت ، مؤكد لما يفيده الأمر التعجيزي ، من عدم الإستجابة ، ببيان فقدان آلتها بالكلية ، فإن الإستجابة من الهياكل الجسمانية ، إنما تتصور إذا كان لها حياة وقوى محركة ، ومدركة ، وما ليس له شيء من ذلك ، فهو بمعزل من الأفاعيل بالمرة ، كأنه قيل ألهم هذه الآلات التي بها تتحقق الإستجابة ، حتى يمكن استجابتهم لكم ؟
وقد وجه الإنكار إلى كل واحدة من هذه الآلات الأربع على حدة ، تكريراً للتبكيت ، وتثنية للتقريع ، وإشعاراً بأن انتفاء كل واحدة منها بحيالها ، كاف في الدلالة على استحالة الإستجابة . أفاده أبو السعود .
ويقال : إنه لما جعلهم مثلهم ، كرّ على المثلية بالنقض بما ذكر ، لأنهم أدون منهم ، وعبادة الشخص من هو مثله لا تليق ، فكيف من هو دونه .
تنبيه :
قال الرازي : تعلق بعض أغمار المشبهة وجهَّالهم بهذه الآية ، في إثبات هذه الأعضاء لله تعالى ، فقالوا : إنه تعالى جعل عدم هذه الأعضاء ، لهذا الأصنام ، دليلاً على عدم إلهيتها ، فلو لم تكن هذه الأعضاء موجودة لله تعالى ، لكان عدمها دليلاً على عدم الإلهية ، وذلك باطل ، فوجب القول بإثبات هذه الأعضاء لله تعالى . . . الخ .
وأقول : الظاهر أن ملحظ مثبتيها هو أن عدمها يدل على النقص ، وهو محال على المولى تعالى ، إذا له كل صفة كمال ، ومعلوم أن في إثباتها له تعالى من آيات أخر ، وأحاديث مشهورة ، ما يغني عن تكلف استثباتها له تعالى من مثل هذه الآية ، ولكن على المنهاج السلفي ، وهو إثبات بلا تكييف ، إذ من كيف فقد مثل ، ومن نفى فقد عطّل . فالمشبهة كالمعطلة ، والحق وراءهم ، والمسألة شهيرة .
ولما بين تعالى أن شركاءهم عاجزون ، أمر تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يناصبهم
للمحاجة ، يكرر عليهم التبكيت ، فقال سبحانه : { قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ } أي : استنصروا بها علي : { ثُمَّ كِيدُونِ } أي : اعملوا أنتم وهم في هلاكي من حيث لا أشعر به ، حتى يمكنني دفعه .
{ فَلاَ تُنظِرُونِ } أي : عجلوا في كيدي ، فلا تمهلوني مدة أطلع فيها على كيدكم ، فإني لا أبالي بكم .
وقد أثبت نافع وأبو عَمْرو الياء في ( كِيدُونِي ) ، والباقون حذفوها . ومثله في قوله : { ولا تُنظِروُنِ } { ثُمَّ لا تُنِظرُرنَ } ، قال الواحدي : والقول فيه أن الفواصل تشبه القوافي ، وقد حذفوا هذه الياءات إذا كانت في القوافي ، كقوله :
~يلمسُ الأحلاسَ في منزلِهِ بيديه كاليَهُوديّ المُصَلّ
وأصلها المصلِّى .
والذين أثبتوها ، فلأن الأصل هو الإثبات .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } [ 196 ] .
{ إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ } تعليل لعدم المبالاة ، المنفهم من السوق انفهاماً جلياً . أي : الذي يتولى حفظي ونصرتي هو الذي أنزل الكتاب ، المشتمل على هذه العلوم العظيمة النافعة .
قال أبو السعود : ووصفه تعالى بتنزيل الكتاب ، للإشعار بدليل الولاية ، والإشارة إلى علة أخرى لعدم المبالاة ، كأنه قيل : لا أبالي بكم وبشركائكم ، لأن وليي هو الله الذي نزل الكتاب الناطق بأنه وليي وناصري ، وبأن شركاءكم لا يستطيعون نصر أنفسهم ، فضلاً عن نصركم .
وقوله تعالى : { وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } تذييل مقرر لما قبله . أي : ومن عادته أن يتولى الصالحين من عباده ، ويصرهم ولا يخذلهم .
وفيه تعريض ، لمن فقد الصلاح ، بالخذلان والمحق .
قال الحسن البصري : إن المشركين كانوا يخوفون الرسول الله بآلهتهم ، فقال تعالى : { ادْعُوا شُرَكَاءِكُمْ } الآية ، ليظهر لكم أنه لا قدرة له على إيصال المضار إلي ، بوجه من الوجوه .
وهذا كما قال هود عليه السلام ، لما قال قومه : { إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم }(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } [ 197 ] .
{ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ } أي : لا يتولون أحداً ، لأنهم لا يستطيعون نصركم { وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } أي : إذا قصد إضرارهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ 198 ] .
{ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ } إذ ليس لهم سمع ، وإن صوّرت لهم الآذان ، كما أنه لا بصر لهم ، وإن صوّرت لهم الأعين . كما قال : { وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } إذ صورت لهم الأعين { وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } لأنهم جماد عوملوا معاملة من يعقل ، فعبر عنهم بضميره ، لأنهم على صور مصورة كالْإِنْسَاْن ، وهذا من تمام التعليل ، لعدم مبالاته بهم ، فلا تكرار .
وقال السدي : المراد بهذا المشركون ، وروي عن مجاهد نحوه ، أي : وإن كانوا ينظرون إليك ، فإنهم لا ينتفعون بالنظر والرؤية .
قال ابن كثير : والأول أولى ، وهو اختيار ابن جرير ، وقاله قتادة ، أي : تفصياً من التفكيك ، لأن المحدث عنهم الأصنام .
تنبيه :
من غرائب استنباط المعتزلة قولهم في هذه الآية - والعبارة للجشمي - ما مثاله : تدل الآية على أن النظر غير الرؤية ، وأنه لا يقتضي الرؤية ، لذلك أثبتهم ناظرين غير رائين .
قال : ومثله قولهم نظرت إلى الهلال فلم أره . ويقسمون النظر إلى وجوه ، ولا تنقسم الرؤية .
قال : فبطل قول من يقول : إن قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } يقتضي الرؤية . انتهى .
ولا يخفى أن الأصل في إطلاق النظر هو الرؤية والإبصار ، ولذلك تتعاقب في هذا المعنى ، وتترادف كثيراً ، وانفكاكه عن الرؤية في هذا الآية لقرينة كون المحدث عنهم جماداً ، ولا قرينة في الآية لتقاس على ما هنا ، دع ما صح الأخبار في وقوعها ، مما هو بيان لها - فافهم -
ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصفح عن المشركين إذا جادلوه في شركائهم بعد هذا البيان ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } [ 199 ] .
{ خُذِ الْعَفْوَ } أي : مكان الغضب ، ليكونوا أقبل للنصيحة { وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ } أي : بالجميل المستحسن من الأفعال ، فإنها قريبة من قبول الناس من غير نكير .
ولما كان الناصح لغيره ، كالمعرض لعدوانهم ، ثلث بما يحتاج إليه في ذلك فقال : { وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } أي : المصرِّين على جهلهم ، فلا تكافئ السفهاء بمثل سفههم ، لا تمارهم ، واحلم عنهم ، وأغْضِ على ما يسوؤك منهم .
تنبيهان :
الأول : قال بعض العلماء : إن سر الشريعة في الطباع والعادات ، هو تأييد المستحسن ومحو المستقبح . وإليه الإشارة بقوله تعالى : { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَر } فإن المعروف ما عرفته الطباع السليمة واستحسنته ، والمنكر ما أنكرته واستقبحته ، ذلك لأن غاية الشريعة راحة الخلق على حال ونظام معقولين ، فلا يصح المحكم بتوحيد العادات في كل البلاد .
الثاني : روي عن الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه قال : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق ، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها .
وروى البخاري عن ابن عباس أن عيينة بن حصين قال لعمر بن الخطاب : هي يا ابن الخطاب ! فو الله ، ما تعطينا الجزل ، ولا تحكم فينا بالعدل ، فغضب عمر ، حتى همّ أن يوقع به . فقال له الحر بن قيس : يا أمير المؤمنين ! إن الله تعالى قال لنبيه
صلى الله عليه وسلم : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } ، وإن هذا من الجاهلين .
قال ابن عباس : والله ! ما جاوزها عمر حين تلاها عليه ، وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 200 ] .
{ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ } أي : يصيبنك من الشيطان وسوسة تثير غضبك على جهلهم وإساءتهم ، وتحملك على خلاف ما أمر فيه من العفو والأمر بالمعروف : { فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ } أي : استجر به ، وادعه في دفعه : { إِنَّهُ سَمِيعٌ } أي : لدعائك : { عَلِيمٌ } أي : باستعاذتك .
قال الزمخشري : النزغ والنسغ : الغرز والنخس ، كأنه ينخس الناس حين يغريهم على المعاصي . أي : فشبهت وسوسته وإغراؤه بالغرز ، وهو إدخال الإبرة وطرف العصا وما يشبهه في الجلد ، كما يفعله السائق لحث الداوب .
وجعل النزغ نازغاً مجاز بالإسناد ، لجعل المصدر فاعلاً ، كجد جده .
قال أبو السعود : وفي الأمر بالإستعاذة بالله تعالى تهويل لأمره ، وتنبيه على أنه من الغوائل الصعبة التي لا يتخلص من مضرتها إلا بالإلتجاء إلى حرم عصمته عز وجل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } [ 201 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ } أي : أصابهم : { طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ } أي : وسوسة وخاطر منه : { تَذَكَّرُواْ } أي : الإستعاذة به تعالى والتوكل عليه : { فَإِذَا هُم } أي : بسبب ذلك التذكر : { مُّبْصِرُونَ } أي : مواقع الخطأ ، ومكائد الشيطان ، فينتهون عنها ولا يتبعونه .
وقرئ ( طيف ) على أنه مصدر ، من قولهم طاف به الخيال يطيف طيفاً ، أو تخفيف طيّف كليّن وهيّن .
وهذه الآية تأكيد وتقرير لما قبلها من وجوب الإستعاذة بالله تعالى عند نزغ الشيطان ، وأن المتقين هذه عادتهم . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } [ 202 ] .
{ وَإِخْوَانُهُمْ } يعني وأما إخوان الشياطين من شياطين الإنس . كقوله : { إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ } وهم الذين لم يتقوا ، فلم يتأت لهم التذكر ، ولا ينفع فيهم الإستعاذة لأن الشياطين : { يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ } أي : يكونون مدداً لهم بتكثير الشبه والتزيين والتسهيل في الضلال ، يعني تساعدهم الشياطين على المعاصي ، وتسهلها عليهم وتحسنها لهم .
{ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } أي : لا يمسكون عن إغوائهم ، حتى يصروا ولا يرجعوا .
يعني أن الشياطين يمدون أولياءهم من الإنس ، ولا يسأمون من إمدادهم من الشر ، لأن ذلك طبيعة لهم وسجية .
وجوز عود الضمير للإخوان ، أي : لا يرعوون عن الغي ولا يقصرون ، وإن بولغ عليهم في الوعظ بآيات الله ، وإقامة الدلائل ، ورفع الشبه ، وغير ذلك .
وجوز أيضاً أن يراد أيضاً بالإخوان الشياطين ، ويرجع الضمير إلى : { الْجَاهِلينَ } أي : وإخوان الجاهلين ، وهم الشياطين ، يمدون الجاهلين في الغيّ .
قال الزمخشري : والأول أوجه ، لأن إخوانهم في مقابلة : { الَّذِينَ اتَّقَوْاْ } .
ثم بيّن تعالى ، من أنواع إغوائهم ، لجاجهم في طلب آيات معينة ، وتعنتهم في اقتراحها ، مع أن لديهم المعجزة العظمى ، والخارقة الكبرى ، وهي القرآن العظيم ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْم
يُؤْمِنُونَ } [ 203 ] .
{ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ } أي : مما اقترحوه : { قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا } أي : هلا تكلفتها وأنشأتها من عندك { قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي } أي : فلست بمفتعل للآيات ، ولا أتقدم إليه تعالى في شيء منها .
ثم أرشدهم تعالى إلى أن هذا القرآن هو أعظم المعجزات ، وأبين الدلالات ، وأصدق الحجج والبينات ، فقال سبحانه :
{ هَذَا } أي : القرآن : { بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ } أي : بمنزلة البصائر للقلوب ، بها يبصر الحق ، ويدرك الصواب .
فالكلام على طريقة التشبيه البليغ أو سبب البصائر ، فهو مجاز مرسل أو استعارة لإرشاده ، أو المعنى : حجج بيّنة ، وبراهين نيّرة . وإنما جمع خبر المفرد
لاشتماله على آيات وسور ، جعل كل منها بصيرة . والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم - لتأكيد وجوب الإيمان بها { وَهُدًى } أي : من الضلالة : { وَرَحْمَةٌ } أي : من العذاب : { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي : به ، فيتفكرون في حقائقه .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية أنه تعالى ينزل الآيات بحسب المصلحة ، لا بحسب اقتراحهم ، لأن ذلك قد يكون فساداً . ويدل قوله : { هَذا بَصَائِرُ } أن المعارف مكتسبة .
وتدل أن جميع ما يقوله الرسول ويفعله من الشرع من وحيه ، لذلك قال : { أتَّبِعُ ما يُوحى إِليَّ } ، ومتى قيل : هل تدل الآية على أنه لا يجتهد ولا يقيس ؟
قلنا : لا ، لأن القياس والإجتهاد إذا كان متعبداً به ، فاتباعه اتباع الوحي ، كالعامي يقبل من المفتي ، والعالم يجتهد ، ويتبع الوحي ، كذلك هذا .
والذي يدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يفعل شيئاً من تلقاء نفسه حتى يؤمر به - انتهى كلامه - وفي إطلاقه تفصيل له موضع آخر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ 204 ] .
{ وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ } أي : عن حديث النفس وغيره { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } لما ذكر تعالى أن القرآن بصائر للناس وهدى ورحمة ، أرشد إلى طريق الفوز بما انطوى عليه من منافعه الجليلة .
أي : وإذا قرئ القرآن الذي ذكرت خصائصه ، فاستمعوا له ، أي : أصغوا إليه بأسماعكم لتفهموا معانيه ، وتتدبروا مواعظه ، وأنصتوا لقراءته حتى تنقضي ، إعظاماً له واحتراماً ، لكي تفوزوا بالرحمة التي هي أعظم ثمراته ، لا كما يعتمده كفار قريش من قولهم : { لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ } .
تنبيهات :
الأول : ظاهر الآية يقتضي وجوب الإستماع والإنصات عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها ، وعليه أهل الظاهر ، وهو قول الحسن البصري ، وأبي مسلم الأصفهاني روى مسلم عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إنما جعل
الإمام ليؤتم به ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا قرأ فأنصتوا > . وكذا رواه أهل السنن من حديث أبي هريرة .
وروى الإمام أحمد وأهل السنن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال : < هل قرأ أحد منكم معي آنفاً > ؟ قال رجل : نعم يا رسول الله . قال : < إني أقول : ما لي أنازع القرآن > ؟ قال : فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه بالقراءة من الصلاة ، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الترمذي : هذا حديث حسن . وصححه أبو الرازي .
نعم وردت السنة الصحيحة باستثناء الفاتحة وحدها للمأموم . وذلك فيما رواه عبادة قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ، فثقلت عليه القراءة ، فلما انصرف قال : < إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم > ؟ قال : قلنا : يا رسول الله ! إي والله . قال : < لا تفعلوا إلا بأم القرآن ، فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها > - رواه أبو داود والترمذي - .
وفي لفظ : < فلا تقرءوا بشيء من القرآن إذا جهرت به ، إلا بأم القرآن > . رواه أبو داود والنسائي ، والدارقطني وقال : رواته كلهم ثقات .
وأخرج ابن حبان عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أتقرءون في صلاتكم خلف الإمام ، والإمام يقرأ ؟ فلا تفعلوا ، وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه > .
وأما حديث أبي هريرة المتقدم ، فلا يستدل به على عدم قراءة المأموم مطلقاً بل جهراً ، لأن المنازعة إنما تكون مع جهر المأموم ، لا مع إسراره ، ولو سلم دخول ذلك في المنازعة لكان الإستفهام الإنكاري فيه عامّاً لجميع القرآن ، أو مطلقاً في جميعه .
وحديث عبادة خاص أو مقيد ، ولا تعارض بين عام وخاص ، أو مطلق ومقيد ، لابتناء الأول على الثاني .
وكذا يقال في عموم الآية ، وفي هذا جمع بين دلالة الكتاب ، وصحيح السنة ، إذ جاءنا بها من جاء بالقرآن .
الثاني : روي عن كثير من السلف أن الآية نزلت في الصلاة . وعن بعضهم : فيها وفي الخطبة يوم الجمعة ، وعن بعضهم : فيهما وفي خطبة الأضحى والفطر . وقد
قدمنا في مقدمة الكتاب مصطلح السلف في قولهم : نزلت هذه الآية في كذا ، وبيّنّا أنه قد يراد بذلك ، أن الآية تشمل ذلك الشيء لدخوله في عمومها ، لا أنه سبب لنزولها ، وذلك في بعض المقامات ، وما هنا منه .
وبتحقيق هذا يسقط ما للرازي هنا من أنه إذا قيل بنزولها في منع المأموم من الجهر بالقراءة ، يذهب تناسب الآية مع ما قبلها من إفحام المشركين ، بأن يستمعوا لقراءته ، ليقفوا على إعجازه . وما للخازن ، بأن الآية مكية ، وخطبة الجمعة والعيدين شرعتا بالمدينة - فافهمه - .
الثالث : روى الأمام أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من استمع إلى آية من كتاب الله ، كتبت له حسنة مضاعفة ، ومن تلاها كانت له نوراً يوم القيامة > .
قال ابن كثير تفرد به الإمام أحمد رحمه الله تعالى .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ } [ 205 ] .
{ وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد عام ، أو المعنى : واذكر ربك أيها الْإِنْسَاْن ، والأول أظهر ، لأن ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن من خصائصه ، فإنه مشروع لأمته .
وقد أوضح هذا آية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } والأمر بالذكر .
قال الزمخشري : هو عام في الأذكار من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل وغير ذلك .
وقال بعض الزيدية : هذا الأمر يحتمل الوجوب ، إن فسر الذكر بالصلاة ، وإن أريد الدعاء أو الذكر باللسان ، فهو محمول على الإستحباب . قال : وبكل فسرت الآية .
ثم إنه تعالى ذكر آداباً لذكره :
الأول : أن يكون في نفسه ، لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص ، وأقرب إلى الإجابة ، وأبعد من الرياء .
الثاني : أن يكون على سبيل التضرع ، وهو التذلل والخضوع والإعتراف بالتقصير ، ليتحقق بذلة العبودية لعزة الربوبية .
الثالث : أن يكون على وجه الخيفة ، أي : الخوف والخشية من سلطان الربوبية ، وعظمة الألوهية ، من المؤاخذة على التقصير في العمل ، لتخشع النفس ، ويخضع القلب .
الرابع : أن يكون دون الجهر ، لأنه أقرب إلى حسن التفكر . قال ابن كثير : فلهذا يستحب أن لا يكون الذكر نداءً ولا جهراً بليغاً .
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : رفع الناس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : < يا أيها الناس ! اربعوا على أنفسكم ، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً ، إن الذي تدعونه سميع قريب ، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته > .
قال الإمام : المراد أن يقع الذكر متوسطاً بني الجهر والمخافة كما قال تعالى : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً } .
الخامس : أن يكون باللسان لا بالقلب وحده ، وهو مستفاد من قوله : { وَدُونَ الْجَهُرِ } لأن معناه : ومتكلماً كلاماً دون الجهر ، فيكون صفة لمعمول حال محذوفة معطوفاً على
{ تَضَرُّعاً } ، أو هو معطوف على : { فِي نَفْسِكَ } أي : اذكره ذكراً في نفسك ، وذكراً بلسانك دون الجهر .
السادس : أن يكون بالغدو والآصال ، أي : في البكرة والعشي . فتدل الآية على مزية هذين الوقتين ، لأنهما وقت سكون ودعة وتعبد واجتهاد ، وما بينهما الغالب فيه الإنقطاع إلى أمر المعاش .
وقد روي أن عمل العبد يصعد أول النهار وآخره ، فطلب الذكر فيهما ، ليكون ابتداء عمله واختتامه بالذكر .
ثم نهى تعالى عن الغفلة عن ذكره بقوله : { وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ } أي : من الذين يغفلون عن ذكر الله ، ويلهون عنه ، وفيه إشعار بطلب دوام ذكره تعالى ، واستحضار عظمته وجلاله وكبريائه ، بقدر الطاقة البشرية .
ثم ذكر تعالى ما يقوي دواعي الذكر ، وينهض الهمم إليه ، بمدح الملائكة الذي يسبحون الليل والنهار ، لا يفترون ، فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } [ 206 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ } يعني الملائكة الذين هم في أعلى مقامات القرب { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } أي : لايتعظمون عنها .
وقوله : { وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } أي : فينبغي أن يقتدى بهم فيما ذكر عنهم ، ففيه حث ولطف مرغب في ذلك ، لأنه إذا كان أولئك - وهم ما هم في قرب المنزلة والعصمة - حالهم في عبادته تعالى وتسبيحه ما ذكر ، فكيف ينبغي أن يكون غيرهم .
تنبيهات :
الأول : قال الرازي : تمسك أبو بكر الأصم بهذه الآية في تفضيل الملائكة على البشر قال : لأنه تعالى لما أمر رسوله بالعبادة والذكر قال : { إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ } الآية ، أي : فأنت أولى وأحق بالعبادة ، والمسألة مستوفاة في كتب الكلام .
واستنبط من قال بالتفضيل المذكور من الآية ، أنه ينبغي للعبد أن ينظر إلى من فوقه في طاعة الله تعالى .
الثاني : قال الرازي : المشبهة تمسكوا بقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ } ، وقالوا : لفظ عند مشعر بالجهة .
ثم أجاب بما هو معروف للخلف .
ويعني ـ سامحه الله ـ بالمشبهة الحنابلة ، وهم براء من التشبيه ، كما يعلمه من طالع عقائدهم ، واقفون على حد النصوص بلا تشبيه ولا تعطيل ، ولم ينفردوا بذلك ، فقد تقدمهم من لا يحصى في هذه المسألة . راجع كتاب " العلوّ للذهبيّ " تعلم ما ذكرنا .
الثالث : قال الجشمي : تدل الآية على كون الملائكة مكلفين . وتدل على أنهم سجدوا لله ، وآدم كان قبلة السجود ، لأنه وصفهم بأنهم يسجدون له .
الرابع : هذه أول سجدة في القرآن مما يشرع لتاليها ومستمعها السجود بالإجماع .
وقد ورد في حديث رواه ابن ماجة عن أبي الدرادء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه عدها في سجدات القرآن .
وروى الشيخان عن عبد الله بن عُمَر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن ، فيقرأ
سورة فيها سجدة ، فيسجد ونسجد معه ، حتى ما يجد بعضنا موضعاً لمكان جبهته ، في غير وقت صلاة .
وروى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد ، اعتزل الشيطان يبكي يقول : يا ويلتا أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة ، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار > .
وروى مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < عليك بكثرة السجود لله ، فإنك لا تسجد لله سجدة ، إلا رفعك الله بها درجة ، وحط عنك بها خطيئة > .
الخامس : السجدة المشروعة ، إن كانت لآية أُمر فيها بالسجود فللأمر ، أو حكى فيها استنكاف الكفرة عنه ، فلمخالفتهم وإرغامهم ، أو حكي فيها سجود الأنبياء أو الملائكة ، فللتأسي بهم - كذا في " العناية " ـ .
وهذا آخر ما تيسر تعليقه على سورة الأعراف ، فله الحمد على هذا التسهيل والإسعاف ، ونسأله بمنه وكرمه العون على الإتمام ، فإنه ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ .
وكان الفراغ في ذلك طلوع الشمس من يوم الثلاثاء ، في 26 رمضان المبارك سنة 1321 بشباك السدة العليا اليمنى من جامع السنانية على يد الفقير جمال الدين القاسمي غفر الله له ، ولوالديه ولجميع المؤمنين ، ورحمه وإياهم إنه أرحم الراحمين .(/)
سورة الأنفال
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ 1 ] .
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } .
روى البخاري عن ابن عباس أن سورة الأنفال نزلت في بدر .
وروى الإمام أحمد عن عُبَاْدَة بن الصامت قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشهدت معه بدراً ، فالتقى الناس ، فهزم الله تعالى العدو ، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون ، وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه ، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة ، حتى إذا كان الليل ، وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها ، فليس لأحد فيها نصيب .
قال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق به منا ، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم .
وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم : لستم بأحق بها منا ، نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وخفنا أن يصيب العدو منه غرة ، واشتغلنا به ، فنزلت :
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ } الآية ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على قُواقٍ من المسلمين .
وهذا الحديث رواه الترمذي أيضاً وحسنه ، ورواه ابن حيان في صحيحه ، وصححه الحاكم .
ولفظ ابن إسحاق عن عبادة قال : فينا ، أصحاب بدر ، نزلت ، حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا ، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين على السواء .
وروى أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من صنع كذا وكذا فله من النّفل كذا وكذا > . فتسارع في ذلك شبان القوم ، وبقي الشيوخ تحت الرايات .
فلما كانت المغانم ، جاؤوا يطلبون الذي جعل لهم ، فقال الشيوخ : لا تستأثروا علينا ، فإنا كنا ردءاً لكم ، لو انكشفتم لثُبتُم إلينا ن ، فتنازعوا ، فأنزل الله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ } الآية ، وهذا مما يفيد أن التشاجر كان متنوعاً ، وأن الآية نزلت لفصله .
والأنفال : هي المغانم ، جمع نفل محركة ، وهو الغنيمة ، أي : كل نيل ناله المسلمون من أموال أهل الحرب .
قال ابن تيمية : سميت بذلك ، لأنها زيادة في أموال المسلمين . أي : لأن النفل يطلق على الزيادة ، كما في " التاج " ، ومنه النافلة لصلاة التطوع لزيادتها على الفريضة .
وقوله تعالى : { قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ } قال المهايمي : أي : ليست هي في مقابلة الجهاد ، وإنما مقابله الآجر الأخروي ، وهذه زائدة عليه ، خرجت عن ملك المشركين فصارت ملكاً خالصاً لله ولرسوله . والرسول خليفة يعطيها ، على ما أراه الله ، من يشاء ، لوما أطلق له صلى الله عليه وسلم الحكم فيها فقسمها بينهم بالسوية ، ووهب من استوهبه .
فروى الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال : لما كان يوم بدر قُتل أخي عمير وقتلتُ سعيد بن العاص ، وأخذت سيفه ، وكان يسمى ذا الكتيفة ، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اذهب فاطرحه في القبض ، قال : فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله ، من قتل أخي ، وأخذ سلبي .
قال : فما جاوزت إلا يسيراً حتى نزلت سورة الأنفال .
فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : < اذهب فخذ سلبك > .
وروى الإمام أحمد والترمذي - وصححه - عن سعد بن مالك قال : قلت : يا رسول الله قد شفاني الله اليوم من المشركين ، فهب لي هذا السيف ، فقال : < إن هذا السيف لا لك ولا لي ضعه > .
قال ، فوضعته ثم رجعت ، فقلت : عسى أن يعطي هذا السيف اليوم من لا يبلي بلائي .
قال : إذا رجل يدعوني من ورائي .
قال : قلت : قد أنزل الله فيّ شيئاً . قال : كنت سألتني السيف ، ليس هو لي ، إنه قد وهب لي ، فهو لك . قال : وأنزل الله هذه الآية : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ } الآية .
تنبيهات :
الأول : ذهب بعضهم إلى أن أنفال بدر قسمت من غير تخميس ، ثم نزلت بعد ذلك آية الخمس ، فنسخت الأولى .
قال ابن كثير : فيه نظر . ويرد عليه حديث علي بن أبي طالب في شَارفَيه اللذْين حصلا له ، من الخمس ، يوم بدر . فالصواب أنها مجملة محكمة ، بين مصارفها في آية الخمس .
الثاني : روي عن عطاء أنه فسر الأنفال بما شذّ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال من دابة أو أمةٍ أو متاع .
قال : فهو نفلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع به ما يشاء .
قال ابن كثير : وهذا يقتضي أنه فسر الأنفال بالفيء وهو ما أخذ من الكفار من غير قتال .
قلت : صِدقُ النفل عليه ، لا شك فيه ، وأما كونه المراد من الآية بخصوصه ، فلا يساعده سبب نزولها المارّ ذكره ، لا سيما قوله : { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } المشير إلى التنازع المتقدم .
ثم قال ابن كثير : واختار ابن جرير أنها الزيادة على القسم ، أي : ما يدفع إلى الغازي زائداً على سهمه من المغنم ، والكلام الذي قلته قبل ، يجري هنا أيضاً .
ونقل الرازي عن القاضي ؛ أن كل هذا الوجوه تحتمله الآية . قال : وليس فيها دليل على ترجيح بعضها على بعض ، وإن صح في الأخبار ما يدل على التعين ، قضى به ، وإلا فالكل محتمل .
وكما أن كل واحد منها جائز ، فكذلك إرادة الجميع جائزة فإنه لا تناقض بينها . أي : لصدق النَّفل عليها .
الثالث : وقع عند الزمخشري أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر ، لمن الحكم فيها أللمهاجرين أم للأنصار ، أم لهم جميعاً ؟ فأجيبوا بأن الحاكم فيها الرسول ، وليس لأحد فيها حكم .
تأثر الزمخشري أبو السعود في سوقه لما ذكر ، وزاد عليه اعتماده له ، بتطويل مملّ ، ولا أدري من أين سرت لهم هذا الرواية .
فإن رواة الآثار لم يخرجوها في صحاحهم ولا سننهم ، بل ولا أصحاب السير ، كابن إسحاق وابن هشام ، وهل يمكن للمسلمين أن يختلفوا للحكم على الغنائم ، ويتنازعوا ولايتها ، والرسول بين أظهرهم ؟ ومتى عهد ذلك من سيرتهم ؟ سبحانك
هذا بهتان عظيم ! ولكن هو الرأي قاتله الله ! ونبذ كتب السنة ، والتقليد البحت ، الذي لا يهتم صاحبه بحقائق الأشياء ، ولا يريد معرفتها ولا فحصها بالعقل يضع قدمه على القدم ، حيث يكون مطواعاً لآراء غيره ، منقاداً لها مصدقاً ما ينطق به فمه ، غثاً كان أو سميناً . اللهم نور بصيرتنا بفضلك .
وقوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللّهَ } أي : في الإختلاف والتخاصم ، وكونوا متحدين متآخين في الله .
وقوله تعالى : { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } أي : أحوال بينكم ، يعني ما بينكم من الأحوال ، حق تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق .
وقوله تعالى : { وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ } أي : في قسمه بينكم ، على ما أراه الله تعالى . وقوله تعالى : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي : كاملي الإيمان .
ثم بين تعالى من أريد بالمؤمنين بذكر أوصافهم الجليلة ، المستتبعة لما ذكر من الخصال الثلاث ، ترغيباً لهم في الإمتثال بالأوامر المذكورة ، فقال سبحانه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ 2 ] .
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } أي : الكاملون المخلصون فيه { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ } أي : حقه أو وعيده { وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } أي : فزعت لذكره ، واقشعرت إشفاقاً ألا تكون قامت بحقه ، وتهيباً من جلاله وعزة سلطانه ، وبطشه بالعصاة وعقابه .
قال الجشمي : ومتى قيل : لم جاز وصفهم هاهنا بالوجل والطمأنية في قوله
{ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْر } ، فجوابنا فيه وجوه :
منها : أنه تطمئن قلوبهم عند ذكر نعمه ، وتوجل لخوف عقابه بارتكاب معاصيه .
ومنها : أن قلوبهم تطمئن لمعرفة توحيده ، ووعده ، ووعيده ، فعند ذلك توجل
لأوامره ونواهيه ، خوف التقصير في الواجبات ، والإقدام على المعاصي ، المستقبل يتغير حاله . انتهى .
{ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ } أي : حججه وهي القرآن { زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } أي : يقيناً وطمأنينة نفس ، إلى ما عندهم ؛ فإن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه ، وأثبت لقدمه .
وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة الآية وأشباهها ، على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب ، كما هو مذهب جمهور الأمة ، بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد ، كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد .
{ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي : لا يرجون سواه ، ولا يخشون غيره ، ولا يفوضون أمورهم إلى غيره .
ولما ذكر تعالى ، من أعمالهم الحسنة ، أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل ، أعقبه بأعمال الجوارح من الصلاة والصدقة ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [ 3 ] .
{ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ } أي : المفروضة بحدودها وأركانها ، في أوقاتها .
والموصول نعت للموصول الأول ، أو بيان له ، أو منصوب على المدح .
وقوله : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } عام في الزكاة ، وأنواع البر والقُربات .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ 4 ] .
{ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } أي : لا شك في إيمانهم .
و : { حَقّاً } صفة لمصدر محذوف ، أي : إيماناً حقاً أو مصدر مؤكد للجملة ، أي : حق ذلك حقاً ، كقولك ، هو عبد الله حقاً .
قال عَمْرة بن مرة في هذا الآية : إنما أنزل القرآن بلسان العرب ، كقولك : فلان سيد حقاً ، وفي القوم سادة ، وفلان تاجر حقاً ، وفي القوم تجار ، وفلان شاعر حقاً ، وفي القوم شعراء . انتهى .
وكأنه أراد الرد على من زعم أن حقاً من صلة قوله : { لَّهُمْ دَرَجَاتٌ } بعد ، تأكيداً له ، وأن الكلام تم عند قوله
{ الْمُؤْمِنُونَ } ، فإن هذا الزعم يصان عند أسلوب التنزيل الحكيم .
وقد تطرف بعض المفسرين هنا لمسألة شهيرة وهي : هل يجوز أن يقال : أنا مؤمن حقاً .
قال الطوسي في " نقد المحصل " : المعتزلة ومن تبعهم يقولون : اليقين لا يحتمل الشك والزوال ، فقول القائل : أنا مؤمن إن شاء الله لا يصح إلا عند الشك ، أو خوف الزوال . وما يوهم أحدهما ، لا يجوز أن يقال للتبرك . انتهى .
والغزالي في الإحياء ، بسط هذه المسألة ، وأجاب عمن سوغ ذلك بأجوبة :
منها : التخوف من الخاتمة ، لأن الإيمان موقوف على سلامة الخاتمة .
ومنها : الإحتراز من تزكية النفس .
ومنها : غير ذلك ، انظره بطوله .
وقال ابن حزم في " الفصل " : القول عندنا في هذه المسألة ؛ أن هذه صفة يعلمها المرء من نفسه ، فإن كان يدري أنه مصدق بالله عز وجل ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبكل ما أتى به ، وأنه يقر بلسانه بكل ذلك ، فواجب عليه أن يعترف بذلك ، كما أمر تعالى في قوله : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } .
ولا نعمة أوكد ولا أفضل ، ولا أولى بالشكر ، من نعمة الإسلام ، فواجب عليه أن يقول : أنا مؤمن مسلم قطعاً عند الله تعالى في وقتي هذا .
ولا فرق بين قوله أنا مؤمن مسلم ، وبين قوله أنا أسود أو أنا أبيض ، وهكذا سائر صفاته التي لا يشك فيها ، وليس هذا من باب الإمتداح والعجب في شيء ، لأنه فرض عليه أن يحقن دمه بشهادة التوحيد .
وقول ابن مسعود : أنا مؤمن إن شاء الله عندنا صحيح ، لأن الإسلام والإيمان إسمان منقولان عن موضوعهما في اللغة ، إلى جميع البر والطاعات .
فإنما منع ابن مسعود الجزم على معنى أنه مستوف لجميع الطاعات ، وهذا صحيح .
ومن ادعى لنفسه هذا فقد كذب بلا شك ، وما منع أن يقول المرء إني مؤمن بمعنى مصدق .
وأما قول المانعين : من قال أنا مؤمن ، فليقل إنه من أهل الجنة فالجواب : إنا نقول إن متنا على ما نحن عليه الآن ، فلا بد لنا من الجنة بلا شك .
وبرهان ذلك أنه قد صح من نصوص القرآن والسنن والإجماع ، أن من آمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وبكل ما جاء به ، ولم يأت بما هو كفر ، فإنه في الجنة إلا أننا لا ندري ما يفعل بنا في الدنيا ، ولا نأمن مكر الله تعالى ، ولا إضلاله ، ولا كيد الشيطان ؛ ولا ندري ماذا نكسب غداً ، ونعوذ بالله من الخذلان . انتهى كلام ابن حزم رحمه الله .
ولقد أجاد فيما أفاد .
وقوله تعالى : { لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ } أي : منازل ومقامات عاليات في الجنة { وَمَغْفِرَةٌ } أي : تجاوز لسيئاتهم { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } وهو ما أعد لهم من نعمي الجنة .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية على أشياء :
منها : أن الإيمان إسم شرعي لثلاث خصال : القول ، والإعتقاد ، والعمل ، خلاف ما تقوله المرجئة ، لأن الوجل وزيادة التصديق من فعل القلب ، والتدبر والتفكر كذلك ، والصلاة والإنفاق من أعمال الجوارح ، والتوكل يشتمل على فعل القلب والجوارح .
ثم بين في آخره أن من جمع هذه الخصال فهو المؤمن حقاً .
ومنها : أن الواجب عند تلاوة القرآن التدبر والتفكر فيما أمر ونهى ، ووعد وأوعد ، لينجر للرغبة والرهبة ، وذلك حث على الطاعة ، وزجر عن المعاصي .
ومنها : وجوب التوكل عليه ، والتوكل على ضربين : منها في الدنيا ، ومنها في الدين .
أما في الدنيا فلا بد من خصال :
منها : أن يطلب مصالح دنياه من الوجه الذي أتيح له ، ولا يطلب محرماً
ومنها : إذا حرم الرزق الحلال لا يعدل إلى محرّم .
ومنها : ألا يظهر الجزع عند الضيق ، بل يسلك فيه طريق الصبر ، واعتقاد أن ما هو فيه مصلحة له .
ومنها : أن ما يرزق من النعم بعدها من جهته تعالى ، إما بنفسه أو بواسطة .
ومنها : ألا يحسبه عن حقوقه خشية الفقر .
ومنها : ألا يسرف في النفقة ولا يفتقر .
فعند اجتماع هذه الخصال يصير متوكلاً .
فأما الذي يزعمه بعضهم ؛ أن التوكل إهمال النفس ، وترك العمل ، فليس بشيء .
وقد أمر الله تعالى بالإنفاق ، وبالعمل ، وثبت عن الصحابة
ـ وهم سادات الإسلام - التجارة والزراعة والأعمال ، وكذلك التابعين ، وبهذا أجرى الله العادة .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي أن يعقل ناقته ويتوكل .
فأما التوكل في الدين فخصال :
منها : أن يقوم بالواجبات ، ويجتنب المحارم ، لأنه بذلك يصل إلى الجنة والرحمة .
ومنها : أن يسأله التوفيق والعصمة .
ومنها : أن يرى جميع نعمه منه ، إذا حصل بهدايته وتمكينه ولطفه .
ومنها : أن لا يثق بطاعته جملة ، بل يطيع ويجتنب المعاصي ، ويرجو رحمة ربه ، ويخاف عذابه ، فعند ذلك يكون متوكلاً .
ثم قال الجشمي : وتدل الآية على أن تارك الصلاة والزكاة لا يكون مؤمناً ، خلاف قول المرجئة . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } [ 5 ] .
وقوله تعالى : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } الكاف في كما كاف التشبيه ، والعامل فيه يحتمل وجوها ، فإما هو معنى الفعل الذي دل عليه : { قُلِ الأَنْفَالُ لِلّهِ } تقديره نزع الأنفال من أيديهم بالحق ، كما أخرجك بالحق . وإما هو معنى الحق ، يعني هذا الذكر حق ، كما أخرجك بالحق ، وإما أنه خبر مبتدأ محذوف هو المشبه ، أي : حالهم هذه في كراهة تنفيل الغزاة ، كحال إخراجك من بيتك للحرب في كراهتهم له كما سيأتي في تفصيل القصة .
وهذا هو قول الفرّاء ، فإنه قال : الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته ، بالقصة المتقدمة ، التي هي سؤالهم عن الأنفال وكراهتهم لما وقع فيها ، مع أنها أولى بحالهم .
وقوله تعالى : { مِنْ بَيْتِكَ } أراد به بالمدينة ، أو المدينة نفسها ، لأنها مثواه ، أي : إخراجه إلى بدر .
وزعم بعض أن المراد إخراجه صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة للهجرة ، وهو ساقط ، برده سياق القصة البدرية في الآيات بعد .
وملخصها أن أبا سفيان قدم بعير من الشام في تجارة عظيمة فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليغنموها ، فعلمت قريش ، فخرج أبو جهل ومقاتلو مكة ليذبوا عنها ، وهم النفير . وأخذ أبو سفيان بالعير
طريق الساحل ، فنجت ، فقيل لأبي جهل : ارجع ، فأبى وسار إلى بدر .
فشاور صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال لهم : إن الله وعدني إحدى الطائفتين ، فوافقوه على قتال النفير ، وكره بعضهم ذلك ، وقالوا : لم نستعد له ، كما قال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ } [ 6 ] .
{ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ } وهو الجهاد وتلقي النفير { بَعْدَمَا تَبَيَّنَ } أي : ظهر لهم أنهم يُنصرون فيه { كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ } أي : يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت ، وهو ناظر إلى أسبابه ، وكان ذلك لقلة عددهم ، وعدم تأهبهم .
إذا روي أنهم كانوا ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً ، فيهم فارسان : المقداد والزبير ، وقيل الأول فقط . والمشركون ألف ، ذوو عِدة وعُدة وفيه تعريض بأنهم إنما يسار بهم إلى الظفر والغنيمة للوعد الحق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ } [ 7 ] .
{ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ } العير أو النفير { أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ } أي : تحبون { أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } وهو العير ، لا ذات الشوكة ، وهي النفير ، والشوكة : السلاح أو حدته .
{ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ } أي : يثبته ويعليه ، وهو دعوة رسوله { بِكَلِمَاتِهِ } أي : بآياته المنزلة ، وأوامره في هذا الشأن { وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ } أي : يستأصلهم فلا يبقى منهم أحداً .
ثم بين تعالى الحكمة في اختيار ذات الشوكة لهم ونصرتهم عليها ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } [ 8 ] .
{ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ } أي : ليثبت الدين الحق ، ويمحق الدين الباطل ، باستئصال أهله ، مع ظهور شوكتهم { وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } أي : المشركون ذلك .
ثم ذكرهم تعالى التجاءهم إليه ، واستمدادهم منه النصر يوم بدر ، وإمداده حينئذ بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ } [ 9 ] .
{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } أي : تطلبون منه الغوث ، وهو التخلص من الشدة ، والعون بالنصر عليهم { فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } أي : الدعاء { أَنِّي مُمِدُّكُم } أي : معينكم { بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ } بكسر الدال ، أي : متتابعين ، بعضهم على إثر بعض ، أومردفين غيرهم .
وقرئ بفتحها على معنى أن الله أردف المسلمين بهم ، أو مردفين بغيرهم ، أي : من ملائكة آخرين .
وقرئ ( بآلاف ) بالجمع ، كما يأتي .
روى مسلم عن ابن عباس قال : حدثني عُمَر بن الخطاب قال : لما كان يوم بدر ، نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف ، وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ؛ فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ، ثم مد يده ، فجعل يهتف بربه ويقول : < اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم آتني ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام ، لا تعبد في الأرض > . فما زال يهتف بربه ماداً يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فأتاه أبو بكر ، فأخذ رداءه ، فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من ورائه ، وقال : يا نبي الله ! كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله عز وجل : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } .
وروى البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر :
< هذا جبريل آخذ برأس فرسه ، عليه أداة الحرب > .
وروى البخاري عن معاذ بن رِفاعة ، عن رافع الزرقيّ ، عن أبيه - وكان ممن شهد بدراً - قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال : من أفضل المسلمين - أو كلمة نحوها - قال : وكذلك من شهد بدراً من الملائكة .
تنبيهات :
الأول : قال الجمشي : تدل الآية على أن الملك يجوز أن يتشبه بالآدمي ، ولا يخرج من كونه ملكاً ، بأن يغير أطرافهم دون الأجزاء التي صاروا بها أحياء والذي ينكر أن يقدر أحد على تغيير الصور ، بل نقول : إن الله هو الذي يقدر على ذلك .
انتهى .
الثاني : قال الزمخشري : وعن السدي : { بِآلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ } - على الجمع - ليوافق ما في سورة آل عِمْرَان .
فإن قلت : فيم يُعتذر لمن قرأ على التوحيد ، ولم يفسرالمردفين بإرداف الملائكة ملائكة آخرين ، و المردفين بارتدافهم غيرهم ؟
قلت : بأن المراد بالألف ، من قاتل منهم ، أو الوجوه منهم ، الذين من سواهم أتباع لهم . انتهى .
قال شمس الدين ابن القيم في " زاد المعاد " في بحث غزوة بدر :
فإن قيل : هاهنا ذكر أنه أمدهم بألف ، وفي سورة آل عِمْرَان قال : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ } ، فكيف الجمع بينهما ؟
قيل : أختلف في هذا الإمداد الذي بثلاثة آلاف ، والذي بخمسة على قولين :
أحدهما : أنه كان يوم أُحد ، وكان إمداداً معلقاً على شرط ، فلما فات شرطه ، فات الإمداد . وهذا قول الضحاك ومقاتل ، وإحدى الروايتين عن عِكْرِمَة .
والثاني : أنه كان يوم بدر ، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة ، والرواية الأخرى عن عِكْرِمَة ، واختاره جماعة من المفسرين .
وحجة هؤلاء ، أن السياق يدل على ذلك ، فإنه سبحانه قال :
{ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ } ، إلى أن قال : { وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ } أي : هذا الإمداد : { إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ } .
قال هؤلاء : فلما استغاثوا ، أمدهم بألف ، ثم أمدهم بتمام ثلاثة آلاف ، ثم أمدهم بتمام خمسة آلاف ، لما صبروا واتقوا . وكان هذا التدريج ، ومتابعة الإمداد ، أحسن موقعاً ، وأقوى لتقويتهم وأسرّ لها من أي : يأتي مرة واحدة ، وهو بمنزلة متابعة الوحي ، ونزوله مرة بعد مرة .
وقالت الفرقة الأولى : القصة في سياق أُحُد ، وإنما أدخل ذكر بدر اعتراضاً في أثنائها ، فإنه سبحانه قال : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } ، ثم قال : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فذكره نعمه عليهم ، لما نصرهم ببدر وهم أذلة ، ثم عاد إلى قصة أُحُد ، وأخبر عن قول رسوله لهم : { أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم
بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ }
ثم وعدهم أنهم إن صبروا واتقوا أمدهم بخمسة آلاف .
فهذا من قول رسوله ، والإمداد الذي ببدر من قوله تعالى ، وهذا بخمسة آلاف ، وإمداد بدر بألف ، وهذا معلق على شرط ، وذلك مطلق .
والقصة في سورة آل عِمْرَان ، هي قصة أُحد مستوفاة مطولة ، و بدر ذكرت فيها اعتراضاً .
والقصة في سورة الأنفال قصة بدر مستوفاة مطولة ، فالسياق في آل عِمْرَان غير السياق في الأنفال ، يوضح هذا أن قوله : { وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا } قد قال مجاهد : هو يوم أُحُد ، وهذا يستلزم أن يكون الإمداد المذكور فيه ، فلا يصح قوله إن الإمداد بهذا العدد كان يوم بدر وإتيانهم من فورهم هذا يوم أُحُد ، والله أعلم . انتهى .
وقوله تعالى(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ 10 ] .
{ جَعَلَهُ اللّهُ } أي : هذا الإمداد { إِلاَّ بُشْرَى } أي : بشارة لكم بالنصر ، { وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ } أي : من غير أن يكون فيه شركة لغيره { إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } قال بعض الحكماء : ذكر تعالى في هذه الآية حكمة إخبارهم بالنصر ، وأنه يريد بشراهم وطمأنينتهم وتوكلهم عليه ، وهو أدعى إلى قوة العزيمة ، فإن العامل إذا أيقن بأن معه قاهر الكون : رفعته تلك الفكرة ، وجعلته أقوى الناس ، وأقدرهم على صعاب الأمور ، لا كما يظنه المنتكسون الجاهلون الكسالى اليائسون من روح الله ، حيث جعلوا التوكل ذريعة إلى البطالة ، فباؤا بغضب على غضب . انتهى .
ثم ذكرهم سبحانه بنعم أخرى جعلها سبباً لنصرهم ، وللعناية بهم ، فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ } [ 11 ] .
{ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ } أي : يلقي عليكم النوم للأمن الكائن منه تعالى
مما حصل لكم من الخوف من كثرة عدوكم .
وقد كان أسهرهم الخوف ، فألقى تعالى عليهم النوم فأمنوا واستراحوا . وكذلك فعل تعالى بهم يوم أُحُد ، كما قال جل ذكره : { ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ } ، وقرئ : { يُغْشيكمَ } من الإغشاء ، بمعنى التغشية والفاعل في الوجهين هو الله تعالى وقرئ : { يَغْشاكم } على إسناد الفعل إلى النعاس .
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق رضي الله عنه ، وهما يدعوان ، أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة من النوم ، ثم استيقظ متبسماً ، فقال : < أبشر يا أبا بكر ، هذا جبريل ، على ثغاياه النقع > . ثم خرج من باب العريش ، وهو يتلوا
{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } .
ثم ذكرّهم تعالى منة أخرى تدل على نصره إياه بقوله سبحانه : { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ } أي : من الحدث الأصغر والأكبر ، وهو تطهير الظاهر { وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ } أي : وسوسته ، بأنكم على هذا الرمل لا تتمكنون من المحاربة ، ومع فقد الماء كيف تفعلون ؟ فأزال تعالى بإنزاله ، ذلك ، فكان لهم به طهارة باطنة ، فكملت لهم الطهارتان ، أي : من وسوسة أو خاطر سيء ، وهو تطهير الباطن : { وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ } أي : يقويها بالثقة ، بالأمن وزوال الخوف .
{ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ } أي : على الرمل .
قال مجاهد : أنزل الله عليهم المطر ، فأطفأ به الغبار ، وتلبدت به الأرض ، وطابت نفوسهم ، وثبتت به أقدامهم .
قال الجشمي : قال القاضي : وهو أشبه بالظاهر .
وقيل بالصبر وقوة القلب التي أفرغها عليهم ، حتى ثبتوا لعدوهم . وقوله به ، يرجع إلى الماء المنزل ، أو إلى ما تقدم من البشارة والنصر .
ثم أشار تعالى إلى نعمة خفية أظهرها تعالى لهم ليشكروه عليها بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [ 12 ] .
{ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ } أي : الذين أمدّ بهم المسلمين ، { أَنِّي مَعَكُمْ } أي : بالعون والنصر .
قال الجشمي : يحتمل مع الملائكة ، إذا أرسلهم ردءاً للمسلمين ، ويحتمل مع المسلمين ، كأنه قيل : أوحي إلى الملائكة أني مع المؤمنين ، فانصروهم وثبتوهم .
وقوله تعالى : { فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ } أي : بدفع الوسواس وبالقتال معهم والحضور مدداً وعوناً { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ } أي : الخوف .
ثم علمهم تعالى كيفية الضرب بقوله تعالى : { فَاضْرِبُواْ } أمر للمؤمنين أو للملائكة . وعليه ، ففيه دليل على أنهم قاتلوا : { فَوْقَ الأَعْنَاقِ } أي : أعالي الأعناق التي هي المذابح ، تطييراً للرؤوس ، لأنها فوق الأعناق .
{ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } أي : أصابع ، جمع بنانة ، قيل : المراد بالبنان ، مطلق الأطراف مجازاً ، تسمية للكل بالجزء ، لوقوعها في مقابلة الأعناق والمقاتل .
والمعنى : اضربوهم كيفما اتفق من المقاتل وغيرها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ } [ 13 ] .
{ ذَلِكَ } أي : الضرب أو الأمر بت { بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ } أي : خالفوهما فيما شرعا .
وقوله تعالى : { وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } تقرير لما قبله ، إن أريد بالعقاب ما وقع لهم في الدنيا ، أو وعيد بما أعد لهم في الآخرة ، بعد ما حاق بهم في الدنيا ، وبيان لخسرانهم في الدارين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ } [ 14 ] .
{ ذَلِكُمْ } خطاب للكفرة على طريقة الالتفات { فَذُوقُوهُ } أي : ذلك العذاب أيها الكفار في الدنيا { وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ } في الآخرة .
ثم نهى تعالى عن الفرار من الزحف ، مبيناً وعيده بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ } [ 15 ] .
أي : الظهور بالإنهزام ، والزحف الجيش الكثير ، تسمية بالمصدر ، و الجمع زحوف ، مثل فلس وفلوس .
ويقال : زحف إليه ، أي : مشى ، وزحف الصبي على إسته قبل أن يقوم . شبه بزحف الصبيان مشي الجيش الكثير للقتال ، لأنه لكثرته يرى كأنه يزحف ، أي : يدب دبيبا قبل التداني للضراب أو الطعان .
قال أبو السعود : { زَحْفاً } منصوب ، إما على أنه حال من مفعول : { لَقِيتُمْ } أي : زاحفين نحوكم ، أو على أنه مصدر مؤكد لفعل مضمر ، هو الحال منه ، أي : يزحفون زحفاً .
وأما كونه حالاً من فاعله أو منه ، ومن مفعوله معاً كما قيل فيأباه قوله تعالى : { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ } ، إذ لا معنى لتقييد النهي عن الإدبار بتوجههم السابق إلى العدو أو بكثرتهم ، بل توجه العدو إليهم وكثرتهم هو الداعي إلى الإدبار عادة ، والمحوج إلى النهي عنه .
وحمله على الإشعار بما سيكون منهم يوم حنين ، حيث تولوا مدبرين ، وهم زحف من الزحوف اثنا عشر ألفاً بعيد .
والمعنى : إذا لقيتموهم للقتال ، وهم كثير جم وأنتم قليل ، فلا تولوهم أدباركم ، فضلاً عن الفرار ، بل قابلوهم وقاتلوهم ، فضلاً عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم .
قال الشهاب : عدل عن لفظ الظهور إلى الأدبار تقبيحاً للإنهزام ، وتنفيراً عنه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ 16 ] .
{ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ } أي : يوم اللقاء { دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ } أي : مائلاً له .
يقال : تحرف وانحرف واحرورف : مال وعدل ، وهذا التحرف إما بالتوجه إلى قتال طائفة أخرى أهم من هؤلاء ، وإما بالفرّ للكر ، بأن يخيل عدوه أنه منهزم ليغره ، ويخرجه من بين أعوانه ، فيفر عنه ، ثم بكرّ عليه وحده أو مع من في الكمين من أصحابه ، وهو باب من مكايد الحرب : { أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ } أي : منضماً إلى جماعة أخرى من المسلمين ليستعين بهم : { فَقَدْ بَاء } أي : رجع
{ بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي : ما صار إليه من عذاب النار .
تنبيهات :
الأول : دلت الآية على وجوب مصابرة العدو ، أي : الثبات عند القتال ، وتحريم الفرار منه يوم الزحف ، وعلى أنه من الكبائر ، لأنه توعده عليه وعيده شديداً .
الثاني : ظاهر الآية العموم لكل المؤمنين في كل زمن ، وعلى كل حال ، إلا حالة التحرف ، أو التحيز ، وهو مروي عن ابن عباس ، واختاره أبو مسلم .
قال الحاكم : وعليه أكثر الفقهاء .
وروى عن جماعة من السلف ، أن تحريم الفرار المذكور مختص بيوم بدر ، لقوله تعالى : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ } وأجيب بأن الإشارة في : { يَوْمَئِذٍ } إلى يوم لقاء الزحف كما يفيده السياق ، لا إلى يوم بدر .
الثالث : ذهب جماعة من السلف إلى أن معنى قوله تعالى :
{ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ } أي : جماعة أخرى من المسلمين ، سوى التي هو فيها ، سواء قربت تلك الفئة أو بعدت وقد روي أن أبا عبيد قتل على الجسر بأرض فارس ، لكثرة الجيش من ناحية المجوس ، فقال عمر رضي الله عنه : لو تحيز إلي لكنت له فئة .
وفي رواية عنه : أيها الناس ! أنا فئتكم .
وقال الضحاك : المتحيز إلى فئة ، الفارّ إلى النبي وأصحابه .
وكذلك من فر اليوم إلى أميره أو أصحابه ، وجنح إلى هذا ابن كثير حيث قال :
من فر من سرية إلى أميره ، أو إلى الإمام الأعظم ، دخل في هذه الرخصة .
ثم أورد حديث عبد الله بن عُمَر المروي عند الإمام أحمد وأبي داود والترمذي وغيرهم ، قال : كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحاص الناس حيصة ، فكنت فيمن حاص ، فقلنا : كيف نصنع ، وقد فررنا من الزحف ، وبؤنا بالغضب ، ثم قلنا : لو دخلنا المدينة فبتنا ! ثم قلنا : لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كانت لنا توبة ، وإلا ذهبنا ! فأتيناه قبل صلاة الغداة ، فخرج فقال : < من القوم > ؟ فقلنا : نحن الفرارون . فقال :
< لا ، بل أنتم العكّارون ، أنا فئتكم وفئة المسلمين > ، قال : فأتيناه حتى قبلنا يده .
قال الترمذي : حديث حسن ، لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد . انتهى .
أي : وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة .
قال الحاكم في مسألة الفرار : إن ذلك يرجع إلى ظن المقاتل واجتهاده ، فإن ظن المقاومة لم يحل الفرار ، وإن ظن الهلاك جاز الفرار
إلى فئة وإن بعدت ، وإذا لم يقصد الإقلاع عن الجهات . وحمل عليه حديث ابن عمر المذكور .
وعن الكرخي : أن الثبات والمصابرة واجب ، إذا لم يخش الإستئصال ، وعرف عدم نكايته للكفار ، والتجأ إلى مصرٍ للمسلمين ، أو جيش ، وهكذا أطلق في
" شرح الإبانة " فلم يبح الفرار إلا بهذا الشروط الثلاثة ، ولم يعتبر العدد الآتي بيانه .
الرابع : روي عن عطاء أن حُكم هذه الآية منسوخ بقوله تعالى : { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ } ، قال الحاكم : إذا أمكن الجمع فلا نسخ وأقول : كنا أسلفنا أن السلف كثيراً ما يعنون بالنسخ تقييد المطلق ، أو تخصيص العام ، فلا ينافي كونها محكمة إطلاقهم النسخ عليها .
قال بعض الأئمة : هذا الآية عامة تقضي بوجوب المصابرة ، وإن تضاعف عدد المشركين أضعافاً كثيرة ، لكن هذا العموم مخصوص بقوله تعالى في السورة هذه : { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا
أَلْفا } .
وعن ابن عباس : من فرّ من اثنين فقد فرّ ، ومن فرّ من ثلاثة فلم يفرّ .
وبالجملة ، فلا منافاة بين هذه الآية وآية الضعف ، فإن هذه الآية مقيدة بها ، فيكون الفرار من الزحف محرماً بشرط بينه الله في آية الضعف .
وفي " المهذب " : إن زاد عددهم على مثلي عدد المسلمين ، جاز الفرار ، لكن إن غلب على ظنهم أنهم لا يهلكون ، فالأفضل الثبات ، وإن ظنوا الهلاك ، فوجهان : يلزم الإنصراف لقوله تعالى : { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } .
والثاني : يستحب ولا يجب ، لأنهم إن قُتلوا فازوا بالشهادة وإن لم يزد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين ، فإن لم يظنوا الهلاك لم يجز الفرار ، وإن ظنوه فوجهان :
يجوز لقوله تعالى : { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } .
ولا يجوز ، وصححوه لظاهر الآية .
ثم بين تعالى أن نصرهم يوم بدر ، مع قلتهم ، كان بحوله تعالى وقوته ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 17 ] .
{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ } أي : بقوتكم { وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ } أي : سبب في قتلهم بنصرتكم وخذلانهم وألقى الرعب في قلوبهم ، وقوى قلوبكم ، وأمدكم بالملائكة ، وأذهب عنها الفزع والجزع .
{ وَمَا رَمَيْتَ } أي : أنت يا خاتم النبيين ، أي : ما بلغت رمية الحصباء إلى وجوه المشركين { إِذْ رَمَيْتَ } أي : بالحصباء ، لأن كفاً منها لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية بشر { وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى } أي : بلغ بإيصال ذلك إليهم ليقهرهم .
وقال أبو مسلم في معنى الآية : أي : ما أصبت إذا رميت ، ولكن الله أصاب .
والرمي لا يطلق إلا عند الإصابة ، وذلك ظاهر في أشعارهم .
وقد روي عن غير واحد ، أنها نزلت في شأن القبضة من التراب التي حصب بها النبي صلى الله عليه وسلم وجوه المشركين يوم بدر ، حين خرج من العريش ، بعد دعائه وتضرعه واستكانته ، فرماهم بها وقال : < شاهت الوجوه > . ثم أمر أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها ، ففعلوا ، فأوصل الله تلك الحصباء إلى أَعْيَن المشركين ، فلم يبق أحد منهم إلا ناله ما شغله عن حاله ، وانهزموا .
تنبيه :
قال الجشمي : تدل الآية أن فعل العبد يضاف إليه تعالى إذا كان بنصرته ومعونته وتمكينه ، إذ معلوم أنهم قتلوا ، وأنه رمى ، ولذلك قال : { إِذْ رَمَيْتَ } ولهذا يضاف إلى السيد ما يأتيه غلامه .
وتدل على أن الإضافة بالمعونة والأمر ، صارت أقوى ، فلذلك قال : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ } .
وقال في " العناية " : استدل بهذه الآية والتي قبلها على أن أفعال العباد بخلقه تعالى ، حيث نفى القتل والرمي .
والمعنى : إذ رميت أو باشرت صرف الآلات .
والحاصل : ما رميت خلقاً إذا رميت كسباً . وأورد عليه أن المدعي وإن كان حقاً ، لكن لا دلالة في الآية عليه ، لأن التعارض بين النفي والإثبات الذي يتراءى في بادئ النظر ، مدفوع بأن المراد ما رميت رمياً تقدر به على إيصاله إلى جميع العيون ، وإن رميت حقيقة وصورة ، وهذا مراد من قال : ما رميت حقيقة إذ رميت صورة ، فالمنفي هو الرمي الكامل ، والمثبت أصله ، وقدر منه .
فالإثبات والنفي لم يردا على
شيء واحد ، حتى يقال : المنفي على وجه الخلق ، والمثبت على وجه المباشرة ، ولو كان المقصود هذا لما ثبت المطلوب بها ، الذي هو سبب النزول ، من أنه أثبت له الرمي ، لصدوره عنه ، ونفى عنه ، لأن أثره ليس في طاقة البشر ، ولذا عدت معجزة له ، حتى كأنه لا مدخل له فيها أصلاً . فمبنى الكلام على المبالغة ، ولا يلزم منه عدم مطابقته للواقع ، لأن معناه الحقيقي غير مقصود . هكذا ينبغي أن يفهم هذا المقام إذ لو كان المراد ما ذكر ، لم يكن مخصوصاً بهذا الرمي ، لأن جميع أفعال العباد كذلك بمباشرتهم وخلق الله . انتهى .
وهذا التحقيق جيد ، وقد نبه عليه أيضاً العلامة ابن القيم في " زاد المعاد " حيث قال :
وقد ظنت طائفة أن الآية دلت على نفي الفعل عن العبد وإثباته لله ، وأنه هو الفاعل حقيقة ، وهذا غلط منهم من وجوه عديدة ، مذكورة في غير هذا الموضع .
ومعنى الآية : أن الله سبحانه أثبت لرسوله ابتداء الرمي ، ونفى عنه الإيصال الذي لم يحصل برميه ، فالرمي يراد به الحذف والإيصال ، فأثبت لنبيه الحذف ، ونفى عنه الإيصال . انتهى .
وقوله تعالى : { وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ } أي : ليمنحهم من فضله { بَلاء حَسَناً } أي : منحاً جميلاً ، بالنصر والغنيمة والفتح ، ثم بالأجر والمثوبة ، غير مشوب بمقاساة الشدائد والمكاره ، فيعرفوا حقه ويشكروه .
قال أبو السعود : واللام ، إما متعلقة بمحذوف متأخر ، فالواو اعتراضية ، أي : وللإحسان إليهم بالنصر والغنيمة ، فعل ما فعل ، لا لشيء غير ذلك ، مما لا يجديهم نفعاً ، وإما برمي ، فالواو للعطف على علة محذوفة ، أي : ولكن الله رمى ليمحق الكافرين وليبلي . . الخ . وتفسير البلاء هنا بالمنحة هو ما اختاره المحققون من قولهم : أبلاه الله ببلية إبلاء حسناً ، إذا صنع به صنعاً جميلاً ، وأبلاه معروفاً ، قال زهير في قصيدته التي مطلعها :
~صحا القلبُ عن سَلََْمَى وقد كَادَ لا يَسْلُو وأقفر من سَلْمَى التَّعانيقُ والثِّقلُ
والتعانيق والثقل : مواضع :
~جزى اللهُ بالإحسانِ ما فعلا بكم وأبلاهما خَيْرَ البَلاءِ الذي يَبْلُو
أي : إحسان فعلهما بكم ، فأبلاهما خير البلاء ، أي : صنع الله إليهما خير الصنيع الذي يبتلي به عباده ، والْإِنْسَاْن يبلى بالخير والشر ، أي : صنع بهما خير
الصنيع الذي يبلو به عباده .
واستظهر الطيبي تفسيره بالإبلاء في الحرب بدليل ما بعده . قال ابن الأعرابي : يقال : أبلى فلان إذا اجتهد في صفة حرب أو كرم ، ويقال : أبلى ذلك اليوم بلاء حسناً .
{ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ } أي : لدعائهم واستغاثتهم { عَلِيمٌ } أي : بمن يستحق النصر والغلب وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ } [ 18 ] .
{ ذَلِكُمْ } إشارة إلى البلاء الحسن ، أو القتل ، أو الرمي . ومحله الرفع ، أي : المقصود أو الأمر ذلكم .
وقوله : { وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ } معطوف عليه ، أي : مضعف بأس الكافرين وحيلهم بنصركم وخذلانهم ، أي : أن المقصود إبلاء المؤمنين ، وتوهين كيد الكافرين .
قال ابن كثير : هذا بشارة أخرى ، مع ما حصل من النصر ، فإنه أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل ، مصغر أمرهم ، وأنه في تبار ودمار ، أي : وقد وجد المخبر على وفق الخبر ، فصار معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولله الحمد والمنة .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } [ 19 ] .
{ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ } خطاب للمشركين ، أي : إن تطلبوا الفتح ، أي : القضاء وأن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين ، فقد جاءكم القضاء بما سألتم .
روى الإمام أحمد والنسائي والحاكم ، وصححه ، عن عبد الله بن ثعلبة أن أبا جهل قال ، حين التقى القوم : اللهم أقطعنا للرحمِ وآتانا بما لا نعرفه ، فأحِنْهُ - أي : فأهلكه - الغداة ، فكان المستفتِحَ .
وعن السّدّي ، أن المشركين حين خرجوا من مكة إلى بدر : أخذوا بأستار
الكعبة ، فاستنصروا الله وقالوا : اللهم انصر أعز الجندين ، وأكرم الفئتين ، وخير القبليتين ، فقال تعالى : { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا } الآية .
وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ؛ أن هذه الآية إخبار عنهم بما قالوا : { اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ } الآية ، قيل : في هذا الخطاب تهكم بهم ، يعني في قوله تعالى : { فَقَدْ جَاءكُمُ
الْفَتْحُ } لأن الذي جاءهم الهلاك والذلة . كذا في " العناية " .
وهو مبني على أن الفتح بمعنى النصر ، وله معنى آخر وهو الحكم بين الخصمين والقضاء . وبهما فسرت الآية أيضاً .
{ وَإِن تَنتَهُواْ } أي : عن الكفر وعداوة الرسول { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي : في الدنيا والآخرة { وَإِن تَعُودُواْ } أي : لمحاربة الرسول : { نَعُدْ } أي : لنصره عليكم { وَلَن تُغْنِيَ } أي : تدفع { عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : بالنصر . قرئ بكسر ( إن ) استئنافاً ، وفتحها ، على تقدير اللام .
تنبيه :
جُوِّز أن يكون الخطاب في قوله تعالى : { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا } للمؤمنين ، أي : إن تطلبوا النصر باستغاثتكم ربكم ، فقد حصل لكم ذلك ، فشكروا ربكم ، والزموا طاعته .
وقوله تعالى : { إن تَنتَهُواْ } أي : عن المنازعة في أمر الأنفال ، وعن طلب الفداء على الأسرى الذي عوتبوا عليه بقوله تعالى : { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَق } ، فقال تعالى : { وَإِنْ تَنْتَهُوا }
عن مثله - : { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ } إلى تلك المنازعات نعد عليكم بالإنكار ، وتهييج العدوّ ؛ لأن الوعد بنصرتكم مشروط بشرط استمراركم على الطاعة ، وترك المخالفة ، ثم لا تنفعكم الفئة والكثرة ، إذا لم يكن الله معكم بالنصر ، فإنه مع الكاملين في إيمانهم .
وهذا الوجه قرره الرازي ونقله عن القاضي .
قال البيضاوي : ويؤكده الآية بعدُ ، فإن المراد بها الأمر بطاعة الرسول ، والنهي عن الإعراض عنه ، والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ } [ 20 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ } أي : تعرضوا عنه بمخالفة أمره : { وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ } أي : القرآن الناطق بوجوب طاعته ، والمواعظ الزاجرة عن مخالفته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } [ 21 ] .
{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا } أي : ادعوا السماع { وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } أي : سماع تدبر واتعاظ ، وهم المنافقون أو المشركون .
فالمنفي سماع خاص ، لكنه أتى به مطلقاً للإشارة إلى أنهم نزلوا منزلة من لم يسمع أصلاً ، بجعل سماعهم بمنزلة العدم . وقيل : السماع عن التصديق .
قال الزمخشري : والمعنى أنكم تصدقون بالقرآن والنبوة ، فإذا توليتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور ، من قسمة الغنائم وغيرها ، كان تصديقكم كَلاَ تصديق ، وأشبه سماعكم سماع من لا يؤمن .
ثم بين تعالى سوء حال المشبه بهم ، مبالغة في التحذير ، وتقديراً للنهي ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } [ 22 ] .
{ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ } أي : ما يدب على الأرض ، أو شر البهائم : { عِندَ اللّهِ الصُّمُّ } أي : عن سماع الحق { الْبُكْمُ } أي : عن النطق به { الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } أي : لا يفهمونه ، جعلهم تعالى من جنس البهائم ، لصرفهم جوارحهم عما خلقت له ، ثم جعلهم شرها لأنهم عاندوا بعد الفهم ، وكابروا بعد العقل ، وفي ذكرهم في معرض التشبيه ، بهذا الأسلوب ، غاية في الذم .
وقد كثر في التنزيل ، تشبيه الكافرين بنحو هذا ، كقوله تعالى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً } ، وقال تعالى : { أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَل } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } [ 23 ] .
وقوله تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ } أي : في هؤلاء الصم البكم { خَيْراً } صدقاً ورغبة ، { لَّأسْمَعَهُمْ } أي : الحجج والمواعظ ، سماع تفهم وتدبر ، أي : لجعلهم سامعين حتى
يسمعوا سماع المصدقين ، أي : ولكن لم يعلم الله فيهم شيئاً من ذلك ، لخلوّهم عنه بالمرة ، فلم يسمعهم كذلك ، لخلوه عن الفائدة وخروجه عن الحكمة ، وإليه أشير بقوله تعالى : { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ } أي : ولو أسمعهم سماع تفهم ، وهم على هذه الحالة العارية عن الخير بالكلية ، لتولوا عما سمعوه من الحق .
{ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } أي : عن قبوله جحوداً وعناداً .
قال الرازي : كل ما كان حاصلاً ، فإنه يجب أن يعلمه الله ، فقدم علم الله بوجوده ، من لوازم عدمه ، فلا جرم حسُن التعبير عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده .
تنبيه :
قد يتوهم أن الشرطيتين في الآية مقدمتا قياس اقتراني ، هكذا : لو علم فيهم خيراً لأسمعهم ، ولو أسمعهم لتولوا ، ينتج : لو علم فيهم خيراً لتولوا ، وفساده بيّن .
وأجيب : بأنه إنما يلزم النتيجة الفاسدة لو كانت الثانية كلية ، وهو ممنوع .
واعترض بأن هذا المنع ، وإن صح في قانون النظر ، إلا أنه خطأ في تفسير الآية ، لابتنائه على أن المذكور قياس مفقود شرائط الإنتاج ، ولا مساغ لحمل كلام الله عليه .
وأجيب : بأن المراد منع كون القصد إلى ترتيب قياس ، لانتفاء شرط ، لا أنه قياس فقد شرطه ، كما أنه يمنع منه عدم تكرار الوسط أيضاً ، وإنما المقصود من المقدمة الثانية تأكيد الأولى ، إذ مآله إلى أنه انتفى الإسماع ، لعدم الخيرية فيهم ، ولو وقع الإسماع ، لا تحصل الخيرية فيهم ، لعدم قابلية المحل . كذا في " العناية " .
وقد حاول بعضهم تصحيح كونها قياساً شرطياً ، متحد الوسط ، صحيح الإنتاج ، بتقدير : لو علم فيهم خيراً في وقت ، لتولوا بعده .
وقوله تعالى(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [ 24 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } الإستجابة : بمعنى الإجابة . قال :
~وداعٍ دعا يا مَنْ يُجِيبُ إلى النِّدا فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
يريد : فلم يجبه .
وقائله كعب بن سعد الغَنَوِي ، والقصيدة في الأصمعيات رقم 14 .
والمراد بها الطاعة والإمتثال ، وإنما وحد الضمير في قوله : { دَعَاكُمْ } - أي : الرسول - لأنه هو المباشر للدعوة إلى الله تعالى .
وقال الزمخشري : لأن استجابته صلى الله عليه وسلم ، كاستجابته تعالى ، وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد .
وقوله : { لِمَا يُحْيِيكُمْ } ، قال عروة بن الزبير - فيما رواه ابن إسحاق - أي : للحرب التي أعزكم الله تعالى بها بعد الذل ، وقوّاكم بها بعد الضعف ، ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم .
وإنما سمي الجهاد حياة ، لأن في وهن عدوّهم بسببه حياة لهم وقوة ، أو لأنه سبب الشهادة الموجبة للحياة الدائمة ، أو سبب المثوبة الأخروية التي هي معدن الحياة ، كما قال تعالى :
{ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ } أي : الحياة الدائمة ، فيكون مجازاً مرسلاً ، بإطلاق السبب على المسبب ، أو استعارة . وقيل : { لِمَا يُحْيِيكُمْ } أي : من العلوم الدينية التي هي مناط حياة القلب ، كما أن الجهل موته .
قال الشهاب : وإطلاق الحياة على العلم ، والموت على الجهل استعارة معروفة ، ذكرها الأدباء ، وأهل المعاني . وأنشد الزمخشري لبعضهم :
~لا تعجبنّ الجهولَ حُلَّتهُ فَذاك مَيْتٌ ، وثَوبهُُ كَفَنُ
وقد ألمّ فيه بقول أبي الطيب ، من قصيدته التي أولها :
~أفاضلُ الناسِ أغراضٌ لذا الزمنِ يخلوا من الهمِّ أخلاهُم من الفِطَنِ
والأظهر أن يُعنى بما يحييكم ، ما يصلحكم من أعمال البر والطاعة ، فيدخل فيه ما تقدم وغيره .
تنبيه :
استدل النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية على وجوب إجابته إذا نادى أحداً وهو في الصلاة .
روى البخاري عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال : كنت أصلي ، فمرّ بي
النبي صلى الله عليه وسلم ، فدعاني ، فلم آته حتى صليت ، ثم أتيته فقال : ما منعك أن تأتيني ؟ ألم يقل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ } الآية .
وقوله تعالى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } يحتمل وجوهاً من المعاني .
أحدهما : أنه تعالى يملك على المرء قلبه فيصرفه كيف يشاء ، فيحول بينه وبين الكفر ، إن أراد هدايته ، وبينه وبين الإيمان ، إن أراد ضلالته ، وهذا المعنى رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس ، وصححه ، وقاله غير واحد من السلف .
ويؤيده ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول : < يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك > .
فقيل : يا رسول الله ! آمنا بك ، وبما جئت به ، فهل تخاف علينا ؟ قال : < نعم ، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى ، يقلبها > .
رواه الإمام أحمد والترمذي عن أنس ولفظ مسلم :
< إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن ، كقلب واحد ، يصرفها كيف شاء > ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < اللهم مصرف القلوب ، صرف قلوبنا إلى طاعتك > . انفرد مسلم عن البخاري بإخراجه عن عبد الله بن عَمْرو .
وفي رواية : < إن قلب الآدمي بين إصبعين من أصابع الله ، فإذا شاء أزاغه ، وإذا شاء أقامه > - رواه الإمام أحمد عن عائشة - .
وروي أيضاً مثله عن جابر وبلال ، والنواس بن سمعان وأم سلمة ، كما ساقه ابن كثير .
وعلى هذا المعنى ، فالآية استعارة تمثيلية ، لتمكنه من قلوب العباد ، فيصرفها كيف يشاء ، بما لا يقدر عليه صاحبها .
شبه بمن حال بين شخص ومتاعه ، فإنه يقدر على التصرف فيه دونه .
ثانيها : أنه حث على المبادرة إلى الطاعة ، قبل حلول المنية ، فمعنى يحول بينه وبين قلبه ، يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها ، وهو التمكن من إخلاص القلب ، ومعالجة أدوائه وعلله ، ورده سليماً ، كما يريده الله ، فاغتنموا هذه الفرصة ، وأخلصوها لطاعة الله ورسوله .
فشبه الموت بالحيلولة بين المرء وقلبه ، والذي به يعقل ، في عدم التمكن من علم ما ينفعه علمه .
ثالثها : أنه مجاز عن غاية القرب من العبد ، لأن من فصل بن شيئين كان أقرب إلى كل منهما من الآخر لاتصاله بهما ، وانفصال أحدهما عن الآخر .
و يحول إما استعارة تبعية معناه يقرب ، أو استعارة تمثيلية . وهذا المعنى نقل عن قتادة حيث قال : الآية كقوله تعالى : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } وفيه تنبيه على أنه تعالى مطلع ، من مكنونات القلوب على ما عسى أن يغفل عنه صاحبها .
{ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي : فيجزيكم بأعمالكم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ 25 ] .
{ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } الفتنة : إما بمعنى الذنب كإقرار المنكر ، وافتراق الكلمة والتكاسل في الجهاد وإما بمعنى العذاب .
فإن أريد الذنب فإصابته بإصابة أثره ، وإن أريد العذاب ، فإصابته بنفسه .
و : { لاَّ تُصِيبَنَّ } جواب للأمر ، أي : إن إصابتكم لا تختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم ، بل تشملهم وغيرهم بشؤم صحبتهم ، وتعدي رذيلتهم إلى من يخالطهم ، كقوله تعالى
{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } .
قاله القاشانيّ .
وقد روى الإمام أحمد عن جرير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من قوم يعلم فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعملون,ثم لم يغيروه ، إلا عمهم الله بعقاب .
وروي نحوه عن عدي بن عَميرة وحذيفة والنعمان وعائشة وأم سلمة .
قال الكرخي : ولا يستشكل هذا بقوله تعالى : { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } ، لأن الناس إذا تظاهروا بالمنكر ، فالواجب على كل من رآه أن يغيره ، إذا كان قادراً على ذلك فإذا سكت فكلهم عصاة . هذا يفعله ، وهذا برضاه . وقد جعل تعالى ، بحكمته ، الراضي بمنزلة العامل ، فانتظم في العقوبة . انتهى .
وذكر القسطلاني : أن علامة الرضا بالمنكر عدم التألم من الخلل الذي يقع في الدين بفعل المعاصي ، فلا يتحقق كون الْإِنْسَاْن كارهاً له ، إلا إذا تألم للخلل الذي يقع في الدين ، كما يتألم ويتوجع لفقد ماله أو ولده ، فكل من لم يكن بهذه الحالة
فهو راض بالمنكر ، فتعمه العقوبة والمصيبة بهذا الإعتبار . انتهى .
وعن ابن عباس : أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم ، فيعمهم الله بالعذاب { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي : لمن يخالف أوامر ه .
ثم نبه تعالى عباده المؤمنين السابقين الأولين على نعمه عليهم ، وإحسانه إليهم ، حيث كانوا قليلين فكثرهم ، مستضعفين خائفين فقواهم ونصرهم ، ورزقهم من الطيبات ، ليشكروه بدوام الطاعة ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ 26 ] .
{ وَاذْكُرُواْ } أي : يا معشر المهاجرين { إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ } أي : في العدد ، { مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ } أي : مقهورون في أرض مكة قبل الهجرة ، تستضعفكم قريش { تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ } أي : أهل مكة .
وتخطفه و اختطفه بمعنى استلبه وأخذه بسرعة .
{ فَآوَاكُمْ } أي : إلى المدينة : { وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ } يعني أعانكم وقواكم يوم بدر بنصره ، وذلك بمظاهرة الأنصار ، وإمداد الملائكة ، والتثبيت الرباني ، { وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ } أي : الغنائم لأنها لم تطب إلا لهم { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : المولى على ما فضل به وأولى .
وما ذكرنا من كون الخطاب في الآية للمهاجرين خاصة ، هو أنسب بالمقام والسياق ، وَالسياق يشعر به . وقيل : الخطاب للعرب كافة وعليه قول قتادة بن دعامة السدوسي ـ رحمه الله ـ في هذه الآية : كان هذا الحيّ من العرب أذل الناس وأشقاه عيشاً ، وأجوعه بطوناً ، وأعراه جلوداً ، وأثبته ضلالاً .
والله ما نعلم قبيلاً من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلاً منهم ، حتى جاء الله بالإسلام ، فمكن به في البلاد ، ووسع به في الرزق ، وجعلهم به ملوكاً على رقاب الناس . وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم ، فشكروا الله على نعمه ، فإن ربكم منعم يحب الشكر ، وأهل الشكر في مزيد من الله . انتهى .
وأقول : الأمر في العرب ، وإن كان كما ذكر ، لكن في تنزيل بعض ألفاظ الآية عليه تكلف لا يخفى فالظاهر ما ذكرنا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ 27 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } لما ذكرهم تعالى بإسباغ نعمه عليهم ليشكروه ، وكان من شكره الوقوف عند حدوده ، بين لهم ما يحذر منها ، وهو الخيانة .
ويدخل في خيانة الله تعطيل فرائضه ، ومجاوزة حدوده ، وفي خيانة رسوله رفض سنته ، وإفشاء سره للمشركين . وفي خيانة أمانتهم الغلول في المغانم ، أي : السرقة منها ، وخيانة كل ما يؤتمن عليه الناس من مال أو أهل أو سر ، وكل ما تعبدوا به .
وقد روي في نزول الآية شيء مما ذكرنا . ولفظ الآية مطلق يتناوله وغيره .
ومن ذلك ما رواه سعيد بن منصرر عن عبد الله بن أبي قتادة قال : نزلت في أبي لبابة حين حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم قريظة وأمرهم أن ينزلوا على حكم سعد ، فاستشار قريظة من أبي لبابة في النزول على حكم سعد ، وكان أهل أبي لبابة وأمواله فيهم ، فأشار إلى حلقه - أنه الذبح - قال أبو لبابة : ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله ، ثم حلف ألا يذوق ذواقاً حتى يموت ، أو يتوب الله عليه .
وانطلق إلى المسجد ، فربط نفسه بسارية ، فمكث أياماًَ ، حتى كان يخر مغشياً عليه من الجهد ، ثم أنزل الله توبته ، وحلف لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ، فحله ، فقال : يا رسول الله إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة ، فقال : < يجزيك الثلث أن تصدق بت > .
قال بعض المفسرين : دل هذا السبب على جواز إظهار الجزع على المعصية ، وإتعاب النفس وتوبيخها ، لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي لبابة .
ودل على أنه يستحب إتباع المعصية بالصدقة ، ولأنه عليه السلام قال : يجزيك ثلث مالك ، وهذا سبيل قوله في هود
{ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات } .
وفي قوله : { وَأنْتُمْ تَعْلَمْونَ } دليل على أن ذنب العالم بالخطيئة أعظم منه من غيره ، لأنه المعنى : وأنتم تعلمون تبعة ذلك ووباله .
قال الرازي : ثم إنه لما كان الداعي إلى الإقدام على الخيانة هو حب الأموال والأولاد ، نبه تعالى على أنه يجب على العاقل أن يحترز عن المضارة المتولدة من ذلك الحب فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ 28 ] .
{ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } أي : محنة من الله ليبلوكم ، هل تقعون بهما في الخيانة ، أو تتركون لهما الإستجابة لله ولرسوله ، أو لا تلهون بهما عن ذكره ولا تعتاضون بهما منه .
فسموا فتنة اعتباراً بما ينال الْإِنْسَاْن من الإختبار بهم ، ويجوز أن يراد بالفتنة الإثم أو العذاب ، فإنهم سبب الوقوع في ذلك .
قال الحاكم : قد أمر الله بالعلم بذلك ، وطريق العلم به التفكر في أحوالهما وزوالهما ، وقلة الإنتفاع بهما ، وكثرة الضرر ، وأنه قد يعصي الله بسببهما .
وقوله تعالى : { وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } أي : لمن آثر رضاه على جمع المال وحب الولد ، فلم يورط نفسه من أجلهما .
وقد جاء التحذير من فتنتهما صراحة مع الترهيب الشديد في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } قيل : هذه الآية من جملة ما نزل في أبي لبابة ، وما فرط منه لأجل ماله وولده .
ولما حذر تعالى ، فيم تقدم عن الفتنة بالأموال والأولاد ، بشر من اتقاه في الإفتتان بهما ، وفي غيره بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [ 29 ] .
{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
قال المهايمي : أشار تعالى إلى أن من ترك الخيانة ، واستجاب لله ، فلا يخاف على أهله وماله وعرضه ، أي : كما خاف أبو لبابة .
فإن من اتقاه تعالى فلا يجترئ أحد على أهله وحوزته ، لأنه يؤتى فرقاناً يفارق به سائر الناس من المهابة والإعزاز . انتهى .
وقيل : { فَرقاناً } أي : نصراً ، لأنه يفرق بين الحق والباطل ، وبين الكفر بإذلال حزبه ، والإسلام بإعزاز أهله .
ومنه قوله تعالى : { يَوْمَ الْفُرْقَان } . وقيل : بياناً وظهوراً يشهر أمركم ، ويبث صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض من قولهم : بت
أفعل كذا حتى سطع الفرقان ، أي : طلع الفجر .
وقيل : فصلاً بين الحق والباطل ، ومخرجاً من الشبهات ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
والفرقان كالفرق ، مصدر فرق ، أي : فصل بين الشيئين ، سواء كان بما يدركه البصر ، أو بما تدركه البصيرة ، إلا أن الفرقان أبلغ ، لأنه يستعمل في الفرق بين الحق والباطل ، والحجة والشبهة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ 30 ] .
وقوله تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }
لما ذكر الله تعالى المؤمنين نعمه عليهم بقوله تعالى :
{ وَاذْكُرُوا إِذْ أنْتُمْ قَلِيلٌ } ذكر النبي صلى الله عليه وسلم نعمته عليه خاصة ، في حفظه من مكر قريش به ليشكره تعالى في نجاته من مكرهم ، واستيلائه عليهم ، وذلك أن قريشاً ، لما أسلمت الأنصار ، وأخذ نور الإسلام في الإنتشار ، فرقوا أن يتفاقم أمره ، فاجتمعوا في دار الندوة ـ وهي دار بناها قصي بن كلاب ليصلح فيها بين قريش ، ثم صارت لمشاورتهم ، وهي الآن مقام الحنفيّ ، والندوة الجماعة من القوم ، وندا بالمكان اجتمع فيه ، ومنه النادي ـ ليتشاوروا في أمره صلى الله عليه وسلم .
فقال أبو البحتري بن هشام : رأيي أن تحبسوه في بيت ، وتشدوا وثاقه ، وتسدوا بابه ، غير كوّة ، تلقون إليه طعامه وشرابه منها ، وتتربصوا به ريب المنون .
وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى : { لِيُثْبِتُوكَ } أي : ليحبسوك ويوثقوك ، لأن كل من حبس شيئاً وربطه فقد جعله ثابتاً لا يقدر على الحركة منه .
ثم اعترض هذا الرأي شيخ نجدي دخل معهم ، فقال : بئس الرأي ! يأتيكم من يقاتلكم من قومه ، ويخلصه من أيديكم ! ثم قال هشام بن عَمْرو : رأيي أن تحملوه على جمله ، وتخرجوه من بين أظهركم ، فلا يسركم ما صنع ، واسترحتم .
وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى : { أوْ يُخْرِجُوكَ } يعني من مكة ، ثم اعترض النجدي أيضاً بقوله : بئس الرأي ! يفسد قوماً غيركم ، ويقاتلكم بهم . فقال أبو جهل - لعنه
الله - : أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاماً ، وتعطوه سيفاً ، فيضربوه ضربة رجل واحد ، فيتفرق دمه في القبائل ، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم ، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا ، وهذا ما ذكره تعالى بقوله : { أوْ تَقْتُلُوكَ } .
ثم قال النجدي اللعين : صدق هذا الفتى ، هو أجودكم رأياً ، فتفرقوا على رأي أبي جهل ، مجمعين على قتله ، فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمره أن لا يبيت في مضجعه ، وأذن الله له في الهجرة ، فأمر علياً ، فنام في مضجعه ، وقال له : اتشح ببردتي ، فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه .
ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخذ قبضة من تراب ، فأخذ الله بأبصارهم عنه ، وجعل ينثر التراب على رؤوسهم وهو يقرأ : { يَس وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ } إلى قوله
{ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } .
ومضى مع أبي بكر إلى الغار ، وبات المشركون يحرسون علياً ، يحسبون أنه النبي . فلما أصبحوا ساروا إليه ليقتلوه ، فرأوا علياً ، فقالوا : أين صاحبك ؟ فقال : لا أدري ! فاتبعوا أثره ، فلما بلغوا الغار ، رأوا نسج العنكبوت على بابه ، فقالوا : لو دخله لم يبق لنسج العنكبوت أثر . وخيب الله سعيهم ، وأبطل مكرهم .
ثم مكث صلى الله عليه وسلم فيه ثلاثاً ، ثم خرج إلى المدينة .
روي ذلك عن ابن عباس من طرق عند ابن إسحاق ، والإمام أحمد والحاكم والبيهقي ، دخلت روايات بعضهم في بعض .
وقوله تعالى : { وَيَمْكُرُ اللَّهُ } أي : يدبر ما يبطل مكرهم . وقوله : { وَاللَّهُ خَيْرُ الْمْاكِرينَ } أي : أعظمهم تأثيراً ، قاله المهايمي وأفاد أيضاً في مناسبة هذا الآية مع ما قبلها ؛ أن هذه تشير إلى أن المتقي كما يجعل الله له فرقاناً يمنع من الإجتراء على أهله وماله وعرضه ظاهراً يحفظه من مكر من مكر به ، بل يمكر له على ماكره . انتهى .
ثم أخبر تعالى عن كفر قريش وعتوهم وتمردهم ودعواهم الباطل عند سماع آياته تعالى بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } [ 31 ] .
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا } أي : مثل هذا { لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا } أي : المتلو .
وهذا غاية المكابرة ونهاية العناد .
كيف لا ؟ ولو استطاعوا شيئاً من ذلك فما الذي كان يمنعهم من المشيئة ، وقد تُحُدُّوا غير ما مرة أن يأتوا بسورة من مثله ، وقُرعوا على العجز ، وذاقوا من ذلك الأمرين ، ثم قورعوا بالسيف ، فلم يعارضوا سواه ، مع فرط أنفتهم ، واستنكافهم أن يغلبوا ، خصوصاً في باب البيان الذي هم فرسانه ، المالكون لأزمته ، وغاية ابتهاجهم به .
وقوله تعالى : { إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } أي : ما سطروه وكتبوه من القصص . قيل : أساطير لا واحد له ، وقيل : هو جمع أسطر وسطور وأسطار ، جموع سطر وأحاديث . والأصل في السطر الخطب والكتابة . يقال : سطر : كتب ، ويطلق على الصف من الشيء كالكتاب والشجر . كذا في القاموس وشرحه .
وقد روي أن قائل هذا النضر بن الحارث من كَلَدة ، وأنه كان ذهب إلى بلاد فارس وجاء منها بنسخة حديث رُسْتُم واسفنديار ، ولما قدم ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه الله ، وهو يتلو على الناس ما قصه تعالى من أحاديث القرون .
قال : لو شئت لقلت مثل هذا ، فزعم أنه مثل ما تلقفه ، وكان عليه الصلاة والسلام إذا قام من مجلس ، جلس فيه النضر فحدثهم من متلقفاته . ثم يقول : بالله ! أينا أحسن قصصاً ، أنا أو محمد ؟
وقد أمكن الله تعالى منه يوم بدر ، وأسره المقداد ، ثم أمر صلى الله عليه وسلم به ، فضربت عنقه .
وإسناده قوله إلى الجميع ، إما لرضا الباقين به أو لأن قائله كبير متبع ، وقد كان اللعين قاصهم الذي يعلمهم الباطل ويقودهم إليه ، ويغرهم بمثل هذا الجعجعة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ 32 ] .
{ وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } هذا أسلوب من الجحود بليغ ، لأنهم عدوا حقية القرآن محالاً ، فلذا علقوا عليه طلب العذاب الذي لا يطلبه عاقل ، ولو كان ممكناً لفروا من تعليقه عليه .
والمعنى ، إن كان هذا القرآن حقاً منزلاً ، فعاقبنا على إنكاره بالسجيل ، كما فعلت بأصحاب الفيل ، أو بعذاب آخر .
وفي إطلاقهم الحق عليه ، وجعله من عند الله ، تهكم بمن يقول ذلك ، من النبي أو المؤمنين . وفائدة التعريف فيه الدلالة على أن
المعلق به كونه حقاً على الوجه ، يدعيه صلى الله عليه وسلم ، وهو تنزيله ، لا الحق مطلقاً ، لتجويزهم أن يكون مطابقاً للواقع ، غير منزل كالأساطير ، فالتعريف للعهد .
و : { أمْطِرْ } استعارة أو مجاز لأنزل .
قال الزمخشري : وقد كثر الإمطار في معنى العذاب . فإن قلت : ما فائدة قوله
{ مِّنَ السَّمَاء } ، والإمطار لا يكون إلا منها ؟ قلت : كأنه أريد أن يقال : فأمطر علينا السجيل ، وهي الحجارة المسومة للعذاب ، فوضع : { حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء } موضع السجيل ، كما تقول : صبّ عليه مسرودة من حديد ، تريد درعاً .
وقوله : { بِعَذِابٍ أَلِيمٍ } أي : سوى الإمطار المذكور ، أو من عطف العام على الخاص .
وعن معاوية ، أنه قال لرجل من سبأ : ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة ! قال : أجهل من قومي قومك ! قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الحق : إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة ، ولم يقولوا إن كان هذا هو الحق فاهدنا له .
أي : الذي هو الأصلح لهم ، ولكن لشدة جهلهم وعتوهم وعنادهم استفتحوا على أنفسهم ، واستعجلوا تقديم العقوبة ، كقوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } { وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } . وقوله : { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ } وكذلك قال الجهلة من الأمم السالفة ، كما قال قوم شعيب له : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } .
وعن عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير أن قائل ذلك النضر بن الحارث ، صاحب القول السالف .
قال عطاء : لقد أنزل في النضر بضع عشرة آية ، فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر .
وروى البخاري عن أنس أن قائل ذلك أبو جهل .
وروى ابن مردويه عن بريدة قال : رأيت عَمْرو بن العاص واقفاً يوم أحد على فرس وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فاخسف بي وبفرسي .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ 33 ] .
{ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } بيان للموجب لإمهالهم ، وعدم إجابة دعائهم .
واللام لتأكيد النفي ، والدلالة على أن تعذيبهم ، والنبي بين أظهرهم ، غير مستقيم في الحكمة ، لأن سنته تعالى ، وقضية حكمته ، ألا يعذب أمة ونبيها بين ظهرانيها ، لأنه لو نزل العذاب في مكانهم لأصاب كل من كان فيه ، وفيه إشعار بأنهم مرصدون بالعذاب إذا هاجر عنهم .
وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } ذكروا فيه ثلاثة أوجه :
الأول : أن المراد استغفار من بقي بين أظهرهم من المسلمين المستضعفين .
قال الطيبي : وهذا الوجه أبلغ ، لدلالته على أن استغفار الغير مما يدفع به العذاب عن أمثال هؤلاء الكفرة .
والثاني : أن المراد به دعاء الكفرة بالمغفرة ، وقولهم : غفرانك في طوافهم بالبيت ، كما رواه ابن أبي حاتم ، فيكون مجرد طلب المغفرة منه تعالى مانعاً من عذابه ، ولو من الكفرة .
والثالث : أن المراد بالإستغفار التوبة ، والرجوع عن الجميع ما هم عليه من الكفر وغيره ، فيكون القيد منفيّاً في هذا ، ثابتاً في الوجهين الأولين .
قال القاشانيّ : العذاب سورة الغضب وأثره ، فلا يكون إلا من غضب النبي ، أو من غضب الله المسبب من ذنوب الأمة ، والنبي عليه الصلاة والسلام كان صورة الرحمة ، لقوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } ، ولهذا لما كسروا رباعيته قال : < اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون > ، ولم يغضب كما غضب نوح عليه السلام وقال : { وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً } .
فوجوده فيهم مانع من نزول العذاب ، وكذا وجود الإستغفار ، فإن السبب الأولي للعذاب لما كان وجود الذنب ، والإستغفار مانع من تراكم الذنب وثباته ، بل يوجب زواله ، فلا يتسبب لغضب الله ، فما دام الإستغفار فيهم فهم لا يعذبون . انتهى .
روى الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أنزل الله
عليّ أمانين لأمتي : { وَمَا كاَنَ اللّهُ لِيْعَذِّبَهُمْ } الآية ، فإذا مضيت تركت فيهم الإستغفار إلى يوم القيامة > .
قال ابن كثير : ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد والحاكم وصححه ، عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن إبليس قال لربه : بعزتك وجلالك ، لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم ، فقال الله : فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني .
وروى الإمام أحمد عن فَضَالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : العبد آمن من عذاب الله عز وجل ما استغفر الله عز وجل .
ثم بين تعالى أنهم أهل للعذاب لولا المانع المتقدم بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ 34 ] .
{ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أي : وأي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم ، وحالهم الصد عن المسجد الحرام ، كما صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، ومن صدهم عنه إلجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى الهجرة .
قال القاشاني : أي : ليس عدم نزول العذاب لعدم استحقاقهم لذلك بحسب أنفسهم ، بل إنهم مستحقون بذواتهم ، لصدودهم ، وصدهم المستعدين ، وعدم بقاء الخيرية فيهم ، ولكن يمنعه وجودك ووجود المؤمنين المستغفرين معك فيهم .
ثم قال : واعلم أن الوجود الإمكاني يتبع الخير الغالب ، لأن الوجود الواجبيّ هو الخير المحض ، فما رجح [ في المطبوع : رجع ] خيره على شره فهو موجود بوجوده بالمناسبة الخيرية ، وإذا غلب الشر لم تبق المناسبة ، فلزم استئصاله وإعدامه .
فهم ما داموا على الصورة الإجتماعية كان الخير فيهم غالباً ، فلم يستحقوا الدمار بالعذاب ، وأما إذا تفرقوا فما بقي إلا شرهم خالصاً فوجب تدميرهم ، كما وقع في واقعة بدر .
ومن هذا يظهر تحقيق المعنى الثاني في قوله تعالى : { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّة }
لغلبة الشرع على المجموع حينئذ . انتهى .
وقوله تعالى : { وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ } رد لما كانوا يقولون : نحن ولاة البيت والحرم ، نصد من نشاء ، وندخل من نشاء ، أي : ما كانوا مستحقين ولاية أمره ، لشركهم : { إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ } أي : من الشرك ، فلهم أن يصدوا المفسدين : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي : أنهم لا ولاية لهم عليه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } [ 35 ] .
{ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء } أي : تصفيراً : { وَتَصْدِيَةً } أي : تصفيقاً بالأكف .
روى ابن أبي حاتم أن ابن عَمْرو رضي الله عنهما حكى فعلهم ، فصفر ، وأمال خده ، وصفق بيديه .
وعن ابن عمر أيضاً قال : إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويصفرون ويصفقون .
وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة ، يصفرون ويصفقون .
وعن مجاهد أنهم كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته .
وقال الزهري : يستهزئون بالمؤمنين .
وهذا الجملة إما معطوفة على : { وَهُمْ يَصُدُّونَ } ، فيكون لتقرير استحقاقهم للعذاب ، أو على قوله : { وَمَا كاَنُوا أوْليِاءَهُ } ، فيكون تقريراً لعدم استحقاقهم لولايته .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما وجه هذا الكلام ؟ قلت : هو نحو من قوله ـ أي : الفرزدق ـ :
~وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه أَدَاهِمَ سوداً أو مُحدرجةً سُمْرا
والمعنى أنه وضع القيود والسياط موضع العطاء ، ووضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة .
وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة ، الرجال والنساء ، وهم مشبكون بين أصابعهم ، يصفرون فيها ويصفقون .
وكانوا يفعلون ذلك إذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته ، ويخلطون عليه .
ما كنت أخشى ، أي : ما كنت أعلم . وأداهم : جمع أدهم ، وهو الأسود من الحيات . والعرب تذكر الأدهم ، وتريد به القيد ، كما في قصة القبعثري .
والمحدرجة : السياط . انتهى .
{ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } أي : اعتقاداً وعملاً ، وفيه إشعار بأن هذا الفعل المبطل لحرمة البيت ، كفر ، للإستهانة بشعائره تعالى والسخرية بها .
والعذاب المذكور هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والسبي ، كما قاله غير واحد من السلف واختاره ابن جرير .
تنبيه :
قال ابن القيم في " إغاثة اللهفان " : المتقربون إلى الله بالصفير والتصفيق ، والمخلطون به على أهل الصلاة والذكر والقراءة ، أشباه هؤلاء المشركين ، قال ابن عرفة وابن الأنباري : المكاء والتصدية ليسا بصلاة ، ولكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها ، المكاء والتصدية ، فألزمهم ذلك عظيم الأوزار . وهذا كقولك : زرته فجعل جفائي صلتي ، أي : أقام الجفاء مقام الصلة .
والمقصود أن المصفقين والصفارين في يراع أو مزمار ونحوه ، فيهم شبه من هؤلاء ، ولو أنه مجرد الشبه الظاهر ، فلهم قسط من الذم ، بحسب تشبههم بهم ، وإن لم يتشبهوا بهم في جميع مكائهم وتصديتهم ، والله سبحانه لم يشرع التصفيق للرجال وقت الحاجة إليه في الصلاة إذا نابهم أمر ، بل أمروا بالعدول عنه إلى التسبيح ، لئلا يتشبهوا بالنساء ، فكيف إذا فعلوه ، لا لحاجة ، وقرنوا به أنواعاً من المعاصي قولاً وفعلاً . انتهى .
وقال قبله : ومن مكائد عدو الله ومصاديه التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين ، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين ، سماع المكاء والتصدية ، والغناء بالآلات المحرمة الذي يصد القلوب عن القرآن ، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان .
وقال شيخه تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى ، في بعض فتاويه : وأما اتخاذ التصفيق والغناء والضرب بالدفوف والنفخ بالشبابات والإجتماع على ذلك ، ديناً وطريقاً إلى الله وقربة ، فهذا ليس من دين الإسلام ، وليس مما شرعه لهم نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد من خلفائه ، ولا استحسن ذلك أحد من أئمة المسلمين ، بل ولم يكن أحد من أهل الدين يفعل ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عهد أصحابه ، ولا تابعيهم بإحسان ، ولا تابعي التابعين ، بل لم يكن أحد من أهل الدين من الأعصار الثلاثة ، لا بالحجاز ولا بالشام ولا باليمن ولا العراق ولا بخراسان ولا المغرب ولا مصر يجتمع على مثل هذا السماع ، وإنما ابتدع في الإسلام بعد القرون الثلاثة ، ولهذا قال الشافعي - لما رأى ذلك - : خلفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير ، يصدون به الناس عن القرآن ، وسئل عنه أحمد فقال : أكرهه ، هو محدث . قيل ، أتجلس معهم ؟ قال : لا ! وكذلك كرهه سائر أئمة الدين ، وأكابر الشيوخ الصالحين لم يحضروه ، فلم يحضره مثل إبراهيم بن أدهم ، ولا الفضيل بن عياض ، ولا معروف الكرخي ، ولا أبو سليمان الداراني ولا أحمد بن أبي الحواري ، ولا السري السقطي ، وأمثالهم .
والذين حضروه من الشيوخ من المحمودين ، تركوه في آخر أمرهم ، وأعيان المشايخ عابوا أهله ، كما ذكر ذلك الشيخ عبد القادر ، والشيخ أبو البيان وغيرهما من الشيوخ ، وما ذكره الإمام الشافعي رضي الله عنهم أنه من إحداث الزنادقة ، من كلام إمام خبير بأصول الإسلام ، فإن هذا السماع لم يرغب فيه ، ويدعو إليه في الأصل ، إلا من هو متهم بالزندقة ، كابن الزاونديّ والفارابيّ وابن سينا وأمثالهم .
ثم قال رحمه الله : نعم ! قد حضره أقوام من أهل الإرادة والمحبة ، ومن لم نصيب في المحبة ، لما فيه من التحريك لهم ، ولم يعلموا غائلته ، ولا عرفوا مغبته ، كما دخل قوم من الفقهاء في أنواع من كلام الفلاسفة المخالف لدين الإسلام ظناً منهم أنه حق موافق ، ولم يعلموا غائلته ، ولا عرفوا مغبته ، فإن القيام بحقائق الدين علماً وقولاً وعملاً وذوقاً وخبرة لا يستقل به أكثر الناس ، ولكن الدليل الجامع هو الإعتصام بالكتاب والسنة .
ثم قال رحمه الله : ومن كان له خبرة بحقائق الدين ، وأحوال القلوب ، ومعارفها وأذواقها ، عرف أن سماع المكاء والتصدية لا يجلب للقلب منفعة ولا مصلحة ، إلا وفي ضمن ذلك من المفسدة ما هو أعظم منه ، فهو للروح كالخمر للجسد ، يفعل في النفوس ، أعظم ما تفعله حمياً الكؤوس . ثم قال : وبالجملة فعلى المؤمن أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئاً يقرب إلى الجنة ، إلا وقد حدث به ، ولا شيئاً يبعد عن النار ، وإلا وقد حدث به ، وإن هذا السماع ، لو كان مصلحة ، لشرعه الله ورسوله ، فإن الله يقول : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } الآية .
وإذا وجد السامع به منفعة لقلبه ، ولم يجد شاهد ذلك من كتاب الله ولا من سنة رسوله ، لم يلتفت إليه . كما أن الفقيه إذا رأى قياساً لا يشهد له الكتاب والسنة ، لم يلتفت إليه انتهى .
وقد سلف لنا شيء من هذا البحث عند قوله تعالى : { فَاذْكُرُوِني أَذْكُرْكُمْْ } فليراجع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } [ 36 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ } نزلت فيمن ينفق على حرب النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين ، وبيان سوء مغبة هذا الإنفاق ، وقد ذهب الضحاك إلى أنه عني بها المطعمون منهم يوم بدر ، وكانوا اثني عشر رجلاً من قريش ، يطعم كل واحد منهم ، كل يوم عشرة جزر .
وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم أنها نزلت في أبي سفيان ، ونفقته الأموال في أُحُد لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
روى محمد بن إسحاق عن الزهري أنه لما أصيبت قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة ، ورجع أبو سفيان بعيره ، مشى رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر ، فكلموا أبا سفيان ، ومن كانت له في تلك العير تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم ، وقتل خياركم ، فأعينونا بهذا المال على حربه ، لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا ، ففعلوا . قال : ففيهم ـ كما ذكر عن ابن عباس ـ أنزلت الآية . ولا يخفى شمول الآية لجميع ذلك .
واللام في ليصدوا ، لام الصيرورة ويصح أن تكون للتعليل ، لأن غرضهم الصدر عما هو سبيل الله بحسب الواقع ، وإن لم يكن كذلك في اعتقادهم .
وسبيل الله طريقه وهو دينه ، واتباع رسوله ، ولما تضمن الموصول معنى الشرط ، والخبر بمنزلة الجزاء ، وهو : { فَسَيُنفِقُونَهَا } اقترن
بالفاء { ينفقون } إما حال ، أو بدل من : { كفروا } وفي تضمن الجزاء من معنى الإعلام والإخبار ، التوبيخ على الإنفاق ، والإنكار عليه ، كما في قوله :
{ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه } .
وفي تكرير الإنفاق في شبه الشرط والجزاء ، الدلالة على كمال سوء الإنفاق ، كما في قوله : { إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } . وقولهم : من أدرك الصَّمَّان فقد أدرك المرعى ، والمعنى : الذين ينفقون أموالهم لإطفاء نور الله ، والصدّ عن اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ، سيعلمون عن قريب سوء مغبة ذلك الإنفاق ، وانقلابه إلى أشد الخسران ، من القتل والأسر في الدنيا ، والنكال في العقبى : قال المتنبي :
~إذا الجودُ لم يُرزق خلاصاً من الأذى فلا الحمد مكسوباً ولا المالُ باقياً
والأذى هنا المنّ
وفي جعل ذات الأموال تصير : { حسرة } أي : ندماً وتأسفاً - وهي عاقبة أمرها - مبالغة .
والمراد بالغلبة في قوله : { ثم يغلبون } الغلبة التي استقر عليها الأمر ، وإن كانت الحرب بينهم سجالاً قبل ذلك . فإن قلت : غلبة المسلمين متقدمة على تحسرهم ، بالزمان ، فلم أخرت بالذكر ؟
قلت : المراد أنهم يغلبون في مواطن أخر بعد ذلك . كذا في " العناية " .
تنبيه :
قال بعضهم ثمرة الآية خطر المعاونة على معصية الله تعالى ، وأن الإنفاق في ذلك معصية ، فيدخل في هذا معاونة الظلمة على حركاتهم في البغي والظلم ، وكذلك بيع السلاح والكراع ، ممن يستعين بذلك على حرب المسلمين .
{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [ 37 ] .
{ لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } أي : الكافر من المؤمن ، أو الفساد من الصلاح . واللام متعلقة بـ : { يحشرون } أو : { يغلبون } ، أو ما أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مما أنفقه المسلمون في نصرته ، واللام متعلقة بقوله : { ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } { وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ }
أي : فيجمعه ويضم بعضه إلى بعض ، حتى يتراكبوا لفرط ازدحامهم ، أو يضم إلى الكافر ما أنفقه ، ليزيد به عذابه كمال الكانزين .
{ أُوْلَئِكَ } إشارة إلى الخبيث ، لأنه مقدر بالفريق الخبيث ، أو إلى المنفقين : { هُمُ الْخَاسِرُونَ } لخسرانهم أنفسهم وأموالهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ
سُنَّةُ الأَوَّلِينِ } [ 38 ] .
{ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } يعني أبا سفيان وأصحابه ، فالتعريف فيه للعهد أو للجنس ، فيدخل هؤلاء دخولاً أولياً { إِن يَنتَهُواْ } أي : عن الكفر وقتال النبي صلى الله عليه وسلم : { يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } أي : من الكفر والمعاصي { وَإِنْ يَعُودُواْ } إلى قتاله : { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ } أي : الذين تحزبوا على الأنبياء بالتدمير ، أو الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر .
وقوله : { فقد مضت } الخ دليل الجزاء ، والتقدير : انتقمنا منهم فقد مضت الخ .
تنبيه :
استدل بالآية على أن الإسلام يجبّ ما قبله ، كما جاء في الحديث وأن الكافر إذا أسلم ، لا يخاطب بقضاء ما فاته من صلاة أو زكاة أو صوم أو إتلاف مال أو نفس .
وأجرى المالكية ذلك كله في المرتد إذا تاب ، لعموم الآية ، واستدلوا بها على إسقاط ما على الذمي من جزية وجبي عليه قبل إسلامه .
أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن وهب عن مالك : لا يؤاخذ كافر بشيء صنعه في كفره إذا أسلم ، ولم يعد طلاقهم شيئاً ، لأن الله تعالى قال : { إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } كذا في " الإكليل " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ 39 ] .
{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي : شرك أو إضلال لغيرهم ، وفتن منهم للمؤمنين عن دينهم { وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } أي : يخلص التوحيد لله ، فلا يعبد غيره { فَإِنِ انتَهَوْاْ } أي : عن الكفر والمعاصي ظاهراً : { فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي : ببواطنهم
{ بَصِيرٌ } أي : فيجازيهم ، وعليه حسابهم ، فكفوا عنهم ، وإن لم تعلموا ببواطنهم . كقوله تعالى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } الآية ، وفي الآية الأخرى : { فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } .
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل > .
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسامة : لما علا ذلك الرجل بالسيف ، فقال : لا إله إلا الله ، فضربه فقتله ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لأسامة : < أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ، فكيف نصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة ؟ > فقال : يا رسول الله إنما قالها تعوّذا ، فقال : < هلا شققت عن قلبه > ؟ وجعل يقول ويكرر عليه : < من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة > ؟ قال أسامة : حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } [ 40 ] .
{ وَإِن تَوَلَّوْاْ } أي : أعرضوا عن الإيمان ولم ينتهوا { فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ } أي : ناصركم ومعينكم ، فثقوا بولايته ونصرته { نِعْمَ الْمَوْلَى } فلا يضيع من تولاه { وَنِعْمَ النَّصِيرُ } فلا يغلب من نصره .
ثم بين تعالى مصرف ما أحله لهذه الأمة وخصها به ، وهو الغنائم ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 41 ] .
{ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ } أي : قلّ أو كثُر من الكفار { فَأَنَّ لِلّهِ } أي : الذي
منه النصر المتفرع عليه الغنيمة { خُمُسَهُ } شكراً له على نصره وإعطائه الغنيمة { وَلِلرَّسُولِ } أي : الذي هو الأصل في أسباب النصر { وَلِذِي الْقُرْبَى } وهم بنو هاشم والمطلب { وَالْيَتَامَى } أي : من مات آباؤهم ولم يبلغوا ، لأنهم ضعفاء ، { وَالْمَسَاكِينِ } لأنهم أيضاً ضعفاء كاليتامى { وَابْنِ السَّبِيلِ } وهو المسافر الذي قطع عليه الطريق ويريد الرجوع إلى بلده ، ولا يجد ما يتبلغ بهم .
وفي هذه الآية مسائل :
الأولى : قال الفقهاء : الغنيمة المال المأخوذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب ، أي : ما ظهر عليه المسلمون بالقتال . وهل هي والفيء والنفل شيء واحد أو لا ؟ وسنفصله في آخر المسائل .
الثانية : ما في : { أنما } بمعنى الذي والعائد محذوف ، وكان حقها ، على أصولهم ، أن تكتب مفصولة .
قال الشهاب : وقد أجيز في ما هذه أن تكون شرطية .
الثالثة : قوله تعالى : { مِنْ شَيءٍ } ، بيان للموصول ، محله النصب ، على أنه حال من عائد الموصول ، قصد به الإعتناء بشأن الغنيمة ، وألا يشذّ عنها شيء ، أي : ما غنمتموه كائناً ما كان يقع عليه اسم الشيء ، حتى الخيط والمخيط .
الرابعة : الخمس بضم الميم ، وسكونها ، لغتان قد قرئ بهما .
الخامسة : أفادت الآية أن الواجب في المغنم تخميسه ، وصرف الخمس إلى من ذكره الله تعالى ، وقسمة الباقي بين الغانمين بالعدل ، للراجل سهم ، وللفارس ذي الفرس العربيّ ثلاثة أسهم ، سهم له وسهمان لفرسه .
هكذا قسم النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر .
ومن الفقهاء من يقول : للفارس سهمان .
والأول هو الذي دلت عليه السنة الصحيحة ، ولأن الفرس يحتاج إلى مؤونة نفسه وسائسه ، ومنفعة الفارس به أكثر من منفعة رجلين .
ومنهم من يقول : يسوى بين الفرس العربيّ والهجين في هذا ، الهجين يسمى البرذون والأكديش .
ويجب قسمتها بينهم بالعدل ، فلا يحابي أحد ، لا لرياسته ولا لنسبه ولا لفضله ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يقسمونها .
وفي صحيح البخاري أن سعد بن أبي وقاص رأى أن له فضلاً على من دونه
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ؟ وفي مسند أحمد أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : ثكلتك أمك ابن أم سعد وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم . كذا في " السياسة الشرعية " لابن تيمية .
في " زاد المعاد " لابن القيم : كان صلى الله عليه وسلم إذا ظفر بعدوه ، أمر منادياً فجمع الغنائم كلها ، فبدأ بالأسلاب فأعطاها لأهلها ، ثم أخرج خمس الباقي فوضعه حيث أراه الله وأمره به من مصالح الإسلام ، ثم يرضخ من الباقي لمن لا سهم له من النساء والصبيان والعبيد ، ثم قسم الباقي بالسوية بين الجيش : للفارس ثلاثة أسهم ، وللراجل سهم ، وكان ينفل من صلب الغنيمة بحسب ما يراه من المصلحة .
وقيل : بل كان النفل من الخمس ، وجمع لسلمة بن الأكوع ، في بعض مغازيه ، بين سهم الراجل والفارس ، فأعطاه خمسة أسهم ، لعظم غنائه في تلك الغزوة .
قال ابن تيمية : وما زالت الغنائم تقسم بين الغانمين في دولة بني أمية وبني العباس ، لما كان المسلمون يغزون الروم والترك والبربر .
السادسة : ذهب الجمهور إليه أن ذكر الله تعالى في قوله : { فَأَنَّ للّه } للتعظيم ، أي : تعظيم الرسول ، كما في قوله تعالى : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوه } ، أو لبيان أنه لابد في الخمسة من إخلاصها لله تعالى ، وأن المراد قسمة الخمس على المعطوفين عليه ، وتمسك بعضهم بظاهر ذلك ، فأوجب سهماً سادساً لله تعالى ، يصرف في وجوه الخير ، أو يؤخذ للكعبة قال : لأن كلام الحكيم لا يُعرّى عن الفائدة ، ولأنه ثبت اختصاصه في آية الصدقات في قوله تعالى : { وَفِي سَبِيلِ اللَّه } ، فكذا هنا .
وهذا مروي عن أبي العالية ، والربيع والقاسم وأسباطه ويؤيد ما للجمهور ، ما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن عبد الله بن شقيق عن رجل قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو بوادي القرى ، وهو معترض فرساً ، فقلت : يا رسول الله ! ما تقول في الغنيمة ؟ فقال : < لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش > . قلت : فما أحد أولى به من أحد ؟ قال ، < لا ، ولا السهم تستخرجه من جيبك ، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم > . ومن لطائف الحسن أنه أوصى بالخمس من ماله وقال : ألا
أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه ؟
السابعة : خمس النبي صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله له ، كان أمره في حياته مفوضاً إليه ، يتصرف فيه بما شاء ، ويرده في أمته كيف شاء .
روى الإمام أحمد أن أبا الدرداء قال لعبادة بن الصامت : يا عبادة ! كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس ؟ فقال عبادة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوهم إلى بعير من المقسم ، فلما سلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتناول وبرة بين أنملتيه فقال : < إن هذا من غنائمكم ، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فأدوا الخيط والمخيط ، وأكبر من ذلك وأصغر ، ولا تغلوا فإن الغلول نار وعار على أصحابه في
الدنيا والآخرة ، وجاهدوا الناس ، في الله تبارك وتعالى ، القريب والبعيد ، ولا تبالوا في الله لومة لائم ، وأقيموا حدود الله في الحضر والسفر ، وجاهدوا في سبيل الله ، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة ، ينجي الله تبارك وتعالى به من الغم والهم > .
قال ابن كثير : هذا حديث حسن عظيم .
وروى أبو داود والنسائي عن عَمْرو بن عَبَسة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم إلى بعير من المغنم ، فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال : < ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس والخمس مردود عليكم > - واستدل به على أنه عليه الصلاة والسلام كان يصرفه لمصالح المسلمين .
وكان له صلى الله عليه وسلم من الغنائم شيء يصطفيه لنفسه ، عبد أو أمة أو فرس أو سيف أو نحو ذلك ، رواه أبو داود عن محمد بن سيرين والشعبي مرسلاً ، وأحمد والترمذي عن ابن عباس .
وللعلماء فيما يصنع بخمسه صلى الله عليه وسلم من بعده مذاهب :
فمن قائل : يكون لمن يلي الأمر من بعده ، قال ابن كثير : روي هذا عن أبي بكر وعلي وقتادة وجماعة . وجاء فيه حديث مرفوع .
ومن قائل : يصرف في مصالح المسلمين ، قال الأعمش عن إبراهيم : كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح .
ومن قائل : بأنه يصرف لقرابته صلى الله عليه وسلم .
ومن قائل : بأنه مردود على بقية الأصناف : ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . واختاره ابن جرير . وللمسألة حظ من النظر .
الثانية : أجمعوا على أن المراد بذوي القربى قرابته صلى الله عليه وسلم .
وذهب الجمهور إلى أن سهم ذوي القربى يصرف إلى بني هاشم وبني المطلب خاصة ، لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية ، وفي أول الإسلام ودخلوا معهم في الشعب غضباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحماية له ، مسلمهم طاعة لله ولرسوله ، وكافرهم حمية للعشيرة ، وأنفة وطاعة لأبي طالب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأما بنو عبد شمس وبنو نوفل ، وإن كانوا ابني عمهم ، لم يوافقوهم ، بل حاربوهم ونابذوهم ، ومالؤوا بطون قريش على حرب الرسول ، ولهذا كان ذمهم أبو طالب في قصيدته بقوله منها :
~جَزَى الله عنََّا عبد شمسٍ ونوفلاً عقوبة شّرٍ عاجلاً غير آجلِ
نوفل : هو ابن خويلد ، كان من شياطين قريش ، قتله على بن أبي طالب يوم بدر .
~بميزانِ قسطٍ لا يخيسُ شعيرةً له شاهدٌ من نفسهِ غيرُ عائلِ
لا يخيس ، من قولهم : خاس بالعهد إذا نقضه وأفسده . والعائل : الحائر .
~لقد سَفِهَتْ أحلامُ قوم تبدَّلوا بني خلف قيضاً بنا و الغياطل
قيضاً : عوضاً ، والغياطل : بنو سهم .
~ونحن الصَّميمُ من ذُؤابةِ هاشمٍ وآلِ قُصي في الخُطُوبِ الأوائِلِ
الصميم : الخالص من كل شيء ، والذؤابة : الجماعة العالية ، وأصله الخصلة من شعر الرأس .
وقال جبير بن مُطْعِم بن عدي بن نوفل : مشيت أنا وعثمان بن عفان ، إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلنا : أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ، ونحن وهم بمنزلة واحدة منك ؟ فقال : < إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد > . - رواه مسلم .
وفي رواية : أنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام - أفاده ابن كثيرـ .
وقد روي عن ابن عباس وزين العابدين والباقر أنه يسوى في العطاء بين غنيّهم وفقيرهم ، ذكورهم وإناثهم ، لأن اسم القرابة يشملهم ، ولأنهم عُوضوه لما حرمت
عليهم الزكاة ، وقياساً على المال المقر به لبني فلان .
واعتبر الشافعي أن سهمهم استحق بالقرابة ، فأشبه الميراث . قال : فللذكر منه مثل حظ الأنثيين . انتهى .
وقال في " العناية " : إنه كان لعبد مناف ـ جد النبي صلى الله عليه وسلم ـ خمس بنين : هاشم وعبد شمس ونوفل والمطلب وأبو عَمْرو ، وكلهم أعقبوا إلا أبا عَمْرو .
التاسعة : سهم اليتامى : قيل يخص به فقراؤهم ، وقيل : يعم الأغنياء والفقراء ، حكاه ابن كثير . والأظهر الثاني ، والسرّ فيه ما قدمناه في سورة البقرة ، فتذكره فإنه مهم .
العاشرة : المساكين : المحاويج الذين لا يجدون ما يسدُّ خلتهم ويكفيهم ، وابن السبيل : ذكرنا معناه أولاً .
الحادية عشرة : قال بعضهم : يقتضي ما ذكر في هذه الآية وما في صدر هذه السورة من الأنفال ، وما في سورة الحشر من قوله تعالى : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِه }
أن القسمة في الأموال المظفور بها ثلاثية : نفل : وغنيمة ، وفيء ، ويتقضي إطلاق جعل النفل لله ولرسوله ، والغنيمة لمن ذكر مخمسة ، والفيء لمن ذكر بلا قيد . التخميس أن لكل من الثلاثة حكماً يخالف الآخر ، وإن النفل ما يعطى لمن له من العناية والمقاتلة ما ليس لغيره ، وفاء لعدته بذلك ، قبل إحراز الغنيمة كالسلب ، وإن الغنيمة ما أحرز بالقتال ، سوى ما شرط التنفيل به ، لأنه لا بخمس ، والفيء ما أخذ من الكفار بغير قتال ، كالأموال التي يصالحون عليها ، والجزية والخراج ، ونحو ذلك ، وإلى هذا التفصيل ذهب الجمهور .
وذهب بعضهم إلى اتحاد الثلاثة ، وعدم التفرقة بينها ، وإلى دخولها في الغنيمة ، وقال : ما أطلق في آية الأنفال ، وآية الحشر ، مقيد بآية الغنيمة هذه . وهذا هو مراد قول بعضهم : إنهما منسوختان بهذه ، بمعنى أن إطلاقهما مقيد بهذه ـ والله أعلم ـ .
وقوله تعالى : { إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ } أي : فاعملوا بما ذكر ، وارضوا بهذه القمسة فالإيمان يوجب العمل بالعلم ، والرضا بالحكم .
وقد جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس ، في حديث وفد عبد القيس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : < وآمركم بأربع ، وأنهاكم عن أربع : آمركم
بالإيمان بالله > . ثم قال : < هل تدرون ما الإيمان بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وأن تؤدوا الخمس من المغنم > ، الحديث - فجعل أداء الخمس من جملة الإيمان ، وقد بوّب البخاري على ذلك في باب الإيمان من صحيحه ، فقال : باب أداء الخمس من الإيمان ، وساق الحديث المذكور .
وقوله تعالى : { وَمَا أَنزَلْنَا } معطوف على : { باللَّه } أي : إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل { عَلَى عَبْدِنَا } أي : محمد عليه الصلاة والسلام ، أي : من الآيات والملائكة والنصر ، { يَوْمَ الْفُرْقَانِ } أي : يوم بدر ، فإنه فرق فيه بين الحق والباطل . و الفرقان بمعناه اللغوي ، والإضافة فيه للعهد { يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } يعني جمع المؤمنين وجمع الكافرين ، فالتعريف للعهد ، وكان التقاؤهما يوم الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان ، والمؤمنون يومئذ ثلاثمائة وبضعة عشرة رجلاً ، والمشركون ما بين الألف والتسعمائة ، فهزم الله المشركين ، وقتل منهم زيادة على سبعين ، وأسر منهم مثل ذلك .
{ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فيقدر على نصر القليل على الكثير ، كما فعل بكم يوم بدر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 42 ] .
{ إِذْ أَنتُم } بدل من يوم الفرقان ، أو ظرف لمحذوف ، أي : اذكروا إذ أنتم يا معشر المؤمنين { بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا } يعين بشفير الوادي الأدنى من المدينة ، { وَهُم } يعني المشركين أبا جهل وأصحابه { بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى } أي : البُعدَى عن المدينة ، مما يلي مكة { وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ } أي : العير التي فيها أبو سفيان ، بما معه من التجارة التي كان الخروج لأجلها ، أسفل من موضع المؤمنين إلى ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر .
لطيفة :
قال الزمخشري : فإن قلت : ما فائدة هذا التوقيت ، وذكر مراكز الفريقين ، وأن
العير كانت أسفل منهم ؟ قلت : الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدوّ وشوكته وتكامل عدته ، تمهّد أسباب الغلبة له ، وضعف شأن المسلمين ، والتباث أمرهم ، وأن غلبتهم في مثل هذا الحال ، ليست إلا صنعاً من الله سبحانه ، ودليلاً على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوته ، باهر قدرته ، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون ، كان فيها الماء ، كانت أرضاً لا بأس بها ، ولا ماء بالعدوة الدنيا ، وهي خبارـ ما لان من الأرض واسترخى ـ تسوخ فيه الأرجل ، ولا يمشي فيها إلا بتعب ومشقة ، وكانت العير وراء ظهور العدو ، مع كثرة عددهم ، فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم ، وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم ، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم ، ليبعثهم الذبّ عن الحريم ، والغيرة على الحرب ، على بذل جُهيداهم في القتال ، وألا يتركوا وراءهم ما يحدّثون أنفسهم بالإنحياز إليه ، فيجمع ذلك قلوبهم ، ويضبط همومهم ، ويوطن نفوسهم ، على ألا يبرحوا موطنهم ، ولا يُخلوا مراكزهم ، ويبذلوا منتهى نجدتهم ، وقصارى شدتهم ، وفيه تصوير ما دبّر سبحانه من أمر وقعة بدر ، ليقضي أمراً كان مفعولاً ، من إعزاز دينه ، وإعلاء كلمته ، حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين ، مبهمة غير مبينّة ، حتى خرجوا ليأخذوا العير ، راغبين في الخروج ، وشخص بقريش مرعوبين مما بلغهم من تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأموالهم ، حتى نفروا ليمنعوا غيرهم ، وسبب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا ، وهؤلاء بالعدوة القصوى ، ووراءهم العير يحامون عليها ، حتى قامت الحرب على ساق ، وكان ما كان ، انتهى .
قال الناصر في " الإنتصاف " : وهذا الفصل من خواص حسنات الزمخشري ، وتنقيبه عن أسرار الكتاب العزيز .
وقوله تعالى : { وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ } أي : ولو تواعدتم أنتم وأهل مكة على موعد تلتقون فيه للقتال ، لخالف بعضكم بعضاً ، فثبطكم قلتكم وكثرتهم ، على الوفاء بالموعد ، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيّب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله وسبب له . قاله الزمخشري .
وفي حديث كعب بن مالك قال : إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد .
وروى ابن جرير عن عمير بن إسحاق قال : أقبل أبو سفيان في الركب من الشام ، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فالتقوا ببدر ، ولا يشعر
هؤلاء بهؤلاء ولا هؤلاء بهؤلاء ، حتى التقى السقاة وشهد الناس بعضهم إلى بعض .
{ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } أي : ولكن جمع بينكم على هذه الحال على غير ميعاد ، ليقضي ما أراد من إعزاز الإسلام وأهله ، وإذلال الشرك وأهله ، من غير ملأ منكم .
وقوله : { كاَنَ مَفْعُولاً } أي : حقيقاً بأن يفعل ، وقيل : { كان } بمعنى صار ، أي : صار مفعولاً ، بعد أن لم يكن ، وقيل : إنه عبر به عنه لتحققه حتى كأنه مضى .
وقوله تعالى : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } أي : إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد على غير ميعاد ، لينصركم عليهم ، ويرفع حجة الحق على الباطل ، ليصير الأمر ظاهراً ، والحجة قاطعة ، والبراهين ساطعة ، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة ، فحينئذ يهلك من هلك ، أي : يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره ، أنه مبطل لقيام الحجة عليه ، ويؤمن من آمن عن حدة وبصيرة ويقين ، بأنه دين الحق ، الذي يجب الدخول فيه ، والتمسك به .
وذلك أن ما كان من وقعة بدر ، من الآيات الغرّ المحجّلة ، التي من كفر بعدها ، كان مكابراً لنفسه ، مغالطاً لها .
لطائف :
الأولى : قوله تعالى : { لِيَهْلِكَ } بدل من : { لِيَقْضِيَ } أو متعلق بـ : { مفَعْولاً } .
الثانية : الحياة والهلاك استعارة للكفر والإسلام ، وقرئ : { ليهلَك } بفتح اللام .
الثالثة : { حَيَّ } يقرأ بتشديد الياء ، وهو الأصل ، لأن الحرفين متماثلان متحركان ، فهو مثل شدّ ومدّ ، ومنه قول عبيدة بن الأبرص :
~عَيُّوا بأمرهِمُ كما عيَّتْ بِبْيضتها الحمامَهْ
ويقرأ بالإظهار وفيه وجهان :
أحدهما : أن الماضي حمل على المستقبل ، وهو يحيا ، فكما لم يدغم في المستقبل ، لم يدغم في الماضي ، وليس كذلك شد ومد ، فإنه يدغم فيهما جميعاً .
والوجه الثاني : أن حركة الحرفين مختلفة ، فالأولى مكسورة ، والثانية مفتوحة ، واختلاف الحركتين ، كاختلاف الحرفين ، ولذلك أجازوا في الاختيار : لححت عليه ، وضبب البلد ، إذا كثر ضبه ، ويقوي ذلك أن الحركة الثانية عارضة ، فكأن الياء الثانية : ساكنة ، ولو سكنت لم يلزم الإدغام ، وكذلك إذا كانت في تقدير الساكن ، والياآن أصل ، وليست الثانية بدلاً من واو ، فأما الحيوان ، فالواو فيه بدل من الياء . وأما
الحواء ، فليس من لفظ الحية ، بل من حوى يحوي إذا جمع - قاله أبو البقاء - .
{ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : بكفر من كفر وعقابه ، وإيمان من آمن وثوابه .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ 43 ] .
{ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً } منصوب بأذكر ، أو بدل آخر من يوم الفرقان ، وذلك أن الله عز وجل أراه إياهم في رؤياه قليلاً ، فأخبر بذلك أصحابه ، فكان تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم : { وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ } أي : لجبنتم وهبتم الإقدام .
{ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ } أي : أمر الإقدام والإحجام ، فتفرقت كلمتكم ، { وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ } أي : عصم وأنعم بالسلامة من الفشل والتنازع بتأييده وعصمته { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : يعلم ما سيكون فيها من الجرأة والجبن والصبر والجزع . ولذلك دبر ما دبر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ } [ 44 ] .
{ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً } وذلك تصديقاً لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليعاينوا ما أخبرهم به ، فيزداد يقينهم ، ويجدوا ، ويثبتوا .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : لقد قللوا في أعيينا حتى قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة ! فأسرنا رجلاً منهم ، فقلنا له : كم كنتم ؟ قال : ألفاً ! - رواه ابن أبي حاتم وابن جريرـ .
{ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ } أي : في اليقظة ، حتى قال أبو جهل : إن محمداً وأصحابه أكلة جزورٍ ، مثل في القلة ، كأكلة رأس ، أي : أنهم لقلتهم يكفيهم ذلك .
وأكلة بوزن كتبة ، جمع آكل ، بوزن فاعل ، والجزور الناقة ، كذا في " العناية " .
{ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً } أي : من إظهار الخوارق الدالة على صدق دين الإسلام ، وكذب دين الكفر .
{ كَانَ مَفْعُولاً } أي : كالواجب فعله على الحكيم ، لما فيه من الخير الكثير . قاله المهايمي .
لطائف :
الأولى : قال الزمخشري : فإن قلت : الغرض في تقليل الكفار في أَعْيَن المؤمنين ظاهر ، فما الغرض في تقليل المؤمنين في أعينهم ؟
قلت : قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء ، ثم كثرهم فيها بعده ، ليجترئوا عليهم ، قلة مبالاة بهم ، ثم تفجؤهم الكثرة ، فيبهتوا ويهابوا ، وتفلَّ شوكتهم ، حين يرون ما لم يكن في حسابهم وتقديرهم ، وذلك قوله : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ } ولئلا يستعدوا لهم ، وليعظم الإحتجاج عليهم باستيضاح الآية البينة من قلتهم أولاً وكثرتهم آخراً .
الثانية : قال الزمخشري أيضاً : فإن قلت : بأي طريق يبصرون الكثير قليلاً ؟ قلت : بأن يستر الله عنهم بعضه بساتر ، أو يحدث في عيونهم ما يستلون به الكثير ، كما أحدث في أَعْيَن الحول ما يرون به الواحد اثنين قيل لبعضهم : إن الأحول يرى الواحد اثنين - وكان بين يديه ديك واحد - فقال : مالي لا أرى هذين الديكين أربعة ؟ انتهى .
قال الناصر في " الإنتصاف " : وفي هذا - يعني كلام الزمخشري - دليل بين على أن الله تعالى هو الذي يخلق الإدراك في الحاسة غير موقوف على سبب من مقابلة ، أو قرب ، أو ارتفاع حجب ، أو غير ذلك ، إذا لو كانت هذه الأسباب موجبة للرؤية عقلاً ، لما أمكن أن يستر عنهم البعض ، وقد أدركوا البعض ، والسبب الموجب مشترك .
فعلى هذا يجوز أن يخلق الله الإدراك مع اجتماعها ، فلا ربط إذن بين الروية ونفيها في مقدرة الله تعالى ؟ وهي رادّة على القدرية المنكرين لرؤية الله تعالى ، بناءاً على اعتبار هذه الأسباب في حصول الإدراك عقلاً ، وأنها تستلزم الجسمية ، إذ المقابلة والقرب وارتفاع الحجب إنما تتأتى في جسم .
فهذه الآية حسبهم في إبطال زعمهم ، ولكنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون . والله الموفق .
الثالثة : لا يقال : إن قوله تعالى : { لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } مكرر مع ما سبق . لأنا نقول : إن المقصود من ذكره أولاً هو اجتماعهم بلا ميعاد ليحصل استيلاء المؤمنين على المشركين ، على وجه يكون معجزة دالة على صدقه صلى الله عليه وسلم ، والمقصود منه هاهنا بيان خارق آخر ، وهو تقليلهم في أَعْيَن المشركين ، ثم تكثيرهم للحكمة المتقدمة .
وفي قوله تعالى : { وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ } تنبيه على أن أحوال الدنيا غير مقصودة لذواتها ، وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زاداً ليوم المعاد .
ثم أرشد تعالى عباده المؤمنين إلى آداب اللقاء في ميدان الوغى ، ومبارزة الأعداء ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } [ 45 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ } أي : إذا حاربتم جماعة فاثبتوا للقائهم واصبروا على مبارزتهم ، فلا تفروا ولا تجبنوا ولا تنكلوا ، وتفسير اللقاء بالحرب لغلبته عليه ، كالنزال ولم يصف الفئة بأنها كافرة ، لأنه معلوم غير محتاج إليه .
{ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً } أي : في مواطن الحرب ، مستظهرين بذكره مستنصرين به ، داعين له على عدوكم { لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } أي : تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة .
وقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه ، التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس ، ثم قام في الناس فقال : < يا أيها الناس ! لا تتمنوا لقاء العدو ، وسلوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا ، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف > .
ثم قال : < اللهم منزل الكتاب ، ومُجري السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم وانصرنا عليهم > .
وفي الآية إشعار بأن على العبد ألا يفتُر عن ذكر ربه ، أشغل ما يكون قلباً ، وأكثر ما يكون هماً ، وأن يلتجئ إليه عند الشدائد ، ويقبل إليه بكليته ، فارغ البال ، واثقاً بأن لطفه لا ينفك عنه في حال من الأحوال . . .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ 46 ] .
{ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ } أي : في كل ما يأمران به وينهيان ، وهذا عامّ
والتخصيص بالذكر هنا فيه تأكيد : { وَلاَ تَنَازَعُواْ } أي : باختلاف الآراء ، أو فيما أمرتم به { فَتَفْشَلُواْ } أي : تجبنوا ، إذ لا يتقوى بعضكم ببعض .
{ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } أي : قوتكم وغلبتكم ، ونصرتك ودولتكم ، شبه ما ذكر في نفوذ الأمر وتمشيته ، بالريح وهبوبها ، ويقال : هبت رياح فلان ، إذا دالت له الدولة ونفذ أمره ، قال :
~إذا هبّت رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقةٍ سكُونُ
~ولا تغفَلْ عن الإحسانِ فيها فما تَدرِي السكونَ متى يكونُ
{ وَاصْبِرُواْ } أي : على شدائد الحرب ، وعلى مخالفة أهويتكم الداعية إلى التنازع ، فالصبر مستلزم للنصر { إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } أي : بالنصر .
قال ابن كثير رحمه الله : وقد كان للصحابة رضي الله عنهم ، وفي باب الشجاعة والإئتمار بما أمرهم الله ورسوله ، وامتثال ما أرشدهم إليه ، ما لم يكن لأحد من الأمم ، والقرون قبلهم ولا يكون لأحد من بعدهم ، فإنهم ببركة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته فيما أمرهم ، فتحوا القلوب والأقاليم شرقاً وغرباً ، وفي المدة اليسيرة مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم ، من الروم والفرس والترك ، والصقالبة والبربر والحبوش ، وأصناف السودان والقبط وطوائف بني آدم ، قهروا الجميع حتى علت كلمة الله وظهر دينه على سائر الأديان ، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها ، في أقل من ثلاثين سنة ، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجميعن .
تنبيه :
قال بعض المفسرين في قوله تعالى : { وَلاَ تَنَازَعُوا } ، أي : لا تختلفوا فيما أمركم به من الجهاد ، بل ليتفق رأيكم .
قال : ولقائل أن يقول : استثمر من هذا وجوب نصب أمير على الجيش ليدبّر أمرهم . ويقطع اختلافهم ، فإن بلزوم طاعته ، ينقطع الإختلاف ، وقد فعله صلى الله عليه وسلم في السرايا ، وقال : اسمعوا وأطيعوا ، وإن أمر عليكم عبد حبشي . انتهى .
ولما أمر تعالى المؤمنين بالثبات والصبر عند اللقاء ، أمرهم بالإخلاص فيه ، بنهيهم عن التشبه بالمشركين ، في انبعاثهم للرياء ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } [ 47 ] .
{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً } أي : فخراً بالشجاعة : { وَرِئَاء النَّاسِ } أي : طلباً للثناء بالسماحة والشجاعة { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ
مُحِيطٌ } أي : لا تكونوا كأبي جهل وأصحابه ، وقد أتاهم رسول أبي سفيان ، وهم بالجحفة أن ارجعوا ، فقد سلمت عيركم ، فأبوا ، وقالوا : لا نرجع حتى نأتي بدراً ، فننحر بها الجزر ، ونسقي بها الخمر ، وتعزف علينا فيه القيان ، وتسمع بنا العرب ، فذلك بطرهم ورئاؤهم الناس بإطعامهم ، فوافوها ، فسُقوا كؤوس المنايا مكان الخمر ، وناحت عليهم النوائح مكان القيان ، أي : لا يكن أمركم رياء ولا سمعة ولا التماس ما عند الناس ، وأخلصوا لله النية والحسبة ، في نصر دينكم ، ومؤازرة نبيكم ، لا تعملوا إلا لذلك ، ولا تطلبوا غيره .
والرئاء مصدر راءى ، إذا أظهر العمل للناس ليروه غفلة عن الخالق ، وقد يقال راياه مراياة ورياء ، على القلب .
و : { بطراً ورئاء } إما مفعول من أجله ، أو مصدر في موضع الحال .
و يصدون إما حال ، بتأويل اسم الفاعل ، أو بجعله مصدر فعل هو حال ، وإما مستأنف .
ونكتة التعبير بالإسم أولاً ثم الفعل ، الإعلام بأن البطر والرياء دأبهم ، بخلاف الصد فإنه تجدد لهم في زمن النبوة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ 48 ] .
{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } أي : في معاداة الرسول والمؤمنين ، بأن وسوس إليهم { وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ } أي : من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه { وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } أي : مجير ومعين لكم { فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ } أي : تلاقتا ، وتراءت كل واحدة صاحبتها ، فرأى الملائكة نازلة من السماء لإمداد المؤمنين ، { نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ } أي :
ولّى هارباً قفاه : { وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ } أي : من عهد جواركم { إِنِّي أَرَى } أي : من الملائكة النازلة لإمداد المؤمنين { مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ } أي : أن يعذبني قبل يوم القيامة { وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي : فلا يبعد مع إمهالي إلى القيامة ، أن يعذبني لشدة عقابه .
تنبيه :
ذكروا في التزيين وجهين :
أحدهما : أن الشيطان وسوس لهم من غير تمثيل ، في صورة إنسان ، وهو مروي عن الحسن والأصم .
فالقول على هذا مجاز عن الوسوسة ، والنكوص وهو الرجوع استعارة لبطلان كيده .
وثانيهما : أنه ظهر في صورة إنسان ، لأنهم لما أرادوا المسير إلى بدر ، خافوا من بني كنانة ، لأنهم كانوا قتلوا رجلاً ، وهو يطلبون دمه ، فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم ، فتمثل إبليس اللعين في صورة سُرَاقَة الكِنَانِي ، وقال : أنا جاركم من بني كنانة ، فلا يصل إليكم مكروه منهم . فقوله إني جار لكم على الحقيقة .
وقال الإمام : معنى الجار هنا الدافع للضرر عن صاحبه ، كما يدفع الجار عن جاره . والعرب تقول : أنا جار لك من فلان ، أي : حافظ لك ، مانع منه . وهذا القول الثاني ذهب إلى جمهور المفسرين .
روى مالك في الموطأ عن طلحة بن عبيد الله بن كَرِيز مرسلاً ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ ، منه في يوم عرفة > .
وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة ، وتجاوز الله عن الذنوب العظام . إلا ما رأى يوم بدر ، فإنه قد رأى جبريل يزع الملائكة .
قال الإمام : وكان في تغيير صورة إبليس إلى صورة سُرَاقَة ، معجزة عظيمة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأن كفار قريش لما رجعوا إلى مكة قالوا : هزم الناس سُرَاقَة ، فبلغ ذلك سُرَاقَة فقال : والله ما شعرت بمسيركم ، حتى بلغتني هزيمتكم ، فعند ذلك تبين للقوم أن ذلك الشخص ما كان سُرَاقَة ، بل كان شيطاناً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ 49 ] .
{ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ } أي : بالمدينة ، و إذ منصوب بأذكر مقدراً ، أو بزين
{ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } يجوز أن يكون من صفة المنافقين ، وتوسطت الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف ، لأن هذه صفة للمنافقين ، لا تنفك عنهم .
قال تعالى : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَض } ، أو تكون الواو داخلة بين المفسِّر والمفسَّر نحو : أعجبني زيد وكرمه .
ويجوز أن يراد : الذين هم على حرف ، ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام .
وعن الحسن : هم المشركون .
{ غَرَّ هَؤُلاء } يعنون المؤمنين { دِينُهُمْ } فظنوا أنهم ينصرونهم به على أضعافهم { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : من يعتمد عليه سبحانه وتعالى فإنه
ينصره على أضعافه ، بالغين ما بلغوا ، لأنه عزيز غالب على ما أراد ، وهو يريد نصر أوليائه ، حكيم وحكمته تقتضي نصرهم . وهو جواب لهم من جهته تعالى ، ورد لمقالتهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } [ 50 ] .
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : يقبض أرواحهم { الْمَلآئِكَةُ } أي : ملائكة القهر والعذاب مما يناسب هيئات نفوسهم { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ } لإعراضهم عن الحق ، ولهيآت الكبر والعجب والنخوة فيها : { وَأَدْبَارَهُمْ } لميلهم إلى الباطل ، وشدة انجذابهم إليه ، ولهيئات الشهوة والحرص والشره { وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } عطف على يضربون بإضمار القول ، أي : ويقولون ذوقوا بشارة لهم بعذاب الآخرة . وجواب لو محذوف ، لتفظيع الأمر وتهويله .
وقال ابن كثير : وهذا السياق ، وإن كان سببه وقعة بدر ، ولكنه عام في حق كل كافر . وفي سورة القتال مثل هذه الآية ، وتقدم في الأنعام نحوها ، وهو قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ } ، أي : بالضرب فيهم بأمر ربهم . [ في المطبوع وقع خطأ في الآية ](/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ 51 ] .
{ ذَلِكَ } إشارة إلى ما ذكر من الضرب والعذاب { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } أي : ما كسبتم من الكفر والمعاصي { وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } أي : بأن يأخذهم بلا جرم .
فإن قيل : ما سر التعبير بظلام بالمبالغة ، مع أن نفي نفس الظلم أبلغ من نفي كثرته ، ونفي الكثرة لا ينفي أصله ، بل ربما يشعر بوجوده ، وبرجوع النفي للقيد ؟
وأجيب بأجوبة :
منها : أنه نفي لأصل الظلم وكثرته ، باعتبار آحاد من ظلم ، كأنه قيل : ظالم لفلان ولفلان وهلم جراً ، فلما جمع هؤلاء عدل إلى ظلام لذلك ، أي : لكثرة الكمية فيه .
ومنها : أنه إذا انتفى الظلم الكثير ، انتفى الظلم القليل ، لأن من يظلم ، يظلم للإنتفاع بالظلم فإذا ترك كثيره ، مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر ، كان لقليله مع قلة نفعه أكثر تركاً .
ومنها : أن ظلاماً للنسب ، كعطار ، أي : لا ينسب إليه الظلم أصلاً .
ومنها : أن كل صفة له تعالى في أكمل المراتب ، فلو كان تعالى ظالماً ، كان ظلاماً ، فنفى اللازم ، لنفي الملزوم .
ومنها : أن في الظلام لنفي الظالم ، ضرورة أنه إذا انتفى الظلم انتفى كماله ، فجعل نفي المبالغة كناية عن نفي أصله ، انتقالاً من اللازم إلى الملزوم .
ومنها : أن العذاب من العظم بحيث ، لولا الإستحقاق ، لكان المعذب بمثله ظلاماً بليغ الظلم متفاقمه ، فالمراد تنزيهه تعالى ، وهو جدير بالمبالغة .
وأيضاً لو عذب تعالى عبيده بدونه استحقاق وسبب ، لكان ظلماً عظيماً ، لصدروه عن العدل الرحيم . كذا في " العناية " .
وفي صحيح مسلم عن أبي ذرّ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله
تعالى يقول : < إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرماً ، فلا تظالموا ، يا عبادي ! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه > . والحديث طويل جليل ، معروف عند المحدثين ، بالحديث المسلسل بالدمشقيين .
ثم بين تعالى أن سير المشركين المستمر ، وعادتهم الدائمة ، مع ما أرسل به النبي صلى الله عليه وسلم كسير الأمم السالفة مع رسلهم ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ 52 ] .
{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } خبر لمقدر ، أي : دأب هؤلاء كدأب آل فرعون وممن تقدمهم من الأمم ، كقوم نوح ، وهو عملهم الذي دأبوا ، أي : استمروا عليه ، ثم فسره فقال : { كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ } أي : قبل يوم القيامة : { بِذُنُوبِهِمْ } أي : كما أخذ هؤلاء ، لأنهم اجترؤوا على معاصيه بما رأوا لأنفسهم من القوة فضعفهم ، إظهاراً لقوته .
{ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ } قال المهايمي : تأخير العذاب إنما يكون للرحمة ، لكنه لما اشتد عنادهم ، اشتد غضبه ، لأنه شديد العقاب لمن اشتد عناده معه ، فلا يكون في حقه رحمة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 53 ] .
{ ذَلِكَ } أي : التعذيب الذي علم كونه مؤاخذة بالذنوب { بِأَنَّ اللّهَ } أي : بسبب أنه تعالى : { لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ } بتبديله إياها بالنقمة
{ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ } من وجبات تلك النعم من اعتقاد أو قول أو علم .
وهذا إخبار عن تمام عدله وقسطه في حكمه ، بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه ، كقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } .
قال القاشانيّ : كل ما يصل إلى الْإِنْسَاْن هو الذي يقتضيه استعداده ، ويسأله بدعاء الحال ، وسؤال الاستحقاق .
فإذا أنعم على أحد النعمة الظاهرة أو الباطنة
لسلامة الإستعداد ، وبقاء الخيرية فيه لم يغيرها حتى أفسد استعداده ، وغير قبوله للصلاح ، بالإحتجاب وانقلاب الخير الذي فيه بالقوة إلى الشر ، لحصول الرين وارتكام الظلمة فيه ، بحيث لم يبق له مناسبة للخير ، ولا إمكان لصدروه منه ، فيغيرها إلى النقمة عدلاً منه وجوداً ، وطلباً من ذلك الاستعداد إياها بجاذبة الجنسية والمناسبة ، لا ظلماً وجوراً . انتهى .
{ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : فيغير إذا غيّروا ، غضباً عليهم بما يسمع منهم أو يعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ } [ 54 ] .
{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } فكان مبدأ تغييرهم أنهم : { كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ } أي : الذي رباهم بالنعم ، فصرفوها إلى غير ما خلقت له بمقتضى تلك الآيات ، فكانت ذنوباً { فَأَهْلَكْنَاهُم } أي : زيادة على سلبه النعم { بِذُنُوبِهِمْ } أي : بما صرفوا بها النعم إلى غير ما خلقت له { وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ } لإغراقهم النعم في بحر الإنكار بنسبتها إلى فرعون حيث أقروا بآلهيته { وَكُلٌّ } أي : من الفرق المكذبة الكافرة ، أو من آل فرعون ومن قبلهم ، وكفار قريش .
{ كَانُواْ ظَالِمِينَ } أي : بصرف النعم إلى غير ما خلقت له ، وهو نوع من الإغراق لها في بحر الإنكار لأنه مرجع التغيير لها . كذا أوّل المهايمي .
وفيه إشارة إلى دفع ما يتوهم من التكرار في الآيتين ، بتغير التشبيهين فيهما ، فلا يحتاج إلى دعوى التأكيد ، فمعنى الأول : حال هؤلاء كحال آل فرعون في الكفر ، فأخذهم وآتاهم العذاب ، ومعنى الثاني : حال هؤلاء كحال آل فرعون في تغييرهم النعم ، وتغيير الله حالهم بسبب ذلك التغيير ، وهو أنه أغرقهم .
وقيل : إن النظم يأباه ، لأن وجه التشبيه في الأول كفرهم المترتب عليه العقاب ، فينبغي أن يكون وجهه في الثاني قوله : { كَذبوا } لأنه مثله ، إذ كل منهما جملة مبتدأة بعد تشبيه ، صالحة لأن تكون وجه الشبه ، فتحمل عليه كقوله تعالى :
{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب } ، وأما قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً } فكالتعليل لحلول النكال ، معترض بين التشبيهين ، غير مختص بقوم ، فَجَعْلُهُ وجهاً للتشبيه بعيدٌ عن الفصاحة . كذا في " العناية " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ 55 ] .
{ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : أصروا على كفرهم ورسخوا فيه : { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي : فلا يتوقع منهم إيمان .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } [ 56 ] .
{ الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } أي : لا يخافون عاقبة الغدر ، ولا يبالون بما فيه من العار والنار .
تنبيهات :
الأول : قال المهايمي : أشار تعالى إلى أنه كيف يترك نعمه على من غير أحواله التي كانت أسباب النعم ، وقد كان بها إنسانيته ، فبتغييرها لحق بالدواب ، وبإنكار المنعم صار شراً منها ، والنعم تسلب ممن لا يعرف قدرها ، فكيف لا تسلب ممن ينكر المنعم ؟ .
الثاني : دلت الآية على جواز تحقير العصاة ، والإستخفاف بهم ، حيث سماهم تعالى دواب ، وأخبر أنهم شر الدواب .
الثالث : قالوا : نزلت الآية في يهود بني قريظة ، رهط كعب بن الأشرف ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان عاهدهم ألا يحاربوه ، ولا يعاونوا عليه ، فنقضوا العهد ، وأعانوا مشركي مكة بالسلاح على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ثم قالوا : نسينا وأخطأنا ، فعاهدهم الثانية فنقضوا العهد أيضاً . ومالؤوا الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ، وركب كعب بن الأشرف إلى مكة ، فوافقهم على مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الرابع : الذين بدل من الموصول الأول ، أو عطف بيان له ، أو نصب له على الذم . وضمن عاهدت معنى الأخذ ، حتى عدِّي بمن ، أي : أخذت منهم عهدهم .
وقيل : من صلة ، وقال أبو حيان : هي للتبعيض ، لأن المباشر بالذات للمعاهدة بعض القوم ، وهي الرؤساء والأشراف .
الخامس : قوله : { وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } ، حال من فاعل ينقضون ، أي : يستمرون على النقض ، والحال أنهم لا يتقون العار فيه ، لأن عادة من يرجع إلى دين وعقل وحزم
أن يتقي نقض العهد ، حتى يسكن الناس إلى قوله ، ويثقون بكلامه ، فبين الله عز وجل أن من جمع بين الكفر ونقض العهد ، فهو شر من الدواب .
ثم شرع تعالى في بيان أحكام الناقضين ، بعد تفصيل أحوالهم ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } [ 57 ] .
{ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ } أي : فإما تصادفنهم وتظفرن بهم { فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } أي : فرق بهم من وراءهم من المحاربين ، يعني : بأن تفعل بهم من النكال وتغليظ العقوبة ، ما يشرد غيرهم خوفاً ، فيصيروا لهم عبرة ، كما قال : { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } أي : لعل المشردين يتعظون بما شاهدوا ما نزل بالناقضين ، فيرتدعوا عن النقض أو عن الكفر .
قال في " التاج " : وقيل : معنى : { فَشرد بهم } فسمع بهم وقيل : فزع بهم ، ولا يخفى أن هذه المعاني متقاربة .
وأصل التشريد الطرد والتفريق ، ويقال : شرد به تشريداً ، سمع الناس بعيوبه . قال :
~أُطوف بالأباطحِ كلِّ يوم مخافَةَََ أن يُشرِّد بي حكيمُ
معناه أن يسمِّع بي ، و حكيم رجل من بي سُليم كانت قريش ولَّته الأخذ على أيدي السفهاء .
استشهد به في اللسان في مادة : ش ر د .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ } [ 58 ] .
{ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً } بيان لأحكام المشرفين إلى نقض العهد ، وإثر بيان الناقضين له بالفعل . و الخوف مستعار للعلم ، أي : وإما تعلمن من قوم من المعاهدين نقض عهد فيما سيأتي ، بما لاح لك منهم من دلائل الغدر ، ومخايل الشرّ .
{ فَانبِذْ إِلَيْهِمْ } أي : فاطرح إليهم عهدهم { عَلَى سَوَاء } أي : على طريق مستوٍ ، قصد بأن تظهر لهم النقض ، وتخبرهم إخباراً مكشوفاً بأنك قد قطعت ما بينك وبينهم من الوصلة ، ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد ، كي لا يكون من قبلك شائبة خيانة أصلاً ، وإن كانت في مقابلة خيانتهم .
وقوله : { إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ } تعليل للأمر بالنبذ ، إما باعتبار استلزامه النهي عن مناجزة القتال ، لكونها خيانة ، فيكون تحذيراً له صلى الله عليه وسلم منها ، وإما باعتبار استتباعه للقتال ، فيكون حثاً له صلى الله عليه وسلم على النبذ أولاً ، وعلى قتالهم ثانياً ، كأنه قيل : وإما تعلمن من قوم خيانة فانبذ إليهم ، ثم قاتلهم ، إن الله لا يحب الخائنين ، وهم من جملتهم ، ولما علمت من حالهم . أفاده أبو السعود .
تنبيه :
دلت الآية على جواز معاهدة الكفار لمصلحة ، ووجوب الوفاء بالعهد إذا لم يظهر منهم أمارة الخيانة ، وتدل على إباحة نبذ العهد لمن توقع منهم غائلة مكر ، وأن يعلمهم بذلك ، لئلا يعيبوا علينا بنصب الحرب مع العهد .
روى أصحاب السنن أنه كان بين معاوية وبين الروم عهد ، وكان يسير نحو بلادهم ليقرب ، حتى إذا انقضى العهد غزاهم ، فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول : الله أكبر ! الله أكبر ! وفاء لا غدر ، فإذا هو عَمْرو بن عَبْسَةَ فأرسل إليه معاوية فسأله ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < من كان بينه وبين قوم عهد ، فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها ، أو ينبذ إليهم على سواء > فرجع معاوية . وروى الإمام أحمد عن سلمان الفارسي أنه انتهى إلى حصن أو مدينة ، فقال لأصحابه : دعوني أدعوهم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم ، فقال :
إنما كنت رجلاً منكم فهداني الله عز وجل للإسلام ، فإن أسلمتم فلكم مالنا ، وعليكم ما علينا ، وإن أنتم أبيتم ، فأدوا الجزية وأنتم صاغرون ، فإن أبيتم نابذناكم على سوء ، إن الله لا يحب الخائنين .
يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها .
هذا ، وما ذكر من وجب إعلامهم ، وإنما هو عند خوف الخيانة منهم وتوقعها ، كما هو منطوق الآية .
وأما إذا ظهر نقض العهد ظهوراً مقطوعاً به فلا حاجة للإمام إلى نبذ العهد ، بل يفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل مكة لما نقضوا العهد بقتل خزاعة ، وهو في ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يرعهم إلا وجيش رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرَ الظهران ، وذلك على أربعة فراسخ من مكة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } [ 59 ] .
{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ } قرئ بالياء والتاء { الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ } أي : فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } أي : لا يفوتون الله من الإنتقام ، وإما في الدنيا بالقتل ، وإما في الآخرة بعذاب النار .
وقرئ بفتح ( أن ) على تقدير لام التعليل ، وهذا كقوله تعالى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } ، وقوله تعالى : { لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ } وقوله تعالى : { لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } [ 60 ] .
{ وَأَعِدُّواْ لَهُم } أي : لقتال ناقضي العهد السابق ذكرهم ، أو الكفار مطلقاً ، وهو الأنسب بسياق النظم الكريم { مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ } أي : من كل ما يتقوى به في الحرب من عددها ، أطلق عليه القوة مبالغة .
قال الشهاب : وإنما ذكر لأنه لم يكن لهم في بدر استعداد تام ، فنبهوا على أن النصر من غير استعداد لا يتأتى في كل زمان .
{ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ } الرباط في الأصل مصدر ربط ، أي : شد ، ويطلق بمعنى المربوط مطلقاً ، كثر استعماله في الخيل التي تربط في سبيل الله ، فالإضافة إما باعتبار عموم المفهوم الأصلي ، أو بملاحظة كون الرباط مشتركاً بين معان أخر ، كانتظار الصلاة وملازمة ثغر العدو ، والمواظبة على الأمر ، فإضافته لأحد معانيه للبيان ، كعين الشمس ، ومنه يعلم أنه يجوز إضافة الشيء لنفسه إذا كان مشتركاً .
وإذا كان من إضافة المطلق للمقيد ، فهو على معنى من التبعيضية .
وقد يكون الرباط جمع ربيط ، كفصيل وفصال .
قال في " التاج " : يقال : نعم الربيط هذا ، لما
يرتبط من الخيل ، ثم إن عطفها على القوة مع كونها من جملتها للإيذان بفضلها على بقية أفرادها ، كعطف جبريل وميكائيل على الملائكة { تُرْهِبُونَ بِهِ } أي : تخوفون بذلك الإعداد { عَدُوَّ اللّهِ } وهو المثبت له شريكاً ، المبطل لكلمته { وَعَدُوَّكُمْ } أي : الذي يظهر عداوتك ، فتخوفونهم لئلا يحاربوكم باعتقاد القوة في أنفسهم دونكم .
تنبيه :
دلت هذه الآية على وجوب إعداد القوة الحربية ، إتقاء بأس العدو وهجومه .
ولما عمل الأمراء بمقتضى هذه الآية ، أيام حضارة الإسلام ، كان الإسلام عزيزاً عظيماً ، أبي الضيم ، قوي القنا ، جليل الجاه ، وفير السنا ، إذا نشر لواء سلطته على منبسط الأرض ، فبقض على ناصية الأقطار والأمصار ، وخضد شوكة المستبدين الكافرين ، وزحزح سجوف الظلم والإستعباد ، وعاش بنوه أحقاباً متتالية وهم سادة الأمم ، وقادة مشعوب ، وزمام الحول والطول وعطب روحي العز والمجد ، لا يستكينون لقوة ، ولا يرهبون لسطوة .
وأما اليوم ، فقد ترك المسلمون العمل بهذه الآية الكريمة ، ومالوا إلى النعيم والترف فأهملوا فرضاً من فروض الكفاية ، فأصبحت جميع الأمة آثمة بترك هذا الفرض ولذا تعاني اليوم من غصته ما تعاني ، وكيف لا يطمع العدو بالممالك الإسلامية ، ولا ترى فيها معامل للأسلحة ، وذخائر الحرب ، بل كلها مما يشترى من بلاد العدو ؟
أما آن لها أن تتنبه من غفلتها ، وتنشئ معامل لصنع المدافع والبنادق والقذائف والذخائر الحربية ؟ فلقد ألقي عليها تنقص العدو بلادها من أطرافها درساً يجب أن تتدبره ، وتتلافى ما فرطت به قبل أن يداهم ما بقي منها بخيله ورجله ، فيقضي - والعياذ بالله - على الإسلام وممالك المسلمين ، لاستعمار الأمصار ، واستعباد الأحرار ، ونزع الإستقلال المؤذن بالدمار . وبالله الهداية .
وقوله تعالى : { وَآخَرِينَ } أي : وترعبون قوماً آخرين { مِن دُونِهِمْ } أي : من دون من يظهر عداوتكم ، وهم المنافقون { لاَ تَعْلَمُونَهُمُ } أي : أنهم يعادونكم { اللّهُ يَعْلَمُهُمْ } أي : أنهم أعداؤكم ، يظهرون عداوتهم إذا رأوا ضعفكم .
ثم شجعهم سبحانه على إنفاق المال في إعداد القوة ، ورباط الخيل ، مبشراً لهم بتوفية جزائه كاملاً ، بقوله تعالى : { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أي : الذي أوضحه الجهاد : { يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } أي : في الدنيا من الفيء والغنيمة والجزية والخراج ، وفي الآخرة بالثواب المقيم : { وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } أي : بترك الإثابة .
تنبيهات :
الأول : هذه الآية أصل في كل ما يلزم إعداده للجهاد من الأدوات .
الثاني : في قوله تعالى : { تُرْهِبُون بِهِ } إشارة إلى التجافي عن أن يكون الإعداد لغير الإرهاب كالخيلاء .
وفي حديث الإمام مالك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : < الخيل ثلاثة : لرجل أجر ، ولرجل ستر ولرجل وزر ، فأما الذي له أجر ، فرجل ربطها في سبيل الله ، ورجل ربطها تغنياً وتعففاً ، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها ، فهي له ستر ، ورجل ربطها فخراً ورياءً ونِواءً لأهل الإسلام ، فهي على ذلك وزر > .
الثالث : ما ذكرناه في تأويل الآخرين من أنهم المنافقون ، يشهد له قوله تعالى
{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } .
ثم بين تعالى جواز مصالحة الكفار بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ 61 ] .
{ وَإِن جَنَحُواْ } أي : مالوا وانقادوا { لِلسَّلْمِ } بكسر السين وفتحها ، لغتان ، وقد قرئ بهما ، أي : الصلح والاستسلام بوقوع الرهبة في قلوبهم ، بمشاهدة ما بكم من الإستعداد ، وإعتاد العتاد { فَاجْنَحْ لَهَا } أي : فمل إلى موافقتهم وصالحهم وعاهدهم ، وإن قدرت على محاربتهم ، لأن الموافقة أدعى لهم إلى الإيمان .
ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ، ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين ، أجابهم إلى ذلك ، مع ما اشترطوا من الشروط الأخر . و السلم يذكر ويؤنث ، كما في " القاموس " .
قال الزمخشري : السلم تؤنث تأنيث نقيضها ، وهي الحرب .
قال العباس بن مرداس :
~السلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب يكفيك من أنفسها جُرَعُ
{ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ } أي : لا تخف في الصلح مكرهم ، فإنه يعصمك من مكرهم ، { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } لأقوالهم { الْعَلِيمُ } أي : بأحوالهم ، فيؤاخذهم بما يستحقون ويرد كيدهم في نحرهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ } [ 62 ] .
{ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ } أي : بالصلح لتكف عنهم ظاهراً ، وفي نيتهم الغدر : { فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ } أي : كافيك بنصره ومعونته .
قال مجاهد : يريد قريظة .
ثم علل كفايته له ، بما أنعم عليه من تأييده صلى الله عليه وسلم بنصره وبالمؤمنين ، فقال تعالى : { هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ } أي : يوم بدر بعد الضعف ، من غير إعداد قوة ولا رباط : { وَبِالْمُؤْمِنِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ 63 ] .
{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } أي : جمع بين قلوبهم وكلمتهم ، بالهدى الذي بعثك الله به إليهم ، بعد ما كان فيها العصيبة والضغينة { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً } أي : من الذهب والفضة { مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } إذ لا يدخل ذلك تحت قدرة البشر ، لكونه من عالم الغيب { وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } أي : بين قلوبهم بدينه الذي جمعهم إليه ، { إِنَّهُ عَزِيزٌ } أي : غالب في ملكه وسلطانه على كل ظاهر وباطن { حَكِيمٌ } أي : فاقتضت حكمته ذلك ، لما فيه من تأييد دينه ، وإعلاء كلمته .
قال الزمخشري ـ رحمه الله تعالى ـ : التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من الآيات الباهرة ، لأن العرب لما فيهم من الحمية والعصبية ، والإنطواء على الضغينة في أدنى شيء ، وإلقائه بين أعينهم ، وإلى أن ينتقموا ، لا يكاد يأتلف منهم قلبان ، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتحدوا وأنشأوا يرمون عن قوس واحدة ، وذلك لما نظم الله من ألفتهم ، وجمع من كلمتهم ، وأحدث بينهم من التحاب والتواد ، وأماط عنهم من التباغض والتماقت ، وكلفهم من الحب في الله والبغض في الله ، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب ، فهو يقلبها كما شاء ، ويصنع فيها ما أراد .
وقيل : هم الأوس والخزرج ، كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم ، ودق جماجمهم ، ولم يكن لبغضائهم أمد ومنتهى ، وبينهما التجاور الذي يهيج الضغائن ، ويديم التحاسد والتنافس .
وعادة كل طائفتين كانتا بهذه المثابة أن تتجنب هذه ما آثرته أختها ، وتكرهه وتنفر عنه ، فأنساهم الله تعالى ذلك كله ، حتى اتفقوا على الطاعة ، وتصافوا وصاروا أنصاراً وعادوا أعواناً
وما ذاك إلا بلطيف صنعه ، وبليغ قدرته . انتهى .
وإنما ضعف القول الثاني لأنه ليس في السياق قرينة عليه . كذا في " العناية " .
أقول : لكن شهرة ما كن بين هذين البطنين من التعادي الذي تطاول أمده ، واستحال قبل البعثة نضوب مائه ، يصلح أن يكون قرينة . ونقل علماء السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما لقي في الموسم الرهط من الخزرج ، ودعاهم إلى الله تعالى . فأجابوه وصدقوه ، قالوا له : إنا قد تركنا قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، وعسى أن يجمعهم الله بك ، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ، نعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك . رواه ابن إسحاق وغيره .
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب الأنصار في شأن غنائم حنين ، قال لهم : < يا معشر الأنصار ! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي ؟ وعالة فأغناكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي > ؟ كلما قال شيئاً قال : < الله ورسوله أمنّ > .
لطيفة :
روى الحاكم أن ابن عباس كان يقول : إن الرحم لتقطع ، وإن النعمة لتكفر ، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء . ثم يقرأ : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْض } الآية .
وعند البيهقي نحوه . وقال موجود في الشعر :
~إذا بتّ ذو قربى إليك بزلة فغشك واستغنى فليس بذي رُحْم
~ولكن ذا القربى الذي إن دعوته أجاب ، وأن يرمي العدو الذي ترمي
قال : ومن ذلك قول القائل :
~ولقد صحبت الناس ثم سبرتهم وبلوت ما وصلوا من الأسباب
~فإذا القرابة لا تقرب قاطعاً وإذا المودة أقرب الأسباب
قال البيهقي : لا أدري هذا موصولاً بكلام ابن عباس ، أو هو قول من دونه من الرواة .
قال الرازي : احتج أصحابنا بهذه الآية ، على أن أحوال القلوب من العقائد والإرادات ، كلها من خلق الله تعالى ، وذلك لأن الألفة والمودة والمحبة الشديدة إنما حصلت بسبب الإيمان ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم . انتهى .
ولما بين تعالى كفايته لنبيه صلى الله عليه وسلم عند مخادعة الأعداء ، في الآية المتقدمة ، أعلمه بكفايته له في جميع أموره مطلقاً ، فقال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ 64 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال العلامة ابن القيم في مقدمة " زاد المعاد " في تفسير هذه الآية : أي : الله وحده كافيك ، وكافي أتباعك ، فلا يحتاجون معه إلى أحد .
ثم قال : وهاهنا تقديران :
أحدهما : أن تكون الواو عاطفة لمَنْ على الكاف المجرورة ، ويجوز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار ، على المذهب المختار ، وشواهد كثيرة ، وشُبه المنع منه واهية .
والثاني : أن تكون الواو واو مع ، وتكون من في محل نصب عطفاً على الموضع فإن حسبك في معنى كافيك ، أي : الله يكفيك ، ويكفي من اتبعك ، كما يقول العرب : حسبك وزيداً درهم ، قال الشاعر :
~إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا فحسبك والضحاك سيف مهند
وهذا أصح التقديرين . وفيها تقدير ثالث ، أن تكون من في موضع رفع بالإبتداء ، أي : ومن اتبعك من المؤمنين ، فحسبهم الله .
وفيها تقدير رابع ، وهو خطأ من جهة المعنى ، وهو أن يكون من في موضع رفع عطفاً على إسم الله ، ويكون المعنى : حسبك الله وأتباعك .
وهذا ، وإن قال به بعض الناس ، فهو خطأ محض ، لا يجوز حمل الآية عليه ، فإن الحسب والكفاية لله وحده ، كالتوكل والتقوى والعبادة .
قال الله تعالى : { وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ } ففرق بين الحسب والتأييد ، فجعل الحسب له وحده وجعل التأييد له بنصره وبعباده ، وأثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل من عباده ، حيث أفردوه بالحسب ، فقال تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }
ولم يقولوا : حسبنا الله ورسوله ، فإذا كان هذا قولهم ، ومدح الرب تعالى لهم بذلك ، فكيف يقول لرسوله : الله وأتباعك حسبك ؟ وأتباعه ، قد أفردوا الرب تعالى بالحسب,ولم يشركوا بينه وبين رسوله ؟ هذا من أمحل المحال ، وأبطل الباطل . ونظير هذه قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } ، فتأمل كيف جعل الإيتاء لله ولرسوله ، كما قال تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه } ، وجعل الحسب له وحده ، فلم يقل : وقالوا حسبنا الله ورسوله ، بل جعله خالص حقه ، كما قال : { إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } ولم يقل وإلى رسوله ، بل جعل الرغبة إليه وحده . كما قال تعالى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَالفاسد َإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } ، فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب ، لله وحده ، كما أن العبادة والتقوى والسجود ، لله وحده ، والنذر والحلف لا يكون إلا له سبحانه وتعالى ونظير هذا قوله تعالى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } فالحسب هو الكافي ، فأخبر سبحانه وتعالى أنه وحده كاف عبده ، فكيف يجعل أبتاعه مع الله في هذه الكفاية ؟ والأدلة الدالة على بطلان هذا التأويل الفاسد ، أكثر من أن نذكرها هنا . انتهى .
قال الخفاجي في " العناية " : وتضعيفه الرفع لا وجه له ، فإن الفراء والكسائي رجّحاه ، وما قبله وما بعده يؤيده . انتهى .
وأقول : هذا من الخفاجي من الولع بالمناقشة ، كما هو دأبه ، ولو أمعن النظر فيما برهن عليه ابن القيم وأيده بما لا يبقى معه وقفة لما ضعفه ، والفراء والكسائي من علماء العربية ، ولأئمة التأويل فقه آخر ، فتبصر ولا تكن أسير التقليد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ
يَفْقَهُونَ } [ 65 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ } أي : حثهم : { عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ 66 ] .
{ الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } .
في الآية مسائل :
الأولى : مشروعية الحض على القتال ، والمبالغة في الحث عليه ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرض أصحابه عند صفهم ، ومواجهة العدو ، كما قال لهم يوم بدر ، حين أقبل المشركون في عددهم وعُددهم : < قوموا إلى الجنة عرضها السموات والأرض > ، فقال عمير بن الحمام : عرضها السموات والأرض ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < نعم > ! فقال : بخٍ بخٍ ، فقال : < ما يحملك على قولك بخ بخ > ؟ قال : رجاء أن أكون من أهلها . قال : < فإنك من أهلها > . فتقدم الرجل ، فكسر جفن سيفه ، وأخرج تمرات فجعل يأكل منهن ، ثم ألقى بقيتهن من يده ، وقال : لئن أنا حييت حتى آكلهن ، إنها لحياة طويلة ، ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه .
الثانية : ذهب الأكثرون إلى أن قوله تعالى : { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفا } شرط في معنى الأمر بوجوب مصابرة الواحد للعشرة أي : بألا يفر منهم .
روى البخاري عن ابن عباس قال : لما نزلت : { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } كتب عليهم ألا يفر واحد من عشرة ، ولا عشرون من مائتين ، ثم نزلت : { الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ } الآية ، فكتب أن لا يفر مائة من مائتين .
وفي رواية أخرى عنه قال : لما نزلت : { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } شق ذلك على المسلمين ، فنزلت : { الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ } الآية ، فلما خفف الله عنهم من العدة ، نقص عنهم من الصبر ، بقدر ما خفف عنهم .
قال في " اللباب " : فظاهر هذا أن قوله تعالى : { الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ } ناسخ لما تقدم في الآية الأولى ، وكان هذا الأمر يوم بدر ، فرض الله سبحانه وتعالى على الرجل الواحد من المسلمين قتال عشرة من الكافرين ، فثقل ذلك على المؤمنين ، فنزلت : { الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ } أيها المؤمنون { وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } يعني في قتال الواحد للعشرة ، فإن تكن منكم مائة صابرة محتسبة يغلبوا مائتين ، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله . فرد العشرة إلى الإثنين ، فإذا كان المسلمون على قدر النصف من عدوّهم لا يجوز لهم أن يفروا ، فأيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر ، ومن فرَّ من اثنين فقد فرّ . انتهى .
قال في " العناية " : وذهب مكي إلى أنها مخففة لا ناسخة ، كتخفيف الفطر للمسافر . وثمرة الخلاف أنه لو قاتل واحد عشرة ، فقتل ، هل يأثم أو لا ؟ فعلى الأول يأثم ، وعلى الثاني لا يأثم .
وقال الرازي : أنكر أبو مسلم الأصفهاني دعوى النسخ في الآية ، وقال : الأمر الذي فهم من الآية مشروط بكون العشرين قادرين على الصبر ، أي : إن حصل منكم عشرون موصوفون بالصبر على مقاومة المائتين ، فليشتغلوا بمقاومتهم .
ثم دل قوله تعالى : { الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ } على أن ذلك الشرط غير حاصل منهم ، فلم يكن التكليف لازماً عليهم .
وبالجملة ، فالآية الأولى دلت على ثبوت حكم عند شرط مخصوص ، والثانية دلت على أن ذلك الشرط مفقود في حق هؤلاء الجماعة ، فلم يثبت ذلك الحكم ، وعلى هذا فلا نسخ ، ولا يقال إن قوله تعالى : { الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ } مشعر بأن هذا التكليف كان متوجهاً عليهم قبله ، لأن لفظ التخفيف لا يستلزم الدلالة على حصول التثقيل قبله ، لأن عادة العرب الرخصة بمثل هذا الكلام ، كقوله تعالى في ترخيصه للحرّ في نكاح الأمَة : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُم } وليس هناك نسخ ، وإنما هو إطلاق نكاح الأمة لمن لا يستطيع نكاح الحرائر ، فكذا هاهنا .
ومما يدل على عدم النسخ ذكر هذه الآية مقارنة للأولى وجعل الناسخ مقارناً للمنسوخ ، لا يجوز إلا بدليل قاهر .
قال الرازي : بعد تقرير كلام أبي مسلم : إن ثبت إجماع الأمة قبل أبي مسلم
على حصول النسخ في الآية ، فلا كلام عليه ، وإلا فقول أبي مسلم صحيح حسن . انتهى .
الثالثة : في قوله تعالى : { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ } إشارة إلى علة غلبة المؤمنين عشرة أمثالهم من الكفار ، فالظرف متعلق بـ : { يَغْلِبُوا } أي : بسبب أنهم قوم جهلة بالله تعالى واليوم الآخر ، لا يقاتلون احتساباً وامتثالاً لأمر الله تعالى ، وإعلاءاً
لكلمته ، وابتغاءاً لرضوانه ، كما يفعله المؤمنون ، وإنما يقاتلون للحمية الجاهلية ، واتباع خطوات الشيطان ، وإثارة نائرة البغي والعدوان ، فلا يستحقون إلا القهر والخذلان . أفاده أبو السعود .
الرابعة : قال الرازي : احتج هشام على قوله : إن الله تعالى لا يعلم الجزئيات إلا عند وقوعها ، بقوله : { الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } إذ يقتضي أن علمه يضعفهم ما حصل إلا في هذا الوقت .
وأجاب المتكلمون بأن معناه : الآن حصل العلم بوقوعه وحصوله ، وأما قبل ذلك فقد كان الحاصل العمل بأنه سيقع أو سيحدث . انتهى .
وقال الطيبي رحمه الله : معناه الآن خفف الله عنكم لما ظهر متعلق علمه تعالى ، أي : كثرتكم الموجبة لضعفكم بعد ظهور قتلكم وقوتكم .
الخامسة : في الضعف لغتان : الفتح والضم ، بهما قرئ . وهويؤكد كونهما بمعنى فيكونان في الرأي والبدن . وقيل : الفتح في الرأي والعقل ، الضم في البدن . وهو منقول عن الخليل [ في المطبوع : الخيل ] وقرء : ( ضعفاء ) بصيغة الجمع .
السادسة : إن قيل : إن كفاية عشرين لمائتين تغني عن كفاية مائة لألف وكفاية مائة لمائتين تغني عن كفاية ألف لألفين ، لما تقرر من وجوب ثبات الواحد للعشرة في الأولى ، وثبات الواحد للإثنين في الثانية ، فما سر هذا التكرير ؟
أجيب : بأن سره كون كل عدة بتأييد القليل على الكثير لزيادة التكرير المفيد لزيادة الإطمئنان ، والدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة ، لا تتفاوت ، فإن العشرين قد لا تغلب المائتين ، وتغلب المائة الألف ، وأما الترتيب في المكرر فعلى ذكر الأقل ثم الأكثر على الترتيب الطبيعي .
قال في " الفتح " : وقد قيل في سر ذلك : إن بشارة للمسلمين بأن جنود الإسلام سيجاوز عددها العشرات والمئات إلى الألوف .
السابعة : قال في " البحر " : انظر إلى فصاحة هذا الكلام ، حيث أثبت في
الشرطية الأولى قيد الصبر ، وحذف نظيره من الثانية ، وأثبت في الثانية قيد كونهم من الكفرة وحذفه من الأولى ، ولما كان الصبر شديد المطلوبية أثبت في جملتي التخفيف وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه ، ثم ختمت بقوله :
{ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } مبالغة في شدة المطلوبية ، ولم يأت في جملتي التخفيف بقيد الكفر ، اكتفاءاً بما قبله .
قال الشهاب : هذا نوع من البديع يسمى الإحتباك ، وبقي عليه أنه ذكر في التخفيف
{ بِإِذْنِ اللّهِ } وهو قيد لهما ، وقوله : { وَاللَّهُ معَ الصَّابِرِينَ } إشارة إلى تأييدهم ، وأنهم منصورون حتماً لأن من كان الله معه لا يغلب .
وبقي فيها لطائف ، فللّه درّ التنزيل ما أحلى ماء فصاحته ! وأنضر رونق بلاغته !(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ 67 ] .
{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ } .
روى الإمام أحمد عن أنس قال : استشار النبي صلى الله عليه وسلم في الأسارى يوم بدر فقال : < إن الله قد أمكنكم منهم > ، فقال عُمَر بن الخطاب : يا رسول الله ! اضرب أعناقهم ، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لمقالته وقال : < إنما هم إخوانكم بالأمس > ، وعاد عمر لمقالته ، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم ، فقام أبو بكر الصديق فقال : يا رسول الله ! نرى أن تعفوا عنهم ، وأن تقبل منهم الفداء . قال فذهب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغمّ ، فعفا عنهم ، وقبل منهم الفداء .
وأخرج مسلم في أفراده من حديث عُمَر بن الخطاب ، قال ابن عباس : لما أسروا الأسارى . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر : < ما ترون في هؤلاء الأسارى > ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله ! هم بنو العم والعشيرة ، أرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار ، فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما ترى يا ابن الخطاب > ؟ قال : قلت لا ، والله يا رسول الله ! ما أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم ، فتمكِّن عليّاً من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه ، وتمكنني من فلان - نسيب لعمر - فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده . فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت .
فلما كان من الغد جئت ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يبكيان ، فقلت : يا رسول الله ! أخبرني من أي : شيء تبكي أنت وصاحبك ، فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أبكي على أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة > ، لشجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ } الآية .
ذكره الحميدي في " مسنده " عن عُمَر بن الخطاب ، من أفراد مسلم بزيادة فيه .
ومعنى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ } ما صح له وما استقام وقرئ ( للنبيّ ) على العهد ، والمراد على كلٍّ ، نبينا صلى الله عليه وسلم ، وإنما نكر تلطفاً به ، حتى لا يواجه بالعقاب . وقرئ ( أُسَارَى ) .
ومعنى : { يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ } يكثر القتل ويبالغ فيه ، حتى يذل الكفر ، ويقل حزبه ، ويعز الإسلام ، ويستولي أهله . يقال : أثخن في العدو ، بالغ في قلتهم . كما في " الأساس " ، وأثخن في الأرض قتلاً إذا بالغ . وقال ابن الأعرابي : أثخن إذا غلب وقهر .
قال الرازي : وإنما حمله الأكثرون على القتل ، لأن الدولة إنما تقوى به .
قال المتنبي :
~لا يسلم الشرفُ الرفيعُ من الأذى حتى يراقَ على جوانِبِهِ الدمُ
ولأنه يوجب قوة الرعب ، وشدة المهابة ، فلذلك أمر تعالى به . وقوله تعالى
{ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا } أي : متاعها الزائل ، بفداء أسارى بدر .
والعرض ما لا ثبات له ولو جسماً ، ومنه استعار المتكلمون العرض المقابل للجوهر ، قاله الشهاب .
{ وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ } أي : يريد لكم ثوابها { وَاللّهُ عَزِيزٌ } أي : غالب على ما أراد .
{ حَكِيمٌ } أي : فيما يأمر به عباده .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ 68 ] .
{ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ } أي : لأصابكم { فِيمَا أَخَذْتُمْ } أي : بسببه ، وهو الفداء : { عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي : شديد ، بقدر إبطالكم الحكمة العظيمة ، وهي قتلهم ، الذي هو أعز للإسلام ، وأهيب لمن وراءهم وأفلّ لشوكتهم . والمراد بالكتاب
الحكم ، وإنما أطلق عليه لأنه مكتوب في اللوح .
ولأئمة التفسير أقوال في تفسيره ، فقيل : هو أنه لا يعذب قوماً إلا بعد تقديم النهي ، ولم يتقدم نهي عن ذلك ، وقيل : هو أنه لا يعذب المخطئ في اجتهاده ، وقيل : هو كون أهل بدر مغفوراً لهم . وقيل : هو حل المغانم .
وللرازي مناقشة في هذه الأقوال ، واختار أن الكتاب هو حكمه في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة ، لأنه كتب على نفسه الرحمة ، وسبقت رحمته غضبه .
أقول : لعل الأمسّ في تهويل ما اكتسبوه ، تفسير الكتاب بما في قوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } ـ والله أعلم ـ .
تنبيهات :
الأول : قال الرازي : قال ابن عباس : هذا الحاكم إنما كان يوم بدر ، لأن المسلمين كانوا قليلين ، فلما كثروا وقوي سلطانهم ، أنزل الله بعد ذلك في الأسارى : { حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } .
وأقول : هذا الكلام يوهم أن قوله : { فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } يريد حكم الآية التي نحن في تفسيرها ، وليس الأمر كذلك ، لأن الآيتين متوافقتان ، فإن كلتيهما تدل على أنه لا بد من تقديم الإثخان ، ثم بعده أخذ الفداء . انتهى .
وقال بعضهم : لا تظهر دعوى النسخ من أصلها ، إذ النهي الضمني ، كما هنا مقيد ومُغَيّاً بالإثخان ، أي : كثرة القتال اللازمة لها قوة الإسلام وعزته ، وما في سورة القتال من التخيير ، محله بعد ظهور شوكة الإسلام بكثرة القتال ، فلا تعارض بين الآيتين ، إذ ما هناك بيان للغاية التي هنا . نقله في " الفتح " .
الثاني : قال القاضي : في الآية دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجتهدون ، وأنه قد يكون خطأ ، ولكن لا يقرّون عليه .
الثالث : قال ابن كثير : وقد استمر الحكم في الأسرى عند جمهور العلماء ، أن الإمام مخير فيهم ، إن شاء قتل ، كما فعل ببني قريظة ، وإن شاء فادى بمال ، كما فعل بأسرى بدر ، بمن أُسِر من المسلمين ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الجارية وابنتها اللتين كانتا في سبي سلمة بن الأكوع ، حيث ردهما وأخذ في مقابلتهما من المسلمين الذين كانوا عند المشركين .
وإن شاء استرق من أسر ، هذا مذهب الإمام الشافعي وطائفة ، وفي المسألة خلاف آخر بين الأئمة ، مقرر في موضعه .
الرابع : قال بعض مفسري الزيدية : في هذه الآية سؤال وهو أن يقال : إن كان فعلهم اجتهاداً وخطأ ، فلِمَ عوتبوا ؟ ويلزم أن لا معصية ، وإن تمكنوا من العلم وقصروا ، فكيف أقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ وجواب ذلك من وجهين :
الأول : عن أبي علي أن ذلك كان معصية صغيرة . قال الحاكم : وكانوا متمكنين من العلم ، إذا ما عاتبهم ، وقيل : كان خطأ وقصروا فعوتبوا على التقصير . انتهى .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 69 ] .
{ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً } أي : كلوا بعضه بعد إخراج الخمس حلالاً ، أي : مطلقاً عن العتاب والعقاب ، من حل العقال .
{ طَيِّباً } أي : لذيذاً هنيئاً ، أو حلالاً بالشرع ، طيباً بالطبع .
قيل : هذا الأمر تأكيد لحل المغنم ، لأنه علم مما تقدم من قوله : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ } الآية ، وإشارة لاندراج مال الفداء في عمومها ، فما غنمتم هنا ، إما الفدية ، لأنها غنيمة ، أو مطلق الغنائم .
والمراد بيان حكم ما اندرج فيها من الفدية وجعل الفاء عاطفة على سبب مقدر ، أي : أبحت لكم الغنائم ، فكلوا قد يستغنى عنه بعطفه على ما قبله بمعناه ، أي : لا أؤاخذكم بما أخذ من الفداء فكلوه . كذا في " العناية " .
قال أبو السعود : والأظهر أنها للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، أي : دعوه فكلوا مما غنمتم . ثم قال : وقيل : ما عبارة عن الفدية ، فإنها من جملة الغنائم ، ويأباه اتساق النظم الكريم وسياقه . انتهى . وهو متجه .
{ وَاتَّقُواْ اللّهَ } أي : في مخالفة أمره ونهيه { إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فيغفر لكم ويرحمكم إذا اتقيتموه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 70 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى } أي : لمن في ملكتكم ، كأن
أيديكم قابضة عليهم وذلك تخليصاً لهم من أسر الضلال بضعف الإيمان { إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً } أي : قوة إيمان وإخلاصاً فيه { يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ } أي : من الفداء ، إما أن يخلفكم في الدنيا أضعافه ، أو يثيبكم في الآخرة { وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 71 ] .
{ وَإِن يُرِيدُواْ } أي : الأسرى { خِيَانَتَكَ } أي : نكث ما بايعوك عليه من الإسلام بالردة ، أو منع ما ضمنوا من الفداء { فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ } أي : من قبل بدر بالكفر به .
{ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ } أي : فأمكنك منهم ، أي : أظفرك بهم قتلاً وأسراً ، كما رأيتم يوم بدر ، فسيُمكن منهم إن عادوا إلى الخيانة { وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : عليم بما في بواطنهم من إيمان وتصديق ، أو خيانة ونقض عهد ، حكيم يجازي كلاً بعلمه ، الخير بالثواب ، والشر بالعقاب .
روى ابن هشام في السيرة أن فداء المشركين يوم بدر ، كان أربعة آلاف درهم بالرجل إلى ألف درهم ، إلا من لا شيء له ، فمن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه .
وقال ابن إسحاق : كان أكثر الأسارى يوم بدر فداءً العباس ، وذلك أنه كان رجلاً موسراً ، فافتدى نفسه بمائة أوقية ذهباً .
وفي " صحيح البخاري " عن أنس أن رجالاً من الأنصار قالوا : يا رسول الله ! ائذن لنا ، فنترك لابن أختنا عباس فداءه . قال : < لا والله ! لا تذرون منه درهماً > .
وروى إسحاق أن العباس قال : يا رسول الله ! قد كنت مسلماً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < الله أعلم بإسلامك ، فإن يكن كما تقول ، فإن الله يجزيك ، وأما ظاهرك فقد كان علينا ، فافتد نفسك وابني أخيك نوفل وعقيل وحليفك عتبة > . قال : ما ذاك عندي يا رسول الله ! قال : < فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل > ، فقلت لها : إن أُصبت في سفري هذا ، فهذا المال الذي دفنته لبنيّ : الفضل وعبد الله وقثم ؟ قال : والله ! يا رسول الله ، إني لأعلم أنك رسول الله ، إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري
وغير أم الفضل ، فاحسب لي يا رسول الله ، ما أصبتم من عشرين أوقية من مال كان معي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا ، ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك > .
ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه ، فأنزل الله عز وجل فيه : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُم } الآية .
قال العباس : فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام ، عشرين عبداً كلهم في يده مال ، يضرب به ، مع ما أرجو من مغفرة الله عز وجل .
وروى ابن إسحاق أيضاً أن العباس كان يقول : في نزلت ، والله ! حين ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامي .
وروى ابن جريج عن عطاء بن عباس ، أن عباساً وأصحابه قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : آمنا بما جئت به ، ونشهد أنك رسول الله ، لننصحن لك على قومنا ، فأنزل الله تعالى : { إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ } الآية . قال ، فكان العباس يقول : ما أحب أن هذه الآية لم تنزل فينا ، وأن لي الدنيا ، لقد قال : { يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُم } فقد أعطاني خيراً مما أخذ منى مائة ضعف . وقال : { وَيَغَفِرْ لَكُمْ } وأرجو أن قد غفر لي .
وروى البيهقي عن أنس قال : أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين ، فقال : < انثروه في مسجدي > . قال ، وكان أكثر ما أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إلى الصلاة ، ولم يلتفت إليهم ، فلما قضى الصلاة فجاء فجلس إليه ، فما كان يرى أحداً إلا أعطاه ، إذ جاءه العباس فقال : يا رسول الله ! أعطني ، فاديت نفسي ، وفاديت عقيلاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < خذ > ، فحثا في ثوبه ، ثم ذهب يقله ، فلم يستطع . فقال : مر بعضهم يرفعه إلي ، قال : لا ، قال : < فارفعه أنت علي > ، قال : لا ! فنثر منه ، ثم احتمله على كاهله ، ثم انطلق ، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه ببصره حتى خفي عنه ، عجباً من حرصه .
فما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثم منها درهم . وفي رواية : وما بعث إلى أهله بدرهم . ورواه البخاري تعليقاً .
وفي رواية : فجعل العباس يقول وهو منطلق : أما إحدى اللتين وعدنا الله فقد
أنجزنا ، وما ندري ما يصنع في الأخرى !
ثم ذكر تعالى أصناف المؤمنين ، وقسمهم إلى مهاجرين وأنصار فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ 72 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ } أي : من مكة إلى المدينة لنصر الله ورسوله { وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أي : طاعته { وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ } أي : وطنوا المهاجرين وأنزلوهم منازلهم وبذلوا إليهم أموالهم ، وآثروهم على أنفسهم ، ونصروهم على أعدائهم { أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } أي : يتولى بعضهم بعضاً في النصرة والمظاهرة ، ويقوم مقام أهله ونفسه ، ويكون أحق به من كل أحد ، ولهذا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار .
قال ابن إسحاق : وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار ، فقال فيما بلغنا : < تآخوا أخوين أخوين > ، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال : < هذا أخي > . وكان حمزة بن عبد المطلب أسد الله ، وأسد رسوله وعم النبي صلى الله عليه وسلم ، وزيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه وسلم أخوين . وإليه أوصى حمزة يوم أُحد ، حين حضره القتال إن حدث به حادث الموت .
وجعفر ذو الجناحين الطيار في الجنة ومعاذ بن جبل أخوين ، وأبو بكر الصديق وخارجة بن زيد أخوين ، وعمر بن الخطاب وعتبان بن مالك أخوين ، وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ أخوين ، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين ، والزبير بن العوام وسلمة بن سلامة أخوين ، وعبد الله بن مسعود وعثمان بن عفان وأوس بن ثابت أخوين وطلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك أخوين ، وسعيد بن زيد وأبي بن كعب أخوين ، ومصعب بن عمير وأبو أيوب الأنصاري أخوين ، وأبو حذيفة وعباد بن بشر أخوين ، وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أخوين ، وأبو ذر الغفاري والمنذر بن عَمْرو أخوين ، وسلمان الفارسي وأبو الدرداء أخوين ، وحاطب بن أبي بلتعة وعويم بن ساعدة أخوين ، وبلال الحبشي وأبو رويحة الخثعمي أخوين .
ولما خرج بلال إلى الشام ، وأقام فيها مجاهداً ، قال له عمر : إلى من نجعل ديوانك ؟ قال : مع أبي رويحة ، لا أفارقه أبداً ، للأخوة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد بينه وبيني . فضم إليه ، وضم ديوان الحبشة إلى خثعم ، لمكان بلال منهم .
قال ابن إسحاق : فهؤلاء من سمى لنا ممن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهم من أصحابه :
تنبيه :
نقل الواحدي عن ابن عباس وغيره ، أن المراد من هذه الولاية ، هي الولاية في الميراث . قال ابن كثير : لما تآخوا كانوا يتوارثون بذلك إرثاً مقدماً على القرابة ، حتى نسخ الله ذلك بالمواريث ، ثبت ذلك في صحيح البخاري عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد .
قال الخفاجي : فكان المهاجري يرثه أخوه الأنصاري ، إذا لم يكن له بالمدينة ولي مهاجري ، ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري . واستمر أمرهم على ذلك إلى فتح مكة ، ثم توارثوا بالنسب بعد ، إذ لم تكن هجرة .
والولي القريب والناصر ، لأن أصله القرب المكاني ، ثم جعل للمعنوي ، كالنسب والدين والنصرة .
فقد جعل صلى الله عليه وسلم ، في أول الإسلام ، التناصر الديني أخوة ، وأثبت لها أحكام الأخوة الحقيقية من التوارث ، فلا وجه لما قيل إن هذا التفسير لا تساعده اللغة ، فالولاية على هذا ، والوراثة المسببة عن القرابة الحكمية . انتهى .
ومراده بما قيل ، ما ذكره الرازي في تضعيف تفسير الولاية بالوراثة ، حيث قال : واعلم أن لفظ الولاية غير مشعر بهذا المعنى ، لأن هذا اللفظ مشعر بالقرب على ما قررناه في مواضع من هذا الكتاب .
ويقال : السلطان ولي من لا ولي له ، ولا يفيد الإرث ، وقال تعالى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } ، ولا يفيد الإرث ، بل الولاية تفيد القرب ، فيمكن حمله على غير الإرث ، وهو كون بعضهم معظماً للبعض ، مهتماً بشأنه ، مخصوصاً بمعاونته ومناصرته ، والمقصود أن يكونوا يداً واحدة على الأعداء ، وأن يكون حب كل واحد لغيره جارياً مجرى حبه لنفسه .
وإذا كان اللفظ محتملاً لهذا المعنى ، كان حمله على الإرث بعيداً عن دلاله اللفظ ، لا سيما وهم يقولون : إن ذلك الحكم صار منسوخاً بقوله تعالى في آخر الآية : { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } ، وأي حاجة تحملنا على حمل اللفظ على معنى لا إشعار لذلك اللفظ به ، ثم
الحكم بأنه صار منسوخاً بآية أخرى مذكورة معه ؟ هذا في غاية البعد ، اللهم إلا إذا حصل إجماع المفسرين على أن المراد ذلك ، فحينئذ يجب المصير إليه ، إلا أن دعوى الإجماع بعيدة .
وأقول : لعموم هذا الخطاب ونظمه وجه في إثبات التوارث ، لا سيما وقد نفى تعالى ولاية من لم يهاجر نفياً استغرق أقرب الأقارب حيث قال : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ } أي : بأن أقاموا في بواديهم : { مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ } أي : إلى المدينة . وقول تعالى : { وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ } أي : إذا استنصركم هؤلاء الأعراب الذين لم يهاجروا في قتال ديني ، فيجب عليكم أن تنصروهم على أعدائهم المشركين ، لأنهم إخوانكم في الدين { إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ } أي : عهد ومهادنة إلى مدة ، فلا تعينوهم عليهم ، لئلا تخفروا ذمتكم ، وتنقضوا عهدكم { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : فلا تخالفوا أمره .
تنبيهات :
الأول : احتج من ذهب إلى أن المراد من قوله تعالى : { مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ } أي : من توليتهم في الميراث ، وأنه هو المارد في الآية السابقة أيضاً ، بقوله تعالى :
{ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ } فإن هذا موالاة في الدين ، فحينئذ لا يجوز حمل الموالاة المنفية على النصرة والمظاهرة ، لأنها لازمة لكل حال لكلا الفريقين .
وأجاب الرازي بما معناه : إن الولاية هنا ليس المراد بها مطلق التولي حتى يرده ما ذكروه ، بل عنى بها معنى خاص ، وهو علاقة شديدة ، ومحبة أكيدة ، وإيثار قوي ، وأخوة وثيقة ، ولا يلزم من النصر التولي ، فقد ينصر المرء ذمياً لأمر ما ولا يتولاه ، ويدافع عن عبده أو أمته ويعينهما ولا يتولاهما - والله أعلم - .
الثاني : يظهر أن هذه الآية كسوابقها مما نزل إثر واقعة بدر ، وطلب من كل من آمن من البادين أن يهاجر ، ليكثر سواد المسلمين ، ويظهر اجتماعهم ، وإعانة بعضهم لبعض ، فتتقوى بألفتهم شوكتهم ، ولم يزُل طلب الهجرة إلا بفتح مكة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : < لا هجرة بعد فتح مكة > . رواه البخاري عن مجاشع بن مسعود .
الثالث : شمل نفي الموالاة عن الذين لم يهاجروا وقتئذ ، حرمانهم من المغانم والفيء . روى الإمام أحمد عن بريدة بن الحُصيب الأسلمي رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على سرية ، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً . وقال : < اغزوا بسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال ، فأيتها ما أجابوك إليها فاقبل منهم ، وكف عنهم ، ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم ، وكف عنهم ، ثم ادعهم من التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأعلمهم إن فعلوا ذلك ، أن لهم ما للمهاجرين ، وأن عليهم ما على المهاجرين ، فإن أبوا واختاروا دارهم ، فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين ، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب ، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية ، فإن أجابوا فاقبل منهم ، وكف عنهم ، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم > .
قال ابن كثير : انفرد به مسلم ، وعنده زيادات أخر .
الرابع : قرأ حمزة ( ولايتهم ) بكسر الواو ، الباقون بفتحها .
قال الشهاب : جاء في اللغة : الولاية مصدراً بالفتح والكسر ، فقيل : هما لغتان فيه بمعنى واحد ، وهو القرب الحسي والمعنوي ، وقيل : بينهما فرق ، فالفتح ولاية مولى النسب ونحوه ، والكسر ولاية السلطان ، قاله أبو عبيدة . وقيل الفتح من النصرة والنسب . والكسر من الإمارة . قاله الزجاج .
وخطأ الأصمعي قراءة الكسر ، وهو المخطئ لتواترها ، واختلفوا في ترجيح إحدى القراءتين . ولما قال المحققون من أهل اللغة : إن فعالة بالكسر في الأسماء لما يحيط بشيء ، ويجعل فيه كاللفافة والعمامة ، وفي المصادر يكون في الصناعات وما
يزاول بالأعمال ، كالكتابة والخياطة ، ذهب الزجاج وتبعه غيره إلى أن الولاية لاحتياجها إلى تمرن وتدرب شبهت بالصناعة ، لذا جاء فيها الكسر ، كالإمارة .
وهذا يحتمل أن الواضع حين وضعها شبهها بذلك ، فتكون حقيقة ويحتمل - كما في بعض شروح الكشاف - أن تكون استعارة ، كما سموا الطب صناعة . انتهى .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } [ 73 ] .
{ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } أي : فلا يتولاهم إلا من كان منهم ، ففيه إشارة إلى نهي المسلمين عن موالاتهم ، وإيجاب مباعدتهم ومصارمتهم ، وإن كانوا أقرب وقد استدل به على أنه لا توارث بين المسلمين والكفار .
روى الحاكم في " مستدركه " عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يتوارث أهل ملتين ، ولا يرث مسلم كافراً مسلماً ، ثم قرأ : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا } الآية ، رواه الشيخان عنه بلفظ : < لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم > .
وقوله تعالى : { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } أي : إلا تفعلوا ما أمرتكم به من التواصل ، وتولي بعضكم بعضا ، ومن قطع العلائق بينكم وبين الكفار ، تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة ، لأن المسلمين ما لم يصيروا يداً واحدة على الشرك ، كان الشرط ظاهراً ، والفساد زائداً ، في الإعتقادات والأعمال .
وقيل : الضمير المنصوب للميثاق أو حفظه أو النصر أو الإثبات . وقيل إنه للإستنصار المفهوم من الفعل ، والفتنة : إهمال للمؤمنين المستنصرين بنا ، حتى يسلط علينا الكفار ، إذ فيه وهن للدين . ؟
قال الشهاب : وفيه تكلف ، أي : فالأوجه عوده للتولي والتواصل - كما بينا - .
قال الرازي : بيان هذه الفتنة والفساد عن وجوه :
الأول : أن المسلمين لو اختلطوا بالكفار في زمان ضعف المسلمين ، وقلة عددهم وزمان قوة الكفار ، وكثرة عددهم ، فربما صارت تلك المخالطة سبباً لالتحاق المسلم بالكفار .
الثاني : أن المسلمين لو كانوا متفرقين لم يظهر منهم جمع عظيم ، فيصير ذلك سبباً لجرأة الكفار عليهم .
الثالث : أنه إذا كان جميع المسلمين كل يوم في الزيادة في العدد والعدد صار ذلك سبباًَ لمزيد رغبتهم فيما هم فيه ، ورغبة المخالف في الإلتحاق بهم . انتهى .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ 74 ] .
{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } عود لذكر المهاجرين والأنصار ، للثناء عليهم ، والشهادة لهم ، مع الموعد الكريم ، فلا تكرار ، لما أن مساق الأول لإيجاب التواصل بينهم ، فذكرهم هاهنا لبيان تعظيم شأنهم ، وعلو درجتهم .
قال الرازي : وبيانه من وجهين :
الأول : أن الإعادة تدل على مزيد الاهتمام بحالهم ، وذلك يدل على الشرف والتعظيم .
والثاني : وهو أنه تعالى أثنى عليهم هاهنا من ثلاثة أوجه :
أولها : قوله : { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } فقوله : { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ } يفيد الحصر ، وقوله : { حَقّاً } يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين ، وقد كانوا كذلك ، لأن من لم يكن محقاً في دينه ، لم يتحمل ترك الأديان السالفة ، ولم يفارق الأهل والوطن ، ولم يبذل النفس والمال ، ولم يكن في هذه الأحوال من المتسارعين المتسابقين .
وثانيها : قوله : { لَّهُم مَّغْفِرَةٌ } والتنكير يدل على الكمال ، أي : مغفرة تامة كاملة .
وثالثها : قوله : { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } والمراد منه الثواب الرفيع الشريف . انتهى .
وقد أثنى تعالى على المهاجرين والأنصار في غير ما آية في كتابه الكريم ـ والله أعلم ـ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ 75 ] .
{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ } أي : من جملتكم ، أي : المهاجرون والأنصار ، في استحقاق ما استحقيتموه من الموالاة والمناصرة ، وكمال
الإيمان والمغفرة والرزق الكريم .
وهل المراد من قوله : { مِنْ بَعْدُ } هو من بعد الهجرة الأولى ، أو من بعد الحديبية . وهي الهجرة الثانية ، أو من بعد نزول هذه الآية ، أو من بعد يوم بدر ؟ أقول :
واللفظ الكريم يعمها كلها ، والتخصيص بأحدهما تخصيص بلا مخصص .
{ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ } أي : في حكمته وقسمته ، أو في اللوح ، أو في القرآن ، لأن كتاب الله يطلق على كل منها { إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فيقضي بين عباده بما شاء من أحكامه ، التي هي منتهى الصواب والحكمة والصلاح .
تنبيهات :
الأول : إن هذه الآية ناسخة للميراث بالموالاة والمناصرة عند من فسر ما تقدم من قوله : { بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } وما بعده بالتوارث .
أخرج أبو داود من حديث ابن عباس قال : كان الرجل يحالف الرجل ، ليس بينهما نسب ، فيرث أحدهما من الآخر ، فنسخ ذلك آية الأنفال فقال :
{ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ } الخ ، إلا أن في إسناده من فيه مقال .
وأما من فسر الموالاة المتقدمة بالنصرة والمعونة والتعظيم ، فيجعل هذه الآية إخباراً منه سبحانه وتعالى بأن القرابات بعضهم أولى ببعض ، وذلك أن تلك الآية ، لما كانت محتملة للولاية بسبب الميراث ، بين الله تعالى في هذه الآية أن ولاية الإرث إنما تحصل بسبب القرابة ، إلا ما خصه الدليل ، فيكون المقصود من الآية إزالة هذا الوهم .
قال الرازي : وهذا أولى ، لأن تكثير النسخ ، من غير ضرورة وحاجة ، لا يجوز .
الثاني : استدل بالآية من ورث ذوي الأرحام ، وهم من ليسوا بعصبات ، ولا ذوي سهام . قال : ويعضده حديث : < الخال وارث من لا وارث له > ، وأجاب من منع توريثهم بأن المراد من الآية من ذكر الله من ذوي السهام والعصبات ، ومن الحديث : < من كان وارثه الخال فلا وارث له > ، ورد بأنها عامة فلا موجب للتخصيص ، وبأن معنى الحديث : من كان لا وارث له غيره ، لحديث : < أنا عمد من لا عماد له > .
ثم إن الذين أثبتوا ميراثهم اختلفوا في أنهم هل يرثون بالقرب ، أو بالتنزيل ، وهل يرث القريب مع البعيد ، وهل يفضل الذكر على الأنثى أو لا ؟ والآية محتملة . أفاده بعض مفسري الزيدية .
قال ابن كثير : ليس المراد بقوله : { وَأُولُوا الأَرْحَامِ } خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة الذين لا فرض لهم ولا عصبة ، بل يدلون بوارث كالخالة والخال ، والعمة وأولاد البنات وأولاد الأخوات ونحوهم ، كما يزعمه بعضهم ، ويحتج بالآية ويعتقد ذلك صريحاً في المسألة ، بل الحق أن الآية عامة ، تشمل جميع القرابات ، كما نص عليه ابن عباس ومجاهد وعكرمة ، والحسن وقتادة وغير واحد ، وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالإسم الخاص ، ومن لم يورثهم يحتج بأدلة ، من أقواها حديث : < إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث > .
قالوا : فلو كان ذا حق لكان ذا فرض في كتاب الله مسمى ، فلما لم يكن كذلك ، لم يكن وارثاً . انتهى .
ولا يخفى ضعف هذا الإستدلال ، إذ لا يلزم من ثبوت الحق تعيين الفرض ، على أن معنى الحديث أعطى كل ذي حق حقه مفصلاً ومجملاً ، وقد أعطاهم حق الأولوية العامة ، ووكل بيان ما يفهم من إجمال الإرث بعمومها لاستنباط الراسخين وفهمهم على قاعدة عمومات التنزيل .
وقد رأيت في هذه المسألة مقالة بديعة أوردها الحسن الصابئ في " تاريخ الوزراء " في أخبار وزارة أبي الحسن بن الفرات ، نأثرها هنا ، لأنها جمعت فأوعت ، قال رحمه الله :
ونسخة ما كتب به أبو خازم إلى بدر المعتضدي جواب كتابة إليه في أمر المواريث : وصل كتاب الأمير ، يذكر أنه احتيج إلى كتابي بالذي أراه واجباً من مال المواريث لبيت المال ، ومالاً أراه واجباً منه ، وتلخيص ذلك وتبيينه - وأنا أذكر للأمير الذي حضرني من الجواب في هذه المسألة والحجة فيما سأل عنه ليقف على ذلك إن شاء الله - .
الناس مختلفون في توريث الأقارب ، فروي عن زيد بن ثابت أنه جعل التركة - إذا لم يكن للمتوفى من يرثه من عصبة وذي سهم - لجماعة من المسلمين وبيت
مالهم ، وكذلك يقول في الفصل بعد السهمان المسماة ، إذا لم تكن عصبة ، ولم يرو ذلك عن أحد من الصحابة سوى زيد بن ثابت .
وقد خالفه عُمَر بن الخطاب ، وعلي ابن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وجعلوا ما يفضل من السهمان رداً على أصحاب السهام من القرابة ، وجعلوا المال لذي الرحم إذا لم يكن وارث سواه .
والسنة تعاضد ما روي عنهم ، وتخالف ما روي عن زيد بن ثابت ، وتأويل القرآن يوجب ما ذهبوا إليه ، وليس لأحد أن يقول في خلاف السنة والتنزيل بالرأي .
قال الله تعالى : { وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } . فصير القريب أولى من البعيد ، وإلى هذا ذهب عمر وعلي وعبد الله رضي الله عنهم ومن تابعهم من الأئمة ، وعليه اعتمدوا ، وبه تمسكوا - والله أعلم ـ .
ولو كان في هذه المسألة ما يدل عليه شاهد من الكتاب والسنة ، لكان الواجب تقليد الأفضل والأكثر من السابقين الأولين ، وترك قبول من سواهم ممن لا يحلق بدرجتهم بسابقته .
وإذا رد أمر الناس إلى التخيير من أقاويل السلف ، فهل يحيل أو يشكل على أحد أن زيداً لا يفي علمه بعلم عمر وعلي وعبد الله ؟ وإذا فضلوا في السابقة والهجرة ، فمن أين وجب أن يؤخذ بما روي عن زيد بن ثابت ، القرابة . ا روي عنهم ، وقد استدلوا مع ذلك بالكتاب فيما ذهبوا إليه ، وبالسنة فيما أفتوا به ؟ والرواية ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بتوريث من لا فرض له في الكتاب من القرابة .
فمن ذلك ما ذكر لنا عن معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبي عامر الهروي عن المقدام ابن معدي كرب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < الخال وارث من لا وارث له يرث ماله ، ويعقل عنه > .
وكذلك بلغنا عن شَرِيك بن عبد الله عن ليث ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ، وعن ابن جريج عن عُمَر بن سلم ، عن طاوس عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثل ذلك .
وذكر عن عُبَاْدَة بن أبي عَبَّاد عن محمد بن إسحاق ، عن يعقوب بن عُتْبَة عن محمد بن يحيا بن حبان عن عمه واسع بن حبان قال : توفي ثابت بن أبي الدحداح ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعاصم بن عدي : < أله فيكم نسب > ؟
قال : فدفع تركته إلى ابن أخته فقد أوجب عليه السلام ، بما نقلته عنه هذه الرواية ، توريث من لا سهم له من القرابة مع عدم أصحاب السهمان المبينة في الكتاب .
وأعطى الجدة السدس من الميراث ، ولا فرض لها ، وفي ذلك الإتفاق ، وفيما صير لها من السدس ، دليل على أن من لا سهم له من القرابة في معناها ؟ إذا بطلت السهام ولم يكن من أهلها ، وأنه أولى بالميراث من الأجنبي .
والمروي عن زيد بن ثابت أنه جعل المفضل عن سهام الفرائض ، وكل المال ، إذا سقطت السهام بعد أهلها ، لجماعة المسلمين ، فجعلهم كلها وارثاً ، وجعل ما يصير لهم من ذلك - في خلاف مال الفيء المصروف إلى الشحنة وأرزاق المقاتلة وإلى المصالح إذا كان ذلك - يكون فيما روي عنه للناس كافة ، وعددهم لا يحصى ، فغير ممكن أن يقسم ذلك فيهم وهم متفرقون في أقطار الأرض ، مشارقها ومغاربها .
وإذا امتنع ذلك وخرج إلى ما ليس بممكن ، فسد وثبت ما قلناه من قول أكابرالأئمة .
وقد تأول بعض المتأولين قول الله تعالى : { وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ } فقال فيه : كان الناس يتوارثون بالحلف دون القرابة ، فلما أوجب الله المواريث لأهلها من الأقارب ، مُنع الحليف بما فرض من السهمان فغلطوا وصرفوا حكم الآية إلى الخصوص ، فذلك غير واجب مع عدم الدليل ، لأن مخرجها في السمع مخرج العموم .
وبعد ، فلو كان تأويلها ما ذهبوا إليه ، وكانت السهام التي نسخت ما يرثه الحليف قبل نزول الفرائض ، لوجب في بدء ، وما قالوا إذا كان لا وارث للميت من أصحاب السهام أن يكون الحليفان في التوارث على أول فرضهما ، وعلى المقدم من حكمها ، لأن الذي منعهما إذا ثبت هذه التأويل من له سهم دون من لا سهم له ، فإذا ارتفع المانع ، رجع الحكم إلى بدئه .
ولا اختلاف بين الفريقين أن الحليف لا يرث الحليف اليوم ، وإن كان لا وارث سواه ، وهذا يدل على فساد تأويلهم ، وعلى أن المراد في الآية التي أوجبت الحق للأقارب غير الذي ذهبوا إليه ، فإن الله سبحانه إنما أراد بمعناها اختصاص القريب بالإرث دون البعيد . وقد يلزم من ذهب إلى الرواية عن زيد ، وترك الرواية عن عمر وعلي وبعد الله عليهم السلام جانباً ، وأسقط التعاقل بين الأجنبي والقريب ، وأن يجعل ذا الرحم أولى ، لأنه لا يفضل الأجنبي بالقرابة .
وترتيب المواريث في الأصل ، يجري على من تقدمه من فضل غيره في المناسبة ، كالأخ للأب والأم ، والأخ للأب ، وابن العم للأب والأم ، وابن العم للأب واختصاصهما قرابة أولاهما بالميراث عند جمع الجميع ، قال الله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } ، وولد الولد ، من سفل منهم ومن ارتفع ، يعمهم هذا الاسم ، إلا أن الأقرب منهم ، في معنى الآية ، أحق من الأبعد ، فإذا كان ذلك كذلك ، كان القريب أولى من الأجنبي بالتركة للرحم التي تقرب بها دونه .
وبعد ، فإن العلماء نفر يسير لا يعرفون الصواب في هذه المسألة ، إلا فيما روي عن الخليفتين عمر وعلي صلوات الله عليهما ، وما روي عن ابن مسعود ، ثم لم
يقتصروا في المبالغة والدليل في توريث ذي الرحم ، إلا على ما روي عن عبد الله بن العباس جد أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ، وترجمان القرآن ، وبحر العلم ، ومن كان إذا تكلم سكت الناس ، ومن دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اللهم ! فقهه في الدين وعلمه التأويل ، ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم مستجابة ، ومن كان أعلم بتأويل القرآن فاتباعه فيه أوجب .
وقد روي عن ابن عباس مثل ذلك من قول عمر وعلي وعبد الله والجماعة ، وما زالت الخلفاء من أجداد أمير المؤمنين ، أعزه الله ، يستقضون الحكام ، فيقضون برد المواريث على الأقارب ، ولا ينكرون ذلك على من قضى به من قضاتهم ، ولا ترودنه متجاوزاً للحق فيه ، وما عرفت الجماعة بغير هذا الاسم إلا منذ نحو عشرين سنة ، وأمير المؤمنين أولى من اتبع آثار السلف ، واقتدى بخلفاء الله ، ومال إلى أفضل المذهبين ، وإلى الله الرغبة في عصمة الأمير ، وتسديده ، والحمد لله رب العالمين . انتهى .
ونقل أبو الحسن الصابي قبل نسخة أبي الحسن محمد بن جعفر بن ثوابة في المواريث ، وفيها نقل ما كتبه عبد الحميد في كتاب مواريث أهل الملة ، وأنه حكى فيه أن عُمَر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن مسعود رضوان الله عليهم ومن اتبعهم من الأئمة الهادين رحمة الله عليهم ، رأوا أن يرد على أصحاب السهام من القرابة ما يفضل عن السهام المفترضة في كتاب الله تبارك وتعالى من المواريث ، وإذا لم يكن للمتوفى عصبة يحوز باقي ميراثه ، وجعلوا ، رضي الله عنهم ، تركة من يتوفى ولا عصبة له لذوي رحمه ، إن لم يكن له وارث سواهم ، ممتثلين في ذلك أمر الله سبحانه إذ يقول : { وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترويثه من لا فرض له في كتاب الله تعالى من الخال وابن الأخت والجدة . انتهى .
الثالث : استدل بالآية الإمامية على تقديم الإمام علي كرم الله وجهه على غيره في الإمامة ، لاندراجها في عموم الأولوية .
والجواب - على فرض صحة هذه الدلالة - أن العباس رضي الله عنه كان أولى بالإمامة ، لأنه كان أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من علي رضي الله عنه .(/)
سورة التوبة
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } [ 1 ] .
وقوله تعالى :
{ بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } خبر لمحذوف ، وتنوينه للتفخيم ، أي : هذه براءة ، أو مبتدأ مخصص ، وخبره : { إلى الذين } .
و البراءة في اللغة انقطاع العصمة ، يقال : برئت من فلان براءة ، أي : انقطعت بيننا العصمة ، ولم يبق بيننا علقة .
فإن قيل : حق البراءة أن تُنسب إلى المعاهد ، فلم لم تنسب إليهم ، ونسبت إلى الله ورسوله ؟
أجيب : أن : { عاهدتم } إخبار عن سابق صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم والجماعة ، فنسب إلى الكل ، كما هو الواقع ، وإن كان بإذن الله أيضاً .
وأما البراءة فهي إخبار عن متجدد ، فكيف ينسب إليهم ، وهم لم يحدثوه بعد ، وإنما يسند إلى من أحدثه ؟
وقال الناصر : إن سر ذلك أن نسبة العهد إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في مقام نسب فيه النبذ إلى المشركين ، لا يحسن أدباً ، ألا ترى إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمراء السرايا حيث يقول لهم :
< إذا نزلت بحصن فطلبوا النزول على حكم الله ، فأنزلهم على حكمك ، فإنك لا تدري أصادفت حكم الله فيهم أولا ! وإن طلبوا ذمة الله ، فأنزلهم على ذمتك ، فلأن تخفر ذمتك ، خير من أن تخفر ذمة الله > !
فانظر إلى أمره صلى الله عليه وسلم بتوقير ذمة الله ، مخافة أن تخفر ، وإن كان لم يحصل بعد ذلك الأمر المتوقع ، فتوقير عهد الله ، وقد تحقق من المشركين النكث ، وقد تبرأ منه الله ورسوله بألا ينسب العهد المنبوذ إلى الله أحرى وأجدر . فلذلك نسب العهد إلى المسلمين دون البراءة منه .
وقال الشهاب : ولك أن تقول : إنما أضاف العهد إلى المسلمين ، لأن الله علم أن لا عهد لهم ، فلذا لم يضف العهد إليه ، لبراءته منهم ، ومن عهدهم في الأزل .
وهذا نكتة الإتيان بالجملة إسمية خبرية ، وإن قيل : إنها إنشائية للبراءة منهم ، ولذا دلت على التجدد . انتوبينهم ، ابن إسحاق . نزلت براءة في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العقد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم ، ألا يصدّ عن البيت أحد جاءه ، ولا يخاف أحد في الشهر الحرام . وكان ذلك عهداً عاماً بينه وبين الناس من أهل الشرك .
وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل من العرب خصائص إلى آجال مسماة ، فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عنه في تبوك ، وفي قول من قال منهم ، فكشف الله سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون .
وقال ابن كثير : وأول هذه السورة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك ، وهم بالحج ، ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك ، وأنهم يطوفون بالبيت عراة فكره مخالطتهم ، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميراً على الحج تلك السنة ، ليقيم للناس مناسكهم ، ويعلم المشركون ألا يحجوا بعد عامهم هذا ، وأن ينادي بالناس : { براءة من اللَّه ورسوله } ، فلما قفل ، وأتبعه بعلي بن أبي طالب ، لكونه مبلغاً عنه صلى الله عليه وسلم ، ولكونه عصبةٌ له ، كما سيأتي .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ } [ 2 ] .
{ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } أي : فقولوا لهم : سيروا في الأرض بعد نبذنا العهد ، آمنين من القتل والقتال مدة أربعة أشهر ، وذلك من يوم النحر إلى عشر يخلون من ربيع الآخر .
والمقصود تأمينهم من القتل ، وتفكرهم واحتياطيهم ، ليعلموا أنهم ليس لهم بعدها إلا السيف ، وليعلموا قوة المسلمين إذ لم يخشوا استعدادهم لهم .
وهذه الأربعة الأشهر كانت عهداً لمن له عهد دون الأربعة الأشهر ، فأتمت له .
فأما من كان له عهد موقت ، فأجله إلى مدته ، مهما كانت ، لقوله تعالى : { فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِم } ، كما يأتي .
روي هذا عن غير واحد ، واختاره ابن جرير . وقال مجاهد : هذا تأجيل للمشركين مطلقاً ، فمن كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر رفع إليها ، ومن كانت أكثر حط إليها ، ومن كان عهده بغير أجل حُدَّ بها ، ثم هو بعد ذلك حرب لله ولرسوله ، يقتل حيث أدرك ويؤسر ، إلا أن يتوب ويؤمن .
أقول : ولا يرد عليه إطلاق قوله تعالى : { إِلَى مُدَّتِهِمْ } ، لأن له أن يجيب بأن الإضافة للعهد ، أي : المدة المعهودة وهي الأربعة الأشهر . والله أعلم .
{ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ } يعني أن هذا الإمهال ليس لعجز عنكم ولكن لحكمة ولطف بكم ، أي : فلا تفوتونه وإن أمهلكم { وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ } أي : مُذلهم بالقتل في الدنيا ، والعذاب في الآخرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ 3 ] .
{ وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } . الأذان بمعنى الإيذان ، وهو الإعلام ، كما أن الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء .
وارتفاعه كارتفاع : { براءة } وهذه الجملة معطوفة على مثلها ، والفرق بين معنى الجملة الأولى والثانية أن تلك إخبار بثبوت البراءة ، وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت ، وإنما عُلقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين ، وعلق الأذان بالناس ، لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم ، وأما الأذان فعامّ لجميع الناس ، من عاهد ومن لم يعاهد ، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث كذا في " الكشاف " .
ويوم الحج الأكبر : قيل يوم عرفة ، وقيل يوم النحر .
قال ابن القيم : وهو الصواب ، لأنه ثبت في الصحيحين أن أبا بكر وعلياً رضي الله عنهما ، أذّناً بذلك يوم النحر ، لا يوم عرفة .
وفي سنن أبي داود بأصح إسناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يوم الحج الأكبر يوم النحر ، وكذلك قال أبو هريرة وجماعة من الصحابة .
ويوم عرفة مقدمة ليوم النحر بين يديه ، فإن فيه يكون الوقوف والتضرع والتوبة والإبتهال والإستقامة ، ثم يوم النحر تكون الوفادة والزيارة ، ولهذا سمي طوافه طواف الزيارة ، لأنه قد طهروا من ذنوبهم يوم عرفة ، ثم أذن لهم يوم النحر في زيارته ، والدخول عليه إلى بيته ، ولهذا كان فيه ذبح القرابين ، وحلق الرؤوس ، ورمي الجمار ومعظم أفعال الحج وعمل يوم عرفة ، كالطهور والإغتسال بين يدي هذه اليوم ، انتهى .
تنبيه :
روى الأئمة هاهنا آثاراً كثيرة ، نأتي منها على جوامعها :
قال ابن أبي نَجِيْح عن مجاهد : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ ، فأراد الحج ثم قال : < إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن
أحج > ، حتى لا يكون ذلك : فأرسل أبا بكر وعلياً فطافا بالناس في ذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها ، وبالمواسم كلها ، فآذنوا أصحاب العهد بأن يؤمنوا أربعة أشهر ، فهي الأشهر المتواليات ، عشرون من ذي الحجة ، إلى عشر يخلون من ربيع الآخر ، ثم لا عهد لهم ، وآذن الناس كلهم بالقتال ، إلى أن يؤمنوا .
وروى ابن إسحاق بسنده عن أبي جعفر محمد بن علي رضوان الله عليه قال : لما نزلت براءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليقيم للناس الحج ، قيل له : يا رسول الله لو بعثت بها إلى أبي بكر ، فقال : < لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي > ، ثم دعا علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، فقال له : < اخرج بهذه القصة من صدر براءة ، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى ، أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عُريان ، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته > .
فخرج علي بن أبي طالب على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء ، حتى أدرك أبا بكر الصديق ، فلما رآه أبو بكر بالطريق قال : أمير أو مأمور ؟ فقال : بل مأمور ، ثم مضيا ، فأقام أبو بكر للناس الحج ، والعرب إذا ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية ، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : < أيها الناس إنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته > .
وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذّن فيهم ، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم ، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة ، إلا أحدٌ كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة ، فهو له إلى مدته ، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ، ولم يطف بالبيت عريان .
ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن إسحاق : فكان هذا من أمر براءة فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العامّ ، وأهل المدة إلى الأجل المسمى .
وروى البخاري عن أبي هريرة قال : بعثني أبوبكر رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذّنين ، بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى : < ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان > .
قال حميد : ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب ، فأمره أن يؤذن ببراءة .
قال أبو هريرة : فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة ، وألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان .
وفي رواية أخرى للبخاري ، قال أبو هريرة : بعثني أبو بكر فيمن يؤذّن يوم النحر بمنى : لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ويوم الحج الأكبر يوم النحر ، وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس - للعمرة - الحج الأصغر ، فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام ، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حجّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرك . هذا لفظ البخاري في " كتاب الجهاد " .
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : كنت مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ببراءة ، فقال : ما كنتم تنادون ؟ قال : كنا ننادي : < أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فإن أجله - أو أمدهُ - إلى أربعة أشهر ، فإذا مضت الأربعة الأشهر ، فإن الله بريء من المشركين ورسوله ، ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك > . قال : فكنت أنادي حتى صَحِل صوتي ، صحل الرجلُ وصحل صوتُهُ : بَحَّ .
وقوله تعالى : { فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي : فإن تبتم أيها المشركون ، من كفركم ورجعتم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد ، فهو خير لكم من الإقامة على الشرك رأس الضلال والفساد { وَإِن تَوَلَّيْتُمْ } أي : عن الإيمان وأبيتم إلا الإقامة على ضلالكم وشرككم { فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ } أي : غير فائتين أخذه وعقابه { وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : جحدوا نبوّتك وخالفوا أمر ربهم { بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي : موجع يحل بهم .
وفيه من التهكم والتهديد ما فيه ، كيلا يظن أن عذاب الدنيا ، لو فات وزال خلصوا من العذاب ، بل العذاب مُعَدٌّ لهم يوم القيامة .
ثم استثنى تعالى من ضرب مدة التأجيل ، لمن له عهد مطلق بأربعة أشهر ، من له عهد مؤقت بتأجيله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [ 4 ] .
{ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } أي : من شروط الميثاق فلم يقتلوا منكم أحداً ولم يضروكم فقط .
قال أبو السعود : وقرئ بالمعجمة ، أي : لم ينقضوا عهدكم شيئاً ، من النقض ، وكلمة ثم ، للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادي المدة { وَلَمْ يُظَاهِرُواْ } أي : لم يعاونوا { عَلَيْكُمْ أَحَداً } أي : عدواً من أعدائكم .
{ فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ } ثم حرض تعالى على الوفاء بذلك ، منبهاً على أنه من باب التقوى بقوله سبحانه : { إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } أي : فاتقوه في ذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 5 ] .
{ فَإِذَا انسَلَخَ } أي : انقضى { الأَشْهُرُ الْحُرُمُ } أي : التي أبيح للذين عوهدوا فيها أن يسيحوا في الأرض ، وحرم فيها قتالهم { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } أي : من حلٍّ أو حرمٍ - كذا قاله غير واحد - .
قال ابن كثير : هذا عام ، والمشهور تخصيصه بغير الحرم ، لتحريم القتال فيه ، لقوله تعالى : { وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُم } .
{ وَخُذُوهُمْ } أي : ائسروهم { وَاحْصُرُوهُمْ } أي : احبسوهم في المكان الذي هم فيه ، لئلا يتبسطوا في سائر البلاد { وَاقْعُدُواْ لَهُمْ } أي : لقتالهم ، { كُلَّ مَرْصَدٍ } أي : طريق وممرّ { فَإِن تَابُواْ } أي : عن الكفر { وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } أي : فاتركوا التعرض لهم { إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر .
تنبيهات :
الأول : ما ذكرناه من أن المراد بالأشهر الحرام أشهر العهد ، هو الذي اختاره الأكثرون .
سماها حرماً لتحريم قتال المشركين فيها ودمائهم ، فالألف واللام للعهد ، ووضع المظهر موضع المضمر ليكون ذريعة إلى وصفها بالحرمة ، تأكيداً لما ينبئ عنه إباحة السياحة من حرمة التعرض لهم ، مع ما فيه من مزيد الاعتناء بشأنها .
وقيل : المراد بالأشهر الحرام : رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، روي ذلك عن ابن عباس والضحاك والباقر ، واختاره ابن جرير .
وضعف بأنه لا يساعده النظم الكريم ، لأنه يأباه ترتبه عليه بالفاء ، فهو مخالف للسياق الذي يقتضي توالي هذه الأشهر .
قال ابن القيم : الحرم هاهنا هي أشهر التسيير أولها يوم الأذان ، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة ، وهو يوم الحج الأكبر ، الذي وقع فيه التأذين بذلك ، وآخرها العاشر من ربيع الآخر . وليست هي الأربعة المذكورة في قوله : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُم } ، فإن تلك واحد فرد هو رجب ، وثلاثة سرد وهي ذو العقدة وتالياه .
ولم يسيّر المشركين في هذه الأربعة ، فإن هذا لا يمكن ، لأنها غير متوالية ، وهو إنما أجلهم أربعة أشهر ، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم . انتهى .
وقالوا : يلزم على هذا بقاء حرمة تلك الأشهر ، وتكلف الجواب بنسخها ، إما بانعقاد الإجماع عليه ، أو بما صح من أنه صلى الله عليه وسلم حاصر الطائف لعشر بقين من المحرم ، مع أن هذا الإجماع كلاماً ، وقد خالف بعضهم في بقاء حرمتها ، إلا أنهم لم يعتدّوا به كما قاله في " العناية " .
وفيها : إن لك أن تقول : منع القتال في الأشهر الحرم في تلك السنة ، لا يقتضي منعه في كل ما شابهها ، بل هو مسكوت عنه ، فلا يخالف الإجماع ، ويكون حلّه معلوماً من دليل آخر .
وأقول : يظهر لي هذا الثاني وأن المراد بالأربعة الأشهر هي المعروفة ، وأن قوله تعالى : { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ } هي هذه الأربعة ، لأنها حيثما أطلقت في التنزيل لا تنصرف إلا إليها ، فصرفها إلى غيرها يحتاج إلى برهان قاطع .
قال في " فتح البيان " : ومعنى الآية على هذا وجوب الإمساك عن قتال من لا عهد له من المشركين في هذه الأشهر الحرم ، وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم النحر ، فكان الباقي من الأشهر الحرم ، التي هي الثلاثة المسرودة ، خمسين يوماً ، تنقضي بانقضاء شهر المحرم ، فأمرهم الله بقتل المشركين حيث يوجدون ، وبه قال جماعة من أهل العلم . انتهى .
ولا يقال : إن الباقي من الأشهر الحرم ثمانون يوماً ، إذ الحج في تلك السنة كان في العاشر من ذي القعدة ، بسبب النسيء ، ثم صار في السنة المقبلة في العاشر من ذي الحجة ، وفيها حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : < إن الزمان قد استدار > الحديث ، لأنا نقول : كان ذو القعدة عامئذ هو ذا الحجة بحسابهم ، لا في الواقع ، وكذلك ذو الحجة ، المحرم ، فعوملوا بحسابهم .
الثاني : قال السيوطي في " الإكليل " في قوله تعالى : { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } هذه آية السيف الناسخة لآيات العفو والصفح والإعراض والمسالمة . انتهى .
وروي عن الضحاك أنها منسوخة بقوله تعالى في سورة محمد : { فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } .
ورده الحاكم بأنه لا شبهة في أن براءة نزلت بعد سورة محمد ، ومقتضى كلام الحاكم ، أنها لا ناسخة ولا منسوخة ، قال : لأن الجمع من غير منافاة ممكن ، فحيث ورد في القرآن ذكر الإعراض ، فالمراد به إعراض إنكار ، لا تقرير ، وأما الأسر والفداء ، فالمراد به أنه خيّر بين ذلك ، لا أن القتل حتم ، إذ لو كان حتماً ، لم يكن للأخذ معنى بعد القتل . انتهى .
ويشمل عمومها مشركي العرب وغيرهم ، واستدل بقوله تعالى : { وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } على جواز حصارهم والإغارة عليهم وبياتهم .
الثالث : فهو من قوله تعالى : { فَإِنْ تَابُواْ } الآية ، أن الأمر بتخلية السبيل معلق على شروط ثلاثة : التوبة ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فحيث لم تحصل جاز ما تقدم من القتل والأخذ والحصر .
ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه ، في قتال مانعي الزكاة ، على هذا الآية الكريمة وأمثالها .
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يرحم الله أبا بكر ، ما كان أفقهه .
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وعنهما وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة > .
وروى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، فإذا شهدوا ، واستقبلوا قبلتنا ، وأكلوا ذبيحتنا ، وصلوا صلاتنا ، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ، لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما عليهم > . رواه البخاري وغيره .
الرابع : ذكر ابن القيم خلاصة بديعة في سياق ترتيب هديه صلى الله عليه وسلم مع الكفار والمنافقين ، من حين بعث إلى حين لقي الله عز وجل ، مما يؤيد فهم ما تشير إليه هذه السورة ، قال رحمه الله :
أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربه الذي خلق ، وذلك أول نبوته ، فأمره أن يقرأ في نفسه ، ولم يأمره إذ يأمره إذ ذاك بتبليغ ، ثم أنزل عليه : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر ُقُمْ فَأَنْذِرْ } فنبأه بقوله : { اقرأ } ، وأرسله بـ : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين ، ثم أنذر قومه ، ثم أنذر من حولهم من العرب ، ثم أنذر العرب قاطبة ، ثم أنذر العالمين ، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ، ويؤمر بالكف والصبر والصفح ، ثم أذن له في الهجرة ، وأذن له في القتال ثم أمره أن يقاتل من قاتله ، ويكف عمن لم يقاتله ، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله ، ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام : أهل صلح وهدنة ، وأهل حرب ، وأهل ذمة .
فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم ، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد ، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ، ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد ، وأمر أن يقاتل من نقض عهده لما نزلت سورة براءة ، نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها ، فأمره فيها أن يقاتل عدوّه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية ، أو يدخلوا في الإسلام .
وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم ، فجاهد الكفار بالسيف والسنان ، والمنافقين بالحجة واللسان ، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ، ونبذ عهودهم إليهم ، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام : قسماً أمره بقتالهم ، وهم الذين نقضوا عهده ، ولم يستقيموا له ، فحاربهم وظهر عليهم .
وقسماً لهم عهد موقت لم ينقضوه ، ولم يظاهروا عليه ، فأمره أن يتم له عهدهم إلى مدتهم .
وقسماً لم يكن لهم عهد ، ولم يحاربوه ، أو كان لهم عهد مطلق ، فأمره أن يؤجلهم أربعة أشهر ، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم .
فقتل الناقص لعهده ، وأجل من لا عهد له أو له عهد مطلق أربعة أشهر ، وأمره أن يتم للموفي بعهده إلى مدته ، فأسلم هؤلاء كلهم ، ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم . وضرب على أهل الذمة الجزية فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة .
ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام ، فصاروا معه قسمين : محاربين ، وأهل ذمة ، والمحاربون له خائفون منه ، فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به ، ومسالم له آمن . وخائف محارب .
وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم ، ويَكِلَ سرائرهم إلى الله ، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة ، وأمر أن يعرض عنهم ، ويغلظ عليهم ، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم ، ونهي أن يصلّي عليه وأن يقوم على قبورهم ، وأخبره أنه إن استغفر لهم أو لم يستغفر لهم ، فلن يغفر الله لهم ، فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين . انتهى .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } [ 6 ] .
{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } : أي : وإن استجارك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم ، أي : استأمنك بعد انقضاء أشهر العهد ، فأجبه إلى طلبته حتى يسمع كلام الله ، أي : القرآن الذي تقرؤه عليه ، ويتدبره ، ويطلع على حقيقة الأمر ، وتقوم عليه حجة الله به ، فإن أسلم ثبت له ما للمسلمين ، وإن أبى فإنه يردّ إلى مأمنه ، وداره [ في المطبوع : دراه ] التي يأمن فيها ، ثم قاتله إن شئت .
وقوله تعالى : { ذَلِكَ } يعني الأمر بالإجارة وإبلاغ المأمن ، بسبب أنهم قوم لا يعلمون ، أي : جهلة ، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق ، ولا يبقى لهم معذرة .
تنبيهات :
الأول : دلت الآية على أن المستأمن لا يؤذى ، وأنه يمكّن من العود من غير
غدر به ولا خيانة ، ولذا ورد في الترهيب من عدم الوفاء بالعهد والغدر ما يزجر أشد الزجر .
فروى البخاري في " تاريخه " والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < من أمّن رجلاً على دمه فقتله ، فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافراً > .
وروى أحمد والشيخان عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة > .
قال ابن كثير : من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام ، في أداء رسالة أو تجارة ، أو طلب صلح أو مهادنة ، أو حمل جزية ، أو نحو ذلك من الأسباب ، وطلب من الإمام أو نائبه أماناً أعطي ، ما دام متردداً في دار الإسلام ، إلى أن يرجع إلى مأمنه ووطنه .
قال الحاكم : وإنما يجار ويؤمّن إذا لم يعلم أنه يطلب الخداع والمكر ، لأنه تعالى علل لزوم الإجارة بقوله : { حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ } .
الثاني : قال الحاكم : تدل الآية على أنه يجوز للكافر دخول المسجد لسماع كلام الله .
الثالث : استدل بهذه الآية من ذهب إلى كلام الله بحرف وصوت قديمين ، وهم الحنابلة ، ومن وافقهم كالعضد .
قالوا : لأن منطوق الآية يدل على أن كلام الله يسمعه الكافر والمؤمن والزنديق والصديق ، والذي يسمعه جمهور الخلق ليس إلا هذه الحروف والأصوات .
فدل ذلك على أن كلام الله ليس هذه الحروف والأصوات ، والقول بأن كلام الله شيء مغاير لها باطل ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يشير بقوله كلام الله إلا لها ، وقد اعترف الرازي بقوة هذا ، لإلزام من خالف فيه ، وقد مضى لنا في قوله تعالى : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } في آخر سورة النساء ، فارجع إليه .
الرابع : قال الرازي : دلت الآية على أن التقليد غير كاف في الدين ، وأنه لا بد من النظر والإستدلال ، وذلك لأنه لو كان التقليد كافياً ، لوجب أن لا يمهل هذا الكافر ، بل يقال له : إما أن تؤمن ، وإما أن نقتلك ، فلما لم يُقل له ذلك ، بل أمهل وأزيل الخوف عنه ، ووجب تبليغه مأمنه ، علم أن ذلك لأجل عدم كفاية التقليد في الدين ، وأنه لا بد من الحجة والدليل ، فلذا أمهل ليحصل لها النظر والإستدلال .
ثم بين تعالى حكمته في البراءة من المشركين ، ونظرته إياهم أربعة أشهر ، ثم بعدها السيف المرهف بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [ 7 ] .
{ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ } أي : أمان { عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ } أي : وهم كافرون بهما ، فالإستفهام بمعنى الإنكار ، والإستبعاد لأن يكون لهم عهد { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } يعني أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية على ترك الحرب معهم عشر سنين { فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ } أي : فما داموا مستقيمين على عهدهم ، مراعين لحقوقكم ، فاستقيموا لهم على عهدهم .
{ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } أي : فاتقوه في نقض عهد المستقيمين على عهدهم .
قال ابن كثير : وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك والمسلمون ، استمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة سنة ست إلى أن نقضت قريش العهد ، ومالؤوا حلفاءهم ، وهم بنو بكر ، على خزاعة ، أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقتلوهم معهم في الحرم أيضاً ، فعند ذلك غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان سنة ثمان ، ففتح الله عليه البلد الحرام ، ومكنه من نواصيهم ، ولله الحمد والمنة ، فأطلق من أسلم منهم ، بعد القهر والغلبة عليهم ، فسموا الطلقاء ، وكانوا قريباً من ألفين ، ومن استمر على كفره ، وفرَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعث إليه بالأمان والتسيير في أربعة أشهر ، يذهب حيث شاء ، ومنهم صفوان بن أمية ، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما ، ثم هداهم الله للإسلام .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } [ 8 ] .
{ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } أي : يظفروا بكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الإيمان والمواثيق { لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ } أي : قرابة ويميناً { وَلاَ ذِمَّةً } أي : عهداً .
وهذه الجملة
مردودة على الآية الأولى ، أي : كيف يكون لهم عهد ، وحالهم ما ذكر ؟ وفيه تحريض للمؤمنين على التبرء منهم ، لأن من كان أسير الفرصة ، مترقياً لها ، لا يرجى منه دوام العهد .
قال الناصر : ولما طال الكلام باستثناء الباقين على العهد ، أعيدت كيف تطرية للذكر ، وليأخذ بعض الكلام بحجزة بعض . انتهى .
ثم استأنف تعالى بيان حالهم المنافية لثباتهم على العهد بقوله : { يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ } أي : ما تتفوه به أفواههم { وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } أي : متمردون ، لا عقيدة تزعمهم ، ولا مروءة تردعهم .
وتخصيص الأكثر ، لما في بعض الكفرة من التفادي عن العذر ، والتعفف عما يجرّ إلى أحدوثة السوء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 9 ] .
{ اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ } أي : استبدلوا بها { ثَمَناً قَلِيلاً } أي : من متاع الدنيا ، يعني أهويتهم الفاسدة { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ } أي : فعدلوا عنه أو صرفوا غيرهم { إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ } [ 10 ] .
{ لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ } أي : المجاوزون الغاية في الظلم والمساوئ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ 11 ] .
{ فَإِن تَابُواْ } أي : مما هم عليه من الكفر { وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } أي : فهم إخوانكم ، لهم ما لكم ، وعليهم ما عليكم ، فعاملوهم معاملة الإخوان ، وفيه من استمالتهم واستجلاب قلوبهم ما لا مزيد عليه .
وقوله : { وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } جملة معترضة للحث على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين وعلى المحافظة عليها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } [ 12 ] .
{ وَإِن نَّكَثُواْ } أي : نقضوا { أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ } أي : فقاتلوهم .
وإنما أوثر ما عليه النظم الكريم ، للإيذان بأنهم صاروا بذلك ذوي رياسة وتقدم في الكفر ، أحقاء بالقتل والقتال .
وقيل : المراد بالأئمة رؤساؤهم وصناديدهم ، وتخصيصهم بالذكر إما لأهمية قتلهم ، أو للمنع من مراقبتهم ، ولكونهم مظنة لها أو للدلالة على استئصالهم ، فإن قتلهم غالباً يكون بعد قتل من دونهم . أفاده أبو السعود .
{ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } جمع يمين أي : لا عهود لهم على الحقيقة ، حيث لا يراعونها ولا يعدّون نقضها محذوراً ، فهم وإن تفوهوا بها ، لا عبرة بها .
وقرئ ( لا إيمان ) بكسر الهمزة ، أي : لا إسلام ، ولا تصديق لهم ، حتى يرتدعوا عن النقض والطعن { لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } أي : عن الكفر والطعن ويرجعون إلى الإيمان .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : استدل بهذه الآية من قال إن الذّمّي يقتل إذا طعن في الإسلام أو القرآن أو ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بسوء ، سواء شرط انتفاض العهد به أم لا ، واستدل من قال بقبول توبتهم بقوله : { لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } . انتهى .
ثم حض على قتالهم بتهييج قلوب المؤمنين وإغرائهم بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ } [ 13 ] .
{ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ } أي : التي حلفوها في المعاهدة { وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ } يعني من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة ، حسبما ذكر في قوله
تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا } فيكون نعياً عليهم جنايتهم القديمة ، { وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : بالقتال يوم بدر ، حين خرجوا لنصر غيرهم فما نجت وعلموا بذلك ، استمروا على وجوههم طلباً للقتال ، بغياً وتكبراً .
وقيل : بنقضهم العهد ، وقتالهم مع حلفائهم بني بكر لخزاعة ، أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح وكان ما كان . قاله ابن كثير .
وقال الزمخشري : أي : وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم أولاً بالكتاب المنير ، وتحداهم به ، فعدلوا عن المعارضة ، لعجزهم عنها ، إلى القتال ، فهم البادئون بالقتال ، والبادئ أظلم ، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله ، وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم .
{ أَتَخْشَوْنَهُمْ } أي : أتخافون أن ينالكم منهم مكروه حتى تتركوا قتالهم { فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } بمخالفة أمره وترك قتالهم { إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ } يعني أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه ، ولا يبالي بمن سواه ، كقوله تعالى : { وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّه } . قاله الزمخشري . وفيه من التشديد ما لا يخفى .
ثم عزم تعالى على المؤمنين الأمر بالقتال لحكمته بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } [ 14 ] .
{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ } أي : بآلام الجراحات والموت { بِأَيْدِيكُمْ } أي : تغليباً لكم عليهم { وَيُخْزِهِمْ } أي : بالأسر والإسترقاق ، فيجتمع في حقهم العذاب الحسي والمعنوي ، { وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } أي : ممن لم يشهد القتال .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 15 ] .
{ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } أي : بما كابدوا من المكاره والمكايد { وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء } أي : فيحصل لك أجرهم { وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : في أفعاله وأوامره .
وقد أنجز الله سبحانه لهم هذه المواعيد كلها ، فكان إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك قبل وقوعه معجزة عظيمة ، دالة على صدقه وصحة نبوته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ 16 ] .
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ } أي : على ما أنتم عليه ، ولا تؤمروا بالجهاد { وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً } أي : بطانه يفشون إليهم أسرارهم .
والواو في ولما حالية ، و لما للنفي مع التوقع ، والمراد من نفي العلم نفي المعلوم بالطريق البرهاني ، إذ لو شم رائحة الوجود ، لعلم قطعاً ، فلما يعلم لزم عدمه قطعاً { وَلَمْ يَتَّخِذُوا } عطف على : { جاهدوا } داخل في حيز الصلة ، والمعنى : أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه ، والحال أنه لم يتبين الخّلص من المجاهدين منك من
غيرهم ، بل لا بد أن تختبروا ، حتى يظهر المخلصون منكم ، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله ، لوجه الله ، ولم يتخذوا وليجة ، أي : بطانة من الذين يضادون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضوان الله عليهم . ودلت لما على أن تبين ذلك وإيضاحه متوقع كائن ، وإن الذين لم يخلصوا دينهم لله يميز بينهم وبين المخلصين ، وفي الآية اكتفاء بأحد القسمين ، حيث لم يتعرض للمقصرين ، وذلك لأنه بمعزل من الإندراج تحت إرادة أكرم الأكرمين ، وهذا كما قال :
~وما أدري إذا يمَّمتُ أرضاً أرِيدُ الخيرُ أيُّهما يَلنِي
وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى : { آلم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } . وقال تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّة } الآية ، و قال تعالى : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْه } الآية ، وكلها تفيد أن مشروعية الجهاد اختبار المطيع من غيره .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ } [ 17 ] .
قال في " البصائر " : يعمر إما من العمارة التي هي حفظ البناء ، أو من العمرة التي هي الزيارة ، أو من قولهم : عمرت بمكان كذا أي : أقمت به . انتهى .
{ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } أي : بحالهم وقالهم ، وهو حال من الضمير في
{ يَعْمُرُواْ } .
{ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ } وهذا كقوله تعالى : { وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ
إِلَّا الْمُتَّقُونَ } ولهذا قال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [ 18 ] .
{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ } أي : لم يعبد إلا الله { فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } أي : إلى الجنة .
وإبراز اهتدائهم مع ما بهم من الصفات السنية ، في معرض التوقع ، لقطع أطماع الكفرة عن الوصول إلى مواقف الإهتداء ، والإنتفاع بأعمالهم التي يحسبون أنهم في ذلك محسنون ، ولتوبيخهم بقطعهم أنهم مهتدون ، فإن المؤمنين ، ما بهم من هذه الكمالات ، إذا كان أمرهم دائراً بين لعل وعسى ، فما بال الكفرة وهم هم ، وأعمالهم أعمالهم ! ! وفيه لطف للمؤمنين ، وترغيب لهم في ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء ، ورفض الإغترار بالله تعالى . كذا حرره أبو السعود .
وقال الناصر : وأكثرهم يقول : إن عسى من الله واجبة ، بناء منهم على أن استعمالها غير مصروفة للمخاطبين .
والحق أن الخطاب مصروف إليهم ، كما قال الزمخشري ، أي : فحال هؤلاء المؤمنين حال مرجوّة العاقبة عند الله معلومة ، ولله عاقبة الأمور .
تنبيهات :
الأول : قال الزمخشري : العمارة تتناول زمّ ما استرمّ منها وقمّها ، وتظيفها وتنويرها بالمصابيح ، وتعظيمها واعتيادها للعبادة والذِّكر ، ومن الذكر درس العلم ، بل هو أجلّه وأعظمه ، وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا ، فضلاً عن فضول الحديث .
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < من غدا إلى المسجد أو راح ، أعدّ الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح > .
ورويا أيضاً عن عثمان بن عفان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < من بنى لله مسجداً يبتغي به وجه الله تعالى ، بنى الله له بيتاً في الجنة > .
وأخرج الترمذي عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد ، فاشهدوا له بالإيمان > ، قال الله تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ } الآية .
الثاني : إنما لم يذكر الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم لدخوله في الإيمان بالله ، فتُرك للمبالغة في ذكر الإيمان بالرسالة ، دلالة على أنهما كشيء واحد ، إذا ذكر أحدهما فهم الآخر ، على أنه أشير بذكر المبدأ والمعاد إلى الإيمان بكل ما يجب الإيمان به ، ومن جملته رسالة صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى : { آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر } . كذا في " العناية " .
الثالث : في تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر ، تفخيم لشأنهما وحث على التنبه لهما .
الرابع : دلت الآيتان على أن عمل الكفار محبط لا ثواب فيه .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ 19 ] .
{ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } .
روى العوفي في " تفسيره " عن ابن عباس أن المشركين قالوا : عُمارة بيت الله ، وقيام على السقاية ، خير ممن آمن وجاهد ، وكانوا يفخرون بالحرم ، ويستكبرون به ، من أجل أنهم أهله وعماره ، فخير اللهُ الإيمانَ والجهاد مع رسوله ، على عُمارة المشركين البيت ، قيامهم على السقاية ، وبيّن أن ذلك لا ينفعهم مع الشرك ، وأنهم ظالمون بشركهم ، لا تغني عمارتهم شيئاً .
قال اللغويون : السقاية بالكسر والضم موضع السقي . وفي " التهذيب " : هو الموضع المتخذ فيه الشراب في المواسم وغيرها . انتهى .
وفي " التاج " : سقاية الحاج ما كانت قريش تسقيه للحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء ، وكان يليها العباس رضي الله عنه في الجاهلية والإسلام . انتهى .
وروى الإمام مسلم عن النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل : ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام ؛ وقال الآخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم ، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة ، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه ، فأنزل الله عز وجل : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ } الآية .
ورواه عبد الرزاق في " مصنفه " ولفظه : إن رجلاً قال : ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج . وقال آخر : ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام . الحديث .
قال بعضهم : فظاهر هذه الرواية أن المفاضلة كانت بين بعض المسلمين المؤثرين للسقاية والعمارة على الهجرة والجهاد ونظائرهما ، ونزلت الآية في ذلك ، مع أن الرواية السالفة عن ابن عباس تنافيه ، وكذا تخصيص ذكر الإيمان بجانب المشبه
به ، وكذا وصفهم بالظلم لأجل تسويتهم المذكورة .
وأقول : لا منافاة ، وظاهر النظم الكريم فيما قاله ابن عباس لا يرتاب فيه ، وقول النعمان فأنزل الله ، بمعنى أن مثل هذا التحاور نزل فيه فيصل متقدم ، وهو هذه الآية ، لا بمعنى أنه كان سبباً لنزولها كما بينها غير ما مرة .
وهذا الاستعمال شائع بين السلف ، ومن لم يتفطن له تتناقض عنده الروايات ، ويحار في المخرج ، فافهم ذلك وتفطن له .
وتأييد أبي السعود نزولها في المسلمين بما أطال فيه ، ذهول عن سباق الآية وعن سياقها ، فيما صدعت فيه من شديد التهويل ، وعن لاحقها في درجات التفضيل ، وقصر الفوز والرحمة والرضوان على المشتبه به .
لطيفة :
لا يخفى أن السقاية والعمارة مصدران لا يتصور تشبيههما بالأعيان ، فلا بد من تقدير مضاف في أحد الجانبين ، أي : أجعلتم أهلهما كمن آمن بالله . . . إلخ ، ويؤيده
قراءة من قرأ ( سقاة الحاج وعَمَرة المسجد الحرام ) أو : أجعلتموها كإيمان من آمن . . الخ .
قال أبو البقاء : الجمهور على سقاية بالياء ، وصحّت الياء لما كانت بعدها تاء التأنيث .
ثم بيّن تعالى مراتب فضل المؤمنين ، إثر بيان عدم الإستواء وضلال المشركين وظلمهم ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ 20 ] .
{ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ } أي : من أهل السقاية والعمارة ، وهم وإن يكن لهم درجة عند الله ، جاء على زعمهم ومدعاهم . قاله في " العناية " .
{ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } أي : لا أنتم . أي : المختصون بالفوز دونكم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ } [ 21 ]
[ لم يفسر القاسمي هذه الآية ](/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ 22 ] .
{ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } . ثم نهاهم تعالى عن موالاة المشركين ، وإن كانوا أقرب الأقربين ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ 23 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء } أي : بطانة وأصدقاء ، تفشون إليهم أسراركم ، وتمدحونهم وتذبون عنهم { إَنِ اسْتَحَبُّواْ } أي : اختاروا : { الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } أي : لوصفهم الموالاة في غير موضعها ، ولتعديهم وتجاوزهم عما أمر الله به .
ثم أشار تعالى إلى أن مقتضى الإيمان ترك الميل الطبيعي إذا كان مانعاً من محبة
الله ، ومحبة واسطة الوصول إليه ، ومحبة ما يعلي دينه بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ 24 ]
{ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } أي : أقاربكم الأدنون ، أو قبيلتكم .
قال أهل اللغة : عشيرة الرجل بنو أبيه الأدنون ، أو قبيلته ،
كالعشير - بلا هاء - مأخوذة من العشرة ، أي : المعاشرة ، لأنها من شأنهم ، أو من العَشَرة الذي هو العدد لكمالهم ، لأنها عدد كامل { وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا } أي : اكتسبتموها { وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا } أي : فوات وقت نفادها بقراقكم لها .
{ وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا } أي : منازل تعجبكم الإقامة فيها من الدور والبساتين { أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ } أي : المنعم بالكل { وَرَسُولِهِ } وهو واسطة نعمه { وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } أي : مما يعلي دينه { فَتَرَبَّصُواْ } أي : انتظروا : { حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ } أي : بقضائه ، وهو عذاب عاجل ، أو عقاب آجل ، أو فتح مكة ، وهذا أمر تهديد وتخويف . أي : فارتقبوا قهر الله بدعوى محبته بالإيمان ، وتكذيبها بترجيح محبة غيره { وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } أي : الخارجين عن الطاعة في موالاة المشركين والمؤثرين لما ذكر على رضاه تعالى .
تنبيهات :
الأول : قال بعضهم : ثمرة الآيتين تحريم موالاة الكفار ، ولو كانوا أقرباء ، وأنهم كبيرة لوصف متوليهم بالظلم ، ووجوب الجهاد ، وإيثاره على كل هذه المشتهيات المعدودة طاعة لله ورسوله .
الثاني : قال الرازي : الآية الثانية تدل على أنه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين ، وبين جميع مهمات الدنيا ، وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا .
الثالث : في هذه الآية وعيد وتشديد ، لأن كل أحد قلما يخلص منها ، فلذا قيل إنها أشد آية نعت على الناس كما فصَّله في " الكشاف " بقوله :
وهذه آية شديدة لا ترى أشدّ منها ، كأنها تنعي على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين ، واضطراب حبل اليقين فلينصف أورعُ الناس وأتقاهم من نفسه ، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله ، والثبات على دين الله ، ما يستحبّ له دينه على الآباء والأبناء والأخوات ، والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا ، ويتجرد منها لأجله ؟ أم يزوي الله عنه أحقر شيء منها لمصحلته فلا يدري أي : طرفيه أطول ؟ ويغويه الشيطان عن أجلّ حظ من حظوظ الدين ، فلا يبالي كأنما وقع على أنفه ذباب فطيّره ؟ !
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } [ 25 ] .
{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ } أي : في مواقف حروب كثيرة ، ووقعات شهيرة ، كغزوة بدر وقريظة والنضير والحديبية وخيبر وفتح مكة ، وكانت غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم - على ما ذكر في الصحيحين - من حديث زيد بن أرقم ، تسع عشرة غزوة ، زاد بريدة في حديث : قاتل في ثمان منهن ويقال : إن جميع غزواته وسراياه وبعوثه سبعون ، وقيل ثمانون .
{ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } أي : فاعتمدتم عليها ، حيث قلتم : لن نغلب اليوم من قلة : { فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } أي : من أمر العدو مع قلتهم ، { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } أي : برحبها وسعتها .
والباء للملابسة والمصاحبة ، أي : ضاقت ، مع سعتها ، عليكم ، وهو استعارة تبعية ، إما لعدم وجدان مكان يقرّون به آمنين مطمئنين من شدة الرعب ، أو أنهم لا يجلسون في مكان ، كما لا يُجْلَس في المكان الضيق { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } أي : منهزمين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ } [ 26 ] .
{ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ } أي : ما تسكنون به ، وتثبتون من رحمته ونصره ، وانهزام الكفار ، واطمئنان قلوبهم للكرّ بعد الفرّ { عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ } أي : الذين انهزموا ، وإعادةُ الجار للتنبيه على اختلاف حاليهما ، أو الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفروا ، أو على الكل ، وهو الأنسب .
ولا ضير في تحقيق أصل السكينة في الثابتين من قبل ، والتعرض لوصف الإيمان للإشعار بعليّة الإنزال . أفاده أبو السعود .
{ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } يعني الملائكة { وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : بالقتل والأسر والسبي { وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ } لكفرهم في الدنيا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 27 ] .
{ ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء } أي : منهم ، لحكمة تقتضيه ، أي : يوفقه للإسلام { وَاللّهُ غَفُورٌ } أي : يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي { رَّحِيمٌ } أي : يتفضل عليهم ويثيبهم .
تنبيهات :
الأول : فيما نقل في غزوة حنين ، وتسمى غزوة أوطاس ، وهما موضعان بين مكة والطائف ، فسميت الغزوة باسم مكانهما ، وتسمى غزوة هوازن ، لأنهم الذين أتوا لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت هذه الواقعة بعد فتح مكة ، في شوال سنة ثمان من الهجرة ، فإن الفتح كان لعشر بقين من رمضان ، وبعده أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة ليلة ، وهو يقصر الصلاة ، فبلغه أن هوازن وثقيف جمعوا له ، وهم عامدون إلى مكة ، وقد نزلوا حنيناً وكانوا ، حين سمعوا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، يظنون أنه إنما يريهم ، فاجتمعت هوازن إلى مالك بن عوف من بني نصر ، وقد أوعب معه بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن وبني جُشَم ، معاوية وبني سعد بن بكر ، وناساً من بني هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية ، والأحلاف وبني مالك بن ثقيف بن بكر .
وفي جشم دريد بن الصمة رئيسهم وكبيرهم ، شيخ كبير ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب ، وكان شجاعاً مجرباً ، وجميع أمر الناس إلى مالك بن عوف .
فلما أتاهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة ، أقبلوا عامدين إليه ، فأجمع السير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم ، يرى أنه أثبت لموقفهم ، فلما نزل بأوطاس ، اجتمع إليه الناس ، فقال دريد : بأي واد أنتم ؟ قالوا : بأوطاس . قال : نِعْمَ مجال الخيل ، لا حَزْنٌ ضِرسٌ ، ولا سهلٌ دَهْس ، مالي أسمع رغاء البعير ، ونهاق الحمير ، ويُعَار الشاء وبكاء الصغير ؟ قالوا : ساق مالك مع الناس نسائهم وأموالهم وأبناءهم ليقاتلوا عنها ، فقال : راعيَ ضأن والله ! وهل يرد المنهزم شيء ؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسلاحه ، وإن كانت عليك فُضِحْتَ في أهلك ومالك !
ثم قال : ما فعلت كعب وكلاب ؟ قالوا : لم يشهدها أحدٌ منهم : قال : غاب الحدّ والجِدّ ، لو كان يوم علاءٍ ورفعةٍ لم يغب عنهم كعب ولا كلاب ، ولودِدْت أنكم فعلتم ما فعلا . فمن شهدها منكم ؟ قالوا : عَمْرو وعوف ابنا عامر . قال : ذانك
الجذعان ، لا ينفعان ولا يضران ؛ ثم أنكر على مالك رأيه في ذلك وقال له : لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً ، أرفعهم إلى ممتنع بلادهم ، وعليا قومهم ، ثم ألق الصبيان على متون الخيل شيئاً ، فإن كانت لك ، لحق بك من ورائك ، وإن كانت لغيرك ، كنت قد أحرزت أهلك ومالك .
قال : لا ، والله لا أفعل ذلك ، إنك قد كبرت ، وكبر عقلك ، والله لتطعنني يا معشر هوازن ، أو لأتكئن على هذاالسيف حتى يخرج من ظهري ! وكره أن يكون لدريد بن الصمة فيها ذكر أو رأي . قالوا : أطعناك .
فقال دريد : هذا يوم لم أشهده ، ولم يفتني . ثم قال مالك للناس : إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم ، ثم شدوا شدة رجل واحد .
وبعث عيوناً من رجاله فأتوه ، وقد تفرقت أوصالهم ، فقال : ويلكم ! ما شأنكم ؟ قالوا : رأينا رجالاً بيضاً ، على خيل بُلْق والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى . فوالله ما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد .
فلما سمع بهم نبي الله صلى الله عليه وسلم ، بعث عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي يستعلم خبرهم ، فجاءه وأطلعه على جلية الخبر ، وأنهم قاصدون إليه ، فاستعار رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية مائة درع - وقيل أربعمائة - وخرج في اثني عشر ألفاً من المسلمين : عشرة آلاف الذين صحبوه من المدينة ، وألفان من مسلمة الفتح ، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية ، ومضى لوجهه ، وفي جملة من اتبعه عباس بن مرداس ، والضحاك بن سفيان الكلابي ، وجموع من عبس وذبيان ، ومزينة ، وبني أسد .
ومرّ في طريقه بشجرة سدر خضراء ، وكان لهم في الجاهلية مثلها ، يطوف بها الأعراب ويعظمونها ، ويسمونها ذات أنواط ، فقالوا : يا رسول الله ! اجعل لنا ذات أنواط ، كما لهم ذات أنواط ، فقال لهم : < قلتم كما قال قوم موسى : { اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } والذي نفسي بيده ! لتركبن سنن من كان قبلكم > .
ثم نهض حتى أتى وادي حنين من أودية تهامة ، وهو واد حَزْن فتوسطوه في غبش الصبح ، وقد كمنت هوازن في جانبيه ، فحملوا على المسلمين حملة رجل واحد فولى المسلمون لا يلوي أحد على أحد ، وناداهم صلى الله عليه وسلم فلم يرجعوا ، وثبت معه أبو بكر وعمر وعلي والعباس وأبو سفيان بن الحرث وابنه جعفر ، والفضل وقثم ابنا العباس ، وجماعة سواهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم على بلغته البيضاء دلدل ، والعباس آخذ بشكائمها ، وكان جهير الصوت فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادي بالأنصار وأصحاب الشجرة ـ قيل : والمهاجرين ـ فما سمعوا الصوت وذهبوا
ليرجعوا ، صدهم ازدحام الناس عن أن يثنوا رواحلهم ، فاستقاموا وتناولوا سيوفهم وتراسهم ، واقتحموا عن الرواحل راجعين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد اجتمع منهم حوالي المائة ، فاستقبلوا هوازن ، والناس متلاحقون ، واشتد الحرب ، وحمي الوطيس .
ولما غَشَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن بغلته ، ثم قبض قبضة من تراب الأرض ، ثم استقبل به وجوههم وقالت : < شاهت الوجوه > ! فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه ، ثم صدق المسلمون الحملة عليهم ، وقذف الله في قلوب هوازن الرعب .
فلم يملكوا أنفسهم ، فولوا منهزمين ، ولحق آخر الناس ، وأسرى هوازن مغلولة بين يديه ، وغنم المسلمون عيالهم وأموالهم ، واستحرّ القتل في بني مالك من ثقيف ، فقتل منهم يومئذ سبعون رجلاً ، وانحازت طوائف هوازن إلى أوطاس ، واتبعتهم طائفة من خيل المسلمين الذين توجهوا من نخلة ، فأدركوا فيهم دريد بن الصمة فقتلوه .
وبعث صلى الله عليه وسلم إلى من اجتمع بأوطاس من هوازن ، أبا عامر الأشعري عمّ أبي موسى ، فقاتلهم ، وقتل بسهم رماه به سلمة بن دريد بن الصمة ، فأخذ أبو موسى الراية ، وشدّ على قاتل عمه ، فقتله ، وانهزم المشركون ، وانفضّت جموع أهل هوازن كلها ، واستشهد من المسلمين يومئذ أربعة ، ثم جُمعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا حنين وأموالها ، فأمر بها فحبست بالجعرانة بنظر مسعود بن عَمْرو الغفاري .
وسار صلى الله عليه وسلم من فوره إلى الطائف ، فحاصر بها ثقيف خمس عشرة ليلة ، وقاتلوا من وراء الحصون ، وأسلم من كان حولهم من الناس ، وجاءت وفودهم إليه ، ثم انصرف صلى الله عليه وسلم عن الطائف ، ونزل الجعرانة فيمن معه من الناس وأتاه هناك وفد هوازن ، مسلمين راغبين ، فخيرهم بين العيال والأبناء والأموال ، فاختاروا العيال والأبناء ، وكلموا المسلمين في ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال صلى الله عليه وسلم : < ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم > ، وقال المهاجرون والأنصار : ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن لم تطب نفسه عوّضه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نصيبه ، ورد عليهم نساءهم وأبناءهم بأجمعهم .
وكان عدد سبي هوازن ستة آلاف بين ذكر وأنثى ، والإبل أربعة وعشرون ألفاً ، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة ، وأربعة آلاف أوقية فضة ، وقسم صلى الله عليه وسلم الأموال بين المسلمين ، ونقل كثيراً من الطلقاء ـ وهم الذين منّ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإطلاق يوم فتح مكة من الأسر ونحوه ـ يتألفهم على الإسلام ، مائة من الإبل ، ومنهم مالك بن عوف النصريّ . فقال حين أسلم :
~ما إن رأيتُ ولا سمعت بمثله في الناس كلهم بمثل محمد
~أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتُدِي ومتى يشأ يخبرك عما في غدِ
~وإذا الكتيبة عَرَدَتْ أنيابُها بالسمهري وضربِ كل مهندِ
~فكأنه ليث على أشباله وسْط الهباءَة خادر في مَرْصَدِ
الثاني : قال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " في فصل جوّد فيه :
الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من المسائل الفقهية والنكت الحكمية ما نصه :
كان اللهُ عَزَّ وجَلَّ قد وعد رسولَه ، وهو صادقُ الوعد ، وأنه إذا فتح مكَّة ، دخل النَّاسُ في دينه أفواجاً ، ودانت له العربُ بأسرها ، فلما تمَّ له الفتحُ المبين ، اقتضت حِكمتُه تعالى أن أمسك قلوبَ هَوازِنَ ومَن تَبِعَهَا عن الإسلام ، وأن يجمعوا ويتأهبوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، لِيظهر أمرُ الله ، وتمامُ إعزازه لرسوله ، ونصره لدينه ، ولِتكون غنائمُهم شكراناً لأهل الفتح ، وليُظهرَ اللهُ سبحانه رسولَه وعِبادَه ، وقهرَه لهذه الشَوْكة العظيمة التي لم يلق المسلمون مثلها ، فلا يُقاومهم بعدُ أحدٌ من العرب ، ولغير ذلك مِن الحكم الباهرة التي تلوحُ للمتأملين ، وتبدو للمتوسمين .
واقتضت حكمتُه سبحانه أن أذاق المسلمين أولاً مرارةَ الهزيمة ، والكسرة مع كثرة عَددهم وعُددهم ، وقوةِ شَوْكتهم لِيُطامِنَ رُؤوساً رُفِعت بالفتح ، ولم تدخل بلدَه وحرمه كما دخله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم واضعاً رأسه منحنياً على فرسه ، حتى إنَّ ذقنه تكادُ تَمَسُّ سرجه تواضعاً لربه ، وخضوعاً لعظمته ، واستكانةً لعزَّته ، أن أحلَّ له حَرَمهُ وبلده ، ولم يَحِلَّ لأحد قبله ولا لأحد بعدَه ، ولِيبين سُبحانه لمن قال : < لَنْ نغْلَبَ اليَوْمَ عن قِلَّةٍ > ، أن النصرَ إنما هو من عنده ، وأنه مَن ينصرُه ، فلا غالب له ، ومَن يخذُله ، فلا ناصر له غيره ، وأنه سبحانه هو الذي تولَّى نصر
رسوله ودينه ، لا كثرتُكم التي أعجبتكم ، فإنها لم تُغن عنكم شيئاً ، فوليتُم مُدبرين ، فلما انكسرت قلوبُهم ، أُرسلت إليها خِلَعُ الجبر مع بَرِيدِ النصر ، فأنزل الله سكينتَه على رسوله وعلى المؤمنين ، وأنزل جنوداً لم تروها ، وقد اقتضت حكمتُه أن خِلَعَ النصر وجوائزَه إنما تفِيضُ على أهل الإنكسار : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ في الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثينَ ونُمَكِّنَ لَهُمْ في الأَرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وهَامَانَ وجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُواْ
يَحْذَرُون } .
ومنها : أن الله سبحانه لما منع الجيش غنائمَ مكة ، فلم يغنمُوا منها ذهباً ولا فضةً ، ولا متاعاً ولا سبياً ، ولا أرضاً كما روى أبو داود ، عن وهب ابن منبِّه ، قال : سألتُ جابراً : هَلْ غَنِمُوا يَوْمَ الفَتْح شَيْئاً ؟ قال : لا !
وكانوا قد فتحوها بإيجافِ الخيل والركاب ، وهُم عشرةُ آلاف ، وفيهم حاجة إلى ما يحتاج إليه الجيشُ مِن أسباب القوة ، فحرَّك سبحانَه قلوبَ المشركين لغزوهم ، وقذفَ في قلوبهم إخراجَ أموالهم ، ونَعمهم وشياهم ، وسَبيهم معهم نُزُلاً وضِيافةً ، وكرامةً ، لِحزبه وجنده ، وتمَّمَ تقديرَه سبحانه بأن أطمعهم في الظفر ، وألاح لهم مبادئ النصر ، ليقضى اللهُ أمراً كان مفعولاً .
فلما أنزل اللهُ نصرَهُ على رسوله وأوليائه ، وبرزت الغنائمُ لأهلها ، وجرت فيها سهامُ الله ورسوله ، قيل : لا حاجةَ لنا في دمائكم ، ولا في نسائكم وذراريكم ، فأوحى اللهُ سبحانه إلى قلوبهم التوبةَ والإنابةَ ، فجاؤوا مسلمين .
فقيل : إن مِن شُكْرِ إسلامِكم وإتيانكم أن نَرُدَّ عَلَيْكُمْ نِسَاءَكُم وأَبْنَاءَكُم وَسَبْيَكُم .
و : { إن يَعْلَمِ اللهُ في قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
ومنها : أن الله سبحانه افتتح غزوات العرب بغزوةِ بدر ، وختم غزوهم بغزوة حُنَيْن ، ولهذا يُقْرَنُ بين هاتين الغزاتين بالذكر ، فيقال : بدرٌ وحُنَيْن ، وإن كان بينهما سبعُ سنين ، والملائكة قاتلت بأنفسها مع المسلمين في هاتين الغزاتين ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم رمى في وجوه المشركين بالحصباء فيهما ، وبهاتين الغزاتين طُفِئَت جمرةُ العرب لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، فالأُولى خوَّفتهم وكسرت مِن حَدِّهم ، والثانية استفرغت قواهم ، واستنفدت سهامَهم ، وأذلَّت جمعهم حتى لم يجدوا بُداً من الدخول في دين الله .
ومنها : أن الله سبحانه جَبَرَ بها أهلَ مكة ، وفرَّحهم بما نالُوه من النصر والمغنم ، فكانت كالدواء لما نالهم من كسرهم ، وإن كان عينَ جبرهم ، وعرَّفهم تمامَ نعمته عليهم بما صرف عنهم من شر هَوازِن ، فإنه لم يكن لهم بهم طاقة ، وإنما نُصِرُوا عليهم بالمسلمين ، ولو أُفردوا عنهم ، لأكلهم عدوُّهم . . . إلى غير ذلك من الحكم التي لا يُحيط بها إلا الله تعالى . انتهى .
الثالث : قال بعضهم : دلت الآية على أنه يجب الإنقطاع إلى الله تعالى ، والإتكال عليه .
ودل ما حكى في القصة على جواز ما ورد حسنه من جواز التأليف ، وملاطفة المؤمنين والرمي بالحصا حالة الحرب ، والأصوات التي يرهب بها . انتهى .
ولابن قيم في " زاد المعاد " فصول حسنة في فقه هذه الواقعة . فلينظر .
الرابع : مسعود : ويوم حنين ، قيل : منصوب بمضمر معطوف على نصركم ، أي : ونصركم يوم حنين ، واستظهر عطفه على محل في مواطن ، بحذف المضاف في أحدهما ، أي : ومواطن يوم حنين ، أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين .
قال أبو مسعود : ولعل التغيير لإيماء إلى ما وقع فيه من قلة الثبات من أول الأمر . انتهى .
قال الشهاب : فيكون عطف يوم حنين على منوال ملائكته وجبريل ، كأنه قيل : نصركم الله في أوقات كثيرة ، وفي وقت إعجابكم بكثرتكم ، ولا يرد عليه ما قيل إن المقام لا يساعد عليه ، لأنه غير وارد ، لتفضيل بعض الوقائع على بعض ، ولم يذكر المواطن توطئة ليوم حنين كالملائكة ، إذ ليس يوم حنين بأفضل من يوم بدر ، وهو فتح الفتوح ، وسيد الواقعات ، وبه نالوا القدح المعلى ، والدرجات العلى ، لأن القصد في مثله إلى أن ذلك الفرد فيه من المزية ما صيَّره مغايراً لجنسه ، لأن المزية ليس المراد بها الشرف ، وكثرة الثواب فقط ، حتى يتوهم هذا ، بل ما يشمل كون شأنه عجيباً ، وما وقع فيه غريباً ، للظفر بعد اليأس ، والفرج بعد الشدة ، إلى غير ذلك من المزايا . انتهى .
ثم أشار تعالى إلى أن موالاة المشركين ، مع عدم إفادتها التقوية المحصلة للنصر ، تضر بسريان نجاسة بواطنهم إلى بواطن المؤمنين الطاهرة ، فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 28 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } أي : المطهرة بواطنهم بالإيمان { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } أي : ذوو نجس ، لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس ، هو مجاز عن خبث الباطن ، وفساد العقيدة ، مستعار لذلك ، أو هو حقيقة ، لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ، ولا يجتنبون النجاسات ، فهي ملابسة لهم ، أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها ، مبالغة في وصفهم بها .
{ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } أي : لحج أو عَمْرة كما كانوا يفعلون في الجاهلية ، قال المهايمي : لأن المسجد الحرام يجتمع فيه المتفرقون في الأرض ، ليسري صفاء القلوب من بعض إلى بعض ، وها هنا يخاف سريان الظلمات
في العموم .
{ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } أي : بعد حج عامهم هذا ، وهو عام تسع من الهجرة ، حين أمّر أبو بكر على الموسم ، وتقدم لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أتبع أبا بكر بعلي رضي الله عنهما ، لينادي في المشركين : < ألا يحج بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان > . فأتم الله ذلك ، وحكم به شرعاً وقدراً .
{ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } أي : فقراً بسبب منعهم من الحرم ، لانقطاع أرفاق كانت لكم من قدومهم { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء } أي : من فتح البلاد ، وحصول المغانم ، وأخذِ الجزية ، وتواجه الناس من أقطار الأرض .
قال ابن إسحاق : إن الناس قالوا : لتقطعنّ عنا الأسواق ، فلتهلكن التجارة ، وليذهبنّ ما كنا نصيب فيها من المرافق ، فقال الله تعالى : { وإن خفتم عيلة } إلى قوله :
{ وهم صاغرون } أي : هذا عوض ما تخوفتم من قطع تلك الأسواق ، فعوضهم الله مما قطع عنهم بأمر الشرك ، ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب من الجزية . انتهى .
{ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ } أي : بما يصلحكم : { حَكِيمٌ } أي : فيما يأمر به وينهي عنه .
تننبيهات :
الأول : دلت الآية على نجاسة المشرك ، كما في الصحيح < المؤمن لا ينجس > ، وأما نجاسة بدنه ، فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات ، لأن الله تعالى أحلّ طعام أهل الكتاب .
وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم ، وقال أشعث عن الحسن : من صافحهم فليتوضأ ، رواه ابن جرير ، ونقله ابن كثير .
وأقول : الإستدلال بكونه تعالى أحلّ طعام أهل الكتاب غير ناهض ، لأن البحث في المشركين وقاعدة التنزيل الكريم ، التفرقة بينهم وبين أهل الكتاب ، فلا يتناول أحدهما الآخر فيه .
وقال بعض المفسرين اليمنيين : مذهب القاسم والهادي وغيرهما ، أن الكافر نجس العين ، آخذاً بظاهر الآية ، لأن الحقيقة ويؤيد ذلك حديث أبي ثعلبة الخُشَنِي قال :
فإنه قال : للنبي صلى الله عليه وسلم إنا نأتي أرض أهل الكتاب فنسألهم آنيتهم ، فقال صلى الله عليه وسلم : < اغسلوها ثم اطبخوا فيها > ،
وقال زيد والمؤيد بالله والحنفية والشافعية : إن المشرك ليس نجس العين ، لأنه صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشرك ، واستعار من صفوان دروعاً ولم يغسلها ، وكانت القصاع تختلف من بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأسارى ولا تغسل ، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يطبخون في أواني المشركين ولا تغسل . وأوّلوا الآية بما تقدم من الوجوه ، وكلٌّ متأولٌ ما احتج به الآخر . انتهى .
الثاني : قال السيوطي في " الإكليل " في قوله تعالى : { فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } : إن الكافر يمنع من دخول الحرم ، وإنه لا يؤذن له في دخوله ، لا للتجارة ولا لغيرها ، وإن كانت مصلحة لنا ، لأن المسجد الحرام حيث أطلق في القرآن فالمراد به الحرم كله ، كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وابن جبير ومجاهد وعطاء وغيرهم .
واستدل بظاهر الآية من أباح دخوله الحرم سوى المسجد ، لقصره في الآية عليه ، واستدل الشافعي بظاهر الآية على أنهم لا يمنعون من دخول سائر المساجد ، لقوله : { الحرام } ، وقاس عليه غيره سائرَ المساجد .
واستدل أبو حنيفة بظاهرها أيضاً على أن الكتابي لا يمنع ، دخوله لتخصيصه بالمشرك . انتهى . وهو المتجّه .
قال الشهاب : وبالظاهر أخذ أبوحنيفة رحمه الله تعالى ، إذ صرف المنع عن دخوله الحرم للحج والعمرة ، بدليل قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } ، فإنه إنما يكون إذا منعوا من دخول الحرم ، وهو ظاهر ، أي : لأن موضع التجارات ليس عين المسجد . ونداءُ عليّ كرم الله وجهه بقوله : < ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك > ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، يعيّنه ، فلا يقال إن منطوق الآية يخالفه . انتهى .
الثالث : قال الناصر : قد يستدل بقوله تعالى : { فَلاَ يَقْرَبُواْ } الآية ، من يقول إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، وخصوصاً بالمناهي ، فإن ظاهر الآية توجه النهي إلى المشركين ، إلا أنه بعيد ، لأن المعلوم من المشركين أنهم لا ينزجرون بهذا النهي ، والمقصود تطهير المسجد الحرام بإبعادهم عنه ، فلا يحصل هذا المقصود إلا بنهي المسلمين عن تمكينهم من قربانه .
ويرشد إلى أن المخاطب في الحقيقة المسلمون ، تصديرُ الكلام بخطابهم في قوله :
{ يَا أيُّهَا الذِينَ آمَنُوا } وتضمينه نصاً بخطابهم بقوله : { وَإنْ خِفْتُم عَيْلَةً } ، وكثيراً ما يتوجه النهي على مَن المراد خلافه ، وعلى ما المراد خلافه ، إذا كانت ثَمَّ ملازمة كقوله : لا أرينَّك ها هنا { وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . انتهى .
الرابع : العَيْلة مصدر من عال بمعنى افتقر . قرئ ( عائلة ) ، وهو إما مصدر بوزن فاعلة ، أو اسم فاعل صفة لموصوف مؤنث مقدر ، أي : حالاً عائلة ، أي : مفقرة .
قال ابن جني : هذه من المصادر التي جاءت على فاعلة ، كالعاقبة والعافية . ومنه قوله تعالى : { لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً } ، أي : لغواً ومنه قولهم : مررت به خاصة ، أي : خصوصاً وأما قوله تعالى : { وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ } فَيجوز أن يكون مصدراً ، أي : خيانة ، وأن يكون على تقدير : نية أو عقيدة خائنة . وكذا ها هنا يقدر : إن خفتم حالاً عائلة . انتهى .
الخامس : إن قيل : ما وجه التعليق بالمشيئة في قوله تعالى : { إنْ شاءَ } مع أن المقام وسبب النزول ، وهو خوفهم الفقر ، يقتضي دفعه بالوعد بإغنائهم من غير تردد ؟
فالجواب : أن الشرط لم يذكر للتردد ، بل لبيان أنه بإرادته لا سبب له غيرها ، فانقطعوا إليه ، واقطعُوا النظر عن غيره ، ولينبه على أنه متفضل به ، لا واجب عليه ، لأنه لو كان بالإيجاب لم يوكل إلى الإرادة ، فلا يقال إن هذا لا حاجة إلى أخذه من الشرط ، مع قوله : من فضله ، لأن قوله : { مِنْ فضْلِهِ } يفيد أنه عطاء وإحسان ، وهذا يفيد أنه بغير إيجاب ، وشتان بينهما ، وقيل إنه للتنبيه على أنه بإرادته ، لا بسعي المرء وحلته :
~لَوْ كَاْنَ بَالْحِيَلِ الغِنَى لَوَجَدْتنِي بِنجومِ أَقْطَارِ السَّمَاءِ تَعَلّقِي
كذا في " العناية " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [ 29 ] .
{ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } اعلم أنه لما ذكر تعالى حكم المشركين في إظهار البراءة من عهدهم ، وفي إظهار البراءة عنهم في أنفسهم ، وفي وجوب مقاتلتهم ، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام وعدم
الخوف من الفاقة المتوهمة من انقطاعهم ، ذكر بعده حكم أهل الكتاب ، و هو أن يقاتلوا إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية ، منبهاً في تضاعيف ذلك على بعض طرق الإغناء الموعود على الوجه الكلي ، مرشداً إلى سلوكه ابتغاء لفضله ، واستنجازاً لوعده .
قال مجاهد : نزلت الآية حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال الروم ، فغزا بعد نزولها غزوة تبوك .
وقال الكلبي : نزلت في قريظة والنضير من اليهود ، فصالحهم ، فكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام ، وأول ذلّ أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين . انتهى .
ولا يخفى شمول الآية لكل ذلك بلا تخصيص .
قال ابن كثير : هذه الآية أول أمر نزل بقتال أهل الكتاب - اليهود والنصارى - وكان ذلك في سنة تسع ، ولهذا تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم ، ودعا الناس إلى ذلك ، وأظهره لهم ، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم ، فأوعبوا معه ، واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفاً ، وتخلف بعض الناس من أهل المدينة ، ومن حولها من المنافقين وغيرهم ، وكان ذلك في عام جدب ، ووقت قيظ وحرّ .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الشام لقتال الروم ، فبلغ تبوك ، ونزل بها ، وأقام بها قريباً من عشرين يوماً ، ثم استخار الله في الرجوع ، فرجع عامة ذلك لضيق الحال ، وضعف الناس ، كما سيأتي بيانه بعدُ إن شاء الله تعالى . انتهى .
والتعبير عن أهل الكتاب بالموصول المذكور ، للإيذان بعليّة ما في حيز الصلة للأمر بالقتال ، فإنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، كما أمر تعالى ، إذ لديهم من فساد العقيدة ، فيما يجب له تعالى وفي البعث ، أعظم ضلال وزيغ { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } يعني ما ثبت تحريمه في الكتاب والسنة .
وقيل : المراد برسوله الرسول الذي يزعمون اتباعه ، فالمعنى أنهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقاداً وعملاً ، إذ غيّروا وبدّلوا أتباعاً لأهوائهم .
وقوله : هاب : فيكون المراد : لا يتبعون شريعتنا ولا شريعتهم ، ومجموع الأمرين سبب لقتالهم ، وقوله تعالى : { دين الحق } من إضافة الموصوف للصفة ، أو المراد بالحق : الله تعالى .
وقوله : { حَتى يُعْطُوا الجزيَة َ } أي : ما تقرر عليه أن يعطوه .
قال ابن الأثير : الجزية المال الذي يعقد عليه الكتابيّ الذمة ، وهي فِعْلَة من الجزاء كأنها جَزَتْ عن قتله .
وقال الراغب : سميت بذلك للإجتزاء بها عن حقن دمهم .
وقال الشهاب : قيل مأخذها من الجزاء بمعنى القضاء . يقال : جزيته بما فعل ، أو جازيته ، أو أصلها الهمز من الجزء والتجزئة ، لأنها طائفة من المال يعطى ، وقيل : إنها معرف كزيت ، وهو الجزية بالفارسية . انتهى .
وقوله تعالى : { عَن يَدٍ } حال من فاعل : { يَعْفُوا } و اليد هنا إمّا بمعنى الإستسلام والإنقياد ، يقال : هذه يدي لك ، أي : استسلمت إليك ، وانقدت لك ، وأعطى يده أي : انقاد .
كما يقال في خلافه : نزع يده من الطاعة . لأن من أبى وامتنع ، لم يعط يده ، بخلاف المطيع المنقاد ، وإما بمعنى النقد ، أي : حتى يعطوها نقداً غير نسيئة ، فيكون كاليد في قوله صلى الله عليه وسلم : < لا تبيعوا الذهب والفضة . . . إلى قوله : يداً بيد > .
وإما بمعنى الجارحة الحقيقية ، و عن بمعنى الباء ، أي : لا يبعثون بها عن يد أحد ، ولكن عن يد المعطي إلى يد الآخذ .
وإما بمعنى : من طيبة نفس ، قال أبو عبيدة : كل من انطاع لقاهر بشيء أعطاه ، من غير طيب نفس به وقهر له ، من يد في يد ، فقد أعطاه عن يد . " مجاز القرآن " ج 1 ص 256 .
وإما بمعنى الجماعة ، أنشد ابن الأعرابي :
~أعطى فأعطاني يداً ودَارا وباحةً حوَّلها عَقَارا
ومنه الحديث : < وهم يدٌ على من سواهم > . أي : هم مجتمعون على أعدائهم ، يعاون بعضهم بعضاً - قاله أبو عبيدة - وإما بمعنى الذل - نقله ابن الأعرابي وحكاه وجهاً في الآية - .
هذا إن أريد باليد يد المعطي ، وإن أريد بها يد الآخذ ، فاليد إما بمعنى القوة ، أي : عن يد قاهرة مستولية ، ويقولون : ما لي به يد أي : قوة ، وإما بمعنى السلطان ، وهو كالذي قبله ، ومنه يد الريح سلطانها . قال لَبِيد :
نِطافٌ أمْرُهَا بِيَدِ الشَّمَالِ
لما ملكت الريح تصريف السحاب ، جعل لها سلطان عليه .
وإما بمعنى النعمة ، أي : عن إنعام عليهم بذلك ، لأن قبول الجزية ، وترك أنفسهم عليهم ، نعمة عليهم .
قال الناصر في " الإنتصاف " : وهذا الوجه أملى بالفائدة .
وإمّا بمعنى الغنى ، حكاه في " العناية " ، ونقله " التاج " من معاني اليد .
وقوله تعالى : { وهم صاغرون } أي : أذلاء .
تنبيهات :
الأول : قوله تعالى : { عن يد } إما حال من الضمير في : { يُعْطوا } ، أو من الجزية أي : مقرونة بالإنقياد ، ومسلمة بأيديهم ، وصاردة عن غنى ، ومقرونة بالذلة ، وكائنة عن إنعام عليهم . كذا في " العناية " .
الثاني : قال السيوطي في " الإكليل " : هذه الآية أصل قبول الجزية من أهل الكتاب .
الثالث : قال أيضاً : استدل من قال بأن معنى اليد فيما تقدم الغنى ، أنها تجب على مُعسر ، ومن قال بأنه لا يرسل بها ، على أنه لا يجوز توكيل مسلم بها ، ولا أن يضمنها عنه ، ولا أن يحيل بها عليه .
الرابع : قال السيوطي أيضاً : استدل بقوله تعالى : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } من قال إنها تؤخذ بإهانة ، فيجلس الآخذ ويقوم الذمي ويطأطئ رأسه ، ويحني ظهره ، ويضعها في الميزان ، ويقبض الآخذ لحيته ، ويضرب لهزمتيه .
قال : ويردّ به على النووي حيث قال : إن هذه سيئة باطلة . انتهى .
قلت : ولقد صدق النووي عليه الرحمة والرضوان ، فإنها سيئة قبيحة ، تأباها سماحة الدين ، والرفق المعلوم منه ، ولولا قصده الرد على من قاله لما شوهت بنقلها ديباجة الصحيفة .
ثم رأيت ابن القيّم رد ذلك بقوله : هذا كله مما لا دليل عليه ، ولا هو مقتضى الآية ، ولا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أصحابه ، قال : والصواب في الآية أن الصغار هو التزامهم بجريان أحكام الله تعالى عليهم ، وإعطاء الجزية ، فإن ذلك الصغار ، وبه قال الشافعي . انتهى .
ثم قال السيوطي : واستدل بالآية من قال : إن أهل الذمة يتركون في بلد أهل الإسلام ، لأن مفهومها الكف عنهم عند أدائها ، ومن الكف ألا يجلوا ، ومن قال لا حدّ لأقلها ، ومن قال هي عوض حقن الدم لا أجرة الدار . انتهى .
السادس : روى أبو عبيد في كتاب " الأموال " عن ابن شهاب قال : أول من أعطى الجزية من أهل الكتاب ، أهل نجران ، وكانوا نصارى .
السادس : قال أبو عبيد : ثبتت الجزية على اليهود والنصارى بالكتاب ، وعلى المجوس بالسنة .
وقال ابن القيم :
فلما نزلت آيةُ الجزية ، أخذها صلى الله عليه وسلم مِن ثلاث طوائف : مِن المجوسِ ، واليهود ، والنصارى ، ولم يأخذها من عُبَّادِ الأصنام .
فقيل : لا يجوزُ أخذُها مِن كافر غير هؤلاء ، ومَن دان بدينهم ، اقتداءً بأخذه وتركه . وقيل : بل تُؤخذ من أهل الكتاب وغيرِهم من الكفار كعبدة الأصنام من العجم دون العرب ، والأول : قول الشافعي رحمه الله ، وأحمد ، في إحدى روايتيه .
والثاني : قولُ أبى حنيفة ، وأحمد رحمهما الله في الرواية الأخرى .
وأصحاب القول الثاني يقولون : إنما لم يأخذها مِنْ مشركي العربِ ، لأنها إنما نزَلَ فرضُها بعد أن أسلمت دَارَةُ العرب ، ولم يبق فيها مُشِركٌ ، فإنها نزلت بعد فتح مكة ، ودخولِ العربِ في دين الله أفواجاً ، فلم يبق بأرض العرب مشرك ، ولهذا غزا بعد الفتح تبوكَ ، وكانُوا نصارى ، ولو كان بأرض العرب مشركون ، لكانُوا يلونه ، وكانوا أولى بالغزو من الأبعدين .
ومن تأمَّل السِّيَرَ ، وأيامَ الإسلام ، علم أن الأمرَ كذلك ، فلم تؤخذ منهم الجزيةُ لعدم مَن يُؤخذ عنه ، لا لأنهم ليسوا مِن أهلها ، قالوا : وقد أخذها من المجوس ، وليسوا بأهلِ كتاب ، ولا يَصح أنه كان لهم كتاب ، ورفع وهو حديث لا يثبُت مثلُه ، ولا يصح سنده .
ولا فرق بين عُبَّادِ النَّار ، وعُبَّاد الأصنام ، بل أهلُ الأوثانِ أقربُ حالاً من عُبَّادِ النار ، وكان فيهم مِن التمسك بدين إبراهيم ما لم يكُن في عُبَّاد النار ، بل عُبَّاد النار أعداءُ إبراهيم الخليل ، فإذا أُخِذَتْ منهم الجزية ، فأخذها من عُبَّاد الأصنام أولى ، وعلى ذلك تدل سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما ثبت في " صحيح مسلم " أنه قال : < إذا لَقيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ ، فادْعهُم إلى إِحْدَى خِلاَلٍ ثَلاَثٍ ، فَأيَّتهنَّ أَجَابُوكَ إِلَيْهَا ، فاقْبَلْ مِنْهُم ، وكُفَّ عنهم > . ثم أمرَه أن يَدْعُوَهُم إلى الإِسْلاَمِ ، أَو الجِزْيَةِ ، أو يُقَاتِلَهم .
وقال المغيرة لعاملِ كسرى : < أمرنا نبيُّنَا أن نُقاتِلَكم حتى تعبُدوا الله ، أو تؤدُّوا الجزية > .
وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لِقريش : < هَلْ لَكُمْ في كَلِمةٍ تَدِينُ لَكُمْ بِهَا العَرَبُ ، وتُؤدَّي العَجَمُ إِلَيْكُمُ بِهَا الجِزْيَةَ ؟ > . قالُوا : ما هي ؟ قال : < لاَ إِلَهََ إِلاَّ الله > .
ثم ذكر ابن القيم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل نجران على ألفي حلة ، النصف في صفر ، والبقية في رجب يؤدونها إلى المسلمين ، وعارية ثلاثين درعاً ، وثلاثين فرساً ، وثلاثين بعيراً ، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح ، يغزون بها ، والمسلمون ضامنون بها ، حتى يردوها عليهم ، إن كانت باليمن كيدة أو غدرة ، وعلى ألا يُهْدَم لهم بيعة ، ولا يخرج لهم قسّ ، ولا يفتنوا عن دينهم ، ما لم يحدثوا حدثاً ، أو يأكلوا الربا .
ولما وجه معاذاً إلى اليمن أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ مُحْتَلِمٍ دِينَاراً أَوْ قِيمَتَهُ مِنَِ الثياب .
وفى هذا دليل على أن الجزية غيرُ مقدَّرة الجنس ، ولا القدرِ ، بل يجوز أن تكونَ ثياباً وذهباً وحُللاً ، وتزيدُ وتنقُصُ بحسب حاجة المسلمين ، واحتمال مَن تؤخذ منه ، وحاله في الميسرة ، وما عنده من المال .
ولم يفرِّق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا خلفاؤه في الجزية بين العربِ والعجم ، بل أخذها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من نصارى العرب ، وأخذها مِن مجوس هجر ، وكانوا عرباً ، فإن العرب أمةٌ ليس لها في الأصل كتاب ، وكانت كل طائفة منهم تدين بدين مَن جاورها من الأُمم ، فكانت عربُ البحرين مجوساً لمجاورتها فارِسَ ، وتنوخَ ، وبُهْرَة ، وبنو تغلب نصارى لمجاورتهم للروم ، وكانت قبائلُ من اليمن يهود لمجاورتهم ليهود اليمن ، فأجرى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحكامَ الجِزية ، ولم يعتبر آباءهم ، ولا متى دخلُوا في دينِ أهل الكتاب :
هل كان دخولهم قبل النسخ والتبديل أو بعده ، ومن أين يعرِفُونَ ذلك ، وكيف ينضبط وما الذي دلَّ عليه ؟ وقد ثبت في السير والمغازي ، أن من الأنصار مَن
تهوَّد أبناؤهم بعد النسخ بشريعة عيسى ، وأراد آباؤهم إكراههم على الإسلام ، فأنزل الله تعالى : { لا إكْرَاهَ في الدِّينِ } ، وفى قوله لمعاذ : < خُذْ مِنْ كُلِّ حالم ديناراً > دليل على أنها لا تُؤخذ من صبى ولا امرأة .
السابع : قال الإمام أبو يوسف رحمه الله في كتابه " الخراج " :
وليس في شيء من أموالهم ، الرجال منهم والنساء ، زكاة ، إلا ما اختلفوا به في تجارتهم ، فإن علهيم نصف العشر ، ولا يؤخذ من مال حتى يبلغ مائتي درهم ، أو عشرين مثقالاً من الذهب ، أو قيمة ذلك من العروض للتجارة ، ولا يضرب أحد من أهل الذمة في استيدائهم الجزية ، ولا يقاموا في الشمس ولا غيرها ، ولا يجعل عليهم في أبدانهم شيء من المكاره ، ولكن يرفق بهم ، ويحبسون حتى يؤدوا ما عليهم ، ولا يخرجون من الحبس حتى تستوفي منهم الجزية ، ولا يحل للوالي أن يدع أحداً من النصارى واليهود والمجوس والصابئين والسامرة ، إلا أخذ منهم الجزية ، ولا يرخص لأحد منهم في ترك شيء من ذلك ، ولا يحل أن يدع واحداً ويأخذ من واحد ، ولا يسع ذلك ، لأن دماءهم وأموالهم إنما أحرزت بأداء الجزية ، والجزية بمنزلة مال الخراج .
ثم قال أبو يوسف مخاطباً هارون الرشيد :
وقد ينبغي يا أمير المؤمنين - أيدك الله - أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم ، والتفقد لهم حتى لا يُظلموا ولا يؤذوا ، ولا يُكلفوا فوق طاقتهم ، ولا يُؤخذ شيء من أموالهم إلا بحق يجب عليهم ، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه > . وكان فيما تكلم به عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه عند وفاته : أُوصِي الخليفة من بعدي بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفي لهم بعهدهم ، وأن يقاتل من ورائهم ، ولا يكلفوا فوق طاقتهم .
قال : وحدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد أنه مرّ على قوم قد
قال : أقيموا في الشمس في بعض أرض الشام ، فقال : ما شأن هؤلاء ؟ فقيل له أقيموا في الشمس في الجزية ! قال : فكره ذلك ، ودخل على أميرهم ، وقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < من عذب الناس عذبه الله > .
قال : وحدثنا هشام بن عروة عن أبيه أن عُمَر بن الخطاب مرّ بطريق الشام وهو راجع في مسيره من الشام على قوم قد أقيموا في الشمس ، يصبّ على رؤوسهم الزيت ، فقال : ما بال هؤلاء ؟ فقال : عليهم الجزية لم يؤدوها ، فهم يعذبون حتى يؤدوها ! فقال عمر : فما يقولون هم وما يعتذرون به في الجزية ؟ قالوا : يقولون لا نجد ! قال : فدعوهم لا تكلفوهم ما لا يطيقون .
فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < لا تعذبوا الناس ، فإن الذين يعذبون الناس في الدنيا ، يعذبهم الله يوم القيامة وأمر بهم فخلي سبيلهم > .
ثم قال : وحدثني عمير بن نافع عن أبي بكر قال : مرّ عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه بباب قوم وعليه سائل يسأل ، شيخ ضرير البصر ، فضرب عضده من خلفه وقال : من أي : أهل الكتاب أنت ؟ فقال : يهودي . قال : فما ألجأك إلى ما أرى ؟ قال : أسأل الجزية ، والحاجة والسن ، قال : فأخذ عمر بيده ، وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل ، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال : انظر هذا وضرباءه ، فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شيبته ، ثم نخذله عند الهرم : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } والفقراء المسلمون ، وهذا من المساكين من أهل الكتاب .
ووضع عنه الجزية وعن ضربائه . قال : قال أبو بكر : أنا شهدت ذلك من عمر ، ورأيت ذلك الشيخ . انتهى .
الثامن : في الغرض من الجزية ورأفة المسلمين بمن أظلوهم بسيوفهم .
قال الإمام الشيخ محمد عبده مفتي مصر في كتاب " الإسلام والنصرانية " في هذا المعنى ، تحت بحث المقابلة بين الإسلامي الحربيّ ، المسيحية السلمية ، ما نصه ص 74 :
الإسلام الحربي ، كان يكتفي من الفتح بإدخال الأرض المفتوحة تحت سلطانه ، ثم يترك الناس ، وما كانوا عليه من الدين ، يؤدون ما يجب عليهم في اعتقادهم كما شاء ذلك الإعتقاد ، وإنما يكلفهم بجزية يدفعونها ، لتكون عوناً على صيانتهم ، والمحافظة على أمنهم في ديارهم ، وهم في عقائدهم ومعابدهم وعاداتهم بعد ذلك أحرار ، لا يضايقون في عمل ، ولا يضامون في معاملة ، خلفاء المسلمين ،
كانوا يوصون قوادهم باحترام العبَّاد الذين انقطعوا عن العامة في الصوامع والأديار لمجرد العبادة ، كما كانوا يوصونهم باحترام دماء النساء والأطفال ، وكل من لم يُعِن على القتال .
جاءت السنة المتواترة بالنهي عن إيذاء أهل الذمة ، وبتقرير ما لهم من الحقوق على المسلمين ، لهم ما لنا ، وعليهم ما علينا ، ومن آذى ذمياً فليس منا واستمر العمل على ذلك ما استمرت قوة الإسلام ، ولست أبالي إذا انحرف بعض المسلمين عن هذه الأحكام عندما بدأ الضعف في الإسلام وضيقُ الصدر من طبع الضعيف ، فذلك مما لا يلصق بطبيعته ، ويخلط بطينته .
المسيحيةُ السلمية كانت ترى لها حق القيام على كل دين يدخل تحت سلطانها ، تراقب أعمال أهله ، وتخصصهم دون الناس بضروب من المعاملة لا يحتملها الصبر ، مهما عظم ، حتى إذا تمت لها القدرة على طردهم بعد العجز عن إخراجهم من دينهم ، وتعميدهم ، أجلتهم عن ديارهم ، وغسلت الديار من آثارهم ، كما حصل ويحصل في كل أرض استولت عليها أمة مسيحية استيلاءً حقيقياً ، لا يمنع غيرَ المسيحي من تعدي المسيحي إلا كثرة العدد ، أو شدة العضد ، كما شاهد التاريخ ، وكما يشهده كاتبوه .
ثم قال : فأنت ترى الإسلام يكتفي من الأمم والطوائف التي يغلب على أرضها ، بشيء من المال ، أقل مما كانوا يؤدونه من قبل تغلّبه عليهم ، وبأن يعيشوا في هدوء ، لا يعكرون معه صفو الدولة ، ولا يخلّون بنظام السلطة العامة ، ثم يرخي لهم بعد ذلك عنان الإختيار في شؤونهم الخاصة بهم ، لا رقيب عليهم فيها إلا ضمائهم . انتهى .
وفي كتاب " أشهر مشاهير الإسلام " في بحث إجلاء أهل نجران ما نصه :
إن أساس الدعوة إلى الإسلام التبليغ ، وأنه لا إكراه في الدين ، فمن قبلها كان من المسلمين ، ومن أبى فعليه أن يخضع لسلطانهم ، وأن يعطيهم جزءاً من ماله يستعينون به على حماية ماله وعرضه ونفسه ، وله عليهم حق الوفاء بما عاهدوه عليه ، وقال : لا يُفْتَنَ عن دينه ، وأن تكون له الذمة والعهد أنَّى حل ، وحيثما وجد من ممالك الإسلام ، ما دام وافياً بعهده ، مؤدياً لجزيته ، لا يخون المسلمين ، ولا يمالئ عليهم عدوّهم ، وأحسن شاهد على هذا نسوقه إليك في هذا الفصل ، خبر أهل نجران اليمن ، وكانوا من الكتابيين ، لتعلم كيف كانت معاملة أهل الذمة ، ومبلغ محافظة الخلفاء على عهودهم معهم ، ما لم يخونوا أو يغدروا .
وتحرير الخبر عنهم أنهم وفَدَ وفْدُهُمْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعاهم إلى الإسلام فأبوا ، وسألوه الصلح ، وأن يقبل منهم الجزاء ، فصالحهم على شيء معلوم ، يؤدونه كل سنة للمسلمين وكتب لهم بذلك كتاباً جعل لهم فيه ذمة الله وعهده ، وأن لا يفتنوا عن دينهم ، ومراتبهم فيه ، ولا يحشروا ولا يعشروا ، وأن يؤمنوا على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم ، وغائبهم وشاهدهم وعيرهم ، وبعثهم وأمثلتهم . لا يغير ما كانوا عليهن ولا يغير حق من حقوقهم ، ولا يطأ أرضهم جيش ومن سأل منهم حقاً فبينهم النصف ، غير ظالمين ولا مظلومين ، ولهم على ذلك جوار الله ، وذمة رسوله أبداً ، حتى يأتي أمر الله ، ما نصحوا وأصلحوا .
واشترط عليهم أن لا يأكلوا الربا ، ولا يتعاملوا به .
ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، أقرهم على حالهم ، وكتب لهم كتاباً على نحو كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع أنه كان يتخوفهم ، ويود إجلاءهم لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < لا يبقين في جزيرة العرب دينان > .
ولما حضر أبا بكر الوفاة ، أوصى عُمَر بن الخطاب بإجلاءهم لنقضهم العهد بإصابتهم الربا .
فانظر كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى أن لا يجتمع في جزيرة العرب دينان ، لأن العرب أمة حديثة عهد بالإسلام ، قد عانى صلى الله عليه وسلم ما عانى في جمع كلمتها ، وتوحيد وجهتها ، فمن الخطر أن يوجد بين ظهرانيها قوم يدينون بغير دينها ، فيفتنون من جاورهم عن الإسلام ، على حداثة عهدهم فيه ، وعدم تمكنهم بعدُ من أصوله الصحيحة .
هذا من وجه ، ومن وجه آخر ، فإن النجرانيين كانوا يتاجرون بالربا ، ولا يخفى ما فيه من الضرر على من جاورهم من أهل اليمن ، الذين ينضب التعاملُ بالربا معينَ ثروتهم ، ويؤذن بفقرهم ، على غير شعور منهم ، لا سيّما وأن الشريعة الإسلامية قد حرمته تحريماً باتاً ، ولا يؤمن من أن النجرانيين ، باستمرارهم على تعاطي الربا ، يحملون بعض من جاورهم من المسلمين على ارتكاب الإثم بالتعامل معهم بالربا .
ومع هذه الأسباب التي تلجيء إلى إكراه النجرانيين على الإسلام ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم
يكرههم على ذلك ، لأن شريعته لم تأذن بإكراه أهل الكتاب على الإسلام ، لهذا تركهم على دينهم ، بعد أن دعاهم إلى الإسلام بالتي هي أحسن ، فأبوا ، وأعطاهم كتاب العهد المذكور ، إلا أنه اشترط عليهم فيه أن لا يخونوا المسلمين ، ولا يتعاملوا بالربا كما رأيت .
ولما استُخْلِفَ أبو بكر أكد لهم عهدهم الأول ، مع أنه كان يرى في وجودهم في جزيرة العرب من الخطر ما كان يراه النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يسعه في أمرهم إلا ما وسع الرسول صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا علم أنهم خانوا العهد ، وتعاملوا بالربا ، أمر في حال مرضه عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بإجلائهم عن جزيرة العرب ، دون أن يُفتنوا في دينهم .
ولما استُخْلِف عمر رضي الله عنه ، كان أول بعث بعثه ، بعث أبي عبيد إلى العراق ، وبعث يعلى بن أمية إلى اليمن ، وأمره بإجلاء أهل نجران ، وأن يعاملهم بالرأفة ويشتري أموالهم ، ويخيرهم عن أرضهم في أي : أرض شاءوا من بلاد الإسلام ، لا أن يعاملهم معاملة القوي الغالب ، للضعيف المغلوب ، كما هو شأن كل دولة من الدول قبل الإسلام وبعده ، حتى الآن ، في معاملة الأمم التي تخالف مذهبها ، وتخضع لقوة سلطانها ، فتفرقوا ، فنزل بعضهم الشام ، وبعضهم النجرانية بناحية الكوفة ، وبهم سميت .
ولم تقف العناية بهم في إجلائهم ، والمحافظة على ما بيدهم من العهد ، وتعويضهم عما تركوه من العقار والمال عند هذا الحد ، بل كانوا يجدون بعد ذلك من الخلفاء كل رعاية ورفق .
من ذلك أنهم شكوا مرة إلى عثمان رضي الله عنه - لما استخلف - ضيقَ أرضهم ، ومزاحمة الدهاقين لهم ، وطلبوا إليه تخفيف جزيتهم ، فكتب إلى الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، عامله على الكوفة ، كتاباً يوصيه بهم ، ويأمره أن يضع عنهم مائتي حلة من جزيتهم ، لوجه الله ، وعقبى لهم من أرضهم .
وروى البلاذري ، أنه لما ولي معاوية ، أو يزيد بن معاوية ، شكوا إليه تفرقهم ، وموت من مات منهم ، وإسلام من أسلم منهم ، وأحضروه كتاب عثمان بن عفان ، بما حطهم من الحلل ، وقالوا : إنما ازددنا نقصاناً وضعفاً ، فوضع عنهم مائتي حلة تتمة أربعمائة حلة .
فلما ولي الحجّاجُ العراق ، وخرج ابن الأشعث عليه ، اتهمهم والدهاقين بموالاته ، فردّ جزيتهم إلى ما كانت عليه .
فلما ولَي عُمَر بن عبد العزيز الخلافة ، شكوا إليه ظلم الحجاج ونقصهم ، فأمر فأحصوا فبلغوا العشر من عدتهم ، فألزمهم مائتي حلة جزية عن رؤوسهم فقط .
فلما ولي يوسف بن عُمَر العراق ، في خلافة الوليد بن يزيد الأموي ردّهم إلى ما كانوا عليه ، عصبيةً للحجاج .
فلما
انقضت دولة الأموي واستخلف أبو العباس السفاح ، رفعوا إليه أمرهم ، وما كان من عُمَر بن عبد العزيز ويوسف بن عُمَر ، فردّهم إلى مائتي حلة ولما استخلف هارون الرشيد شكوا إليه تعنت العمال معهم ، فأمر فكُتب لهم كتاب بالمائتي حلة ، وبالغ بالرفق بهم ، فأمر أن يعفوا من معاملة العمال ، وأن يكون مؤداهم بيت المال بالحضرة ، كي لا يتعنتهم أحد من العمال .
هذا ما رواه المؤرخون في شأن هؤلاء الكتابيين الذين أجلاهم عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه عن جزيرة العرب .
وقد رأيت مما مرّ مبلغ عناية عمر رضي الله عنه بهم ، لما لم ير بُدَّاً من إجلائهم للأسباب التي مر ذكرها .
وقد كان من السهل إكراههم على الإسلام ، ودخولهم فيه ، كما دخل أولئك الملايين من مشركي العرب ، وعامة سكان الجزيرة العربية ، طوعاً أو كرهاً .
وإنما هو الشرع الإسلامي ، منع من إكراه غير مشركي العرب على الإسلام ، كما منع من نقض العهد ، وخفر الذمة إلا بسبب مشروع .
لهذا ، لما خان النجرانيون عهدهم بتعاملهم بالربا ، وقد عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يتعاملوا به في الجزيرة ، ساغ لأمير المؤمنين إجلاؤهم إلى غيرها ، بعد أن عوّضهم عن المال والعقار بمثله .
وما زال الخلفاء بعده ـ مبالغة بالرفق بأهل الكتاب ، وقياماً بواجب السيادة العادلة ، ووفاء بعهد الله والرسول - يعاملون النجرانيين بأحسن ما تعامل به عامة الرعية من المسلمين ويدفعون عنهم أذى الظلم والإجحاف كما رأيت .
ونتج من هذه القصة ثلاثة أمور :
الأمر الأول : عدم إكراه النجرانيين على الإسلام ، مع تعيّن الخطر من وجودهم في جزيرة العرب ، لحداثة عهد أهلها بالإسلام ، ذلك لأن عدم الإكراه من أصول الشريعة الإسلامية ، والجهادُ الذي يعظم أمرَه أعداءُ المسلمين إنما شرع لحماية الدعوة لا للإكراه ، إلا جهاد مشركي العرب يومئذ ، فقد شرع لإرغامهم على الإسلام ، لأسباب حكيمة لا تخفى على بصير ، أهمها تطهير نفوس تلك الأمة العظيمة من شرور الوثنية ، واستئصال شأفة الجهل والتوحش من جزيرة العرب ، التي كانت وسطاً بين ممالك الشرق والغرب ، من آسيا وإفريقيا وأوربا ، بل هي نقطة الصلة السياسية والتجارية بين تلك الممالك ، فانتشار أنوار المدنية والدين فيها ، يستلزم انتشارها بطبيعة المجاورة ، والإشراف على تلك الممالك أيضاً ، قد كان ذلك كما هو معلوم .
والأمر الثاني : عدم حيد الخلفاء عن أمر الشارع فيما أمر به من الوفاء بالعهود ، وتأكيدهم لعهد النجرانيين ، الواحد تلو الآخر ، على ضعف هؤلاء وقلتهم ، وقوة الخلافة الإسلامية وسلطانها ، وإن ذلك لم يكن عن رهبة أو رغبة ، بل عن محض تمسك بالعهد ، وعدل بين الشعوب الخاضعين لسلطة الخلافة ، وسلطان الإسلام ، من كل ملة ودين .
والأمر الثالث : حرص أمير المؤمنين عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه على قاعدة حماية الذميّ في نفسه وماله ، بتعويضه النجرانيين عن أرضهم ومالهم بالمثل من أرض المسلمين ومالهم ، لما قضت الضرورة بإجلائهم عن أرضهم ، إلى غيرها من بلاد المسلمين .
وقد ذكر في سيرة أبي بكر عن عمر رضي الله عنهما ما فعله من هذا القبيل من أهل عَرْبَسُوسَ من ثغور الروم ، وكيف أنه لما أمر بإجلائهم عن أرضهم لخيانتهم جوار المسلمين ، ونكثهم عهد الأمانة والصدق ، أمر بأن يعوّضوا عن مالهم وعقارهم ونعمهم ضعفين .
وما زال الخلفاء في أيام الفتوح العظيمة وما بعدها يحافظون على حق القرار
الثابت ، والملك القديم ، للأقوام المغلوبين للمسلمين ، الخاضعين لسلطانهم ، سواء كانوا من المسيحيين أو غيرهم ، ولم يؤثر عن أحد منهم أنه طرد قوماً من أرضهم ، أو انتزعها منهم بغير حق ولا عوض .
لا عبرة بما ربما يقع من هذا القبيل على بعض الأفراد من جور بعض العمال الذين غلبت شهواتهم على الفضيلة ، فحادوا عن طريق الشرع ، فإنه قد يصيب أفراد المسلمين من جور هؤلاء أكثر مما يصيب غيرهم ، وليس في هذا ما يقدح في أصول الحكم الإسلامي الذي يأبى الظلم ، ويدعو إلى الرأفة والعدل ، هذا شان الإسلام في المحافظة على حقوق الأمم المغلوبة .
وقد رأيت مما تقدم أنه لم يعط للمسلمين من حقوق الغلب التي ينتحلها الغالبون في كل عصر ، إلا ما تدعو إليه الضرورة القصوى ، وتستلزمه سلامة الملك والدين ، لا ما تدعو إليه شهوات الملك ، ورغبات الأمة الغالبة .
وقد علم هذا المسلمون وخلفاؤهم ، وأن لأهل الذمة ما لهم ، وعليهم ما عليهم ، فبالغوا في الرأفة بأهل جوارهم ، والداخلين في ذمتهم من أرباب الملل الأخرى ، فتركوا لهم حرية التملك والدين ، لم ينازعوهم حقاً من حقوق المواطنة والجوار ، بل كانوا يعتبرونهم جزءاً من الدولة ، وعضواً من أعضاء مجتمعهم لا غنى عن مشاركته في العمل ، ومشاطرته أسباب السعادة المدنية ، والحياة الوطنية .
يؤيد هذا اعتماد الخلفاء الأمويين والعباسيين على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في ترتيب الدواوين
الخراج .
وترجمة علوم اليونان ، وتقريب النابغين منهم في علوم الهندسة والطب إليهم ، واعتمادهم في شفاء عللهم عليهم ، بل بلغ بالمسلمين اعتبارهم لأهل الكتاب عضواً من جسم هيأتهم الإجتماعية ، لا يجوز فصله في حال من الأحوال أن جيوش التتار ، لما اكتسحت بلاد الإسلام من حدود الصين إلى الشام ، ووقع في أسرهم من وقع من
المسلمين والنصارى ، ثم خضد المسلمون شالذمة ، تار في الشام ، ودان ملوكهم بالإسلام ، خاطب شيخُ الإسلام ابن تيمية رأس العلماء في عصره أميرَ التتار قطلوشاه بإطلاق الأسرى ، فسمح له بالمسلمين ، وأبى أن يسمح له بأهل الذمة ، فقال له شيخ الإسلام : لا بد من افتكاك جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا ، ولا ندع أسيراً لا من أهل الملة ، ولا من أهل الذمة ، فأطلقهم له . انتهى .
ومنه يعلم شأن الحكم الإسلاميَ في أهل الذمة ، ومبلغ عناية الخلفاء والعلماء بهم . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } [ 30 ] .
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ } جملة مبتدأة ، سيقت لتقرير ما مر من عدم إيمان أهل الكتابين بالله سبحانه ، وانتظامهم بذلك في سلك المشركين .
وقرئ ( عزيرٌ ) بالتنوين على الأصل ، وحذفه لالتقاء الساكنين على غير القياس تخفيفاً ، وهو مبتدأ وما بعده خبره ، ولهم أوجه أخرى في إعرابه ، والوجه ما ذكرناه .
وليعلم أن الذي دعا الفريقين إلى مقاليهما هو الغلوّ في التعظيم ، فأما اعتقاد النصارى فهو مشهور معلوم ، تكفل التنزيل الكريم بذكره مراراً ، ودحر شبهه .
وأما اليهود في عزير فغلاتهم أوجهلتهم يتفوهون بهذه الكلمة الشنعاء ، وأما بقيتهم فيعتبرونه في مقام موسى ، ويحترمون دائماً ذكره ، ويعتقدون أن الله تعالى قد أقامه لجمع التوراة المبددة .
ولتجديد الملة الموسوية ، وإرجاعها إلى عهدها ، وإصلاح ما
فسد من آدابها وعوائدها ، بإلهام ، فإن نسخة التوراة الأصلية ، وبقية أسفارهم ، فقدت لما أغار أهل بابل ، جند بخت نصّر على بيت المقدس ، وهدموه ، وسبوا أهله إلى مملكتهم بابل ، وأقاموا هناك سبعين سنة ، ثم لما نبغ فيهم عزير واشتهر ، واستعطف أحد ملوكهم في سراحهم ، فأطلق له الملك الإجازة ، فعاد من بابل بمن بقي من اليهود إلى بيت المقدس ، وجدد ما اندثر من الشريعة الموسوية .
قال بعض الكتابيين في قاموس له : زعم اليهود أن أئمتهم عقدوا مجمعاً في عهد عزرا وجمعوا الأسفار العبرانية في قانون متعارف عندهم اليوم ، وضموا إليه ما لم يكن من قبل جلاء بابل .
وفي " الذخيرة " من كتبهم ما نصه : أجمع القوم على أن عزرا الذي كان خبيراً بآثار وطنه وقدمها ، وماهراً بمعرفة الطقوس اليهودية ، وبارعاً بالعلوم المقدسة ، هو أول من قرر هذا القانون ، وأثبت أجزاءه المختلفة ، بعد الأسر البابلي في نحو السنة 542 قبل ميلاد المسيح ، ولما تفرقت التوراة آن الجلاء ، قام عزرا وجمع ما وجد من النسخ المتناثرة ، دعوه : منها نسخة صححها ونقحها ما استطاع ، وبدل أسماء الأماكن التي انتسخ ثَمَّ استعمالُها ، بأسماء أخرى أشهر في عرفهم ، ونسق الكل نسقاً محكماً ، واتفق الجميع على أنه اعتاض في كل الأسفار عن حروف الخط العبراني بحروف كلدانية ، ألف استعمالها اليهود مدة أسرهم الذي استمر سبعين سنة . انتهى .
فلهذا العمل المهم عندهم دعوه : ابنا . وفيه من الجراءة على المقام الرباني ما فيه . ولو زعموا إرادة المجاز في ذلك ، فلا مناص لهم من لحوق الكفر بهم ، فإنه يجب الإحتياط في تنزيهه تعالى ، حتى بعفة اللسان ، عن النطق بما يوهم نقصاً في جانبه ، فيتبرأ من مثل هذا اللفظ مطلقاً ومن كل ما شاكله .
هذا وقد قيل إن القائل لذلك بعض من متقدميهم ، وقيل ناس من أهل المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا دلالة في الآية على واحد منهما بخصوصه ، ونسبة الشيء القبيح إذا صدر من بعض القوم إلى الكل ، مما شاع .
لطيفة :
قرئ ( عزيرٌ ) بالتنوين على الأصل ، لأنه منصرف ، وقرئ بحذفه لالتقاء الساكنين على غير القياس ، لا لأنه أعجمي غير منصرف للعلمية والعجمية ، كما قيل ، لأن ذلك إنما يصح لو كان على لفظه الأصلي ، وهو عزراء أو عزريا
لفظان عبرانيان ، معنى الأول معين ، والثاني الله مساعد ، أما وقد تصرفت فيه العرب بالتصغير ، فلا .
وظاهر أن أغلب الأسماء القديمة ، لانتقالها من أمة إلى أخرى وكثرة تداولها ، تطرق إليها من شوائب التحريف ، والزيادة والنقصان ، ما غير صيغتها الأصلية بعض التغيير ولما استعملت العرب ، من الأسماء العبرانية ونحوها ما أدخلته إلى لغتها ، إما منحوتة من القديمة ، أو محرفة منها ، أصبحت بالإصطلاح من قبيل الأعلام العربية ، إلا ما بقي على وضعه الأول .
وقوله تعالى : { ذَلِكَ } إشارة إلى ما صدر عنهم من العظيمتين ، وما فيه من معنى البعد ، للدلالة على بعد درجة المشار إليه في الشناعة والفظاعة . قاله أبو السعود .
{ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } قال الزمخشري : فإن قلت : كل قول يقال بالفم ، فما معنى
{ بأفواههم } قلت فيه وجهان :
أحدهما : أن يراد به أنه قول لا يعضده برهان ، فما هو إلا لفظ يفوهون به ، فارغ من معنى تحته ، كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم ، لا تدل على معان .
وذلك أن القول الدال على معنى ، لفظه مقول بالفم ، ومعناه مؤثر في القلب ، وما لا معنى له ، مقول بالفم لا غير .
والثاني : أن يراد بالقول المذهب ، كقولهم : قول أبي حنيفة ، يريدون مذهبه ، وما يقول به ، كأنه قيل : ذلك مذهبهم وديتهم بأفواههم ، لا بقلوبهم ، لأنه لا حجة معه ولا شبهة ، حتى يؤثر في القلوب .
وذلك أنهم إذا اعترفوا أنه لا صاحبة له ، لم تبق شبهة في انتفاء الولد . انتهى .
وثمَةَ وجه ثالث شائع في مثله ، وهو التأكيد لنسبة هذا القول إليهم ، مع التعجيب من تصريحهم بتلك المقالة الفاسدة .
قال بعضهم : القول قد ينسب إلى الأفواه وإلى الألسنة ، والأول أبلغ .
{ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ } أي : يضاهئ قولهم قولَ الذين كفروا من قبلهم من الأمم ، فضلوا كما ضل أولئك .
قيل : المراد بـ : { الذِين كَفَرُوا } مشركوا مكة ، القائلون بأن الملائكة بنات الله ، وهذا يتم إن أريد باليهود والنصارى في الآية ، يهود المدينة ونصارى نجران في عهده صلى الله عليه وسلم ، وهو وجه في الآية كما تقدم ، فإنهم سُبِقوا من أهل مكة بالكفر به صلى الله عليه وسلم .
وقيل : المراد بهم قدماؤهم ، يعني أن من كان في
زمنه صلى الله عليه وسلم منهم ، يضاهئ قولهم قول قدمائهم ، والمراد عراقتهم في الكفر ، أي : أنه كفر قديم فيهم غير مستحدث .
قال أبو السعود : وفيه أنه لا تعدد في القول ، حتى يتأتى التشبيه ، وجعله بين قولي الفريقين ، مع اتحاد المقول ، ليس فيه مزيد مزيّة .
وقيل : الضمير للنصارى ، أي : يضاهئ قولُهُم : { الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } قولَ اليهود
{ عُزَيْرٌ } الخ لأنهم أقدم منهم .
قال أبو السعود : وهو أيضاً كما ترى ، فإنه يستدعي اختصاص الرد والإبطال بقوله تعالى : { ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ } ، بقول النصارى . انتهى .
والمضاهاة المشابهة ، يقال : ضاهيت ، وضاهأت - كما قاله الجوهري - وقراءة العامة يضاهون ، بهاء مضمومة بعدها واو .
وقرأ عاصم بهاء مكسورة بعدها همزة مضمومة ، وهما بمعنى من المضاهأة ، وهي المشابهة ، وهما لغتان .
وقيل : الياء فرع عن الهمزة ، كما قالوا : قريت وتوضيت وأخطيت .
{ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ } أي : لعنهم أو قتلهم ، أو عاداهم أو تعجب من شناعة قولهم .
{ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي : كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ 31 ] .
{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } زيادة تقرير لما سلف من كفرهم بالله تعالى ، وفيه وصفهم بنوع آخر من الشرك .
والأحبار علماء اليهود جمع حَبِْر ، بكسر الحاء وفتحها ، وهو العالم بتحبير الكلام وتحسينه ـ كذا ذكره أئمة اللغة - قال بعضهم : الحبر أعظم الأشراف بين الإسرائيليين ، يكون عندهم وسيلة للتقرب لله ، ومرتبة وراثية في آل هارون ، يكون بكر أشيخ من فيها . انتهى .
و الرهبان جمع راهب ، بمعنى المتعبد الخاشع الزاهد ، وأصل الترهب عن النصارى ، التخلي عن أشغال الدنيا ، وترك ملاذّها والزهد فيها ، والعزلة عن أهلها .
وفي الحديث < لا رهبانية في الإسلام > . وقوله تعالى : { أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } ، قال الرازي : الأكثرون من المفسرين قالوا : ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا فيهم أنهم آلهة العالم ، بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم ، أي : لما روى الترمذي عن عدي بن حاتم قال : أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال : < يا عدي ! اطرح عنك هذا الوثن > . وسمعته يقرأ في سورة براءة : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } قال : < أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه ، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه > .
وروى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق ، عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرَّ إلى الشام ، وكان قد تنصر في الجاهلية فأسرت أخته وجماعه من قومه ، ثم منّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على أخته ، وأعطاها ، فرجعت إلى أخيها ، فرغَّبته في الإسلام ، وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقدم عدي المدينة ، وكان رئيساً في قومه طيئ ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم ، فتحدث الناس بقدومه ، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة ، وهو يقرأ هذه الآية : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم ، فقال < بلى إنهم حرّموا عليهم الحلال ، وأحلوا لهم الحرام ، فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم > .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < يا عدي ! ما تقول ؟ أيضرك أن يقال : الله أكبر ؟ فهل تعلم شيئاً أكبر من الله ؟ ما يضرك أن يقال : لا إله إلا الله ، فهل تعلم إلهاً غير الله > ؟ ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق .
قال فلقد رأيت وجهه استبشر ، ثم قال : < إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون > .
قال ابن كثير : وهكذا قال حذيفة بن اليمان وابن عباس وغيرهما في تفسير هذه الآية ، أنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا .
وقال السدّي : استنصحوا الرجال ، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم .
وقد ذكر بعض المفسرين وجهاً في تفسير اتخاذهم أرباباً ، قال : بأن أطاعوهم بالسجود لهم .
قال الشهاب : والأول هو تفسير النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فينبغي الاقتصار عليه ، لأنه لما أتاه عديّ بن حاتم وهو يقرؤها قال له : إنا لم نعبدهم ، فقال : < ألم تتبعوهم في التحليل والتحريم ؟ فهذه هي العبادة > ، والناس يقولون : فلان يعبد فلاناً ، إذا أفرط في طاعته ، فهو استعارة بتشبيه الإطاعة بالعبادة ، أو مجاز مرسل بإطلاق العبادة ، وهي طاعة مخصوصة على مطلقها ، والأول أبلغ . انتهى .
فقال : رازي : قال الربيع : قلت لأبي العالية : كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل ؟ فقال : إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار والرهبان ، فكانوا يأخذون بأقوالهم ، وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى .
قال الرازي : قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي الله عنه : قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء ، قرأت عليهم آيات كثيرة في كتاب الله تعالى في بعض مسائل ، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات ، فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها ، وبقوا ينظرون إليّ كالمتعجب ، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات ، مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها ؟ ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من أهل المدينة . انتهى .
{ وَمَا أُمِرُوا } أي : والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا في كتابهم : { إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً } أي : يطيعوا أمره ، ولا يطيعوا أمر غيره بخلافه ، وقوله : { لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } صفة ثانية لإله ، أو استئناف مقرر للتوحيد : { سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : به في العبادة والطاعة .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ
الْكَافِرُونَ } [ 32 ] .
{ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ } أي : يخمدوا حجته الدالة على وحدانيته ، وتقدسه عن الولد ، أو القرآن ، أو نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم { وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ } أي : بإعلاء التوحيد ، وإعزاز الإسلام { وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } أي : بدلائل التوحيد ، ذلك .
قال أهل المعاني : نور الله استعارة أصلية تصريحية لحجته أو ما بعدها ، لتشبيه كل منها بالنور في الظهر ، والإطفاء ترشيح ، أو هو استعارة تمثيلية ، شبه حالهم في محاولتهم إبطال النبوة بالتكذيب ، بحال من يطلب إطفاء نور عظيم ، منبث في الآفاق ، يريد الله أن يزيده بنفخه .
لطائف :
الأولى : قال الشهاب : روعي في كل من المشبه والمشبه به الإفراط والتفريط ، حيث شبه الإبطال بالإطفاء بالفم ، ونسب النور إلى الله ، ومن شأن النور المضاف إليه أن يكون عظيماً ، فكيف يطفأ بنفخ الفم ، مع ما بين الكفر الذي هو ستر وإزالة للظهور ، والإطفاء من المناسبة .
الثانية : لا يخفى أن قوله تعالى : { إِلَّا أَنْ يُتِمَّ } استثناء مفرغ ، وهو في محل نصب مفعول به ، والإستثناء المفرغ يكون في الفعل المنفي لا موجب ، إلا أن يستقيم المعنى .
وهنا صح التفريغ من الموجب وهو : { وَيَأبى اللهُ } لأنه نفى في المعنى ، لأنه وقع في مقابلة : { يُرِيدُونَ } وفيه من المبالغة والدلالة على الإمتناع ما ليس في نفي
الإرادة ، أي : لا يريد شيئا من الأشياء إلا إتمام نوره ، فيندرج في المستثنى منه بقاؤه على ما كان عليه ، فضلاً عن الإطفاء - أفاده أبوا السعود - .
وقال الزجاج : المستثنى منه محذوف تقديره : ويكره الله كل شيء إلا إتمام نوره .
قال الشهاب : فالمعنى على العموم المصحح للتفريغ عنده ، فللناس في توجيه التفريغ هنا مسلكان .
والحاصل أنه إن أريد كل شيء يتعلق بنوره بقرينة السياق ، صح إرادة العموم ، ووقوع التفريغ في الثابتات ، كما ذهب إليه الزجاج ، إذ ما من عامّ إلا وقد خُصِّص ، فكل عموم نسبي ، لكنه يكتفي به ، ويسمى عموماً .
ألا ترى
إن مثالهم قرأت إلا يوم كذا ، قد قدّره كل يوم ، والمراد من أيام عمره ، لا من أيام الدهر .
فإن نظر إلى الظاهر في أمثاله كان عامّاً ، واستغنى عن النفي ، وإن نظر إلى نفس الأمر ، فهو ليس بعام ، فيؤول بالنفي ، والمعنى فيهما واحد وإنما أوّل به هنا عند من ذهب إلى تأويله ، لاقتضاء المقابلة له ، إذ ما من إثبات إلا ويمكن تأويله بالنفي ، فيلزمه جريان التفريغ في كل شيء ، وليس كذلك ما صرح به الرضي .
ولذا قيل : الاستثناء المفرغ ، وإن اختص بالنفي ، إلا أنه قد يمال مع المعنى بمعونة القرائن ، ومناسبة المقامات ، فيجري بعض الإيجابات مجرى النفي في صحة التفريغ معها - ذكره الشهاب أيضاً - .
الثالثة : قال أبو السعود : وفي إظهار النور في مقام الإضمار مضافاً إلى ضميره عز وجل زيادة اعتناء بشأنه ، وتشريف له على تشريف ، وإشارة بعلة الحكم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [ 33 ] .
{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى } أي : القرآن الذي هو هدى للمتقين ، { وَدِينِ الْحَقِّ } أي : التوحيد الثابت الذي لا يزول { لِيُظْهِرَهُ } أي : الدين الحق { عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } أي : على سائر الأديان { وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } أي : أن يكون ذلك .
وجواب لو فيهما محذوف ، لدلالة ما قبله عليه ، وجملة : { هُوَ الَّذِي } الخ بيان وتقرير لمضمون الجملة قبلها ، لأن المراد من إتمام نوره إظهاره ولكونه بحسب المآل بمعناه ، ذيله بما ذيله به بعينه ، لكنه عبر عن الكافرين بالمشركين تفادياً عن صورة التكرار - كذا في " العناية " - .
وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < إن الله زوى لي الأرض ، مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها > .
وروى الإمام أحمد عن مسعود بن قَبِيصَة أو قَبِيصَة بن مسعود يقول : صلى هذا الحي من محارب الصبح ، فلما صلَّوا قال شاب منهم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها ، وإن عمالها في النار ، إلا من اتقى الله وأدى الأمانة > .
وأخرج أيضاً عن تميم الداري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين يعز عزيزاً ، ويذل ذليلاً ، عزّاً يعز الله به الإسلام ، وذلّاً يذل الله به الكفر > .
وكان تميم الداري يقول : قد عرفت ذلك في أهل بيتي ، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعزّ ، ولقد أصاب من كان كافراً منهم الذل والصغار والجزية .
وأخرج أيضاً عن المقداد بن الأسود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام ، يعز عزيزاً ، ويذل ذليلاً ، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها ، وإما يذلهم فيدينون لها > .
وأخرج أيضاً عن عدي بن حاتم قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < يا عدي ! أسلم تسلم > . فقلت : إني من أهل دين . قال : < أنا أعلم بدينك منك > . فقلت : أنت أعلم بديني مني ؟ قال : < نعم ألست من الرَّكوسية ، وأنت تأكل مرباع قومك ؟ > قلت : بلى ! قال :
< فإن هذا لا يحل لك في دينك > . قال فلم يعد أن قالها ، فتواضعتُ لها . قال : < إما إني أعلم ما الذي يمنعك عن الإسلام ، تقول : إنما اتبعه ضعفة الناس ، ومن لا قوة له ، وقد رمتهم العرب ، أتعرف الحيرة ؟ > قلت : لم أرها ، وقد سمعت بها . قال : < فو الذي نفسي بيده ! ليتمنّ الله هذا الأمر ، حتى تخرج الظعينة من الحيرة ، حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد ، ولتفتحنّ كنوز كسرى بن هرمز > ، قلت : كسرى بن هرمز ؟ قال : < نعم ! كسرى بن هرمز ، وليبذلنّ المال حتى لا يقبله أحد > .
قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة ، فتطوف بالبيت من غير جوار أحد ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ، والذي نفسي بيده ! لتكوننّ الثالثة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها .
وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزّى > ، فقلت : يا رسول الله ! إن كنت لأظن حين أنزل الله عز وجل : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } الآية ، إن ذلك تامّ ! قال : < إنه سيكون من ذلك ما شاء الله عز وجل ، ثم يبعث الله ريحاً طيبة ً ، فيتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيه ، فيرجعون إلى دين آبائهم > .
قال في " اللباب " : معنى الآية ليظهرن دين الإسلام على الأديان كلها ، وهو ألا يعبد الله إلا به .
وكذا روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : هذا وعد من الله تعالى بأنه يجعل الإسلام عالياً على جميع الأديان ، وتمام هذا إنما يحصل عند خروج عيسى .
وكذلك قال الضحاك والسدّي : لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام .
وقال الشافعي : قد أظهر الله دين رسوله صلى الله عليه وسلم على الأديان كلها ، بأن أَبَان لكل من سمعه أنه الحق وما خلفه من الأديان باطل ، وأظهره على الشرك دين أهل الكتاب ، ودين الأميين ، فقهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأميين حتى دانوا بالإسلام ، وأعطى بعضهم الجزية صاغرين ، وجرى عليهم حكمه .
قال : فهذا هو ظهوره على الدين كله . انتهى .
قلت : ما ذكره الشافعي هو من ظهوره ، والأدق ما تقدم ، من أنه سوف يعتنقه كل فرقة ، فإن ما تذهب إليه طوائف الإصلاح من الملل الأخرى لا يبعد الآن عن الإسلام إلا قليلاً .
ثم بيّن تعالى حال الأحبار والرهبان في إغوائهم لأراذلهم ، إثر بيان سوء حال الأتباع في اتخاذهم لهم أرباباً يطيعونهم في الأوامر والنواهي ، واتباعهم لهم فيما يأتون وما يذرون ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ 34 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ }
أي : بالطريق المنكر من الرّشا في الأحكام ، والتخفيف والمسامحة في الشرائع وغير ذلك .
والأكل مجاز عن الأخذ ، بعلاقة العلّية والمعلولية ، لأنه الغرض الأعظم منه ، وفيه من التقبيح لحالهم ، وتنفير السامعين عنه ما لا يخفى { وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي : عن دين الإسلام وحكمه ، واتباع الدلائل إلى ما يهوون ، أو عن المسلك المقرر في التوراة والإنجيل ، إلى ما افتروه وحرفوه .
ثم أشار إلى أن سبب ذلك هو إيثارهم حب المال وكنزه على أمر الله ، وتناسيهم وعيده في الكنز بقوله سبحانه : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } أي : يحفظونهما حفظ المدفون في الأرض { وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي : الذي هو الزكاة ، { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ } [ 35 ] .
{ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا } أي : يوقد عليها { فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ } أي : ويقال لهم ضمّاً إلى ما هم فيه ، هذا ما كنزتم { لأنْفُسِكُمْ } أي : لتتلذذوا به ، فكان سبب تعذيبها { فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ } أي : وباله ، وهو ألمه وشدته بالكي .
وفي هذه الآية فوائد :
الأولى : قال بعضهم في قوله تعالى : { لَيَأْكُلُونَ } دلالة على تحريم الرشا على الباطل ، وقد ورد < لعن الله الراشي والمرتشي > .
وكذا تحريم أخذ العوض على فعل الواجب ، وفي جواز الدفع ليتوصل إلى حقه خلاف .
رجح الجواز ليتوصل إلى الحق ، كالإستفداء .
قال الحاكم يدخل في تحريم الرشا الأحكام والشهادات والفتاوى وأصول الدين وفروعه ، وكل من حرّف شيئاً لغرض الدنيا . انتهى .
الثانية : في الآية - كما قال ابن كثير - تحذير من علماء السوء وعبّاد الضلال ، كما قال سفيان بن عيينة : من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ،
ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى .
وفي الحديث الصحيح : < لتركبن سَنَن من قبلكم حَذْوّ القذََّة بالقذَّةِ > ، قالوا : اليهود والنصارى ؟ قال : < فمن ؟ > ، وفي رواية : فارس والروم ؟ قال : < ومَن الناس إلا هؤلاء ؟ > . ثم أنشد لابن المبارك :
~وهل أَفْسَدَ الدينَ إلا الملو كُ ، وأحبارُ سوء ورهبانُهَا
الثالثة : قوله تعالى : { وَالَّذِينَ } مبتدأ ، والخبر : { يَكْنِزُونَ } أو منصوب تقديره : بشر الذين يكنزون .
والتعريف في الموصول للعهد والمعهود ، إما الأحبار والرهبان ، وإما المسلمون الكانزون ، لجري ذكر الفريقين ، وإما ما هو أعم .
والأول رُوِي عن معاوية ، والثاني عن السدّي ، والثالث عن ابن عباس وأبي ذرّ .
قال الزمخشري : يجوز أن يكون الموصول إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان ، للدلالة على اجتماع خصلتين مذمومتين فيهم : أخذ البراطيل ، وكنز الأموال والضن بها عن الإنفاق في سبيل الله .
ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنفقين ويقرن بينهم وبين المرتشين من اليهود والنصارى تغليظاً ، ودلالةً على أن من يأخذ منهم السحت ، ومن لا يعطي منكم طيب ماله ، سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم . انتهى .
قال في " الأنوار " : ويؤيد الثاني أنه لما نزل كبُر على المسلمين ، فذكر عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم > - رواه أبو داود والحاكم وصححه - .
وقوله صلى الله عليه وسلم : < ما أدي زكاته فليس بكنز > - أخرجه الطبراني
والبيهقي - أي : ليس بالكنز المتوعَّد عليه في الآية ، فإن الوعيد على الكنز مع عدم الإنفاق فيما أمر الله أن ينفق فيه .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : < من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها > ونحوه ، فالمراد منها : ما لم يؤد حقها ، لقوله صلى الله عليه وسلم ، فيما أورده
الشيخان : البخاري في " تاريخه " ، ومسلم في " صحيحه " ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : < ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها ، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار ، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره > . انتهى .
وقد اشتهرت محاورة معاوية لأبي ذر في هذه الآية .
روى البخاري عن زيد بن وهب قال : مررت بالربذة ، فإذا بأبي ذر ، فقلت : ما أنزلك هذا المنزل ؟ قال : كنت في الشام ، فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية :
{ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } فقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب ، فقلت : نزلت فينا وفيهم ، فكان بيني وبينه في ذلك كلام ، فكتب إلى عثمان يشكوني ، فكتب إليّ عثمان أن أقدم المدينة فقدمتها ، فكثر عليّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك ، فذكرت ذلك لعثمان ، فقال : إن شئت تنحيت ، فكنت قريباً .
فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ، ولو أُمِّر عليّ عبد حبشي لسمعت وأطعت .
ولإبن جرير في رواية ، بعد قول عثمان له : تَنح قريباً ، قلت : والله لن أدع ما كنت أقول .
وروى أبو يعلى أن أبا ذر كان يحدث ويقول : لا يبيتنّ عند أحدكم دينار ولا درهم ، إلا ما ينفقه في سبيل الله ، أو يعدّه لغريم .
فكتب معاوية إلى عثمان : إن كان لك بالشام حاجة ، فابعث إلى أبي ذرّ ، فكتب إليه عثمان أن أقدم عليّ ، فقدم .
قال ابن كثير : كان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال ، وكان يفتي بذلك ، ويحثهم عليه ، ويأمرهم به ، ويغلظ في خلافه ، فنهاه معاوية فلم ينته .
فخشي أن يضر بالناس في هذا ، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان ، وأن يأخذه إليه ، فاستقدمه عثمان إلى المدينة ، ثم أنزله بالربذة : وبها مات رضي الله عنه في خلافة عثمان .
وقد اختبره معاوية رضي الله عنه وهو عنده ، هل يوافق عمله قوله ، فبعث إليه بألف دينار ، ففرقها من يومه ، ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال : إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت فهات الذهب .
فقال : ويحك ! إنها خرجت ، ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به .
وقال الأحنف بن قيس : قدمت المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش ، إذ جاء رجل أخشن الثياب ، أخشن الجسد ، أخشن الوجه ، فقام عليهم فقال : بشر الكانزين
قال : فـ يحمى عليه في نار جهنم ، ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نُغْضِ كتفه ، ويوضع على نُغْضِ كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه ، يتزلزل .
قال : فوضع القوم رؤوسهم ، فما رأيت أحداً منهم رجع إليه شيئاً . قال : وأدبر واتبعتُه حتى جلس إلى معاوية فقلت : ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم ، فقال : إن هؤلاء لا يعلمون شيئاً ، إنما يجمعون الدنيا - رواه مسلم ، وللبخاري نحوه - .
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر : < ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهباً ، يمر عليّ ثلاثة أيام ، وعندي منه شيء ، إلا دينار أرصده لدين > .
قال ابن كثير : فهذا - والله أعلم - هو الذي حدا أبا ذر على القول بهذا .
أي : وما أخرجه الشيخان أيضاً عنه ، قال : انتهيت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة ، فلما رآني قال : < هم الأخسرون ورب الكعبة ! > قال : فجئت حتى جلست ، فلم أتقارّ حتى قمت فقلت : يا رسول الله ! فداك أبي وأمي ، من هم ؟ قال : < هم الأكثرون أموالاً ، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا ، من بين يديه من خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، وقليل ما هم > .
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن الصامت رضي الله عنه ، أنه كان مع أبي ذر ، فخرج عطاؤه ومعه جارية ، فجعلت تقضي حوائجه ، ففضلت معها سبعة ، فأمرها أن تشتري به فلوساً .
قال : قلت : لو ادخرته لحاجة يومك ، وللضيف ينزل بك قال : إن خليلي عهد إليّ أن أيّما ذهب أو فضة أوكئ عليه ، فهو جمر على صاحبه ، حتى يفرغه في سبيل الله عزّ وجلّ إفراغاً .
قال ابن عبد البر : وردت عن أبي ذر آثار كثيرة ، تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت ، وسداد العيش ، فهو كنز يذم فاعله ، وأن آية الوعيد
نزلت في ذلك ، وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم ، وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة ، وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابي ، حيث قال : هل عليّ غيرها قال : < لا ، إلا أن تَطَوَّعَ > . انتهى .
وبالجملة ، فالجمهور على أن الكنز المذموم ما لم تؤدّ زكاته . وقد ترجم لذلك البخاري في " صحيحه " فقال : باب ما أدِّي زكاته فليس بكنز .
ويشهد له حديث أبي هريرة مرفوعاً : < إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك > .
- حسنه الترمذي وصححه الحاكم - .
وعن ابن عمر : كلّ ما أديت زكاته ، وإن كان تحت سبع أرضين ، فليس بكنز وكلّ ما لا تؤدي زكاته فهو كنز ، وإن كان ظاهراً على وجه الأرض .
- أورده البيهقي مرفوعاً ، ثم قال : المشهور وقفه ، كحديث جابر : < إذا أديت زكاة مالك ، فقد أذهبت عنك شره > . أخرجه الحاكم ، والمرجح وقفه .
هذا وذهب ابن عمر رضي الله عنهما ومن وافقه إلى أن الزكاة نسخت وعيد الكنز .
روى البخاري في " صحيحه " أن أعرابياً قال لابن عمر : أخبرني عن قول الله تعالى : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة } الآية ، قال ابن عمر : من كنزها فلم يؤد زكاتها ، فويل له .
إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة ، فلما أنزلت جعلها الله طهراً للأموال .
زاد ابن ماجة : ثم قال ابن عمر : ما كنت أبالي لو كان لي مثل أحد ذهباً ، أعلم عدده ، أزكيه وأعمل فيه بطاعة الله تعالى .
ورواه أبو داود في كتاب " الناسخ والمنسوخ " ، فهذا يشعر بأن الوعيد على الإكتناز . وهو حبس ما فضل عن الحاجة عن المواساة به ، كان في أول الإسلام ، ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة ، لما فتح الله الفتوح ، وقّدرت نصب الزكاة .
ويشعر أيضاً بأن فرض الزكاة كان في السنة التاسعة من الهجرة ، وجزم به ابن الأثير في " تاريخه " ، وقواه بعضهم بما وقع في قصة ثعلبة بن حاطب المطولة ، ففيها لما أنزلت آية الصدقة بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم عاملاً فقال : < ما هذه إلا جزية أو أخت الجزية > . وأقول : إنما وجبت في التاسعة .
وأقول : هذا الحديث ضعفوه ، والأقوى منه كون هذه السورة التي فيها هذه الآية نزلت في السنة التاسعة كما قدمنا ، فإذا نسخت بالزكاة كانت الزكاة في تلك السنة أو بعدها قطعاً .
قال ابن حجر في " الفتح " : والظاهر أن ذلك كان في أول الأمر كما تقدم عن ابن عمر ، واستدل له ابن بطال بقوله تعالى : { وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } ، أي : ما فضل عن الكفاية ، فكان ذلك واجباً في أول الأمر ، ثم نسخ - والله أعلم - .
وفي المسند من طريق يعلى بن شَدَّاد بن أوس عن أبيه قال : كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الشدة ، ثم يخرج إلى قومه ، ثم يرخص فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم فلا يسمع للرخصة ، ويتعلق بالأمر الأول .
وما سقناه من مذهب أبي ذر ، هو ما ساقه المفسرون وشراح الحديث .
وزعم بعضهم أن الذي حدا أبا ذر لذلك ما رآه من استئثار معاوية بالفيء حيث قال : الذي صح أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم كانوا يعتبرون الفيء لكافة المسلمين ، يستوي فيه المقاتلون وغيرهم ، ولعله باعتبار أن القتال فريضة على كل المسلمين فكلهم داخل تحت ذلك الحكم .
قال : والذي يؤيد أنه لكافة المسلمين ، أن أبا ذر رضي الله عنه لما كان بالشام ، والوالي عليها ، من قِبَل الخليفة عثمان ، معاوية رضي الله عنهما ، ورأى من معاوية ما يشعر بحرصه على ادخار المال في بيت المال ، لصرفه في وجوه المصالح التي يراها للمسلمين ، وكان أبو ذر مشهوراً بالورع شديد الحرص على حقوق المسلمين ، يقول الحق ولو على نفسه .
أخذ يتكلم بهذا الأمير بين الناس ، واتخذ له حزباً من أهل الشام يساعده على مطالبة معاوية برد المال للمسلمين ، وبيان عدم الرضا بكنزه في بيت المال ، لأي حال من الأحوال ، إلا لتوزيعه على كافة المسلمين لاشتراكهم بما أفاء الله عليهم أجمعين
وتابعه على قوله جماعة كثيرون كانوا يجتمعون لهذا القصد سرّاً وجهراً ، حتى كادت تكون فتنة ، فشكاه معاوية إلى الخليفة عثمان رضي الله عنهم أجمعين ، فنفاه إلى الربذة خوفاً من حدوث ما لا تحمد عقباه . انتهى .
ونقل ما يقرب منه ابن حجر في " الفتح " حيث قال : والصحيح أن إنكار أبي ذر كان على السلاطين الذين يأخذون المال لأنفسهم ولا ينفقونه في وجهه .
الرابعة : إنما قيل : { وَلا يُنْفِقُونَهَا } بضمير المؤنث ، مع أن الظاهر التثنية ، إذ المذكور شيئان لأن المراد بهما دنانير ودراهم كثيرة ، وذلك لأن الكثير منهما هو الذي يكون كنزاً ، فأتى بضمير الجمع للدلالة على الكثرة ، ولو ثنّى احتمل خلافه . وقيل : الضمير عائد على الكنوز أو الأموال المفهومة من الكلام ، فيكون الحكم عاما ، ولذا عدل فيه عن الظاهر . وتخصيصهما بالذكر ، لأنهما الأصل الغالب في الأموال للتخصيص .
وقيل : الضمير للفضة ، واكتفى بها ، لأنها أكثر ، والناس إليها أحوج ، ولأن الذهب يعلم منها بالطريق الأولى ، مع قربها لفظاً .
الخامسة : في قوله تعالى : { فَبَشِّرْهُمْ } تهكم بهم ، كما في قوله :
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
وقيل : البشارة هي الخبر الذي يتغير له لون البشرة ، لتأثيره في القلب ، سواء كان من الفرح أو من الغم .
السادسة : قيل في تخصيص هذا الأعضاء الثلاثة بالكيّ دون غيرها ، بأن جمع ذويها وإمساكهم كان لطلب الوجاهة بالغنى والتنعم بالمطاعم الشهية ، والملابس البهية ، فَلِوَجاهتهم ورئاستهم المعروفة بوجوههم ، كان الكيّ بجباههم ، ولامتلاء جنوبهم بالطعام كووا عليها ، ولما لبسوه على ظهورهم كويت .
وقيل : لأنهم إذا سألهم فقير تبدو منهم آثار الكراهة والمنع ، فتكلح وجوههم ، وتقطب . ثم إذا كرر الطلب ازورّوا عنه وتركوه جانباً ، ثم إذا ألحّ ولَّوه ظهورهم واستقبلوا جهة أخرى ، وهي النهاية في الرد ، والغاية في المنع ، الدال على كراهية الإعطاء والبذل .
وهذا دأب مانعي البر والإحسان ، وعادة البخلاء ، فكان ذلك سبباً لكيّ هذه الأعضاء . وقيل : لأن هذه الأعضاء أشرف الأعضاء الظاهرة ، إذ هي المشتملة على الأعضاء الرئيسية التي هي الدماغ والقلب والكبد ، أو لأنها أصول الجهات الأربع التي هي مقاديم البدن ومآخره وجنباه ، فيكون كناية عن جميع البدن .
وقال القاشاني : جمع المال وكنزه مع عدم الإنفاق لا يكون إلا لاستحكام رذيلة الشح ، وحب المال ، وكل رذيلة لها كيّة يعذب بها صاحبها في الآخرة ويخزى بها في الدنيا . ولما كانت مادة رسوخ تلك الرذيلة واستحكامها هي ذلك المال ، وكان هو
الذي يحمى عليه في نار جحيم الطبيعة ، وهاوية الهوى ، فيكوى به .
وإنما خصت هذه الأعضاء ، لأن الشحّ مركوز في النفس ، والنفس تغلب القلب من
هذه الجهات ، لا من جهة العلوّ التي هي جهة استيلاء الروح ، وممرّ الحقائق والأنوار ، ولا من جهة السفل التي هي من جهة الطبيعة الجسمانية ، لعدم تمكن الطبيعة من ذلك ، فبقيت سائر الجهات ، فيؤذى بها من الجهات الأربع ويعذب ، كما تراه يعاب بها في الدنيا ، ويجزى من هذه الجهات أيضاً ، إما بأن يواجه بها جهراً فيفضح ، أو يسارّ بها في جنبه ، أو يغتاب بها من وراء ظهره . انتهى .
السابعة : قال أبو البقاء : { يَوْمَ } من قوله تعالى : { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا } ظرف على المعنى ، أي : يعذبهم في ذلك اليوم .
وقيل : تقديره عذاب يوم ، وعذاب بدل من الأول ، فلما حذف المضاف أقام اليوم مقامه . وقيل : التقدير اذكروا ، و عليها في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل .
وقيل : القائم مقام الفاعل مضمر ، أي : يحمى الوقود أو الجمر ، و بها أي : بالكنوز . وقيل هي بمعنى فيها ، أي : في جهنم وقيل : يوم ظرف لمحذوف تقديره : يوم يحمى عليها يقال لهم هذا ما كنزتم .
ولما بيّن تعالى فيما تقدم إقدام الأحبار والرهبان على تغيير أحكام الله تعالى إيثاراً لحظوظهم ، أتبعه بما جرأ عليه المشركون ، في نظيره من تغيير الأشهر التي حرمها الله تعالى بغيرها ، وهو النسيء الآتي ، وقوفاً مع شهواتهم أيضاً ، فنعى عليهم سعيهم في تغيير حكم السنَة بحسب أهوائهم ، وآرائهم مما أوجب زيادة كفرهم ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [ 36 ] .
{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ } أي : عددها { عِنْدَ اللَّهِ } أي : في حكمه { اثْنَا عَشَرَ شَهْراً } وهي القمرية التي عليها يدور فلك الأحكام الشرعية { فِي كِتَابِ اللَّهِ } أي : في اللوح المحفوظ ، أو فيما أثبته وأوجبه من حكمه .
وقوله : { يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } متعلق بما في الجار والمجرور من معنى الإستقرار . أراد بالكتاب على أنه مصدر ،
والمعنى : أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر ، منذ خلق الله تعالى الأجرام والحركات والأزمنة . أفاده أبو السعود .
{ مِنْهَا } أي : من تلك الشهور الإثني عشر { أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } ثلاثة سّرْدٌ : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وواحد فرد وهو رجب { ذَلِكَ } أي : تحريم الأشهر الأربعة المذكورة { الدِّينُ الْقَيِّمُ } أي : المستقيم ، { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أي : بهتك حرمتها بالقتال فيها .
وقال ابن إسحاق : أي : لا تجعلوا حرامها حلالاً ، ولا حلالها حراماً ، كما فعل أهل الشرك : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } أي : جميعاً ، { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } أي : بالنصر والإمداد .
ثم بيّن تعالى ثمرة هذه المقدمة ، وهو تحريم تغيير ما عيّن تحريمه من الأشهر الحرم ، وإيجاب الحذو بها على ما سبق في كتابه ، ناعياً على المشركين كفرهم ، بإهمالهم ذلك ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } [ 37 ] .
{ إِنَّمَا النَّسِيءُ } أي : تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر مصدر نسأه إذا أخره { زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } ، لأنه تحليل ما حرمه الله ، وتحريم ما حلله ، فهو كفر آخر مضموم إلى كفرهم { يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : بالله عن أحكامه إذا يجمعون بين الحلّ والحرمة في شهر واحد { يُحِلُّونَهُ عَاماً } أي : يحلون النسيء من الأشهر الحرم سنة ، ويحرمون مكانه شهراً آخر .
{ وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً } أي : يتركونه على حرمته القديمة ، ويحافظون عليها سنة أخرى ، إذا لم يتعلق بتغييره غرض من أغراضهم ، والتعبير عن ذلك بالتحريم ، باعتبار إحلالهم له في العام الماضي ، والجملتان تفسير للضلال ، أو حال .
قال الزمخشري : النسيء تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر ، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات ، فإذا جاء الشهر الحرام ، وهم محاربون ، شق عليهم ترك المحاربة ، فيحلونه ويحرمون مكانه شهراً آخر ، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم ، فكانوا يحرمون من أشق شهور العام أربعة أشهر ، وذلك قوله تعالى : { لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ } أي : ليوافقوا العدة التي هي الأربعة ، ولا يخالفوها ، وقد
خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين ، وربا زادوا في عدد الشهور ، فيجعلونا ثلاثة عشر ، أو أربعة عشر ، ليتسع لهم الوقت .
ولذلك قال عز وعلا : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً } يعني من غير زيادة زادوها { فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ } بتركهم التخصيص للأشهر بعينها { زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ } فاعتقدوا قبيحها حسناً : { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } .
اعلم أن في هاتين الآيتين مسائل :
الأولى : أن الأحكام تعلق بالأشهر العربية ، وهي شهور الأهلة ، دون الشهور الشمسية .
قيل : جعلُ أول الشهور الهلالية المحرم ، حَدَثَ في عهد عمر رضي الله عنه ، وكان قبل ذلك يؤرخ بعام الفيل ، ثم أرخ في صدر الإسلام بربيع الأول .
وقد نقل ابن كثير هنا عن السخاوي وجوه تسمية الأشهر بما سميت به ، ونحن نورد ذلك مأثوراً عن أمهات اللغة المعول عليها فنقول :
1 - المحرم : على أنه اسم المفعول ، هو أول الشهور العربية ، أدخلوا عليه الألف واللام لمْحاً للصفة في الأصل ، وجعلوها علماً بهما ، مثل النجم والدبران ونحوهما ، ولا يجوز دخولهما على غيره من الشهور عند قوم ، وعند قوم يجوز على صفر وشوال .
وجمعُ المحرم محرمات ، والمحرم شهر الله ، سمته العرب بهذا الاسم ، لأنهم كانوا لا يستحلون فيه القتال ، وأضيف إلى الله تعالى إعظاماً له ، كما قيل للكعبة بيت الله . وقيل : سمي بذلك ، لأنه من الأشهر الحرم . قال ابن سيده : وهذا ليس بقوي .
2 - صفر : الشهر الذي بعد المحرم . قال بعضهم : إنما سمي لأنهم كانوا يمتارون الطعام فيه من المواضع . وقيل : لإصفار مكة من أهلها إذا سافروا . وروي عن رؤبة أنه قال : سموا الشهر صفراً ، لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل ، فيتركون من لقوا صِفْراً من المتاع ، وذلك أن صفراً بعد المحرم ، فقالوا : صفر الناس منا صفراً . قال ثعلب : الناس كلهم يصرفون صفراً إلا أبا عبيدة ، فمنعه للعلمية والتأنيث ، بإرادة الساعة ، يعني أن الأزمنة كلها ساعات ، وإذا جمعوه مع المحرم قالوا : صفران ، ومنه قول أبي ذُؤَيب :
~أَقامتْ بِه كمقَام الحني فـ شَهْرَيْ جُمَادَى وشَهْرَيْ صَفَرْ
استشهد به في اللسان في مادة : ص فـ ر ، وليس في ديوان الهذليين .
قال ابن دريد : الصفران من السنة شهران ، سمي أحدهما في الإسلام المحرم ؛ وجمعه أصفار ، مثل سبب وأسباب ، وربما قيل : صفرات .
3و 4 بعضهم : ع شهران بعد صفر ، سميا بذلك لأنهما حُدَّا في هذا الزمن ، فلزمهما في غيره قالوا : لا يقال فيهما إلا شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر ، بزيادة شهر وتنوين ربيع ، وجعل الأول و الآخر وصفاً تابعاً في الإعراب ، ويجوز فيه الإضافة ، وهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه عند بعضهم ، لاختلاف اللفظين ، نحو : { وَحَبَّ الْحَصِيدِ } { وَلَدَارُ الْآخِرَةِ } ، و : { حَقُّ الْيَقِينِ } ، ومسجد الجامع . قال بعضهم : إنما التزمت العرب لفظ شهر قبل ربيع ، لأن لفظ ربيع مشترك بين الشهر والفصل ، فالتزموا لفظ شهر في الشهر ، وحذفوه في الفصل للفصل .
قال الأزهري أيضاً : والعرب تذكر الشهور كلها مجردة من لفظ شهر إلا شهري ربيع ورمضان .
ويثنّى الشهر ويجمع ، فيقال شهرا ربيع ، وأشهر ربيع ، وشهور ربيع .
5و 6 - جمادى الأولى والآخرة ن كحُبارى ، الشهران التاليان لشهري ربيع . وجمادى معرفة مؤنثة . قال ابن الأنباري : أسماء الشهور كلها مذكرة ، إلا جماديين ، فهما مؤنثان . تقول مضت جمادى بما فيها ، قال الشاعر :
~إذا جُمادى مَنَعَتْ قَطْرَها زان جِنَاني عَطَنٌ مُغْضِفُ
ثم قال : فإن جاء تذكير جمادى في شعر ، فهو ذهاب إلى معنى الشهر . كما قالوا : هذه ألف درهم ، على معنى هذه الدراهم .
والجمع على لفظها جماديات ، والأولى والآخرة صفة لها ، فالآخرة بمعنى المتأخرة .
قالوا : ولا يقال جمادى الأخرى ، لأن الأخرى بمعنى الواحدة فتتناول المتقدمة والمتأخرة ، فيحصل اللبس . فقيل الآخرة لتختص بالمتأخرة ، وإنما سميت بذلك لجمود الماء فيها ، عند تسمية الشهور ، من البرد . قال :
~في ليلةٍ من جُمَادى ذاتِ أنديةٍ لا يُبْصِرُ الكلب من ظلمائها الطُّنُبا
~لا ينبح الكلبُ فيها غير واحدة حتى يَلُفَّ على خُرْطُومِهِ الذَّنَبَا
7 - رجب : سمي به لتعظيمهم إياه في الجاهلية عن القتال فيه يقال : رَجَبَ فلاناً ، هابه وعظمه . كرجّبه . منصرف وله جموع : أرجاب وأرجبة وأرجُب ، ورجاب ورجوب وأراجب ، وأراجيب ورجبانات .
وإذا ضموا له شعبان قالوا رجبان للتغليب .
وفي الحديث : < رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان > ، وقوله : < بين جمادى وشعبان > تأكيد للشأن وإيضاح ، لأنهم كانوا يؤخرونه من شهر إلى شهر ، فيتحول عن موضعه الذي يختصّ به ، فبيّن لهم أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان ، لا ما كانوا يسمونه على حساب النسيء ، وإنما قيل : رجب مضر وأضافَهُ إليهم ، لأنهم كانوا أشد تعظيماً له من غيرهم ، وكأنهم اختصوا به ، وذكر له بعضهم سبعة عشر اسماً .
8 - شعبان : جمعه شعبانات وشعابين ، من تشعب إذا تفرق كانوا يتشعبون فيه في طلب المياه ، وقيل في الغارات .
وقال ثعلب : قال بعضهم : إنما سمي شعبان لأنه شعب ، أي : ظهر بين شهر رمضان ورجب .
9 - رمضان : سمي به لأن وضعه وافق الرَّمَضَ بفتحتين ، وهو شدة الحر ، وجمعه رمضانات وأرمضاء .
وعن يونس أنه سمع رماضين ، مثل شعابين . وقيل : هو مشتق من رمض الصائم يرمض ، إذا اشتد حرّ جوفه من شدة العطش ، وهو قول الفراء .
قال بعض العلماء : يكره أن يقال جاء رمضان وشبهه ، إذا أريد به الشهر ، وليس معه قرينة تدلّ عليه ، وإنما يقال : جاء شهر رمضان ، واستدل بحديث : < لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ، ولكن قولوا شهر رمضان > وهذا الحديث ضعّفه البيهقي ، وضعفه ظاهر ، لأنه لم ينقل عن أحد من العلماء أن رمضان من أسماء الله تعالى ، فلا يعمل به .
والظاهر جوازه من غير كراهة ، كما ذهب إليه البخاري وجماعة من المحققين ، لأنه لم يصح في الكراهة شيء .
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة ما يدل على الجواز مطلقاً كقوله : < إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة ، وغلِّقت أبواب النار وصفِّدت الشياطين >
وحقق السهيلي أن لحذف شهر مقاماً يباين مقام ذكره ، يراعيه البليغ .
وحاصله أن في حذفه إشعاراً بالعموم ، وفي ذكره خلاف ذلك ، لأنك إذا قلت شهر
كذا ، كان ظرفاً وزال العموم من اللفظ ، إذ المعنى في الشهر ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم < من صام رمضان > ، ولم يقل : شهر رمضان ، ليكون العمل فيه كله . انتهى . فليتأمل .
10 - شوال : شهر عيد الفطر ، وأول أشهر الحج ، وجمعه شوالات وشواويل ، وقد تدخله الألف واللام .
قال ابن فارس : وزعم ناس أن الشوال سمي بذلك لأنه وافق وقتاً تشول فيه الإبل ، أي : ترفع ذنبها للقاح ، وهو قول الفراء .
وقال غيره : سمي بتشويل ألبان الإبل ، وهو تولّيه وإدباره ، وكذلك حال الإبل في اشتداد الحر ، وانقطاع الرطب وكانت العرب تتطيّر من عقد المناكح فيه ، وتقول : إن المنكوحة تمتنع من ناكحها ، حتى تمتنع طروقة الجمل إذا لقحت وشالت بذنبها . فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم طيرتهم ، وقالت عائشة رضي الله عنها : تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال ، وبنى بي في شوال ، وأيّ نسائه كان أحظى عنده مني ؟
11 - ذو القعدة : بفتح القاف ، والكسر لغة ، سمي به لأن العرب كانوا يقعدون فيه عن الأسفار ، والغزو والميرة وطلب الكلأ ، ويحجون في ذي الحجة ، والجمع ذوات القعدة ، وذوات القعدات ، والتثنية ذواتا القعدة وذواتا القعدتين ، فثنوا الإسمين وجمعوهما ، وهو عزيز ، لأن الكلمتين بمنزلة كلمة واحدة ، ولا تتوالى على كلمة علامتا تثنية ولا جمع .
12 - ذو الحجة : الشهر الذي يقع فيه الحج سمي بذلك للحج فيه ، والجمع ذوات الحجة ، ولم يقولوا : ذوو على واحده ، والفتح فيه أشهر من الكسر ، و الحجة بالكسر المرة [ في المطبوع : المرأة ] الواحدة من الحج ، وهو شاذّ لأن القياس في المرة الفتح - انتهى .
وقد أوردنا هذا ملخصاً عن " المصباح " و " القاموس " و " شرحه " .
المسألة الثانية : قدمنا أن الأشهر الحرم الأربعة ، ثلاثة سََرْدٌ أي : متتابعة ، وواحد فرد وكانت العرب لا تستحل فيها القتال ، إلَّا حيّان : خثعم وطيّئ ، فإنهما كانا
يستحلان الشهور ، وكان الذين ينسؤون الشهور أيام الموسم يقولون حرمنا عليكم القتال في هذه الشهور إلا دماء المحلين ، فكانت العرب تستحل دماءهم خاصة في هذه الشهور .
وكان لقوم من غطفان وقيس ، يقال لهم الهبا آت ، ثمانية أشهر حرم ، يقال لها البَسْل يحرمونها تشدداً وتعمقاً .
الثالثة : قال ابن كثير : إنما كانت الأشهر المحرمة أربعة : ثلاثة سرد ، وواحد فرد ، لأجل أداء المناسك - الحج والعمرة - فحرم قبل أشهر الحج ، شهر وهو ذو القعدة لأنهم يقعدون فيه عن القتال ، وحرم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون بأداء المناسك .
وحرم بعده شهر آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين ، وحرم رجب في وسط الحول ، لأجل زيارة البيت والإعتمار به ، لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب ، فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمناً .
الرابعة : قال النووي في " شرح مسلم " : وقد اختلفوا في كيفية عدتها على قولين حكاهما الإمام أبو جعفر النحاس في كتابه " صناعة الكاتب " قال : ذهب الكوفيون إلى أنه يقال : المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة قال : والكتاب يميلون إلى هذا القول ليأتوا بهن من سنة واحدة قال : وأهل المدينة يقولون : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، وقوم ينكرون هذا ويقولون : جاؤوا بهن من سنتين .
قال أبو جعفر : وهذا غلط بيّن ، وجهل باللغة ، لأنه قد علم المراد ، وأن المقصود ذكره ، وأنها في كل سنة ، فكيف يتوهم أنها من سنتين ؟ قال : والأوْلى والإختيار ما قاله أهل المدينة ، لأن الأخبار قد تظاهرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قالوا ، من رواية ابن عمر وأبي هريرة وأبي بكرة رضي الله عنهم ، قال : وهذا أيضاً قول أكثر أهل التأويل .
الخامسة : استنبط بعضهم من قوله تعالى : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أن الإثم في هذه الأشهر المحرمة آكد وأبلغ في الإثم في غيرها ، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف ، لقوله تعالى : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام ، ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء ، وكذا في حق من قتل في الحرم أو قتل ذا محرم .
وقال ابن عباس فيما رواه عنه عليّ بن أبي طلحة : أنه تعالى اختص من الأشهر أربعة أشهر جعلهن حراماً ، وعظم حرماتهن ، وجعل الذنب فيهن أعظم ، والعمل الصالح والأجر أعظم .
وقال قتادة : إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم فيما
سواها ، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً ، ولكن الله يعظّم من أمره ما يشاء . وقال : إن الله اصطفى صفايا من خلقه ، اصطفى من الملائكة رسلاً ، ومن الناس رسلاً واصطفى من الكلام ذكره ، واصطفى من الأرض المساجد ، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم ، واصطفى من الأيام يوم الجمعة ، واصطفى من الليالي ليلة القدر ، فعظّموا ما عظم الله ، فإنما تعظيم الأمور بما عظم الله به عند أهل الفهم ، وأهل العقل - نقله ابن كثير - .
أقوال : أن ابن جرير اختار في قوله تعالى : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } ما قاله ابن إسحاق فيما تقدم .
أقوال : هو الظاهر المتبادر .
السادسة : قال المهايمي : إنما كان منها أربعة حرم ليكون ثلث السنة تغليباً للتحليل الذي هو مقتضى سعة الرحمة ، على التحريم الذي هو مقتضى الغضب فجعل أول
السنة وآخرها وهو المحرم وذو الحجة ، ولما لم يكن له وسط صحيح ، أخذ أول النصف الآخر وهو رجب ، فبقي من الثلث شهر ، فأخذ قبل الآخر وهو ذو القعدة ، ليكون مع آخر السنة المتصلة بأولها وتراً ، وبقي وترية رجب فتتم السنة على التحريم باعتبار أولها وأخرها ، وأوسطها ، مع تذكر وترية الحق المؤكد للتحريم .
انتهى .
السابعة : استدل جماعة بقوله تعالى : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت محكم لم ينسخ ، وكذا بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ } ، وبقوله تعالى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } الآية .
وذهب آخرون إلى أن تحريم القتال فيها ، منسوخ بآية السيف ، يعني قوله تعالى :
{ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } قالوا : ظاهر السياق مشعر بأنه أمر بذلك أمراً عامّاً في الشهر الحرام ، لأوشك أن يقيده بانسلاخها ، وبأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام ، وهو ذو القعدة ، كما ثبت في الصحيحين أنه خرج إلى هوازن في شوال ، فما كسرهم واستفاء
أموالهم ورجع فلّهم ، لجؤوا إلى الطائف ، فعمد إلى الطائف فحاصرهم أربعين يوماً ، وانصرف ولم يفتتحها ، فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام .
وأجاب الأولون بأن الأمر بقتل المشركين ومقاتلتهم مقيد بانسلاخ الأشهر الحرم ، كما في قوله تعالى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ } الآية ، فتكون سائر الآيات المتضمنة للأمر بالقتال مفيدة بما ورد في تحريم القتال في الأشهر الحرم ، كما هي مقيدة بتحريم القتال في الحرَم ، للأدلة الواردة في تحريم القتال فيه ، فقوله تعالى :
{ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } الآية ، من باب التهييج والتحضيض ، أي : كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم ، فاجتمعوا كذلك لهم ، أو هو إذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام ، إذا كانت البداءة منهم ، كما قال تعالى : { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } ، وقال تعالى : { وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } ، وهكذا الجواب عن حصار رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف ، واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام ، فإنه من تتمة قتال هوازن وأحلافها من ثقيف ، فإنهم هم الذين ابتدؤوا القتال ، وجمعوا الرجال ، ودعوا إلى الحرب والنزال ، فعندها قصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، فلما تحصّنوا بالطائف ، ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم ، فنالوا من المسلمين ، وقتلوا جماعة واستمر الحصار بالمجانيق وغيرها قريباً من أربعين يوماً ، وكان ابتداؤه في شهر حلال ، ودخل الشهر الحرام ، فاستمر فيه أياماً ، ثم قفل عنهم ، لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الإبتداء ، وهذا أمر مقرر ، وله نظائر كثيرة .
فالمحرم هو ابتداء القتال في الأشهر الحرام ، لا إتمامه ، وبهذا يحصل الجمع ، ولذا قال ابن جريج : حلف بالله عطاءُ بن أبي رَبَاح ، ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ، ولا في الأشهر الحرم ، وما نسخت إلا أن يقاتلوا فيها .
الثامنة ، قال في " الإكليل " في قوله تعالى : { إِنَّ عِدَّةِ الشُّهُورِ } الآية ، إنَّ الله وضع هذه الأشهر وسماها ورتبها على ما هي عليه ، وأنزل ذلك على أنبيائه ، فيستدل بها لمن قال : إن اللغات توقيفية .
التاسعة : في " الإكليل " أيضاً : استدل بقوله تعالى : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } من قال إن الجهاد في عهده صلى الله عليه وسلم كان فرض عين .
العاشرة : قال ابن إسحاق : كان أول من نسأ الشهور على العرب ، فأحل منها ما حرم الله ، وحرم منها ما أحل الله عزَّ وجلَّ القَلَمَّس وهو حذيفة بن عبد فُقَيْم بن
عدي بن عامر بن ثعلبة ، بن الحارث بن مالك بن كنانة ، بن خُزَيْمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ، بن نزار بن معد بن عدنان ، ثم قال بعده على ذلك ابنه عبّاد ، ثم ابنه قَلَع ، ثم أمية بن قلع ثم ابنه عوف بن أمية ، ثم ابنه أبو ثُمامة جُنادة بن عوف ، وكان آخرهم ، وعليه قام الإسلام ، فكانت العرب إذا فرغت من حجها ، اجتمعت إليه ، فقام فيهم خطيباً فحرم رجباً ، وذا القعدة ، وذا الحجة ، ويحل المحرم عاماً ، ويجعل مكانه صفر ، ويحرمه عاماً ليواطئ عدة ما حرم الله ، فيحل ما حرم الله يعني ويحرم ما أحل الله . انتهى .
و القَلَمَّس بقاف فلام مفتوحتين ثم ميم مشددة . قال في " القاموس وشرحه " : هو رجل كناني من نَسَأَةِ الشهور على معدّ في الجاهلية ، كان يقف عند جمرة العقبة ويقول : أحد الصفرين ، وحرمت صفر المؤخر ، وكذا في الرجبين ، يعني رجباً وشعبان ، ثم يقول : انفروا على اسم الله تعالى . قال شاعرهم :
وفينا ناسئ الشهر القَلَمَّس
وقال عمير بن قيس المعروف بِجَذْل الطِّعان :
~لقد علمت معدٌّ أنَّ قومي كرامُ الناس أنَّ لهم كراما
~ألسنا الناسئين على معدّ شهورَ الحِلّ نجعلها حراما
~فأي الناس فاتونا بِوتْرٍ وأي الناس لم نُعْلِكْ لِجَاما
وروي أن أول من سن النسيء عَمْرو بن لُحَيّ ، والذي صح من حديث أبي هريرة وعائشة ، أن عَمْرو بن لحيّ أول من سيّب السوائب ، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : < رأيت عَمْرو بن لحيّ يجر قُصْبَهُ في النار > .
ثم حرّض تعالى المؤمنين على قتال الكفرة ، إثر بيان طرف من قبائحهم الموجبة لذلك ، وأشار إلى توجه العتاب والملامة إلى المتخلفين عنه ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ } [ 38 ] .
وقوله : { إِلَى الْأَرْضِ } متعلق بـ : { اثَّاقَلْتُمْ } على تضمينه معنى الميل والإخلاد ، أي : اثاقلتم مائلين إلى الدنيا وشهواتها الفانية عما قليل ، وكرهتم مشاقّ الغزو المستتبعة للراحة الخالدة ، كقوله تعالى : { أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } .
أو مائلين إلى الإقامة بأرضكم ودياركم ، وكان ذلك في غزوة تبوك في سنة عشر بعد رجوعهم من الطائف ، استُنْفِرُوا لغزو الروم في وقت عسرة وقحط وقيظ ، وقد أدركت ثمار المدينة وطابت ظلالها ، ومع بُعد الشقة ، وكثرة العدوّ ، فشق عليهم .
وقوله تعالى : { أَرَضِيتُمْ بِالْحقال ِ الدُّنْيَا } أي : الحقيرة الفانية : { مِنَ الْآخِرَةِ } أي : بدل الآخرة ونعيمها الدائم { فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أظهر في مقام الإضمار لزيادة التقرير ، أي : فما التمتع بلذائذها { فِي الْآخِرَةِ } أي : في جنب الآخرة أي : إذا قيست إليها ، و في هذه تسمى في القياسية ، لأن المقيس يوضع بجنب ما يقاس به
{ إِلَّا قَلِيلٌ } أي : مستحقر لا يؤبه له .
روى الإمام أحمد ومسلم عن المُسْتَورد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم ، فلينظر بم ترجع > - وأشار بالسبابة - .
ثم توعد تعالى من لم ينفر إلى الغزو ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 39 ] .
{ إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } أي : لنصرة نبيه ، وإقامة دينه : { وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً } لأنه الغني عن العالمين ، أي : وإنما تضرون أنفسكم . وقيل :
الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم ، أي : ولا تضروه ، لأن الله وعده النصر ، وَوَعْدُهُ كائن لا محالة .
{ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : من التعذيب والتبديل ونصرة دينه بغيرهم ، وفي هذا التوعد ، على من يتخلف عن الغزو ، من الترهيب الرهيب ما لا يقدر قدره .
تنبيه :
قال بعضهم : ثمرة الآية لزوم إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دعا إلى الجهاد ، وكذا يأتي مثله في دعاء الأئمة ، ويأتي مثل الجهاد ، الدعاء إلى سائر الواجبات ، وفي ذلك تأكيد من وجوه :
الأول : ما ذكره من التوبيخ .
الثاني : قوله تعالى : { اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ } وأن الميل إلى المنافع والدعة واللذات لا يكون رخصة في ذلك .
الثالث : في قوله تعالى : { أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا } فهذا زجر .
الرابع : قوله تعالى : { فَمَا مَتَاعُ } الآية . وهذا تخسيس لرأيهم .
الخامس : ما عقب من الوعيد بقوله : { إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ } .
السادس : ما بالغ فيه بقوله : { عَذَاباً أَلِيماً } .
السابع : قوله : { وَيَسْتَبْدِلْ } الآية .
الثامن : قوله : { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ففيه تهديد .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ } [ 40 ] .
{ إِلاّ تَنْصُرُوهُ } أي : بالخروج معه إلى تبوك { فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا }
يعني كفار مكة حين مثور ، به ، فصاروا سبب خروجه ، فخرج ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه { ثَانِيَ اثْنَيْنِ } حال من ضميره صلى الله عليه وسلم ، أي : أحد اثنين { إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ } بدل من : { إِذْ أَخْرَجَهُ } بدل البعض ، إذ المراد به زمان متسع .
والغار نقب في أعلى ثور ، وهو جبل في الجهة اليمنى من مكة على مسيرة ساعة ، مكثا فيه ثلاثاً ، ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهما ، ثم يسيرا إلى المدينة ، { إِذْ يَقُولُ } بدل ثان ، أي : رسول الله صلى الله عليه وسلم { لِصَاحِبِهِ } أي : أبي بكر : { لا تَحْزَنْ } وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه أشفق من المشركين أن يعلموا بمكانهما ، فيخلص إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أذى ، وطفق يجزع لذلك ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } أي : بالنصرة والحفظ .
روى الإمام أحمد والشيخان عن أبي بكر رضي الله عنه قال : نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار ، وهم على رؤوسنا ، فقلت : يا رسول الله ! لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه ! فقال : < يا أبا بكر ! ما ظنك باثنين الله ثالثهما > .
{ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ } أي : أَمَنَتَه التي تسكن عندها القلوب { عَلَيْهِ } أي : على النبيّ صلى الله عليه وسلم { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا } يعني الملائكة ، أنزلهم ليحرسوه في الغار ، أو ليعينوه على العدوّ يوم بدر والأحزاب وحنين ، فتكون الجملة معطوفة على قوله : { نَصَرَهُ اللَّهُ } وقوّى أبو السعود الوجه الثاني ، بأن الأول يأباه وصفهم بعدم رؤية المخاطبين لهم .
قلت : لا إباءة ، لأن هذا وصف لازم لإمداد القوة الغيبية في كل حال ، وفي الثاني تفكيك في الأسلوب لبعد المتعاطفيْن ، فافهم . والله أعلم .
{ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى } أي : المغلوبة المقهورة ، و الكلمة الشرك ، أو دعوة الكفر ، فهو مجاز عن معتقدهم الذي من شأنهم التكلم به على أنها الشرك ، أو هي بمعنى الكلام مطلقاً على أنها دعوة الكفر { وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا } يعني التوحيد ، أو دعوة الإسلام كما تقدم ، أي : التي لا تزال عالية إلى يوم القيامة { وَكَلِمَةُ اللَّهِ }
بالرفع على الإبتداء و : { هِيَ الْعُلْيَا } مبتدأ وخبر . أو تكون هي فصلاً .
وقرئ بالنصب أي : وجعل كلمة الله ، والأول أوجه وأبلغ ، لأن الجملة الإسمية
تدل على الدوام والثبوت ، وإن الجعل لم يتطرق لها لأنها في نفسها عالية لا يتبدل شأنها ولا يتغير حالها ، وفي إضافة الكلمة إلى الله إعلاء لمكانها ، وتنويه لشأنها
{ وَاللَّهُ عَزِيزٌ } أي : غالب على ما أراد : { حَكِيمٌ } في حكمه وتدبيره .
تنبيه :
قال بعض مفسري الزيدية : استدل على عظيم محل أبي بكر من هذه الآية من وجوه : منها : قوله تعالى : { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ } ، وقوله : { إنَّ الله مَعَنَا } ، وقوله
{ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } قيل : على أبي بكر .
عن أبي علي والأصم ، قال أبو علي : لأنه الخائف المحتاج إلى الأمن ، وقيل : على الرسول ، عن الزجاج وأبي مسلم .
قال جار الله : وقد قالوا : من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر ، لأنه رد كتاب الله تعالى . انتهى .
وقال السيوطي في " الإكليل " : أخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال : أنا ، والله ! صاحبه ، فمن هنا قالت المالكية : من أنكر صحبة أبي بكر كفر وقتل ، بخلاف غيره من الصحابة ، لنص القرآن على صحبته . انتهى .
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر : < أنت صاحبي على الحوض ، وصاحبي في الغار > - أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن غريب - .
وقد ساق الفخر الرازي اثني عشر وجهاً من هذه الآية على فضل الصديق رضي الله تعالى عنه ، فأطال وأطاب .
ولما توعد تعالى من لا ينفر مع الرسول لتبوك ، وضرب له من الأمثال ما فيه أعظم مزدجر ، أتبعه بهذا الأمر الجَزْم ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ 41 ] .
{ انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً } حالان من ضمير المخاطبين ، أي : على أي : حال كنتم خفافاً في النفور لنشاطكم له ، وثقالاً عنه ، لمشقته عليكم ، أو خفافاً لقلة عيالكم
وأذيالكم ، وثقالاً لكثرتها ، أو خفافاً من السلاح وثقالاً منه ، أو ركباناً ومشاة ، أو شباباً وشيوخاً أو مهازيل وسماناً ، واللفظ الكريم يعم ذلك كله ، والمراد حال سهولة النَّفْر وحال صعوبته .
وقد روي عن ثلة من الصحابة أنهم ما كانوا يتخلفون عن غزاة قط ، ويستشهدون بهذه الآية .
ولما كانت البعوث إلى الشام ، قرأ أبو طلحة رضي الله عنه سورة براءة حتى أتى
على هذه الآية ، فقال : أرى ربنا استنفرنا شيوخا وشبابا ، جهزوني يا بني ! فقال بنوه :
يرحمك الله ، قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات ، ومع أبي بكر حتى مات ، ومع عمر حتى مات ، فنحن نغزو عنك فقال : ما سمع عذر أحد ، ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قتل .
وكان أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه يقرأ هذه الآية ، ويقول : فلا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً ، ولم يتخلف عن غزاة المسلمين إلا عاماً واحداً .
وقال أبو راشد الحراني : وافيت المقداد بن الأسود ، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص ، وقد فَصَلَ عنها يريد الغزو ، فقلت له : قد أعذر الله إليك ، فقال : أتت علينا سورة البعوث : { انْفِرُوا خِفَافاَ وِثقَالاً } .
وعن حيّان بن زيد قال : نفرنا مع صفوان بن عَمْرو وكان والياً على حمص - فرأيت شيخاً كبيراً همّاً ، قد سقط حاجباه على عينيه ، من أهل دمشق ، على راحلته فيمن أغار ، فأقبلت إليه فقلت : يا عم ! لقد أعذر الله إليك ، قال : فرفع حاجبيه فقال : يا ابن أخي ! استنفرنا الله خفافاً وثقالاً ، أَلَا إنه من يحبه الله يبتليه ، ثم يعيده الله فيبقيه . وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ، ولم يعبد إلا الله عزَّ وجلَّ - وروى ذلك كله ابن جرير - .
فرحم الله تلك الأنفس الزكية ، وحيّاها من بواسل ، باعت أرواحها في مرضاة ربها ، وإعلاء كلمته ، وأكرمت نفسها عن الإغترار بزخارف هذه الحياة الدنية .
ثم رغّب تعالى في النفقة في سبيله ، وبذل المهج في مرضاته ، ومرضاة رسوله ، فقال : { وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ما في إسم الإشارة إلى النفير والجهاد من معنى البعد ، للإيذان ببعد منزلته في الشرف ، والمراد بكونه خيراً ، وأنه خير في نفسه ، أو خير من الدعة ، والتمتع بالأموال .
تنبيه :
قال الحاكم : الجهاد بالمال ضروب : منها إنفاقه على نفسه في السير في الجهاد ، ومنها صرف ذلك إلى الآلات التي يستعان بها على الجهاد ، ومنها صرفه إلى من ينوب عنه أو يخرج معه .
وقال بعض مفسري الزيدية : ذكر المؤيد بالله أن من له فضل مال ، وجب عليه أن يدفعه إلى الإمام ، إن دعت إليه حاجة .
وذكر الراضي بالله وجوب دفع ما دعت الحاجة إليه من الأموال في الجهاد ، قليلاً كان أو كثيراً ، ويتعين ذلك بتعيين الإمام .
وأما من طريق الحسبة ، فقال الراضي بالله : يجب ذلك إن حصل خلل لا يسده إلا المال ، ويدخل في هذا إلزامُ الضيِّقة ، وتنزيل الدور ، وقد قال الراضي بالله : للإمام أن يلزم الرعية على ما يراه من المصلحة .
وعن المؤيد بالله : إن للإمام إنزال جيشه دور الرعية إذا لم يتم له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالجند ، واحتاجوا إلى ذلك . كما يجوز دخول الدار المغصوبة لإزالة المنكر .
وكذا ذكر أبو مضر أنه ينزل في الزائد على حاجة أهل الدور ، وأما من ينزل الدار من جيشه بظلم أو فساد ، فإن عُرِفَ ذلك عورض بين مطلب الإمام في دفعه المنكر ، وبين هذا المنكر الواقع من الجند ، أيهما أغلظ . انتهى .
ثم صرف تعالى الخطاب عن المتخلفين ، ووجّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، معدّداً لما صدر عنهم من الهنات قولاً وفعلاً ، مبنياً لدناءة همهم في هذا الخطب ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ 42 ] .
{ لَوْ كَانَ } أي : ما تدعوهم إليه { عَرَضاً قَرِيباً } أي : نفعاً سهل المأخذ ، { وَسَفَراً قَاصِداً } أي : وسطاً { لَاتَّبَعُوكَ } أي : لا لأجلك ، بل لموافقة أهوائهم { وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ } بضم الشين ، وقرئ بكسرها ، أي : الناحية التي ندبوا إليها . وسميت
الناحية التي يقصدها المسافر بذلك ، للمشقة التي تلحقه في الوصول إليها .
وقرئ ( بعِدت ) بكسر العين . قال الشهاب : بعد يبعَد كعلم يعلم ، لغة فيه ، لكنه اختص ببعض ببعد الموت غالباً . ولا تبعد ، يستعمل في المصائب للتفجع والتحسر كقوله :
~لا يُبْعِدِ اللهُ إخواناً لنا ذَهَبُوا أفناهم حَدَثَانُ الدهرِ والأَبَدُ
{ وَسَيَحْلِفُونَ } أي : هؤلاء المتخلفون عن غزوة تبوك { بِاللَّهِ } متعلق بسيحلفون ، أو هو من جملة كلامهم .
والقول مراد في الوجهين ، أي : سيحلفون عند رجوعك من غزوة تبوك ، معتذرين بالعجز ، يقولون بالله : { لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } أي : إلى تلك الغزوة .
ثم بيّن تعالى أن هذه الدعوى الكاذبة والحلف لا يفيدانهم ، بقوله سبحانه : { يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ } أي : بهذا الحلف والمخالفة ودعوى العجز { وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } لأنهم كانوا يستطيعون الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ } [ 43 ] .
{ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ } أي : لهؤلاء المنافقين بالتخلف حين اعتلّوا بعللهم ، { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ } هلا تركتهم لما استأذنوك فلم تأذن لأحد منهم في القعود ، لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب ، فإنهم قد كانوا مصرّين على القعود عن الغزو .
ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه في القعود عن الغزو أحد يؤمن بالله ورسوله ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } [ 44 ] .
{ لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } أي : لمنع إيمانهم به ، من مخالفته ، مع القدرة
{ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } لمنع إيمانهم به من ترك تعويض الثواب والحياة الأبديين إذا أُمرِوا : { أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } أي : لأنهم يودون الجهاد بها قربة ، فيبذلونها في سبيله : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } أي : فيعطيهم من الأجر ما يناسب تقواهم .
ففيه شهادة لهم بالإنتظام في زمرة الأتقياء ، وعِدَةٌ لهم بأجزل الثواب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } [ 45 ] .
{ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ } أي : في ترك الجهاد بهما : { الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } إذ لا يرجون ثوابه ولا حياته ، وهم المنافقون ، ولذا قال : { وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ } أي : فيما تدعوهم إليه ، أي : رسخ فيها الريب { فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } أي : ليست لهم قدم ثابتة في شيء ، فهم قوم حيارى هلكى ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء .
تنبيهات :
الأول : اعلم أن في تصديره تعالى فاتحة الخطاب ببشارة العفو ، دون ما يوهم العتاب ، من مراعاة جانبه الصلاة والسلام ، وتعهده بحسن المفاوضة ، ولطف المراجعة ما لا يخفى على أولي الألباب .
قال سفيان بن عيينة : انظروا إلى هذا اللطف : بدأ بالعفو قبل ذلك المعفوّ .
قال مكّي : عفا الله عنك ، افتتاح كلام مثل أصلحك الله وأعزك . وقال الداودي : إنها تكرمة .
أقول : ويؤيد ذلك قوله عليّ بن الجهم يخاطب المتوكل وقد أمر بنفيه :
~عفا الشهاب : ألا حُرمةٌ تَعُوذُ بعفوك أَن أُبْعَدَ
~ألم تر عبداً عدا طورَهُ ومولىً عفا ورشيداً هدَى
~أقلني أقالك من لم يَزَلْ يقيك ويصرف عنك الردى
وما اشتهر من كون العفو لا يكون إلا عن ذنب - غير صحيح - فالواجب تفسيره في كل مقام بما يناسبه .
قال الشهاب : وهو يستعمل حيث لا ذنب ، كما تقول لمن تعله . عفا الحديث : ما صنعت في أمري ؟ وفي الحديث : < عجبت من يوسف وصبره وكرمه ، والله يغفر له > .
وقال السخاوندي : وهو تعليم لتعظيمه صلى الله عليه وسلم ، ولولا العفو في الخطاب لما قام بصولة العتاب
وقال القاضي عياض في " الشفا " : وأما قوله تعالى : { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ } فأمر لم يتقدم للنبيّ صلى الله عليه وسلم فيه من الله نهي ، فيعدّ معصية ولا عدّه الله عليه معصية ، بل يعده أهل العلم معاتبة ، وغلّطوا من ذهب إلى ذلك .
قال نفطويه : وقد حاشاه الله من ذلك ، بل كان مخيراً في أمرين .
قالوا : وقد كان له أن يفعل ما يشاء فيما لم ينزل عليه وحي ، وكيف ؟ وقد قال الله تعالى : { فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ } فلما أذن لهم أعلمه الله تعالى بما لم يطلعه عليه من سرهم ، أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم ، وأنه لا حرج عليه فيما فعل ، وليس
عفا هنا بمعنى غفر ، بل كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : < عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق > . ولم تَجِبْ عليهم قط ، أي : لم يلزمهم ذلك .
ونحوه للقشيري قال : إنما يقول : العفو لا يكون إلا عن ذنب ، من لم يعرف كلام العرب ، قال : ومعنى : عَفَا اللهُ عَنْكَ ، أي : لم يلزمك ذنباً . انتهى .
وقد عد ما وقع في " الكشاف " هنا من قبيح سقطاته .
وللعلامة أبي مسعود مناقشة معه في ذلك ، أُورِدُها لبلوغها الغاية في البلاغة ، قال رحمه الله :
ولقد أخطأ وأساء الأدب ، وبئس ما فعل فيما قال وكتب ، من زعم أن الكلام كناية عن الجناية ، وأن معناه أخطأت ، وبئس ما فعلت ، هب أنه كناية ، أليس إيثارها على التصريح بالجناية للتلطيف في الخطاب ، والتخفيف في العتاب ، وهب أن العفو بالسوء ، أو يسوغ إنشاء الإستقباح اللائمة ، بحيث يصحح هذه المرتبة من المشافهة بالسوء ، أو يسوغ إنشاء الإستقباح بكلمة بئسما ، المنبئة عن بلوغ القبح إلى رتبة يتعجب منها ، ولا يخفى أنه لم يكن في خروجهم مصلحة للدين ، أو منفعة للمسلمين ، بل كان فيه فساد وخبال ، حسبما نطق به قوله عزَّ وجلَّ : { لَوْ خَرَجُوا } الخ ، و قد كرهه سبحانه كما يفصح عنه قوله تعالى : { وَلَكنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ } الآية ، نعم كان الأولى تأخير الإذن حتى يظهر كذبهم آثر ذي أثير ، ويفتضحوا على رؤوس الأشهاد ، ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش على الأمن والدعة ، ولا يتسنى لهم الإبتهاج فيما بينهم ، بأنهم غروه صلى الله عليه وسلم ، وأرضوه بالأكاذيب .
على أنه لم يهنأ لهم عيش ، ولا قرّت لهم عين ، إذ لم يكونوا على أمن واطمئنان ، بل كانوا على خوف من ظهور أمرهم وقد كان . انتهى .
قال الخفاجي : وحاول بعضهم توجيه كلام الكشاف بأن مراده أن الأصل فيه ذلك ، فأبدله بالعفو تعظيماً لشأنه ، ولذا قدم العفو على ما يوجب الجناية ، فلا خطأ فيه .
قال رحمه الله : ولو اتقى هو والموجِّه موضع التهم - كان أولى وأحرى . انتهى .
الثاني : استدل بالآية على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم أحياناً بالإجتهاد ، كما بسطه الرازي .
قال السيوطي في " الإكليل " : واستدل بها من قال : إن اجتهاده قد يخطئ ولكن ينبَّه عليه بسرعة .
الثالث : قال الرازي : دلت الآية على وجوب الإحتراز عن العجلة ، ووجوب التثبت والتأني ، وترك الإغترار بظواهر الأمور ، والمبالغة في التفحص ، حتى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحق من التقريب أو الإبعاد .
الرابع : قال أبو السعود : تغيير الأسلوب بأن عبر عن الفريق الأول بالموصول الذي صلته فعل دالّ على الحدوث ، وعن الفريق الثاني باسم الفاعل المفيد للدوام ، للإيذان بأن ما ظهر من الأولين صدق حادث في أمر خاص ، غير مصحح لنظمهم في سلك الصادقين ، وأن ما صدر من الآخرين ، وإن كان كذباً حادثاً متعلقاً بأمر خاص ، لكنه أمر جارٍ على عادتهم المستمرة ، ناشئ عن رسوخهم في الكذب . ودقق رحمه الله في بيان لطائف آخر . فلتراجع .
الخامس : قيل : نفي الفعل المستقبل الدالّ على الإستمرار في قوله تعالى : { لَا يَسْتَأْذِنُكَ } يفيد نفي الإستمرار .
وهذا معنى قول الزمخشري : ليس من عادة المؤمنين أي : يستأذنوك .
قال النحرير : ولا يبعد حمله على استمرار النفي ، كما في أكثر المواضع ، أي : عادتهم عدم الإستئذان .
قال الناصر : وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقاً ، فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يسدي له معروفاً ، ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاماً ، فإن الإستئذان في أمثال هذه المواطن أمارة التكلف والتكرّه ، وصلوات الله على خليله وسلامه ، لقد بلغ من كرمه وأدبه مع ضيوفه أنه كان لا يتعاطى شيئاً من
أسباب التهيؤ للضيافة بمرأى منهم ، فلذلك مدحه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه الخلة الجميلة ، والآداب الجليلة ، فقال تعالى : { فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } أي : ذهب على خفاء منهم ، كيلا يشعروا به ، والمهتم بأمر ضيفه بمرأى منه ، ربما يعدّ كالمستأذن له في الضيافة ، فهذا من الآداب التي ينبغي أي : يتمسك بها ذوو المروءة ، وأولو القوة .
وأشد من الإستئذان في الخروج للجهاد ونصرة الدين ، والتثاقل عن المبادرة إليه ، بعد الحض عليه والمناداة .
وأسوأ أحوال المتثاقل ، وقد دعي الناس إلى الغزاة ، أن يكون متمسكاً بشعبة من النفاق . نعوذ بالله من التعرض لسخطه .
ثم بيّن تعالى جلية شأن أولئك المنافقين المستأذنين ، بأنهم لم يريدوا الخروج للجهاد حقيقة ، ولذلك خذلهم ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ } [ 46 ] .
{ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً } بضم العين وتشديد الدال ، أي : قوةً من مال وسلاح وزادٍ ونحوها { وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ } أي : نهوضهم للخروج { فَثَبَّطَهُمْ } أي : فكسّلهم وضعّف رغبتهم { وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ } أي : من النساء والصبيان .
تنبيهات :
الأول : دل قوله تعالى : { لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً } على أن عدة الحرب ، من الكُراع والسلاح وجميع ما يستعان به على العدوّ ، من جملة الجهاد .
فما صرف في المجاهدين ، صرف في ذلك ، وهذا جليّ فيما يتقى به من العدة كالسلاح ، فأما ما يحصل به الإرهاب من الرايات والطبول ونحو ذلك ، مما يضعف به قلب العدوّ ، فهو داخل في الجهاد ، وقد قال تعالى في سورة الأنفال : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } ، ويكون ذلك كلباس الحرير حالة الحرب ، وهذا جليّ حيث لا يؤدي إلى السرَف .
الثاني : إن الفعل يحسن بالنية ، ويقبح بالنية ، وإن استويا في الصورة ، لأن النفير واجب مع نية النصر ، وقبيح مع إرادة تحصيل القبيح ، وذلك لأنه تعالى أخبر أنه كره انبعاثهم لما يحصل منه من إرادة المكر بالمسلمين .
الثالث : للإمام منع مِنْ يتهم بمضرة المسلمين ، أن يخرج للجهاد ، فله نفي الجاسوس والمرجف والمخذّل . ذكر ذلك كله بعض مفسري الزيدية .
الرابع : ذكروا أن قوله تعالى : { وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ } تمثيل لإلقاء الله تعالى كراهة الخروج في قلوبهم ، يعني نزّل خلق داعية القعود فيهم ، منزلة الأمر ، والقول الطالب ، كقوله تعالى : { فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } أي : أماتهم ، أو هو تمثيل لوسوسة الشيطان بالأمر بالقعود ، أو هو حكاية قول بعضهم لبعض ، أو هو إذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بالقعود .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى قوله : { مَعَ الْقَاعِدِينَ } ؟ قلت : هو ذم لهم وتعجيز ، وإلحاق بالنساء والصبيان والزَّمْنَى الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت ، وهم القاعدون والخالفون والخوالف ، ويبينه قوله تعالى : { رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفَ } .
قال الناصر : وهذا من تنبيهاته الحسنة . ونزيده بسطاً فنقول :
لو قيل : { اقْعُدُوا } مقتصراً عليه ، لم يُفِدْ سوى أمرهم بالقعود ، وكذلك : كُونوا مع الْقَاعِدِينَ .
ولا تحصل هذه الفائدة من إلحاقهم بهؤلاء الأصناف الموصوفين عند الناس بالتخلف والتقاعد ، الموسومين بهذه السمة ، إلا من عبارة الآية ، ولعن الله فرعون ، لقد بالغ في توعيد موسى عليه السلام بقوله : { لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } ، ولم يقل : لأجعلنك مسجوناً . لمثل هذه النكتة من البلاغة .
ثم بين تعالى سرّ كراهته لخروجهم بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } [ 47 ] .
{ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً } أي : فساداً وشرّاً { وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ } أي : ولأسرعوا السير والمشي بينكم بالفساد .
قال الشهاب : الإيضاع : إسراع سير الإبل . يقال : وضعت الناقة ، تضع إذا أسرعت ، وأوضعتها أنا .
والمراد : الإسراع بالنمائم ، لأن الراكب أسرع من الماشي . فقيل : المفعول مقدَّر ، وهو النمائم ، فشبه النمائم بالركائب في جريانها وانتقالها ، وأثبت لها الإيضاع . ففيه تخييلية ومكنية .
وقيل : إنه استعارة تبعية ، شبه سرعة إفسادهم
لذات البيْن بالنميمة ، بسرعة سير الركائب ، ثم استعير لها الإيضاع ، وهو للإبل .
و خلال جمع خلل ، وهو الفرجة ، استعمل ظرفاً بمعنى بين .
واعلم أن قوله : { وَلَأَوْضَعُوا } مرسوم في الإمام بألفين ، لأن الفتحة كانت تكتب ألفاً قبل الخط العربي ، والخط العربي اختراع قريباً من نزول القرآن ، وقد بقي من تلك الألف أثر في الطباع ، فكتبوا صورة الهمزة ألفاً وفتحها ألفاً أخرى ونحوه : { أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ } .
{ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ } أي : يطلبون لكم ما تفتنون ، بإيقاع الخلاف فيما بينكم ، وإلقاء الرعب في قلوبكم ، وإفساد نيّاتكم { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } أي : منقادون لقولهم مستحسنون لحديثهم ، وإن كانوا لا يعلمون حالهم ، لضعف عقولهم ، فيتوهمون منهم النصح والإعانة ، وهم يريدون التخذيل والفتنة ، فيؤدي إلى وقوع شرّ بين المؤمنين ، وفساد كبير .
وقال مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير ، أي : فيكم عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم .
قال ابن كثير : وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم ، بل هذا عامّ في جميع الأحوال . والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق ، و إليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين .
قال محمد بن إسحاق : كان استأذن ، فيما بلغني ، من ذوي الشرف منهم ، عبد الله بن أبيّ ابن سلول والجدّ بن قيس ، وكانوا أشرافاً في قومهم ، فثبطهم الله ، لعلمه بهم أن يخرجوا فيفسدوا عليه جنده .
وكان في جنده قوم أهل محبة لهم وطاعة فيها يدعونهم إليه ، لشرفهم فيهم ، فقال : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } . انتهى .
{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } ولا يخفى عليه شيء من أمرهم ، وفيه شمول للفريقين : القاعدين والسماعين .
ثم برهن تعالى على ابتغائهم الفتنة في كل مرة بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورُ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ } [ 48 ] .
قال الشهاب : المراد من الأمور المكايد ، فتقليبها مجاز عن تدبيرها ، أو الآراء ، فتقليبها تفتيشها وإحالتها .
{ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ } وهو تأييدك ونصرك وظفرك { وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ } أي : علا دينه { وَهُمْ كَارِهُونَ } أي : على رغم منهم .
قال ابن كثير : لما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة ، رمته العرب عن قوس واحدة ، وحاربته هود المدينة ومنافقوها . فلما نصره الله يوم بدر ، وأعلى كلمته . قال ابن أبيّ وأصحابه : هذا أمر قد توجَّه ، أي : أقبل ، فدخلوا في الإسلام ظاهراً . ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله ، أغاظهم ذلك وساءهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } [ 49 ] .
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي } أي : في القعود { وَلا تَفْتِنِّي } أي : لا توقعني في الفتنة .
روي عن مجاهد وابن عباس أنها نزلت في الجدّ بن قيس ، أخي بني سلمة ، وذلك فيما رواه محمد بن إسحاق ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ذات يوم وهو في جهازه : < هل لك يا جدّ في جلاد بني الأصفر ؟ > فقال : يا رسول الله ! أو تأذن لي ولا تفتنِّي ؟ فوالله ! لقد عرف قومي ما رجل أشد عجباً بالنساء مني ، وإني أخشى ، إن رأيت نساء بني الأصفر ، ألَّا أصبر عنهن ، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : < أذنت لك ! > .
قال الشهاب يعني أنه يخشى العشق لهن ، أو مواقعتهن من غير حلّ .
وبنات الأصفر : للروم ، كبني الأصفر . وقيل في وجه التسمية وجوه : منها أنهم ملكهم بعض الحبشة ، فتولد بينهم نساء وأولاد ذهبية الألوان . انتهى .
قال ابن كثير : كان الجدّ بن قيس هذا من أشرف بني سلمة .
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : < من سيدكم يا بني سلمة ؟ > قالوا : الجدّ بن قيس ؟ على أنا نبخِّله .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < وأي داء أدوأ من البخل ؟ ولكن سيّدكم الفتى الجعد الأبيض ، بشر بن البراء بن معرور > .
وقوله تعالى : { أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } قال أبو السعود : أي : في عينها ونفسها ، وأكمل أفرادها ، الغني عن الوصف بالكمال ، الحقيق باختصاص اسم الجنس به ، سقطوا . لا في شيء مغاير لها ، فضلاً عن أن يكون مهرباً ومخلصاً عنها . وذلك بم فعلوا من العزيمة على التخلف ، والجرأة على الإستئذان بهذه الطريقة الشنيعة ، ومن القعود بالإذن المبني عليه ، وعلى الإعتذارات الكاذبة ، وقرئ بإفراد الفعل ، محافظة
على لفظ من . وفي تصدير الجملة بحرف التنبيه ، مع تقديم الظرف ، إيذان بأنهم وقعوا فيها ، وهم يحسبون أنها منجى من الفتنة ، زعماً منهم أن الفتنة إنما هي التخلف بغير إذن . وفي التعبير عن الإفتتان بالسقوط في الفتنة ، تنزل لها منزلة المهواة المهلكة ، المفصحة عن ترديّهم في درجات الردى أسفل سافلين . انتهى .
{ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } أي : ستحيط بهم يوم القيامة ، فلا محيد لهم عنها ولا مهرب ، وهذا وعيد لهم على ما فعلوا .
ثم بيّن عداوتهم ، زيادة في تشهير مساوئهم ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ } [ 50 ] .
{ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ } أي : من فتح وظفر وغنيمة { تَسُؤْهُمْ } أي : تورثهم مساءة لفرط عداوتهم { وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ } أي : من نوع شدة { يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا } أي : بالحزم في القعود { مِنْ قَبْلُ } أي : من قبل إصابة المصيبة ، فيتبجحوا بما صنعوا حامدين لآرائهم { وَيَتَوَلَّوْا } أي : عن مجتمعهم الذي أظهروا فيه الفرح برأيهم ، { وَهُمْ فَرِحُونَ } أي : برأيهم وبما أصابكم وبما سلموا .
ثم أرشد تعالى إلى جوابهم ببطلان ما بنوا عليه مسرتهم ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [ 51 ] .
{ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا } أي : ما أثبته لمصلحتنا الدنيوية أو الأخروية ، فلا وجه لهذا الفرح ، لرضانا بقضائه في تلك المصيبة ، فلم يسؤنا بالحقيقة كيف ؟
ولم يكتبها علينا ليضرَّنا بها ، إذ : { هُوَ مَوْلانَا } أي : يتولى أمورنا ، فإنما كتبها علينا ليوفقنا للصبر والرضا بها ، فيعطينا من الأجر ما هو خير منها { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } أي : لأنه لا ناصر ولا متولي لأمرهم غيره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ } [ 52 ] .
{ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ } أي : تنتظرون { بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ } أي : العاقبتين اللتين كل واحدة منهما هي حسنى العواقب ، وهما النصر والشهادة { وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ } أي : إحدى السُّوئين من العواقب إما : { أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ } أي : كما أصاب من قبلكم من الأمم { أَوْ } بعذاب : { بِأَيْدِينَا } وهو القتل على الكفر .
{ فَتَرَبَّصُوا } أي : بنا ما ذكر من عواقبنا { إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ } أي : منتظرون ما هو عاقبتكم فلا بدّ أن يلقى كلنا ما يتربصه ، لا يتجاوزه ، فلا تشاهدون إلا ما يسرنا ، ولا نشاهد إلا ما يسوؤكم .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ } [ 53 ] .
{ قُلْ أَنْفِقُوا } يعني أموالكم في سبيل الله ووجوه البرّ { طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } مصدران وقعا موقع الفاعل ، أي : طائعين من قبل أنفسكم ، أو كارهين مخافة القتل
{ لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ } أي : ذلك الإنفاق . ثم بيّن سبب ذلك بقوله : { إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ } أي : عاتين ، متمردين .
لطائف :
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال : { لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ } ! قلت : هو أمر في معنى الخبر ، كقوله تبارك و تعالى : { قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً } ومعناه : لن يتقبل منكم ، أنفقتم طوعاً أو كرهاً ، ونحوه قوله تعالى :
{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } .
وقوله :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةً
أي : لن يغفر الله لهم ، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ، ولا نلومك ، أسأت إلينا أم أحسنت .
فإن قلت : متى يجوز هذا ؟ قلت : إذا دلّ الكلام عليه ، كما جاز عكسه في قولك : رحم الله زيداً وغفر له .
فإن قلت : لم فعل ذلك ؟ قلت : لنكتة فيه ، وهي أن كُثَيّراًَ كأنَّه يقول لعزّة : امتحني لطف محلك عندي ، وقوة محبتي لك ، وعامليني بالإساءة والإحسان ، وانظري : هل يتفاوت حالي معك ، مسيئةً كنتِ أو محسنة ! وفي معناه قول القائل :
~أَخُوَكَ الذي إِن قُمتَ بالسيف عامداً لِتَضْرِبهُ لَمْ يَسْتَغِشَّكَ في الوُدِّ
وكذلك المعنى : أنفقوا وانظروا ، هل يتقبل منكم ؟ واستغفروا لهم أو لا تستغفر لهم ، وانظر هل ترى اختلافاً بين حال الإستغفار وتركه ؟
فإن قلت : ما الغرض في نفي التقبّل ، أهو ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم تقبّله منهم ، ورده عليهم ما يبذلون منه ، أم هو كونه غير مقبول عند الله تعالى ، ذاهباً هباء لا ثواب له ؟ قلت : يحتمل الأمرين جميعاً .
وقد روي أن الآية من تتمة جواب الجدّ بن قيس حيث قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : هذا مالي أعينك به ، فاتركني ولا تفتني . والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } [ 54 ] .
ولما بيّن تعالى قبائح أفعال المنافقين ، وما لهم في الآخرة من العذاب المهين ، وعدم قبول نفقاتهم ، تأثره ببيان أن ما يظنونه من منافع الدنيا هو في الحقيقة سبب لعذابهم وبلائهم ، فينجلي تمام الإنجلاء أن النفاق مهواة الخسار ، لجلبه آفات الدنيا والآخرة ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ 55 ] .
{ فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ } أي : لأن ذلك استدراج لهم ، كما قال : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ، أي : بسبب ما يكابدون لجمعها وحفظها من المتاعب ، وما يرون فيها من الشدائد والمصائب ، وقوله : { لِيُعَذِّبَهُمْ } قيل : اللام زائدة .
وقيل : المفعول محذوف ، وهذه تعليلية ، أي : يريد إعطاءهم لتعذيبهم ، { وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } أي : فيموتوا كافرين ، لاهين بالتمتع عن النظر في العاقبة ، فيكون ذلك استدراجاً لهم .
وأصل الزهوق الخروج بصعوبة - أفاده القاضي - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } [ 56 ] .
{ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ } يعني المنافقين { إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ } في الدِّين ليدفعوا ، بدلالة اليمين ، دلائل النفاق { وَمَا هُمْ مِنْكُمْ } في ذلك يعني أنهم كاذبون { وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } أي : يخافون القتل ، وما يُفعل بالمشركين ، فيتظاهرون بالإسلام تقية ، ويؤيدونه بالأيمان الفاجرة .
ثم أشار إلى سبب الخوف ، وهو اضطرارهم إلى مساكنهم مع ضعفهم ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } [ 57 ] .
{ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً } أي : حصناً يلتجئون إليه { أَوْ مَغَارَاتٍ } يعني غيراناً في الجبال يسكن كل واحد منهم غاراً { أَوْ مُدَّخَلاً } يعني موضع دخول يدخلون فيه ، والسرب في الأرض { لَوَلَّوْا إِلَيْهِ } أي : لأقبلوا نحوه { وَهُمْ يَجْمَحُونَ } أي : يسرعون إسراعاً ، لا يردهم شيء ، كالفرس الجموح ، أي : النَّفور الذي لا يرده لجام ، أي : لو وجدوا شيئاً من هذه الأمكنة التي هي منفور عنها ، مستنكرة ، لأتوه لشدة خوفهم ، وكراهتهم للمسلمين ، وغمهم بعزّ الإسلام ، ونصر أهله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } [ 58 ] .
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ } أي : يعيبك { فِي الصَّدَقَاتِ } أي : في قسمتها .
ثم بيّن فساد لمزهم ، وأنه لا منشأ له سوى حرصهم على حطام الدنيا بقوله : { فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا } أي : قدر ما يريدون { رَضُوا } فجعلوه عدلاً { وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } فيجعلونه غير عدل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } [ 59 ] .
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ } أي : كفانا فضله ، وما قسمه لنا { سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } أي : بعد هذا ، حسبما نرجو ونؤملّ .
{ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } أي : في أن يغنمنا ويخولّنا فضله .
والجواب محذوف بناء على ظهوره . أي : لكان خيراً لهم .
روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو يقسم فيئاً ، أتاه ذو الخووسلم : رجل من بني تميم - فقال : يا رسول الله ! اعدل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ويلك من يعدل إذا لم أعدل ؟ > فقال عُمَر بن الخطاب : إيذن لي فيه فأضرب عنقه ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرؤون القرآن ، لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 60 ] { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
لما ذكر تعالى لمزهم في الصدقات تأثره ببيان حقِّيَّة ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من القسمة ، إذ لم يتجاوز فيها مصارفها المشروعة له ، وهو عين العدل ، وذلك أنه تعالى شرع قسمها لهؤلاء ، ولم يكله إلى أحد غيره ، ولم يأخذ صلى الله عليه وسلم منها لنفسه شيئاً ، ففيم اللمز لقاسمها ، صلوات الله عليه ؟
روى البخاري عن معاوية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، وإنما أنا قاسم ، والله يعطي > .
وروى أبو داود عن زياد بن الحارث رضي الله عنه قال : أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فبايعته ، فأتى رجل فقال : أعطني من الصدقة ، فقال له : < إن الله تعالى لم يرض بحكم نبيّ ولا غيره في الصدقات ، حتى حكم فيها هو ، فجزأها ثمانية أجزاء ، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك > .
فالآية ردّ لمقالة أولئك اللمزة ، وحسم لأطماعهم ، ببيان أنهم بمعزل من الإستحقاق . وإعلام بمن إعطاؤهم عدل ، ومنعهم ظلم .
والفقراء ، جمع فقير ، فعيل بمعنى فاعل ، يقال فقر يفقر من باب تعب ، إذا قل ماله .
والمساكين : جمع مسكين ، من سكن سكوناً ، ذهبت حركته ، لسكونه إلى الناس ، وهو بفتح الميم في لغة بني أسد ، وبكسرها عند غيرهم .
قال ابن السكِّيت : المسكين : الذي لا شيء له ، والفقير : الذي له بُلغة من العيش . وكذلك قال يونس ، وجعل الفقير أحسن حالاً من المسكين .
قال : وسألت أعرابياً : أفقير أنت ؟ فقال : لا ، والله بل مسكين ، وقال الأصمعي : المسكين أحسن حالاً من الفقير ، وهو الوجه ؛ لأن الله تعالى قال : { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ } وكانت تساوي جملة ، وقال في حق الفقراء : { لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ } وقال ابن الأعرابي : المسكين هو الفقير ، وهو الذي لا شيء له ، فجعلهما سواء . كذا في " المصباح " .
قال البدر القرافي : وإذا اجتمعا افترقا ، كما إذا أوصي للفقراء والمساكين ، فلا بد من الصرف للنوعين ، وإن افترقا اجتمعا ، كما إذا أوصي لأحد النوعين ، جاز الصرف للآخر .
قال المهايمي : ثم ذكر تعالى من يحتاج إليهم المحتاجون إلى الصدقات ، فقال :
{ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا } أي : الساعين في تحصيلها : القابض والوازن والكيال والكاتب ، ويعطون أجورهم منها .
ثم ذكر من يحتاج إليهم الإمام فقال : { وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ } .
وهم قوم ضعفت نيتهم في الإسلام ، فيحتاج الإمام إلى تأليف قلوبهم بالعطاء ، تقوية لإسلامهم ، لئلا يسري ضعفهم إلى غيرهم ، أو أشراف يترقب بإعطائهم إسلام نظرائهم .
ثم ذكر تعالى من يعان بها في دفع الرقّ بقوله : { وَفي الرِّقَابِ } .
أي : وللإعانة في فك الرقاب ، فيعطي المكاتبون منها ما يستعينون به على أداء نجوم الكتابة ، وإن كانوا كاسبين ، وهو قول الشافعي والليث ، أو : وللصرف في عتق الرقاب ، بأن يبتاع منها الرقاب فتعتق .
قال ابن عباس والحسن : لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة ، وهو مذهب مالك وأحمد وإسحاق .
ولا يخفى أن الرقاب يعم الوجهين ، وقد ورد في ثواب الإعتاق وفك الرقبة أحاديث كثيرة .
ثم ذكر تعالى من تفك ذمته في الديون بقوله : { وَالْغَاِرِمِينَ } .
وهم الذين ركبتهم الديون لأنفسهم في غير معصية ، ولم يجدوا وفاء ، أو لإصلاح ذات البين ولو أغنياء .
ثم ذكر تعالى الإعانة على الجهاد بقوله : { وَفِي سَبِيل اللهِ } .
فيصرف على المتطوعة في الجهاد ، ويشتري لهم الكراع والسلاح .
قال الرازي : لا يوجب قوله : { وَفِي سَبِيل اللهِ } القصر على الغزاة ، ولذا نقل القفّال في " تفسيره " عن بعض الفقهاء جوازَ صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى ، وبناء الحصون ، وعمارة المساجد ، لأن قوله : { وَفِي سَبِيل اللهِ } عامّ في الكل . انتهى .
ولذا ذهب الحسن وأحمد وإسحاق إلى أن الحج من : { سبيل الله } فيصرف للحجاج منه .
قال في الإقناع و شرحه : والحج من سبيل الله نصاً ، روي عن ابن عباس وابن عمر ، لما روى أبو داود ، أن رجلاً جعل ناقة في سبيل الله ، فأرادت امرأته الحج ، فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم : اركبيها ، فإن الحج من سبيل الله ، فيأخذ إن كان فقيراً ، من الزكاة ما يؤدي به فرض حج أو عَمْرة ، أو يستعين به فيه ، وكذا في نافلتهما ، لأن كلاً من سبيل الله . انتهى .
قال ابن الأثير : و سبيل الله عام ، يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله عزّ وجلَّ ، بأداء الفرائض والنوافل ، وأنواع التطوعات ، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد ، حتى صار لكثرة الإستعمال كأنه مقصور عليه . انتهى .
وقال في " التاج " : كل سبيل أريد به الله عز وجل ، وهو برّ ، داخل في سبيل الله .
ثم ذكر تعالى الإعانة لأبناء الطريق بقوله :
{ وَابْنِ السَّبِيلِ } فيعطي المجتاز في بلدٍ ما يستعين به على بلوغه لبلده .
وقوله تعالى : { فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ } ناصبة مقدَّر ، أي : فرض الله ذلك فريضة ، وقوله : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ } أي : بأحوال الناس ومراتب استحقاقهم .
وقول : { حَكِيمٌ } أي : لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة من الأمور الحسنة التي منها سوق الحقوق إلى مستحقيها .
تنبيهات :
الأول : ظاهر الآية يقضي بالقسمة بين الثمانية الأصناف ، ويؤيد هذا وجهان :
الأول : ما يقتضيه اللفظ اللغوي ، إن قلنا : الواو والتشريك .
والثاني : ما رواه أبو داود في سننه من قوله صلى الله عليه وسلم : < إن الله لم يرض بحكم نبيّ ولا غيره في الصدقات ، حتى حكم فيها ، فجزأها ثمانية أجزاء > الحديث .
وقد ذهب ، إلى هذا ، الشافعي وعكرمة والزهري ، إلا إن استغنى أحدها فتدفع إلى الآخرين ، بلا خلاف .
وذهبت طوائف إلى جواز الصرف في صنف واحد منهم عمر وابن عباس ، وحذيفة وعطاء وابن جبير والحسن ومالك وأبو حنيفة ، والهادي والقاسم وأسباطهما ، وزيد . قال في " التهذيب " : وخرجوا عن الظاهر في دلالة الآية المذكورة والخبر ، بوجوه :
الأول : أن الله تعالى قال في سورة البقرة : { وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } فدل على أن ذكر العدد هنا لبيان جنس من يستحقها .
الثاني : الخبر وهو قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ : أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وتُرَدُّ في فقرائهم .
الثالث : حديث سلمة بن صخر ، فإنه عليه الصلاة والسلام جعل له صدقة بني زريق .
الخامس : أنه لم يظهر في ذلك خلاف من جهة الصحابة فجرى كالمجمع عليه .
الخامس : المعارضة للفظ بالمعنى ، فإن المقصود سدّ الخلة .
وقال صاحب " النهاية " : وهذا أقرب إلى المعنى ، والأول أقرب إلى اللفظ ، ويؤيد أنها مستحقة بالمعنى لا بالإسم ، أنا لو قلنا تستحق بالإسم لزم أن من كان فقيراً غازياً غارماً مسافراً ، أن يستحق سهاماً لهذه الأسباب جميعاً - كذا في تفسير بعض الزيدية - .
وقال الناصر في " الإنتصاف " : القول بوجوب صرفها إلى جميع الأصناف ، حتى لا يجوز ترك صنف واحد منها أخذاً من إشعار اللام بالتمليك ، كما ذهب إليه
الشافعي : لا يسعده السياق ، فإن الآية مصدرة بكلمة الحصر الدالة على قصر جنس الصدقات على الأصناف المعدودة ، وأنها مختصة بهم ، وأن غيرهم لا يستحق فيها نصيباً ، كأنه قيل : إنما هي لهم لا لغيرهم ، فهاذ هو الغرض الذي سيقت له الآية ، فلا اقتضاء فيها لما سواه . انتهى .
الثاني : قال بعضهم : لفظ الصَّدَقات بعمومه يجمع الصدقة الواجبة والنافلة ، ثم إن الصدقة الواجبة تتنوّع أنواعاً ، منها الزكوات لما هو العشر أو نصف العشر ، أو ربع العشر ، وزكاة المواشي والفطرة والكفارات ، نحو كفارة اليمين والظهار والصوم ، وكذلك الهَدْي في الحج ، ومنها ما يؤخذ من أموال الكفار ورؤوسهم ، ولهذا سمى الله الغنائم صدقة في سبب نزول الآية ، وذلك في قسمة غنائم حنين ، فإذا كان اللفظ يعمّ ما ذكر ، فهل تحمل الآية على عمومها في قسمتها على ما ذكر ، أو يخصص البعض ؟
ثم قال : والعلماء قسموا الصدقات ، وجعلوا مصارفها مختلفة ، والكفارة لم يذكر أنها تصرف في الثمانية المصارف .
وقد ورد قوله تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعام سِتِّينَ مِسْكِيناً } وفي الحديث : < أطعم عن كل يوم مسكيناً > ، وورد في الفطرة : < أغنوهم هذا اليوم > .
وورد الأدلة مخصصة لعموم لفظ الصدقات ؟ فإن الزكوات مجمع عليها في أن مصرفها الثمانية الأصناف ، أم كيف تنزل الآية على القواعد الأصولية ؟ . انتهى كلامه .
ولا يخفى كونها مخصصة لعموم لفظ الصدقات ، لأن الخاصّ يقضي على العامّ على أن المراد قصرها على هذه الأصناف ، فكل ما ذكر لم يخرج عنها ، لشمولها له . والله أعلم .
الثالث : المؤلفة قلوبهم حكمهم باق ، لأنه صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة من المسلمين والمشركين ، فيعطون عند الحاجة .
ويحمل ترك عمر وعثمان وعليّ إعطائهم ، على عدم الحاجة إلى إعطائهم في خلافتهم ، لا لسقوط سهمهم ، فإن الآية من آخر ما نزل ، وأعطى أبو بكر عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر .
ومنعُ وجود الحاجة على ممرّ الزمان ، واختلاف أحوال النفوس في القوة والضعف لا يخفى فساده . كذا في " الإقناع " و " شرحه " .
والمؤلفة كما في " الإقناع " هم رؤساء قومهم : من كافر يرجى إسلامه ، أو كف
شره ، ومسلم يرجى بعطيته قوة إيمانه ، أو إسلام نظيره ، أو نصحه في الجهاد ، أو في الدفع عن المسلمين ، أو كف شره كالخوارج ونحوهم ، أو قوة على جباية الزكاة ممن لا يعطيها . انتهى .
الرابع : قال في " الإكليل " : استدل بعموم الآية من أجاز الدفع للفقير القادر على الإكتساب .
وللذمي ، ولمن تلزمه نفقته لسائر القرابة ، للزوج ، ولآله صلى الله عليه وسلم ، حيث حرموا حظهم من الخمس ، ولمواليهم ، ولمن جوّز نقلها .
وقال ابن الفرس : يؤخذ من قوله تعالى : { وَالْعَامِلِينَ } جواز أخذ الأجرة لكل من اشتغل بشيء من أعمال للمسلمين .
قال : وقد احتج به أو عُبَيْد على جواز أحد القضاة الرزقَ فقال : قد فرض الله للعاملين على الصدقة ، وجعل لهم منها حقّاً بقيامهم فيه وسعيهم ، فكذلك القضاة يجوز لهم أخذ الأجرة على عملهم ، وكذا كل من شغل بشيء من أعمال المسلمين .
الخامس : قال الزمخشري : فإن قلت : لم عدل عن اللام إلى في ، في الأربعة الأخيرة ؟ قلت : للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره ، لأن في للوعاء ، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ، ويجعلوا مظنة لها ومصبّاً ، وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر ، وفي فك الغارمين من الغرم ، من التخليص والإنقاذ .
ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة ، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال ، وتكرير في ، في قوله تعالى : { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ } فيه فضل ترجيح لهذين ، على الرقاب والغارمين . انتهى .
قال الناصر : وَثُمَ سر آخر هو أظهر وأقرب ، وذلك أن الأصناف الأربعة الأوائل ملّاك لما عساه يدفع إليهم ، وإنما يأخذونه ملكاً ، فكان دخول اللام لائقاً بهم ، وأما الأربعة الأواخر فلا يملكون ما يصرف نحوهم ، بل ولا يصرف إليهم ، ولكن في مصالح تتعلق بهم .
فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون والبائعون ، فليس نصيبهم مصروفاً إلى أيديهم حتى يعبّر عن ذلك باللام المشعرة بتملكهم لما يصرف نحوهم ، وإنما هم محالّ لهذا الصرف ، والمصلحة المتعلقة به .
وكذلك الغارمون ، إنما يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم ، تخليصاً لذممهم ، لا لهم وأما : { سبيل الله } فواضح فيه ذلك .
وأما : { ابن السبيل } فكأنه كان مندرجاً في
سبيل الله ، وإنما أفرد بالذكر تنبيهاً على خصوصيته ، مع أنه مجرد من الحرفين جميعاً ، وعطفه على المجرور باللام ممكن ، ولكنه على القريب منه أقرب . والله أعلم .
ثم قال : وكان جدي أبو العباس أحمد بن فارس الفقيه ، استنبط من تغاير الحرفين المذكورين وجهاً في الإستدلال لمالك ، رحمه الله ، على أن الغرض بيان المصرف و اللام لذلك لام الملك ، فيقول : متعلق الجارّ الواقع خبراً عن الصدقات محذوف ، فيتعين تقدير ، فإما أن يكون التقدير : إنما الصدقات مصروفة للفقراء ، كقول مالك ، أو مملوكة للفقراء ، كقول الشافعي ، لكن الأول متعين لأنه تقدير ، يكتفي به في الحرفين جميعاً ، يصح تعلق اللام به و في معاً ، فيصح أن نقول : هذا الشيء مصروف في كذا ولكذا ، بخلاف تقديره مملوكة ، فإنه إنما يلتئم مع اللام ، وعند الانتهاء إلى في يحتاج إلى تقدير : مصروفة ليلتئم بها .
فتقديره من اللام عامّ التعلق ، شامل الصحة ، متعين ، والله الموفق . انتهى .
السادس : قال الزمخشري : فإن قلت : فكيف وقعت هذه الآية في تضاعيف ذكر المنافقين ومكايدهم ؟
قلت : دلّ بكون هذه الأصناف مصارف الصدقات خاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم حسماً لأطماعهم ، وإشعاراً باستيجابهم الحرمان ، وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها ، فما لهم وما لها ، وما سلطهم على التكلم فيها ، ولمز قاسمها صلوات الله عليه وسلامه . انتهى .
وتقدم بيانه أيضاً .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 61 ] .
{ وَمِنْهُمُ } أي : من الذين يحلفون بالله إنهم لمنكم ، ومن أشدّ من اللامز في الصدقات إذ هم { الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ } أي : يسمع كل ما يقال له ويصدقه ، ويعنون إنه ليس بعيد الغور ، بل سريع الإغترار بكل ما يسمع .
قال أبو السعود : وإنما قالوه لأنه صلوات الله عليه كان لا يواجههم بسوء ما صنعوا ، ويصفح عنهم حلماً وكراماً ، فحملوه على سلامة القلب ، وقالوا ما قالوا .
قال اللغويون : الأُذُن الرجل المستمع القابل لما يقال له ، وصفوا به الواحد والجمع ، فيقال : رجلٌ أذن ، ورجالٌ أذن ، فلا يثنى ولا يجمع ، وإنما سموه باسم العضو تهويلاً وتشنيعاً ، فهو مجاز مرسل ، أطلق فيه الجزء على الكل مبالغة بجعل جملته ، لفرط استماعه ، آلة السماع ، كما سمي الجاسوس عيناً لذلك ، ونحوُه :
~إذا ما بدت ليلَى فكلِّيَ أعينٌ وإن حدثوا عنها فكلِّي مسامعُ
وجعله بعضهم من قبيل التشبيه : بالأُذُن في أنه ليس فيه وراء الإستماع تمييز حق عن باطل .
قال الشهاب : وليس بشيء يعتد به . وقيل إنه على تقدير مضاف ، أي : ذو أذن .
قال الشهاب : وهو مُذْهِب لرونقه . وقيل : هو صفة مشبهة من أذن إليه وله ، كفرح : استمع . قال عَمْرو بن الأهيم :
~فلما أنْ تسايرنا قليلاً أذنَّ إلى الحديثِ فَهُنَّ صُورُ
ولِقَعنب بن أم صاحب :
~إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً مني ، وما سَمِعُوا من صالحٍ دَفَنُوا
~صُمٌّ إذا سَمِعُوا خيراً ذكرتُ به وإن ذُكِرْتُ بشرٍّ عندهُمْ أَذِنُوا
وفي الحديث : < ما أذن الله لشيء ما أذن لنبيّ يتغنى بالقرآن > .
قال أبو عبيد : يعني ما استمع الله لشيء كاستماعه لمن يتلوه ، يجهر به .
وقوله عز وجل : { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } ، أي : استمعت . كذا في " تاج العروس " .
وعلى هذا فأُذن صفة بمعنى سميع ولا تجوّز فيه ، ففيه أربعة أوجه .
وعطف قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ } عطف تفسير : لأنه نفس الإيذاء .
وقوله تعالى : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ } من إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة ، كرجل صدق ، تريد المبالغة في الجودة والصلاح ، كأنه قيل : نعم هو أذن ، ولكن نِعْمَ الأذن أو إضافته على معنى في ، أي : هو أذن في الخير والحق ، وفيما يجب سماعه
وقبوله ، وليس بأذن في غير ذلك .
ودل عليه قراءة حمزة ( ورحمة ) بالجر عطفاً عليه ، أي : هو أذن خير لكم ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله .
ثم فسر كونه أذن خير بقوله : { يُؤْمِنُ بِاللَّهِ } قال القاشاني : هو بيان لينه صلى الله عليه وسلم وقابليته ، لأن الإيمان لا يكون إلا مع سلامة القلب ولطافة النفس ولينها
{ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } أي : يصدق قولهم في الخيرات ، ويسمع كلامهم فيها ويقبله ، { وَرَحْمَةٌ } أي : وهو رحمة { لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ } أي : يعطف عليهم ، ويرقّ لهم ، فينجيهم من العذاب بالتزكية والتعليم ، ويصلح أمر معاشهم ومعادهم ، بالبر والصلة ، وتعليم الأخلاق من الحلم والشفقة والأمر بالمعروف ، باتباعهم إياه فيها ، ووضع الشرائع الموجبة لنظام أمرهم في الدارين ، والتحريض على أبواب البر بالقول والفعل ، إلى غير ذلك . قاله القاشاني .
وقال غيره : أي : هو رحمة للذين أظهروا الإيمان منكم ، معشر المنافقين ، حيث يقبله ، لا تصديقاً لكم ، بل رفقاً بكم ، وترحماً عليكم ، ولا يكشف أسراركم ، ولا يفضحكم ، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين ، مراعاة لما رأى تعالى من الحكمة في الإبقاء عليكم .
قال الشهاب : والمعنى هو أذن خير يسمع آيات الله ودلائله فيصدقها ويستمع للمؤمنين ، فيسلم لهم ما يقولون ، ويصدقهم ، وهو تعريض بأن المنافقين أذن شر ، يسمعون آيات الله ولا يثقون بها ، ويسمعون قول المؤمنين ، ولا يقبلونه وأنه صلى الله عليه وسلم لا يسمع أقوالهم إلا شفقة عليهم ، لا أنه يقبلها لعدم تمييزه ، كما زعموا .
وقال القاشاني في " تفسيره " : كانوا يؤذونه ، صلوات الله عليه ، ويغتابونه بسلامة القلب ، وسرعة القبول والتصديق لما يسمع ، فصدقهم في ذلك وسلّم وقال : هو كذلك ، ولكن بالنسبة إلى الخير ، فإن النفس الأبية والغليظة الجافية ، والكزة القاسية التي تتصلب في الأمور ، ولا تتأثر ، غير مستعدة للكمال ، إذ الكمال الْإِنْسَاْني لا يكون إلا بالقبول والتأثر ، فكلما كانت النفس ألين عريكة ، وأسلم قلباً ، وأسهل قبولاً ، كانت أقبل للكمال ، وأشد استعداداً له .
وليس هذا اللين هو من باب الضعف والبلاهة الذي يقتضي الإنفعال من كل ما يسمع ، حتى المحال ، والتأثر من كل ما يرد عليه ويراه ، حتى الكذب والشرور والضلال ، بل هو من باب اللطافة ، وسرعة القبول لما يناسبه من الخير والصدق ، فلذلك قال : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ } إذ صفاء الإستعداد ، ولطف النفس ، يوجب قبول ما يناسبه من باب الخيرات ، لا ما ينافيه من
باب الشرور ، فإن الإستعداد الخيريّ لا يقبل الشر ، ولا يتأثر به ، ولا ينطبع فيه ، لمنافاته إياه ، وبعده عنه . انتهى .
لطائف :
الأولى : في قوله تعالى : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ } أبلغ أسلوب في الرد عليهم ، فإنه صدقهم في كونه أذناً ، إلا أنه فسره بما هو مدح له ، وثناء عليه .
قال الناصر : لا شيء أبلغ من الردّ عليهم بهذا الوجه ، لأنه في الأول ، إطماع لهم بالموافقة ، ثم كرّ على طمعهم بالحسم ، وأعقبهم في تنقصه باليأس منه .
ويضاهي هذا ، من مستعملات الفقهاء ، القول بالموجب ، لأن في أوله إطماعاً للخصم بالتسليم ، ثم بتّاً للطمع على قرب ، ولا شيء أقطع من الإطماع ثم اليأس يتلوه ويعقبه . والله الموفق .
الثانية : اللام في قوله تعالى : { لِلْمُؤْمِنِينَ } مزيدة للتفرقة بين الإيمان المشهور ، وهو الاعتراف ، وبين الإيمان بمعنى التسليم والتصديق - قاله أبو السعود تبعاً للقاضي ـ .
قال الشهاب : يعني أن الإيمان بالله بمعنى الاعتراف والتصديق ، يتعدى بالباء ، فلذا قال بِاللهِ ، والإيمان للمؤمنين بمعنى جعلهم في أمان من التكذيب بتصديقه لهم ، لما علم من خلوصهم ، متعد بنفسه ، فاللام فيه مزيدة للتقوية .
الثالثة : قال أبو السعود : إسناد الإيمان إليهم بصيغة الفعل ، بعد نسبته إلى المؤمنين بصيغة الفاعل المنبئة عن الرسوخ والاستمرار ، للإيذان بأن إيمانهم أمر حادث ما له من قرار .
وقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ } أي : بما نقل عنهم من قولهم : { هُوَ أُذُنٌ } ونحوه { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : بما يجترئون عليه من إيذانه .
قال أبو السعود : وهذا اعتراض مسوق من قبله عزَّ وجلَّ على نهج الوعيد ، غير تحت الخطاب .
وإيراده صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة مضافاً إلى الاسم الجليل ، لغاية التعظيم ، التنبيه على أن أذيته راجعة إلى جنابه عزَّ وجلَّ ، موجبة لكمال السخط والغضب . انتهى .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا
مُؤْمِنِينَ } [ 62 ] .
{ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ } .
قال الزمخشري : الخطاب للمسلمين ، وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن ، أو يتخلفون عن الجهاد ، ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ، ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذرهم ، ويرضوا عنهم ، فقيل لهم : إن كنتم مؤمنين كما تزعمون ، فأحق من أرضيتم الله ورسوله بالطاعة والوفاق . انتهى .
ولما كان الظاهر بعد العطف بالواو التثنية ، وقد أُفْرِدَ ، وَجَّهُوهُ :
بأن إرضاء الرسول إرضاءً لله تعالى لقوله تعالى : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } ، فلتلازمهما جعلا كشيء واحد ، فعاد عليهما الضمير المفرد ، و : { أَحَقُّ } ، على هذا ، خبر عنهما من غير تقدير .
أو بأن الضمير عائد إلى الله تعالى ، و : { أَحَقُّ } خبره ، لسبقه .
والكلام جملتان ، حذف خبر الجملة الثانية ، لدلالة الأولى عليه ، أي : والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك .
وسيبويه جعله للثاني ، لأنه أقرب ، مع السلامة من الفصل بين المبتدأ والخبر كقوله :
~نَحْنُ بما عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْ دَكَ رَاضٍ والرأيُ مُخْتَلِفُ
أو بأن الضمير لهما بتأيل [ ؟ ؟ ] ما ذكر ، أو كل منهما ، وأنه لم يثن تأدباً لئلا يجمع بين الله وغيره في ضمير تثنية ، وقد نهي عنه ، على كلام فيه .
أو بأن الكلام في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وإرضائه ، فيكون ذكر الله تعظيماً له وتمهيداً ، فلذا لم يخبر عنه ، وخص الخبر بالرسول . قال الشهاب : وفيه تأمل . انتهى .
وقد عهد لهم القول بمثله في آيات كثيرة ، وجواب الشرط مقدر يدل عليه ما قبله ، وقراءة التاء على الالتفات ، للتوبيخ .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ } [ 63 ] .
{ أَلَمْ يَعْلَمُوا } أي : أولئك المنافقون .
قال أبو السعود : والإستفهام للتوبيخ على ما أقدموا عليه من العظيمة ، مع علمهم بسوء عاقبتها .
وقرئ بالتاء على الإلتفات ، لزيادة التقريع والتوبيخ أي : ألم يعلموا بما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من فنون القوارع والإنذارات { أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا } أي : من يخالف الله ورسوله .
قال الليث : حاددته أي : خالفته ، والمحاددة كالمجانبة والمعاداة والمخالفة ، واشتقاقه من الحد ، بمعنى الجهة والجانب ، كما أن المشاقة من الشق بمعناه أيضاً ، فإن كل واحد من المتخالفين والمتعادييْن في حدّ وشقّ ، غير ما عليه صاحبه .
فمعنى : { يُحَادِدِ اللَّهَ } يصير في حدٍّ غير حدٍّ أولياء الله ، بالمخالفة .
وقال أبو مسلم : المحادة مأخوذة من الحديد ، حديد السلاح .
وقوله تعالى : { ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ } أي : الذل والهوان الدائم . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ } [ 64 ] .
{ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ } أي : في شأنهم ، فإن ما نزل في حقهم ، نازل عليهم { سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ } أي : من الأسرار الخفية ، فضلاً عما كانوا يظهرونه فيما بينهم من أقاويل الكفر والنفاق .
ومعنى تنبئتها إياهم بما في قلوبهم ، مع أنه معلوم لهم ، وأن المحذور عندهم اطّلاع المؤمنين على أسرارهم ، لا اطّلاع أنفسهم عليها أنها تذيع ما كانوا يخفونه من أسرارهم ، فتنتشر فيما بين الناس ، فيسمعونها من أفواه الرجال مذاعة ، فكأنها تخبرهم بها .
والمراد بالتنبئة المبالغة في كون السورة مشتملة على أسرارهم ، كأنها تعلم من أحوالهم الباطنة ما لا يعلمونه ، فتنبئهم بها ، وتنعي عليهم قبائحهم .
وقيل : معنى يحذر ليحذر ، وقيل : الضميران الأولان للمؤمنين ، والثالث للمنافقين ، ولا يبالي بالتفكيك عند ظهور الأمر بعود المعنى إليه ، أي : يحذر المنافقون أن تنزل على المؤمنين سورة تخبرهم بما في قلوب المنافقين . أفاده أبو السعود .
أجيب : ت : المنافق كافر ، فكيف يحذر نزول الوحي على الرسول ؟ أجيب : بأن القوم ، وإن كانوا كافرين بدين الرسول ، إلا أنهم شاهدوا أنه صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم بما يكتمونه ، فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف في قلوبهم .
وقال الأصمّ : إنهم كانوا يعرفون كونه رسولاً صادقاً مدينه ، الله ، إلا أنهم كفروا به حسداً وعناداً .
وتعقبه القاضي بأن يبعد في العالم بالله وبرسوله وصحة دينه ، أن يكون محادّاً لهما . لكن قال الرازي : هو غير بعيد ، لأن الحسد إذا قوي في القلب ، صار بحيث ينازع في المحسوسات . انتهى .
وقال أبو مسلم : هذا حذر أظهره المنافقون على وجه الإستهزاء حين رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر كل شيء ، ويدعي أنه عن الوحي ، وكان المنافقون يكذبون بذلك فيما بينهم ، فأخبر الله رسوله بذلك ، وأمره أن يعلمهم أنه يظهر سرهم الذي حذروا ظهوره ، ولذلك قال تعالى : { قُلِ اسْتَهْزِئُوا } أي : بالله وآياته ورسوله ، أو افعلوا الإستهزاء ، وهو أمر تهديد : { إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ } أي : مظهر بالوحي ما تحذرون خروجه من إنزال السورة ، ومن مثالبكم ومخازيكم المستكنة في قلوبكم الفاضحة لكم ، كقوله تعالى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ } إلى قوله :
{ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } ، ولهذا قال قتادة : كانت تسمى هذه السورة الفاضحة ، فاضحة للمنافقين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } [ 65 ] .
{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ } أي : عن إتيانهم بتلك القبائح المتضمنة للإستهزاء بما ذكر ، { لَيَقُولُنَّ } أي : في الإعتذار ، إنه لم يكن عن القلب حتى يكون نفاقاً وكفراً بل : { إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ } أي : ندخل هذا الكلام لترويح النفس { وَنَلْعَبُ } أي : نمزح { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } أي : في ترويحكم ومزاحكم ، ولم تجدوا لهما كلاماً آخر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } [ 66 ] .
{ لا تَعْتَذِرُوا } أي : لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة ، فالنهي عن الإشتغال به وإدامته إذ أصله وقع { قَدْ كَفَرْتُمْ } أي : أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم والطعن فيه وباستهزائكم بمقالكم { بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } أي : بعد إظهاركم الإيمان .
تنبيه :
قال في " الإكليل " : قال إلكيا : فيه دلالة على أن اللاعب والجادّ في إظهار كلمة الكفر سواء ، وأن الإستهزاء بآيات الله كفر - انتهى - .
قال الرازي : لأن الإستهزاء يدل على الإستخفاف ، والعمدة الكبرى في الإيمان تعظيم الله تعالى بأقصى الإمكان ، والجمع بينهما محال .
وقال الإمام ابن حزم في " الملل " : كل ما فيه كفر بالبارئ تعالى ، واستخفاف به ، أو بنبيّ من أنبيائه ، أو بملك من ملائكته ، أو بآية من آياته عزَّ وجلَّ ، فلا يحلّ سماعه ، ولا النطق به ، ولا يحلّ الجلوس حيث يلفظ به . ثم ساق الآية .
وقوله تعالى : { إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ } أي : لتوبتهم وإخلاصهم ، أو تجنبهم عن الإيذاء والإستهزاء { نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } أي : مصرّين على النفاق ، أو مُقدمين على الإيذاء والإستهزاء .
تنبيه :
روي في صفة استهزاء المنافقين روايات عدة : قال ابن إسحاق : كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت ، أخو بني عَمْرو بن عوف ، ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مُخَشَّن بن حُمَيّر ، ويقال مَخْشِيّ ، يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك ، فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً . والله ! لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال ، إرجافاً وترهيباً للمؤمنين ، فقال مخشن بن حمير : والله ! لوددت أن أقاضى على أن يُضرَبَ كل منا مائة جلدة ، وأنا ننقلب أن ينزل فينا قرآن ، لمقالتكم هذه ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني لعمار بن ياسر : < أدرك القوم ، فإنهم قد احترقوا ، فسلهم عما قالوا ، فإن أنكروا فقل : بلى ! قلتم : كذا وكذا > . فانطلق إليهم عمار ، فقال ذلك لهم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه ، فقال وديعة بن ثابت - و رسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على ناقته - : يا رسول الله ! إنما كنا نخوض ونلعب ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ فيهم : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } .
وقال مخشن بن حمير : يا رسول الله ! قعد بي إسمي وإسم أبي ، وكان الذي عُفِيَ عنه في هذه الآية
مخشن ، فتسمى عبد الرحمن ، وسأل الله تعالى أن يقتله شهيداً لا يعلم بمكانه فقتل بيوم اليمامة ، فلم يوجد له أثر انتهى .
وقال عِكْرِمَة : ممن إن شاء الله تعالى عفا عنه يقول : اللهم إني أسمع آية أنا أعنى بها ، تقشعر منها الجلود ، وتوجَل منها القلوب ، اللهم فاجعل وفاتي قتيلاً في سبيلك ، لا يقول أحد : أنا غسلت ، أنا كفنت ، أنا دفنت .
قال : فأصيب يوم اليمامة ، فما من أحد من المسلمين إلا وقد وُجِدَ غيره .
ومما روي في استهزائهم أن رجلاً من المنافقين قال : ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء ، أرغب بطوناً ، ولا أكذب ألسناً ، ولا أجبن عند اللقاء ، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء إلى النبيّ صلوات الله عليه وقد ارتحل وركب ناقته ، فقال : يا رسول الله ! إنما كنا نخوض ونلعب ، فقال : { أَبِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَآيَاتِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } الآية ، وهو متعلق بسيف الرسول ، وما يلتفت إليه صلى الله عليه وسلم .
قال الزجاج : الطائفة في اللغة أصلها الجماعة ، لأنها المقدار الذي يمكنها أن تطيف بالشيء ، ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة . انتهى .
وإيقاع الجمع على الواحد معروف في كلام العرب .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ 67 ] .
{ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ } أي : متشابهون في النفاق والبعد عن الإيمان ، كتشابه أبعاض الشيء الواحد . والمراد الإتحاد في الحقيقة والصفة . فمن اتصالية .
قال الزمخشري : أريد به نفي أن يكونوا من المؤمنين ، وتكذيبهم في قولهم ويحلفون بالله إنهم لمنكم ، وتقرير قوله : وما هم منكم ، ثم وصفهم بما يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين بقوله : { يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ } كالكفر والمعاصي ، { وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ } كالإيمان والطاعات : { وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } أي : بخلاً
بالمبرّات ، والإنفاق في سبيل الله ، فإن قبض اليد كناية عن الشح والبخل ، كما أن بسطها كناية عن الجود ، لأن من يُعطي يمد يده ، بخلاف من يمنع { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } أي : أغفلوا ذكره وطاعته ، فتركهم من رحمته وفضله .
قال الشهاب : معنى : { نَسُوا اللَّهَ } أنهم لا يذكرونه ولا يطيعونه ، لأن الذكر له مستلزم لإطاعته ، فجعل النسيان مجازاً عن الترك ، وهو كناية عن ترك الطاعة ، ونسيان الله منع لطفه وفضله عنهم .
قال النحرير : جعل النسيان مجازاً لاستحالة حقيقته عليه تعالى ، وامتناع المؤاخذة على نسيان البشر .
{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } أي : الكاملون في الفسق ، الذي هو التمرد في الكفر ، والإنسلاخ عن كل خير .
وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله به المنافقين حين بالغ في ذمهم ، وإذا كره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلم أن يقول : كسلت ، لأن المنافقين وصفوا بالكسل في قوله : { كُسَالَى } فما ظنك بالفسق ؟ أفاده الزمخشري .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ } [ 68 ] .
{ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسبُهُمْ } أي : عقاباً وجزاءً : { وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ } أي : لا ينقطع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ } [ 69 ] .
{ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } أي : أنتم مثل الذين أو فعلتم مثلهم ، أي : ممن أنعم عليهم ثم عذبوا ، والإلتفات من الغيبة إلى الخطاب للتشديد { كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً } في أنفسهم { وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً } أي : تفيدهم مزيد قوة ، ومنافع جمة { وَأَوْلاداً } أي : تفيدهم
مزيد قوة لا تفوت بفوات المال ، ومنافع أخر { فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ } أي : انتفعوا بنصيبهم ، ثم أعطاكم أيها المنافقون أقل مما أعطاهم { فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } أي : دخلتم في الباطل ، كالخوض الذي خاضوه ، أو كالفوج الذي خاضوا { أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } أي : لم يستحقوا عليها ثواباً في الدارين ، أم في الآخرة فظاهر ، وأما في الدنيا فما لهم من الذل والهوان وغير ذلك { وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } أي : الذين خسروا الدارين .
روى ابن جريج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < والذي نفسي بيده ! لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر ، وذراعاً بذراع ، وباعاً بباع ، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه > . قالوا : ومن هم يا رسول الله ؟ أهل الكتاب ؟ قال : < فمن ؟ > وفي رواية قال أبو هريرة :
< اقرؤوا إن شئتم القرآن > : { كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } الآية ـ قال أبو هريرة : الخَلاقُ : الدين ـ قالوا : يا رسول الله ! كما صنعت فارس والروم ؟ قال : < فهل الناس إلا هم > ؟ وهذا الحديث له شاهد في الصحيح - أفاده ابن كثير - .
لطيفة :
قال الزمخشري : فإن قلت : أي : فائدة في قوله : { فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ } ؟ وقوله : { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ } مغن منه ، كما أغنى قوله : { كَالَّذِي خَاضُوا } عن أن يقال : وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا ؟ قلت : فائدته أن يذم الأولين بالإستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا ، ورضاهم بها ، والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة ، وطلب الفلاح في الآخرة ، وأن يخسس أمر الإستمتاع ، ويهجن أمر الراضي به ، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم ، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماحة فعله فتقول : أنت مثل فرعون ، كان يقتل بغير جرم ، ويعذب ويعسف ، وأنت تفعل مثل فعله . وأما : { وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } فمعطوف على ما قبله مستند إليه ، مستغن ، باستناده إليه ، عن تلك التقدمة .
ثم وعظ تعالى المنافقين بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ 70 ] .
{ أَلَمْ يَأْتِهِمْ } أي : بطريق التواتر { نَبَأُ } أي : خبر { الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } وهو إهلاكهم بعد تنعيمهم لكفرهم { قَوْمِ نُوحٍ } أنعم عليهم بنعم ، منها تطويل أعمارهم ، ثم أهلكوا بالطوفان { وَعَادٍ } قوم هود ، أنعم عليهم بنعم منها مزيد قوتهم ، ثم أهلكوا بالريح { وَثَمُودَ } قوم صالح ، أنعم عليهم بنعم ، منها القصور ، ثم أهلكوا بالرجفة { وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ } أهلكوا بالهدم - كذا في " التنوير " .
وقال المهايمي : أنعم عليهم بنعم منها عظم الملك ، ثم أهلك ملكهم نمرود بالبعوض الداخل في أنفه { وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ } قوم شعيب ، أنعم عليهم بنعم ، منها التجارة ، ثم أهلكهم بإفاضة النار عليهم { وَالْمُؤْتَفِكَاتِ } قريات قوم لوط ، ائتفكت بهم ، أي : انقلبت بهم ، فصار عاليها سافلها ، وأمطروا حجارة من سجيل .
وقوله تعالى : { أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } استئناف لبيان نبئهم ، أن جاءتهم بالآيات الدالة على رسالتهم { فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ } أي : بإهلاكه إياهم ، لأنه قام عليهم الحجة ، بإرسال الرسل ، وإزاحة العلل .
والفاء للعطف على مقدَّر ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام ، أي : فكذبهم فأهلكهم الله تعالى ، فما ظلمهم بذلك { وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي : بالكفر والتكذيب ، وترك شكره تعالى ، وصرفهم نعمه إلى غيره ما أعطاهم إياهم لأجله ، فاستحقوا ذلك العذاب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ 71 ] .
{ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } في مقابلة قوله في المنافقين ، { بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ } { يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ
الصَّلاةَ } أي : فلا يزالون يذكرونه تعالى ، فهو في مقابلة ما سبق من قوله
{ نَسُوااللَّهَ }
{ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } بمقابلة قوله : { وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } { وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : في كل أمر ونهي ، وهو بمقابلة وصف المنافقين ، بكمال الفسق والخروج عن الطاعة : { أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ 72 ] .
{ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } أي : من تحت شجرها ومسكنها أنهار الخمر والماء والعسل واللبن { خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً } أي : منازل حسنة تستطيبها النفوس أو يطيب فيها العيش ، { فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } أي : إقامة وثبات ويقال : { عَدْنٍ } علم لموضع معين في الجنة ، لآثارٍ فيه ، ولما كان
{ وَمَسَاكِنَ } معطوفاً على : { جَنَّاتٍ } ، قيل : إن المتعاطفين إما أن يتغايرا بالذات ، فيكونوا وُعِدُوا بشيئين ، وهما الجنات بمعنى البساتين ومساكن في الجنة ، فلكل أحد جنة ومسكن ، أو الجنات المقصود بها غير عدن ، وهي لعامة المؤمنين ، وعَدْنٍ للنبيين عليهم الصلاة والسلام ، والشهداء والصديقين ، وإما أن يتحدا ذاتاً ويتغايرا صفة ، فينزل التغاير الثاني منزلة الأول ، ويعطف عليه ، فكل منهما عام ، ولكن الأول باعتبار اشتمالها على الأنهار والبساتين ، والثاني باعتبار الدور والمنازل .
قال القاضي : فكأنه وصف الموعود أولاً بأنه من جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها لتميل إليه طباعهم ، أول ما يقرع أسماعهم ، ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش ، معرى من شوائب الكدورات التي لا تخلو عن شيء منها أماكن الدنيا ، وفيها ما تشتهي الأنفس ، وتلذ الأعين .
ثم وصفه بأنه دار إقامة وثذكر ، ي جوار العلّيين ، لا يعتريهم فيها فناء ولا تغيّر ، ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك فقال : { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } إذ عليه يدور فوز كل خير وسعادة ، وبه يناط نيل كل شرف وسيادة ، لعل عدم نظمه في سلك الوعد مع عزته في نفسه لأنه متحقق في ضمن كل موعود ، ولأنه مستمر في الدارين . أفاده أبو السعود .
وإيثار رضوان الله على ما ذكر ، إشارة إلى إفادة أن قدراً يسيراً منه خير من ذلك .
وقد روى الإمام مالك والشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله عزَّ وجلَّ يقول لأهل الجنة : < يا أهل الجنة ! فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك ، فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب ؛ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ؟ فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا رب ، وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم بعده أبداً > .
وروى المحاملي والبزار عن جابر ، رفعه : إذا دخل أهل الجنة الجنة ، قال الله عزَّ وجلَّ : < هل تشتهون شيئاً فأزيدكم ؟ قالوا : يا ربنا ! ما هو خير مما أعطيتنا ؟ قال : رضواني أكبر > .
{ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } أي : لا ما يعدّه الناس فوزاً من حظوظ الدنيا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ 73 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ } قيل : مجاهدة المنافقين بالحجة لا بالسيف .
قال في " العناية " : ظاهر الآية يقتضي مقاتلة المنافقين ، وهم غير مظهرين للكفر ، ونحن مأمورون بالظاهر ، فلذا فسر الآية السلفُ بما يدفع ذلك ، بناء على أن الجهاد بذل الجهد في دفع ما لا يرضى ، سواء كان بالقتال أو بغيره ، وهو إن كان حقيقة فظاهر ، وإلا حمل على عموم المجاز ، فجهاز الكفار بالسيف ، وجهاد المنافقين بإلزامهم الحجج ، وإزالة الشبه ونحوه ، أو بإقامة الحدود عليهم ، إذا صدر منهم موجبها ، كما روي عن الحسن في الآية .
وقيل عليه بأن إقامتها واجبة على غيرهم أيضاً ، وأجيب بأنها في زمنه صلى الله عليه وسلم أكثر ما صدرت عنهم . انتهى .
قال ابن العربي : هذه دعوى لا برهان عليها ، وليس العاصي بمنافق ، إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق كامناً ، لا بما تتلبس به الجوارح ظاهراً ، وأخبار المحدودين يشهد سياقها أنهم لم يكونوا منافقين .
وقال ابن كثير : روي علن عليّ رضي الله عنه قال : بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف ، سيف للمشركين : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } ، وسيف للكفار أهل الكتاب : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } الآية ، وسيف للمنافقين : { جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ } ، وسيف للبغاة : { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي } الآية ، وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق ، وهو اختيار ابن جرير . انتهى .
وفي " الإكليل " استدل بالآية من قال بقتل المنافقين . انتهى .
{ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } أي : اشدد على كلا الفريقين بالقول والفعل { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } [ 74 ] .
{ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا } أي : فيك شيئاً يسوءُك { وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ } قال قتادة : نزلت في عبد الله بن أبيّ ، وذلك أنه اقتتل رجلان : جهني وأنصاري ، فعلا الجُهَنِي على الأنصاري ، فقال عبد الله للأنصار : ألا تنصرون أخاكم ! والله ، ما مثلنا ومثل محمد إِلّا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك . وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزُّ منها الأذلّ ، فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليه فسأله ، فجعل يحلف بالله ما قاله ، فأنزل الله فيه هذه الآية .
وروى الأموي في " مغازيه " عن ابن إسحاق أن الجلاس بن سويد بن الصامت
ـ وكان ممن تخلف من المنافقين - لما سمع ما ينزل فيهم قال : والله لئن كان هذا الرجل صادقاً فيما يقول ، لنحن شرٌّ من الحمير ، فسمعها عمير بن سعد ، وكان في حجره ، فقال : والله يا جلاس إنك لأحب الناس إليّ ، وأحسنهم عندي بلاءً ، وأعزهم عليّ أن يصله شيئاً تكرهه ، ولقد قلت مقالة ، فإن ذكرتها لتفضحني ، ولئن كتمتها لتهلكنّي ، ولإحداهما أهون عليّ من الأخرى .
فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر له ما قال الجلاس ، فلما بلغ ذلك الجلاس ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحلف بالله ما قالها ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ فيه : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ } الآية ، فوقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ، فزعموا أن الجلاس تاب فحسنت توبته ونزع فأحسن النزوع .
وهاتان الروايتان وغيرهما مما روي هنا ، كله مما يفيد تنوع مقالات وكلمات مكفرة لهم مما هو من هذا القبيل ، وإن لم يمكنّا تعيين شيء منها في هذه الآية .
وقوله تعالى : { وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا } قال ابن كثير : قيل أنزلت في الجلاس بن سويد ، وذلك أنه هم بقتل عمير ابن امرأته ، لما رفع كلمته المتقدمة إلى النبيّ صلوات الله عليه .
وقد ورد أن نفراً من المنافقين هموا بالفتك بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وهو في غزوة تبوك ، في بعض تلك الليالي ، في حال السير ، وكانوا بضعة عشر رجلاً .
قال الضحاك : ففيهم نزلت هذه الآية .
قال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا يزيد أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع ، عن أبي الطفيل قال : لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك ، أمر منادياً فنادى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ العقبة ، فلا يأخذها أحد .
فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوده حذيفة ، ويسوق به عمّار ، إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل ، غشوا عماراً ، وهو يسوق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل عمار رضي الله عنه يضرب وجوه الرواحل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة : < قُدْ ، قُدْ > ، حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فلما هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل ، ورجع عمار ! فقال : يا عمار ! هل عرفت القوم ؟ فقال : قد عرفت عامة الرواحل ، والقوم متلثمون .
قال : هل تدري ما أرادوا ؟ قال : الله ورسوله أعلم . قال : أرادوا أن ينفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيطرحوه . فقل : فسابَّ عمار رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < نشدتك بالله ، كم تعلم كان أصحاب العقبة > ؟ قال : أربعة عشر رجلاً . فقل : < إن كنت فيهم فقد كانوا خمسة عشر > .
قال فعدّد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلاثة ، قالوا : والله ما سمعنا مناديَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما علمنا ما أراد القوم .
فقال عمار : أشهد أن الإثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .
{ وَمَا نَقَمُوا } أي : ما أنكروا وما عابوا { إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ } فإنهم كانوا قبل مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة في ظنك من العيش ، فأثروا بالغنائم ، وقتل للجلاس مولى ، فأمر له النبيّ صلى الله عليه وسلم بديته فاستغنى .
والمعنى أن المنافقين عملوا بضد الواجب ، فجعلوا موضع شكر النبيّ صلى الله عليه وسلم ما همّوا به ، ولا ذنب إلا تفضله عليهم ، فهو على حد قولهم : ما لي عندك ذنب إلا أني أحسنت إليك ، وقول ابن قيس الرقيّات :
~ما نَقِمَ الناسُ من أُمَيَّة إلا أنَّهم يحملُونَ إنْ غضِبُوا
وقول النابغة :
~ولا عيْب فيهِم غيرَ أنَّ سُيوُفهُم بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِراعِ الكتائب
ويقال : نقم من فلان الإحسان ، كعلم إذا جعله مما يؤديه إلى كفر النعمة كما في " التاج " .
ثم دعاهم تعالى إلى التوبة بقوله : { فَإِنْ يَتُوبُوا } أي : من الكفر والنفاق { يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا } أي : بالقتل والهم والغم { وَالْآخِرَةِ } أي : بالنار وغيرها { وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ } أي : يشفع لهم في دفع العذاب .
{ وَلا نَصِيرٍ } أي : فيدفعه بقوته .
ثم يبين تعالى بعض مَنْ نقم لإغناء الله تعالى إياه بما آتاه من فضله ، ممن نكث في يمينه ، وتولى عن التوبة ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ } [ 75 ] .
{ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ } أي : حلف { لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ } أي : بإعطاء كل ذي حق حقه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } [ 76 ] .
{ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا } أي : من العهد : { وَهُمْ مُعْرِضُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا
يَكَذِبُونَ } [ 77 ] .
{ فَأَعْقَبَهُمْ } أي : فجعل الله عاقبة فعلهم ذلك ، أو فأورثهم البخل { نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ } أي : من التصدق والصلاح { وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ } في العهد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } [ 78 ] .
{ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ } أي : ما أسروه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين { وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } أي : ما غاب عن العباد .
تنبيهات :
الأول : قال السيوطي في " لباب النقول " : أخرج الطبراني وابن مردويه وابن أبي حاتم والبيهقي في " الدلائل " بسند ضعيف عن أبي أمامة ، أن ثعلبة بن حاطب قال : يا رسول الله ! ادع الله أن يرزقني مالاً . قال : < ويحك يا ثعلبة ! قليل تؤدي شكره ، خير من كثير لا تطيقه > . قال : والله لئن آتاني الله مالاً لأوتين كل ذي حق حقه . فدعا له ، فاتخذ غنماً ، فنمت حتى ضاقت عليه أزقة المدينة ، فتنحى بها ، وكان يشهد الصلاة ثم يخرج إليها ، ثم نمت حتى تعذرت عليه مراعي المدينة فتنحى بها ، وكان يشهد الصلاة ثم يخرج إليها ، ثم نمت حتى تعذرت عليه مراعي المدينة ، فتنحى بها ، فكان يشهد الجمعة ثم يخرج إليها ، ثم نمت ، فتنحى بها ، فترك الجمعة والجماعات ، ثم أنزل الله على رسوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } ، فاستعمل على الصدقات رجلين ، وكتب لهما كتاباً ، فأتيا ثعلبة ، فأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : انطلقا إلى الناس ، فإذا فرغتم فمروا بي ففعلا ، فقال : ما هذه إلا أخت الجزية ، فانطلقا ، فأنزل الله : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ } إلى قوله : { يَكْذِبُونَ } الحديث .
وأخرج ابن جرير وابن مردويه ، من طريق العوفي عن ابن عباس نحوه ، وفيه أنه جاء بعدُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصدقته له : < إن الله منعني أن أقبل منك > ، فجعل التراب على رأسه . فقال : < هذا عملك ، قد أمرتك فلم تطعني > ، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها ، وكذا عمر وعثمان ، ثم إنه هلك في أيام عثمان .
قال الشهاب : مجيء ثعلبة وحثوه التراب ، ليس للتوبة من نفاقه ، بل للعار من عدم قبول زكاته مع المسلمين ، وقوله صلوات الله عليه : < هذا عملك > ، أي : جزاء عملك ، وهو عدم إعطائه المصدقين ، مع مقالته الشنعاء .
قال الحاكم : إن قيل : كيف لم تقبل صدقته وهو مكلف بالتصدق ؟ أجيب :
بأنه يحتمل أن الله تعالى أمر بذلك ، كيلا يجترئ الناس على نقض العهد ، ومخالفة أمر الله تعالى ، وردّ سعاة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ويكون لطفاً في ترك البخل والنفاق .
الثاني : قال بعض المفسرين من الزيدية : ثمرة الآية وسبب نزولها أحكام :
منها : أن الوفاء بالوعد واجب ، إذا تعلق العهد بواجب ، والعهد إن حمل على اليمين بالله ، فذلك ظاهر ، وإن حمل النذر ، ففي ذلك تأكيد لما أوجب الله .
ومنها : أن للإمام أن يفعل مثل ذلك لمصلحةٍ ، أي : يمتنع من أخذ الواجب إذا حصل له وجه شابه الوجهَ الذي حصل في قصة ثعلبة . انتهى .
الثالث : قال السيوطي في " الإكليل " : فيها أن إخلاف الوعد والكذب من خصال النفاق ، فيكون الوفاء والصدق من شعب الإيمان .
وفيها المعاقبة على الذنب بما هو أشد منه لقوله : { فَاَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً } واستدل به قوم على أن من حلف إن فعل كذا فلله علي كذا ، أنه يلزمه .
وآخرون على أن مانع الزكاة يعاقب بترك أخذها منه ، كما فعل بمن نزلت الآية فيه . انتهى .
الرابع : قال الرازي : ظاهر الآية يدل على أن نقض العهد ، وخلف الوعد ، يورث النفاق ، فيجب على المسلم أن يبالغ في الإحتراز عنه ، فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به .
ومذهب الحسن البصري رحمه الله أنه يوجب النفاق لا محالة ، وتمسك فيه بهذه الآية ، وبقوله عليه السلام : < ثلاث من كن فيه فهو منافق ، وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان > .
الخامس : دل قوله تعالى : { إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } على أن ذلك المعاهد مات منافقاً .
قال الرازي : وهذا الخبر وقع مخبره مطابقاً له ، فإنه روي أن ثعلبة أتى النبي صلى الله عليه وسلم بصدقته فقال : < إن الله تعالى منعني أن أقبل صدقتك > . وبقي على تلك الحالة ، وما قَبِلَ أحدٌ من الخلفاء رضي الله عنهم صدقته حتى مات ، فكان إخباراً عن غيب ، فكان معجزاً .
السادس : الضمير في يلقونه للفظ الجلالة ، والمراد باليوم يوم القيامة ، وله نظائر كثيرة في التنزيل .
وأعرب بعض المفسرين حيث قال : الضمير في يلقونه
إما لله ، والمراد باليوم وقت الموت ، أو للبخل والمراد يوم القيامة والمضاف محذوف ، وهو الجزاء . انتهى .
واللقاء إذا أضيف إلى الكفار كان لقاءً مناسباً لحالهم من وقوفهم للحساب مع حجبهم عنه تعالى ، لأنهم ليسوا أهلاً لرؤيته ، تقدس اسمه .
وإذا أضيف إلى المؤمنين ، كما في قوله تعالى : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ } ، كان لُقْياًَ مناسباً لمقامهم من رؤيته تعالى ، وذلك لما أفصحت عنه آيات أخر من حال الفريقين ، مما يتنزل مثل ذلك عليها .
فمن وقف في بعض الآيات على لفظة ، وأخذ يستنبط منها ، ولم يراع من استعملت فيه ، وأطلقت عليه ، كان ذلك جموداً وتعصباً ، لا أخذاً بيد الحق .
نقول ذلك ردّاً لقول الجبائي : إن اللقاء في هذه الآية لا يفيد رؤيته تعالى ، للإجماع على أن الكفار لا يرونه تعالى ، فلا يفيدها أيضاً في قوله تعالى : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ } .
وللرازي معه مناقشة من طريق أخرى . وما ذكرناه أمتن . والله أعلم .
السابع : قال الرازي : السر ما ينطوي عليه صدورهم ، والنجوى ما يفاوض فيه بعضهم بعضاً فيما بينهم ، وهو مأخوذ من النجو ، وهو الكلام الخفي ، كأن المتناجييْن مَنَعَا إدخال غيرهما معهما ، وتباعدا من غيرهما .
ثم بين تعالى من مساوئ المنافقين نوعاً آخر ، وهو لمزهم المتصدقين بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 79 ] .
{ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ } أي : يعيبون { الْمُطَّوِّعِينَ } أي : المتبرعين { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ } فيزعمون أنهم تصدقوا رياءً { وَالَّذِينَ } أي : ويلمزون الذين { لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ } أي : لا يجدون ما يتصدقون به إلا قليلاً ، وهو مقدار طاقتهم .
{ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ } أي : يهزؤون بهم ، ويقولون إن الله غنّي عن صدقتهم ، { سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ } أي : جازاهم على سَخَرهم { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
روى البخاري في " صحيحه " عن أبي
مسعود رضي الله عنه قال : لما نزلت آية الصدقة ، كنا نحامل فجاء رجل فتصدق بشيء كثير ، فقالوا : مرائي . وجاء رجل فتصدق بصاع ، فقالوا : إن الله لغنيّ عن صدقة هذا ، فنزلت : { الْذِينَ يَلْمِزُنَ } الآية ، رواه مسلم أيضاً .
وروى الإمام أحمد عن أبي السليل ، عن رجل حدثه عن أبيه أو عمه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < من يتصدق بصدقة أشهدُ له بها يوم القيامة > ؟ فجاء رجل لم أرى رجلاً أشدّ منه سواداً ، ولا أصغر منه ولا أدمّ ، بناقة لم أر أحسن منها ، فقال : يا رسول الله ، دونك هذه الناقة . قال : فلمزه رجل فقال : هذا يتصدق بهذه ، فو الله لهي خير منه ، فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : < كذبت ! به هو خير منك ومنها ثلاث مرات > ، ثم قال : < ويل لأصحابك إلا من قال بالمال هكذا وهكذا > ، وجمع بين كفيه عن يمينه وعن شماله .
قال ابن إسحاق : كان المطّوّعون من المؤمنين في الصدقات عبد الرحمن بن عوف ، وعاصم بن عدي أخا بني عجلان ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغَّب في الصدقة ، وحضّ عليها ، فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف ، وقام عاصم بن عديّ وتصدق بمائة وسق من تمر ، فلمزوها وقالوا : ما هذا إلا رياءًَ .
وكان الذي تصدق بجهده أبا عقيل ، أخا بني أُنَيْف ، أتى بصاع من تمر ، فأفرغها في الصدقة فتضاحكوا به ، وقالوا : إن الله لغنيّ عن صاع أبي عقيل .
وروى الحافظ البزار في مسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثاً > ، فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال : يا رسول الله ! عندي أربعة آلاف ، ألفين أقرضهما لربي ، وألفين لعيالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < بارك الله لك فيما أعطيت ، وبارك لك فيما أمسكت > .
وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر ، فقال : يا رسول الله ! أصبت صاعين من تمر ، صاع أقرضه لربي ، وصاع لعيالي . قال ، فلمزه المنافقون وقالوا : ما أعطى الذي أعطى ابن عوف إلا رياءً ، وقالوا ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا ؟ فأنزل الله الآية .
وقوله صلى الله عليه وسلم < أريد أن أبعث بعثاً > أي : لغزو الروم ، وَذَلك في غزوة تبوك .
تنبيهات :
الأول : قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآية تحريم اللمز والسخرية بالمؤمنين . انتهى .
الثاني : في : { الَّذيِنَ يَلْمِزُونَ } وجوه الإعراب : خير مبتدأ بتقدير : { هُمُ الَّذيِنَ } أو مفعول أعني أو أذم الذين ، أو مجرور بدل من ضمير : { سِرَّهُم } ، وجوَّز أيضاً أن يكون مبتدأ خبره : { سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ } ، وقيل : { فَيَسْخَرُونَ } ، ودخلت الفاء لما في الذين من الشبه بالشرط . وأما : { الَّذيِنَ لَا يَجِدُونَ } الخ فقيل : معطوف على : { الَّذيِنَ يَلْمِزُونَ } وقيل : على : { الْمُؤْمِنِينَ } ، والأحسن أنه معطوف على المطوعين .
قال في " الفتح " : ويكو من عطف الخاص على العام ، والنكتة فيه التنويه بالخاص ، لأن السخرية من المقلّ أشدّ من المكثر غالباً .
الثالث : قال في " الفتح " : قراءة الجمهور : { الْمُطَّوِّعِينَ } بتشديد الطاء والواو . وأصله المتطوعين ، أدغمت التاء في الطاء . انتهى .
أي : لقرب المخرج ، والتطوع التنفّل ، وهو الطاعة لله تعالى بما ليس بواجب .
والجهد ، قال الليث : هو شيء قليل يعيش به المقلّ ، وبضم الجيم قرأ الجمهور . وقرأ ابن هرمز وجماعة بالفتح ، فقيل : هما لغتان بمعنى واحد .
وقيل : المفتوح بمعنى المشقة ، والمضموم بمعنى الطاقة ، وقيل : المضموم قليل يعاش به ، والمفتوح : العمل .
والمختار أنهما بمعنى ، وهو الطاقة وما تبلغه القوة . قال الفراء : الضم لغة أهل الحجاز ، والفتح لغيرهم . والهزء والسخرية بمعنى .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ 80 ] .
{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ } أي : لهؤلاء المنافقين { أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } أي : فإنما في حقهما سواء .
ثم بيّن استحالة المغفرة لهم وإن بولغ في الإستغفار بقوله تعالى : { إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ } أي : عدم الغفران لهم { بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } أي : الخارجين عن حدوده .
تنبيهات :
الأول : جملة قوله تعالى : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ } الخ ، إنشائية لفظاً ، خبرية معنى .
والمراد التسوية بين الإستغفار لهم ، وتركه ، في استحالة المغفرة .
وتصويره بصورة
الأمر ، للمبالغة في بيان استوائهما ، كأنه عليه الصلاة والسلام أمر بامتحان الحال ، بأن يستغفر تارة ، ويترك أخرى ، ليظهر له جلية الأمر ، كما مر في قوله تعالى :
{ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } ، وقد وردت بصيغة الخبر في سورة المنافقون في قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } .
الثاني : قال الزمخشري : السبعون جارٍ مجرى المثل في كلامهم للتكثير . قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام :
~لأَصْبَحَنَّ العاصَ وابن العاصِي سَبْعِينَ أَلْفاًَ عَاقِدِي النَّوَاصِي
أي : فذكرها للمبالغة في حسم مادة الإستغفارلهم ، جريا على أساليب العرب في ذكرها للمبالغة لا للتحديد ، بأن يكون ما زاد عليها بخلافها .
وقال أبو السعود : شاع استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة في مطلق التكثير ، لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد ، فكأنها العدد بأسره .
وقيل : هي أكمل الأعداد ، لجمعها معانيها ، ولأن الستة أول عدد تامّ ، لتعادل أجزائها الصحيحة ، إذ نصفها ثلاثة ، وثلثها اثنان ، وسدسها واحد ، وجملتها سبعة ، وهي مع الواحد سبعة ، فكانت كاملة ، إذ لا مرتبة بعد التمام إلا الكمال ، ثم السبعون غاية الكمال ، إذ الآحاد غايتها العشرات ، والسبعمائة غاية الغايات - انتهى .
الثالث : روى البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، لما أراد أن يصدّه عن الصلاة على عبد الله بن أبيّ : إنما خيّرني الله فقال : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ } الآية ، وسأزيده على السبعين .
فظاهر هذا أن أو للتخيير ، وأن السبعين له حدٌ يخالفه حكم ما وراءه ، وهو من الإشكال بمكان .
ولذا قال الزمخشري : فإن قلت : كيف خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته ؟ والذي يفهم من هذا العدد كثرة الإستغفار ، كيف وقد تلاه بقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا } الآية ، فبين الصارف عن المغفرة لهم ، حتى قال : قد رخص لي ربي فسأزيد على السبعين .
ثم أجاب الزمخشري بقوله : قلت لم يخف
عليه ذلك ، ولكنه خيل بما قال إظهاراً لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه ، كقول إبراهيم عليه السلام : { وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
وفي إظهار النبيّ صلى الله عليه وسلم الرأفة والرحمة لطف لأمته ، ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم على بعض . انتهى .
قال الشراح : يعني أنه أوقع في خيال السامع أنه فهم العدد المخصوص دون التكثير ، فجوّز الإجابة بالزيادة قصداً إلى إظهار الرأفة والرحمة ، كما جعل إبراهيم صلى الله عليه وسلم جزاء من عصاني أي : لم يمتثل أمر ترك عبادة الأصنام .
قولَه : { فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } دون أن يقول : شديد العقاب ، فخيل أنه يرحمهم ويغفر لهم رأفة بهم ، وحثّاً على الإتباع .
وفهمُ المعنى الحقيقي من لفظ اشتهر مجازه ، لا ينافي فصاحته ، ومعرفته باللسان فإنه لا خطأ فيه ، ولا بعد ، إذ هو الأصل ، ورجحه عنده شغفه بهدايتهم ، ورأفته بهم ، واستعطاف من عداهم .
قال الناصر : وقد أنكر القاضي رضي الله عنه حديث الإستغفار ، ولم يصححه وتغالى قوم في قبوله ، حتى إنهم اتخذوه عمدة في مفهوم المخالفة ، وبنوه على أنه عليه السلام فهم من تحديد نفي الغفران بالسبعين ، ثبوت الغفران بالزائد عليه ، وذلك سبب إنكار القاضي عليهم وقيل : لما سوى الله بين الإستغفار وعدمه ، ورتب عليه عدم القبول ، ولم ينه عنه ، فهم أنه خير ومرخص فيه ، وهذا مراده صلى الله عليه وسلم ، لا أنه فهم التخيير من أو ، حتى ينافي التسوية بينهما ، المرتب عليها عدم المغفرة ، وذلك تطيباً لخاطرهم ، وأنه لم يأل جهداً في الرأفة بهم .
قال الشهاب : والتحقيق أن المراد التسوية في عدم الفائدة ، وهي لا تنافي التخيير ، ثبت فهو بطريق الإقتضاء ، لوقوعها بين ضدين لا يجوز تركهما ولا فعلهما ، فلا بد من أحدهما ، فقد يكون في الإثبات كقوله تعالى : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } ، لأنه مأمور بالتبليغ ، وقد يكون في النفي كما هنا ، وفي قوله : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ } الآية ، فهو محتاج إلى البيان ، ولذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : < إنه رخص لي > ، ولعله رخص له في ابن أبيّ لحكمة ، وإن لم يترتب عليه فائدة القبول . انتهى .
وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : روى عبد الرزاق عن معمر ، عن قتادة قال : لما نزلت : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : < لأزيدنّ على السبعين > ، فأنزل الله تعالى : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ }
ثم قال : ويحتمل أن تكون الأيتان معاً نزلتا في ذلك . انتهى .
ثم أشار تعالى إلى نوع آخر من مساوئ المنافقين وهو جعلهم الفرح مكان الحزن ، والكراهة مكان الرضا . بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } [ 81 ] .
{ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ، المخلفون : هم الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين ، فأذن لهم في التخلف كما قلنا ، أو لأنه خلفهم في المدينة في غزوة تبوك .
وإيثار : { الْمُخَلَّفُونَ } على المتخلفون ، لأنه صلى الله عليه وسلم منع بعضهم من الخروج ، فغلب على غيرهم ، أو المراد من خلفهم كسلُهم أو نفاقهم ، أو لأن الشيطان أغراهم بذلك ، وحملهم عليه .
وقوله تعالى : { بِمَقْعَدِهِمْ } متعلق بفرح ، أي : بقعودهم عن غزوة تبوك . فمقعد على هذا ، مصدر ميميّ ، أو هو اسم مكان ، والمراد به المدينة .
وقوله : { خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ } أي : خلفه ، وبعد خروجه ، حيث خرج ولم يخرجوا .
فخلاف ظرف بمعنى خلف وبعد .
يقال : فلان أقام خلاف الحي أي : بعدهم ، ظعنوا ولم يظعن ، ويؤيده قراءة من قرأ : { خلف رسول الله } ، فانتصابه على أنه ظرف لمقعدهم ، إذ لا فائدة لتقييد فرحهم بذلك .
قال الشهاب : واستعمال خلاف بمعنى خلف ، لأن جهة الخلف خلاف الأمام ، وجوز أن يكون الخلاف بمعنى المخالفة ، فهو مصدر خالف ، كالقتال ، ويعضده قراءة من قرأ ( خُلف رسول الله ) بضم الخاء ، وفي نصبه وجهان :
الأول : أنه مفعول له ، والعامل إما فرح ، أي : فرحوا لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم بالقعود ، وإما مقعدهم ، لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم ، فهو علة إما للفرح أو للقعود .
والثاني : أنه حال ، والعامل أحد المذكورين ، أي : فرحوا مخالفين له صلى الله عليه وسلم بالقعود ، أو فرحوا بالقعود مخالفين له .
وقوله تعالى : { وَكَرِهُوا } الخ أي : لما في قلوبهم من مرض النفاق .
قال أبو السعود : وإنما أوثر ما عليه النظم الكريم على أن يقال : وَكرهوا أن يخرجوا إلى الغزو ، إيذاناً بأن الجهاد في سبيل الله ، مع كونه من أجلّ الرغائب ، وأشرف المطالب ، التي يجب أن يتنافس بها المتنافسون ، قد كرهوه ، كما فرحوا بأقبح القبائح ، الذي هو القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الزمخشري : في قوله تعالى : { وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } تعريض بالمؤمنين ، وبتحملهم المشاق العظام لوجه الله تعالى ، وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله تعالى ، وإيثارهم ذلك على الدعة والخفض ـ أي : الراحة والتنعم بالمآكل والمشارب ـ وكره ذلك المنافقون ، وكيف لا يكرهونه ؟ وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان ، وداعي الإيقان .
قال الشهاب : ووجه التعريض ظاهر ، لأن المراد كرهوه ، لا كالمؤمنين الذين أحبوه .
وقوله تعالى : { وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ } أي : قالوا لإخوانهم لا تنفروا إلى الجهاد في الحر ، فإنه لا يستطاع شدته .
وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر ، عند طيب الظلال والثمار ، وذلك تثبيتاً لهم على التخلف ، وتواصياً فيما بينهم بالشر والفساد ، أو قالوا للمؤمنين تثبيطاً لهم عن الجهاد ، ونهياً عن المعروف ، وإظهاراً لبعض العلل الداعية لهم إلى ما فرحوا به من القعود وكراهية الجهاد ، ونهي الغير عن ذلك - أفاده أبو السعود - .
وقوله تعالى : { قُلْ } أي : ردّاً عليهم وتجهيلاً لهم : { نَارُ جَهَنَّمَ } أي : التي ستدخلونها بما فعلتم : { أَشَدُّ حَرّاً } أي : مما تحذرون من الحرّ المعهود ، وتحذّرون الناس منه ، فما لكم لا تحذرونها ، وتعرضون أنفسكم لها ، بإيثار القعود على النفير .
وقوله تعالى : { لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } اعتراض تذييلي من جهته تعالى ، غير داخل تحت القول المأمور به ، مؤكد لمضمونه .
وجواب لو إما مقدر ، أي : لو كانوا يفقهون أنها كذلك ، أو كيف هي ، أو أن مآلهم إليها لما فعلوا ما فعلوا ، أو لتأثروا بهذا الإلزام ، وإما غير منويّ ، على أن لو لمجرد التمني المنبئ علن امتناع تحقق مدخولها ، أي : لو كانوا من أهل والفقه الفطانة ، كما في قوله تعالى : { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْأياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ }
كذا في أبي السعود .
تنبيهان :
الأول : قال الزمخشري : قوله تعالى : { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ } الخ ، استجهال لهم ، لأن من تصوّن من مشقة ساعة ، فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد ، كان أجهل من كل جاهل . ولبعضهم :
~مسرة أحقاب تلقيت بعدها مساءة يوم ، أريها شبَه الصاب
~فكيف بأن تلقي مسرة ساعة وراء تقضيها مساءةُ أحقاب
- انتهى -
أي : فهم كما قال الآخر :
كالمستجير من الرمضاء بالنار
وقال آخر :
~عمرك بالحمية أفنيته خوفاً من البارد والحار
~وكان أولى لك أن تتقي من المعاصي حَذر النار
الثاني : روى الإمام مالك والشيخان عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < نار بني آدم التي يوقدون بها جزء من سبعين جزءاً > ، زاد الإمام أحمد :
< من نار جهنم > .
وروى الشيخان عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
< إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة ، لَمَن له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ، لا يرى أن أحداً من أهل النار أشد عذاباً منه ، وإنه أهونهم عذاباً > .
ثم أخبر تعالى عن عاجل أمرهم وآجله من الضحك القليل ، والبكاء الطويل ، المؤدي إليه أعمالهم السيئة ، التي من جملتها ما ذكر من الفرح ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [ 82 ] .
{ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً } أي : ضحكاً قليلاً ، أو زماناً قليلاً ، غايته مدة حياتهم
{ وَلْيَبْكُوا كَثِيراً } أي : بكاءً ، أو زماناً كثيراً ، بعد الموت ، أبد الآباد { جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : بفرحهم بمخالفة الله ورسوله ، من الكفر والمعاصي العظائم .
لطائف :
الأولى : سرّ إخراج حالهم الدنيوي والأخروي على صيغة الأمر ، الدالة على تحتم وقوع المخبر به ، فإنه أمر الآمر المطاع مما لا يكاد يتخلف عنه المأمور به ، فإن قيل : إنهم ذكروا أنه يعبر عن الأمر بالخبر للمبالغة ، لاقتضائه تحقق المأمور به ، فالخبر آكد ، فما باله عكس هنا ؟
فالجواب : لا منافاة بينهما ، لأن لكل مقام مقالاً ، والنكت لا تتزاحم ، فإذا عبر عن الأمر بالخبر ، لإفادة أن المأمور ، لشدة امتثاله ، كأنه وقع منه ذلك ، وتحقق قبل الأمر كان أبلغ .
وإذا عبر عن الخبر بالأمر كأنه لإفادة لزومه ووجوبه ، فكأنه مأمور به ، أفاد ذلك مبالغة من جهة أخرى .
الثانية : الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل في قوله : { بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } دلالة على الإستمرار التجددي ما داموا في الدنيا .
الثالثة : جزاءً مفعول له للفعل الثاني ، أي : ليبكوا جزءاً ، أو مصدر حذف ناصبه ، أي : يجزون بما ذكر من البكاء الكثير جزءاً .
ولما جلَّى سبحانه ما جلى من أمرهم ، فرّع عليه قوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ } [ 83 ] .
{ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ } أي : ردّك من غزوة تبوك { إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ } أي : من المنافقين المتخلفين في المدينة { فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ } معك إلى غزوة أخرى بعد تبوك ، دفعاً للعار السابق { فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : فخذلكم الله ، وسقطتم عن نظره ، بل غضب عليكم ، وألزمكم العار .
{ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ } أي : من النساء والصبيان دائماً .
لطائف :
قوله تعالى : { لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً } إخبار في معنى النهي للمبالغة ، وذكر القتال لأنه المقصود من الخروج ، فلو اقتصر على أحدهما كفى إسقاطاً لهم عن مقام الصحبة ، ومقام الجهاد ، أو عن ديوان الغزاة ، وديوان المجاهدين ، وإظهاراً لكراهة صحبتهم ، وعدم الحاجة إلى عدّهم من الجند ، أو ذكر الثاني للتأكيد ، لأنه أصرح في المراد ، والأول لمطابقته لسؤاله كقوله :
أقول له ارحل لا تقيمن عندنا
فهو أدل على الكراهة لهم - أفاده الشهاب - .
قال أبو السعود فكان محوُ أساميهم من دفتر المجاهدين ، ولزّهم في قرن الخالفين ، عقوبة لهم أي : عقوبة .
ثم قال : وتذكير إسم التفضيل المضاف إلى المؤنث ، هو الأكثر الدائر على الألسنة . فإنك لا تكاد تسمع قائلاً يقول : هي كبرى امرأة ، أو أُولى مرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } [ 84 ] .
{ وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً } قال المهايمي : لأنها شفاعة ، ولا شفاعة في حقهم { وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } أي : لا تقف عليه للدفن أو للزيارة والدعاء .
قال الشهاب : القبر مكان وضع الميت ، ويكون بمعنى الدفن ، وجوّز هنا :
{ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } في الحياة في الباطن { وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } أي : خارجون عن الإيمان الظاهر ، الذي كانوا به في حكم المؤمنين .
تنبيهات :
الأول : روى الشيخان في سبب نزول الآية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لما توفي عبد الله ابن أبيّ ، جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأله أن
يعطيه قميصه يكفن فيه أباه ، فأعطاه ، ثم سأله أن يصلي عليه ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه ، فقام عمر ، فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! تصلي عليه ، وقد نهاك ربك أن تصلي عليه ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إنما خيرني الله فقال : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } وسأزيده على السبعين > . قال : إنه منافق . قال : فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ آية : { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ } الخ .
قال الحافظ أبو نعيم : وقع في رواية في قول عمر : أتصلي عليه وقد نهاك الله عن الصلاة على المنافقين ؟ ، ولم يبيّن محل النهي ، فوقع بيانه في رواية أبي ضَمْرَة عن العمري : وهو أن مراده بالصلاة عليهم الإستغفار لهم ، ولفظه : وقد نهاك الله أن تستغفر لهم . انتهى .
يعني في قوله تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى } ، فإنها نزلت في قصة أبي طالب حين قال صلى الله عليه وسلم : < لأستغفرنّ لك ، ما لم أُنْهَ عنك > . وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقاً ، ووفاة عبد الله بن أبيّ في ذي القعدة ، سنة تسع بعد قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم من تبوك . كذا في " فتح الباري " .
ووقع في مسند الإمام أحمد ما تقدم من حديث عمر نفسه .
قال عمر : لما توفي عبد الله بن أبيّ دُعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام عليه ، فلما وقف عليه يريد الصلاة عليه ، تحولت حتى قمتُ في صدره فقلت : يا رسول الله ! أعلى عدوّ الله : عبد الله بن أبيّ القائل يوم كذا ، كذا وكذا ؟ يعدّد أيامه ، قال : و رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم ، حتى إذا أكثرت عليه قال : < أَخِّرْ عني يا عمر ، إني خيرت فاخترت ، قد قيل لي : { اسْتَغَفِرْ لَهُمْ } الآية ، لو أعلم أني لو زدت على السبعين ، غُفِرَ له ، لزدت > .
قال : ثم صلى عليه ومشى معه وقام على قبره ، حتى فرغ منه . قال : فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ورسوله أعلم .
قال : فوالله ! ما كان إلا يسيراً حتى نزلت هاتان الآيتان : { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً } الآية ، فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق ، ولا قام على قبره ، حتى قبضه الله عزَّ وجلَّ .
ورواه البخاري والترمذي أيضاً .
وروي الإمام أحمد عن جابر قال : لما مات عبد الله بن أبيّ ، أتى ابنه النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إِنك إِن لمحفرته ، م نزل نُعيَّر به ، فأتاه النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فوجده قد أدخل في حفرته فقال : < أَفَلَا قَبْلَ أن تدخلوه ؟ > فأخرج من حفرته ، وتفل عليه من ريقه من قرنه إلى قدمه ، وألبسه قميصه . ورواه النسائي ، وروى نحوه البخاري والبزار في مسنده ، وزاد : فأنزل الله الآية .
زاد ابن إِسحاق في " المغازي " بسنده قال : فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق بعده حتى قبضه الله ، ولا قام على قبره .
وقد روى الإمام أحمد عن أبي قتادة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا دعي إلى جنازة سأل عنها ، فإِن أُثْنِيَ عليها خير قام فصلى عليها ، وإِن كان غير ذلك ، قال لأهلها : < شأنكم بها > . ولم يصل عليها .
الثاني : إِنما منع صلى الله عليه وسلم من الصلاة على أحدهم إِذا مات ، لأن صلاة الميت دعاء واستغفار واستشفاع له ، والكافر ليس بأهل لذلك .
الثالث : قال : السيوطي في " الإكليل " : في قوله تعالى : { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ } الآية ، تحريم الصلاة على الكافر ، والوقوف على قبره ، وأن دفنه جائز ، ومفهومه وجوب الصلاة على المسلم ودفنه ، ومشروعية الوقوف على قبره ، والدعاء له ، والإستغفار . انتهى .
قال عثمان رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا فرغ من دفن الميت ، وقف عليه وقال : < استغفروا لأخيكم ، واسألوا له التثبيت ، فإِنه الآن يُسْأل > . - انفرد بإِخراجه أبو داود - .
الرابع : قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " ظاهر الآية أنها نزلت في جميع المنافقين ، لكن ورد ما يدل على أنها نزلت في عدد معين منهم .
قال الواقدي : أنبأنا معمر عن الزهري قال : حذيفة : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إِني مُسِرٌّ إليك سراً ، فلا تذكره لأحد ، إِني نهيت أن أصلي على فلان ، رهطٍ ذوي عدد من المنافقين > .
قال ، فلذلك كان عمر إِذا أراد أن يصلي على أحد استتبع حذيفة ، فإِن مشى معه ، وإِلا لم يصلّ عليه .
ومن طريق أخرى ، عن جبير بن مطعم أنهم اثنا عشر رجلاً .
وقال حذيفة مرة : إِنه لم يبق منهم غير رجل واحد . ولعل الحكمة في اختصاص المذكورين بذلك ، أن الله علم أنهم يموتون على الكفر ، بخلاف من سواهم ، فإِنهم تابوا . انتهى .
ثم بين تعالى أن دوام غضبه عليهم لا ينافي إِعطاءهم الأموال والأولاد ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ 85 ] .
{ وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ } أي : لأنه لم يرد الله الإِنعام عليهم بها ، ليدل على رضاه عنهم ، بل الإنتقام منهم ، قال : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا } أي : بالمشقة في تحصيلها وحفظها والحزن عليها { وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } أي : فيموتون كافرين غافلين عن التدبر في العواقب .
وقد تقدمت الآية في هذه السورة مع تغاير في ألفاظها .
قال الزمخشري : أعيد قوله : { وَلا تُعْجِبْكَ } ، لأن تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل له وتأكيده ، وإِرادة أن يكون على بالٍ من المخاطب لا ينساه ، ولا يسهو عنه ، وأن يعتقد أن العمل به مهم ، يفتقر إلى فضل عناية به ، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين ، فأشبه الشيء الذي أهم صاحبه ، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ، ويتخلص إليه ، وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يحب أن يحذر منه . انتهى .
وقال الفارسي : ليست للتأكيد ، لأن تيك في قوم وهذه في آخرين . وقد تغاير نطقها ، فهنا : { وََلَا } ، بالواو لمناسبة عطف نهي على نهي قبله في قوله : { وَلَا تُصَلَّ } الخ ، فناسب الواو ، وهناك بالفاء لمناسبة التعقيب لقوله قبله :
{ وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } أي : للإنفاق . فهم معجبون بكثرة الأموال والأولاد ، فنهى عن الإعجاب المتعقب له . وهنا : وأولادهم ، دون لا ، لأنه نهي عن الإعجاب بهما مجتمعين ، وهناك بزيادة لا ، لأنه نهي كل واحدٍ واحدٍ ، فدل مجموع الآيتين على النهي عن الإعجاب بهما مجتمعين ومنفردين ، وهنا : { أَنْ يُعَذِّبَهُمْ } وهناك
{ لِيُعَذَبَهُمْ } بلام التعليل وحذف المفعول ، أي : إنما يريد اختيارهم بالأموال والأولاد ، وهنا المراد التعذيب ، فقد اختلف متعلق الإرادة فيهما ظاهراً ، وهناك : { فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا } ، وهنا : { فِي الدُّنْيَا } ، تنبيهاً على أن حياتهم كَلَا حياة فيها ، وناسب ذكرها بعد الموت ، فكأنهم أموات أبداًَ . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ } [ 86-87 ] .
وقوله تعالى :
{ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَعليها َطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ } إنكار وذم للمتخلفين عن الجهاد ، الناكلين عنه ، مع وجود الطَّول الذي هو الفضل والسعة ، وإخبار بسوء صنيعهم ، إذ رضوا بالعار والقعود مع الخوالف ، لحفظ البيوت ، وهن النساء ، وذلك لإيثارهم حب المال على حب الله ، وأنه بسبب ذلك .
{ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ } أي : ختم عليها { فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ } ، أي : ما في حب الله والتقرب إليه بالجهاد من الفوز والسعادة ، وما في التخلف من الشقاء والهلاك .
فوائد :
الأولى : قال الزمخشري : يجوز أن يراد السورة بتمامها ، وأن يراد بعضها ، في قوله : { وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ } كما يقع القرآن والكتاب على كله وعلى بعضه .
وقيل : هي براءة لأن فيها الأمر بالإيمان والجهاد . انتهى .
وقيل : المراد كل سورة ذكر فيها الإيمان والجهاد .
قال الشهاب : وهذا أولى وأفيد ، لأن استئذانهم عند نزول آيات براءة علم مما مرّ . وقد قيل : إن إِذا تفيد التكرار بقرينة المقام لا بالوضع ، وفيه كلام مبسوط في محله .
الثانية : إِنما خص ذوي الطَّول ، لأنهم المذمومون ، وهم من له قدرة مالية ، ويعلم منه البدنية أيضاً بالقياس .
الثالثة : الخوالف : جمع خالفة ، وهي المرأة المتخلفة عن أعمال الرجال ، والمراد ذمهم وإِلحاقهم بالنساء ، كما قال :
~كُتِبَ القتلُ والقِتال علينا وعلى الغانيَات جرُّ الذيولِ
والخالفة تكون بمعنى من لا خير فيه ، والتاء فيه للنقل للإسمية ، فإن أريد هاهنا ، فالمقصود من لا فائدة فيه للجهاد .
وجمع على فواعل على الوجهين : أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فلتأنيث لفظه ، لأن فاعلاً لا يجمع على فواعل في العقلاء الذكور ، إلا شذوذاً ، كنواكس ، أفاده الشهاب .
ثم بيّن تعالى ما للمؤمنين من الثناء الحسن ، والمثوبة الحسنى ضد أولئك ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ 88 ] .
{ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } أي : في سبيل الله ، لغلبة حب الله عليهم ، على حب الأموال والأنفس { وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ } أي : منافع الدارين ، النصر والغنيمة في الدنيا ، والجنة والكرامة في العقبى { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : الفائزون بالمطلوب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ 89 ] .
{ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } أي : الذي لا فوز وراءه .
ثم بيّن تعالى أحوال منافقي الأعراب ، إثر بيان منافقي أهل المدينة ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 90 ] .
{ وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ } أي : في ترك الجهاد ، وهم أحياء ممن
حول المدينة . و : { الْمُعَذِّرُونَ } فيه قراءتان ، التشديد والتخفيف ، والمشددة لها تفسيران :
أحدهما : من عذر في الأمر ، إذا محتمل لأن يكون عذره باطلاً وحقاً ، وأصله
عليهما معتذرون ، نقلت فتحة التاء إلى العين ، وقلبت التاء ذالاً ، وأدغمت فيها .
وأما التخفيف فهي من أعذر إذا كان له عذر ، وهم صادقون على هذا .
وقوله تعالى : { وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : في دعوى الإيمان ، وهم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ، ولم يعتذروا ، بل قعدوا من قلة المبالاة بالله ورسوله .
ثم أوعدهم تعالى بقوله : { سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } الضمير في
{ مِنْهُمْ } إما للإعراب مطلقاً ، فالذين كفروا منافقوهم ، أو أعم ، وإما للمعذرين ، فإن منهم من اعتذر لكسله ، لا لكفر ، وجوّز أن يكون المعنى بالذين كفروا منهم ، المصرون على الكفر .
ثم بين تعالى الأعذار التي لا حرج على من قعد معها عن القتال ، فذكر منها ما هو لازم للشَخص لا ينفك عنه ، وما هو عارض عنَّ له بسبب مرض شغله عن الخروج في سبيل الله ، أو بسبب عجزه عن التجهز للحرب ، وبدأ بالأول فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ 91 ] .
{ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ } وهم العاجزون مع الصحة ، عن العدو ، وتحمل المشاق ، كالشيخ والصبي ، والمرأة والنحيف { وَلا عَلَى الْمَرْضَى } أي : العاجزين بأمر عرض لهم ، كالعمى والعرج والزمانة { وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ } أي : ولا على الأقوياء والأصحاء الفقراء ، والعاجزين عن الإنفاق في السفر والسلاح ، { حَرَجٌ } أي : إثم في القعود ، و الحرج أصل معناه الضيق ، ثم استعمل للذنب ، وهو المراد : { إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ }
أي : أخلصوا الإيمان والعمل الصالح ، فلم يرجفوا ، ولم يثيروا الفتن وأوصلوا الخيرات للجاهدين ، وقاموا بصالح بيوتهم .
وقوله تعالى : { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ } استئناف مقرر لمضمون ما سبق ، أي : ليس عليهم جناح ، ولا إلى معاتبتهم سبيل ، و مِنْ مزيدة للتأكيد ، ووضع
{ الْمُحْسِنِينَ } موضع الضمير ، للدلالة على انتظامهم ، بنصحهم لله ورسوله ، في سلك المحسنين ، أو تعليل لنفي الحرج عنهم ، أي : ما على جنس المحسنين من سبيل ، وهم من جملتهم أفاده أبو السعود .
قال الشهاب : ليس على محسن سبيل ، كلام جارٍ مجرى المثل ، وهو إما عامّ ، ويدخل فيه من ذكر ، أو مخصوص بهؤلاء ، فالإحسان : النصح لله والرسول ، والإثم المنفي إثم التخلف ، فيكون تأكيداً لما قبله بعينه على أبلغ وجه ، وألطف سبك ، وهو من بليغ الكلام ، لأن معناه لا سبيل لعاتب عليه ، أي : لا يمرّ به العاتب ، ويجوز في أرضه ، فما أبعد العتاب عنه ! فتفطن [ في المطبوع : فتقطن ] للبلاغة القرآنية كما قيل :
~سُقْياً لأيامنَا الَّتي سَلَفَتْ إِذ لا يَمُرُّ العذُولُ في بَلَدِي
وقوله تعالى : { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } تذييل مؤيد لمضمون ما ذكر ، مشير إلى أن بهم حاجة إلى المغفرة ، وإن كان تخلفهم بعذر - أفاده أبو السعود ـ .
أي : لأن المرء لا يخلو من تفريط ما ، فلا يقال إنه نفى عنهم الإثم أولاً ، فما الإحتياج إلى المغفرة المقتضية للذنب ؟ أفاده الشهاب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ } [ 92 ] .
{ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ } عطف على : { الْمُحْسِنِينَ } ، أو على
{ الضُّعَفَاءِ } أي : لتعطيهم ظهراً يركبونه إلى الجهاد معك { قُلْتَ } أي : لهم { لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } أي : إلى الجهاد .
قوله تعالى : { تَوَلَّوْا } جواب إذا ، أي : خرجوا من عندك { وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ } أي : في الحملان ، فهؤلاء وإن كانت لهم ، قدرة على تحمل المشاق ، فما عليهم من سبيل أيضاً .
تنبيهات :
الأول : قال السيوطي في " الإكليل " : في قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ } الخ
رفع الجهاد عن الضعيف والمريض ، ومن لا يجد نفقة ولا أهبة للجهاد ولا محملاً . انتهى .
وقال بعض الزيدية : هذه الآية الكريمة قاضية بنفي الحرج ، وهو الإثم على ترك الجهاد لهذه الأعذار ، بشرط النصيحة لله ولرسوله ، أي : بأن يريد لهم ما يريد لنفسه .
- عن أبي مسلم - .
الثاني : قال الحاكم : في الآية دلالة على أن النصح في الدين واجب ، وأنه يدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والشهادات والأحكام والفتاوى وبيان الأدلة .
الثالث : قال ابن الفرس : يستدل بقوله تعالى : { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ } على أن قاتل البهيمة الصائلة لا يضمنها .
وقال بعض الزيدية : يدل على أن المستودع والوصيّ والملتقط ، لا ضمان عليهم مع عدم التفريط ، وأنه لا يجب عليهم الرد ، بخلاف المستعير .
الرابع : دل قوله تعالى : { وَلَا عَلَى الَّذيِنَ } الخ ، على أن العادم للنفقة ، الطالب للإعانة ، إِذا لم تحصل له ، فلا حرج عليه ، وفيه إشارة إلى المعونة إذا بدلت له من الإمام ، لزمه الخروج .
الخامس : دلت الآية على جواز البكاء وإظهار الحزن على فوات الطاعة ، وإن كان معذوراً .
السادس : قوله تعالى : { تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ } أبلغ من يفيض دمعها ، لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض ، و من للبيان ، كقولك : أفديك من رجل . ومحلّ الجار والمجرور النصب على التمييز - أفاده الزمخشري - .
السابع : روى ابن أبي حاتم عن زيد بن ثابت قال : كنت أكتب براءة ، فإني لواضع القلم على أذني ، إذ أمرنا بالقتال ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه ، إذ جاء أعمى فقال : كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى ؟ فنزلت : { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ } الآية .
وروى العوفي عن ابن عباس في هذه الآية ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه ، فجاءته عصابة من أصحابه ، فيهم عبد الله بن مُغَفَّل بن مُقَرِّن المزني ، فقالوا : يا رسول الله ! احملنا . فقال لهم : < والله ! لا أجد ما أحملكم عليه ، >
فتولوا وهم يبكون ، وعزّ عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ، ولا يجدون نفقة ولا محملاً ، فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله ، أنزل عذرهم في كتابه ، فقال : { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ } .
وروى الإمام أحمد عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لقد خلفتم بالمدينة رجالاً ، ما قطعتم وادياً ، ولا سلكتم طريقاً ، إلا أشركوكم في الأجر ، حبسهم المرض > . ورواه مسلم .
ثم رد تعالى الملامة على المستأذنين في القعود وهم أغنياء ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [ 93 ] .
{ إِنَّمَا السَّبِيلُ } أي : بالعتاب والعقاب { عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ } أي : قادرون على تحصيل الأهبة { رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ } أي : من النساء والصبيان وسائر أصناف العاجزين ، أي : رضوا بالدناءة والضعة والإنتظام في جملة الخوالف .
قال المهايميّ : وهذا الرضا ، كما هو سبب العتاب ، فهو أيضاً سبب العقاب ، لأنه لما كان عن قلة مبالاتهم بالله ، غضب الله عليهم { وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } أي : ما يترتب عليه من الصائب الدينية والدنيوية ، أو لا يعلمون أمر الله فلا يصدقون .
لطيفة :
قال الشهاب : اعلم أن قولهم : لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ ، معناه : لا حرج ولا عتاب ، وأنه بمعنى لا عاتب يمر عليه ، فضلاً عن العتاب ، وإذا تعدى بإلى كقوله :
~ألَا لَيْْتَ شِعْرِي هَلْ إلى أُمَّ سَالِمٍ سبيل ؟ فَأَمَّا الصبرُ عَنْهَا فَلَا صَبْرُ
فمعنى الوصول كما قال :
~هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إلى خَمْرٍ فَأَشْرَبَهَا أَمْ مِنْ سَبِيلٍ إلى نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ
ونحوه ، فتنبه لمواطن استعماله ، فإنه من مهمات الفصاحة . انتهى .
ثم أخبر تعالى عما سيتصدون له عند القفول من تلك الغزوة ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ 94 ] .
{ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ } أي : سدّاً للسبيل عليهم في التخلف : { قُلْ لا تَعْتَذِرُوا } أي : لظهور كذبكم ، إذ لم يمنعكم فقر ولا مرض ، ولا يفيدكم الاعتذار { لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ } أي : لن نصدق قولكم .
وقوله تعالى : { قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ } تعليل لانتفاء التصديق ، أي : أعلمنا بالوحي من أسراركم ونفاقكم ، وفسادكم ما ينافي التصديق { وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } أي : من الرجوع عن الكفر ، أو الثبات عليه ، علماً يتعلق به الجزاء { ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } أي : للجزاء بما ظهر منكم ، من الأعمال ووضعُ المظهر موضع المضمر ، لتشديد الوعيد ، وأنه تعالى مطلع على سرهم وعلنهم ، لا يفوت عن علمه شيء من ضمائرهم وأعمالهم ، فيجازيهم على حسب ذلك .
قال في " النبراس " : المراد بالغيب ما غاب عن العباد ، أو ما لم يعلمه العباد ، أو ما يكون ، وبالشهادة ما علمه العباد ، أو ما كان .
{ فَيُنَبِّئُكُمْ } أي : يخبركم { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : في الدنيا ، قبل إعلامهم به .
وذكره لهم للتوبيخ .
قال أبو السعود : المراد بالتنبئة بذلك ، المجازاة به ، وإيثارها عليها ، لمراعاة ما سبق من قوله تعالى : { قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ } الخ ، فإن المنبأ به الأخبار المتعلقة بأعمالهم ، وللإيذان بأنهم ما كانوا عالمين في الدنيا بحقيقة أعمالهم ، وإنما يعلمونها حينئذ .
ثم أخبر تعالى عما سيؤكدون به معاذيرهم ، من أيمانهم الفاجرة ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [ 95 ] .
{ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ } أي : فلا توبخوهم ولا تعاتبوهم .
{ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ } أي : فأعطوهم طلبتهم { إِنَّهُمْ رِجْسٌ } تعليل لترك معاتبتهم ، يعني أن المعاتبة لا تنفع فيهم ولا تصلحهم ، وإنما يعاتب الأديمُ ذو البشَرةِ ، والمؤمن يوبَّخ على زلة تفرط منه ليطهره التوبيخ بالحمل على التوبة والإستغفار ، وأما هؤلاء فأرجاس لا سبيل إلى تطهيرهم - أفاده الزمخشري - .
وقال الشهاب : يعني أنهم يتركون ، ويجتنب عنهم كما تجتنب النجاسة ، وهم طلبوا إعراض الصفح ، فأعطوا إعراض مقت .
وقوله تعالى : { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } من تمام التعليل ، فالعلة نجاسة جبلّتهم التي لا يمكن تطهيرها ، لكونهم من أهل النار ، فاللوم يغريهم ولا يجديهم ، والكلب أنجس ما يكون إذا اغتسل ، أو تعليل ثان يعني وكَفَتْهُمُ النار عتاباً وتوبيخاً ، فلا تكلفوا عتابهم .
وقوله تعالى : { جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } يجوز أن يكون مصدراً وأن يكون علة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ
الْفَاسِقِينَ } [ 96 ] .
{ يَحْلِفُونَ لَكُمْ } بل مما سبق ، وعدم ذكر المحلوف به لظهوره ، أي : يحلفون به تعالى : { لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ } أي : باعتقاد طهارة ضمائرهم وإخلاصهم { فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } فيه تبعيد عن الرضا عنهم على أبلغ وجه وآكده ، فإن الرضا عمن لا يرضى الله تعالى عنه ، مما لا يكاد يصدر عن المؤمن .
ثم أشار تعالى إلى أن منافقي الأعراب أشد رجساً فلا يغتر بحلفهم ، وإن لم يكذبهم الوحي ، فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 97 ] .
{ الْأَعْرَابُ } وهم أهل البدو { أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً } أي : من أهل الحضر ، لجفائهم وقسوتهم وتوحشهم ، ونشئهم في بعدٍ من مشاهدة العلماء ، ومعرفة الكتاب
والسنة : { وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } أي : وأحق بجهل حدود الدين ، وما أنزل الله من الشرائع والأحكام { وَاللَّهُ عَلِيمٌ } أي : يعلم حال كل أحد من أهل الوبر والمدر { حَكِيمٌ } أي : فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم ، مخطئهم ومصيبهم ، من عقابه وثوابه .
لطائف :
الأولى : قال الشهاب : العرب ، هذا الجيل المعروف مطلقاً ، والأعراب سكان البادية منهم ، فهو أعم .
وقيل : العرب سكان المدن والقرى ، والأعراب سكان البادية من العرب ، أو مواليهم ، فهما متباينان ، ويفرق بين جمعه وواحده بالياء فيهما .
الثانية : ما ذكر في الآية من أجدرية جهل
الأعراب من بعدهم عن سماع الشرائع ، وملابسة أهل الحق ، يشير إلى ذم سكان البادية وهو يطابق ما رواه الإمام أحمد ، وأصحاب السنن ، عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < من سكن البادية جفا > ، وتتمته : < ومن اتبع الصيد غفل ، ومن أتى السلطان افتتن > . وقوله صلى الله عليه وسلم : < إن الجفاء والقسوة في الفدادين > .
قال ثعلب : الفدادون أصحاب الوبر ، لغلظ أصواتهم ، وهم أصحاب البادية ، ويقال : من صحب الفدادين ، فلا دنيا نال ولا دين .
مأخوذ من الفديد ، وهو رفع الصوت أو شدته .
قال ابن كثير : ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي ، لم يبعث الله منهم رسولاً ، وإنما كانت البعثة من أهل القرى ، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } .
ولما أهدى ذلك الأعرابي تلك الهدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فردّ عليه أَضعافها حتى رضي قال : < لقد هممت ألا أقبل هدية إلا من قرشي أو ثقفي أو أنصاري أو دوسي > ، لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن : مكة والطائف والمدينة واليمن ، فهم ألطف أخلاقاً من الأعراب ، لما في طباع الأعراب من الجفاء .
الثالثة : روي الأعمش عن إبراهيم قال : جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان وهو
يحدث أصحابه ، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند ، فقال الأعرابي : والله ! إن حديثك ليعجبني وإن يدك لتريبني ! فقال زيد : ما يريبك من يدي ، إنها الشمال ؟ فقال الأعرابي : والله ! ما أدري اليمين يقطعون أو الشمال ؟ فقال زيد من صوحان : صدق الله : { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } .
ثم أشار تعالى إلى فريق آخر من منافقي الأعراب ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 98 ] .
{ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً } أي : يعدّ ما يصرفه في سبيل الله ، ويتصدق به صورةً ، غرامةَ وخسراناً ، لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياءً ، لا لوجه الله عزَّ وجلَّ ، وابتغاء المثوبة عنده .
والغرامة والمغرم والغُرم بالضم : ما ينفقه المرء من ماله وليس يلزمه ، ضرراً محضاً وخسراناً .
وقال الراغب : الغرم ما ينوب الْإِنْسَاْن في ماله من ضرر لغير جناية منه ، { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ } أي : ينتظر بكم دوائر الدهر ـ جمع دائرة وهي النكبة والمصيبة تحيط بالمرء ـ ، فتربص الدوائر ، انتظار المصائب ، ليقلب أمر المسلمين ويتبدل ، فيخلصوا مما عدّوه مغرماً { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ } اعتراض بالدعاء عليهم ، بنحو ما يتربصونه ، أو إخبار عن وقوع ما يتربصون عليهم .
قال الشهاب : الدائرة إسم للنائبة ، وهي بحسب الأصل مصدر ، كالعافية والكاذبة ، أو إسم فاعل بمعنى عقبة دائرة ، والعقبة أصلها اعتقاب الراكبين وتناوبهما .
ويقال : للدهر عُقَب ونُوَب ودُوَل ، أي : مرة لهم ومرة عليهم .
والسوء يقرأ بضم السين وهو الضرر ، وهو مصدر في الحقيقة . يقال : سؤته سوءاً ومساءةًَ ومسائية ، ويقرأ بفتح السين وهو الإفساد والرداءة - قاله أبو البقاء - .
{ وَاللَّهُ سَمِيعٌ } أي : لما يقولونه عند الإنفاق مما لا خير فيه { عَلِيمٌ } أي : بما يضمرونه من الأمور الفاسدة التي منها تربصهم الدوائر . وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى .
ثم نوّه تعالى بمؤمني الأعراب الصادقين ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ 99 ] .
{ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ } . امتثالاً لأمره ، وترجيحاً لحبه ، وقطعاً لحب ما سواه .
و : { قُرُبَاتٍ } مفعول ثان ليَتَّخِذُ ، وجمعها باعتبار أنواعها ، أو أفرادها .
قال الشهاب : القُربة بالضم ، ما يتقرب به إلى الله ، ونفس التقرب ، فعلى الثاني يكون معنى اتخاذها سبباً له ، على التجوز في النسبة أو التقدير .
و : { عِنْدَ اللَّهِ } صفة لقُرُبَاتٍ ، أي : ظرف ليَتَّخِذُ { وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ } أي : سبب دعواته بالرحمة المكملة لقصوره ، وكان صلى الله عليه وسلم يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ، ويستغفر لهم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : < اللهم صلِّ على آل أبي أوفى > { أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ } الضمير لما ينفق ، والتأنيث باعتبار الخير ، والتنكير للتفخيم ، أي : قربة عظيمة جامعة لأنواع القربات ، يكملها الله بدعوة الرسول ، ويزيد على مقتضاها بما أشار إليه بقوله : { سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ } أي : جنته .
{ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } يستر عيب المخلّ : { رَحِيمٌ } يقبل جهد المقلّ .
قال الزمخشري : قوله تعالى : { ألَا إِنَّهَا } شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد ، من كون نفقته قربات وصلوات وتصديقاً لرجائه ، على الإستئناف ، مع حرفي التنبيه والتحقيق ، المؤذنين بثبات الأمر وتمكنه .
وكذلك : { سَيُدْخِلُهمُ } وما في السين من تحقيق الوعد .
وما أدل هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين ، وأن الصدقة منه بمكان ، إذا خلصت النية من صاحبها . انتهى .
وفيه " الإنتصاف " : النكتة في إشعار السين بالتحقيق أن معنى الكلام معها : أفعل كذا ، وإن أبطأ الأمر ، أي : لا بد من فعله ، قال الشهاب : وفيه تأمل .
ولما بيّن تعالى فضيلة مؤمني الأعراب بما تقدم ، تأثره ببيان من هم فوقهم بمنازل من الفضيلة والكرامة ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ 100 ] .
{ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ } أي : ممن تقدم بالهجرة والنصرة . وقيل : عني بالفريق الأول من صلى إلى القبلتين ، أو من شهد بدراً ، أو من أسلم قبل الهجرة وبالثاني أهل بيعة العقبة الأولى ، وكانوا سبعة نفر ، وأهل العقبة الثانية ، وكانوا سبعين ، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير ، فعلمهم القرآن .
واختار الرازي الوجه الأول ، وقال : والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة وفي النصرة ، والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين ، ولم يبين أنهم سابقون فلماذا ؟
فبقي اللفظ مجملاً ، إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصاراً ، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصاراً ، وهو الهجرة والنصرة ، فوجب أن يكون المراد منه : { السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ } في الهجرة والنصرة ، إزالة للإجمال عن اللفظ .
وأيضاً فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة ، من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس ، ومخالف للطبع ، فمن أقدم عليه أولاً ، صار قدوة لغيره في هذه الطاعة ، وكان ذلك مقوّياً لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام ، وسبباً لزوال الوحشة عن خاطره ، وكذلك السبق في النصرة ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ، فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة فازوا بمنصب عظيم .
وقرئ ( الأنصارُ ) بالرفع ، عطفاً على السابقون .
{ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ } أي : سلكوا سبيلهم بالإيمان والطاعة { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ } لأن الهجرة أمر شاق على النفس ، لمفارقة الأهل والعشيرة .
والنصرة منقبة شريفة ، لأنها إعلاء كلمة الله ، ونصر رسوله وأصحابه ، والإحسان من أحوال المقربين أو مقاماتهم - قاله المهايمي - .
{ وَرَضُوا عَنْهُ } بما وفقهم إليه من الإيمان والإحسان ، وما آتاهم من الثواب والكرامة { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ } وذلك بدل ما تركوا من دورهم وأهليهم ، وبدل ما أعطوه للمهاجرين من أموالهم ، ولغرسهم جنات القرب في قلوبهم ، وإجرائهم أنهار المعارف في قلوبهم وقلوب من اتبعوهم بهذه الهجرة والنصرة والإحسان - قاله المهايمي ـ .
وقرأ ابن كثير : { مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } كما هو في سائر المواضع .
{ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً } لتخليدهم هذا الدين بإقامة دلائله ، وتأسيس قواعده ، إلى يوم القيامة ، والعمل بمقتضاه ، واختيار الباقي على الفاني { ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } أي : الذي لا فوز وراءه .
تنبيهات :
الأول : قال في " الإكليل " : في هذه الآية تفضيل السابق إلى الإسلام والهجرة ، وأن السابقين من الصحابة أفضل ممن تلاهم .
الثاني : قيل : المراد بالسابقين الأولين جميع المهاجرين والأنصار ، فمن بيانية لتقدمهم على من عداهم .
وقيل : بعضهم - وهم قدماء الصحابة - و من تبعيضية ، وقد اختار كثيرون الثاني ، واختلفوا في تعيينهم على ما ذكرناه أولاً ، ورأى آخرون الأول .
روي عن حميد بن زياد قال : قلت يوماً لمحمد بن كعب القرظي : ألا تخبرني عن الصحابة فيما كان بينهم ؟ وأرد الفتن - فقال لي : إن الله تعالى قد غفر لجميعهم ، وأوجب لهم الجنة في كتابه ، محسنهم ومسيئهم .
قلت له : { والسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ } الآية ، فأوجب للجميع الجنة والرضوان ، وشرط على تابعيهم أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة وألا يقولوا فيهم إلا حسناً لا سوءاً .
أي : لقوله تعالى : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإيمَانِ } .
الثالث : قال الشهاب : تقديم المهاجرين لفضلهم على الأنصار كما ذكر في قصة السقيفة ، ومنه علم فضل أبي بكر رضي الله عنه على من عداه ، لأنه أول من هاجر معه صلى الله عليه وسلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } [ 101 ] .
{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ } يعني حول بلدتكم ، وهي المدينة { مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ }
أي : مرنوا ومهروا فيه وقوله عز شأنه { لا تَعْلَمُهُمْ } دليل لمرانتهم عليه ، ومهارتهم فيه ، أي : يخفون عليك ، مع علوّ كعبك في الفطنة وصدق الفراسة ، لفرط تأنقهم وتصنعهم في مراعاة التقية ، والتحامي عن مواقع التهم .
قال في " الإنتصاف " وكأن قوله تعالى : { مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ } توطئة لتقرير خفاء حالهم عنه صلى الله عليه وسلم ، لما لهم من الخبرة في النفاق والضراوة به . انتهى .
وقوله تعالى : { نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } تقرير لما سبق من مهارتهم في النفاق ، أي : لا يعلمهم إلا الله ، ولا يطلع على سرهم غيره ، لما هم عليه من شدة الإهتمام بإبطان الكفر ، وإظهار الإخلاص .
وقوله تعالى : { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } للمفسرين في المرتين وجوه : إظهار نفاقهم وإحراق مسجد الضرار ، أو الفضيحة وعذاب القبر ، أو أخذ الزكاة لما أنهم يعدّونها مغرماً بحتاً ، ونهك الأبدان ، وإتعابها بالطاعات الفارغة عن الثواب .
وقال محمد بن إسحاق : هو - فيما بلغني عنهم - ما هم من أمر الإسلام ، وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة ، ثم عذابهم في القبور إذا صاروا إليها ، ثم العذاب العظيم الذي يُرَدُّون إليه ، عذاب الآخرة ، ويخلدون فيه .
قال أبو السعود : ولعل تكرير عذابهم ، لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق ، أو النفاق المؤكد بالتمرد فيه .
ويجوز أن يكون المراد بالمرتين مجرد التكثير ، كما في قوله تعالى : { فَارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } أي : كرة بعد أخرى ، لقوله تعالى : { أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ } .
تنبيه :
لا ينافي قوله تعالى : { لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } قوله تعالى : { وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } ، لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها ، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين ، وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقاً ، وإن كان يراه صباحاً ومساءً ، وشاهد هذا بالصحة ، ما رواه الإمام أحمد عن جبير
ابن مطعم رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ! إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر بمكة ، فقال : < لتأتينكم أجوركم ، ولو كنتم في حجر ثعلب > .
وأصغى إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه فقال : < إن في أصحابي منافقين ، أي : يرجفون ويتكلمون بما لا صحة له > .
وروى ابن عساكر عن أبي الدرداء ، أن رجلاً يقال له حرملة أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : الإيمان هاهنا ، وأشار بيده إلى لسانه والنفاق هاهنا ، وأشار بيده إلى قلبه ، ولم يذكر الله إلا قليلاً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < اللهم اجعل له لسانا ذاكراً ، وقلباً شاكراً ، ارزقه حبي وحب من يحبني ، وصيّر أمره إلى خير > . فقال : يا رسول الله ! إنه كان لي أصحاب من المنافقين ، وكنت رأساً فيهم ، أفلا آتيك بهم ؟ قال : < من أتانا استغفرنا له ، ومن أصرّ على دينه ، فالله أولى به ، ولا تخرقنّ على أحد ستراً > - ورواه الحاكم أيضاً - .
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في هذه الآية قال : ما بال أقوام يتكلفون علم الناس ، فلان في الجنة وفلان في النار ، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال : لا أدري ! لعمري أنت بنصيبك أعلم منك بأحوال الناس ، ولقد تكلفت شيئاً ما تكلفه الأنبياء قبلك ! قال نبيّ الله نوح عليه السلام : { قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ، وقال نبي الله شعيب عليه السلام : { بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } . وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } .
لطيفة :
قوله تعالى : { وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ } عطف على : { مِمَّنْ حَوْلَكُمْ } عطف مفرد على مفرد .
وقوله تعالى : { مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ } إما جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، مسوقة لبيان علوّهم في النفاق إثر بيان اتصافهم به ، وإما صفة للمبتدأ المذكور فصل بينها وبينه به عطف على خبره ، وإما صفة لمحذوف أقيمت هي مقامه ، وهو مبتدأ خبره .
{ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ } والجملة عطف على الجملة السابقة ، أي : ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق - أفاده أبو السعود - .
ولما بين تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الغزاة ، رغبة عنها وتكذيباً وشكاً ، بيّن حال المذنبين الذين تأخروا عن الجهاد كسلاً وميلاً إلى الراحة ، مع إيمانهم وتصديقهم بالحق ، فقال عز شأنه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ 102 ] .
{ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ } أي : أقروا بها ، وهي تخلفهم عن الغزو ، وإيثار الدعة عليه ، والرضا بسوء جوار المنافقين ، أي : لم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم { خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً } كالندم وما سبق من طاعتهم { وَآخَرَ سَيِّئاً } كالتخلف عن الجهاد { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } أي : يقبل توبتهم { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه .
تنبيهات :
الأول : أخرج ابن مردويه وابن أبي حاتم ، من طريق العوفي عن ابن عباس قال : غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتخلف أبو لبابة وخمسة معه ، ثم إن أبا لبابة ورجلين معه تفكروا وندموا وأيقنوا بالهلاك وقالوا : نحن في الظلال والطمأنينة مع النساء ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه في الجهاد ! والله لنوثقن أنفسنا بالسواري ، فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو الذي يطلقها ، ففعلوا وبقي ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم ، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته فقال : < من هؤلاء الموثقون بالسواري > ؟ فقال رجل : هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا ، فعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم . فقال : < لا أطلقهم ، حتى أومر بإطلاقهم > ، فأنزل الله : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ } ، فلما نزلت أطلقهم وعذرهم ، وبقي الثلاثة الذين لم يوثقوا أنفسهم ، لم يذكروا بشيء ، وهم الذين قال الله فيهم : { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ } الآية ، فجعل أناس يقولون : هلكوا ، إذ لم ينزل عذرهم ، وآخرون يقولون : عسى الله أن يتوب عليهم ، حتى نزلت : { وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا } .
وأخرج ابن جرير من طريق علي بن أبي طحلة عن ابن عباس نحوه ، وزاد : فجاء أبو لبابة وأصحابه بأموالهم حين أطلقوا ، فقالوا : يا رسول الله ! هذه أموالنا ، فتصدق
بها عنا ، واستغفر لنا فقال : < ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً > ، فأنزل الله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } الآية .
وأخرج هذا القدر وحده عن سعيد بن جبير ، والضحاك وزيد بن أسلم وغيرهم . وأخرج عبد عن قتادة أنها نزلت في سبعة : أربعة منهم ربطوا أنفسهم
بالسواري ، وهم أبو لبابة ومرداس ، وأوس بن خذام وثعلبة بن وديعة .
وأخرج أبو الشيخ وابن منده في " الصحابة " من طريق الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : كان ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك ستة : أبو لبابة ، وأوس بن خذام ، وثعلبة بن وديعة ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية .
فجاء أبو لبابة وأوس بن ثعلبة ، فربطوا أنفسهم بالسواري ، وجاءوا بأموالهم ، فقالوا : يا رسول الله ! خذ هذا الذي حبسنا عنك ، فقال : لا أحلهم حتى يكون قتال ، فنزل القرآن : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ } الآية ، إسناده قوي ، كذا في " اللباب " .
قال ابن كثير : هذه الآية ، وإن كانت نزلت في أناس معينين ، إلا أنها عامة في كل المذنبين الخاطئين المخلصين .
وقد قال مجاهد : إنها نزلت في أبي لبابة لما قال لبني قريظة إنه الذبح ، وأشار بيده إلى حلقة ، ثم نقل ما تقدم .
الثاني : روى البخاري في التفسير في هذه الآية ، عن سَمُرة بن جُنْدب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا : < أتاني الليلة آتيان ، فابتعثاني ، فانتهيا إلى مدينة مبنية بلَبِن ذهب ، ولَبِن فضة ، فتلقانا رجل ، شطرٌ من خلفهم كأحسن ما أنت راء ، وشطر كأقبح ما أنت راء قالا لهم : اذهبوا فقعوا في ذلك النهر ، فوقعوا فيه ، ثم رجعوا إلينا ، قد ذهب ذلك السوء عنهم ، فصاروا في أحسن صورة ، قالا لي : هذه جنة عدن ، وهذا منزلك . قالا : أما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح ، فإنهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، وتجاوز الله عنهم > .
الثالث : قال الزمخشري : فإن قلت : قد جعل كل واحد منهما مخلوطاً ، فما المخلوط به ؟ قلت : كل واحد منهما بالآخر ، كقولك : خلطت الماء واللبن ، تريد كل واحد منهما بصاحبه ، فيه ما ليس في قولك : خلطت الماء باللبن ، لأنك جعلت الماء مخلوطاً ، واللبن مخلوطاً به ؟ وإذا قلته بالواو جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطاً بهما ، كأنك قلت : خلطت الماء باللبن بالماء .
وناقشه الناصر في " الإنتصاف " فقال : التحقيق في هذا أنك إذا قلت : خلطت
الماء باللبن ، فالمصرح به في هذا الكلام أن الماء مخلوط ، واللبن مخلوط به ، والمدول عليه لزوماً ، لا تصريحاً ، كون الماء مخلوطاً به ، واللبن مخلوطاً .
وإذا قلت : خلطت الماء واللبن ، فالمصرح به جعل كل واحد منهما مخلوطاً ، وأما ما خلط به كل واحد منهما ، فغير مصرح به ، بل من اللازم أن كل واحد منهما له مخلوط به ، يحتمل أن يكون قرينه أو غيره .
فقول الزمخشري : إن قولك : ـ خلطت الماء واللبن ، يفيد ما يفيد مع الباء ، وزيادة - ليس كذلك .
فالظاهر في الآية - والله أعلم - أن العدول عن الباء إنما كان لتضمين الخلط معنى العمل ، كأنه قيل : عملوا صالحاً وآخر سيئاً ، ثم انضاف إلى العمل معنى الخلط ، فعبر عنهما معاً به . انتهى .
قال النحرير : يريد الزمخشري أن الواو كالصريح في خلط كلّ بالآخر ، بمنزلة ما إذا قلت : خلطت الماء باللبن ، و خلطت اللبن بالماء ، بخلاف الباء ، فإن مدلولها لفظاً إلا خلط الماء مثلاً باللبن ، وأما خلط اللبن بالماء ، فلو ثبت لم يثبت إلا بطريق الإلتزام ودلالة العقل . انتهى .
وهو متجه ولا حاجة للتضمين المذكور .
ثم قال الزمخشري : ويجوز أن يكون من قولهم : بعت الشاء شاة ودرهماً ، بمعنى شاة بدرهم ، أي : فالواو بمعنى الباء ، ونقل ذلك سيبويه .
وقالوا : إنه استعارة ، لأن الباء للإلصاق ، و الواو للجمع ، وهما من واد واحد . وقال ابن الحاجب في قولهم المذكور : أصله شاة بدرهم ، أي : كل شاة بدرهم ، وهو بدل من الشاة ، أي : مع درهم ، ثم كثر فأبدلوا من باء المصاحبة واواً ، فوجب نصبه وإعرابه بإعراب ما قبله ، كقولهم : كل رجل وضيعته .
قال الشهاب : وهو تكلف ، ولذا قالوا : إنه تفسير معنى ، لا إعراب . انتهى .
قال الواحدي : العرب تقول : خلطت الماء باللبن ، وخلطت الماء واللبن ، كما تقول : جمعت زيداً وعمراً . و الواو في الآية أحسن من الباء ، لأنه أريد معنى الجمع ، لا حقيقة الخلط ، ألا ترى أن العمل الصالح لا يختلط بالسيئ ، كما يختلط الماء باللبن ، لكن قد يجمع بينهما . انتهى .
وفي الآية نوع من البديع يسمى الإحتباك ، هو مشهور ، لأن المعنى : خلطوا عملاً صالحاً بسيِّئ وآخر سيئاً بصالح .
الرابع : قال الرازي : ههنا سؤال ، وهو أن كلمة عسى شك ، هو في حق الله تعالى محال . وجوابه من وجوه :
الأول : قال المفسرون : كلمة عسى من الله واجب ، والدليل عليه قوله تعالى :
{ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ } ، وفعل ذلك ، وتحقيق القول فيه أن القرآن نزل على عرف الناس في الكلام ، والسلطان العظيم إذا التمس المحتاج منه شيئاً ، فإنه لا يجيب إليه إلا على سبيل الترجي مع كلمة عسى ، أو لعل تنبيهاً على أنه ليس لأحد أن يلزمني شيئاً ، وأن يكلفني بشيء ، بل كل ما أفعله فإنما أفعله على سبيل التفضل والتطوّل ، فذكر كلمة عسى ، الفائدة فيه هذا المعنى ، مع أنه يفيد القطع بالإجابة .
الوجه الثاني : أن المقصود بيان أنه يجب أن يكون المكلف على الطمع والإشفاق ، لأنه أبعد من الإتكال والإهمال .
الخامس : قال القاشاني : الإعتراف بالذنب هو إبقاء نور الإستعداد ، ولين الشكيمة ، وعدم رسوخ ملكة الذنب فيه ، لأنه ملك الرجوع والتوبة ، ودليل رؤية قبح الذنب التي لا تكون إلا بنور البصيرة ، وانفتاح عين القلب ، إذ لو ارتكمت الظلمة ورسخت الرذيلة ، ما استقبحه ، ولم يره ذنباً ، بل رآه فعلاً حسناً ، لمناسبته لحاله ، فإذا عرف أنه ذنب ففيه خير .
ثم أمر تعالى رسوله صلوات الله عليه أن يأخذ من أموالهم التي تقدموا إليه ، أن يتصدق بها عنهم كفارة لذنوبهم ، كما تقدم في الروايات قبل ، بقوله عزَّ وجلَّ :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 103 ] .
{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } أي : بعضها { صَدَقَةً } .
قال المهايمي : لتصدق توبتهم إذ : { تُطَهِّرُهُمْ } ، أي : عما تلطخوا به من أوضار التخلف . وعن حب المال الذي كان التخلف بسببه { وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } أي : عن سائر الأخلاق الذميمة التي حصلت عن المال .
قال الزمخشري : التزكية مبالغة في التطهير وزيادة فيه ، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } أي : واعطف عليهم بالدعاء لهم وتَرَحَّم { إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } أي : تسكن نفوسهم إليها ، وتطمئن قلوبهم بها ، ويثقون بأنه سبحانه قبِل توبتهم .
وقال قتادة : سكن ، أي : وقار .
وقال ابن عباس : رحمة لهم . وقد روى
الإمام أحمد عن حذيفة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا للرجل ، أصابته وأصابت ولده وولد ولده . وفي رواية : إن صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم لتدرك الرجل وولده وولد ولده .
والجملة تعليل للأمر بالصلاة عليهم { وَاللَّهُ سَمِيعٌ } أي : يسمع اعترافهم بذنوبهم ودعاءهم { عَلِيمٌ } أي : بما في ضمائرهم من الندم والغم ، لما فرط منهم .
تنبيهات :
الأول : { تُطَهِّرُهُمْ } قرئ مجزوما على أنه جواب للأمر ، وأما بالرفع فعلى أنه حال من ضمير المخاطب في خذ . أو صفة لصدقة ، والتاء للخطاب أو للصدقة .
والعائد على الأول محذوف ثقة بما بعده ، أي : بها .
وقرئ تطهرهم ، من أطهره بمعنى طهّره ، ولم يُقرأ : وتزكيهم ، إلا بإثبات الياء وهو خبر لمحذوف ، والجملة حال من الضمير في الأمر أو في جوابه ، أي : وأنت تزكيهم بها ، هذا على قراءة ( تطهرهم ) بالجزم .
وأما على قراءة الرفع فـ ( تزكيهم ) عطف على ( تطهرهم ) حالاً أو صفة .
الثاني : قرئ ( صلاتك ) بالتوحيد ، و ( صلواتك ) بالجمع ، مراعاة لتعدد المدعوّ لهم .
وقال الشهاب : جمع صلاة ، لأنها إسم جنس ، والتوحيد لذلك ، أو لأنها مصدر في الأصل .
الثالث : قال الشهاب : السكن السكون ، وما يسكن إليه من الأهل والوطن ، فإن كان المراد الأول ، فجعلها نفس السكن والإطمئنان مبالغة ، وهو الظاهر ، وإن كان الثاني فهو مجاز بتشبيه دعائه ، في الإلتجاء إليه بالسكن ، انتهى .
قال أبو البقاء : سكن بمعنى مسكون إليها ، فلذلك لم يؤنثه ، وهو مثل القبض بمعنى المقبوض .
الرابع : قيل : المأمور به في الآية الزكاة . ومن تبعيضية ، وكانوا أرادوا التصدق بجميع مالهم ، فأمره الله أن يأخذ بعضها لتوبتهم ، لأن الزكاة لم تقبل من بعض المنافقين ، فترتبط الآية بما قبلها .
وقيل : ليست هذه الصدقة المفروضة ، بل هم لما تابوا ، بذلوا جميع مالهم كفارة للذنب الصادر منهم ، فأمره الله تعالى بأخذ بعضها وهو الثلث ، وهذا ما روي عن الحسن ، وهو المختار عندهم . ونقل الرازي أن
أكثر الفقهاء على أن هذه الآية كلام مبتدأ قصد به إيجاب أخذ الزكوات من الأغنياء ، إذ هي حجتهم في إيجاب الزكاة ، ثم نظر فيه بأن حملها على ما ذكروه يوجب ألا تنتظم الآية مع سابقها ولاحقها .
وأقول : لا ريب في ارتباط الآية بما قبلها ، كما أفصحت عنه الرواية السابقة . وخصوص سببها لا يمنع عموم لفظها ، كما هو القاعدة في مثل ذلك ، ولذا رد الصديق رضي الله عنه ، على من تأول من بعض العرب هذه الآية أن دفع الزكاة لا يكون إلا للرسول صلوات الله عليه ، لأنه المأمور بالأخذ ، وبالصلاة على المتصدقين ، فغيره لا يقوم مقامه وأمر بقتالهم ، فوافقته الصحابه ، وقاتلوهم حتى أدوا الزكاة إلى الخلفية ، كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فاستدل من ذلك على وجوب دفع الزكاة إلى الإمام ، ومثله نائبه ، وهؤلاء المتأولون المرتدون غاب عنهم أن الزكاة إنما أوجبها الله تعالى سدّاً لحاجة المعدم ، وتفريجاً لكربة الغارم ، وتحريراً لرقاب المستعبدين ، وتيسيراً لأبناء السبيل ، فاستلَّ بذلك ضغائن أهل الفاقة ، على من فضلوا عليهم في الرزق ، وأشعر قلوب أولئك محبة هؤلاء ، وساق الرحمة في نفوس هؤلاء على أولئك البائسين ، فالإمام لا خصوصية لذاته فيها ، بل لأنه يجمع ما يرد منها لديه ، فينفقها في سبلها المذكورة .
الخامس : استدل بقوله تعالى : { وَصَلِّ عَلَيْهِمْْ } على ندب الدعاء للمتصدق .
قال الشافعي رحمه الله : السنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ، ويقول : آجرك الله فيما أعطيت وجعله طهوراً ، وبارك لك فيما أبقيت ، وقال آخرون : يقول : اللهم صلِّ على فلان ، ويدل عليه ما روي عن عبد الله بن أبي أوفى ، وكان من أصحاب الشجرة قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة قال :
< اللهم صلِّ عليهم > ، فأتاه أبي بصدقته فقال : < اللهم صلِّّ على آل أبي أوفى > . أخرجاه في الصحيحين .
قال ابن كثير : وفي الحديث الآخر أن امرأة قالت : يا رسول الله ! صلِّ علي وعلى زوجي ، فقال : < صلى الله عليك وعلى زوجك > .
أقول : وبهذين الحديثين يردّ على من زعم أن المراد بـ : { صَلَّ عَلَيْهِمْ } الصلاة على الموتى حكاه السيوطي في " الإكليل " .
السادس : دلت الآية كالحديثين ، على جواز الصلاة على غير الأنبياء استقلالاً .
قال الرازي : روى الكعبي في " تفسيره " أن عليّاً رضي الله عنه قال لعمر رضي الله عنه وهو مسجّى : عليك الصلاة والسلام . ومن الناس من أنكر ذلك .
ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لا تنبغي الصلاة من أحد على أحد ، إلا في حق النبيّ صلى الله عليه وسلم .
ثم قال الرازي : إن أصحابنا يمنعون من ذكر صلوات الله عليه ، و عليه الصلاة والسلام ، إلا في حق الرسول ، والشيعة يذكرونه في عليّ وأولاده ، واحتجوا بأن نص القرآن دلَّ على جوازه فيمن يؤدي الزكاة ، فكيف يمنع في حق عليّ والحسن والحسين عليهم رضوان الله ؟ قال : ورأيت بعضهم قال : أليس أن الرجل إذا قال : سلام عليكم ، يقال له : وعليكم السلام ، فدل هذا على أن ذكر هذا اللفظ جائز في حق جمهور المسلمين ، فأوْلى آل البيت . انتهى .
وأقول : إِن المنع من ذلك أدبي لا شرعي ، لأنه صار - في العرف - دعاءً خاصاً به صلى الله عليه وسلم ، وشعاراً له ، كالعَلم بالغلبة ، فغيره لا يطلق عليه ، إلا تبعية له ، أدباً لفظياً .
السابع : قال الرازي : في سر كون صلاته عليه السلام سكناً لهم : أن روح محمد عليه السلام كانت روحاً قوية مشرقة صافية باهرة ، فإذا دعا لهم وذكرهم بالخير ، فاضت آثار من قوته الروحانية على أرواحهم ، فأشرقت بهذا السبب أرواحهم ، وصفت أسرارهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ 104 ] .
{ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كلٌّ منهما يحط الذنوب ويمحصها ويمحقها ، وإخبار بأن كل من تاب إليه ، تاب عليه ، ومن تصدق تقبل منه .
تنبيهات :
الأول : الضمير في : { يَعْلَمُوا } للمتوب عليهم ، فيكون ذكر قبول توبتهم ، مع أنه تقدم ما يشير إليه ، تحقيقاً لما سبق من قبول توبتهم ، وتطهير الصدقة وتزكيتها لهم ، وتقريراً لذلك ، وتوطيناً لقلوبهم ببيان أن المتولي لقبول توبتهم ، وأخذ صدقاتهم هو الله سبحانه ، وإن أسند الأخذ والتطهير والتزكية ، إليه صلى الله عليه وسلم .
قال أبو مسلم : المقصود من الإستفهام التقرير في النفس ، ومن عادة العرب ، في إيهام المخاطب وإزالة الشك عنه ، أن يقول : أما علمت أن من علمك يجب عليك خدمته ؟ أما علمت أن من أحسن إليك يجب عليك شكره ؟ فبشّر تعالى هؤلاء التائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم . انتهى .
وجوز عَود الضمير لغيرهم من المنافقين فالإستفهام توبيخٌ وتقريعٌ لهم على عدم التوبة ، وترغيب فيها ، وإزالة لما يظنون من عدم قبولها وقرئ بالتاء .
وهو على الأول التفات ، وعلى الثاني بتقدير قل ، ويجوز أن يكون الضمير للمنافقين والتائبين معاً ، للتمكن والتخصص .
الثاني : الضميرـ أعني هوـ إما للتأكيد ، أو له مع التخصص ، بمعنى أنه يفعل ذلك البتة ، لأن ضمير الفصل يفيد ذلك ، والخبر المضارع من مواقعه .
وقيل : معنى التخصيص في هو ، أن ذلك ليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما الله سبحانه هو الذي يقبل التوبة ويردها ، فاقصدوه ، ووجهوها إليه ، لأن كثرة رجوعهم إليه ، صلوات الله عليه ، مظنة لتوهم ذلك .
الثالث : تعدية القبول بعن ، لتضمنه معنى التجاوز ، والعفو عن ذنوبهم التي تابوا عنها ، وقيل : عن هنا بمعنى من ، كما يقال : أخذت هذا منك وعنك .
الرابع : الأخذ هنا استعارة للقبول والإثابة ، لأن الكريم والكبير إذا قبل شيئاً عوّض عنه ، وقد يجعل الإسناد إلى الله مجازاً مرسلاً .
وقيل : في نسبة الأخذ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله : خُذْ ، ثم إلى ذاته تعالى ، إشارة إلى أن أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم ، قائم مقام أخذ الله ، تعظيماً لشأن نبيه ، كقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايعُونَ اللَّهَ } .
الخامس : جملة : { وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } تأكيد لما عطف عليه ، وزيادة تقرير لما يقرره ، مع زيادة معنى ليس فيه ، كما أفادته صيغة المبالغة التي تفيد تكرر ذلك منه أي : ألم يعلموا أنه المختص بقبول التوبة ، وأن ذلك سنة مستمرة له ، وشأن دائم ؟
لطيفة :
نقل ابن كثير عن الحافظ ابن عساكر ، عن حَوْشَب قال : غزا الناس في زمن
معاوية ، وعليهم عبد الرحمن بن الخالد بن الوليد ، فغلَّ رجل من المسلمين مائة دينار رومية ، فلما قفل الجيش ندم ، وأتى الأمير ، فأبى أن يقبلها منه ، وقال : قد تفرق الناس ، ولن أقبلها منك حتى تأتي الله بها يوم القيامة ، فجعل الرجل يأتي الصحابة ، فيقولون له مثل ذلك .
فلما قدم دمشق ذهب إلى معاوية ليقبلها منه ، فأبى عليه ، فخرج من عنده وهو يبكي ويسترجع ، فمرَّ بعبد الله ابن الشاعر السَّكسكي ، فقال له : ما يبكيك ؟ فذكر له أمره ، فقال له : أو مطيعي أنت ؟ فقال نعم . فقال : اذهب إلى معاوية فقل له : اقبل مني خمسك ، فادفع إليه عشرين ديناراً ، وانظر إلى الثمانين الباقية ، فتصدق بها عن ذلك الجيش ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ، وهو أعلم بأسمائهم ومكانهم ، ففعل الرجل .
فقال معاوية : لأن أكون أفتيتُ بها ، أحب إليَّّ من كل شيء أملكه . أحسن الرجل . انتهى .
في هذه الرواية إثبات ولد لخالد ، وفي ظني أن صاحب " أسد الغابة " ذكر أنه أم يعقب ، فليحقق .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ 105 ] .
{ وَقُلِ } أي : لأهل التوبة والتزكية والصلاة ، لا تكتفوا بها ، بل : { اعْمَلُوا } جميع ما تؤمرون به { فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ } أي : فيزيدكم قرباً على قرب ، { وَرَسُولُهُ } فيزيدكم صلوات { وَالْمُؤْمِنُونَ } فيتبعونكم ، فيحصل لكم أجرهم ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء - هكذا قاله المهايمي - وهو قوي في الإرتباط .
وقال أبو مسلم : إن المؤمنين شهداء الله يوم القيامة ، كما قال : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } الآية ، والشهادة لا تصح إلا بعد الرؤية ، فذكر تعالى أن الرسول عليه السلام والمؤمنين يرون أعمالهم ، والتنبيه على أنهم يشهدون يوم القيامة ، عند حضور الأولين والآخرين ، بأنهم أهل الصدق والسداد والعفاف والرشاد .
ونقل عن مجاهد أن الآية وعيد للمخالفين أوامره ، بأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى وعلى الرسول والمؤمنين .
قال ابن كثير : وهذا كائن لا محالة يوم القيامة ، كما قال تعالى : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ } ، وقال تعالى : { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } ، وقال تعالى : { وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ } . وقد ظهر الله تعالى ذلك للناس في الدنيا ، كما روى الإمام أحمد عن أبي سعيد مرفوعاً : < لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ، ليس لها باب ولا كوّة ، لأخرج الله عمله للناس كائناً من كان > .
وروي أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ
- كما في مسند أحمد والطيالسي - .
{ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } أي : بالموت { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : بالمجازاة عليه .
قال أبو السعود : في وضع الظاهر موضع المضمر ـ أي : حيث لم يقل : إليه ـ من تهويل الأمر ، وتربية المهابة ، ما لا يخفى . ووجه تقديم الغيب في الذكر لسعة علمه ، وزيادة خطره على الشهادة ، غني عن البيان .
وعن ابن عباس : الغيب ما يسرونه من الأعمال ، والشهادة ما يظهرونه ، كقوله تعالى : { أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } ، فالتقدم حينئذ لتحقق أن نسبة علمه المحيط بالسر والعلن واحدة ، على أن أبلغ وجه وآكده ، أو للإيذان بأن رتبة السر متقدمة على رتبة العلن ، إذ ما من شيء يعلن إلا وهو ، أو مبادئه القريبة أو البعيدة ، مضمر قبل ذلك في القلب . فتعلقُ علمه تعالى به في حالته الأولى ، متقدم على تعلقه به في حالته الثانية .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 106 ] .
{ وَآخَرُونَ } يعني من المتخلفين : { مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ } أي : مؤخرون أمرهم انتظاراً لحكمه تعالى فيهم ، لتردّد حالهم بين أمرين { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ } لتخلفهم عن غزوة تبوك .
{ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } يتجاوز عنهم { وَاللَّهُ عَلِيمٌ } أي : بأحوالهم ، { حَكِيمٌ } أي : فيما يحكم عليهم .
تنبيهات :
الأول : قرئ في السبعة : { مُرْجَؤُونَ } بهمزة مضمومة ، بعدها واو ساكنة . وقرئ
{ مُرْجَوْنَ } بدون همزة . كما قرئ : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ } بهما ، وهما لغتان ، يقال : أرجأته وأرجيته ، وكأعطيته .
ويحتمل أن تكون الياء بدلا من الهمزة ، كقولهم : قرأت وقريت ، وتوضأت وتوضيت ، وهو في كلامهم كثير .
وعلى كونه لغة أصلية فهو يائي ، وقيل : إنه واوي كذا في " العناية " .
الثاني : روي عن الحسن أنه عني بهذه الآية قوم من المنافقين . وكذا قال الأصم : إنهم منافقون أرجأهم الله ، فلم يخبر عنهم ما علمه منهم ، وحذرهم بهذه الآية ، إن لم يتوبوا ، أن ينزِّل فيهم قرآناً ، فقال : { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } .
وعن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغير واحد : إنهم الثلاثة الذي خلفوا ، أي : عن التوبة ، وهم مرارة بن الربيع ، وكعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، قعدوا في غزوة تبوك في جملة من قعد ، كسلاً وميلاً إلى الدَّعة وطيب الثمار والظلال ، لا شكّاً ونفاقاً ، فكانت منهم طائفة ربطوا أنفسهم بالسواري ، كما فعل أبو لبابة وأصحابه ، وطائفة لم يفعلوا ذلك ، وهم هؤلاء الثلاثة ، فنزلت توبة أولئك قبل هؤلاء ، وأرجئ هؤلاء عن التوبة ، حتى نزلت الآية الآتية وهي قوله تعالى : { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ } ، إلى قوله : { وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا } .
قال في " العناية " : وإنما اشتد الغضب عليهم مع إخلاصهم ، والجهادُ فرض كفاية ، لما قيل إنه كان على الأنصار خاصة فرضَ عين ، لأنهم بايعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه .
ألا ترى قول راجزهم في الخندق :
~نَحْنُ الَّذيِنَ بَايعُوا مُحَمَّدَاً على الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا
وهؤلاء من أجلّهم ، فكان تخلفهم كبيرة .
الثالث : إما في الآية ، إما للشك بالنسبة إلى المخاطب ، أو للإبهام بالنسبة إليه أيضاً ، بمعنى أنه تعالى أبهم على المخاطبين أمرهم .
والمعنى : ليكن أمرهم عندكم بين الرجاء والخوف ، والمراد تفويض ذلك إلى إرادته تعالى ومشيئته ، أو للتنويع ، أي : أمرهم دائر بين هذين الأمرين .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ 107 ] .
{ وَالَّذِينَ } أي : ومن المنافقين الذين : { اتَّخَذُوا } أي : بَنَوْا : { مَسْجِداً ضِرَاراً } أي : مضارّة لأهل مسجد قباء { وَكُفْراً } أي : تقوية للكفر الذي يضمرونه { وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : الذين كانوا يجتمعون بمسجد قباء اجتماعاً واحداً ، يؤدون أجلّ الأعمال ، وهي الصلاة التي يقصد بها تقوية الإسلام ، بجمع قلوب أهله على الخيرات ، ورفع الاختلاف من بينهم { وَإِرْصَادَاً } أي : إعداداً وترقباً وانتظاراً .
{ لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ } أي : كفر بالله ورسوله من قبل ، وهو أبو عامر الراهب الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقاً . وكانوا أعدوه له ليصلي فيه ، ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما سنفصله ـ .
{ وَلَيَحْلِفُنَّ } أي : بعد ظهور نواياه ومقاصدهم السيئة { إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى } أي : ما أردنا ، ببناء المسجد ، إلا الخصلة الحسنى ، أو الإرادة الحسنى ، وهي الصلاة ، وذكر الله ، والتوسعة على المصلين { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي : في حلفهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } [ 108 ] .
{ لا تَقُمْ فِيهِ } أي : لا تصلّ في مسجد الشقاق { أَبَداً } أي : في وقت من الأوقات ، لكونه موضع غضب الله ، ولذلك أمر بهدمه وإحراقه كما يأتي . وإطلاق القائم على المصلّي والمتهجد معروف ، كما في قولهم : فلان يقوم الليل ، وفي الحديث < من قام رمضان إيماناً واحتساباً > .
{ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى } أي :
بنيت قواعده على طاعة الله وذكره ، وقصد التحفظ من معاصي الله ، بفعل الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وهو مسجد قباء { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } أي : من أيام وجوده { أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ } أي : تصلي { فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } أي : المبالغين في الطهارة الظاهرة والباطنة .
ثم أشار إلى فضل مسجد التقوى على مسجد الضرار بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ 109 ] .
{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ } أي : مخافة منه { وَرِضْوَانٍ } أي : طلب رضوان منه : { خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا } أي : طرف { جُرُفٍ } بضم الراء وسكونها أي : مهواة { هَارٍ } أي : مشرف على السقوط { فَانْهَارَ بِهِ } أي : سقط معه
{ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 110 ] .
{ لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ } أي : لا يزال هدمه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم ، لا يزول وَسْمُهُ عن قلوبهم ، ولا يضمحلّ أثره { إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } أي : قطعاً ، وتتفرق أجزاءًَ ، فحينئذ يسلون عنه .
وأما ما دامت سالمة مجتمعة ، فالريبة باقية فيها متمكنة ، فيجوز أن يكون ذكر التقطيع تصويراً لحال زوال الريبة عنها ، ويجوز أي : يراد حقيقة تقطيعها وتمزيقها بالموت ، أو بعذاب النار .
وقيل : معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم { وَاللَّهُ عَلِيمٌ } أي : بنياتهم { حَكِيمٌ } أي : فيما أمر بهدم بنيانهم ، حفظاً للمسلمين عن مقاصدهم الرديئة .
تنبيهات :
الأول : قال الزمخشري : في مصاحف أهل المدينة والشام : { الَّذِينَ اتَّخَذُوا } بغير واو ، لأنها قصة على حيالها ، وفي سائرها بالواو على عطف قصة مسجد
الضرار الذي أحدثه المنافقون على سائر قصصهم .
الثاني : سبب نزول هذه الآيات أنه كان بالمدينة ، قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها ، رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب ، وكان قد تنصر في الجاهلية ، وقرأ علم أهل الكتاب ، وكان فيه عبادة في الجاهلية ، وله شرف في الخزرج كبير .
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة ، واجتمع المسلمون عليه ، وصار للإسلام كلمة عالية ، وأظهرهم الله يوم بدر ، شرق اللعين أبو عامر بريقه ، وبارز بالعداوة ، وظاهر بها ، وخرج فارّاً إلى كفار مكة يمالئهم على حرب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب ، وقدموا عام أُحُد ، فكان أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته .
فلما عرفوا كلامه قالوا : لا أنعم الله بك عيناً ، يا فاسق ، يا عدو الله ! ونالوا منه وسبّوه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره ، وقرأ عليه من القرآن ، فأبى أي : يسلم وتمرّد .
فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيداً طريداً فنالته هذه الدعوة . وذلك أنه لما فرغ الناس من أُحُد ، ورأى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور ، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على رسول الله ، فوعده ومنّاه ، وأقام عنده ، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار ، من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنّيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه ، وكان أمَرَهم أن يتخذوا له معقلاً ومرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك ، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء ، فبنوه وأحكموه ، وفرغوا منه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى تبوك .
فأتوه فقالوا : يا رسول الله ! إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية ، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه .
فقال : < إني على جناح سفر ، وحال شغل ، ولو قدمنا ، إن شاء الله تعالى ، أتيناكم ، فصلينا لكم فيه > .
فلما نزل بذي أَوَانٍ - موضع على ساعة من المدينة - أتاه خبر المسجد ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي أو أخاه عامراً ، فقال : انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله ، فاهدماه وحرقاه .
فخرجا سريعين ، حتى أتيا بني سالم بن عوف ، وهم رهط مالك بن الدخشم ، فقال مالك لمعن : أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي ، فدخل أهله ، فأخذ سعفاً من النخل ، فاشعل فيه ناراً ، ثم خرجا يشتدّان [ في المطبوع : يستدان ] ، حتى دخلا المسجد ، وفيه أهله ، فحرقاه وهدماه ، وتفرقوا عنه ، ونزل فيهم ما نزل - ذكره ابن كثير ، وأسند أطرافه إلى ابن إسحاق وابن مردويه - .
وروي أن بني عَمْرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء ، أتوا عُمَر بن الخطاب في خلافته ، فسألوه أن يأذن لمُجَمِّع بن جارية أن يؤمهم في مسجدهم فقال : لا ، ونعمة عين ! أليس هو إمام مسجد الضرار ؟ قال مجمع : يا أمير المؤمنين ! لا تعجل عليّ ، فوالله ! لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما أضمروا عليه ، ولو علمت ما صليت معهم فيه ، أنهم يتقربون إلى الله ، ولم أعلم ما في نفوسهم . فعذره عمر ، فصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء .
الثالث : ما قدمناه من أن المسجد في الآية هو مسجد قباء ، لأن السياق في معرضه ، وبيان أحقية الصلاة فيه من ذاك ، لأنه أسس على طاعة الله وطاعة رسوله ، وجمع كلمة المؤمنين .
ولما في الآية من الإشعار بالحث على تعاهده بالصلاة فيه ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزوره راكباً وماشياً ، ويصلي فيه ركعتين - كما في الصحيح - .
وقد روي عن عويم بن ساعدة الأنصاري أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال : < إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم ، فما هذا الطهور الذي تطهرون فيه ؟ > فقالوا ، يا رسول الله ! ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه أو مقعدته بالماء ، - رواه الإمام احمد وأبو داود والطبراني ، واللفظ له - .
وقد روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال : هو مسجده - رواه الإمام أحمد ومسلم ـ .
قال ابن كثير : ولا منافاة ، لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم ، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى . انتهى .
ومرجعه إلى أن هذا الوصف ، وإن كان يصدق عليهما - إلا أن الأحرى به بعد هو المسجد النبوي ، أي : فالحديث ليس في معرض تعيين ما في الآية ، بل في بيان الأحق بهذا الوصف الآن .
وقال السهروردي : كل منهما مراد ، لأن كلاًّ منهما أسس على التقوى من أول يوم تأسيسه .
والسر في إجابته صلى الله عليه وسلم السؤال عن ذلك ، دفع ما توهمه السائل من اختصاص ذلك بمسجد قباء ، والتنويه بمزية هذا عن ذاك .
الرابع : قال السهيلي ـ نور الله مرقده ـ : في الآية ـ يعني قوله تعالى : { مِنْ أوَّلِ يَوْمٍ } - من الفقه ، صحة ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين مع عمر رضي الله عنه حين شاورهم في التاريخ ، فاتفق رأيهم على أن يكون من عام الهجرة ، لأنه الوقت الذي عزّ فيه الإسلام ، والحين الذي أمِنَ فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وبنيت المساجد ، وعُبد الله كما يجب ، فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل ، وفهمنا الآن بفعلهم أن قوله تعالى : { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } أن ذلك اليوم هو أول أيام التاريخ الذي يؤرخ به الآن .
فإن كان الصحابة أخذوه من هذه الآية ، فهو الظن بهم ، لأنهم أعلم الناس بتأويل كتاب الله وأفهمهم بما في القرآن من الإشارات ، وإن كان ذلك على رأي واجتهاد ، فقد علمه الله وأشار إلى صحته قبل أن يفعل ، إذ لا يعقل قول القائل : فعلته أول يوم إلا بالإضافة إلى عام معلوم ، أو شهر معلوم ، أو تاريخ معلوم .
وليس ههنا إضافة في المعنى إلا إلى هذا التاريخ المعلوم ، لعدم القرائن الدالة على غيره من قرينة لفظ أو حال ، فتدبره ، ففيه معتبرٌ لمن ادّكر ، وعِلْمٌ لمن رأى بعين فؤاده واستبصر .
الخامس : التأسيس وضع الأساس ، وهو أصل البناء ، وأوله ، وبه إحكامه ، ففي الآية شبَّه التقوى والرضوان تشبيهاً مكنيّاً مضمراً في النفس ، بما يعتمد عليه أصل البناء .
و أسس بنيانه تخييل ، فهو مستعمل في معناه الحقيقي ، أو هو مجاز بناء على جوازه ، فتأسيس البنيان بمعنى إحكام أمور دينه ، أو تمثيل لحال من أخلص لله وعمل الأعمال الصالحة ، بحال من بنى بناءً محكماً مؤسساً يستوطنه ويتحصن به . أو البنيان استعارة أصلية ، والتأسيس ترشيح أو تبعية ، والشفا : الحرف والشفير .
و جُرُف الوادي : جانبه الذي يتحفر أصله بالماء ، وتجرفه السيول ، فيبقى واهياً .
والهار : الهائر ، وهو المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط . قيل : هو مقلوب ، وأصله هاور ، أو هاير . وقيل : حذفت عينه اعتباطاً ، فوزنه فال . والإعراب على رائه كباب ، وقيل : لا قلب فيه ولا حذف ، ووزنه في الأصل فعِل
بكسر العين ، ككتف ، وهو هَوِرٌ أو هيرٌ ، ومعناه ساقط أو مشرف على السقوط . وفاعل انهار ، إما ضمير البنيان ، وضمير به للمؤسس ، أي : سقط بنيان الباني بما عليه . أو للشفا ، وضمير به للبنيان .
والظاهر في التقابل أن يقال : أم من أسس بنيانه على ضلال وباطل وسخط من الله ، ولذا قال في " الكشاف " : المعنى أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة محكمة قوية ، وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه ، خير أم من أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها ، وأقلها بقاء وهو الباطل والنفاق ، الذي مثله مثل شفا جرف هار في قلة الثبات والإستمساك .
وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى ، لأنه جعل مجازاً عما ينافي التقوى ، يعني أنه شبه الباطل بشفا جرف هار ، في قلة الثبات ، فاستعير للباطل بقرينة مقابلته للتقوى ، والتقوى حق ، ومُنَافِي الحق هو الباطل .
وقوله فانهار ترشيح ، وباؤه للتعدية ، أو للمصاحبة ، فشفا جرف هار ، استعارة تصريحية تحقيقية ، والتقابل باعتبار المعنى المجازيّ المراد منها .
فإن قلت لماذا غاير بينهما حيث أتى بالأول على طريقة الكناية والتخييل ، وبالثاني على طريق الإستعارة والتمثيل ؟
قلت : التفنن في الطريق رعايةٌ لحق البلاغة ، وعدولاً عن الظاهر ، مبالغةٌ في الطرفين ، إذ جعل أولئك مبنياً على تقوى ورضوان ، هو أعظم من كل ثواب ، وحال هؤلاء على فساد أشرف بهم على أشد نكال وعذاب ، ولو أتى به على مقتضى الظاهر لم يفده ، ما فيه من التهويل .
وقولنا : فانهار ترشيح ، أوضحه " الكشاف " بقوله : لم جعل الجرف الهائر مجازبعضها . لباطل ، قيل : { فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } على معنى فطاح به الباطل في نار جهنم ، إلا أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الإنهيار الذي هو للجرف ، وليصور أن المبطل كأنه أسس بنياناً على شفا جرف من أودية جهنم ، فانهار به ذلك الجرف ، فهوى في قعرها .
السادس : دلت الآية على أن كل مسجد بني على ما بني عليه مسجد الضرار ، أنه لا حكم له ولا حرمة ، ولا يصح الوقف عليه .
وقد حرق الراضي بالله كثيراً من مساجد الباطنية والمشبهة والمجبرة وسبل بعضها . نقله بعض المفسرين .
قال الزمخشري : قيل : كل مسجد بني مباهاة أو رياءً وسمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله ، أو بمال غير طيب ، فهو لاحق بمسجد الضرار .
وعن شقيق أنه لم
يدرك الصلاة في مسجد بني عامر ، فقيل له : مسجد بني فلان لم يصلوا فيه بعد ، فقال : لا أحب أن أصلي فيه ، فإنه بني على ضرار ، كل مسجد بني على ضرار ، أو رياء وسمعة فإن أصله ينتهي إلى المسجد الذي بني ضراراً .
وعن عطاء : لما فتح الله تعالى الأمصار على يد عمر رضي الله عنه ، أمر المسلمين أن يبنوا المساجد ، وألا يتخذوا في مدينة مسجدين ، يضارّ أحدهما صاحبه . انتهى .
وقال الإمام ابن القيّم في " زاد المعاد " في فوائد غزوة تبوك :
ومنها تحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله ورسوله فيها وهدمها ، كما حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وأمر بهدمه ، وهو مسجد يصلى فيه ، ويذكر إسم الله فيه . لما كان بناؤه ضراراً وتفريقاً بين المؤمنين ، ومأوى للمنافقين ، وكل مكان هذا شأنه ، فواجب على الإمام تعطيله ، إما بهدم أو تحريق ، وإما بتغيير صورته ، وإخراجه عما وضع له .
وإذا كان هذا شأنه مسجد الضرار ، فمشاهد الشرك التي تدعو سدنُتها إلى اتخاذ من فيها أنداداً من دون الله ، أحق بذلك وأوجب ، وكذلك محال المعاصي والفسوق ، كالحانات وبيوت الخمارين ، وأرباب المنكرات .
وقد حرق عمر رضي الله عنه قرية بكاملها يباع فيها الخمر ، وحرق حانوت رويشد الثقفي وسماه فويسقاً ، وأحرق قصر سعد عليه لما احتجب عن الرعية .
وهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت تاركي حضور الجماعة
والجمعة ، وإنما منعه من فيها من النساء والذرية الذين لا تجب عليهم ، كما أخبر هو عن ذلك . انتهى .
ثم قال ابن القيّم : ومنها أن الوقف لا يصح على غير بر ولا قربة ، كما لم يصح وقف هذا المسجد .
وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بني على قبر ، كما ينبش الميت إذا دفن في المسجد
ـ نص على ذلك الإمام أحمد وغيره - فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر ، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه ، وكان الحكم للسابق ، فلو وضعا معاً لم يجز .
ولا يصح هذا الوقف ، ولا يجوز ، ولا تصحّ الصلاة في هذا المسجد ، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، ولعنه من اتخذ القبر مسجدا ، أو أوقد عليه سراجاً .
قال ابن القيّم : فهذا دين الإسلام الذي بعث به رسوله ونبيه ، وغربته بين الناس كما ترى . انتهى .
السابع : قال بعض المفسرين اليمانيين : في الآية دلالة على فضل المسجد الموصوف بهذه الصفة ، يعني التأسيس على التقوى ، وفيها أن نية القربة في عُمارة المسجد شرط ، لأن النية هي التي تميز الأفعال .
وفيها : أنه لا يجوز تكثير سواد الكفار - ذكر ذلك الحاكم ـ لأنه قال تعالى :
{ لا تقم فيه أبداً } وأراد بالقيام الصلاة .
الثامن : قال ابن كثير : في الآية دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائه على عبادة الله وحده ، لا شريك له ، وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين ، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء ، والتنزه عن ملابسة القاذورات .
وقد روى الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح ، فقرأ الروم فأوهم ، فلما انصرف قال : < إنه يلبس علينا القرآن ، إن أقواماً منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء ، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء > . فدلّ هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة ، ويعين على إتمامها وإكماله ، والقيام بمشروعاتها .
التاسع : ذهب أبو العالية والأعمش إلى أن المراد من الطهارة في الآية ، الطهارة من الذنوب ، والتوبة منها ، والتطهر من الشرك .
قال الرازيّ : وهذا القول متعين ، لأن التطهر من الذنوب والمعاصي هو المؤثر في القرب من الله تعالى ، واستحقاق ثوابه ومدحه ، ولأنه تعالى وصف أصحاب مسجد الضرار بمضارّة المسلمين ، والكفر بالله ، والتفريق بني المسلمين ، فوجب كون هؤلاء بالضد من صفاتهم ، وما ذلك إلا كونهم مبرئين عن الكفر والمعاصي . انتهى .
أقوال : لا تسلم دعوى التعيّن ، فإن اللفظ يتناول الطهارتين الباطنة والظاهرة . بل الثانية ما رواه أصحاب السنن والإمام أحمد وابن خزيمة في صحيحه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء : < قد أثنى الله عليكم في الطهور ، فماذا تصنعون > ؟ فقالوا : نستنجي بالماء .
وروى البزّار عن ابن عباس قال : هذه الآية في أهل قباء ، سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا تنبع الحجارة بالماء .
فإن صح ذلك كان المرادَ من الآية ، وتكون حثّاً على الطهارة المذكورة ، ومدحاً لها . وكون ذويها على الضد من صفات أولئك ، يستفاد من عموم هذا ، ومن قوله تعالى : { لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى } الآية .
العاشر : قال القاشاني : لما كان عالم الملك تحت قهر عالم الملكوت ، وتسخيره ، لزم أن يكون لنيات النفوس وهيئاتها تأثير فيما يباشرها من الأعمال ، فكل ما فعل بنية صادقة لله تعالى عن هيئة نورانية ، صحبته بركة ويمن وجمعية وصفاء ، وكل ما فعل بنية فاسدة شيطانية عن هيئة مظلمة ، صحبته تفرقة وكدورة ومحق وشؤم .
ألا ترى الكعبة كيف شرفت وعظمت وجعلت متبركة لكونها مبنية على يدي نبيّ من أنبياء الله ، بنية صادقة ، ونفس شريفة صافية ، عن كمال إخلاص لله تعالى ؟ ونحن نشاهد أثر ذلك في أعمال الناس ، ونجد أثر الصفاء والجمعية في بعض المواضع والبقاع ، والكدورة والتفرقة في بعضها .
وما هو إلا لذلك ، فلهذا قال : { لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى } الآية ، لأن الهيئات الجسمانية مؤثرة في النفوس ، كما أن الهيئات النفسانية مؤثرة في الأجسام ، فإذا كان موضع القيام مبنيّاً على التقوى وصفاء النفس ، تأثرت النفس باجتماع الهمة ، وصفاء الوقت ، وطيب الحال ، وذوق الوجدان ، وإذا كان مبنيّاً على الرياء والضرار ، تأثرت بالكدورة والتفرقة والقبض .
وفيه إشعار بأن زكاء نفس الباني ، وصدق نيته ، مؤثر في البناء ، وأن تبرّك المكان ، وكونه مبنيّاً على الخير ، يقتضي أن يكون فيه أهل الخير والصلاح ، ممن يناسب حاله حال بانيه ، وأن محبة الله واجبة لأهل الطهارة لقوله : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ 111 ] .
{ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
لما هدى الله تعالى المؤمنين إلى الإيمان ، والأنفس مفتونة بحب الأموال والأنفس ، استنزلهم لفرط عنايته بهم ، عن مقام محبة الأموال والأنفس ، بالتجارة المربحة ، والمعاملة المرغوبة بأن جعل الجنة ثمن أموالهم وأنفسهم ، فعرض لهم خيراً مما أخذ منهم .
فالآية ترغيب في الجهاد ببيان فضيلته ، إثر بيان حال المتخلفين عنه .
قال أبو السعود : ولقد بولغ في ذلك على وجه لا مزيد عليه ، حيث عبر عن قبول الله تعالى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله تعالى ، وإثابته أياهم بمقابلتها الجنة ، بالشراء على طريقة الإستعارة التبعية ، ثم جعل المبيع ، الذي هو العمدة والمقصد في العقد ، أنفس المؤمنين وأموالهم .
والثمن ، الذي هو الوسيلة في الصفقة ، الجنة ، ولم يجعل الأمر على العكس بأن يقال : إن الله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ، ليدل على أن المقصد في العقد هو الجنة ، وما بذله المؤمنون في مقابلتها من الأنفس والأموال وسيلة إليها ، إيذاناً بتعلق كمال العناية بهم وبأموالهم .
ثم إنه لم يقل بالجنة ، بل بأن لهم الجنة مبالغة في تقرر وصول الثمن إليهم ، واختصاصه بهم . وكأنه قيل : بالجنة الثابتة لهم ، المختصة بهم .
وفي " الكشاف " و " العناية " ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن ولا أبلغ من هذه الآية ، لأنه أبرزه في صورة عقد عاقده رب العزة ، وثمنه ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ولم يجعل المعقود عليه كونهم مقتولين فقط ، بل إذا كانوا قاتلين أيضاً لإعلاء كلمته ، ونصر دينه ، وجعله مسجلاً في الكتب السماوية ، وناهيك به من صك .
وجعل وعده حقاً ، ولا أحد أوفى من وعده ، فنسيئته أقوى من نقد غيره ، وأشار إلى ما فيه من الربح والفوز العظيم ، وهو استعارة تمثيلية ، صور جهاد المؤمنين ، وبذل أموالهم وأنفسهم فيه ، وإثابة الله لهم على ذلك الجنة ، بالبيع والشراء ، وأتى بقوله
{ يقاتلون } الخ ، بياناً لمكان التسليم وهو المعركة ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم < الجنة تحت ظلال السيوف > ، ثم أمضاه بقوله : { وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .
ولما في هذا من البلاغة واللطائف المناسبة للمقام ، لم يلتفتوا إلى جعل اشترى وحده استعارة أو مجازاً عن الإستبدال ، وإن ذكروه في غير هذا الموضع ، لأن قوله
{ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ } يقتضي أنه شراء وبيع ، وهذا لا يكون إلا بالتمثيل .
ومنهم من جوز أن يكون معنى : { اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ } بصرفها في
العمل الصالح ، و : { أَمْوَالَهُمْ } بالبذل فيها . وجعل قوله : { يُقَاتِلُونَ } مستأنفاً لذكر بعض ما شمله الكلام ، اهتماماً به . انتهى .
وقوله تعالى : { وَعْداً عَلَيْهِ } مصدر مؤكد لما يدل عليه كون الثمن مؤجلاً ، وذكر كونه في التوراة وما عطف عليها ، تأكيداً له ، وإخبار بأنه منزل على الرسل في الكتب الكبار .
وفيه أن مشروعية الجهاد ومثوبته ثابتة في شرع من قبلنا ، وقد بقي في التوراة والإنجيل الموجودين ، على تحريفهما ، ما يشير إلى الجهاد والحث عليه ، نقلها عنهما من ردّ على الكتابيّين الزاعمين أن الجهاد من خصائص الإسلام ، فانظره في الكتب المتداولة في ذلك .
ثم وصف تعالى المؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [ 112 ] .
{ التَّائِبُونَ } أي : عن المعاصي ، ورفعه على المدح أي : هم التائبون ، كما دل عليه قراءة ( التائبين ) بالياء إلى قوله ، و ( الحافظين ) نصباً على المدح ، أو جراً صفة للمؤمنين .
وجوز أن يكون مبتدأ وخبره ما بعده ، أي : التائبون من المعاصي حقيقة ، الجامعون لهذه الخصال { الْعَابِدُونَ } أي : الذين عبدوا الله وحده ، وأخلصوا له العبادة ، وحرصوا عليها { الْحَامِدُونَ } لله على نعمائه ، أو على ما نابهم من السراء والضراء { السَّائِحُونَ } أي : الصائمون ، أو الضاربون في الأرض تدبراًَ واعتباراً . وسننبه عليه { الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ } أي : المصلّون { الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ } أي : في تحليله وتحريمه { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } الموصوفين بالنعوت المذكورة .
ووضع المؤمنين موضع ضميرهم ، للتنبيه على أن ّ ملاك الأمر هو الإيمان ، وأن المؤمن الكامل من كان كذلك ، وحذف المبشر به للتعظيم ، أو للعلم به ، لقوله في آية الأحزاب : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً } .
تنبيهات :
الأول : ما قدمناه من تفسير السائحين بالصائمين .
قال الزجاج : هو قول
أهل التفسير واللغة جميعاً . ورواه الحاكم مرفوعاً ، وكذلك ابن جرير .
قال ابن كثير : ووقفه أصح .
وعن ابن عباس : كل ما ذكر الله في القرآن من السياحة ، فهو الصيام .
وعن الحسن : السائحون الصائمون شهر رمضان .
قال الشهاب : استعيرت السياحة للصوم لأنه يعوق عن الشهوات ، كما أن السياحة تمنع عنها في الأكثر .
ونقل الرازي عن أبي مسلم أن السائحين : السائرون في الأرض ، وهو مأخوذ من السيح ، سيح الماء الجاري ، والمراد به من خرج مجاهداً مهاجراً .
وتقريره أنه تعالى حث المؤمنين في الآية الأولى على الجهاد ، ثم ذكر هذه الآية في بيان صفات المجاهدين ، فينبغي أن يكونوا موصوفين بجميع هذه الصفات .
وروى مثله أبن أبي حاتم عن عبد الرحمن أنه قال : هم المهاجرون .
وعن عِكْرِمَة أنهم المنتقلون لطلب العلم .
قال ابن كثير : جاء ما يدل على أن السياحة الجهاد ، فقد روى أبو داود من حديث أبي أمامة أن رجلاً قال : يا رسول الله ! ائذن لي في السياحة ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : < سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله > .
أقول : لو أخذ هذا الحديث تفسيراً للآية لالتقى مع كل ما روي عن السلف فيها ، لأن الجهاد في سبيل الله ، كما يطلق على قتال المشركين ، يطلق على كل ما فيه مجاهدة للنفس في عبادته تعالى ، ومنه الهجرة والصوم ، والسفر للتفقه في الدين أو للإعتبار ، بل ذلك هو الجهاد الأكبر .
هذا على إرادة التوفيق بين المأثورات ، أما لو أريد باللفظ أصل حقيقته اللغوية ، أعني الضرب في الأرض خاصة ، الذي عبر عن عِكْرِمَة بالمنتقلين لطلب العلم ، لكان بمفرده كافياً في المعنى ، مشيراً إلى وصف عظيم ، وهذا ما حدا بأبي مسلم أن يقتصر عليه ، هو الحق في تأويل الآية .
وقد رأيت لبعض المحققين مقالة في تأييده ، يجدر بالمحقق أن يقف عليها ، وهاك خلاصتها : قال : الكتاب الحكيم يأمر الْإِنْسَاْن كثيراً بأن يضحي قسماً من حياته في السياحة والتسيار ، لأجل اكتشاف الآثار ، والوقوف على أخبار الأمم البائدة
ليكون ذلك مثال عظة واعتبار ، يضرب على أدمغة الجامدين بيد من حديد .
ولا أريد أن أحشر لقارئ تلك الآيات ، فإن ذلك يؤدي إلى التطويل ، بل أريد أن أجتزئ منها بما يكفل ثبوت الدعوى ، وذلك في قوله تعالى : { السَّائِحُونَ } في هذه الآية ، ولم يقع لفظ سائحون في القرآن الكريم إلا هذه المرة الفذة .
ومع ذلك فقد تغلب عليها أهل التفسير ، فمنهم من قال هم الصائمون ، ومنهم من قال غيره .
والصحيح أن السائحون معناه السائرون ، مأخوذاً من السيح وهو الجري على وجه الأرض ، والذهاب فيها ، وهذه المادة تشعر بالإنتشار .
يقال : ساح الماء أي : جرى وانتشر ، والسيح أيضاً الماء الجاري الذاهب في وجه الأرض .
ويطلق السائح على معنى يضاد الجامد ، وهو الماء المسفوح ، لأنه بانمياعه ينتشر في وعائه .
وقد عهدنا بألفاظ القرآن أنها يجب حملها على ظواهرها ، وعلى معانيها الحقيقية ، اللهم ما لم يمنع مانع عقلي ، ولا مانع هنا من إرادة الحقيقة وعليه فيجب حمل لفظ السائحون على معناه الظاهر الحقيقي ، وهو السائرون الذاهبون في الديار ، لأجل الوقوف على الآثار ، تواصلاً للعظة بها والإعتبار ، ولغير ذلك من الفوائد التي عرفها التاريخ .
وكذلك عهدنا بالمعنى المجازيّ أنه لا تجوز إرادته إلا عند قيام القرينة على منع المعنى الحقيقي ، في حال أن الأمر هنا بالعكس ، لكثرة القرائن التي تطالب بإرادة المعنى الحقيقي دون المجازي ، وذلك مثل آية : { سِيرُوا } { أَوَلَمْ يَسِيرُوا } ، { أَفَلَمْ يَسِيرُوا } { فَسِيرُوا } { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ } { وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } الآية .
فهذه الآيات هي قرائن نيّرة تؤذن بأن السيح معناه اليسر ، فإنها وإن تكن من مادة أخرى ، إلا أن معناه يلاقي معنى السيح ، على أننا لا نعدم قرينة على ذلك من نفس المادة ، وذلك كآية : { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ } ، فكلمة سيحوا هنا تفسر
{ السَّائِحُونَ } في الآية هذه ، وهم يقولون : خير ما فسرته بالوارد .
وبالجملة ، فصرف هذا اللفظ عن ظاهره تكسيل للأمة ، وتدبير على فتور همتها ، وضعف نشاطها ، وحيلولة بينها وبين سعادة الإحاطة بآثار الأمم البائدة ، ورؤية عِمْرَان المسكونة ، الأمر الذي هو الآن الضالة المنشودة عند الغربيين ، وفيه ستر لنور الكتاب الذي هو أول مرشد للعالم ألا يألوا جهداً في السير والسياحة ، وأن ينقلب في البلاد أي : تنقيب .
وسيأتي تتمة لهذا في تفسير آية : { سَائِحَاتٍ } في سورة التحريم إن شاء الله تعالى .
قال الرازي : للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس ، لأنه يلقاه أنواع من الضرّ والبؤس ، فلا بد له من الصبر عليها ، وقد يلقى أفاضل مختلفين ، فيستفيد من كلّ ما ليس عند الآخر .
وقد يلقى الأكابر من الناس ، فيحقر نفسه في مقابلتهم ، وقد يصل إلى المرادات الكثيرة ، فينتفع بها ، وقد يشاهد اختلاف أحوال الدنيا بسبب ما خلق الله تعالى في كل طرف من الأحول الخاصة بهم ، فتقوى معرفته .
وبالجملة فالسياحة لها آثار قوية في الدين . انتهى .
وقال بعضهم : لا يعزب عنك أيها اللبيب أنه تعالى حث بني الْإِنْسَاْن على السفر في
محكم كتابه العزيز ، وندد على من ارتدا منهم رداء الكسل ، وأوقع نفسه في وهدة الخمول ، وتلذذ بالتقاعد عن جَوْب البلاد ، وقطع الوهاد ، فقال تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } ، وقال صلى الله عليه وسلم : < سافروا تصحوا واغزوا تستغنوا > .
وقد تكلم كثير من العلماء والحكماء والأدباء على مزايا السفر نظماً ونثراً .
ومن أجل فوائده زيادة علمه ، وانتفاع غيره بما يعلمه وما يكتسبه ، ومنها ، وهو أعظمها ، رضا ربه ، ومزيد ثوابه بنفعه لعباده ، وأحب عَبَّاد الله إلى الله أنفعهم لعباده .
وكذلك باتعاظه بأحوال الناس ، واعتباره بأمورهم ، واطلاعه في ساحته على الأسرار المكنونة ، والحكم التي دبر الله بها أمر المخلوقات وأحكم بها صنع الكائنات .
فمن وقف على سر الخالق زاد في تعظيمه وتقرب إليه بالطاعة والإمتثال لأوامره ونواهيه ، وليس بخافٍ ما وقع للأنبياء والمرسلين ، والصحابة والتابعين ، والأولياء والصالحين ، من التنقلات والأسفار ، في القرى والأمصار ، للنظر والإعتبار .
الثاني : قال القاضي : إنما جعل ذكر الركوع والسجود ، كناية عن الصلاة ، لأن سائر أشكال المصلِّي موافق للعادة ، هو قيامه وقعوده ، والذي يخرج عن العادة في ذلك هو الركوع والسجود ، وبه يتبين الفضل بين المصلي وغيره .
ويمكن أن يقال : القيام أول مراتب التواضع لله تعالى ، والركوع وسطها ، والسجود غايتها . فخص الركوع والسجود بالذكر ، لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية ، وتنبيهاًَ على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع والتعظيم . ذكره الرازي .
الثالث : ذكروا في سر العطف في موضعين من هذه النعوت وجوهاً :
فأما الأول : أعني قوله تعالى : { وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ } فقالوا : سر العطف فيه
إما الدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة ، وصفة واحدة ، لأن بينهما تلازما في الذهن والخارج ، لأن الأوامر تتضمن النواهي ومنافاةً بحسب الظاهر ، لأن أحدهما طلب فعل ، والآخر طلب ترك ، فكانا بين كمال الإتصال والإنقطاع المقتضي للعطف ، بخلاف ما قبلهما ، أو لأنه لما عدد صفاتهم ، عطف هذين ليدل على أنه شيء واحد ، وخصلة واحدة ، والمعدود مجموعهما ، كأنه قيل : الجامعون بين الوصفين ، أو العطف لما بينهما من التقابل ، أو لدفع الإيهام ، وهذا معنى قول " المغني " : الظاهر أن العطف في هذا الوصف إنما كان من جهة أن الأمر والنهي ، من حيث أمر ونهي ، متقابلان بخلاف بقية الصفات ، أو لأن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر ، وهو ترك المعروف ، والناهي عن المنكر آمر بالمعروف . فأشير إلى الإعتداد بكل من الوصفين ، وأنه لا يكفي فيه ما يحصل في ضمن الآخر .
وأما الثاني : أعني وقوله تعالى : { وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّه } فقيل : سر العطف فيه الإيذان بأن التعداد قد تم بالسبع ، من حيث أن السبعة هو العدد التامّ ، والثامن ابتداء تعداد آخر معطوف عليه ، ولذلك تسمى واو الثمانية ونظر فيه بأن الدال على التمام لفظ سبعة لاستعماله في التكثير ، لا معدوده .
والقول بواو الثمانية ذكروه في قوله تعالى : { سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } وضعفه في " المغني " .
وقيل : سر العطف التنبيه على أن ما قبله مفصل الفضائل ، وهذا مجملها ، لأنه شامل لما قبله وغيره ، ومثله يؤتى به معطوفاً ، نحو زيد وعمرو وسائر قبيلتهما كرماء ، فلمغايرته لما قبله ، بالإجمال والتفصيل ، والعموم ، والخصوص ، عطف عليه .
وقيل : بقوة الجامع بالتلازم ، لأن من حصل الأوصاف السابقة ، فقد حفظ حدود الله .
وقيل : المراد بحفظ الحدود ظاهره ، وهي إقامة الحدود ، كالقصاص على من استحقه .
والصفات الأولى إلى قوله : { الآمرون } صفات محمودة للشخص في نفسه ، وهذه له باعتبار غيره ، فلذا تغير تعبير الصنفين ، فترك العاطف في القسم الأول ، وعطف في الثاني .
ولما كان لا بد من اجتماع الأول في شيء واحد ، ترك فيها العطف لشدة الإتصال ، بخلاف هذه ، فإنه يجوز اختلاف فاعلها ومن تعلقت به .
وهذا هو الداعي لإعراب التائبون مبتدأ موصوفاً بما بعده ، و الآمرون خبره .
فكأنه قيل : الكاملون في أنفسهم المكملون لغيرهم ، وقدم الأول لأن المكمل لا يكون مكملاً حتى يكون كاملاً في نفسه ، وبهذا اتسق النظم أحسن نسق من غير تكلف ، والله أعلم بمراده . كذا في " العناية " و " حواشي المغني " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إياهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } [ 113 - 114 ] .
{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إياهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } .
لما بين تعالى في أول السورة وما بعدها أن البراءة من المشركين والمنافقين واجبة ، بيّن سبحانه هنا ما يزيد ذلك تأكيداً ، حيث نهى عن الإستغفار لهم بعد تبين شركهم وكفرهم ، لأن ظهوره موجب لقطع الموالاة ، حتى مع الأقرباء ، لأن قرابتهم وإن أفادتهم المناسبة بهم والرحمة بهم ، فلا تفيدهم قبول نور الإستغفار
{ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } فطلب المغفرة لهم في حكم المخالفة لوعد الله ووعيده .
ثم ذكر تعالى أن السبب في استغفار إبراهيم لأبيه ، أنه كان لأجل وعد تقدم منه له ، بقوله : { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي } ، وقوله : { لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } ، وأنه كان قبل أن يتحقق إصراره على الشرك { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ } ذلك { تَبَرَّأ مِنْهُ } أي : من أبيه بالكلية ، فضلاً عن الإستغفار له .
وبيّن تعالى الحامل لإبراهيم على الإستغفار ، بأنه فرط ترحّمه وصبره بقوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ } أي : كثير التأوه من فرط الرحمة ، ورقة القلب { حَلِيمٌ } أي : صبور على ما يعترضه من الإيذاء ، ولذلك حلم عن أبيه ، مع توعده له بقوله :
{ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ } ، واستغفر له بقوله : { سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } ، وذلك قبل التبيين ، فليس لغيره أن يأتسي به في ذلك .
وفي الآية تأكيد لوجوب الإجتناب بعد التبيين ، بأنه صلى الله عليه وسلم تبرأ من أبيه بعد التبيين ، وهو في كمال رقة القلب والحلم ، فلا بد أن يكون غيره أكثر منه اجتناباً وتبرؤاً .
تنبيهات :
الأول : ساق المفسرون ههنا روايات عديدة في نزول الآية ، ولما رآه بعضهم متنافية ، حاول الجمع بينها بتعدد النزول ، ولا تنافي ، لما قدمناه من أن قولهم نزلت
في كذا قد يراد به أن حكم الآية يشمل ما وقع من كذا بمعنى أن نزولها يتناوله . وقد يراد به أن كذا كان سبباً لنزولها ، وما هنا من الأول ، ونظائره كثيرة في التنزيل ، وقد نبهنا عليه مراراً ، لا سيما في المقدمة . فاحفظه .
الثالث : قال عطاء بن أبي الرباح : ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة ، ولو كانت حبشية حبلى من الزنى ، لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا عن المشركين ، ثم قرأ الآية . وهذا فقه جيّد .
الثالث : قال بعض اليمانيين : استدل بالآية على أن من تأوه في الصلاة لم تبطل . وهذا يحكى عن أبي جعفر : إذا قال : آه لم تبطل صلاته ، لأنه تعالى مدح إبراهيم عليه السلام بذلك ، ومذهب الأئمة بطلانها ، سواء قال : آه أو أوه ، لأن ذلك من كلام الناس ، ولم يذكر تعالى أن تأوه إبراهيم كان في الصلاة . انتهى .
الرابع : قال في " العناية " : أوّاه فعّال للمبالغة من التأوّه ، وقياس فعله أن يكون ثلاثياً ، لأن أمثلة المبالغة إنما يطرد أخذها منه وحكى قطرب له فعلاً ثلاثياً ، وهو آهَ يَؤُوهُ ، كقام يقوم ، أوْهاً ، وأنكر عليه غيره بأن لا يقال إلا أوّه وتأوّه قال :
~إذا ما قمتُ أرْحَلُها بليل تأوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ
والتأوه قول آه ونحوه مما يقوله الحزين ، فلذا كني به عن الحزن ، ورقة القلب . انتهى .
و أوّه بفتح الواو المشدّدة ساكنة الهاء ، وأواه ، وأوه بسكون الواو ، والحركات الثلاث قال :
~فأوْهِ على زيارةِ أمّ عَمْرو فكيف مع العدا ومع الوُشاةِ ؟
وربما قلبوا الواو ألفاً ، فقالوا : آهِ من كذا قال :
~آهِ من تَيَّاكِ آهَا تَرَكَتْ قلبي مُتَاها
و آهٍ بكسر الهاء منونة وحكي أيضاً آها وواها ، وفيها لغات أخرى أوصلها " التاج " إلى اثنتين وعشرين لغة ، وكلها كلمات تقال عند الشكاية والتوجع والتحزن ، مبنيّات على ما لزم آخرها إلا آها ، فانتصابها لإجرائها مجرى المصادر ، كأنه قيل : أتأسف تأسفاً .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ 115 ] .
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } هذا من تتمة ما تقدم من تأكد مباينة المشركين ، والبراءة منهم ، وترك الإستغفار لهم ، وذلك لأنهم حقت عليهم الكلمة ، حيث قامت عليهم الحجة بإبلاغ الرسول إليهم ما يتقون ، ودلالته إياهم على الصراط السوي فضلّوا عنه ، فأضلهم الله ، واستحقوا عقابه .
وقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } تعليل لما سبق ، أي : أنه تعالى عليم بجميع الأشياء التي من جملتها حاجتهم إلى بيان قبح ما لا يستقل العقل بمعرفته ، فبين لهم ذلك ، كما فعل هنا .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } [ 116 ] .
{ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } تقوية لما تقدم من التبرؤ منهم ، وإرشاد للمؤمنين بأن يتكلوا على ربهم ، ولا يرهبوا من أولئك ، فإنه إذا كان ناصرهم فلا يضرهم كيدهم ، وتنبيه على لزوم امتثال أمره ، والإنقياد لحكمه ، والتوجه إليه وحده ، إذ لا يتأتى لهم ولاية ولا نصرة إلا منه تعالى .
تنبيه :
وقف كثير من المفسرين في الآية هنا ، أعني قوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً } الآية ، على ما روي في الآية قبلها ، من نزولها في استغفار وقع من المؤمنين للمشركين ، فربطوا هذه الآية بتلك ، على الرواية المذكورة ، ونزَّلوها على المؤمنين ، فقالوا : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً } أي : ليحكم عليهم باستغفارهم للمشركين بالضلال بعد إذ هداهم بالنبوة والإيمان ، حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه ، فتتركوا ، فأما
إذا لم يبين فلا ضلال ، إلى آخر ما قالوه . . . .
وما أبعده من تفسير وتأويل الرازيّ ذكره وجهاً ، وأشفعه بما اعتمدناه ، وهو الحق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } [ 117 ] .
{ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ }
اعلم أن الله تعالى لما بين فيما تقدم مراتب الناس في أيام غزوة تبوك ، مؤمنهم ومنافقهم ، والمنفق لها طوعاً أو كرهاً ، والمرغّب فيها أو عنها ، والمتخلف نفاقاً أو كسلاً ، وأنبأ عما لحق كلاًّ من الوعد والوعيد ، وميز الصادقين من غيرهم ، ختم بفرقة منهم كانوا تخلفوا ميلاً للدعة وهم صادقون في إيمانهم ، ثم ندموا فتابوا وأنابوا ، وعلم الله صدق توبتهم ، فقبلها ، ثم أنزل توبتهم في هذه الآية ، وصدرها بتوبته على رسوله ، وكبار صحبه جبراً لقلوبهم ، وتنويهاً لشأنهم بضمهم مع المقطوع بالرضا عنهم وبعثاً للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والإستغفار ، حتى النبيّ والمهاجرين والأنصار ، كل على حسبه ، وإبانةً لفضل التوبة ومقدارها عند الله ، وأنها صفة التوابين الأوابين صفة الأنبياء ، كما وصفهم بالصالحين ، ليظهر فضيلة الصلاح والوصف للمدح ، كما يكون لمدح الموصوف ، يكون لمدح الصفة ، وهذا من لطائف البلاغة ، وهو كما قال حسان رضي الله عنه :
~ما إِنْ مَدَحْتُ مُحَمّداً بِمقالَتِي لَكْنِ مَدَحْتُ مَقالَتِي بِمُحَمَّدِ
وفي الآية بيان فضل المهاجرين والأنصار .
قال الحاكم : ودلت على فضل عثمان ، لأنه جهز جيش العسرة بمال لم يبلغ غيره مبلغه ، وقد جمع تعالى بين ذكر نبيه وذكرهم ، ووصفهم باتِّباعه ، فوجب القطع بموالاتهم .
وقوله تعالى : { فِي ساعَةِ الْعُسْرةِ } أي : في وقتها ، والساعة تستعمل في معنى الزمان المطلق ، كما تستعمل الغداة والعشية واليوم ، والعسرة حالهم في غزوة تبوك ، كانوا في عسرة من الظَّهْر ، يعتقب العشرة على بعير واحد ، وفي عسرة من الزاد ، حتى
إن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما ، وكان النفر يتدالون التمرة بينهم ، يمصها هذا ، ثم يشرب عليها ، ثم يمصها الآخر ، ثم يشرب عليها : وفي عسرة من شدة لَهَبان الحرّ ومن الجدب ، وفي عسرة من الماء ، حتى بلغ بأحدهم العطش أن نحر بعيره ، فعصر فرثه فشربه ، وجعل ما بقي على كبده .
وقد حكى القالي في " أماليه " أن العرب كانوا إذا أرادوا توغل الفلوات التي لا ماء فيها ، سقوا الإبل على أتم أظمائها ثم قطعوا مشافرها ، أو خزموها لئلا ترعى ، فإذا احتاجوا إلى الماء افتظوا كروشها ، فشربوا ثميلها ، وهو كثير في الأشعار . كذا في " العناية " .
ونقل الرازي عن أبي مسلم ، أنه يجوز أن يكون المراد بساعة العسرة ، جميع الأحوال والأوقات الشديدة على الرسول ، وعلى المؤمنين ، فيدخل فيه غزوة الخندق وغيرها .
وقد ذكر تعالى بعضها في كتابه كقوله سبحانه : { وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِر } ، وقوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ } والمقصود منه وصف المهاجرين والأنصار بأنهم اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في الأوقات الشديدة ، والأحوال الصعبة ، وذلك يفيد نهاية المدح والتعظيم . انتهى .
أقول هذا الإحتمال ، وإن كان مما يسعه اللفظ الكريم ، إلا أنه يبعده عنه سياق الآية ، وسباقها ، القاصران على غزوة تبوك ، ولم يتفق في غيرها عسر في الخروج ، واتباعه عليه السلام ، بل وقع أحياناً في مصاف القتال .
وقد اتفق علماء الأثر والسير على تسميتها غزوة العسرة ، ومن خرج فيها جيش العسرة .
وقوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ } أي : عن الحق ، أو الثبات على الإتباع للذي نالهم من المشقة والشدة في سفرهم .
وفي تكرير التوبة عليهم بقوله تعالى : { ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ } تأكيد ظاهر ، واعتناء بشأنها ، هذا إذا كان الضمير راجعاً إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم ، وإن كان الضمير إلى الفريق الثاني ، فلا تكرار .
قال بعضهم : ذكر التوبة أولاً قبل ذكر الذنب ، تفضلاً منه ، وتطييباً لقلوبهم . ثم ذكر الذنب بعد ذلك ، وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى ، تعظيماً لشأنهم ، وليعلموا أنه تعالى قد قبل توبتهم ، وعفا عنهم . ثم أتبعه بقوله : { إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } تأكيداً لذلك .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ 118 ] .
{ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا } أي : تركوا وأخروا عن قبول التوبة في الحال ، كما قبلت توبة أولئك المتخلفين المتقدم ذكرهم ، والثلاثة هم كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية ، وكلهم من الأنصار ، لم يقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم توبتهم حتى نزل القرآن بتوبتهم .
وقوله تعالى : { حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } أي : مع سعتها ، وهو مثل الحيرة في أمرهم ، كأنهم لا يجدون فيها مكاناً يقرون فيه ، قلقاً وجزعاً مما هم فيه ، إذ لم يمكنهم الذهاب لأحد ، لمنع النبي صلى الله عليه وسلم من مجالستهم ومحادثتهم . وإذا ، يجوز كونها شرطية جوابها مقدر ، وأن تكون ظرفية غاية لما قبلها .
{ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ } أي : قلوبهم من فرط الوحشة والجفوة والغمّ ، بحيث لا يسعها أنس ولا سرور ، وذلك لأنهم لازموا بيوتهم ، وهُجِروا نحواً من خمسين ليلة ، وفيه ترقٍّ من ضيق الأرض إلى ضيقهم في أنفسهم ، وهو في غاية البلاغة { وَظَنُّوا } أي : علموا { أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ } أي : لا مفرّ من غضب الله { إِلَّا إِلَيْهِ } أي : إلى استغفاره { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا } أي : ليستقيموا على توبتهم ، ويستمروا عليها ، أو ليعدّوا من جملة التائبين ، أو المعنى : قبل توبتهم ليتوبوا في المستقبل ، إذا صدرت منهم هفوة ، ولا يقنطوا من كرمه : { إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [ 119 ] .
{ يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } أي : في إيمانهم ومعاهدتهم لله ولرسوله على الطاعة ، من قوله تعالى : { رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } ، أو هم الثلاثة ، أي : كونوا مثلهم في صدقهم وخلوص نيتهم .
تنبيهات :
الأول : روى الإمام أحمد والشيخان حديث كعب وصاحبيه مبسوطاً بما يوضح هذه الآية :
قال الزهريّ : أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه - وكان قائد كعب من بنيه ، حين عمي - قال : سمعت كعباً يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك .
قال كعب : لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة غزاها قط ، إلا في غزوة تبوك ، غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر ، ولم يُعاتَب أحد تخلف عنها ، وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد .
ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة ، حين توافقنا على الإسلام ، وما أحب أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت بدرٌ أذكر في الناس منها وأشهر .
وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة ، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط ، حتى جمعتهما في تلك الغزاة .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها ، إلا روّى بغيرها ، حتى كانت تلك الغزوة ، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرّ شديد ، واستقبل سفراً بعيداً ومفاوز ، واستقبل عدوّاً كثيراً ، فجلى للمسلمين أمرهم ، ليتأهبوا أهبة عدوهم ، فأخبرهم وجهه الذي يريد ، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ، لا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان ـ .
قال كعب : فقلّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ، ما لم ينزل فيه وحي من الله عزَّ وجلَّ .
وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة ، حين طابت الثمار والظلال وأنا إليها أصعر - أي : أميل - فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه ، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم ، فأرجع ولم أقض من جهازي شيئاً ، فأقول لنفسي : أنا قادر على ذلك إذا أردت ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً ، والمسلمون معه ، ولم أقض من جهازي شيئاً ، وقلت : أتجهز بعد يوم أو يومين ، ثم ألحقه ، فغدوت بعدُ لأتجهز ، فرجعت ولم أقض شيئاً ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو ، فهممت أن أرتحل فألحقهم - وليتني فعلت - ثم لم يقدّر ذلك لي .
فكنت إذا خرجت في الناس ، بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق ، أو رجلاً ممن عذره الله عز وجل . ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك . فقال وهو جالس في القوم بتبوك : < ما فعل كعب بن مالك ؟ > فقال رجل من بني سلمة : حبسه يا رسول الله بُراده ، والنظر في عطفيه ! فقال معاذ بن جبل : بئسما قلت . والله ! يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً ! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال كعب بن مالك : فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك ، حضرني بثّي أتذكر الكذب ، وأقول : بم أخرج من سخطته غداً ؟ وأستعين على ذلك بك ذي رأي من أهلي .
فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً ، زاح عن الباطل ، وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبداً ، فأجمعت صدقه ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى ركعتين ثم جلس للناس - فلما فعل ذلك ، جاءه المتخلفون ، فطفقوا يعتذرون إليه ، ويحلفون له ، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً ، فيقبل منهم رسول الله علانيتهم ، ويستغفر لهم ، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى ، حتى جئت ، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ، ثم قال لي : < تعال ! > فجئت أمشي حتى جلست بين يديه ، فقال لي : < ما خلفك ؟ ألم تكن قد اشتريت ظَهْراً ؟ > فقلت يا رسول الله ! إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيتُ أن أخرج من سخطه بعذر . لقد أُعطيتُ جدلاً ، ولكني ، والله لقد علمت ، لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ، ليوشكنّ الله أن يسخطك عليّ ، ولئن حدثتك بصدق تجد عليّ فيه ، إني لأرجو عقبى ذلك من الله عزَّ وجلَّ . والله ما كان لي عذر ، والله ! ما كنت قط أفزع ولا أيسر مني حين تخلفت عنك .
قال : فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أما هذا فقد صدق ، فقم حتى يقضي الله فيك ! > فقمت ، وقام إليّ رجال من بني سلمة ، واتبعوني ، فقالوا لي : والله ! ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا ، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون ، فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك .
قال : فوالله ! ما زالوا حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي .
قال : ثم قلت لهم : هل لقي معي هذا أحد ؟ قالوا : نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت ، وقيل لهما مثل ما قيل لك . قلت : فمن هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع العامريّ ، وهلال بن أمية الواقفيّ ، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً ، لي فيهما أسوة .
قال : فمضيت حين ذكروهما لي .
فقال : ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا ، أيها الثلاثة ، من بين من تخلف . فاجتنَبنا الناسُ ، وتغيروا لنا ، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض ، فما هي بالأرض التي كنت أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة .
فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان ، وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم ، فكنت أشهد الصلاة مع
المسلمين ، وأطوف بالأسواق ، فلا يكلمني أحد ، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة ، فأسلم وأقول في نفسي : أحَرَّكَ شَفَتيه بردّ السلام عليّ أم لا ؟ ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ ، فإذا التفتُّ نحوه أعرض عني .
حتى إذا طال عليّ ذلك من هجر المسلمين ، مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة ، وهو ابن عمي ، وأحب الناس إليّ ، فإذا التفتُّ نحوه أعرض عني ، فسلمت عليه ، فوالله ! ما ردّ عليّ السلام . فقلت له : يا أبا قتادة ! أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله ؟ قال فسكت .
قال : فعدت له فنشدته فسكت ، فعدت له فنشدته فسكت ، فقال : الله ورسوله أعلم . قال ففاضت عيناي ، وتوليت حتى تسورت الجدار . فبينما أنا أمشي بسوق المدينة ، إذا أنا بنبطي من أنباط الشام ، ممن قدم بطعامه يبيعه بالمدينة ، يقول : من يدل على كعب بن مالك ؟ قال فطفق الناس يشيرون إليَّ ، حتى جاء فدفع إليَّ كتاباً من ملك غسان ، وكنت كاتباً ، فإذا فيه :
أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ، وإن الله لم يجعلك بدار هوان ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسك .
قال - فقلت حين قرأته - : وهذا أيضاً من البلاء .
قال : فتيممت به التنور فسجرته به . حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخميس ، إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني يقول : يأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتزل امرأتك . قال : فقلت : أطلقها أم ماذا أفعل ؟ فقال : بل اعتزلها ولا تقربها .
قال : وأرسل إليَّ صاحبيّ بمثل ذلك . قال : فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما يشاء ! قال : فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ! إن هلالاً شيخ ضعيف ، ليس له خادم ، فهل تكره أن أخدمه ؟ قال : لا ، ولكن لا يقربك ! قالت : وإنه والله ! ما به من حركة إلى شيء ، وإنه والله مازال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا .
قال : فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك ، فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه . قال : فقلت : والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أدري ما يقوله فيها إذا استأذنته ، وأنا رجل شابّ .
قال : فلبثنا عشر ليال ، فكمل لنا خمسون ليلة من حين انتهى عن كلامنا .
قال : ثم صليت صلاة الصبح ، صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا ، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا ، قد ضاقت عليّ نفسي ، وضاقت عليّ الأرض بما رحبت ، سمعت صارخاً أوفى على جبل سَلْع ، يقول بأعلى صوته : أبشر يا كعب بن مالك ! قال : فخررت ساجداً ، وعرفت أن قد جاء الفرج من الله عزَّ وجلَّ بالتوبة علينا ، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر ، فذهب الناس يبشروننا ، وذهب قِبَلَ صاحبيّ مبشرون ، وركض إليّ رجلٌ فرساً ، وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل ، فكان الصوت أسرع من الفرس ، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ فكسوته إياهما ببشراه .
والله ـ ما أملك يومئذ غيرهما - واستعرت ثوبين فلبستهما ، وانطلق أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئونني بتوبة الله ، يقولون : ليهنئك توبة الله عليك ! حتى دخلت المسجد ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ، والناس حوله ، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول ، حتى صافحني وهنأني ـ والله ! ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره - قال : فكان كعب لا ينساها لطلحة .
قال كعب : فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ـ وهو يبرق وجهه من السرور ـ : < أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك ! > قال ، قلت : أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال : < لا ، بل من عند الله > . قال ، وكان رسول الله إذا سر استنار وجهه ، حتى كأنه قطعة قمر ، حتى يعرف ذلك منه ، فلما جلست بين يديه قلت : يا رسول الله ! إن من توبتي أن أنخلع من مالي ، صدقةً إلى الله وإلى رسوله . قال : < امسك عليك بعض مالك ، فهو خير لك > . قال ، فقلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر . وقلت : يا رسول الله إنما نجاني الله بالصدق ، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت . قال ، فو الله ! ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث ، منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أحسن مما أبلاني الله تعالى . والله ! ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا ، وإني لأرجو أن يحفظني الله عزّ وجلّ فيما بقي .
قال ، وأنزل الله : { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ } إلى آخر الآيات .
قال كعب : فو الله ! ما أنعم عليّ من نعمة قط ، بعد أن هداني للإسلام ، أعظم في نفسي من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ألا أكون كَذَبْتُهُ ، فأهلك كما هلك الذين كَذَبُوه ، فإن الله تعالى قال للذين كَذَبوه ، حين أنزل الوحي ، شرّ ما قال لأحد . فقال الله تعالى : { سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } .
قال : وكنا أيها الثلاثة الذين خلِّفنا عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خلفوا ، فبايعهم واستغفر لهم ، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه ، فبذلك قال تعالى : { وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا } وليس الذي ذكر مما خلفنا عن الغزو ، وإنما هو تخليفه أيانا ، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له ، واعتذر إليه ، فقبل منه .
وفي رواية : ونهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن كلامي ، وكلام صاحبيّ ، ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا ، فاجتنب الناس كلامنا ، فلبث كذلك حتى طال عليّ الأمر ، فما من شيء أهم إليّ من أن أموت ، فلا يصلّ عليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أو يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكون بتلك المنزلة ، فلا يكلمني أحد منهم ، ولا يصلّى عليّ ، ولا يسلّم عليّ .
قال : وأنزل الله عز وجل توبتنا على نبيه صلى الله عليه وسلم حين بقي الثلث الأخير من الليل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة ، وكانت أم سلمة محسنة في شأني ، معتنية بأمري . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < يا أم سلمة تيب على كعب بن مالك > . قالت : أفلا أرسل إليه فأبشره ؟ قال : < إذاً فيحطمكم الناس فيمنعونكم النوم سائر الليل > .
حتى إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر ، آذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا - أخرجه البخاري ومسلم - .
قال ابن كثير : هذا حديث صحيح ثابت متفق على صحته ، وقد تضمن تفسير الآية بأحسن الوجوه وأبسطها .
الثاني : قال بعض المفسرين : في الآية دليل على الشدة على من فعل الخطيئة وعلى قطع ما يلهي عن الطاعة .
الثالث : في الآية دليل على التحريض على الصدق .
قال القاشانيّ : في قوله تعالى : { يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ } أي : في جميع الرذائل بالإجتناب عنها ، خاصة رذيلة الكذب ، وذلك معنى قوله : { وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } فإن الكذب أسوء الرذائل وأقبحها ، لكونه ينافي المروءة ، وقد قيل : لا مروءة لكذوب ، إذ المراد من الكلام الذي يتميز به الْإِنْسَاْن عن سائر الحيوان إخبار الغير عما لا يعلم ، فإذا كان الخبر غير مطابق و لم تحصل فائدة النطق ، وحصل منه اعتقاد غير مطابق ، وذلك من خواص الشيطنة فالكذاب شيطان . وكما أن الكذب أقبح الرذائل ، فالصدق أحسن الفضائل ، وأصل كل حسنة ، ومادة كل خصلة
محمودة ، وملاك كل خير وسعادة و به يحصل كل كمال ، وأصله الصدق في عهد الله تعالى الذي هو نتيجة الوفاء بميثاق الفطرة أو نفسه ، كما قال :
{ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } في عقد العزيمة ، ووعد الخليقة . كما قال في إسماعيل :
{ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ } .
وإذا روعي في المواطن كلها ، حتى الخاطر والفكر والنية والقول والعمل ، صدقت المنامات والواردات ، والأحوال والمقامات والمواهب والمشاهدات ، كأنه أصل شجرة الكمال ، وبذرة ثمرة الأحوال . انتهى .
ولما أوجب تعالى الكون مع الصادقين ، أشار تعالى إلى أن النفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب كفاية ، فلا يجوز تخلف الجميع ، ولا يلزم النفر للناس كافة ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ 120 ] .
{ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ } أي : المتيسر لهم ملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته { وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ } أي : عند توجهه إلى الغزو { وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ } أي : لا يضنوا بأنفسهم عما يصيب نفسه ، أي : لا يختاروا إبقاء أنفسهم على نفسه في الشدائد .
قال الزمخشريّ : أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء ، وأن يكابدوه معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط ، وأن يلقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه ، علماً بأنها أعوز النفس عند الله وأكرمها عليه ، فإذا تعرضت ، مع كرامتها وعزتها للخوض في شدة وهول ، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له ، ولا يكترث لها أصحابها ، ولا يقيموا لها وزناً ، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه ، فضلاً عن أن يربأوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها ، ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه .
وهذا نهي بليغ مع تقبيح لأمرهم ، وتوبيخ لهم عليه ، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية . انتهى .
روي أن أبا ذر رضي الله عنه ، أبطأ به بعيره ، فحمل متاعه على ظهره ، واتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشياً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى سواده : < كن أبا ذر ! > فقال الناس : هو ذاك ! فقال : < رحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده > .
وروي أن أبا خيثمة الأنصاري رضي الله عنه ، بلغ بستانه ، وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظل ، وبسطت له الحصير ، وقربت إليه الرطب ، والماء البارد .
فنظر فقال : ظل ظليل ، ورطب يانع ، وماء بارد ، وامرأة حسناء ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح ، ما هذا بخير ! فقام فَرَحَل ناقته ، وأخذ سيفه ورمحه ، ومرّ كالريح . فمدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق ، فإذا براكب يزهاه السراب ، فقال : < كن أبا خيثمة ! > فكانه ، ففرح به رسو لـ الله صلى الله عليه وسلم ، واستغفر له .
قال السهيليّ في " الروض " : كن أبا ذر ، كن أبا خثيمة ، لفظه لفظ الأمر ، ومعناه كما تقول : أسلم ، أي : سلمك الله . انتهى .
وكذا قال غيره من المتقدمين كالفارسي ، وذكره المطرزي في قول الحريري : كن أبا زيد .
وفي شعر ابن هلال :
~ومعذّر قال الإله لحسنه : كُنْ فَتنةً للعالمين فَكانَها
ولم يزيدوا في بيانه على هذا ، وهو تركيب بديع غريب ، ومعناه ساقه الله إلينا . وجعله إياه ، ليكون هو القادم علينا ، فأقيم فيه العلة مقام المعلول في الجملة الدعائية الإنشائية ، على حد قوله في الحديث : < أبْلِ وأخْلِقْ > . أي : عمرك الله ، ومتعك الله بلباسك لتبلى وتخلق .
وقولهم : أسلم . أي : سلمك الله لتسلم ، ثم لما أقيم مقامه أبقي مسنداً إلى فاعله ، وإن كان المطلوب منه هو الله ، وهو قريب من قولهم : لاأرينَّك ههنا ، أي : لا تجلس حتى أراك ، وهو تمثيل أو كناية . كذا في " العناية " .
{ ذَلِكَ } إشارة إلى ما دل عليه قوله { مَا كَانَ } من النهي عن التخلف أو وجوب المشابهة { بِأَنَّهُمْ } أي : بسبب أنهم : { لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ } أي : شيء من العطش : { وَلا نَصَبٌ } أي : تعب من السير لا سيما مع العطش { وَلا مَخْمَصَةٌ } أي : مجاعة
تضعفهم عن السير : { فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً } أي : لا يدرسون مكاناً { يُغِيظُ الْكُفَّارَ } أي : الذين هم أعداء الله ، وإغضابُ العدوّ يفيد رضا عدوّه { وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً } أي : قتلاً أو هزيمة أو سراً { إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } أي : على إحسانهم . وهو تعليل لـ : { كُتبَ } ، وتنبيه على أن تحمل المشاق إحسان ، لأن القصد به إعلاء كلمة الله تعالى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ 121 ] .
{ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً } أي : لا يشق مثلها { وَلا كَبِيرَةً } مثل ما أنفق عثمان رضي الله عنه في غزوة تبوك ، وهو ألف دينار وثلاثمائة بغير بأحلاسها وأقتابها { وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً } في مسيرهم ، وهو كل منفرج ينفذ فيه السيل ، إسم فاعل من ودي ، إذا سال ، فهو السيل نفسه ، ثم شاع في محله ، ثم صار حقيقة في مطلق الأرض ، و جمعه أودية كناد ، بمجلس ، جمعه ( أندية إذا سال ، فهو السيل نفسه ، ثم شاع في محله ، ثم صار حقيقة في مطلق الأرض ، وناج جمعه أنجية ، ولا رابع لها في كلام العرب { إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ } أي : أثبت لهم به عمل صالح { لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : ليجزيهم على كل عمل لهم ، كاملٍ أو قاصرٍ ، جزاء أحسن أعمالهم . أي : فإذا مالوا بأنفسهم فاتهم ذلك ، وكانت المؤاخذة عليهم أشد .
ولما بين تعالى ، فيما تقدم ، خطر التخلف عن الرسول في الجهاد ، وشدّد الوعيد على المتخلفين التاركين للنفير ، دفع ما يتوهم من وجوب النفر على الجميع ، وفيه ما فيه من الحرج ، والإخلال بأمر المعاش ، بأن وجوبه كفائي ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [ 122 ] .
{ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً } أي : ما صح ولا استقام ، بحيث تخلو بلدانهم عن الناس { فَلَوْلا نَفَرَ } أي : فحين لم يمكن نفير الكافة ، ولم يكن مصلحة ، فهلا نفر { مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ } أي : من كل جماعة كثيرة ، جماعة قليلة
منهم يكفونهم النفير : { لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ } أي : ليتعلموا أمر الدين من النبي صلى الله عليه وسلم { وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ } أي : يعلموهم ويخبروهم ما أمروا
به ، وما نهوا عنه : { إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ } أي : من غزوتهم { لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } أي : فيصلحون أعمالهم .
تنبيهات :
الأول : قال السيوطي في " الإكليل " : في الآية أن الجهاد فرض كفاية ، وأن التفقه في الدين ، ونشر العلم ، وتعليم الجاهلين كذلك ، وفيها الرحلة في طلب العلم .
واستدل بها قوم على قبول خبر الواحد ، لأن الطائفة نفر يسير ، بل قال مجاهد : إنها تطلق على الواحد . انتهى .
وقال الجصّاص في " الأحكام " : في الآية دلالة على لزوم خبر الواحد في الديانات التي لا تلزم العامة ، ولا تعمّ الحاجة إليها ، وذلك لأن الطائفة لما كانت مأمورة بالإنذار انتظم فحوى الدلالة عليه من وجهين :
أحدهما : أن الإنذار يقتضي فعل المأمور به ، وإلا لم يكن إنذاراً .
والثاني : أمره إيانا بالحذر عند إنذار الطائفة ، لأن معنى قوله : { لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } ليحذروا ، وذلك يتضمن لزوم العمل بخبر الواحد ، لأن الطائفة تقع على الواحد ، فدلالتها ظاهرة . انتهى .
وفي " القاموس " : أن الطائفة من الشيء القطعة منه ، أو الواحدة فصاعداً ، أو إلى الألف ، أو أقلها رجلان ، أو رجل ، فيكون بمعنى النفس الطائفة .
قال الراغب : إذا أريد بالطائفة الجمع ، فجمع طائف ، وإذا أريد به الواحد ، فيصح أن يكون جمعاً ، وكني به عن الواحد ، وأن يجعل راوية و علّامة ، ونحو ذلك .
الثاني : إن قيل : كان الظاهر في الآية : ليتفقهوا في الدين وليعلموا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يفقهون ، فلمَ وضع موضع التعليم الإنذار ، وموضع يفقهون يحذرون ؟ يجاب : بأن ذلك آذن بالغرض منه ، وهو اكتساب خشية الله ، والحذر من بأسه .
قال الغزالي رحمه الله : كان اسم الفقه في العصر الأول ، إسماً لعلم الآخرة ، ومعرفة دقائق آفات النفوس ، ومفسدة الأعمال ، والإحاطة بحقارة الدنيا ، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة ، واستيلاء الخوف على القلب ، ويدل عليه هذه الآية . كذا في " العناية " .
قال الزمخشري في الآية : وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه ، إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم ، لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة ، ويؤمونه من المقاصد الركيكة ، من التصدر والترؤس والتبسط في البلاد ، والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم ، ومنافسة بعضهم بعضاً ، وفشوّ داء الضرائر بينهم ، وانقلاب حماليق أحدهم إذا لمح ببصره مدرسةً لآخر ، أو شرذمة جثوا بين يديه ، وتهالكه على أن يكون موطَّأ العقب دون الناس كلهم . فما أبعد هؤلاء من قوله عز وجل :
{ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً } . انتهى .
الثالث : قال القاشاني في الآية : يجب على كل مستعد من جماعةٍ ، سلوك طريق طلب العلم ، إذا لا يمكن لجميعهم ، أما ظاهراً فلفوات المصالح ، وأما باطناً فلعدم الإستعداد .
ثم قال : والتفقه في الدين هو من علوم القلب ، لا من علوم الكسب ، إذ ليس كل من يكتسب العلم يتفقه ، كما قال : { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ } ، والأكنة هي الغشاوات الطبيعية ، والحجب النفسانية فمن أراد التفقه فلينفر في سبيل الله ، وليسلك طريق التزكية والتصفية ، حتى يظهر العلم من قلبه على لسانه ، فالمراد من التفقه علم راسخ في القلب ، ضارب بعروقه في النفس ، ظاهر أثره على الجوارح ، بحيث لا يمكن صاحبه ارتكاب ما يخالف ذلك العلم ، وإلا لم يكن عالماً .
ألا ترى كيف سلب الله الفقه عمن لم تكن رهبة الله أغلب عليه من رهبة الناس بقوله : { لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ } ، لكون رهبة الله لازمة للعلم ، كما قال : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } وسلب العلم عمن لم يعمل به في قوله : { هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } ، وإذا تفقهوا ، وظهر علمهم على جوارحهم ، أثّر في غيرهم ، وتأثروا منه ، لارتوائهم به ، وترشحهم منه ، كما كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلزم الإنذار الذي هو غايته . انتهى .
ولما أمر تعالى ، في صدر السورة ، بالبراءة من مشركي العرب وقتالهم ، ثم شرح أحوال المنافقين ومخازيهم ، أشار إلى خاتمتها بما يطابق فاتحتها بذلك ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [ 123 ] .
{ يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ } أي : يقربون منكم ، وهم مشركو جزيرة العرب ، كما قلنا .
وقوله تعالى : { وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً } قالوا إنها كلمة جامعة للجرأة والصبر على القتال ، وشدة العداوة ، والعنف في القتل والأسر .
وظاهرها أمر الكفار بأن يجدوا في المؤمنين غلظة ، والمقصود أمر المؤمنين بالإتصاف بصفات كالصبر وما معه ، حتى يجدهم الكفار متصفين بها ، فهي على حدّ قولهم : لا أرينك ههنا .
والغلظة هي ضد الرقة ، مثلثة الغين ، وبها قرئ . لكن السبعة ، على الكسر
{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } أي : بالنصرة والمعونة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أيكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ 124 ] .
{ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ } أي : طائفة من القرآن المعجز المحيط بجملة من الحجج ورفع الشبه { فَمِنْهُمْ } أي : من المنافقين { مَنْ يَقُولُ } بعضهم لبعض ، { أيكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ } أي : السورة { إيمَاناً } إنكاراً واستهزاءً بالمؤمنين ، واعتقادهم زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي والعمل به { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَاناً } لأنها أزيد لليقين والثبات ، وأثلج للصدر ، لكثرة الدلائل ، ورفع الشبة { وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } أي : بنزولها وبما فيه من المنافع الدينية والدنيوية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ
كَافِرُونَ } [ 125 ] .
{ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي : كفر وسوء عقيدة { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ } أي : كفرهم بها مضموماً إلى الكفر بغيرها { وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ } أي : واستحكم ذلك الكفر فيهم ، بسبب الزيادة إلى موتهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ } [ 126 ] .
{ أَوَلا يَرَوْنَ } يعني المنافقين { أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ } أي : يبتلون بإظهار مكرهم
وخيانتهم ، أو بنقض عهدهم { فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ } أي : من صنيعهم ونقض عَهْدهم { وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ } أي : يتعظون بأنها آيات قاطعة ، وكون الإبتلاء بسبب مخالفتها .
ثم بيّن أحوالهم عند نزولها وهم في محفل تبليغ الوحي ، إثر بيان مقالتهم ، وهم غائبون عنه بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ } [ 127 ] .
{ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ } .
قال الزمخشري : يعني تغامزوا بالعيون إنكاراً للوحي ، وسخرية به ، قائلين : هل يراكم من أحد من المسلمين لننصرف ، فإنا لا نصبر على استماعه ، ويغلبنا الضحك ، فنخاف الإفتضاح بينهم ، أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والإنسلال لواذاً . يقولون : هل يراكم من أحد { ثُمَّ انْصَرَفُوا } أي : عن محفل الوحي خوفاً من الإفتضاح { صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } أي : عن الإيمان حسب انصرافهم عن حضرته عليه السلام .
والجملة إخبارية أو دعائية { بِأَنَّهُمْ } أي : بسبب أنهم { قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ } أي : لا يتدبرون أمر الله حتى يفقهوا .
تنبيهات :
الأول : دلت الآية المتقدمة على زيادة الإيمان بما ذكر ، وسواء قلنا بدخول الأعمال في مسمى الإيمان ، وهو الحق أوْ لَا ، وأنه مجرد التصديق القلبي ، فالزيادة مما يقبلها قطعاً ، والأول بديهي ، والثاني مثله ، إذ ليس إيمان الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، والصحابة رضي الله عنهم ، كإيمان غيرهم وهذا مما لا يُرتاب فيه .
الثاني : ذكر تعالى من مخازي المنافقين نوعين : عدم اعتبارهم بالإبتلاء ، وتمكن الكفر منهم ، وازدياده في وقت يقتضي زيادة الإيمان ، وهو تكرير التنزيل .
ولما كان القصد بيان إصرارهم على كفرهم ، وعدم نفع العظات فيهم ، ختم مخازيهم بذلك ، لأنه نتيجتها ، وقدم عليه ما يصيبهم من الإبتلاء ، لأن فيه ردعاً عظيماً لو تذكروا .
وقد تلطف القاشاني في إيضاح ذلك ، وجود التقرير فيه ، وعبارته :
البلاء قائد من الله تعالى يقود الناس إليه ، وقد ورد في الحديث : < البلاء سوط
من سياط الله تعالى يسوق به عباده إليه > ، فإن كل مرض وفقر وسوء حال يحل بأحد ، بكسر سورة نفسه وقواها ، ويقمع صفاتها وهواها ، فيلين القلب ، ويبرز من حجابها ، وينزعج من الركون إلى الدنيا ولذاتها ، وينقبض منها ويشمئز ، فيتوجه إلى الله .
وأقل درجاته أنه إذا اطّلع على أن لا مفر منه إلا إليه ، ولم يجد مهرباً ومحيصاً من البلاء سواه ، تضرع إليه وتذلل بين يديه ، كما قال : { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } { وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً } .
وبالجملة يوجب رقة الحجاب أو ارتفاعه ، فليغتنم وقته وليتعوّذ ، وليتخذ ملكة يعود إليها أبداً حتى يستقر التيقظ والتذكر ، وتتسهل التوبة والحضور ، فلا يتعود [ في المطبوع : يتعوذ ] الغفلة عند الخلاص فتغلب ، وتتقوى النفس عند الأمان ، وينسبل الحجاب أغلظ مما كان ، كما قال : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } . انتهى .
الثالث : قال السيوطي في " الإكليل " : أخذ ابن عباس من قوله : { ثمَُّ انْصَرَفُوا } كراهية أن يقال : انصرفت من الصلاة - أخرجه ابن أبي حاتم - .
ومرجع هذا إلى أدب لفظي ، باجتناب ما يوهم ، أو ما نُعِيَ به على العصاة .
وقد عقد الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " فصلاً في هدي النبي صلى الله عليه وسلم في حفظ المنطق ، واختيار الألفاظ ، فليراجع .
ثم بيّن تعالى ما امتن به على المؤمنين من بعثة خاتم النبيين بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } [ 128 ] .
{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ } أي : رسول عظيم من جنسكم ، ومن نسبكم ، عربيّ قرشيّ مثلكم ، كما قال إبراهيم عليه السلام : { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ } ، وقال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ } .
وكلّم جعفر بن أبي طالب النجاشي ، والمغيرةُ بن شعبة رسولَ كسرى ، فقالا :
إن الله بعث فينا رسولاً منا ، نعرف نسبه وصفته ومدخله ومخرجه ، وصدقه وأمانته . الحديث .
ثم ذكر تعالى ما يتبع المجانسة والمناسبة من النتائج بقوله : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } أي : شديد عليه شاق ، لكون بعضاً منكم ، عنتُكم ولقاؤكم المكروه ، فهو يخاف عليكم سوء العاقبة ، والوقوع في العذاب { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } أي : على هدايتكم ، كي لا يخرج أحد منكم عن اتباعه ، والإستسعاد بدين الحق الذي جاء به { بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ } إذ يدعوهم لما ينجيهم من العقاب بالتحذير عن الذنوب والمعاصي ، لفرط رأفته { رَحِيمٌ } إذ يفيض عليهم العلوم والمعارف ، والكمالات المقربة بالتعليم والترغيب فيها ، برحمته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } [ 129 ] .
{ فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي : أعرضوا عن الإيمان بك ، وناصبوك : { فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ } أي : فاستعن به ، وفوض إليه ، فهو كافيك وناصرك عليهم .
وقال القاشاني : أي : لا حاجة لي بكم ، ولا باستعانتكم ، كما لا حاجة للإنسان إلى العضو المألوم المتعفّن الذي يجب قطعه عقلاً ، أي : الله كافيني فلا مؤثر غيره ، ولا ناصر إلا هو ، كما قال : { لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي : فوضت أمري إليه ، وبه وثقت : { وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } أي : المحيط بك شيء ، يأتي منه حكمه وأمره إلى الكل ، وتخصيصه لكونه أعظم المخلوقات ، فيدخل ما دونه ، وقرئ ( العظيم ) بالرفع ، على أنه صفة الرب جل وعزّ .
تم ما علقناه صباح الاثنين في 24 رجب سنة 1322 هجرية ، في سدة جامع السنانية بدمشق الشام ، اللهم يسرلنا بفضلك الإتمام ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وآله أجمعين إلى يوم الدين .
ويليه الجزء السادس وفيه تفسير سور : يونس وهود ويوسف والرعد .(/)
سورة يونس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } [ 1 ] .
{ الر } مسرود على نمط التعديد بطريق التحدي ، أو اسمٌ للسورة فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف . أي : هذه السورة مسماة بـ : { الر } والإشارة إليها قبل جريان ذكرها لما أنها باعتبار كونها على جناح الذكر وبصدده ، صارت في حكم الحاضر ، كما يقال : هذا ما اشترى فلان ، أو النصب بتقدير : اقرأ .
وكلمة : { تِلْكَ } إشارة إليها ، إما على تقدير كون : { الر } مسرودة على نمط التعديد ، فقد نزَّل حضور مادتها ، التي هي الحروف المذكورة منزلة ذكرها فأشير إليها ، كأنه قيل : هذه الكلمات المؤلفة من جنس هذه الحروف المبسوطة . . . الخ .
وأما على تقدير كونه اسماً للسورة ، فقد نوهت بالإشارة إليها بعد تنويهها بتعيين اسمها ، أو الأمر بقراءتها . وما في اسم الإشارة من معنى البعد ؛ للتنبيه على بعد منزلتها في الفخامة ، ومحله الرفع على أنه مبتدأ ، خبره قوله تعالى :
{ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } ، وعلى تقدير كون : { الر } مبتدأ ، فهو مبتدأ ثان ، أو بدل من الأول . والمعنى : هي آيات مخصوصة منه ، مترجمة باسم مستقل ، والمقصود ببيان بعضيتها منه وصفاً بما اشتهر اتصافه به من النعوت الفاضلة ، والصفات الكاملة .
والمراد بـ : { الكتاب } : إما جميع القرآن العظيم ، وإن لم ينزل الكل حينئذ ؛ لاعتبار تعيينه وتحققه في علم الله تعالى ، وإما جميع القرآن النازل وقتئذ ، المتفاهم بين الناس إذ ذاك .
و : { الحكيم } أي : ذو الحكمة ، وإنما وصف به لاشتماله على فنون الحكم الباهرة ، ونطقه بها ، أو هو من باب وصف الكلام بصفة صاحبه ، أو من باب الاستعارة المكنية المبنية على تشبيه الكتاب الحكيم الناطق بالحكمة - أفاده أبو السعود - . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } [ 2 ] .
{ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } الهمزة لإنكار التعجب والتعجيب منه ، وإنما أنكر ذلك لكون سنة الله جارية أبداً على هذا الأسلوب في الإيحاء إلى الرجال ، وإنما كان تعجبهم لبعدهم عن مقامه ، وعدم مناسبة حالهم لحاله ، ومنافاة ما جاء به لما اعتقدوه ، و ( القدم ) بمعنى السبق مجازاً ، لكونه سببه وآلته ، كما تطلق ( اليد ) على النعمة ، و ( العين ) على الجاسوس ، و ( الرأس ) على الرئيس . ثم إن السبق مجاز عن الفضل والتقدم المعنوي إلى المنازل الرفيعة ، فهو مجاز بمرتبتين أو ( القدم ) بمعنى المقام كـ : { مَقْعَدِ صِدْقٍ } [ القمر : من الآية 55 ] ، بإطلاق الحال وإرادة المحل ، وإضافته إلى الصدق من إضافة الموصوف إلى الصفة . وأصله ( قدمٌ صدقٌ ) أي : محققة مقررة ، وفيه مبالغة لجعلها عين الصدق ، وتنبيه على أنهم إنما نالوا ما نالوا بصدقهم ، ظاهراً وباطناً .
قال في " الانتصاف " : ولم يرد في سابقة السوء تسميتها ( قدماً ) إما لأن المجاز لا يطرد ، وإما أن يكون مطرداً ، ولكن غلب العرف على قصرها ، كما يغلب في الحقيقة .
{ قَالَ الْكَافِرُونَ } وهم المتعجبون : { إِنَّ هَذَا } أي : الكتاب الحكيم : { لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } أي : ظاهر . وقرئ ( لَسَاحِرٌ ) على أن الإشارة إلى الرسول صلوات الله عليه . وهو دليل عجزهم واعترافهم ، وإن كانوا كاذبين في تسميته سحراً ، وذلك لأن التعجب أولاً ، ثم التكلم بما هو معلوم الانتفاء قطعاً ، حتى عند نفس المعارض ، دأب العاجز المفحَم .
ثم بيَّن تعالى بطلان تعجبهم ، وما بنوا عليه ، وحقق فيه حقية ما تعجبوا منه ، وصحة ما أنكروه ، بالتنبيه على بعض ما يدل عليها من شؤون الخلق والتقدير ويرشدهم إلى معرفتها بأدنى تذكير ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } [ 3 ] .
{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } قال البخاري في صحيحه في الرد على الجهمية :
قال أبو العالية : استوى إلى السماء : ارتفع ، وقال مجاهد : استوى على العرش : علا ، أي : بلا تمثيل ولا تكييف ، والعرش : هو الجسم المحيط بجميع الكائنات ، وهو أعظم المخلوقات و ( الأيام ) قيل : كهذه ، وقيل : كل يوم كألف سنة .
{ يُدَبِّرُ الأَمْرَ } أي : يقضي ويقدر على حسب مقتضى الحكمة أمر الخلق كله ، و : { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } تقرير لعظمته وعز جلاله ، ورد على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله : { ذَلِكُمُ اللّهُ } إشارة إلى المعلوم بتلك العظمة ، أي : ذلك العظيم الموصوف بما وصف هو : { رَبُّكُمْ } أي : الذي رباكم لتعبدوه : { فَاعْبُدُوهُ } أي : وحِّدوه بالعبادة { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي : تتفكرون أدنى تفكر فينبهكم على أنه المستحق للربوبية والعبادة ، لا ما تعبدونه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } [ 4 ] .
{ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } أي : الموت أو النشور ، أي : لا ترجعون في العافية إلا إليه ، فاستعدوا للقائه : { وَعْدَ اللّهِ حَقّاً } أي : صدقاً ، ثم علل وجوب المرجع إليه بقوله سبحانه : { إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ } أي : من النطفة : { ثُمَّ يُعِيدُهُ } أي : بعد الموت : { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ } أي : بعدله أو بعدالتهم وقيامهم على العدل في أمورهم ، أو بإيمانهم ؛ لأنه العدل القويم ، كما أن الشرك ظلم عظيم ، وهو الأوجه لمقابلة قوله : { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ } أي : من ماء حارّ قد انتهى حره : { وَعَذَابٌ أَلِيمٌ } وجيع يخلص ألمه إلى قلوبهم : { بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } تعليل لقوله لمقابلة قوله ، فإن معناه : ليجزي الذي كفروا بشراب من حميم ، وعذاب أليم ، بسبب كفرهم ، لكنه غيَّر النظم للمبالغة في استحقاقهم للعقاب بجعله حقاً مقرراً لهم ، كما تفيده ( اللام ) وللتنبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة هو الإثابة ، والعقاب واقع بالعرَض بكسبهم ، وعلى أنه تعالى يتولى إثابة المؤمنين بما لا تحيط العبارة به لفخامته وعظمته ، ولذلك لم يعينه .
ثم نبه تعالى للاستدلال على وحدته في ربوبيته ، بآثار صنعه في النيرين ، إثر الاستدلال بما مر من إبداع السماوات والأرض ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ 5 ] .
{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء } للعالمين بالنهار : { وَالْقَمَرَ نُوراً } أي : لهم بالليل ، والضياء أقوى من النور : { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ } الضمير لهما ، بتأويل كل واحد منهما ، أو للقمر ، وخص بما ذكر ، لكون منازله معلومة محسوسة ، وتعلق أحكام الشريعة به ، وكونه عمدة في تواريخ العرب : { لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } أي : حساب الشهور والأيام ، مما نيط به المصالح في المعاملات والتصرفات : { مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ } أي : بالحكمة البالغة : { يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : يبين الآيات التكوينية أو التنزيلية المنبهة على ذلك لقوم يعلمون الحكمة في إبداع الكائنات ، فيستدلون بذلك على وحدة مبدعها .
قال السيوطي : هذه الآية أصل في علم المواقيت والحساب ومنازل القمر والتاريخ ، ثم نبه للاستدلال على وحدانيته سبحانه أيضاً بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } [ 6 ] .
{ إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أي : في تعاقبهما وكون كل منهما خلفة للآخر : { وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : من الشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب والجبال والبحار وغير ذلك : { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُون } أي : لآيات عظيمة دالة على وحدة مبدعها ، وكمال قدرته ، وبالغ حكمته ، وخص ( المتقين ) لأنهم المنتفعون بنتائج التدبر فيها ، فإن الداعي إلى النظر والتدبر إنما هو تقواه تعالى ، والحذر من العاقبة .
تنبيه :
في هذه الآيات إشارة إلى أن الذي أوجد هذه الآيات الباهرة ، وأودع فيها المنافع الظاهرة ، وأبدع في كل كائن صنعه ، وأحسن كل شيء خلقه ، وميز الإنسان وعلمه البيان - يكون من رحمته وحكمته اصطفاء من يشاء لرسالته ليبلغ عنه شرائع عامة ، تحدد للناس سيرهم في تقويم نفوسهم ، وكبح شهواتهم ، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم في الآخرة ، كما أشار إلى ذلك بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 7 - 10 ] .
{ إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } أي : فلا يتوقعون الجزاء : { وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ } أي : لا يتفكرون فيها :
{ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } أي : بسببه ، إلى مأواهم ، وهي الجنة ، وإنما لم تذكر تعويلاً على ظهورها ، وانسياق النفس إليها ، لا سيما بملاحظة ما سبق من بيان مأوى الكفرة : { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } أي : من تحت منازلهم أو بين أيديهم .
{ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ } أي : دعاؤهم هذا الكلام ؛ لأن : { اللَّهُمَّ } نداء ، ومعناه : اللهم إنما نسبحك ، كقول القانت : اللهم إياك نعبد . يقال : دعا يدعو دعاء ودعوى ، كما يقال : شكا يشكو شكاية وشكوى ، ويجوز أن يراد بالدعاء العبادة ، ونظيره آية : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } [ مريم : من الآية 48 ] : { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } أي : ما يحيي به بعضهم بعضاً ، أو تحية الملائكة إياهم ، كما في قوله تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23 - 24 ] ، أو تحية الله عز وجل لهم كما في قوله تعالى : { سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } [ يّس : 58 ] . و ( التحية ) : التكرمة بالحالة الجلية ، أصلها : أحياك الله حياة طيبة . و ( السلام ) بمعنى السلامة من كل مكروه { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ } أي : وخاتمة دعائهم هو التسبيح : { أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : حمده تعالى : والمراد من الآية أن دعاء أهل الجنة وعبادتهم هو قولهم : سبحانك اللهم وبحمدك . وإيثار التعبير عن ( وبحمدك ) بقوله : { وآخِرُ } الخ رعاية للفواصل ، واهتماماً بالحمد وما معه من النعوت الجليلة تذكيراً بمسماها ، والآية تدل على سمو هذا الذكر ؛ لأنه دعاء أهل الجنة وذكر الملائكة كما قالوا : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [ البقرة : من الآية 30 ] ولذلك ندب قراءته بعد تكبيرة الإحرام .
قال الرازي : لما استسعد أهل الجنة بذكر ( سبحانك اللهم وبحمدك ) ، وعاينوا ما فيه من السلامة عن الآفات والمخالفات ، علموا أن كل هذه الأحوال السنية ، والمقامات القدسية ، إنما تيسرت بإحسان الحق سبحانه وإفضاله وإنعامه ، فلا جرم اشتغلوا بالحمد والثناء .
ولما بيَّن تعالى وعيده الشديد ، أتبعه بما دل على أن من حقه أن يتأخر عن هذه الحياة الدنيوية ؛ لأن حصوله في الدنيا كالمانع من بقاء التكليف فقال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ 11 ] .
{ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ } وهم الذين لا يرجون لقاءه تعالى لكفرهم : { الشَّرَّ } أي : الذي كانوا يستعجلون به ، فإنهم كانوا يقولون : { اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] ، ونحو ذلك : { اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ } أي : تعجيلاً مثل استعجالهم الدعاء بالخير : { لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } أي : لأميتوا وأهلكوا : { فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } أي : في ضلالهم وشركهم يترددون .
لطيفة :
زعم الزمخشري أن معنى استعجالهم بالخير ، أي : تعجيله لهم الخير ، وضع الأول موضع الثاني إشعاراً بسرعة إجابته لهم ، وإسعافه بطلبتهم ، حتى كأنّ استعجالهم بالخير تعجيلٌ لهم . وعندي أنه صرف اللفظ الكريم عن ظاهره بلا داع . ولا بلاغة فيه أيضاً وإن توبع فيه . والحرص على موافقة عامل المصدر له ليكونا من باب واحد ، غير ضروري في العربية ، والشواهد كثيرة .
وجوز الرازي أن يكون : { يُعَجِّلُ } أصله يستعجل ، عدل عنه تنزيهاً للجناب الأقدس عن وصف طلب العجلة ، فوصف بتكوينها ، ووصف الناس بطلبها ؛ لأنه الأليق ولعل الأليق أن : { اسْتِعْجَالَهُم } مصدر لفعل دل عليه ما قبله ، والتقدير : ولو يعجل الله للناس الشر الذي يستعجلون به استعجالهم . وإنما حذف إيجازاً ؛ للعلم به ، ويوافقه قوله تعالى : { وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ } [ الإسراء : من الآية 11 ] فإنه في معنى ما هنا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 12 ] .
{ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا } أي : لكشفه وإزالته : { لِجَنبِهِ } حال من فاعل ( دعا ) واللام بمعنى ( على ) أي : على جنبه ، أي : مضطجعاً : { أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ } أي : مضى على طريقته الأولى { كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ } أي : كشفه : { مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : من الإعراض عن الذكر ، وإتباع الشهوات . والآية سيقت احتجاجاً على المشركين ، بما جبلوا عليه كغيرهم من الالتجاء إليه تعالى عند الشدائد ، علماً بأنه لا يكشفها إلا هو ، ليطرحوا عبادة ما لا يضر ولا ينفع ، ويستيقنوا أنه الإله الأحد ، الذي لا يعبد سواه ، وفيها نعي عليهم سوء منقلبهم ، إثر كشف كرباتهم ، وتحذير من مثل صنيعهم .
ثم ذكرهم تعالى بعظيم قدرته مما وصل إليهم من نبأ الأقدمين ليتقوه ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } [ 13 ] .
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ } أي : بالتكذيب والكفر : { وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } أي : فقرر عليهم الحجة بالوجوه الكثيرة . وما كانوا ليؤمنوا بتلك البينات ولا بغيرها ، فجزاهم بالإهلاك المعروف فيهم { كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [ 14 ] .
{ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } الخطاب للذين بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، أي : استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكناها ، لننظر كيف تعملون من خير أو شر ، فنعاملكم حسب عملكم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ 15 ] .
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } يخبر تعالى عن تعنت الكفار من مشركي قريش ، بأنهم إذا قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الله وحججه الواضحة ، قالوا له : ائت بقرآن غير هذا ، أي : جئنا بغيره من نمط آخر أو بدله إلى وضع آخر . قال تعالى لنبيه : { قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي } : أي : ليس ذلك إلي ، إنما أنا مبلغ عن الله تعالى .
قيل : إنما اكتفى بالجواب عن التبديل ؛ للإيذان بأن استحالة ما اقترحوه أولاً من الظهور بحيث لا حاجة إلى بيانها . وأن التصدي لذلك ، مع كونه ضائعاً ؛ ربما يعدُّ من قبيل المجاراة مع السفهاء ، إذ لا يصدر مثل ذلك الاقتراح عن العقلاء ، ولأن ما يدل على استحالة الثاني يدل على استحالة الأول بالطريق الأولى ، فهو جواب عن الأمرين بحسب المآل والحقيقة . وقوله : { إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي } أي : بالتبديل والنسخ من عند نفسي .
قال السيوطي في " الإكليل " : استدل به من منع نسخ القرآن بالسنة .
قال الزمخشري : فإن قلت : فما كان غرضهم وهم أدهى الناس وأمكرهم في هذا الاقتراح ؛ قلت : الكيد والمكر . أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ففيه أنه من عندك ، وأنك قادر على مثله ، فأبدل مكانه آخر . وأما اقتراح التبديل والتغيير فللطمع ، ولاختبار الحال ، وأنه إن وجد منه تبديل فإما أن يهلكه الله فينجو منه ، أو لا يهلكه فيسخروا منه ، ويجعلوا التبديل حجة عليه ، وتصحيحاً لافترائه على الله - انتهى - .
ولما بيَّن بطلان ما اقترحوا الإتيان به واستحالته ؛ أشار إلى تحقيق حقية القرآن ، وكونه من عنده تعالى بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ 16 ] .
{ قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ } .
قال الزمخشري : يعني أن تلاوته ليست إلا بمشيئة الله وإحداثه أمراً عجيباً خارجاً عن العادات ، وهو أن يخرج رجل أمي لم يتعلم ولم يستمع ، ولم يشهد العلماء ساعة من عمره ، ولا نشأ في بلد فيه علماء ، فيقرأ عليكم كتاباً فصيحاً ، يبهر كل كلام فصيح ، ويعلو على كل منثور ومنظوم ، مشحوناً بعلوم من علوم الأصول والفروع ، وأخبار مما كان ، ويكون ناطقاً بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله ، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله ، ولا يخفى عليكم شيء من أسراره ، وما سمعتم منه حرفاً من ذلك ، ولا عرفه به أحد من أقرب الناس منه ، وألصقهم به .
{ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ } أي : ولا أعلمكم به على لساني : { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ } أي : من قبل نزوله ، لا أتعاطى شيئاًً مما يتعلق بنحوه ، ولا كنت متواصفاً بعلم وبيان ، فتتهموني باختراعه { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي : فتعلموا أنه ليس إلا من الله ، لا من مثلي .
قال الزمخشري : وهذا جواب عما دسوه تحت قولهم : { ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا } من إضافة الافتراء إليه .
تنبيه :
رأى أبو السعود أن الأنسب ببناء الجواب فيما سلف على مجرد امتناع صدور التغيير والتبديل عنه عليه الصلاة والسلام ؛ لكونه معصية موجبة للعذاب العظيم ، واقتصار حاله عليه الصلاة والسلام على إتباع الوحي ، وامتناع الاستبداد بالرأي ، من غير تعرض هناك ولا هاهنا ؛ لكون القرآن في نفسه أمراً خارجاً عن طوق البشر ، ولا لكونه عليه السلام غير قادر على الإتيان بمثله ، أن يستشهد هاهنا على المطلوب مما يلائم ذلك من أحواله المستمرة في تلك المدة المتطاولة ، من كمال نزاهته عما يوهم شائبة صدور الكذب والافتراء عنه في حق أحد كائناً من كان . كما ينبئ عن تعقيبه بتظليم المفتري على الله تعالى .
والمعنى : قد لبثت فيما بين ظهرانيكم قبل الوحي ، لا أتعرض لأحد قط بتحكم ولا جدال ، ولا أحوم حول مقال فيه شائبة شبهة . فضلاً عما فيه كذب أو افتراء ، أفلا تعقلون أن من هذا شأنه المطرد في هذا العهد البعيد ، مستحيل أن يفتري على الله ، ويتحكم على الخلق كافة ، بالأوامر والنواهي الموجبة لسفك الدماء ، وسلب الأموال ، ونحو ذلك ، وأن ما أتي به وحي مبين ، تنزيل من رب العالمين - انتهى - .
وما استنسبه رحمه الله ، اقتصر عليه ابن كثير ، ثم استشهد بقول هرقل ملك الروم لأبي سفيان ، فيما سأله من صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال هرقل له : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال أبو سفيان : فقلت لا ! وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة ، وزعيم المشركين ، ومع هذا اعترف بالحق .
~والفضل ما شهدت به الأعداء
فقال له هرقل : فقد أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ، ثم يكذب على الله .
وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة : بعث الله فينا رسولاً نعرف صدقه ونسبه وأمانته ، وقد كانت مدة مقامه بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة .
وعن ابن المسيب : ثلاثاً وأربعين سنة ، والصحيح المشهور الأول .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ } [ 17 ] .
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } استفهام إنكاري معناه الجحد . أي : لا أحد أظلم ممن تقوَّل على الله تعالى ، وزعم أنه تعالى أرسله وأوحى إليه ، أو كفر بآياته ، كما فعل المشركون بتكذيبهم للقرآن ، وحملهم على أنه من جهته عليه الصلاة والسلام .
{ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ } أي : لا ينجون من محذور ، ولا يظفرون بمطلوب ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } [ الأنعام : من الآية 93 ] ، وترتيب عدم الفلاح على من افترى الوحي ، وعدَّه صادق بلا مرية ، فإن مفتريه يبوء بالخزي والنكال ، ولا يشتبه أمره على أحد بحال .
وقد ذكر أن عَمْرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب - وكان صديقاً له في الجاهلية ، وكان عَمْرو لم يسلم بعد - فقال له مسيلمة : ويحك يا عَمْرو ! وماذا أنزل على صاحبكم - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - في هذه المدة ؟ فقال : لقد سمعت أصحابه يقرؤون سورة عظيمة قصيرة . فقال : وما هي ؟ فقال : { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ } الخ [ العصر : 1 - 3 ] ، ففكر مسيلمة ساعة ثم قال : وأنا قد أنزل عليَّ مثله ! فقال : وما هو ؟ فقال : يا وبر يا وبر . . إنما أنت أذنان وصدر ، وسائرك حقر نقر . كيف ترى يا عَمْرو ؟ فقال له عَمْرو : والله ! إنك لتعلم أني أعلم أنك لكذاب .
وقال عبد الله بن سلام : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس ، فكنت فيمن انجفل منه ، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب . قال : فكان أول ما سمعته يقول : < أيها الناس ! أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام > قال حسان :
~لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبر(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ 18 ] .
{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } أي : الأوثان التي هي جماد لا تقدر على نفع ولا ضر ، أي : ومن شأن المعبود القدرة على ذلك { وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ } أي : أتخبرونه بكونهم شفعاء عنده ، وهو إنباء بما ليس بمعلوم الله ، وإذا لم يكن معلوماً له - وهو العالم المحيط بجميع المعلومات - لم يكن موجوداً ، فكان خبراً ليس له مخبر عنه .
فإن قلت : كيف أنبأوا الله بذلك ؟ قلت : هو تهكم بهم ، وبما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام ، وإعلام بأن الذي أنبأوا به باطل ، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق علمه به ، كما يخبر الرجل بما لا يعلمه .
وقوله : { فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ } تأكيد لنفيه ؛ لأن ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم - كذا في " الكشاف " - .
{ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : عن الشركاء الذي يشركونهم به ، أو عن إشراكهم .
ثم أشار تعالى إلى أن التوحيد والإسلام ملة قديمة كان عليها الناس أجمع ، فطرة وتشريعاً ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ 19 ] .
{ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي : حنفاء متفقين على ملة واحدة ، وهي فطرة الإسلام والتوحيد التي فطر عليها كل أحد : { فَاخْتَلَفُواْ } بإتباع الهوى وعبادة الأصنام ، فالشرك وفروعه جهالات [ في المطبوع : جهلات ] ابتدعها الغواة صرفاً للناس عن وجهة التوحيد ، ولذلك بعث الله الرسل بآياته وحججه البالغة { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } [ الأنفال : من الآية 42 ] : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } أي : بتأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة : { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي : عاجلاً : { فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } بتمييز الحق من الباطل ، بإبقاء المحق ، وإهلاك المبطل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ } [ 20 ] .
{ وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } أي : من الآيات التي اقترحوها تعنتاً وعناداً ، وكانوا لا يعتدّون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة ، التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها ، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر ، بديعة غريبة في الآيات { فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ } أي : هو المختص بعلم الغيب ، المستأثر به ، لا علم لي ولا لأحد به . يعني أن الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيَّب لا يعلمه إلا هو .
{ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ } أي : فما يقضيه الله تعالى في عاقبة تعنتكم ، فإن العاقبة للمتقين . وقد قال تعالى في آية أخرى : { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ } [ الإسراء : من الآية 59 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ } [ يونس : 96 - 97 ] ، وقال تعالى : : { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ } [ الأنعام : 7 ] ، أي : فمثل هؤلاء أقل من أن يجابوا لمقترحهم ، لفرط عنادهم ، ولا يخفى أن القرآن الكريم لما قام به الدليل القاهر على صدق نبوته ، عليه السلام ، لإعجازه ، كان طلب آية أخرى سواه من مقترحهم - مما لا حاجة له في صحة نبوته ، وتقرير رسالته ، فمثلها يكون مفوضاً إلى مشيئته تعالى ، فترد إلى غيبه ، وسواء أنزلت أو لا ، فقد ثبتت نبوته ، وصحت رسالته ، صلوات الله عليه .
ثم أكد تعالى ما هم عليه من العناد واللجاج مشيراً إلى أنهم لا يذعنون ، ولو أجيبوا لمقترحهم بما يعهد منهم من عدولهم عنه تعالى بعد كشفهم ضرهم إلى الإشراك ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } [ 21 ] .
{ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ } أي : خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم : { إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا } أي : يتبين مكرهم ويظهر كامن شركهم ، فهم في وقت الضراء في الإقبال عليه تعالى لكشفها ، كالمخادع الذي يظهر خلاف ما يبطن ، ثم ينجلي أمره بعد : { قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً } أي : عقوبة ، أي : عذابه أسرع وصولاً إليكم مما يأتي منكم في دفع الحق ، وتسمية العقوبة بالمكر ؛ لوقوعها في مقابلة مكرهم وجوداً أو ذكراً { إِنَّ رُسُلَنَا } أي : الذي يحفظون أعمالكم : { يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } أي : مكركم ، أو ما تمكرونه ، وهو تحقيق للانتقام ، وتنبيه على أن ما دبروا في إخفائه غير خاف على الحفظة فضلاً عن العليم الخبير .
ثم بين تعالى نوعاً من أنواع مكرهم في آية إنجائهم من لجج البحر بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } [ 22 ] .
{ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ } أي : السفن : { وَجَرَيْنَ } أي : السفن : { بِهِم } أي : بالذين فيها : { بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ } أي : لينة الهبوب ، موافقة للمرغوب : { وَفَرِحُواْ بِهَا } لأمن الآيات : { جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ } أي : ذات شدة : { وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } أي : أحاط بهم أسباب الهلاك ، وهي شدة الموج والريح : { دَعَوُاْ اللّهَ } أي : للتخلص منها : { مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } وهو الدعاء لأنهم حينئذ لا يدعون معه غيره : { لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } أي : العابدين لك شكراً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ 23 ] .
{ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } أي : يفسدون فيها ، ويسارعون إلى ما كانوا عليه من الشرك ونحوه : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } أي : الناسين نعمة الخلاص بالإخلاص واستجابة الدعاء : { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم } أي : وباله عليكم { مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } خبر محذوف أو هو متاع . أو خبر ثان أو هو الخبر لـ ( بغيكم ) و ( على ) متعلق به . وقرئ بالنصب مصدر لمحذوف ، أي : نمتعكم . أو مفعول به له . أي : تبغون { ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : في الدنيا وهو وعيد بجزائهم على البغي .
ثم بيَّن تعالى شأن الدنيا وقصر مدة التمتع بها وقرب زمان الرجوع الموعود بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ 24 ] .
{ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ } أي : امتزج به لسريانه فيه ، فالباء للمصاحبة ، أو هي للسببية ، أي : اختلط بسببه حتى خالط بعضه بعضاً ، أي : التف بعضه ببعض ، والأول أظهر : { مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ } من الزروع والثمار والكلأ والحشيش : { حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا } أي : حسنها وبهجتها : { وَازَّيَّنَتْ } أي : بأصناف النبات : { وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ } أي : متمكنون من تحصيل حبوبها وثمرها وحصدها : { أَتَاهَا أَمْرُنَا } أي : عذابنا : { لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً } أي : كالمحصود من أصله : { كَأَن لَّمْ تَغْنَ } أي : لم تنبت : { بِالأَمْسِ } أي : قبيل ذلك الوقت . و ( الأمس ) مَثَلٌ في الوقت القريب : { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ } أي : بالأمثلة تقريباً : { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي : في معانيها .
تنبيه :
قال القاشاني : البغي ضد العدل ، فكما أن العدل فضيلة شاملة لجميع الفضائل ، وهيئة وحدانية لها ، فائضة من نور الوحدة على النفس ، فالبغي لا يكون إلا عن غاية الانهماك في الرذائل بحيث يستلزمها جميعاً ، فصاحبها في غاية البعد عن الحق ، ونهاية الظلمة ، كما قال : الظلم ظلمات يوم القيامة . فلهذا قال : { عَلَى أَنْفُسِكُمْ } لا على المظلوم ؛ لأن المظلوم سعد به ، وشقي الظالم غاية الشقاء ، وهو ليس إلا متاع الحياة الدنيا ؛ إذ جميع الإفراطات والتفريطات المقابلة للعدالة تمتعات طبيعية ، ولذات حيوانية ، تنقضي بانقضاء الحياة الحسية التي مثلها في سرعة الزوال ، وقلة البقاء ، هذا المثل الذي مثل به ، من تزين الأرض بزخرفها من ماء المطر ، ثم فسادها ببعض الآفات سريعاً قبل الانتفاع بنباتها ، ثم تتبعها الشقاوة الأبدية والعذاب الأليم الدائم .
وفي الحديث : < أسرع الخير ثواباً صلة الرحم ، وأعجل الشر عقاباً البغي واليمين الفاجرة > ؛ لأن صاحبه تتراكم عليه حقوق الناس ، فلا تحتمل عقوبته المهل الطويل الذي يحتمله حق الله تعالى . انتهى .
وسمعت بعض المشايخ يقول : قلما يبلغ الظالم والفاسق أوان الشيخوخة ، وذلك لمبارزتهما الله تعالى في هدم النظام المصروف عنايته تعالى إلى ضبطه ، ومخالفتهما إياه في حكمته وعدله . انتهى .
ولما ذكر تعالى الدنيا وسرعة تقضيها ، رغّب في الجنة ودعا إليها ، وسماها دار السلام ، أي : من الآفات والنقائص ، لذكر الدنيا بما يقابله من كونها معرضاً للآفات كما مرّ ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ* ل ِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 25 - 26 ] .
{ وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ } أي : يدعو الخلق بتوحيده إلى جنته : { وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي : دين قيم يرضاه ، وهو الإسلام .
{ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } أي : للذين أحسنوا النظر ، فعرفوا مكر الدنيا والشهوات فأعرضوا عنها ، وتوجهوا إلى الله تعالى ، فعبدوه كأنهم يرونه ، المثوبة الحسنى ، وهي الجنة ، وزيادة على المثوبة ، وهي التفضل كما قال تعالى : { وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِه } [ النساء : 173 ] ، و [ النور : 38 ] ، و [ فاطر : 30 ] ، و [ الشورى : 26 ] ، وأعظم أنواعه النظر إلى وجه تعالى الكريم . ولذا تواتر تفسيرها بالرؤية عن غير واحد من الصحابة والتابعين . ورفعها ابن جرير إلى النبي صلوات الله عليه ، عن أبي موسى وكعب بن عجرة ، وأبيّ . وكذا ابن أبي حاتم .
وروى الإمام أحمد عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } الخ ، وقال : < إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ ، وأهل النارِ النارَ ، نادى مناد : يا أهل الجنة ! إن لكم عند الله موعداً ، يريد أن ينجزكموه . فيقولون : ما هو ؟ ألم يثقل موازيننا ، ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار ؟ قال : فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه ، فوالله ! ما أعطاهم الله شيئاًً أحب إليهم من النظر إليه ، ولا أقر لأعينهم > وهكذا رواه مسلم .
{ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ } أي : لا يغشاها غبرة سوداء من أثر حب الدنيا والشهوات : { وَلاَ ذِلَّةٌ } أي : أثر هوان ، وكسوف بال ، من أثر الالتفات إلى ما دون الله تعالى .
قال الناصر : وفي تعقيب الزيادة بهذه الجملة مصداق لصحة تفسير الزيادة بالرؤية الكريمة فإن فيه تنبيهاً على إكرام وجوههم بالنظر إلى وجه الله تعالى ، فجدير بهم أن لا يرهن وجوههم قتر البعد ، ولا ذلة الحجاب ، عكس المحرومين المحجوبين ، فإن وجوههم مرهقة بقتر الطرد وذلة البعد .
وقوله تعالى : { أُوْلَئِكَ } أي : الذين أحسنوا : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 27 ] .
{ وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ } أي : الشرك والمعاصي : { جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ } أي : واق يقيهم العذاب : { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ } أي : ألبست : { وُجُوهُهُمْ قِطَعاً } أي : أجزاء : { مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً } لفرط سوادها وظلمتها . وذلك لارتكابهم الهيئة المظلمة من الميول الطبيعية ، والأعمال الردية ، والقصد الإخبار بأبدع تشبيه عن سواد وجوههم . وقد ذكر هذا المعنى في غير ما آية : { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
ثم بيَّن تعالى ما ينال المشركين يوم الحشر من التوبيخ والخزي بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } [ 28 ] .
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } يعني المشركين ومعبوداتهم للمقاولة بينهم : { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } أي : معبوديهم بالله مع توقعهم الشفاعة منهم : { مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ } أي : الزموا مكانكم ، لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم . قال القاشاني : معناه قفوا مع ما وقفوا معه في الموقف من قطع الوصل والأسباب التي هي سبب محبتهم وعبادتهم ، وتبرؤ المعبود من العابد ؛ لانقطاع الأغراض الطبيعية التي توجب تلك الوُصَل .
ومعنى قوله : { فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } أي : مع كونهم في الموقف معاً ، فرقنا بينهم ، وقطعنا الوُصَل التي بينهم ، فلا يبقى من العابدين توقع شفاعة ، ولا من المعبودين إفادتها ، لو أمكنتهم : { وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } إذ لم تكن عبادتكم من أمرنا ، بل عن أمر الشيطان فكنتم عابديه بالحقيقة ، بطاعتكم إياه ، وعابدي ما اخترعتموه في أوهامكم من أباطيل فاسدة ، وأماني كاذبة .
قيل : القوة مجاز عن تبرئهم من عبادتهم ، وأنهم عبدوا أهواءهم وشياطينهم ؛ لأنها الآمرة لهم دونهم ؛ لأن الأوثان جمادات وهي لا تنطق . وقيل : ينطقها : { اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } [ فصلت : من الآية 21 ] ، فتشافههم بذلك ، مكان الشفاعة التي كانوا يتوقعونها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ } [ 29 ] .
{ فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ } أي : لنا : { لَغَافِلِينَ } أي : الله يعلم أنا ما أمرناكم بذلك وما أردنا عبادتكم إيانا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [ 30 ] .
{ هُنَالِكَ } أي : في ذلك المقام المدهش ، حين قطع المواصلة ، وإنكار الشركاء العبادة : { تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ } أي : تختبر وتذوق كل نفس ما أسلفت من العمل ، فتعاين أثره من قبح وحسن ، ورد وقبول ، كما يختبر الرجل الشيء ويتعرفه ، ليكتنه حاله ، وهذا كقوله تعالى : { يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ القيامة : 13 ] وقوله : { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } [ الطارق : 9 ] .
{ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ } الضمير للذين أشركوا ، أي : ردوا إلى الله المتولي جزاءهم بالعدل والقسط : { وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي : ضاع عنهم ما افتروه من اختراعاتهم ، وأصول دينهم ومذهبهم ، وتوهماتهم الكاذبة ، وأمانيهم الباطلة . أي : ظهر ضياعه وضلاله ولم يبق له أثر فيهم .
وفي هذه الآية تبكيت شديد للمشركين الذين عبدوا ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئاً ، ولم يأمرهم بذلك ، ولا رضي به ولا أراده ، بل تبرأ منهم أحوج ما يكونون إلى المعونة . والمشركون أنواع وأقسام ، وقد ذكرهم تعالى في كتابه ، وبين أحوالهم ، ورد عليهم أتم رد .
ثم احتج على المشركين على وحدانيته باعترافهم بربوبيته وحده بقوله سبحانه وتعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } [ 31 ] .
{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ } بالإمطار والإنبات وهل يمكن إلا ممن له التصرف العام فيها : { أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ } أي : من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحد الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة ، كقوله تعالى : { قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ } [ الملك : من الآية 23 ] .
{ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } يعني النسمة من النطفة ، أو الطير من البيضة ، أو السنبلة من الحب { وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ } كأن يخرج النطفة من الإنسان ، والبيضة من الطائر . وقيل : المراد أن يخرج المؤمن من الكافر أو الكافر من المؤمن { وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ } أي : ومن يلي تدبير أمر العالم كله ، بيده ملكوت كل شيء ، تعميم بعد تخصيص : { فَسَيَقُولُونَ اللّهُ } إذ لا مجال للمكابرة لغاية وضوحه : { فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } أي : أفلا تخافون بعد اعترافكم ، من غضبه لعبادة غيره إتباعاً للهوى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } [ 32 ] .
{ فَذَلِكُمُ } إشارة إلى من هذه قدرته وأفعاله : { اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ } الثابت وحدانيته ثباتاً لا ريب فيه لمن حقق النظر : { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ } يعني أن الحق والضلال لا واسطة بينهما ، فمن تخطى الحق وقع في الضلال ، أي : فما بعد حقية ربوبيته إلا بطلان ربوبية ما سواه ، وعبادة غيره ، انفراداً أو شركة : { فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } أي عن الحق الذي هو التوحيد ، إلى الضلال الذي هو الشرك ، وأنتم تعترفون بأنه الخالق كل شيء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ 33 ]
{ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي : ثبت حكمه وقضاؤه على الذين تمردوا في كفرهم ، وخرجوا إلى الحد الأقصى فيه . وقوله : { أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } بدل من الكلمة ، أي : حق عليهم انتفاء الإيمان ، وعلم الله منهم ذلك . أو أراد بالكلمة العدة بالعذاب { أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } تعليل بمعنى ( لأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ) أفاده الزمخشري - أي : كقوله تعالى : { قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ الزمر : من الآية 71 ] ، وقوله تعالى : { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ } [ الزمر : 19 ] ، قيل : { الَّذِينَ فَسَقُواْ } مظهر وضع موضع ضمير المخاطبين للإشعار بالعلية ، و ( الفسق ) هنا التمرد في الكفر ، فآل الكلام إلى أن كلمة العذاب حقت عليهم ، لتمردهم في كفرهم ، ولأنهم لا يؤمنون ، وهو تكرار . وأجيب بأنه تصريح بما علم ضمناً من : { الَّذِينَ فَسَقُواْ } ، أو دلالة على شرف الإيمان بأن عذاب المتمردين في الكفر بسبب انتفاء الإيمان .
ثم احتج أيضاً على حقّية التوحيد وبطلان الشرك بما هو من خصائصه تعالى ، من بدء الخلق وإعادته ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } [ 34 ] .
{ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه } أي : من يبدؤه من النطفة ، ويجعل فيه الروح ليتعرف إليه ، ويستعمله أعمالاً ، ثم يحييه يوم القيامة ، ليجزيه بما أسلف في أيامه الخالية . وإنما نظمت الإعادة في سلك الاحتجاج مع عدم اعترافهم بها ؛ إيذاناً بظهور برهانها ، للأدلة القائمة عليها سمعاً وعقلاً ، وإن إنكارها مكابرة وعناداً لا يلتفت إليه ، وإشعاراً بتلازم البدء والإعادة وجوداً وعدماً يستلزم الاعترافُ به الاعترافَ بها . ثم أمر عليه الصلاة والسلام بأن يبين لهم من يفعل ذلك ، فقيل له : { قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } أي : فكيف تصرفون إلى عبادة الغير ، مع عجزه عما ذكر .
ثم احتج عليهم أيضاً ، إفحاماً إثر إفحام ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [ 35 ]
{ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ } أي : بوجه من الوجوه ، كبعثة الرسل ، وإيتاء العقل . وتمكين النظر في آيات الكون ، والتوفيق للتدبر { قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ } وهو تبارك وتعالى - : { أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ } أي : يعبد ويطاع : { أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ } أي : إلا أن يهديه الله تعالى - نزل منزلة من يعقل لإفحامهم - وقيل معناه : أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه إلا أن ينقل ، أو لا يهتدي ولا يصح منه الاهتداء إلا أن ينقله الله من حاله إلى أن يجعله حيواناً مكلفاً فيهديه . وقد قرئ : { أمنْ لا يَهَدِّي } بفتح الياء والهاء وتشديد الدال ، أصله يهتدي ، أدغمت التاء في الدال ونقلت فتحة التاء المدغمة إلى الهاء ، وقرئ بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال ، لأنه لما نقلت الحركة التقى ساكنان ، فكسر أولهما للتخلص من التقائهما ، وقرئ بسكون الهاء وبتخفيف الدال ، على معنى ( يهتدي ) والعرب تقول : يهدي بمعنى يهتدي . يقال : هديته فهدى ، أي : اهتدى .
وقوله تعالى : { فَمَا لَكُمْ } مبتدأ وخبر ، والاستفهام للإنكار والتعجب . أي : أي : شيء لكم في اتخاذ هؤلاء العاجزين عن هداية أنفسهم ، فضلاً عن هداية غيرهم شركاء ، وقوله : { كَيْفَ تَحْكُمُونَ } مستأنف ، أي : كيف تحكمون بالباطل ، حيث تزعمون أنهم أنداد الله ؟ ! .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } [ 36 ] .
{ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ } أي : في اعتقادهم ألوهية الأصنام : { إِلاَّ ظَنّاً } اعتقاداً غير مستند لبرهان ، بل لخيالات فارغة ، وأقيسة فاسدة . والمراد ( بالأكثر ) : الجميع { إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ } أي : من العلم والاعتقاد الحق : { شَيْئاً } أي : من الإغناء ، فـ : ( شيئاً ) في موضع المصدر ، أي : غناء ما . أو مفعول لـ ( يغني ) . و : { مِنَ الْحَقِّ } حال منه { إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } وعيد على إتباعهم الظن ، وإعراضهم عن البرهان .
تنبيه :
قال الرازي في هذه الآية :
اعلم أن الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولاً ، ثم بالهداية ثانياً ، عادة مطردة في القرآن . فحكى تعالى عن الخليل عليه السلام أنه ذكر ذلك ، فقال : { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] ، وعن موسى عليه السلام مثله فقال : { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [ طه : 50 ] ، وأمر محمداً صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [ الأعلى : 1 - 3 ] ، وهو في الحقيقة دليل شريف ، لأن الإنسان له جسد وروح ، فالاستدلال على وجود الصانع بأحوال الجسد هو الخلق ، والاستدلال بأحوال الروح هو الهداية ، فهاهنا أيضاً لما ذكر دليل الخلق في الآية الأولى وهو قوله : { أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } [ النمل : 64 ] أتبعه بدليل الهداية في هذه الآية ، والمقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح ، كما قال تعالى : { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] ، وهذا كان كالتصريح بأنه تعالى إنما خلق الجسد ، وإنما أعطى الحواس ، لتكون آلة في اكتساب المعارف والعلوم . وأيضاً فالأحوال الجسدية خسيسة يرجع حاصلها إلى الالتذاذ بذوق شيء من الطعوم ، أو لمس شيء من الكيفيات الملموسة . أما الأحوال الروحانية ، والمعارف الإلهية ، فإنها كمالات باقية أبد الآباد ، مصونة عن الكون والفساد .
فعلمنا أن الخلق تبع للهداية ، والمقصود الأشرف الأعلى حصول الهداية ، ولاضطراب العقول وتشعب الأفكار كانت الهداية وإدراك الحق بإعانته تعالى وحده . والهداية إما أن تكون عبارة عن الدعوة إلى الحق ، أو عن تحصيل معرفتها ، وعلى كل فقد بينا أنها أشرف المراتب ، وأعلى السعادات ، وأنها ليست إلا منه تعالى . وأما الأصنام فإنها جمادات لا تأثير لها في الدعوة إلى الحق ، ولا في الإرشاد إلى الصدق ، فثبت أنه تعالى هو الموصل إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة ، والمرشد إلى كل الكمالات في النفس والجسد ، وأن الأصنام لا تأثير لها في شيء من ذلك ، وإذا كان كذلك كانت عبادتها جهلاً محضاً ، وسفهاً صرفاً . فهذا حاصل الكلام في هذا الاستدلال .
ثم بيَّن تعالى حقّية هذا الوحي المنزل ، رجوعاً إلى ما افتتحت به السورة من صدق نبوة المنزَل عليه ، ودلائلها في آيات الله الكونية ، والمنبئة عن عظيم قدرته ، وجليل عنايته بهداية بريته ، فقال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } [ 37 ] .
{ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ } لامتناع ذلك ؛ إذ ليس لمن دونه تعالى كمال قدرته التي بها عموم الإعجاز : { وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : مصدقاً للتوراة والإنجيل والزبور بالتوحيد ، وصفة النبي صلى الله عليه وسلم ، و ( تَصْدِيْقَ ) منصوب على أنه خبر ( كَاْنَ ) أو علة لمحذوف ، أي : أنزله تصديق الخ . وقرئ بالرفع خبراً لمحذوف ، أي : هو تصديق الذي بين يديه . أي : وبذلك يتعين كونه من الله تعالى ؛ لأنه لم يقرأها ، ولم يجالس أهلها { وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ } أي : وتبيين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع ، من قوله : { كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } [ النساء : من الآية 24 ] ، كما قال علي رضي الله عنه : فيه خبر ما قبلكم ، ونبأ ما بعدكم ، وفصل ما بينكم { لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } أي : منتفياً عنه الريب ، كائناً من رب بالعالمين ، أخبار أخر لما قبلها .
قال أبو مسعود : ومساق الآية بعد المنع عن إتباع الظن ؛ لبيان ما يجب إتباعه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسورة مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 38 ]
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } أي : بل أيقولون . فـ ( أم ) منقطعة مقدرة بـ : ( بل والهمزة ) عند الجمهور ، والهمزة للإنكار ، أي : ما كان ينبغي ذلك . وقيل : متصلة ، ومعادلها مقدر ، أي : أيقرون به بعد ما بيَّنا من حقيقته أم يقولون افتراء { قُلْ فَأْتُواْ بِسورة مِّثْلِهِ } أي : إن كان الأمر كما تزعمون ، فأتوا ، على وجه الافتراء ، بسورة مثله في البلاغة ، وحسن الصياغة ، وقوة المعنى ، فأنتم مَثَلٌ في العربية والفصاحة ، وأشد تمرناً في النظم : { وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي : ادعوا من دونه تعالى ، ما استطعتم من خلقه ، للاستعانة به على الإتيان بمثله - إن صدقتم في أني اختلقته - فإنه لا يقدر عليه أحد .
قال أبو السعود : وإخراجه سبحانه من حكم الدعاء ، للتنصيص على براءتهم منه تعالى ، وكونهم في عدوة المضادة والمشاقة ، لا لبيان استبداده تعالى بالقدرة على ما كُلِّفوه ، فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دعوه تعالى لأجابهم إليه .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } [ 39 ]
{ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِه } إضراب وانتقال عن إظهار بطلان ما قالوا في حق القرآن العظيم بالتحدي ، إلى إظهاره ببيان أنه كلام ناشئ عن جهلهم بشأنه الجليل ، أي : سارعوا إلى التكذيب به ، وفاجؤوه في بديهة السماع ، قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره ، وقبل أن يتدبروه ، ويقفوا على تأويله ومعانيه وما في تضاعيفه من الشواهد الدالة على كونه ليس مما يمكن أن يقدر عليه مخلوق ، وذلك لفرط نفورهم عما يخلف دينهم ، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم ، كالناشئ على التقليد من الحشوية ، إذا أحس بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه ، وإن كانت أضوأ من الشمس في ظهور الصحة ، وبيان الاستقامة ، أنكرها في أول وهلة ، واشمأز منها ، قبل أن يحس إدراكها بحاسة سمعه من غير فكر في صحة أو فساد ؛ لأنه لم يشعر قلبه إلا صحة مذهبه ، وفساد ما عداه من المذاهب . وسر التعبير : { بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِه } الإيذان بكمال جهلهم به ، وأن تكذيبهم به إنما هو بسبب عدم علمهم به كذا في " الكشاف وأبي السعود " .
{ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } أي : بيان ما يؤول إليه ، مما توعدهم فيه . وهذا المعنى هو الصحيح في الآية . وقد مشى عليه غير واحد .
قال في " تنوير الاقتباس " : أي : عاقبة ما وعدهم في القرآن .
وقال الجلال : أي : عاقبة ما فيه من الوعيد .
وقال القاشاني : تأويله : أي : ظهور ما أشار إليه في مواعيده ، وأمثاله مما يؤول أمره وعلمه إليه ، فلا يمكنهم التكذيب ؛ لأنه إذا ظهرت حقائقه لا يمكن لأحد تكذيبه .
{ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي : بآيات الرسل ، قبل التدبر في معانيها .
{ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } أي : من هلاكهم بسبب تكذيبهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ * وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ 40 - 42 ]
{ وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِه } أي : يصدق به في نفسه ، ولكن يكابر بالتكذيب : { وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ }
{ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ } أي : إن أصروا على تكذيبك ، فتبرأ منهم ، فقد أعذرت .
ثم أشار إلى أنهم ممن طبع على قلوبهم بقوله تعالى : { وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } أي : إذا قرأت القرآن : { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ } أبرزهم في عدم
انتفاعهم بسماعهم ، لكونهم لا يعون ولا يقبلون ، بصورة الصم المعتوهين ، أي : أتطمع أنك تقدر على إسماع الصم ، ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم ؟ لأن الأصم العاقل ربما تفرس واستدل إذا وقع في صماخه دويِّ الصوت ، فإذا اجتمع سلب السمع والعقل فقد تم الأمر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ 43 ]
{ وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ } كذلك أبرزهم لدعم انتفاعهم بمشاهدة أدلة الصدق وأعلام النبوة ، بصورة العمي المضموم إلى عماهم فقد البصيرة . أي : أتحب هداية من كان كذلك ؟ لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يحدس ويتظنن ، أما مع الحمق فجهد البلاء . يعني أنهم في اليأس من أين يقبلوا ويصدقوا ، كالصم والعمي الذين لا بصائر لهم ولا عقول - كذا في " الكشاف " - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ 44 ]
{ إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً } بتعذيبهم من غير أن تقوم الحجة عليهم ، بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، ومن غير أن يكونوا سليمي الحواس والمدارك ، فإنه لعدله لا يفعل ذلك { وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بالكفر والتكذيب وعدم استعمال حاساتهم ومداركهم فيما خلقت له .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَار يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } [ 45 ]
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ } أي : شيئاً قليلاً : { يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } أي : يعرف بعضهم بعضاً كأنهم لم يتعارفوا إلا قليلاً : { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ } أي : بالبعث بعد الموت : { وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } أي : من الكفر والضلالة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ 46 - 47 ]
{ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُم } أي : من العذاب : { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّك } أي : قبل ذلك : { فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } أي : فننجزهم ما وعدناهم كيفما دار الحال : { ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ } أي : من مساوئ الأفعال .
{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ } أي : منهم ، أرسل لهدايتهم ، وتزكيتهم بما يصلحهم : { فَإِذَا جَاء رَسُولُهُم } أي : فبلغهم ما أرسل به فكذبوه : { قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْط } أي : بالعدل فأنجي الرسول وأتباعه ، وعذب مكذبوه : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي : في ذلك القضاء المستوجب لتعذيبهم ؛ لأنه من نتائج أعمالهم .
وقال القاشاني في قوله تعالى : { قُضِيَ بَيْنَهُم } أي : بهداية من اهتدى منهم ، وضلالة من ضل وسعادة من سعد ، وشقاوة من شقي ، لظهور ذلك بوجوده ، وطاعة بعضهم إياه لقربه منه ، وإنكار بعضهم له لبعده عنه . أو قضى بينهم بإنجاء من اهتدى به وإثابته ، وإهلاك من ضل وتعذيبه ، لظهور أسباب ذلك بوجوده - انتهى - .
فالآية على هذا كقوله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] وجوز أن يكون المعنى : لكل أمة من الأمم يوم القيامة رسول تنسب إليه ، وتدعى به ، فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان ، قضى بينهم بإنجاء المؤمنين ، وعقاب الكافرين . كقوله تعالى : { وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ } [ الزمر : 69 ] .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ } [ 48 - 49 ]
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ } استبعاداً له ، واستهزاءً به : { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي : في أنه يأتينا ، ولما فيه من الإشعار بكون إتيانه بواسطة النبي صلوات الله عليه ، قيل :
{ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } أي : مع ذلك أقرب حصولاً ، فكيف أملك لكم حتى أستعجل في جلب العذاب لكم وتقديم الضر ، لما أن مساق النظم لإظهار العجز عنه ، وأما ذكر النفع فلتوسيع الدائرة تعميماً . والمعنى لا أملك شيئاً ما .
{ إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ } أي : أن أملكه ، أو لكن ما شاء الله كائن ، فالاستثناء متصل أو منقطع . وصوب أبو السعود الثاني ، بأن الأول يأباه مقام التبرؤ من أن يكون ، عليه الصلاة والسلام ، له دخل في إتيان الوعد . وبسط تقريره .
وأفاد بعض المحققين أن الاستثناء بالمشيئة قد استعمل في أسلوب القرآن الكريم للدلالة على الثبوت والاستمرار ، كما في هذه الآية ، وقوله : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ } [ هود : 107 ] ، قال : والنكتة في الاستثناء ؛ بيان أن هذه الأمور الثابتة الدائمة إنما كانت كذلك بمشيئة الله تعالى ، لا بطبيعتها في نفسها ، ولو شاء تعالى أن يغيرها لفعل . وهو نفيس جداً فليحرص على حفظه .
وقوله تعالى : { لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } أي : لكل واحد من آحاد كل أمة أجل معين : { إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } قال القاشاني : درَّجهم إلى شهود الأفعال بسلب الملك والتأثير عن نفسه ، ووجوب وقوع ذلك بمشيئة الله ، ليعرفوا آثار القيامة . ثم لوح إلى أن القيامة الصغرى هي بانقضاء آجالهم المقدرة عند الله بقوله : { لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } الآية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ } [ 50 ] .
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ } أي : أخبروني : { إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ } أي : الذي تستعجلون به : { بَيَاتاً } أي : ليلاً : { أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُون } أي : ولا شيء منه بمرغوب البتة .
لطائف :
الأولى - ( أرأيت ) يستعمل بمعنى الاستفهام عن الرؤية البصرية أو العلمية ، وهو أصل وضعه ، ثم استعملوه بمعنى ( أخبرني ) والرؤية فيه يجوز أن تكون بصرية وعلمية ، فالتقدير : أأبصرت حالته العجيبة ، أو أعرفتها ؟ فأخبرني عنها . ولذا لم يستعمل في غير الأمر العجيب . ولما كانت رؤية الشيء سبباً لمعرفته ، ومعرفته سبباً للإخبار عنه ، أطلق السبب القريب أو البعيد ، وأريد مسببه ، وهل هو بطريق التجوز كما ذهب إليه كثير ، أو التضمين كما ذهب إليه أبو حيان - كذا في " العناية " .
الثانية - سر إِيثار ( بياتاً ) على ( ليلاً ) مع ظهور التقابل فيه ؛ الإشعار بالنوم والغفلة ، وكونه الوقت الذي يبيت فيه العدو ، ويتوقع فيه ، ويغتنم فرصة غفلته ، وليس في مفهوم الليل هذا المعنى ، ولم يشتهر شهرة النهار بالاشتغال بالمصالح والمعاش ، حتى يحسن الاكتفاء بدلالة الالتزام كما في النهار ، أو النهار كله محل الغفلة ، لأنه إما زمان اشتغال بمعاش أو غذاء ، أو زمان قيلولة ، كما في قوله : { بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } [ الأعراف : من الآية 4 ] بخلاف الليل ، فإن محل الغفلة فيه ما قارب وسطه وهو وقت البيات ، لذا خص بالذكر دون النهار . و ( البيات ) بمعنى التبييت كالسلام بمعنى التسليم ، ولا بمعنى البيتوتة .
الثالثة - قيل : إن استعجالهم العذاب ، كان المقصود منه الاستبعاد والاستهزاء ، دون ظاهره ، فورود ( ما ) هنا في الجواب على الأسلوب الحكيم ؛ لأنهم ما أرادوا بالسؤال إلا الاستبعاد أن الموعود منه تعالى ، وأنه افتراء ، فطلبوا منه تعيين وقته تهكماً وسخرية ، فقال في جوابهم : هذا التهكم لا يتم إذا كنت مقراً بأني مثلكم ، وأني لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً ، فكيف أدعي ما ليس لي به حق ؟ ثم شرع في الجواب الصحيح ، ولم يلتفت إلى تهكمهم واستبعادهم - أفاده الطيبي - .
الرابعة - سر إيثار : { مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُون } على ( مَاذَا يَسْتَعْجِلونُ مِنْهُ ) هو الدلالة على موجب ترك الاستعجال ، وهو الإجرام ، لأن من حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه ، ويهلك فزعاً من مجيئه ، وإن أبطأ ، فضلاً عن أن يستعجله - كذا في " الكشاف " - .
قال في " الانتصاف " : وفي هذا النوع البليغ نكتتان :
إحداهما : وضع الظاهر مكان المضمر ، والأخرى : ذكر الظاهر بصيغة زائدة مناسبة للمصدر .
وكلاهما مستقل بوجه من البلاغة والمبالغة - والله أعلم - .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } [ 51 ] .
{ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ } إنكار لإيمانهم بنزول العذاب بعد وقوعه حقيقة ، داخل مع ما قبله من إنكار استعجالهم به بعد إتيانه حكماً ، تحت القول المأمور به . أي : أبعد ما وقع العذاب وحلَّ بكم حقيقة آمنتم به حين لا ينفعكم الإيمان ؟ إنكاراً لتأخيره إلى هذا الحد ، وإيذاناً باستتباعه للندم والحسرة ، ليقلعوا عما هم عليه من العناد ، ويتوجهوا نحو التدارك قبل فوت الفوات - أفاده أبو السعود - .
وقوله تعالى : { آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } على إرادة القول . أي : قيل لهم إذا آمنوا بعد معاينة العذاب : ( آلآن آمنتم به ) ؟ وذلك إنكاراً للتأخير ، وتوبيخاً عليه . وسر وضع : { تَسْتَعْجِلُونَ } موضع : { تكذبون } الذي يقتضيه الظاهر ؛ الإشارة إلى أن المراد به الاستعجال السابق ، وهو التكذيب والاستهزاء ، استحضاراً لمقالتهم ، فهو أبلغ من ( تكذبون ) .
وقيل : الاستعجال كناية عن التكذيب ، وفائدة هذه الحال استحضارها ، وهذا ما ذكروه ، ولا مانع من بقاء الاستعجال على حقيقته ، يدل عليه آية : { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً } [ الأنفال : 32 ] الخ ، فهم مع تهكمهم رضوا بأن يعاينوا آية يعذبون بها ، لما في قلوبهم من مرض العناد العضال ، والجهل المصم المعمي ، ولذلك أجيبوا بأن العذاب هل فيه ما يستعجل منه ! أي : فمثل هذا الاستعجال لا يصدر ممن له مسكة من عقل ؛ إذ لا يستعجل إلا ما يرجى خيره ، ثم أعلمهم بعدم فائدة إيمانهم وقتئذ ، وما يوبخون به إنكاراً للتأخير - والله أعلم - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ * وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } [ 52 - 53 ]
{ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } أي : أشركوا : { ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ } في الآخرة : { إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } أي : تقولون وتعملون في الدنيا .
{ وَيَسْتَنبِئُونَكَ } أي : يستخبرونك : { أَحَقٌّ هُوَ } أي : الوعد بعذاب الخلد ، أو ادعاء النبوة أو القرآن : { قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي : بفائتين العذاب ، فهو لاحق بكم لا محال ، من ( أعجزه ) الشيء إذا فاته ، يصح كونه ( أعجزه ) بمعنى وجده عاجزاً . أي : ما أنتم بواجدي العذاب أو من يوقعه بكم عاجزاً عن إدراككم ، وإيقاعه بكم .
لطائف :
الأولى - دل سؤالهم هذا على محض جهلهم أو عنادهم ، لما ثبت من البرهان القاطع على نبوته بمعجز القرآن ، وإذا صحت النبوة لزم القطع بصحة كل ما ينبئهم عنه ، مما يصدعهم به .
الثانية - إنما أمر بالقسم لاستمالتهم ، وللجري على ما هو المألوف في المحاورة ، من تحقيق المدعي ، فإن من أقسم على خير ، فقد كساه حلة الجدّ ، وخلع عنه لباس الهزل : { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْل وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ } [ الطارق : 13 - 14 ] .
الثالثة - لما كانت الناس طبقات ، كان منهم من لا يسلم إلا ببرهان حقيقي ، ومنهم من لا ينتفع به ، ويسلم إلا بالأمور الإقناعية ، نحو القسم ، كالأعرابي الذي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن رسالته وبعثه ، وأنشده بالذي بعثه ، ثم اقتنع بقوله صلوات الله عليه : < اللهم نعم > فقال : آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي ، وأنا ضمام بن ثعلبة ، - رواه البخاري في أوائل كتاب العلم - .
الرابعة - قال ابن كثير : هذه الآية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان ، يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به على من أنكر المعاد في سورة سبأ : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } [ سبأ : 3 ] ، وفي التغابن : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ التغابن : 7 ] - انتهى - .
وقد استمد ابن كثير هذا مما ذكره شيخه الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " قال : وحلف صلى الله عليه وسلم في أكثر من ثمانين موضعاً ، وأمره الله سبحانه بالحلف في ثلاثة مواضع ، ثم ذكر هذه الآيات ، ثم قال : وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي يذاكر أبا بكر بن داود الظاهري ولا يسميه بالفقيه - فتحاكم إليه يوماً هو وخصم له ، فتوجهت اليمين على أبي بكر بن داود ، فتهيأ للحلف ، فقال له القاضي إسماعيل : وتحلف ومثلك يحلف يا أبا بكر ؟ فقال : وما يمنعني عن الحلف ، وقد أمر الله تعالى نبيه بالحلف في ثلاثة مواضع من كتابه ؟ قال : أين ذلك ؟ فسردها أبو بكر ، فاستحسن ذلك منه جداً ، ودعاه بالفقيه من ذلك اليوم . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ 54 ]
{ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ } أي : بالشرك بالله ، أو التعدي على الغير ، أو مطلقاً : { مَا فِي الأَرْضِ } أي : من الأموال : { لاَفْتَدَتْ بِهِ } أي : لجعلته فدية لها من العذاب : { وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ } أي : أخفوها أسفاً على ما فعلوا من الظلم . وضمير : { أَسَرُّواْ } للنفوس ، المدلول عليها بـ : ( كل نفس ) . والعدول إلى صيغة الجمع ؛ لتهويل الخطب ، بكون الخطب بطريق الاجتماع : { لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ } أي : عاينوه : { وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي : فيما فعل بهم من العذاب ؛ لأنه جزاء ظلمهم . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ 55 - 56 ] .
{ أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } إعلام بأن له الملك كله ، وأنه المثيب المعاقب ، وما وعده من الثواب والعقاب فهو حق ، وهو القادر على الإحياء والإماتة ، لا يقدر عليهما غيره ، وإلى حسابه وجزائه المرجع ، ليعلم أن الأمر كذلك ، فيخاف ويرجى ، ولا يغتر به المغترون - كذا في " الكشاف " - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ 57 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُم ْ } أي : تزكية نفوسكم بالوعد والوعيد ، والإنذار والبشارة ، والزجر عن الذنوب المورطة في العقاب ، والتحريض على الأعمال الموجبة للثواب ، لتعملوا على الخوف والرجاء : { وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ } أي : القلوب من أمراضها ، كالشك والنفاق ، والغل والغش ، وأمثال ذلك ، بتعليم الحقائق ، والحكم الموجبة لليقين ، وتصفيتها بقبول المعارف ، والتنوير بنور التوحيد : { وَهُدًى } أي : لنفوسكم من الضلالة : { وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } أي : لمن آمن به بالنجاة من العذاب والارتقاء إلى درجات النعيم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ 58 ]
{ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ } يعني القرآن الذي أكرموا به : { وَبِرَحْمَتِهِ } يعني الإسلام : { فَبِذَلِكَ } أي : فبمجيئهما : { فَلْيَفْرَحُواْ } أي : لا بالأمور الفانية القليلة المقدار ، الدنيئة القدر والوقع : { هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } أي : من الأموال وأسباب الشهوات ، إذ لا ينتفع بجميعها ولا يدوم ، ويفوت به اللذات الباقية ، بحيث يحال بينهم وبين ما يشتهون .
والفاء داخلة في جواب شرط مقدر ، كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فبهما فليفرحوا ، أو هي رابطة لما بعدها بما قبلها ، لدلالتها على تسبب ما بعدها عما قبلها . والفاء الثانية زائدة لتأكيد الأولى ، أو الزائدة الأولى ، لأن جواب الشرط في الحقيقة : { فَلْيَفْرَحُواْ } و ( بِذَلِكَ ) مقدم من تأخير ، وزيدت فيه الفاء للتحسين . وكذلك جوز أن يكون بدلاً من قوله : { بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ } .
ثم بيَّن تعالى أن من فضله على الناس تبيين الحرام من الحلال على ألسنة الرسل لئلا يفتروا عليه الكذب بتحريم ما أحل أو عكسه ، كما فعل المشركون ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ } [ 59 ]
{ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ } أي : ما خلق لكم من حرث وأنعام : { فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً } أي : أنزله تعالى رزقاً حلالاً كله ، فبغضتموه ، وقلتم : هذا حلال وهذا حرام ، كقولهم : { هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْر } [ الأنعام : من الآية 138 ] : { مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا } [ الأنعام : من الآية 139 ] : { قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ } في الحكم بالتحريم والتحليل ، فأنتم تفعلون ذلك بإذنه : { أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ } أي : تختلقون الكذب ، ثم بيَّن وعيد هذا الافتراء بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } [ 60 ] .
{ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : فيما يفعل بهم ، وهو يوم الجزاء بالإحسان والإساءة ، وهو وعيد عظيم ، حيث أبهم أمره : { إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } في إنزال الوحي وتعليم الحلال والحرام : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } أي : هذه النعمة ، فيستعملون ما وهب إليهم من الاستعداد والعلوم في مطالب النفس الخسيسة ولا يتبعون ما هدوا إليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ 61 ] .
{ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ } أي : أمر ما : { وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ } أي : التنزيل : { مِن قُرْآنٍ } أي : سورة أو آية : { وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } أي : تخوضون وتندفعون فيه : { وَمَا يَعْزُبُ } أي : يغيب : { عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ } أي : نملة أو هباء : { فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء } أي : في دائرة الوجود والإمكان .
وقوله تعالى : { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } كلام برأسه ، مقرر لما قبله ، أي : مكتوب مبين ، لا التباس فيه ، والمراد بالآية البرهان على إحاطة علمه تعالى بحال أهل الأرض ، بأن من لا يغيب عن علمه شيء كيف لا يعرف حال أهل الأرض ، وما هم عليه مع نبيه صلى الله عليه وسلم ؟ ! وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون َ *الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ 62 - 64 ] .
{ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللّهِ } جمع ولي ، وهو في الأصل ضد العدو ، بمعنى المحب ، وجاز كونه هنا بمعنى الفاعل ، أي : الذين يتولونه بالطاعة ، كقوله تعالى : { وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [ المائدة : 56 ] وبمعنى المفعول أي : الذي يتولاهم بالإكرام ، كقوله تعالى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور } [ البقرة : من الآية 257 ] ، وقوله : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُه } [ المائدة : من الآية 55 ] الآية - وكلا المعنيين متلازمان : { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } من لحوق مكروه { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } أي : من الفزع الأكبر ، كما في قوله تعالى : { لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَر } [ الأنبياء : من الآية 103 ] .
{ الَّذِينَ آمَنُواْ } أي : بكل ما جاء من عند الله تعالى : { وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } أي : يخافون ربهم ، فيفعلون أوامره ، ويتجنبون مناهيه ، من الشرك والكفر والفواحش . ومحل الموصول الرفع على أنه خبر لمحذوف ، كأنه قيل : من أولئك ، وما سبب فوزهم بذاك الإكرام ؟ فقيل : هم الذين جمعوا بين الإيمان والتقوى ، المفضيين إلى كل خير ، المنجيين من كل شر ، أو النصب بمحذوف .
وقوله تعالى : { لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } : { الْبُشَرى } مصدر إما باق على مصدريته ، والمبشر به محذوف ، أي : لهم البشارة فيهما بالجنة ، وإنما حذف للعلم به من آيات أخر ، كقوله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا } إلى قوله : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ } [ التوبة : 20 - 21 ] وقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [ فصلت : 30 ] ، وإما مراد به المبشر به ، وتعريفه للعهد ، كقوله سبحانه : { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ الحديد : 12 ] .
وقوله تعالى : { لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ } أي : لمواعيده : { ذَلِكَ } أي : بشراكم ، وهي الجنة { هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } أي : المنال الجليل ، الذي لا مطلب وراءه ، كيف وقد فازوا بالجنة وما فيها ، ونجوا من النار وما فيها ؟ ! .
تنبيه :
هذه الآية الكريمة أصل في بيان أولياء الله ، وقد بين تعالى في كتابه ، ورسوله في سنته ، أن لله أولياء من الناس ، كما أن للشيطان أولياء ، وللإمام تقي الدين بن تيمية عليه الرحمة كتاب في ذلك سماه " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " نقتبس منه جملة يهم الوقوف عليها ، لكثرة ما يدور على الألسنة من ذكر الولي والأولياء . قال رحمه الله :
إذا عرف أن الناس فيهم أولياء الرحمن ، وأولياء الشيطان ، فيجب أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء ، كما فرق الله ورسوله بينهما . فأولياء الله هم المؤمنون المتقون ، كما في هذه الآية ، وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < يقول الله : من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ، أو فقد آذنته بالحرب . . . > الحديث - وهذا أصح حديث يروى في الأولياء ، دل على أن من عادى ولياً لله ، فقد بارز الله بالمحاربة .
وفي حديث آخر : < وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب > أي : آخذ ثأرهم ممن عاداهم ، كما يأخذ الليث الحرب ثأره ، وهذا لأن أولياء الله هم الذين آمنوا به ووالوه ، فأحبوا ما يحب ، وأبغضوا ما يبغض ، ورضوا بما يرضى ، وسخطوا بما يسخط ، وأمروا بما يأمر ، ونهوا عما نهى ، وأعطوا لمن يحب أن يعطى ، ومنعوا من يحب أن يمنع .
والولاية ضد العداوة . وأصل الولاية المحبة والقرب . وأصل العداوة البغض والبعد .
وأفضل أولياء الله هم أنبياؤه ، وأفضل أنبيائه هم المرسلون منهم ، أفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ، وإمام المتقين ، الذي بعثه الله بأفضل كتبه ، وشرع له أفضل شرائع دينه ، وجعله الفارق بين أوليائه وأعدائه ، فلا يكون ولياً لله إلا من آمن به ، وبما جاء به ، واتبعه ظاهراً وباطناً . ومن ادعى محبة الله وولايته ، وهو لم يتبعه ؛ فليس من أولياء الله ، بل من خالفه كان من أعداء الله وأولياء الشيطان . وإن كان كثير من الناس يظنون في أنفسهم أو في غيرهم أنهم من أولياء الله ، ولا يكونون من أولياءه . فاليهود والنصارى يدعون أنهم أولياء الله وأحباؤه . قال تعالى : { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَق } [ المائدة : من الآية 18 ] الآية ، وكان مشركو العرب يدعون أنهم أهل الله ، لسكناهم مكة ، ومجاورتهم البيت ، فأنزل تعالى : { وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ } [ الأنفال : 34 ] ، وكما أن من الكفار من يدعي أنه ولي الله ، وليس ولياً لله ، بل عدو له ، فكذلك من المنافقين الذين يظهرون الإسلام ، يقرون في الظاهر بالشهادتين ، ويعتقدون في الباطن ما يناقض ذلك ، مثل ألا يقروا باطناً برسالته عليه السلام ، وإنما كان ملكاً مطاعاً ، ساس الناس برأيه ، من جنس غيره من الملوك . أو يقولون : إنه رسول الله إلى الأميين خاصة . أو يقولون : إنه مرسل إلى عامة الخلق ، وأن لله أولياء خاصة لم يرسل إليهم ، ولا يحتاجون إليه ، بل لهم طريق إلى الله من غير جهته ، كما كان الخضر مع موسى . أو أنهم يأخذون عن الله كل ما يحتاجون إليه ، وينتفعون به من غير واسطة ، أو أنه مرسل بالشرائع الظاهرة وهم موافقون له فيها . وأما الحقائق الباطنة ، فلم يرسل بها ، أو لم يكن يعرفها ، أو هم أعرف بها منه ، أو يعرفونها مثل ما يعرفها من غير طريقته ، فهؤلاء كلهم كفار ، مع أنهم يعتقدون في طائفتهم أنهم أولياء الله . وإنما أولياء الله : الذي وصفهم تعالى بولايته بقوله : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [ يونس : 62 - 63 ] .
ولا بد في الإيمان من أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ، مرسل إلى جميع الثقلين الإنس والجن . فكل من لم يؤمن بما جاء به فليس بمؤمن ، فضلاً عن أن يكون من أولياء الله المتقين ومن آمن ببعض ما جاء به ، وكفر ببعض ، فهو كافر ليس بمؤمن .
ومن الإيمان به ، الإيمان بأنه الواسطة بين الله وبين خلقه ، في تبليغ أمره ونهيه ، ووعده ووعيده ، وحلاله وحرامه . فالحلال : ما أحله الله ورسوله ، والحرام : ما حرمه الله ورسوله ، والدين : ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن اعتقد أن لأحد من الأولياء طريقاً إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو كافر من أولياء الشيطان .
وأما خلق الله تعالى للخلق ، ورزقه إياهم ، وإجابته لدعائهم ، وهدايته لقلوبهم ، ونصرهم على أعدائهم ، وغير ذلك من جلب المنافع ، ودفع المضار ، فهذا لله وحده ، يفعله بما يشاء من الأسباب ، لا يدخل في مثل هذا وساطة الرسل .
ثم لو بلغ الرجل في الزهد والعبادة والعلم ما بلغ ، ولم يؤمن بجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فليس بمؤمن ، ولا ولي لله تعالى ، كالأحبار والرهبان من علماء اليهود والنصارى وعبَّادهم ، وكذلك المنتسبون إلى العلم والعبادة من مشركي العرب والترك والهند وغيرهم ، ممن كان من حكماء الهند والترك ، وله علم أو زهد وعبادة في دينه ، وليس مؤمناً بجميع ما جاء به ، فهو كافر ، عدو لله ، وإن ظن طائفة أنه ولي لله . كما كان حكماء الفرس من المجوس كفاراً مجوساً ، وكذلك حكماء اليونان مثل : أرسطو وأمثاله ، كانوا مشركين ، يعبدون الأصنام والكواكب . وفي أصناف المشركين من هذه الطوائف من له اجتهاد في العلم والزهد والعبادة ، ولكن ليس بمؤمن بالرسل ، ولا يصدقهم فيما أخبروا به ولا يطيعهم فيما أمروا ، فهؤلاء ليسوا بمؤمنين ، ولا أولياء لله ، وهؤلاء تقترن بهم الشياطين وتنزل عليهم ، فيكاشفون الناس ببعض الأمور ، ولهم تصرفات خارقة من جنس السحر ، وهم من جنس الكهان والسحرة الذين تنزل عليهم الشياطين . قال تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } [ الشعراء : 221 - 223 ] ، وهؤلاء جميعهم الذين ينتسبون إلى المكاشفات ، وخوارق العادات ، إذا لم يكونوا متبعين للرسل ، فلا بد أن يكذبوا وتكذبهم شياطينهم ، لا بد أن يكون في أعمالهم ما هو إثم وفجور ، مثل نوع من الشرك أو الظلم أو الفواحش أو الغلو أو البدع في العبادة ، ولهذا تنزلت عليهم الشياطين ، واقترنت بهم ، فصاروا من أولياء الشيطان ، لا من أولياء الرحمن .
ومن الناس من يكون فيه إيمان ، وفيه شعبة من نفاق ، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان > . وفي صحيح مسلم : < وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم > .
وإذا كان أولياء الله هم ( المؤمنون المتقون ) فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله تعالى ، فمن كان أكمل إيماناً وتقوى كان أكمل ولاية لله . فالناس متفاضلون في ولاية الله عز وجل ، بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى ، وكذلك يتفاضلون في عداوة الله بحسب تفاضلهم في الكفر والنفاق .
وأولياء الله على طبقتين : سابقون ومقربون وأصحاب يمين مقتصدون ، ذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز . فالأبرار أصحاب اليمين ، هم المتقربون إلى الله بالفرائض ، يفعلون ما أوجب الله عليهم ، ويتركون ما حرم الله عليهم ، ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات ، ولا الكف عن فضول المباحات . وأما السابقون المقربون ، فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض ، ففعلوا الواجبات والمستحبات ، وتركوا المحرمات والمكروهات ، فلما تقربوا إليه بجميع ما يقدرون عليه من محبوباتهم أحبهم الرب حباً تاماً ، كما قال تعالى : < ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه > يعني الحب المطلق .
ثم إذا كان العبد لا يكون ولياً لله إلا إذا كان مؤمناً تقياً ، لهذه الآية ؛ فمعلوم أن أحداً من الكفار والمنافقين لا يكون ولياً لله . وكذلك من لا يصح إيمانه وعباداته ، وإن قدر أنه لا إثم عليه ، مثل أطفال الكفار ، ومن لم تبلغه الدعوة ، وإن قيل : إنهم لا يعذبون حتى يُرسل إليهم رسولاً فلا يكونون من أولياء الله ، إلا إذا كانوا من المؤمنين المتقين . فمن يتقرب إلى الله لا بفعل الحسنات ولا بفعل السيئات ، لم يكن من أولياء الله .
وكذلك المجانين والأطفال ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < رفع القلم عن ثلاثة : عن المجنون حتى يفيق ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن النائم حتى يستيقظ > . وهذا الحديث قد رواه أهل السنن من حديث عائشة رضي الله عنها ، واتفق أهل المعرفة على تلقيه بالقبول . ولكن الصبي المميز تصح عباداته ، ويثاب عليها عند جمهور العلماء ، وأما المجنون الذي رفع عنه القلم ، فلا يصح شيء من عباداته باتفاق العلماء ، ولا يصح منه إيمان ولا كفر ولا صلاة ولا غير ذلك من العبادات ، بل لا يصلح هو ، عند عامة العقلاء لأمور الدنيا ، كالتجارة والصناعة ، فلا يصح أن يكون بزازاً ولا عطاراً ولا حداداً ولا نجاراً ، ولا تصح عقوده باتفاق العلماء . فلا يصح بيعه ولا شراؤه ولا نكاحه ولا طلاقه ولا إقراره ولا شهادته ، ولا غير ذلك من أقواله ، بل أقواله كلها لغو لا يتعلق بها حكم شرعي ، ولا ثواب ولا عقاب ، بخلاف الصبي المميز فإن له أقوالاً معتبرة في مواضع ، بالنص والإجماع ، وفي مواضع فيها نزاع . وإذا كان المجنون لا يصح منه الإيمان ولا التقوى ولا التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل ، وامتنع أن يكون ولياً لله ، فلا يجوز لأحد أن يعتقد أنه ولي لله ، لا سيما أن تكون حجته على ذلك إما مكاشفة سمعها منه ، أو نوعاً من تصرف ، مثل أن يراه قد أشار إلى واحد فمات أو صرع ، فإنه قد علم أن الكفار والمنافقين من المشركين وأهل الكتاب لهم مكاشفات وتصرفات شيطانية ، كالكهان والسحرة وعبَّاد المشركين وأهل الكتاب ، فلا يجوز لأحد أن يستدل بمجرد ذلك على كون الشخص ولياً لله ، إن لم يعلم ما يناقض ولاية الله ، فكيف إذا علم منه ما يناقض ولاية الله ؟ مثل أن يعلم أنه لا يعتقد وجوب إتباع النبي صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً ، بل يعتقد أنه يتبع الشرع الظاهر ، دون الحقيقة الباطنة ، أو يعتقد أن لأولياء الله طريقاً إلى الله غير طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، أو يقول : إن الأنبياء ضيقوا الطريق ، أو هم قدوة العامة دون الخاصة ، ونحو ذلك مما يقوله بعض من يدعي الولاية ، فهؤلاء فيهم من الكفر ما يناقض الإيمان ، فضلاً عن ولاية الله عز وجل . فمن احتج بما يصدر عن أحدهم ، من خرق عادة على ولايتهم ، كان أضل من اليهود والنصارى ، وكذلك المجنون ، فإن كونه مجنوناً يناقض أن يصح منه الإيمان والعبادات ، التي هي شرط في ولاية الله . ومن كان يجن أحياناً ، ويفيق أحياناً ، إذا كان في حال إفاقته مؤمناً بالله ورسوله ، ويؤدي الفرائض ، ويجتنب المحارم ، فهذا إذا جن ، لم يكن جنونه مانعاً من أن يثيبه الله على إيمانه وتقواه الذي أتى به في حال إفاقته ، ويكون له من ولاية الله بحسب ذلك ، وكذلك من طرأ عليه الجنون بعد إيمانه وتقواه ، فإن الله يثيبه ويأجره على ما تقدم من إيمانه وتقواه ، ولا يحبطه بالجنون الذي ابتلي به من غير ذنب فعله ، ولا قلم مرفوع عنه في حال جنونه .
فعلى هذا ، فمن أظهر الولاية وهو لا يؤدي الفرائض ، ولا يجتنب المحارم ، بل قد يأتي بما يناقض ذلك ، لم يكن لأحد أن يقول : هذا ولي لله ، فإن هذا إن لم يكن مجنوناً ، بل كان متولهاً من غير جنون ، أو كان يغيب عقله بالجنون تارة ، ويفيق أخرى ، وهو لا يقوم بالفرائض بل يعتقد أنه لا يجب عليه إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر ؛ وإن كان مجنونا باطناً وظاهراً قد ارتفع عنه القلم . فهذا وإن لم يكن معاقباً عقوبة الكافرين ، فليس هو مستحقاً لما يستحقه أهل الإيمان والتقوى من كرامة الله عز وجل ، فلا يجوز على التقديرين أن يعتقد فيه أحد أنه ولي لله ، لكن إن كان له حالة في إفاقته كان فيها مؤمناً بالله متقياً ، كان له من ولاية الله بحسب ذلك ، وإن كان له في حال فيه كفر أو نفاق ، أو كان كافراً أو منافقاً ثم طرأ عليه الجنون ، فهذا فيه من الكفر والنفاق ما يعاقب عليه ، وجنونه لا يحبط عنه ما يحصل منه حال إفاقته من كفر أو نفاق .
فصل
وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات ، فلا يتميزون بلباس دون لباس ، ولا بحلق شعر أو تقصيره أو ضفره ، إذا كان كلاهما مباحاً ، كما قيل : كم من صديق في قباء ، وكم من زنديق في عباء . بل يوجدون في جميع أصناف أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا لم يكونوا من أهل البدع الظاهرة والفجور . فيوجدون في أهل القرآن ، وأهل العلم ، ويوجدون في أهل الجهاد والسيف ، ويوجدون في التجار والصناع والزراع . وكان السلف يسمون أهل الدين والعلم ( القراء ) فيدخل فيهم العلماء والنساك . ثم حدث بعد ذلك اسم الصوفية والفقراء واسم ( الصوفية ) : نسبة إلى لباس الصوف . هذا هو الصحيح ، وقد قيل : إنه نسبة إلى صفوة الفقهاء ، وقيل إلى ( صوفة بن أد ) قبيلة من القرب كانوا يعرفون بالنسك ، وقيل إلى أهل الصفا ، وقيل إلى الصفوة ، وقيل إلى الصفة ، وقيل إلى الصف المقدم بين يدي الله تعالى . وهذه أقوال ضعيفة ، فإنه لو كان كذلك لقيل : صفي ، أو صفائي ، أو صُفي ، ولم يقل صوفي ، وصار أيضاً اسم الفقراء يعني به أهل السلوك ، وهذا عرف حادث ، وقد تنازع الناس ، أيما أفضل : مسمى الصوفي أو مسمى الفقير ؟ ويتنازعون أيضاً : أيما أفضل ؟ الغني الشاكر ، أو الفقير الصابر ؟ والصواب في هذا كله ما قاله تبارك وتعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [ الحجرات : 13 ] وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي : الناس أفضل ؟ قال : < أتقاهم > ، فدل الكتاب والسنة على أن أكرم الناس عند الله أتقاهم . وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأسود على أبيض ، ولا لأبيض على أسود ، إلا بالتقوى > . وعنه أيضاً صلى الله عليه وسلم أنه قال : < إن الله تعالى أذهب عنكم عُبِّية الجاهلية وفخرها بالآباء . الناس رجلان : مؤمن تقي وفاجر شقي > .
فصل
وليس من شرط ولي الله أن يكون معصوماً لا يغلط ولا يخطئ ، بل يجوز أن يخفى عليه بعض علم الشريعة ، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين ، حتى يحسب بعض الأمور مما أمر الله به مما نهى الله عنه ، ويجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات أولياء الله تعالى ، وتكون من الشيطان لبَّسها عليه ، لنقص درجته ، ولا يعرف أنها من الشيطان ، وإن لم يخرج بذلك عن ولاية الله تعالى . فإن الله سبحانه وتعالى تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ، ولم يؤثِّم النبي صلى الله عليه وسلم المجتهد المخطئ بل جعل له أجراً على اجتهاده ، وجعل خطأه مغفوراً له ، ولهذا لما كان ولي الله يجوز أن يغلط ، لم يجب على الناس الإيمان بجميع ما يقوله من هو ولي الله ، إلا أن يكون نبياً ، بل ولا يجوز لولي الله أن يعتمد على ما يلقى إليه في قلبه ، إلا أن يكون موافقاً ، وعلى ما يقع له مما يراه إلهاماً ومحادثة وخطاباً من الحق ، بل يجب عليه أن يعرض ذلك جميعه على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن وافقه قبله وإن خالفه لم يقبله ، وإن لم يعلم أموافق هو أم مخالف توقف فيه . والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف : طرفان ووسط . فمنهم من إذا اعتقد في شخص أنه ولي الله وافقه في كل ما يظن أنه حدثه به قلبه عن ربه ، وسلم إليه جميع ما يفعله . ومنهم من إذا رآه قد قال أو فعل ما ليس بموافق للشرع ، أخرجه عن ولاية الله بالكلية وإن كان مجتهداً مخطئاً ، وخيار الأمور أوساطها ، وهو ألا يجعل معصوماً ولا مأثوماً ، إذا كان مجتهداً مخطئاً ، فلا يتبع في كل ما يقوله ، ولا يحكم عليه بالكفر والفسق مع اجتهاده . والواجب على الناس إتباع ما بعث الله به رسوله . وأما إذا خالف قول بعض الفقهاء ، ووافق قول آخرين ، لم يكن لأحد أن يلزمه بقول المخالف ، ويقول : هذا خالف الشرع .
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < قد كان في الأمم قبلكم محدثون ، فإن كان في أمتي أحد فعمر منهم > . وكان عمر يقول : اقتربوا من أفواه المطيعين ، واسمعوا منهم ما يقولون ، فإنه يتجلى لهم أمور صادقة . والمحدث الذي يأخذ عن قلبه أشياء ليس بمعصوم ، فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم ، ولهذا كان عمر رضي الله عنه يشاور الصحابة ويناظرهم ويرجع إليهم في بعض الأمور ، وينازعونه في أشياء فيحتج عليهم ، ويحتجون عليه بالكتاب والسنة ، ويقررهم على منازعته ، ولا يقول لهم : أنا محدث ملهم مخاطب ، فينبغي لكم أن تقبلوا مني ولا تعارضوني . فأي من ادعى له أصحابه أنه ولي الله ، وأنه مخاطب يجب على أتباعه أن يقبلوا منه كل ما يقوله ولا يعارضوه ويسلموا له حاله من غيره اعتبار بالكتاب والسنة ، فهو وهُم مخطئون . ومثل هذا من أضل الناس . فعمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل منه ، وهو أمير المؤمنين ، وكان المسلمون ينازعونه ويعرضون ما يقول هو وهم على الكتاب والسنة . وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا من الفروق بين الأنبياء وغيرهم . ولذا قال الجنيد : علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة . وقال أبو عثمان النيسابوري : من أمَّر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة ، ومن أمَّر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة ، لقوله تعالى : { وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } [ النور : من الآية 54 ] وقال أبو عَمْرو بن نجيد : كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل .
فأولياء الله تعتبر بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة ، ويعرفون بنور الإيمان والقرآن ، وبحقائق الإيمان الباطنة ، وشرائع الإسلام . فإذا كان الشخص مباشراً للنجاسات والخبائث التي يحبها الشيطان ، أو يأوي إلى الحمامات والحشوش التي تحضرها الشياطين ، أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير وآذان الكلاب التي هي خبائث وفواسق ، أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي يحبها الشيطان ، أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات ، ويتوجه إليها ، أو يسجد إلى ناحية شيخه ولا يخلص الدين لرب العالمين ، أو يلابس الكلاب أو النيران ، أو يأوي إلى المزابل والمواضع النجسة ، أو يأوي إلى المقابر ، لا سيما إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى أو المشركين ، أو يكره سماع القرآن وينفر عنه ، ويقدم عليه سماع الأغاني والأشعار ، ويؤثر سماع مزامير الشيطان على سماع كلام الرحمن ؛ فهذه علامات أولياء الشيطان ، لا علامات أولياء الرحمن - انتهى ملخصاً - .
والكتاب مما يلزم الوقوف عليه ، ومطالعته بالحرف ، ففيه من الفوائد ما لا يوجد في غيره ، فرحم الله جامعه ، وجزاه خيراً . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ 65 ] .
{ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما كان يسمعه من تآمرهم في إيصال مكروه له ، ومجاهرتهم بتكذيبه ، ورميه بالسحر ونحوه ، أي : لا تتأثر بقولهم ، وشاهد عز الله وقهره ، لتنظر إليهم بنظر الفناء وترى أعمالهم وأقوالهم ، وما يهددونك به كالهباء ، فمن شاهد قوة الله وعزته يرى كل القوة والعزة له ، لا قوة لأحد ولا حول . فقوله تعالى : { إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّه } [ النساء : من الآية 139 ] ، تعليل للنهي على طريقة الاستئناف ، كأنه قيل : ما لي لا أحزن ؟ فقيل : إن العزة لله ، أي : الغلبة والقهر في ملكته وسلطانه لا يملك أحد شيئاً منها أصلاً ، لا هم ولا غيرهم ، فهو يغلبهم ، وينصرك عليهم : { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } [ المجادلة : من الآية 21 ] { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا } [ غافر : من الآية 51 ] ، وقوله : { هُوَ السَّمِيعُ } أي : لأقوالهم فيك ، فيجازيهم : { الْعَلِيمُ } أي : لما ينبغي أن يفعل بهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } [ 66 ] .
{ أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ } أي : كلهم تحت ملكته وتصرفه وقهره ، لا يقدرون على شيء بغير إذنه ومشيئته وإقداره إياهم . وقوله : { وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } تأكيد لما سبق من اختصاص العزة به تعالى ، لتزيد سلوته صلوات الله عليه ، وبرهان على بطلان ظنونهم وأقوالهم المبنية عليها . وفي ( ما ) من قوله : { وَمَا يَتَّبِعُ } وجهان :
أحدهما : أنها نافية ، و ( شركاء ) مفعول ( يتبع ) ، ومفعول ( يدعون ) محذوف لظهوره . أي : ما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ، شركاء في الحقيقة ، وإن سموها شركاء لجهلهم ، فاقتصر على أحدهما لظهور دلالته على الآخر . ويجوز أن يكون ( شركاء ) مفعول ( يدعون ) ، ومفعول ( يتبع ) محذوف لانفهامه من قوله : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ } أي : ما يتبعون يقيناً ، إنما يتبعون ظنهم الباطل .
والوجه الثاني : أنها استفهامية ، منصوبة بـ : ( يتبع ) و ( شركاء ) مفعول ( يدعون ) أي : أي : شيء يتبع هؤلاء ؟ أي : إذا كان الكل تحت قهره وملكته فما يتبعون من دون الله ليس بشيء ، ولا تأثير له ولا قوة ، إن يتبعون إلا ما يتوهمونه في ظنهم ، ويتخيلونه في خيالهم ، وما هم إلا يُقَدِّرُونَ وجودَ شيء لا وجود له في الحقيقة .
ثم نبه تعالى على انفراده بالقدرة الكاملة ، والنعمة الشاملة ، ليدل على توحده سبحانه باستحقاق العبادة ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } [ 67 ] .
{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } أي : خلقه لكم لتستقروا فيه من نصبكم وكلالكم : { وَالنَّهَارَ مُبْصِراً } أي : مضيئاً ، تبصرون فيه مطالب أرزاقكم ومكاسبكم .
قيل : الآية من باب الاحتباك . والتقدير : جعل الليل مظلماً لتسكنوا فيه ، والنهار مبصراً لتتحركوا لمصالحكم ، فحذف من كل من الجانبين ما ذكر في الآخر ، اكتفاء بالمذكور عن المتروك . وإسناد الإبصار إلى النهار مجازي ، كقوله :
~*ما ليل المحب بنائم*.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : لجعل المذكور : { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أي : هذه الآيات ونظائرها سماع تدبر واعتبار .
ثم شرع في نوع آخر من أباطيلهم بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ 68 ] .
{ قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ } تنزيه له عن أن يجانس أحداً ، أو يحتاج إليه ، وتعجب من كلمتهم الحمقاء : { هُوَ الْغَنِيُّْْ } أي : الذي وجوده بذاته ، وبه وجود كل شيء ، فكيف يماثله شيء ؟ ! ومن له الوجود كله فكيف يجانسه شيء ؟ ! والجملة علة لتنزيهه ، وإيذان بأن اتخاذ الولد من أحكام الحاجة ، إما للتقوي به ، أو لبقاء نوعه : { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ } تقرير لغناه ، أي : فهو مستغن بملكه لهم عن اتخاذ أحد منهم ولداً : { إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا } أي : ما عندكم من حجة بهذا القول الباطل [ في المطبوع : الباطن ] توضيح لبطلانه ، بتحقيق سلامة ما أقيم من البرهان الساطع عن المعارض ، أي : ليس بعد هذا حجة تسمع . والمراد تجهيلهم ، وأنه لا مستند لهم سوى تقليد الأوائل ، وإتباع جاهل لجاهل .
تنبيه :
دلت الآية على تسمية البرهان سلطاناً .
قال الإمام ابن القيم في " مفتاح دار السعادة " : إنه سبحانه سمى الحجة العلمية سلطاناً . قال ابن عباس رضي الله عنه : كل سلطان في القرآن فهو حجة ، وهذا كقوله تعالى : { إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا } يعني ما عندكم من حجة بما قلتم ، إن هو إلا قول على الله بلا علم . وقوله تعالى : { إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } [ النجم : من الآية 23 ] ، يعني ما أنزل بها حجة ولا برهاناً ، بل هي من تلقاء أنفسكم وآبائكم . وقوله تعالى : { أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ } يعني حجة واضحة . إلا موضعاً واحداً اختلف فيه ، وهو قوله : { مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ } ، فقيل : المراد به القدرة والملك ، أي : ذهب عني مالي وملكي ، فلا مال لي ولا سلطان ، قيل : هو على بابه ، أي : انقطعت حجتي وبطلت ، فلا حجة لي . والمقصود : أن الله سبحانه سمى علم الحجة سلطاناً ؛ لأنها توجب تسلط صاحبها واقتداره ، فله بها سلطان على الجاهلين ، بل سلطان العلم أعظم من سلطان اليد ، ولهذا ينقاد الناس للحجة ما لا ينقادون لليد ، فإن الحجة تنقاد لها القلوب ، وأما اليد فإنما ينقاد لها البدن . فالحجة تأسر القلب وتقوده ، وتذل المخالف وإن أظهر العناد والمكابرة ، فقلبه خاضع لها ذليل ، مقهور تحت سلطانها . بل سلطان الجاه إن لم يكن معه علم يساس به ، فهو بمنزلة سلطان السباع والأسود ونحوها ، قدرة بلا علم ولا رحمة ، بخلاف سلطان الحجة ، فإنه قدرة بعلم ورحمة وحكمة ، ومن لم يكن له اقتدار في علمه ، فهو إما لضعف حجته وسلطانه ، وإما لقهر سلطان اليد والسيف له ، وإلا فالحجة ناصرة نفسها ، ظاهرة على الباطل قاهرة له - انتهى - .
{ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } توبيخ وتقريع على جهلهم . قال الزمخشري : لما نفى عنهم البرهان جعلهم غير عالمين ، فدل على أن كل قول لا برهان عليه لقائله ، فذاك جهل وليس بعلم .
وقال أبو السعود : فيه تنبيه على أن كل مقالة لا دليل عليها ، فهي جهالة ، وأن العقائد لا بد لها من برهان قطعي ، وأن التقليد بمعزل من الاعتداد به .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } [ 69 - 70 ] .
{ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ } باتخاذ الولد ، وإضافة الشركاء : { لاَ يُفْلِحُونَ } أي : لا يفوزون بمطلوب أصلاً
{ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا } مبتدأ خبره محذوف ، أي : لهم تمتع يسير في الدنيا : { ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } أي : الموت : { ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } أي : بسبب كفرهم . والآية لبيان أن ما يتراءى من فوزهم بالحظوظ الدنيوية بمعزل من أن يكون من جنس الفلاح . كأنه قيل : كيف لا يفلحون وهم في غبطة ونعيم ؟ فقيل : هو متاع يسير في الدنيا ، وليس بفوز بالمطلوب .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ } [ 71 ] .
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ } أي : خبره الذي له شأن وخطر ، مع قومه المغتريين بعزة الأموال والأعوان ، ليتدبروا ما فيه من صحة توكله على الله ، ونظره إلى قومه ، بعين عدم المبالاة بهم ، وبمكايدهم ، وزوال ما تمتعوا به من النعيم ، بإغراقهم بالطوفان ، فلعلهم يكفون عن كفرهم ، وتلين أفئدتهم ويستيقنون صحة نبوتك : { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ } أي : شق وثقل : { عَلَيْكُم مَّقَامِي } أي : مكاني ، يعني نفسه ، أو مكثي بين أظهركم مدداً طوالاً ، ألف سنة إلا خمسين عاماً ، أو قيامي بالدعوة إلى الله ، من رؤيتكم ذلتي بقلة الأموال والأعوان ، ومنع عزتكم بهما عن الانقياد لي : { وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ } أي : بحججه وبراهينه ، أو تخويفي بعذابه : { فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ } أي : عمدت في دفع ما قصدتموني به : { فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ } أي : شأنكم في إهلاكي : { وَشُرَكَاءَكُمْ } يعني آلهتهم وهو تهكم بهم ، أو نظراءهم في الشرك . و ( الواو ) بمعنى مع ، أو معطوف على ( أمركم ) بحذف المضاف ، أي : وأمر شركائكم ، أو منصوب بمحذوف ، أي : ادعوا شركاءكم ، وذلك لأن ( أجمع ) يتعلق بالمعاني ، يقال : ( أجمع الأمر إذا نواه وعزم عليه ) : { ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } أي : مستوراً ، من : ( غمه إذا ستره ) بل مكشوفاً تجاهرونني به : { ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ } أي : أدوا إلي ذلك الأمر الذي تريدون بي : { وَلاَ تُنظِرُونِ } أي : ولا تمهلوني .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [ 72 ] .
{ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } أي : عن الإيمان بما جئتكم به : { فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ } أي : جُعْلٍ على عظتكم ، أي : فلا باعث لكم على التولي والنفور : { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ } أي : ما ثوابي على التذكير إلا عليه تعالى ، يثيبني به ، آمنتم أو توليتم : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } . أي : المستسلمين له وحده بالإيمان به ، ونبذ كل معبود دونه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ } [ 73 ] .
{ فَكَذَّبُوهُ } يعني نوحاً بما جاءهم عناداً ، بعد أن قامت عليهم الحجة ، فحقت عليهم كلمة العذاب ، وأرسل عليهم الطوفان { فَنَجَّيْنَاهُ } أي : من الغرق : { وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ } أي : خلفاء عن المغرَقين وعمَّار الأرض : { وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ } أي : منتهى أمرهم . والمراد بـ ( المنذرين ) المكذبين . والتعبير به إشارة إلى إصرارهم عليه ، حيث لم يفد الإنذار فيهم . وقد جرت السنة الربانية أن لا يهلك قوم بالاستئصال إلا بعد الإنذار ؛ لأن من أنذر فقد أعذر . وفي الأمر بالنظر تهويل لما جرى عليهم ، وتحذير لمن كذب الرسول صلى الله عليه وسلم وتسلية له .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ } [ 74 ] .
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد نوح : { رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ } يعني هوداً وصالحاً وإبراهيم ولوطاً وشعيباً { فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ } أي : الآيات الدالة على صدقهم ، المفيدة هدايتهم : { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } أي : بسبب تعودهم تكذيب الحق ، وتمرنهم عليه ؛ لأنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية ، مكذبين بالحق فحالهم بعدها كحالهم قبلها ، هذا على أن ضمير ( كانوا ) و ( كذبوا ) لقوم الرسل . وجاز عود ضمير ( كانوا ) لقوم الرسل ، و ( كذبوا ) لقوم نوح . أي : ما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح أي : بمثله { كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ } أي : المجاوزين مقتضيات حقائق الأشياء بخذلانهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } [ 75 ] .
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم } أي : من بعد هؤلاء الرسل : { مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا } يعني التسع : { فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } أي : كفاراً ذوي آثام عظام .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } [ 76 ] .
{ فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا } يعني الآيات المزيحة للشك : { قَالُواْْ } يعني من فرط التمرد : { إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } أي : تلبيس ظاهر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ } [ 77 ] .
{ قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ } أي : على وجه لم يترك لكم شبهة مقالتكم الحمقى من أنه سحر ، فحذف المحكي المقول لدلالة الكلام عليه . ثم قال : { أَسِحْرٌ هَذَا } استفهام إنكار من قول موسى لا من قولهم . فهو مستأنف لإنكار كونه سحراً ، وتكذيب لقولهم ، وتوبيخ لهم على ذلك إثر توبيخ . وليس : { أَسِحْرٌ هَذَا } مقولهم ، لأنهم بتوا القول بأنه سحر ، فكيف يستفهمون عنه ؟ - كذا قيل - .
ولا أرى مانعاً من أن يكون مقولهم ، والهمزة وسطت مزيدة لتكون مؤكدة لما قبلها من الاستفهام ، ومن لطائفها الاحتراس عن إيهام فاعلية سحر لـ : { جَاءكُمْ } بادئ بدء ، وأسلوب القرآن فوق كل أسلوب . أو الهمزة ومدخولها من مقولهم لقولهم الذي بتوا عليه أمرهم . ثم رأيت الناصر في " الانتصاف " أشار لهذا حيث قال :
وأما القراءة الثانية - يعني قراءة ( آالسحر ) - على الاستفهام ففيها - والله أعلم - إرشاد إلى أن قول موسى أولاً : { أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا } حكاية لقولهم ، ويكون : { أَسِحْرٌ هَذَا } هو الذي قالوه ، ولا يناقض ذلك حكاية الله عنهم أنهم قالوا : { إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } وذلك إما لأنهم قالوا الأمرين جميعاً ، بدؤوا بالاستفهام على سبيل الاستهتار بالحق والاستهزاء بكونه حقاً ، والاستهزاء بالحق إنكار له ، بل قد يكون الاستفهام في بعض المواطن أبتَ من الإخبار . ألا ترى أنهم يقولون في قوله : أأنت أم سالم ، أبلغ في البت من قوله مخبراً ( أنت أم سالم ) ثم ثنوا بصيغة الخير الخاصة ببت الإنكار ، ودعوى أنه سحر ، فقالوا : { إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } فحكى الله تعالى عنهم هذا القول الثاني ، ووبخهم موسى على قولهم الأول ، ومعنى العبارتين ومآلهما واحد . وإما ألا يكونوا قالوا سوى : { أَسِحْرٌ هَذَا } على سبيل الإنكار حسبما تقدم ، فحكاه الله تعالى عنهم بمآله ؛ لأنه يعلم أن مرادهم من الاستفهام الإنكار ، وبتَّ القول أنه سحر ، وحكى موسى عليه السلام قولهم بلفظه ، ولم يؤده بعبارة أخرى . وحكاية القصص المتلوة في الكتاب العزيز بصيغ مختلفة ، لا محمل لها سوى أنها معان منقولة إلى اللغة العربية ، فيترجم عنها بالألفاظ المترادفة المتساوية المعاني .
وحاصل هذا البحث أن قول موسى عليه السلام : { أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا } إنما حكى فيه قولهم ، ويرشد إلى ذلك أنه كافأهم عند ما أتوا بالسحر بمثل مقالتهم مستفهماً ، فقال : ما جئتم به آالسحر ( على قراءة الاستفهام ) قرضاً بوفاء على السواء ، والذي يحقق لك أن الاستفهام والإخبار في مثل هذا المعنى مؤداهما واحد أن الله تعالى حكى قول موسى عليه السلام : { مَا جِئْتُمْ بِهِ } [ السحر ] على الوجهين : الخبر والاستفهام ، على ما اقتضته القراءتان وهو قول واحد ، دل أن مؤدى الأمرين واحد ، ضرورة صدق الخبر .
وإنما حمل الزمخشري على تأويل القول بالتعييب أو إضمار مفعول ( تقولون ) استشكال وقوع الاستفهام محكياً بالقول ، والمحكى عنهم الخبر ، وقد أوضحنا أن لا تنافر ولا تنافي بين الأمرين .
قال الناصر : فشد بهذا الفضل عرى التمسك ، فإنه من دقائق النكت ، والله الموفق .
وقوله تعالى : { وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ } من كلام موسى قطعاً ، أتى به تقريراً لما سبق ؛ لأنه لما استلزم كون الحق سحراً ، كون من أتى به ساحراً ، أكد الإنكار السابق وما فيه من التوبيخ والتجهيل بذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } [ 78 ] .
{ قَالُواْ } أي : لموسى : { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا } أي : لتصرفنا : { عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا } يعنون عبادة الأصنام : { وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء } أي : الملك والسلطان : { فِي الأَرْضِ } أي : أرض مصر : { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } أي : لتبقى عزتنا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } [ 79 ] .
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ } أي : حفظاً لعزته ، ودفعاً لتعزز موسى : { ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } أي : ماهر في فنه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ } [ 80 ] .
{ فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ } أي : من أصناف السحر ، قال بعضهم : جواز الأمر بالسحر لدحضه ، وكذلك طلب إيراد الشُّبه لتُحل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ } [ 81 ] .
{ فَلَمَّا أَلْقَواْ } أي : عصيهم وحبالهم ليضاهوا معجزة موسى بعصاه : { قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ } أي : هو السحر ، لا ما جئتكم به مما سميتموه سحراً : { إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ } أي : سيمحقه بالكلية بمعجزتي ، فلا يبقى له أثر : { إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ } أي : بل يسلط عليه الدمار .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } [ 82 ] .
{ وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } أي : يثبته ويقويه بها : { وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } أي : ذلك . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ } [ 83 ] .
{ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ } معطوف على مقدر معلوم من مواقع أخر ، أي : { فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } [ الشعراء : 45 ] ، الخ . قيل : الضمير من : { قَوْمِهِ } لفرعون ، وهم ناس يسير من قومه ، آمنوا به سراً ، والأظهر أنهم قوم موسى ، وهم بنو إسرائيل الذين كانوا بمصر من أولاد يعقوب ، فهم الذين آمنوا به : { عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ } أي : يعذبهم : { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ } أي : مستكبر : { فِي الأَرْضِ } أي : أرض مصر : { وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ } أي : المتجاوزين الحد بالظلم والفساد ، وبادعاء الربوبية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } [ 84 ] .
{ وَقَالَ مُوسَى } أي : تطميناً لقلوبهم ، وإزالة للخوف عنهم : { يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ } أي : فإليه أسندوا أمركم في العصمة مما تخافون ، وبه ثقوا فإنه كافيكم { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : من الآية 3 ] ، وقوله : { إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } أي : مخلصين وجوهكم له .
قال القاشاني : جعل التوكل من لوازم الإسلام ، وهو إسلام الوجه لله تعالى ، أي : إن كمل إيمانكم ويقينكم ، بحيث أثر في نفوسكم ، وجعلها خالصة لله ؛ لزم التوكل عليه . وإن أريد ( الإسلام ) بمعنى الانقياد ، كان شرطاً في التوكل ، لا ملزوماً له ، وحينئذ يكون معناه : إن صح إيمانكم يقيناً فعليه توكلوا ، بشرط أن تكونوا منقادين . كما تقول : إن كرهت هذا الشجر فاقلعه إن قدرت - انتهى - .
وقال الكرخي : قوله تعالى : { إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } أي : منقادين لأمره ، فقوله : { فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ } جواب الشرط الأول ، والشرط الثاني وهو : { إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } شرط في الأول ، وذلك أن الشرطين متى لم يترتبا في الوجود ، فالشرط الثاني شرط في الأول . ولذلك لم يجب تقديمه على الأول . قال الفقهاء : المتأخر يجب أن يكون متقدماً ، والمتقدم يجب أن يكون متأخراً ، مثاله : قول الرجل لامرأته : إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيداً ، فمجموع قوله : ( إن دخلت الدار فأنت طالق ) مشروط ( إن كلمت زيداً ) والمشروط متأخر عن الشرط ، وذلك يقتضي أن يكون المتأخر في اللفظ متأخراً في المعنى ، فكأنه يقول لامرأته : حال ما كلمت زيداً إن دخلت الدار فأنت طالق ، فلو حصل هذا المعلق قبل إن كلمت زيداً لم يقع الطلاق . فقوله تعالى : { إِن كُنتُمْ آمَنتُم } الخ يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطاً لأن يصيروا مخاطبين بقوله : { إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ } فكأنه تعالى يقول للمسلم حال إسلامه : إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكل . والأمر كذلك ، لأن الإسلام عبارة عن الاستسلام وهو الانقياد لتكاليف الله ، وترك التمرد والإيمان عبارة عن معرفة القلب بأن واجب الوجود لذاته واحد ، وما سواه محدث تحت تدبيره وقهره . وإذا حصلت هاتان الحالتان فعند ذلك يفوض العبد جميع أموره إليه تعالى ، ويحصل في القلب نور التوكل على الله تعالى . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ 85 ] .
{ فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي : موضع فتنة لهم ، أي : عذاب يعذبوننا ويفتنوننا عن ديننا . قال الحاكم : دلت على حسن السؤال بالنجاة من الظلمة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [ 86 ] .
{ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } أي : من كيدهم ، ومن شؤم مشاهدتهم ، والعبودية لهم .
قال القاضي : وفي تقديم التوكل على الدعاء تنبيه على أن الداعي ينبغي له أن يتوكل أولاً لتجاب دعوته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [ 87 ] .
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً } أي : اتخذا بها بيوتاً مباءة تلازمونها لتجتمع كلمتكم في شأنكم : { وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } أي : مصلى : { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } أي : في بيوتكم ، قال بعضهم : كانوا خائفين ، وفي ذلك دلالة على جواز كتم الصلاة عند الخوف { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } أي : بالنصرة في الدنيا ، والجنة في العقبى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ } [ 88 ] .
{ وَقَالَ مُوسَى } أي : يدعو الله تعالى في إذهاب عزة فرعون : { رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً } أي : ما يتزين به من اللباس والمراكب والحلي : { وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ } أي : بالتكبر عليك وعلى آياتك ورسلك . وقوله : { لِيُضِلُّوا } متعلق بـ : { آتَيْتَ } ، وأعيد : { رَبَّنَا } توكيداً ، و ( لام ) : { لِيُضِلُّوا } لام العاقبة والصيرورة . أي : آتيتهم النعم المذكورة ليشكروها ويتبعوا سبيلك ، فكان عاقبة أمرهم أنهم كفروا وضلوا عن سبيلك ، وتجويز جعل اللام للعلة استدراجاً ، أو لام الدعاء عليهم بذلك - توسع في غير متسع ، ونبو عن لطف المساق وسره فإن موسى لما رأى القوم مصرين على الكفر والعناد أخذ في الدعاء عليهم ، ومن حق من يدعو على الغير أن يقدم بين يدي دعائه ما دفعه واضطره إلى الابتهال ؛ لتحق إجابته ، ولذا بين أولاً ضلالهم عن السبيل بكفرانهم للنعم ، وعتوهم على المحسن بها تمهيداً لقوله : { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ } أي : أهلكها ؛ لأنهم يستعينون بنعمتك على معصيتك . وأصل ( الطمس ) محو الأثر والتغير : { وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ } أي : اجعلها قاسية ، واطبع عليها ، حتى لا تنشرح للإيمان : { فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ } أي : يعاينوه ويوقنوا به ، بحيث لا ينفعهم ذلك إذ ذاك ، وقوله : { فَلاَ يُؤْمِنُواْ } جواب للدعاء ، أو دعاء بلفظ النهي .
قال ابن كثير : هذه الدعوة كانت من موسى عليه السلام غضباً لله ولدينه على فرعون وملئه الذين تبين له أنه لا خير فيهم ، ولا يجيء منهم شيء . كما دعا نوح عليه السلام فقال : { رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً } [ نوح : 26 - 27 ] ، ولهذا استجاب تعالى لموسى فيهم هذه الدعوة التي شركه فيها أخوه هارون كما أخبر بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [ 89 ] .
{ قَالَ } تعالى : { قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا } أي : على أمري ، ولا تعجلا ، فإن مطلوبكما كائن في وقته لا محالة : { وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } أي : في الاستعجال أو عدم الوثوق بوعده تعالى ، أو يعني فرعون وقومه بقوله سبحانه .
ثم أشار تعالى إلى إجابته دعائهما في إهلاك فرعون وقومه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [ 90 ] .
{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ } أي : لحقهم : { فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً } أي : لأجل البغي عليهم والاعتداء : { حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ } يرجو النجاة من الغرق : { آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } وذلك أن موسى عليه السلام لما رغب إلى فرعون أن يطلق الإسرائيليين من عبوديته ، ويأذن لهم بالسراح إلى فلسطين ليعبدوا ربهم ، أبى وتمرد ، فضربه الله وقومه بالآيات التسع ، كما تقدم في سورة ( الأعراف ) فأذن لموسى وشعبه بالخروج من مصر ، فارتحل بنو إسرائيل جميعاً بمواشيهم وأثاثهم ، ثم ندم فرعون وملؤه على إطلاقهم من خدمتهم ، فاشتد فرعون وجنوده في أثرهم ليردهم ، فأدركهم وهم نازلون عند البحر ، فرهب الإسرائيليون من مقدمه ، وضجوا إلى موسى فسكن روعهم ، وأعلمهم ما يشاهدون من نجاتهم ، وهلاك عدوهم ، وأوحى تعالى إلى موسى أن يضرب بعصاه البحر ، فانشق ، ودخل بنو إسرائيل في وسطه على اليبس الذي جعله تعالى آية كبرى ، ونفذوا منه إلى شاطئه ، وتبعهم فرعون وجنوده ، حتى إذا توسطوا البحر ، مد موسى يده على البحر ، فارتد إلى ما كان عليه ، وغرق فرعون بمن معه . ولما أحس بالغرق ، لاذ إلى الإيمان يبغي النجاة ، فقيل له :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } [ 91 ] .
{ آلآنَ } أي : تؤمن وتسلم لتنجو من الغرق : { وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ } أي : كفرت بالله من قبل الغرق : { وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } أي : الضلال والإضلال ، والظلم والعتو .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } [ 92 ] .
{ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ } أي : نخرجك من البحر بجسدك الذي لا روح فيه ، فرآه بنو إسرائيل ملقى على شاطئ البحر ميتاً ، وفي التعبير عن إخراجه من القعر إلى الشاطئ ( بالتنجية ) التي هي الخلاص من المكروه تهكم واستهزاء { لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ } من الأمم الكافرة : { آيَةً } أي : عبرة من الطغيان والتمرد على أوامره تعالى { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } أي : لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها .
تنبيه :
قال الشهاب الخفاجي في " العناية " : لا يقبل إيمان المرء حال اليأس والاحتضار ، كما يدل عليه صريح الآية : { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } [ غافر : من الآية 85 ] ، وأما ما وقع في " الفصوص " من صحة إيمانه ، وأن قوله : { آمَنَتْ بهِ بَنُوا إِسْرائيلَ } إيمان بموسى عليه السلام ؛ فمخالف للنص والإجماع ، وإن ذهب إلى ظاهره الجلال الدواني رحمه الله . وله رسالة فيه طالعتها ، وكنت أتعجب منها حتى رأيت في " تاريخ حلب " للفاضل الحلبي أنها ليست له ، وإنما هي لرجل يسمى محمد بن هلال النحوي . وقد ردها القزويني ، وشنع عليه وقال : إنما مثاله مثال رجل خامل الذكر ، لما قدم مكة بال في زمزم ليشتهر بين الناس ، كما في المثل ( خالف تعرف ) وفي " فتاوى ابن حجر رحمه الله " أن بعض فقهائنا كفَّر من ذهب إلى إيمان فرعون ، ولذا قيل : إن المراد بفرعون ( في كلامه ) النفس الأمارة ، وهذا كله مما لا حاجة إليه - انتهى كلام الشهاب - .
أقول : ذكر شيخنا العطار رحمه الله في كتابه " الفتح المبين في رد اعتراض المعترض على محي الدين " خاتمة في بطلان ما نسب إلى هذا العارف من القول بصحة إيمان فرعون ونجاته ، قال رحمه الله :
ليعلم أنه شاع فيما بين أهل العلم بأن حضرة محي الدين رضي الله عنه قال بإيمان فرعون ونجاته ، والحال أنه ليس كذلك ، كما ستطلع عليه من النقل عنه ، بحث في صحة القول بإيمان فرعون ونجاته وعدمها ، حيث الأخذ من الآيات القرآنية ، فكان ذلك منه مجرد بحث في الدليل لا غير ، وما كان هذا قولاً بإيمانه قطعياً ، وقد بنى مسألة نجاة فرعون وإيمانه على أصلين من أصوله ، وافقه عليهما جم غفير من العلماء الأعلام .
الأصل الأول - في بيان حقيقة إيمان اليأس : فإيمان اليأس عنده ، وعند جم غفير من العلماء هو ما كان عند مشاهدة العذاب البرزخي ، كحال المحتضر لا غير ، ففي هذه الحالة لا ينفع الإيمان ، وهذا متفق عليه بين أهل العلم . وذهب قوم إلى أن إيمان اليأس ما كان عند رؤية العذاب دنيوياً أو أخروياً ، فالإيمان في أي : حالة من الحالتين لا ينفع . وعند هذا العارف وجماعة : أن رؤية العذاب الدنيوي لا تمنع صحة الإيمان ، وإن أوجبت الهلاك في الدنيا ، فإن سنة الله قاضية بأن يتحتم وقوع الهلاك الدنيوي لمن رأى هذا العذاب وإن آمن ونجا من عذاب الآخرة ، إلا قوم يونس ، فإنه تعالى نجاهم منه ، كما ذكره تعالى .
الأصل الثاني - من أصوله رضي الله عنه : أن من حقت عليه الكلمة لا يتلفظ بمادة الإيمان بقصد الإيمان بقصد الإيمان ، وإن تلفظ بها لا يقصده ، فلا بد من تكذيب الله تعالى له ، ولو بالحكاية عنه كما قال تعالى : { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ } [ البقرة : من الآية 14 ] ، وكما قال : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا } [ الحجرات : من الآية 14 ] ، فكذبهم تعالى في دعواهم . وهذا الأصل مأخوذ من قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } [ يونس : 96 - 97 ] ، فكلمة : { حَتَّى } للغاية ، فغيَّا تعالى إيمانهم إلى حين رؤية العذاب الأليم ، وهو الأخروي لا غير ، فإنه هو الذي يوصف بالأليم . ونفى تعالى عنهم وقوع الإيمان قبل ذلك ، فوقوعه منهم قبله قصداً محال بنص هذه الآية .
إذا تقرر هذان الأصلان ، فلنرجع إلى ما قاله هذا الحبر في شأن فرعون في " الفتوحات المكية " وفي " الفصوص " . فالذي ذكره في " الفتوحات " عن ذكره طبقات أهل النار فيها : هو أن فرعون من أهل النار ، حيث قال في هذا البحث : كفرعون وأضرابه ، فخص له ولهم من النار طبقة مخصوصة يؤبدون فيها . وأشار إلى كفره في موضع آخر منها عند ذكره هذا الحديث ، وهو : < أعوذ بك منك > قال : استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقام الاتحاد الذي كان عليه فرعون وهو قوله : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } [ النازعات : من الآية 24 ] ، وعلى هذه الإشارة وما تقدم يكون فرعون كافراً عنده ، كما هو عند عامة الخلق ، وعلى هذا لا إشكال ولا كلام .
بقي القول على إيمان فرعون ونجاته من حيث الدليل ، وهو مجرد بحث مع الذين ذهبوا إلى كفره قطعياً ، وليس لهم هذا القطع ، لما أن الدليل القرآني يعطي خلافه ، قال تعالى : { فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الغَرَقُ قالَ آمَنْتُ } الآية ، فذكر فرعون هنا الإيمان ثلاث مرات : اثنتان في الجناب الإلهي ، والأخيرة تعمه ، والإيمان بموسى حيث قال : { وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } ولم يكن مسلماً إلا من جمع بين الإيمان بالله وبرسوله .
ثم قال شيخنا رحمه الله : وفي " الفتوحات " و " الفصوص " ما حاصله : أن إيمانه لم يكن عند اليأس ، لا على مذهبه ومذهب من وافقه ، ولا على مذهب غيره . أما الأول فلأن إيمانه كان عند رؤية العذاب الدنيوي ، لا عند احتضاره ، والإيمان عند رؤية العذاب الدنيوي لا يعد يأساً عنده وعند جمع . وأما على الثاني ، فلأن قول فرعون ما كان عند يأسه من الحياة الدنيوية ، فإنه علم أن من آمن بما آمن به قوم موسى كان له المشاركة في الطريق اليبس التي كانت للمؤمنين ، وقد شاركهم في إيمانهم فكان الغالب على ظنه أو يقينه المعاملة الخاصة بالمؤمنين والمشاهدة له ، وما علم سنة الله في خلقه بأنه لا بد من الهلاك الدنيوي لمن كانت حالته كذلك ، والهلاك في الدنيا لا يدل على عدم النجاة في الآخرة ، وهو ظاهر . وعلى هذا فإيمانه لم يكن حال اليأس على المذهبين ، فالأول بيقين ، والثاني بحسب ما يظهر ، ولا بعد بأنه كان طامعاً في النجاة بيقين ، لعموم المشاركة . هذا وإن مذهب هذا العارف الخاص به هو البناء على اتساع الرحمة الإلهية ، والأخذ بالظواهر من الآيات ، ومع ذلك فلما ذكر البحث في شأن إيمان فرعون ونجاته ، مع من قال بخلافهما ، قال : إن الوقف في شأن إيمان فرعون هو الأسلم ، لما شاع عند الخلق عامة من شقائه ، وهذا منه صريح في أنه كان باحثاً في إيمانه ونجاته من ظاهر اللفظ القرآني بحثاً لا جازماً بهما - انتهى ملخصاً - .
ثم أنبأ تعالى عما أنعم به على بني إسرائيل إثر نعمة إنجائهم من عدوهم وإهلاكه وإخلالهم بشكرها وأداء حقوقها بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ 93 ] .
{ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ } أضيف المكان إلى الصدق ؛ لأن عادة العرب إذا مدحت شيئاً ، أن تضيفه إلى الصدق ، تقول : رجل صدق . وقدم صدق . وقال تعالى : { مُدْخَلَ صِدْق } [ الإسراء : من الآية 80 ] ، و : { مُخْرَجَ صِدْقٍ } [ الإسراء : من الآية 80 ] ، إذا كان عاملاً في صفة صالحاً للغرض المطلوب منه ، كأنهم لاحظوا أن كل ما يظن به فهو صادق .
وقوله تعالى : { وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ } وهي المنِّ والسلوى في التيه وبعده ، مما فاض عليهم من الأرض التي تدر لبناً وعسلاً : { فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ } أي : ما تفرقوا على مذاهب شتى في أمر دينهم ، إلا من بعد ما جاءهم العلم الحاسم لكل شبهة ، وهو ما بين أيديهم من الوحي الذي يتلونه . أي : وما كان حقهم أن يختلفوا ، وقد بيَّن الله لهم ، وأزاح عنهم اللبس . ونظير هذه الآية في النعي عليهم اختلافهم قوله تعالى : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } [ البينة : 4 ] ، وقوله جل ذكره : { وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ آل عِمْرَان : من الآية 19 ] ، وفيه أكبر زاجر وأعظم واعظ عن الاختلاف في الدين ، والتفرق فيه .
{ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : فيميز المحق من المبطل بالإنجاء والإهلاك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [ 94 ] .
{ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ } من قصص موسى وفرعون وبني إسرائيل : { فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ } أي : التوراة : { مِن قَبْلِكَ } فإن عندهم على نحو ما أوحي إليك : { لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } أي : الشاكين في أنه منزل من عنده .
تنبيه :
لا يفهم من هذه الآية ثبوت شك له صلوات الله عليه ، فإن صدق الشرطية لا يقتضي وقوعها ، كقولك . ( إن كانت الخمسة زوجا ، كانت منقسمة بمتساويين ) والسر في مثلها تكثير الدلائل وتقويتها ، لتزداد قوة اليقين ، وطمأنينة القلب ، وسكون الصدر ، ولذا أكثر تعالى في كتابه من تقرير أدلة التوحيد والنبوة والرجعة . أو السر هو الاستدلال على تحقيق ما قص ، والاستشهاد بما في الكتاب المتقدم ، وأن القرآن مصدق لما فيه ، أو وصف الأحبار بالرسوخ في العلم ، بصحة ما أنزل إلى رسول الله صلوات الله عليه ، تعريضاً بالمشركين ، أو تهييج الرسول صلوات الله عليه ، وتحريضه ليزداد يقيناً ، كما قال الخليل صلوات الله عليه : { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : من الآية 260 ] ، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال حين نزول الآية : < لا أشك ولا أسأل > أخرجه عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة - أو الخطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد غيره ، على حد : ( إياك أعني واسمعي يا جارة ) وفيه من قوة التأثير في القلوب ما لا مزيد عليه ، بمثابة ما لو خاطب سلطان عاملاً له على بلدته بحضور أهلها بوصاياه وأوامره الرهيبة ، فيكون ذلك أفعل في النفوس ، أو الخطاب لكل من يسمع . أي : إن كنت أيها السامع في شك مما نزلنا على لسان نبينا إليك . . . وأيد هذا بقوله تعالى بعدُ : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي } [ يونس : من الآية 104 ] ، فكأنه أشار إلى أن المذكور في أول الآية رمزاً هم المذكورون بعدُ صراحة ، وفي الآية تنبيه على أن كل من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها بمقادحة العلماء المنبهين على الحق
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ 95 ] .
{ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } هو أيضاً من باب التهييج والإلهاب والتثبيت ، وأجرى بعضهم ها هنا قاعدة فقال : النهي عن كل شيء إن كان لمن تلبس به فمعناه تركه ، وإن كان لغيره فمعناه الثابت على عدمه ، وألا يصدر منه في المستقبل كما هنا - انتهى - أو يأتي الوجهان الأخيران قبل هنا أيضاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ } [ 96 - 97 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ } أي : قوله الكريم ، وأمره بعذابهم ، كما قال : { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ السجدة : من الآية 13 ] { لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ } أي : كدأب آل فرعون وأضرابهم . أي : وعند رؤية العذاب يرتفع التكليف فلا ينفعهم إيمانهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [ 98 ] .
{ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ } أي : فهلا كانت قرية من القرى المهلكة آمنت قبل معاينة العذاب ، ولم تؤخر إيمانها إلى حين معاينته ، كما فعل فرعون ، وفي هذا التخصيص معنى التوبيخ { فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا } بأن يقبله الله منها ، ويكشف عنها بسببه العذاب { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ } أي : لكنَّ قومه : { لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } أي : إلى آجالهم .
هذا ، وقد جوز أن تكون الجملة في معنى النفي ، لتضمن حرف التحضيض معناه ، فيكون الاستثناء متصلاً ؛ لأن المراد من القرى أهاليها ، كأنه قال : ما آمن أهل قرية من القرى العاصية فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس . ويؤيده قراءة الرفع على البدل .
روي أن يونس عليه السلام بعثه الله إلى نينوى ، من أرض الموصل ، وكانت مدينة عظيمة ، مسيرة ثلاثة أيام ، وهي قصبة بلاد الآشوريين ، بانيها آشور أو نينوس بن نمرود ، وكلاهما من أولاد بني نوح ، وكانت من أقدم مدن العالم وأشهرها ، والمؤرخون الوثنيون يصفونها بأن ارتفاع أسوراها كان مائة قدم ، ودائراتها ستون ميلاً ، وهي محصنة بألف وخمسمائة قلعة ، طول الواحدة منهن مائتا قدم . قيل : أهلها كانوا يبلغون نحو ستمائة ألف . وخلفاء نمرود في هذه المدينة دأبوا على تحسينها ، وتوسيع بنائها ، وقويت شوكة الآشوريين في تلك الأيام حتى خضع لهم أكثر ممالك آسيا ، فتجبروا وتمردوا ، وكانوا كلما ظفروا في غاراتهم يستغرقون في النهب والمظالم ، فأرسل الله تعالى إليهم يونس عليه السلام ، واسمه في العبرية ( يونان ) ، لينذرهم بأنهم لكفرهم واقترافهم الموبقات سيحل بهم العذاب بعد أربعين يوماً فتنقلب بهم نينوى . ثم خرج يونس من بينهم فأصحر ، فلما فقدوه وبلغ أميرهم قول يونس ؛ تخوفوا نزول العذاب الذي أُنذروا به ، فقذف الله في قلب أميرهم الإيمان والتوبة ، فنزل عن عرشه ، وألقى عنه حلته ، والتف بمسح ، وجلس على التراب ، وآمن بالله ، وآمن أهل نينوى كلهم ، وأمر أن ينادى بنينوى بالصيام ، فلا يذوق أحد طعاماً ولا شراباً ، ولا ترعى البهائم ولا تسقى ، وأن يلبس الناس المسوح ، صغيرهم وكبيرهم ، وأن يجتمعوا في صعيد واحد ، يجهرون بتسبيح الله والإنابة إليه ، والاستغفار له ، والتوبة عما أسلفوا من الظلم والجرم ، وأن يحضروا أطفالهم وذويهم ومواشيهم معهم . ففعلوا وتضرعوا إلى الله واستكانوا لجلاله ، وسألوه أن يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم . فلما علم منهم الصدق من قلوبهم ، والتوبة والندامة على ما مضى منهم ، كشف عنهم العذاب ورحمهم . وسيأتي في ( سورة الصافات ) زيادة في نبأ يونس عما هنا .
تنبيهات :
الأول : يروي بعض المفسرين هنا أن العذاب تدلى عليهم وغشيهم ، وجعل يدور على رؤوسهم ، وغامت السماء غيماً أسود ، ونحو هذا . وليس في التنزيل بيان لهذا ، ولا في صحيح السنة ، وكأن من زعمه فهمه من لفظ : { كَشَفْنَا } ، ولا صراحة فيه .
قال القرطبي : معنى : { كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ } أي : العذاب الذي وعدهم يونس أن ينزل أنه بهم لا أنهم رأوه حينئذ ، فلا خصوصية ، أي : كما روي عن قتادة أن هذا الكشف لم يكن لأمة من الأمم إلا لقوم يونس خاصة ، فإنه لم يقع بهم العذاب ، وإنما رأوا علامته .
الثاني : في الآية إشارة إلى أنه لم يوحد قرية آمنت بأجمعها بنبيها المرسل إليها من سائر القرى ، إثر بعثته وإنذاره ، إلا قوم يونس ، والبقية دأبهم التكذيب ، وكلهم أو أكثرهم كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] .
وفي الحديث الصحيح : < عرض علي الأنبياء ، فجعل النبي يمر ومعه الفئام من الناس ، والنبي معه الرجل ، والنبي معه الرجلان ، والنبي ليس معه أحد > .
الثالث : أخرج ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه قال : إن الحذر لا يرد القدر ، وإن الدعاء يرد القدر ، وذلك في كتاب الله : { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا } الآية .
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال : الدعاء يرد القضاء ، وقد نزل من السماء . اقرؤوا إن شئتم : { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ } الآية .
وأخرج ابن مردويه عن عائشة مرفوعاً ، في قوله تعالى : { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ } قال عليه السلام : < دعوا > - كذا في " الإكليل " - .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ 99 ] .
{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ } أي : بحيث لا يشذ عنهم أحد : { جَمِيعاً } أي : مجتمعين على الإيمان ، لا يختلفون فيه . أي : لكنه لا يشاؤه لمخالفته للحكمة التي بنى عليها أساس التكوين والتشريع : { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ } أي : على ما لم يشأ الله منهم : { حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } أي : ليس ذلك عليك ولا إليك ، كقوله تعالى : : { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ البقرة : من الآية 272 ] ، وفيه تسلية له صلى الله عليه وسلم وترويح لقلبه مما كان يحرص عليه من إيمانهم ، كقوله تعالى : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] ، { فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : من الآية 8 ] .
ولذا قال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } [ 100 ] .
{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ } أي : بإرادته وتوفيقه ، فلا تجهد نفسك في هداها ، فإنه إلى الله : { وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ } أي : الخذلان : { عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } أي : حججه وأدلته لما على قلوبهم من الطبع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [ 101 ] .
{ قُلِ انظُرُواْ } أي : تفكروا : { مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : من الآيات الدالة على توحيده وكمال قدرته . قال السيوطي : في الآية دليل على وجوب النظر والاجتهاد ، وترك التقليد في الاعتقاد { وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } أي : وما تنفع الآيات والرسل المنذرون ، أو الإنذارات عمن لا يؤمن ، و ( ما ) استفهامية أو نافية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ } [ 102 ] .
{ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ } أو وقائعه تعالى فهم كما يقال : ( أيام العرب ) لوقائعها ، من التعبير بالزمان عما وقع فيه ، كما يقال : ( المغرب ) للصلاة الواقعة فيه { قُلْْ } أي : تهديداً لهم : { فَانتَظِرُواْ } أي : ما هو عاقبتكم { إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ } . وقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ } [ 103 ] .
{ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا } عطف على محذوف معلوم من السياق ، كأنه قيل : نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا المرسلة إليهم : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ } أي : من كل شدة العذاب . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ 104 ] .
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ } إنما أوثر الخطاب باسم الجنس - أعني الناس - مصدراً بحرف التنبيه ؛ تعميماً للتبليغ وإظهاراً لكمال العناية بشأن ما بلغ إليهم ، وعبر عما هم فيه من القطع بالشك ؛ للإيذان بأنه أقصى ما يمكن خطوره ، وإلا فإن وضوح صحته ، وبرهان حقيته أوضح من الشمس في رائعة النهار . وقدم ترك عبادة الغير على عبادته تعالى ؛ إيذاناً بمخالفتهم من أول الأمر ، وفي تخصيص التوفي بالذكر متعلقاً بهم - ما لا يخفى من التهديد ؛ إذ لا شيء أشد عليهم من الموت { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : بأعلى مراتب التوحيد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ 105 ] .
{ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } أي : مائلاً عن الأديان الباطلة .
لطيفتان :
الأولى : إقامة الوجه للدين كناية عن توجيه النفس بالكلية إلى عبادته تعالى ، والإعراض عما سواه ، فإن من أراد أن ينظر إلى شيء نظر استقصاء يقيم وجهه في مقابلته ، بحيث لا يلتفت يميناً ولا شمالاً ؛ إذ لو التفت بطلت المقابلة ، فلذا كني به عن صرف العمل بالكلية إلى الدين ، فالمراد بالوجه : الذات . أي : اصرف ذاتك وكليتك للدين ، فاللام صلة .
الثانية : جملة ( وأن أقم ) عطف على ( أن أكون ) وجاز حكاية صلة ( أن ) بصيغة الأمر ، لأنه لا فرق في صلة الموصول الحرفي بين الطلب وبين الخبر ، لأن القصد وصلها بما يتضمن معنى المصدر ، وهو يحصل بكل فعل . وقال بعضهم : إن هنا فعلاً مقدراً . أي : وأوحي إلي أن أقم ، وأنه يجوز أن تكون ( أن ) مصدرية ومفسرة ، لأن في المقدر معنى القول دون حرفه ، ثم رجحه بأنه يزول فيه قلق العطف ، ويكون الخطاب في وجهك في محله . ورد بأن الجملة المفسرة لا يجوز حذفها ، ولا قلق في هذا العطف ، وأمر الخطاب سهل ؛ لأنه لملاحظة المحكي ، والأمر المذكور معه ، كذا في " العناية " .
وقوله تعالى : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } تهييج وحث له على عبادة الله تعالى ، ومنع لغيره ، كما تقدم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ } [ 106 ] .
{ وَلاَ تَدْعُ } أي : لا تعبد : { مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ } أي : لا في الدنيا ولا في الآخرة إن عبدته : { وَلاَ يَضُرُّكَ } إن لم تعبده : { فَإِن فَعَلْتَ } أي : عبدته : { فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ } أي : الضارين لنفسك ، أو بوضع الأمر في غير موضعه : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : من الآية 13 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ 107 ] .
{ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } لما نهى تعالى عن عبادة الأوثان ، ووصفها بأنها لا تنفع ولا تضر ، بين أنه سبحانه هو الضار النافع ، الذي إن أصاب بضر لم يقدر على كفه إلا هو وحده ، دون كل أحد ، كيف بالجماد الذي لا شعور به ؟ ! وكذلك إن أراد بخير لم يرد أحد ما يريده من فضله وإحسانه ، فكيف بالأوثان ؟ ! فهو الحقيقي إذاً بأن توجه إليه العبادة دونها .
لطائف :
قيل : ذكر المس في أحدهما ، والإرادة في الثاني ، للإشارة إلى أنهما متلازمان ، فما يريده يصيبه ، وما يصيبه لا يكون إلا بإرادته ، لكنه صرح في كل منهما بأحد الأمرين ؛ إشارة بالذات ، فلذا لم يعبر فيه بالإرادة .
وقيل : قصد الإيجاز ، فذكر في كل من الفقرتين المتقابلتين ما يدل على إرادة مثله في الأخرى لاقتضاء المقام تأكيد كل من الترغيب والترهيب ، وهو نوع من البديع يسمى احتباكاً .
قال أبو السعود : على أنه قد صرح بالإصابة حيث قيل ( يصيب به ) إظهاراً لكمال العناية بجانب الخير ، كما ينبئ عنه ترك الاستثناء فيه ، أي : يصيب بفضله الواسع المنتظم لما أرادك به من الخير .
روى ابن عساكر عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < اطلبوا الخير دهركم كله ، وتعرضوا لنفخات ربكم ، فإن لله نفخات من رحمته ، يصيب بها من يشاء من عباده ، واسألوه أن يستر عوراتكم ، ويؤمن روعاتكم > . ورواه عن أبي هريرة بمثله .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ } [ 108 ] .
{ قُلْ } أي : لأولئك الكفرة الفجرة ، بعد ما بلّغتهم دلائل التوحيد والنبوة والمعاد ، وأنذرتهم : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ } يعني القرآن : { فَمَنِ اهْتَدَى } أي : بالإيمان به { فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ } أي : منفعة اهتدائه لها خاصة { وَمَن ضَلَّ } أي : بالكفر به : { فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } أي : فوبال الضلال عليها . والمعنى : لم يبق لكم بمجيء الحق عذر ، ولا على الله حجة ، فمن اختار الهدى وإتباع الحق فما نفع إلا نفسه ، ومن آثر الضلال فما ضر إلا نفسه ، وفيه تنزيه ساحة الرسالة عن شائبة غرض عائد إليه عليه السلام من جلب نفع أو ضر ، كما يلوح به إسناد المجيء إلى الحق من غير إشعار بكون ذلك بواسطته ، - أفاده أبو السعود - .
{ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ } أي : بحفيظ موكول إليَّ أمركم ، وإنما أنا بشير ونذير .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } [ 109 ] .
{ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ } أي : في التبليغ ، وإن لم يهتدوا به { وَاصْبِرْ } أي : على أذاهم في الدعوة : { حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ } أي : لك بالنصرة عليهم والغلبة : { وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } وقد حكم وشاء قتلهم وأسرهم يوم بدر ، وله الأمر من قبل ومن بعد .(/)
سورة هود
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [ 1 ] .
{ الَر } تقدم الكلام على مثلها في أول سورة البقرة فليتذكر .
{ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } أي : نظمت نظماً رصيناً محكماً معجزاً ، وأثبتت دائمة على حالها لا تتبدل ولا تتغير ولا تفسد ، محفوظة عن كل نقص وآفة : { ثُمَّ فُصِّلَتْ } أي : لأنواع من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص ، كما تفصل القلائد بالفرائد . أو جعلت فصولاً سورة سورة ، وآية آية ، أو فصل فيها ما يحتاج إليه العباد ، أي : بيَّن ولخَّص .
قيل : ( ثم ) هنا للتراخي في الحكم ، أي : الرتبة ، أو التراخي بين الإخبارين ، لا للتراخي في الوقت ، لأن التفصيل والإحكام صفتان لشيء واحد ، لا تنفك إحداهما عن الأخرى ، فليس بينهما ترتب وتراخ ، وهذا التكلف على أن ( ثم ) تقتضي الترتيب ، وقد خالف قوم في اقتضائها إياه ، كما حكاه في " المغني " .
{ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } أي : إحكامها وتفصيلها من لدن حكيم بناها على علم وحكمة ، لا يمكن أحسن منها ، وأشد إحكاماً ، وخبير بتفاصيلها على ما ينبغي في النظام الحكمي في تقديرها وتوقيتها وترتيبها - قاله القاشاني - .
قال الزمخشري : وفيه طباق حسن ؛ لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها ، أي : بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } [ 2 ] .
{ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ } قال القاشاني : أي : تنطق عليكم بلسان الحال والدلالة ، ألا تشركوا بالله في عبادته ، وخصوه بالعبادة .
وقال الزمخشري : { أَلِّا } مفعول له ، أي : لئلا . أو ( أن ) مفسرة ، لأن في تفصيل الآيات معنى القول ، كأنه قيل : قال لا تعبدوا إلا الله ، أو أمركم ألا تعبدوا إلا الله .
وقوله تعالى : { إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } كلام على لسان الرسول ، أي : إنني أنذركم ، من الحكيم الخبير ، عقاب الشرك وتبعته ، وأبشركم منه بثواب التوحيد وفائدته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } [ 3 ] .
{ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ } أي : من الشرك : { ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } لطاعة . أو المعنى : ثم أخلصوا التوبة واستقيموا عليها ، كقوله : { ثُمَّ اسْتَقَامُوا } [ فصلت : من الآية 30 ] و [ الأحقاف : من الآية 13 ] .
{ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي : يطول نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية ، من عيشة واسعة ونعم متتابعة إلى وقت وفاتكم ، كقوله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [ النحل : من الآية 97 ] .
{ وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } أي : ويعط كل ذي فضل في العمل الصالح في الدنيا أجره ، وثواب فضله في الآخرة .
{ وَإِن تَوَلَّوْاْ } أي : تتولوا عن التوحيد والتوبة إليه : { فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } وهو يوم القيامة .
قال القاشاني : ( كبير ) أي : شاق عليكم ، وهو يوم الرجوع إلى الله ، القادر على كل شيء ، أي : يوم ظهور عجزكم وعجز ما تعبدون ، بظهوره تعالى في صفة قادريته ، فيقهركم بالعذاب ، ولذا قال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ 4 - 5 ] .
{ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
ثم بيَّن تعالى إعراضهم بجسمهم أيضاً ، إلى الإشارة إلى توليهم بقلبهم ، بقوله : { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } أي : يزورون عن الحق واستماعه بصدورهم : { لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ } أي : في قلوبهم : { وَمَا يُعْلِنُونَ } أي : يجهرون بأفواههم : { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : بما في ضمائر القلوب . ونظير ما حكي هنا عن مشركي مكة من كراهتهم لاستماع كلامه تعالى ؛ ما قاله تعالى عن قوم نوح : { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً } [ نوح : 7 ] ، وما ذكرناه هو أظهر ما تحمل عليه الآية - والله أعلم - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ 6 ] .
{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا } أي : ما تعيش به ، وإنما جيء بـ : ( على ) اعتباراً لسبق الوعد به ، وتحقيقاً لوصوله إليها البتة ، بطريق التكفل الشبيه بالإيجاب : { وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا } أي : مسكنها في الدنيا ، أو في الصلب : { وَمُسْتَوْدَعَهَا } أي : بعد الموت ، أو في الرحم : { كُلٌّ } أي : من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها : { فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } أي : مسطور في كتاب عنده تعالى ، مبين عن جميع ذلك .
ثم بيَّن تعالى عظيم قدرته وتكوينه وإبداعه بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ 7 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } من الأحد إلى الجمعة : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء } أي : ما كان تحته قبل خلق السماوات والأرض وارتفاعه فوقها إلا الماء . وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السماوات والأرض - كذا في " الكشاف " - .
قال القاضي : أي : لم يكن بينهما حائل ، لا أنه كان موضوعاً على متن الماء .
قال قتادة : ينبئنا تعالى في هذه الآية كيف كان بدء خلقه قبل أن يخلق السماوات والأرض .
روى الإمام أحمد عن أبي رَزين - واسمه : لقيط بن عامر العُقَيْلي - قال : قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه ؟ قال : < كان في عماء ، ما تحته هواء ، وما فوقه هواء ، ثم خلق العرش بعد ذلك > ورواه الترمذي وحسنه وقال : قال أحمد : يريد بالعماء أنه ليس معه شيء .
وقال البيهقي في كتاب " الأسماء والصفات " : ( العماء ) ممدود كما رأيته مقيداً كذلك ، ومعناه السحاب الرقيق ، أي : فوق سحاب ، مدبراً له ، وعالياً عليه . كما قال تعالى : { ءأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء } [ الملك : من الآية 16 ] ، يعني من فوق السماء . وقوله : ( ما فوقه هواء ) أي : ما فوق السحاب هواء . وكذلك قوله : ( وما تحته هواء ) أي : ما تحت السحاب هواء .
وقد قيل : إن ذلك ( العمى ) مقصور ، بمعنى لا شيء ثابت ، لأنه مما عمي عن الخلق ، فكأنه قال في جوابه : كان قبل أن يخلق الخلق ولم يكن شيء غيره . و ( ما ) فيهما نافية . أي : ليس فوق العمى الذي هو لا شيء موجود هواء ، ولا تحته هواء ؛ لأنه إذا كان غير موجود فلا يثبت له هواء بوجه . انتهى ملخصاً .
وقال ابن الأثير : العماء في اللغة السحاب الرقيق ، وقيل الكثيف ، وقيل هو الضباب ، وفي الحديث حذف ، أي : أين كان عرش ربنا ؟ دل عليه قوله تعالى : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء } .
وحكى بعضهم أنه العمى المقصور . قال : وهو كل أمر لا يدركه الفَطِن .
وقال أبو عبيد : إنما تأولنا هذا الحديث على كلام العرب المعقول عنهم ، وإلا فلا ندري كيف كان ذلك العماء ! .
قال الأزهري : فنحن نؤمن به ولا نكيف صفته .
وقوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } أي : أخلصه ، متعلق بـ ( خلق ) أي : خلقهن لحكمة بالغة ، وهي أن يجعلهن مساكن لعباده ، وينعم عليهم بفنون النعم ، فيعبدوه وحده ، ويتسابقوا في العمل الذي يرضيه . ولما كان الابتلاء والاختبار لمن تخفى عليه عاقبة الأمور ؛ قيل : إنه هنا تمثيل واستعارة ، فشبه معاملته تعالى عباده في خلق المنافع لهم ، وتكليفهم شكره ، وإثابتهم إن شكروا ، وعقوبتهم إن كفروا ، بمعاملة المختبر مع المختبَر ، ليعلم حاله ويجازيه ، فاستعير له الابتلاء على سبيل التمثيل ( ليبلوكم ) موضع ( ليعاملكم ) ويصح أن يكون مجازاً مرسلاً ، لتلازم العلم والاختبار . أي : خلق ذلك ليعلم ، أي : ليظهر تعلق علمه الأزلي بذلك .
قال القاشاني : جعل غاية خلق الأشياء ظهور أعمال الناس . أي : خلقناهم لنعلم العلم التفصيلي التابع للوجود الذي يترتب عليه الجزاء : { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } فإن علم الله قسمان : قسم يتقدم وجود الشيء في اللوح ، وقسم يتأخر وجوده في مظاهر الخلق ، والبلاء الذي هو الاختبار هو هذا القسم - انتهى - .
ونحو هذه الآية قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } [ ص : من الآية 27 ] ، وقوله : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُون فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } [ المؤمنون : 115 - 116 ] ، وقوله سبحانه : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .
وقوله تعالى : { وَلَئِن قُلْت } أي : لأهل مكةَ : { إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ } أي : مُحْيَون : { مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا } أي : القول بالبعث ، أو القرآن المتضمن لذكره : { إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي : مثله في الخديعة والبطلان .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ } [ 8 ] .
{ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } أي : جماعة من الأوقات محصورة . والعذاب هو عقاب الآخرة ، أو عذاب الدنيا ببدر ، أو هلاك المستهزئين الذين ماتوا قبل بدر : { لَّيَقُولُنَّ } أي : استهزاء : { مَا يَحْبِسُهُ } أي : عنا { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم } أي : دار ونزل بهم : { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ } أي : العذاب الذي كانوا به يستعجلون .
لطيفة :
( الأمة ) تستعمل في الكتاب والسنة في معان متعددة ، فيراد بها الأمد كما هنا ، وقوله في يوسف : { وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة } [ يوسف : من الآية 45 ] ، والإمام المقتدى به ، كقوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ } [ النحل : من الآية 120 ] ، والملة والدين كآية : { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةِ } [ الزخرف : من الآية 22 - 23 ] ، والجماعة كآية : { وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُون } [ القصص : من الآية 23 ] ، وقوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : من الآية 36 ] - أفاده ابن كثير - .
ثم أخبر سبحانه عن الإنسان وما فيه من الصفات الذميمة ، إلا من رحم الله من عباده المؤمنين ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } [ 9 ] .
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً } أي : نعمة : { ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ } أي : قنوط عن عَوْدِهَا ، قطوع رجاءه من فضله تعالى ، من غير صبر ولا تسليم لقضائه : { كَفُورٌ } عظيم الكفران لما سلف له من التقلب في نعمة الله ، كأنه لم ير خيراً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } [ 10 ] .
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي } أي : المصائب التي ساءتني : { إِنَّهُ لَفَرِحٌ } أي : أشر بطر : { فَخُورٌ } أي : على الناس بما أذاقه الله من نعمائه ، قد شغله الفرح والفخر عن الشكر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [ 11 ] .
{ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا } أي : على الضراء ، إيماناً واستسلاماً لقضائه : { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } أي : في الرخاء والشدة ، شكراً لآلائه ، سابقها ولاحقها : { أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ } أي : لذنوبهم بتلك الشدة : { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } أي : على الصبر والأعمال الصالحة .
تنبيه :
قال القاشاني قدس سره : ينبغي للإنسان أن يكون في الفقر والغنى ، والشدة والرخاء ، والمرض والصحة ، واثقاً بالله ، متوكلاً عليه ، لا يحتجب عنه بوجود نعمة إلا بسعيه وتصرفه في الكسب ، ولا بقوته وقدرته في الطلب ولا بسائر الأسباب والوسائط ؛ لئلا يحصل اليأس عند فقدان تلك الأسباب والكفران والبطر والأشر عند وجودها ، فيبعد بها عن الله تعالى ، وينساه فينساه الله ، بل يرى الإعطاء والمنع منه دون غيره . فإن أتاه رحمة من صحة أو نعمة شكره أولاً برؤية ذلك منه ، وشهود المنعم في صورة النعمة ، وذلك بالقلب ثم بالجوارح ، باستعمالها في مراضيه وطاعته ، والقيام بحقوقه تعالى فيها ، ثم باللسان بالحمد والثناء متيقناً بأنه القادر على سلبها ، محافظاً عليها بشكرها ، مستزيداً إياها ، اعتماداً على قوله تعالى : { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُم } [ إبراهيم : من الآية 7 ] .
قال أمير المؤمنين عليه السلام : إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر . ثم إن نزعها منه فليصبر ولا يتأسف عليها ، عالماً بأنه هو الذي نزع دون غيره ؛ لمصلحة تعود إليه ، فإن الرب تعالى كالوالد المشفق في تربيته إياه ، بل أرأف وأرحم ، فإن الوالد محجوب عما يعلمه تعالى ، إذ لا يرى إلا عاجل مصالحه وظاهرها ، وهو العالم بالغيب والشهادة ، فيعلم ما فيه صلاحه عاجلاً وآجلاً ، راضياً بفعله ، راجياً إعادة أحسن ما نزع منها إليه ، إذ القانط من رحمته بعيد منه ، لا يستوسع رحمته لضيق وعائه ، محجوب عن ربوبيته ، لا يرى عموم فيض رحمته ودوامه . ثم إذا أعادها لم يفرح بوجودها ، كما لم يحزن بفقدانها ، ولا يفخر بها على الناس ، فإن ذلك من الجهل ، وظهور النفس ، وإلا لعلم أن ذلك ليس منه وله ، وبأي سبب يسوغ له فخر بما ليس له ومنه ؟ بل لله ومن الله .
وقوله تعالى : { إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ } استثناء من ( الإنسان ) أي : هذا النوع يؤوس كفور ، فرح فخور ، في الحالين ، إلا الذين صبروا مع الله واقفين معه ، في حالة الضراء والنعماء والشدة والرخاء ، كما قال عمر رضي الله عنه : الفقر والغنى مطيتان ، لا أبالي أيهما أمتطي . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [ 12 ] .
{ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } أي : بتلاوته عليهم ، وتبليغه إليهم { أَن يَقُولُواْ } أي : مخافة أن يقولوا ، تعامياً عن تلك البراهين التي لا تكاد تخفى صحتها على أحد ممن له أدنى بصيرة ، وتمادياً في العناد على وجه الاقتراح
{ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ } أي : هلا أنزل عليه ما اقترحنا من الكنز والملائكة ، زعماً أن الرسول متبوع ، لا بد له من الإنفاق على أتباعه ، ولا يتأتى مع عدم سلطنته إلا بإلقاء الكنز عليه ، أو مجيء ملك معه يصدق برسالته ، فقال تعالى : { إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ } أي : ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك ، غير مبال بما صدر منهم من الاقتراح : { وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } أي : فيحفظ ما يقولون ويجازيهم عليه ، فكل أمرك إليه ، وبلغ وحيه بقلب منشرح ، غير مبال بهم .
لطائف :
الأولى : قال القاشاني : لما لم يقبلوا كلامه صلى الله عليه وسلم بالإرادة ، وأنكروا قوله بالاقتراحات الفاسدة ، وقوله بالعناد والاستهزاء ، ضاق صدره ، ولم ينبسط للكلام ، إذ الإرادة تجذب الكلام ، وقبول المستمع يزيد نشاط المتكلم ، ويوجب بسطه فيه ، وإذا لم يجد المتكلم محلاً قابلاً لم يتسهل له ، وبقي كرباً عنده ، فشجعه الله تعالى بذلك ، وهيج قوته ونشاطه بقوله : { إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ } ، فلا يخلو إنذارك من إحدى الفائدتين : إما رفع الحجاب أن ينجع فيمن وفقه الله تعالى لذلك ، وإما إلزام الحجة لمن لم يوفق لذلك ، ثم كل الهداية إليه .
الثانية : لا يخفى أن ( لعل ) للترجي ، وهو وإن اقتضى التوقع ، إلا أنه لا يلزم من توقع الشيء وقوعه ، ولا ترجح وقوعه ؛ لوجود ما يمنع منه وتوقع ما لا يقع منه ، المقصود تحريضه على تركه ، وتهييج داعيته .
وقيل : ( لعل ) هنا للتبعيد لا للترجي ، فإنها تستعمل كذلك ، كما تقول العرب : لعلك تفعل كذا ، لمن لا يقدر عليه . فالمعنى : لا تترك .
وقيل : إنها للاستفهام الإنكاري ، كما في الحديث : < لعلنا أعجلناك > .
وقيل : هي لتوقع الكفار ، فكما تكون لتوقع المتكلم ، وهو الأصل ؛ لأن معاني الإنشاءات قائمة به تكون لتوقع المخاطب أو غيره ، ممن له ملابسة بمعناه كما هنا . فالمعنى : إنك بلغت الجهد في تبليغهم أنهم يتوقعون منك ترك التبليغ لبعضه - كذا في " العناية " - .
الثالثة : إنما عدل عن ( ضيق ) الصفة المشبهة إلى ( ضائق ) اسم الفاعل ؛ ليدل على أنه ضيق عارض ، غير ثابت ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفسح الناس صدراً . وكذا كل صفة مشبهة إذا قصد بها الحدوث تحول إلى فاعل ، فيقولون في سيد : سائد ، وفي جواد : جائد ، وفي سمين : سامن ، قال :
~بمنزلة أما اللئيم فسامن بها وكرام الناس باد شحوبها
وظاهر كلام أبي حيان أنه مقيس . وقيل إنه لمشابهة ( تارك ) . ومنه يعلم أن المشاكلة قد تكون حقيقة - كذا في " العناية " - .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 13 ] .
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } أي : ما يوحى إليك ، وفي ( أم ) وجهان منقطعة مقدرة بـ ( بل والهمزة الإنكارية ) أي : بل أيقولون . ومتصلة والتقدير : أيكتفون بما أوحينا إليك ، وهو ما في الإعجاز ، أم يقولون ليس من عند الله .
{ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ } أي : للاستعانة : { مَنِ اسْتَطَعْتُم } أي : من الإنس والجن ، وقوله : { مِّن دُونِ اللّهِ } متعلق بـ : { ادْعُواْ } ، أي : متجاوزين الله تعالى : { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي : في أني افتريته ، فأنتم عرب فصحاء مثلي ، لا سيما وقد زاولتم أساليب النظم والنثر والخطب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِ لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ 14 ] .
{ فَإِ لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ } أي : بما لا يعلمه غيره من نظم معجز للخلق ، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليها : { وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } أي : واعلموا عند ذلك أن لا إله إلا الله ، وأن توحيده واجب ، والإشراك به ظلم عظيم { فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } أي : مبايعون بالإسلام ، منقادون لتوحيد الله ، وتصديق رسوله بعد هذه الحجة القاطعة ؟ .
لطائف :
الأولى : قيل : تُحُدُّوا أولاً بعشر سور ، فلما عجزوا تُحُدُّوا بسورة . وذهب المبرد إلى أن الأمر بالعكس ، ووجهه بأن ما وقع أولاً هو التحدي بسورة مثله في البلاغة والاشتمال على ما اشتمل عليه من الإخبار عن المغيبات والأحكام وأخواتها ، وهي الأنواع التسعة المنظومة في قول بعضهم :
~ألا إنما القرآن تسعة أحرف سأنبيكها في بيت شعر بلا ملل
~حلال حرام مُحكم مُتشابه بشير نذير قصة عظة مثل
فلما عجزوا عن ذلك أمرهم بالإتيان بعشر سور مثله في النظم ، وإن لم تشتمل على ما اشتمل عليه ، ويشهد له توصيفها بـ ( مفتريات ) .
وقيل : إن التحدي بسورة وقع بعد إقامة البرهان على التوحيد وإبطال الشرك ، فتعين أن يكون لإثبات النبوة بإظهار معجزة ، وهي السورة الفذة . والتحدي بعشر وقع بعد تعنتهم واستهزائهم ، واقتراحهم آيات غير القرآن ؛ لزعمهم أنه مفترى ، فمقامه يناسبه التكثير ؛ لأنه أمر مفترى عندهم ، فلا يعسر الإتيان بكثير مثله - كذا في " العناية " - .
الثانية - ضمير ( لكم ) للنبي صلى الله عليه وسلم وجمع للتعظيم ، كما في قول من قال :
~وإن شئت حرمت النساء سواكم
أو له وللمؤمنين ؛ لأنهم أتباعه في الأمر بالتحدي . وفيه تنبيه لطيف على أن حقهم ألا ينفكوا عنه عليه الصلاة والسلام ، ويناصبوا معه لمعارضة المعارضين ، كما كانوا يفعلونه في الجهاد وإرشاد إلى أن ذلك مما يفيد الرسوخ في الإيمان والطمأنينة في الإيقان ، ولذلك رتب عليه قوله عز وجل : { فاعلموا } الخ . وجوز أن يكون الخطاب في الكل للمشركين من جهته عليه السلام ، داخلاً تحت الأمر بالتحدي ، والضمير في ( لم يستجيبوا ) لـ ( من استطعتم ) أي : فإن لم يستجب لكم سائر من تجأرون إليهم في مهماتكم إلى المعاونة ؛ فاعلموا أن ذلك خارج عن دائرة قدرة البشر ، وأنه منزل من خالق القُوى والقُدَر - كذا في أبي السعود - .
ثم بيَّن تعالى وعيد من آثر الحياة الدنيا على الآخرة - وهم الكفار - بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } [ 15 ] .
{ مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } أي : نوصل إليهم جزاء أعمالهم فيها من الصحة والرزق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 16 ] .
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا } أي : وحبط في الآخرة ما صنعوه ، أن لم يكن لهم ثواب عليه . وجوز تعلق الظرف بـ ( صنعوا ) والضمير للدنيا . كما عاد عليه في قوله : { نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } [ هود : من الآية 15 ] ، { وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : كان عملهم في نفسه باطلاً ؛ لأنه لم يعمل لغرض صحيح .
ونظير هذه الآية قوله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً } [ الإسراء : 18 - 20 ] ، وقوله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] .
لطيفة :
في إعراب ( باطل ) وجهان :
الأول : كونه خبراً مقدماً ، و ( ما كانوا ) مبتدأ مؤخراً ، و ( ما ) مصدرية أو موصولة ، والكلام من عطف الجمل .
والثاني : كونه عطفاً على الأخبار قبله ، أي : أولئك باطل ما كانوا يعملون .
و : { مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } فاعل بـ ( باطل ) ورجح هذا بقراءة زيد بن علي رضي الله عنهما ، ( وَبَطَلَ ) ماضياً معطوفاً على ( حَبِطَ ) .
ثم أشار تعالى إلى صفة المؤمنين في مقابلة أولئك بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ 17 ] .
{ أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } أي : برهان نير ، عظيم الشأن ، يدل على حقية ما ثبت عليه من الإسلام ، وهو القرآن : { وَيَتْلُوهُ } أي : يتبعه : { شَاهِدٌ مِّنْهُ } أي : من القرآن نفسه ، يشهد له بكونه من عند الله تعالى ، وهو إعجازه . وفسرت ( البينة ) أيضاً بالإسلام ، سماه بينة لغاية ظهوره ، إذ هو دين الفطرة ، قبل تدنيسها برجس الوثنية و ( الشاهد ) بالقرآن ، فالضمير للرب تعالى { وَمِن قَبْلِهِ } أي : القرآن : { كِتَابُ مُوسَى } وهو التوراة ، أي : ويتلو بلك البنية من قبله كتاب موسى مقرراً لذلك أيضاً . وقوله تعالى : { إِمَاماً } أي : مقتدى به في الدين : { وَرَحْمَةً } أي : نعمة عظيمة على المنزل إليهم ، تهديهم وتعلمهم الشرائع { أُوْلَئِكَ } أي : من كان على بينة : { يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي : بالقرآن فلهم الجنة { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ } يعني أهل مكة ، ومن ضامهم من المتحزبين على رسول الله صلوات الله عليه : { فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ } أي : شك من القرآن أو من الموعد : { إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي : به ، إما لقصور أنظارهم واختلال أفكارهم ، وإما لعنادهم واستكبارهم .
لطائف :
الأولى : ( مَنْ ) في قوله تعالى : { أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } مبتدأ حذف خبره ، لإغناء الحال عن ذكره ، وهذا سر حذف معادل الهمزة كثيراً . وتقديره : أفمن كان على بينة من ربه كأولئك الذين ذكرت أعمالهم ، وبين مصيرهم ومآلهم - كذا قال أبو السعود - .
وفي " شرح الكشاف " أن التقدير : أمن كان يريد الحياة الدنيا ، على أنها موصول ، فمن كان على بينة من ربه ، والخبر محذوف ؛ لدلالة الفاء ، أي : يعقبونهم أو يقربونهم . والاستفهام للإنكار ، فيفيد أنه لا تقارب بينهم ، فضلاً عن التماثل ، فلذلك صار أبلغ من نحو قوله تعالى : { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ } [ السجدة : 18 ] .
الثانية : قرئ ( كتابَ موسى ) بالنصب عطفاً على الضمير في ( يتلوه ) أي : يتلو القرآن شاهد ممن كان على بينة من ربه ، يعني من آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام ، وشهادتهم على أنه حق لا مفترى ؛ لما يجدونه مكتوباً عندهم ، و ( يتلو ) من التلاوة ، فتكون الآية كقوله تعالى : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ } [ الأحقاف : من الآية 10 ] - والله أعلم - .
الثالثة : ( الأحزاب ) جمع حزب ، والحزب جماعة الناس . ويطلق ( الأحزاب ) على من تألبوا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذا كل نبي قبله ، وهو إطلاق شرعي ، وعليه حمل الأكثر الآية ؛ لكون السورة مكية ، إلا أن اللفظ يتناوله ، وكل من شاكلهم من سائر الطوائف .
وفي صحيح مسلم عن سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، يهودي أو نصراني ، ثم لا يؤمن بي ، إلا دخل النار > . قال سعيد : كنت لا أسمع بحديث من النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه ، إلا وجدت مصداقه في القرآن ، فبلغني هذا الحديث ، فجعلت أقول : أين مصداقه في كتاب الله ؟ حتى وجدت هذه الآية : { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } قال : الملل كلها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } [ 18 ] .
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً } كقوله للملائكة ( بنات لله ) ، وللأصنام ( شفعاء عند الله ) : { أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ } أي : يساقون إليه سوق العبيد المفترين على ملوكهم : { وَيَقُولُ الأَشْهَادُ } من الملائكة والنبيين والجوارح : { هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } تهويل عظيم مما يحيق بهم حينئذ لظلمهم بالكذب على الله . قيل : ولا يبعد أن تكون الآية للدلالة على أن القرآن ليس بمفترى ، فإن من يعلم حال من يفتري على الله كيف يرتكبه ؟ ! كما مر في يونس ، في قوله تعالى : { وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ } [ طه : من الآية 69 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } [ 19 ] .
{ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ } أي : عن دينه القويم ، كل من يقدرون على صده .
{ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } أي : يطلبونها معوجة بالكفر ، أو يصفونها لهم بالاعوجاج : { وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } [ 20 ] .
{ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ } أي : يعجزونه تعالى أن يعاقبهم في الدنيا { وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء } أي : يمنعونهم من عقابه { يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ } لتصامتهم عن الحق وبغضهم له { وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } لتعاميهم عن آيات الله ، وإعراضهم غاية الإعراض ، كما قال الله : { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ الملك : 10 ] . وقال تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ } [ النحل : من الآية 88 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [ 21 ] .
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ } أي : سعادتها وراحتها ، أو بتسليمها لعبادة الأوثان وتركها ما خلقت له من عبادته تعالى ، وهذا الخسران في النفس أعظم خسارة ، كما قيل :
~إذا كان رأس المال عمرك فاحترس عليه من الإنفاق في غير واجب
{ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي : غاب عنهم الآلهة وشفاعتها ، ولم تُجْدِهم شيئاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ } [ 22 ] .
{ لاَ جَرَمَ } أي : حقاً ، أو لا محالة : { أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 23 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ } أي : خشعوا له وحده { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } [ 24 ] .
{ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ } أي : الكفار والمؤمنين : { كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ } مثل للكافر : { وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ } مثل للمؤمنين : { هَلْ يَسْتَوِيَانِ } أي : الفريقان : { مَثَلاً } أي : حالاً وصفة : { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي : بضرب الأمثال وتدبرها .
ثم قص تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم من أنباء الرسل ما يثبت فيه فؤاده ليتسلى بما يشاهده من معاناة الرسل قبله من أممهم ، ومقاساتهم الشدائد من جهتهم ، وليعلم قومه أن رسالته كرسالة من تقدمه ، وأن سنة الله فيهم معروفة ، كما قال تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ] ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [ 25 ] .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ } وكانت امتلأت الأرض من شركهم وشرورهم : { إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي : بأني ، وقرئ بالكسر . أي : فقال إني لكم نذير مبين ، أبين لكم موجبات العذاب ، ووجه الخلاص منه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } [ 26 ] .
{ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ } ( الباء ) مقدرة هنا للتعدية ، و ( لا ) ناهية أي : أرسلناه متلبساً بالنهي عن عبادة غير الله { إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ } أي : إن عبدتم غيره : { عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } أي : مؤلم في الدنيا والآخرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } [ 27 ] .
{ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ } أي : السادة والكبراء { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا } أي : لست بملك ، ولكنك بشر ، فكيف أوحي إليك من دوننا .
قال القاشاني : أي : فقال الأشراف المليئون بأمور الدنيا ، القادرون عليها ، الذين حجبوا بعقلهم ومعقولهم عن الحق : { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا } لكونهم ظاهريين ، واقفين على حد العقل المشوب بالوهم ، المتحير بالهوى ، الذي هو عقل المعاش ، ولا يرون لأحد طوراً وراء ما بلغوا إليه من العقل ، غير مطلعين على مراتب الاستعدادات والكمالات ، طوراً بعد طور ، ورتبة فوق رتبة ، إلى ما لا يعلمه إلا الله ، فلم يشعروا بمقام النبوة ومعناها .
{ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا } أي : فقراؤنا الأدنون منا ؛ إذ المرتبة الرفعة عندهم بالمال والجاه ليس إلا ، كما قال تعالى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } .
وقوله تعالى : { بَادِيَ الرَّأْيِ } أي : بديهة الرأي ؛ لأنهم ضعاف العقول ، عاجزون عن كسب المعاش ، ونحن أصحاب فكر ونظر . قالوا ذلك لاحتجابهم بعقلهم القاصر عن إدراك الحقيقة والفضيلة المعنوية ؛ لقصر تصرفه على كسب المعاش ، والوقوف على حده . وأما أتباع نوح عليه السلام ، فإنهم أصحاب همم بعيدة ، وعقول حائمة حول القدس ، غير ملتفتة إلى ما يلتفت غيرهم إليه ، فلذلك استنزلوا عقولهم واستحقروها .
تنبيه :
( بادي ) قرأه أبو عَمْرو بالهمزة ، والباقون بالياء .
فأما الأول : فمعناه أول الرأي . بمعنى أنه صدر من غير روية وتأمل ، أول وهلة .
وأما الثاني : فيحتمل أن أصله ما تقدم ، فقلبت الياء عن الهمزة تخفيفاً ، ويحتمل أنها أصلية من بدا يبدو ، كعلا يعلوا . والمعنى : ظاهر الرأي دون باطنه ، ولو تؤمل لعرف باطنه ، وهو في المعنى كالأول . وعلى كليهما هو منصوب على الظرفية . والعامل فيه إما ( نراك ) أو ( اتبعك ) .
قال الناصر : زعم هؤلاء أن يحجوا نوحاً بمن اتبعه من وجهين :
أحدهما : أن المتبعين آراءه ليسوا قدوة ولا أسوة .
والثاني : أنهم مع ذلك لم يترووا في إتباعه ، ولا أمعنوا الفكرة في صحة ما جاء به ، وإنما بادروا إلى ذلك من غير فكرة ولا روية ، وغرض هؤلاء ألا تقوم عليهم حجة بأن منهم من صدقة وآمن به - انتهى - .
أي وكلا الوجهين يبرهنان على جهلهم وقصر عقلهم ، أما الأول فلا خفاء في أنه ليس بعارٍ على الحق رذالة من اتبعه ، بل أتباعه هم الأشراف ولو كانوا فقراء ، والذين يأبونه هم الأدنون ولو كانوا أغنياء . وفي الغالب ما يتبع الحق إلا ضعفة الخلق ، كما يغلب على الكبراء مخالفته ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] ولما سأل هرقل ملك الروم ، أبا سفيان عن نعوت النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم فيما قال : أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ فقال : بل ضعفاؤهم ، فقال هرقل : هم أتباع الرسل .
وأما الثاني : فإن البدار لاعتناق الحق من أسمى الفضائل ؛ لأن الحق إذا وضح فلا يبقى للرأي ولا للفكر مجال ، ولا بد من إتباعه حالتئذ لكل ذي فطنة ، ولا يتردد إلا غبي أو عيي ، ولا أجلى مما يدعو إليه الرسل عليهم السلام .
وقوله تعالى : { وَمَا نَرَى لَكُمْ } خطاب لنوح وأتباعه : { عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } أي : تقدم يؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة ؛ لأن الفضل محصور عندهم بالغنى والمال .
قال الزمخشري : كان الأشراف عندهم من له جاه ومال ، كما ترى أكثر المتسمين بالإسلام يعتقدون ذلك ، ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم . ولقد زل عنهم أن التقدم في الدنيا لا يقرب أحداً من الله ، وإنما يبعده ولا يرفعه ، بل يضعه ، فضلاً عن أن يجعله سبباً في الاختيار للنبوة ، والتأهيل لها ، على أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا مرغبين في طلب الآخرة ، مصغرين لشأن الدنيا ، وشأن من أخلد إليها ، فما أبعد حالهم عليهم السلام من الاتصاف بما يبعد من الله ، والتشرف بما هو ضعة عند الله !
وقوله تعالى : { بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } أي : فيما تدعونه من الإصلاح وترتب السعادة والنجاة عليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } [ 28 ] .
{ قَالَ } أي : نوح : { يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْْ } أي : أخبروني : { إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ } أي : برهان : { مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً } أي : هداية خاصة كشفية : { مِّنْ عِندِهِ } أي : فوق طور العقل من العلوم اللدنية ، ومقام النبوة : { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } أي : لاحتجابكم بالظاهر عن الباطن ، وبالخليقة عن الحقيقة : { أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } يعني أنكرهكم على قبولها ، ونقسركم على الاهتداء بها ، وأنتم تكرهونها ولا تختاورنها ، و : { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين } [ البقرة : من الآية 256 ] ، فالاستفهام للإنكار ، أي : لا نقدر على ذلك ، والذي في وسعنا دعوتكم إلى الله ، لا أن نضطركم إليها ، فإن شئتم تلقيها فزكوا نفوسكم ، واتركوا إنكاركم ، وفي طي جوابه عليه السلام حث على تدبرها ، ورد عن الإعراض عنها ، بأسلوب فائق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } [ 29 ] .
{ وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ } أي : على تبليغ التوحيد : { مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ } قال القاشاني : أي : الغرض عندكم من كل أمر ، محصور في حصول المعاش ، وأنا لا أطلب ذلك منكم ، فتنبهوا لغرضي ، وأنتم عقلاء بزعمكم .
ثم لما بيَّن أن لا وجه لكراهة دعوته ؛ إذ لا تنقصهم من دنياهم شيئاً ، فلم يبق إلا خسة أتباعه ، ولا ترتفع إلا بطردهم ، قال : { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ } أي : لأنهم أهل القربة والمنزلة عند الله ، وطردهم قد يكون مانعاً لهم من الإيمان أو لأمثالهم . ولا يفعل ذلك إلا عدو لله مناوئ لأوليائه . ولو كان طردهم سبب إيمانكم ولم يرتدوا ، أخاف من طردهم شكايتهم ، وهذا معنى قوله : { إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } أي : فيخاصمون طاردهم عنده . أو المعنى : إنهم يلاقونه ويفوزون بقربه ، فكيف أطردهم ؟ .
ثم أشار إلى أن خستهم ليست مانعة من الإيمان ؛ إذ لا تلحقهم ، بقوله :
{ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } أي : فتخافون لحوق خستهم ، لمشاركتكم إياهم في الإيمان من جهلكم ؛ إذ الخسيس لا تترك مشاركته في كل شيء . أو تجهلون ما يصلح به المرء للقاء الله ، ولا تعرفون الله ولا لقاءه ؛ لذهاب عقولكم في الدنيا ، أو تسفهون وتؤذون المؤمنين ، وتدعونهم أراذل ، أو تجهلون أنهم خير منكم ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } [ الأنعام : 53 ] .
ثم أشار إلى أن طردهم يستوجب عقابه تعالى بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } [ 30 ] .
{ وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ } أي : فإن أفادكم طردهم تعززكم ، فإني أستوجب قهره بطردهم ، ومن يدفعه عني ؟ وفيه إعلام بأن الطرد ظلم موجب لحلول السخط قطعاً ، وإنما لم يصرح به إشعاراً بأنه غني عن البيان ، لا سيما وقد تقدم ما يلوح به من كرامتهم بإيمانهم بالله واليوم الآخر { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } تتعظون فتنزجروا عما تقولون ؟ .
تنبيه :
قال بعضهم : ثمرة ذلك وجوب تعظيم المؤمن ، وتحريم الاستخفاف به ، وإن كان فقيراً عادماً للجاه ، متعلقاً بالحرف الوضيعة ؛ لأنه تعالى حكى كلام نوح وتجهيله للرؤساء لما طلبوا طرد من عدوه من الأراذل ، وهي نظير قوله تعالى : { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } [ الأنعام : من الآية 52 ] .
ثم أشار إلى أنه عليه السلام بشر مثلهم ، أوثر بالوحي والرسالة فلا يدعي ما ليس له ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْراً اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ } [ 31 ] .
{ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ } أي : رزقه وأمواله : { وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ } أي : أنا أدعي الفضل بالنبوة ، لا بالغنى وكثرة المال ، ولا بالإطلاع على الغيب ، ولا بالملكية ، حتى تنكروا فضلي بفقدان ذلك : { وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ } أي : تحتقرهم ، وهم الفقراء المؤمنون : { لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْراً } أي : في الدنيا والآخرة ، لهوانهم عليه ، كما تقولون ؛ إذ الخير عندي ما عند الله ، لا المال : { اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ } أي : من الخير مني ومنكم ، وهو أعرف بقدرهم وخطرهم ، وما يعلم أحد قدر خيرهم لعظمه .
قال القاشاني : وحمل غيره هذا على تفويض ما في أنفسهم من الإيمان إلى علم الله إرشاداً إلى أن اللائق لكل أحد ألا يبت القول إلا فيما يعلمه يقيناً ، ويبني أموره على الشواهد الظاهرة ، ولا يجازف فيما ليس فيه على بينة ظاهرة : { إِنِّي إِذاً } أي : إذا قلت ذلك : { لَّمِنَ الظَّالِمِينَ } أي : لبخس حقهم ، وحط قدرهم ؛ فإن الإيمان الظاهر منهم ، رفع شأنهم ، فإذا ضموا إلى ذلك الإيمان القلبي كما هو الظاهر منهم ؛ فلهم جزاء الحسنى ، فمن قطع لهم بعدم نيل الخير بعد ما آمنوا كان ظالماً . وفيه تعريض بأنهم ظالمون في ازدرائهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [ 32 ] .
{ قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } أي : أطلته ، أو أتيته بأنواعه { فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا } أي : من العذاب : { إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } [ 33 ] .
{ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء } يعني أنه ليس موكولاً إلي ، وإنما يتولاه الله الذي كفرتم به : { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } أي : بالهرب أو بدفعه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ 34 ] .
{ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } أي : أيُّ شيء يجديه إبلاغي ونصحي بدعوتكم إلى التوحيد والتحذير من العذاب وإن كان الله يريد إغواءكم ليدمركم ؟ ! : { هُوَ رَبُّكُمْ } أي : مالك أمركم : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي : بعد الموت فيجازيكم بأعمالكم . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ } [ 35 ] .
{ أَمْ يَقُولُونَ } أي : قوم نوح : { افْتَرَاهُ } أي : النصح ، فهو من تتمة نبأ نوح ، أو ضمير الجمع لكفار مكة ، يعنون افتراء محمد صلوات الله عليه لنبأ نوح ، جيء به معترضاً في تضاعيفه ، تحقيقاً له ، وتأكيداً لوقوعه ، وتشويقاً للسامعين إلى استماعه ؛ إذ بقي منها الأهم وهو نتيجته : { قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي } أي : إثم كسب ذنبي : { وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ 36 ] .
{ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ } أي : بعد مبالغته في بذل الوسع في النصح مع عدم نفعه إياهم : { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ } أي : لا تحزن : { بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } أي : من التكذيب والإيذاء ، فقد انتهى أمرهم وحان وقت الانتقام منهم .
وقيل : المعنى لا تبتئس ، أي : لإهلاكهم شفقة عليهم ؛ لأنهم إنما يهلكون بما كانوا يفعلون من معاندتهم معك ، فليسوا محلاً لشفقتك ولا لرحمتنا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ } [ 37 ] .
{ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ } أي : للتخلص من عذابهم : { بِأَعْيُنِنَا } أي : بحفظنا وكلاءتنا ، كأن معه من الله عز وجل حفاظاً وحراساً ، يكلأونه بأعينهم من التعدي من الكفرة ، ومن الزيغ في الصنعة : { وَوَحْيِنَا } أي : إليك كيف تصنعها ، وتعليمنا وإلهامنا . قيل لم يكن قبله سفينة : { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ } أي : ولا تدعني ، في استدفاع العذاب عنهم بشفاعتك : { إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ } أي : محكوم عليهم بالطوفان ، وقد وجب ذلك فلا سبيل إلى كفه ، كقوله تعالى : { يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } [ هود : 76 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } [ 38 ] .
{ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ } حكاية حال ماضية لاستحضار صورتها العجيبة . وقيل : تقديره وأخذ يصنع الفلك { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ } أي : هزئوا به ، بمعالجة السفينة : { قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا } أي : في صنع الفلك : { فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ } أي : لجهلكم : { كَمَا تَسْخَرُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } [ 39 ] .
{ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } أي : في الدنيا فيجعله محلاً للسخرية : { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } أي : في الآخرة ، يدوم معه الخزي .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ 40 ] .
{ حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا } أي : بإهلاك قومه . و : { حَتَّى } غاية لقوله ( ويصنع ) وما بينهما حال من الضمير فيه ، و ( سخروا منه ) جواب ( كلما ) : { وَفَارَ التَّنُّورُ } أي : وجه الأرض ، أو كل مفجر ماء ، أو محفل ماء الوادي ، أو عين ماء معروفة ، أو الكانون الذي يخبز فيه ، أو تنوير الفجر - أقوال حكاها اللغويون والمفسرون - زاد بعضهم احتمال أن يكون هذا كناية عن اشتداد الأمر ، كما يقال : ( حمي الوطيس ) والوطيس : التنور ، وهو من فصيح الكلام وبليغه ، وعندي أنه أظهر الأوجه المذكورة وأرقها وأبدعها وأبلغها ، وإن حاول الرازي رده ، كأنه قيل : واشتد الأمر ، وقوي انهمار الماء ونبوعه . وهذا الإيجاز في مجازه الرهيب قد بينته آيات أخر ، وهي : { فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [ القمر : 11 - 12 ] الآيات ، ومما يؤيده شمولة لشدة الأمر من السماء والأرض فيطابق هذه الآيات . وأما غيره فمقصور على ناحية الأرض فقط ، وجلي أن الأمر كان أعم - والله أعلم - .
{ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا } أي : في السفينة : { مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ } أي : صنفين من البهائم والطيور وما يدب على وجه الأرض : { اثْنَيْنِ } أي : ذكراً وأنثى .
قال أبو البقاء : يقرأ ( كُلِّ ) بالإضافة وفيه وجهان :
أحدهما : أن مفعول ( احمِل ) ( اثنين ) و ( مِن ) حال .
والثاني : أن ( مِن ) زائدة والمفعول ( كُلّ ) و ( اثنين ) توكيد . ويقرأ مِنْ كُلٍ ( بالتنوين ) ، فـ ( زوجين ) مفعول ( احمل ) و ( اثنين ) توكيد له ، و ( مِن ) متعلقة بـ ( احمل ) أو حال . انتهى .
{ وَأَهْلَكَ } أي : من يتصل بك في دينك وسيرتك من أقاربك : { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ } أي : وجب عليه : { الْقَوْلُ } أي : بالإغراق بسبب ظلمه { وَمَنْ آمَنَ } أي : احمله معك فيها . قال أبو السعود : وإفراد الأهل منهم للاستثناء المذكور ، وإيثار صيغة الإفراد في ( آمن ) محافظة على لفظ ( مَنْ ) للإيذان بقلتهم ، كما أعرب عنه قوله عز قائلاً : { وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 41 ] .
{ وَقَالَ } أي : نوح عليه السلام لمن معه من المؤمنين : { ارْكَبُواْ فِيهَا } أي : السفينة : { بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } . قال الزمخشري : يجوز أن يكون كلاماً واحداً وكلامين ، فالكلام الواحد أن يتصل ( بسم الله ) بـ ( اركبوا ) حالاً من الواو ، بمعنى : ركبوا فيها مسمين الله ، أو قائلين بسم الله وقت إجرائها ، ووقت إرسائها ، إما لأن المجرى والمرسى للوقت ، وإما لأنهما مصدران ، كالإجراء والإرسال ، حذف منهما الوقت المضاف ، كقولهم : ( خفوق النجم ) و ( مقدم الحاج ) ويجوز أن يراد مكانا الإجراء والإرساء وانتصابهما ، بما في ( بسم الله ) من معنى الفعل ، أو بما فيه من إرادة القول .
والكلامان : أن يكون : { بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } جملة من مبتدأ وخبر مقتضبة ، أي : بسم الله إجراؤها وإرساؤها ، يروى أنه كان إذا كان إذا أراد أن تجري قال : بسم الله ، فجرت ، وإذا أراد أن ترسوا قال : بسم الله ، فرست . وجوز أن يقحم الاسم كقوله :
~ثم اسم السلام عليكما
ويراد : بالله إجراؤها وإرساؤها ، أي : بقدرته وأمره . ومعنى قولنا : ( جملة مقتضبة ) أن نوحاً عليه السلام أمرهم بالركوب ، ثم أخبرهم بأن مجراها ومرساها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته . ويحتمل أن يكون غير مقتضبة ، بأن تكون في موضع الحال من ضمير ( الفلك ) كأنه قيل : اركبوا فيها مجراة ومرساة بسم الله ، بمعنى التقدير ، كقوله : { فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [ الزمر : من الآية 73 ] انتهى .
تنبيهات :
الأول : قرأ الإخوان - حمزة والكسائي وحفص - ( مَجْرَاهَا ) بفتح الميم ، والباقون بضمها . واتفق السبعة على ضم ميم ( مرساها ) . وقد قرأ ابن مسعود والثقفي ( مَرْسَاهَا ) بفتح الميم أيضاً . وقرئ بضم الميم وكسر الراء والسين وياء بعدهما ، بلفظ اسم الفاعل ، مجروري المحل ، صفتين لله .
الثاني : ما وقع بعد الراء من الألفات المنقلبة عن الياء التي للتأنيث ، أو للإلحاق ، أمَالهُ حمزة والكسائي وأبو عَمْرو ، ووافقهم حفص في إمالة ( مَجْرَاهَا ) هنا ، ولم يُملْ غيره .
الثالث : أخذ بعضهم من الوجه الأول في : { بِسْم اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } أعني تقدير قائلين ، استحباب التسمية ، وذكره تعالى عند ابتداء الجري والإرساء ، وهو مؤيد بقول تعالى في سورة المؤمنون : { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ } [ المؤمنون : 28 - 29 ] ، وقوله تعالى : { وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا } [ الزخرف : 12 - 13 ] الآية ، وجاءت السنة بالحث على ذلك ، والندب إليه أيضاً .
وقوله تعالى : { إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } جملة مستأنفة ، بيان للموجب للإنجاء ، أي : لولا مغفرته ورحمته لغرقتم وهلكتم مثل قومكم ، أو تعليل لـ ( اركبوا ) لما فيه من الإشارة إلى النجاة ، فكأنه قيل : اركبوا لينجيكم الله .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ } [ 42 ] .
{ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ } متصل بمحذوف دل عليه ( اركبوا ) ، أي : فاركبوا مسمين وهي تجري ، وهم فيها : { فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ } وذلك أنه لما تفتحت أبواب السماء بالماء ، وتفجرت ينابيع الأرض تعاظمت المياه ، وعلت أكناف الأرض ، وارتفعت فوق الجبال الشامخة بخمسة عشر ذراعاً ، وكان ما يرتفع من الماء عند اضطرابه من أمواجه كالجبال .
{ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ } أي : في متنحى عن أبيه : { يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا } أي : ادخل في ديننا ، واصحبنا في السفينة : { وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ } أي : في الدين والانعزال ، الهالكين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ } [ 43 ] .
{ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء } أي : فلا أغرق : { قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ } أي : لا مانع اليوم من بلائه ، وهو الطوفان ، إلا الراحم وهو الله تعالى . أو لا عاصم إلا مكان من رحم ، وهم المؤمنون ، يعني السفينة . أو لا عاصم ، بمعنى لا ذا عصمة إلا من رحمه الله . أو ( إلا ) منقطعة ، أي : لكن من رحمه فهو المعصوم .
قال الناصر : الاحتمالات الممكنة أربعة : لا عاصم إلا راحم ، ولا معصوم إلا مرحوم ، ولا عاصم إلا مرحوم ، ولا معصوم إلا راحم . فالأولان استثناء من الجنس ، والآخران من غير الجنس . أي : فيكون منقطعاً . أي : لكن المرحوم يعصم على الأول ، ولكن الراحم يعصم من أراد على الثاني .
وزاد الزمخشري خامساً وهو : لا عاصم إلا مرحوم ، على أنه من الجنس ، بتأويل حذف المضاف ، تقديره : لا مكان عاصم إلا مكان مرحوم ، والمراد بالنفي التعريض بعدم عصمة الجبل ، وبالمثبت التعريض بعصمة السفينة ، والكل جائز ، وبعضها أقرب من بعض - انتهى - .
{ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ } أي : صار حائلاً بين نوح وابنه ، أو بين ابنه والجبل ، لارتفاعه فوفه : { فَكَانَ } أي : ابنه مع كونه فوق الجبل : { مِنَ الْمُغْرَقِينَ } أي : الهالكين بالغرق .
وفيه دلالة على هلاك سائر الكفرة على أبلغ وجه ، فكان ذلك أمراً مقرر الوقوع ، غير مفتقر إلى البيان . وفي إيراد ( كان ) دون ( صار ) مبالغة في كونه منهم - أفاده أبو السعود - وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ 44 ] .
{ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } إعلام بأنه لما غرق أهل الأرض ، ولم يبق ممن كفر بالله ديار ، أمر تعالى الأرض أن تبلع ماءها الذي نبع منها واجتمع عليها ، وأمر السماء أن تقلع عن المطر ، فنضب الماء ، وقضي أمر الله ، بإنجاء من نجا ، وإهلاك من هلك .
ولما أخذت المياه تتناقص وتتراجع إلى الأرض شيئاً فشيئاً ، وظهرت رؤوس الجبال ، استقرت السفينة على الجودي ، وهو جبل بالجزيرة قرب الموصل .
و ( بُعْداً ) مصدر منصوب بمقدر ، أي : وبعدوا بعداً . يقال : بعد بعداً ، إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ونحو ذلك ، ولذلك اختص بدعاء السوء كـ : ( جَدْعَا ) و ( تَعْساً ) . و ( اللام ) متعلقة بمحذوف ، أو للبيان ، أو متعلقة بـ ( قيل ) أي : لأجلهم هذا القول .
والتعرض لوصف الظلم للإشعار بعليته للهلاك ، ولتذكر ما سبق من قوله : { وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ } .
تنبيه :
هذه الآية بلغت من أسرار الإعجاز غايتها ، وحوت من بدائع الفرائد نهايتها . وقد اهتم علماء البيان لإيضاح نخب من لطائفها ، ومن أوسعهم مجالاً في معارفها الإمام السكاكي ، فقد أطال وأطاب في كتابه " المفتاح " وتلطف في التبيان بألطف من نسيم الصباح ، ونحن نورده بتمامه ، لنعطر الألباب بعرف مبتدئه ومسك ختامه .
قال عليه الرحمة في بحث ( البلاغة والفصاحة ) وتعريفه الأولى بأنها بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حداً له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها ، وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها ، ثم تقسيمه الفصاحة إلى ما يرجع إلى المعنى ، وهو خلوص الكلام عن التعقيد وإلى اللفظ ، وهو كونه عربياً أصلياً ، جارياً على قوانين اللغة ، أدْوَر على ألسنة الفصحاء أكثر في الاستعمال ، ما صورته :
وإذ قد وقفت على البلاغة ، وعثرت على الفصاحة المعنوية واللفظية ، فأنا أذكر على سبيل الأنموذج آية أكشف لك فيها عن وجوه البلاغة والفصاحتين ، ما عسى يسترها عنك ، ثم إن ساعدك الذوق ، أدركت منها ما قد أدرك من تُحدوا بها وهي قوله علت كلمته : { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ } إلى : { الظَّالِمينَ } .
والنظر في هذه الآية من أربع جهات من جهة علم البيان ، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة ، ومن جهة الفصاحة المعنوية ، ومن جهة الفصاحة اللفظية .
أما النظر فيها من جهة علم البيان ، وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها ، فنقول : إنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد ، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع ، وأن نغيض الماء النازل من الماء فغاض ، وأن نقضي أمر نوح ، وهو إنجاز ما كنا وعدنا من إغراق قومه فقضي ، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت ، وأبقينا الظلمة غرقى ؛ بنى الكلام على تشبيه المراد بالأمور الذي لا يتأتى منه لكمال هيبته العصيان ، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود ، تصويراً لاقتداره العظيم ، وأن السماوات والأرض وهذه الأجرام العظام تابعة لإرادته إيجاداً وإعداماً ، ولمشيئته فيها تغييراً وتبديلاً ، كأنها عقلاء مميزون ، قد عرفوه حق معرفته ، وأحاطوا علماً بوجوب الانقياد لأمره ، والإذعان لحكمه ، وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مواده ، وتصور مزيد اقتداره ، فعظمت مهابته في نفوسهم ، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم ، فكما يلوح لهم إشارته كان المشار إليه مقدماً ، وكما يرد عليهم أمره كان المأمور به متمماً ، لا تَلَقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد ، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال . ثم بنى على تشبيهه هذا نظم الكلام ، فقال جل وعلا : { وَقِيلَ } على سبيل المجاز - أي : المرسل - عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل ، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد وهو : يا أرض ويا سماء . ثم قال كما ترى : يا أرض ويا سماء ، مخاطباً لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور ، ثم استعار لغؤور الماء في الأرض البلع ، الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم ، للشبه بينهما ، وهو الذهاب إلى مقر خفي . ثم استعار الماء للغذاء واستعارة بالكناية ، تشبيهاً له بالغذاء ؛ لتقوى الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام ، وجعل قرينة الاستعارة لفظة ( ابلعي ) لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء . ثم أمر على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره ، وخاطب في الأمر ترشيحاً لاستعارة النداء . ثم قال : { مَاءَكِ } بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز ، تشبيهاً لاتصال الماء بالأرض ، باتصال الملك بالمالك ، واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح . ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان . ثم أمر على سبيل الاستعارة ، وخاطب في الأمر قائلاً : { أَقْلِعِي } لمثل ما تقدم في : { ابْلَعِي } . ثم قال : { وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً } لم يصرح بمنْ غاض الماء ، ولا بمن قضي الأمر ، وسوى السفينة . وقال : { بُعداً } كما لم يصرح بقائل : يا أرض ويا سماء في صدر الآية ، سلوكاً في كل واحد من ذلك على سبيل الكناية ، أن تلك الأمور العظام لا تتأتى إلا من ذي قدرة لا يُكتنه ، قهار لا يغالب . فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره - جلت عظمته - قائل : يا أرض ويا سماء ، ولا غائض مثل ما غاض ، ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل ، وأن تكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره وإقراره . ثم ختم الكلام بالتعريض ؛ تنبيهاً لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلماً لأنفسهم لا غير ، ختم إظهارٍ ؛ لمكان السخط ، ولجهة استحقاقهم إياه ، وأن قيامة الطوفان ، وتلك الصورة الهائلة ، ما كانت إلا لظلمهم .
وأما النظر فيها من حيث علم المعاني ، وهو النظر في فائدة كل كلمة منها ، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها ، فذلك أنه اختير ( يا ) دون سائر أخواتها ، لكونها أكثر في الاستعمال ، وأنها دالة على بعد المنادي الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة ، وإبداء شأن العزة والجبروت ، وهو تبعيد المنادي المؤذن بالتهاون به ، ولم يقل : يا أرض ، بالكسر ؛ لإمداد التهاون ، ولم يقل : يا أيتها الأرض ؛ لقصد الاختصار مع الاحتراز عما في ( أيتها ) من تكلف التنبيه غير المناسب بالمقام . واختير لفظ ( الأرض ) دون سائر أسمائها ، لكونه أخف وأدور . واختير لفظ السماء لمثل ما تقدم في الأرض ، مع قصد المطابقة . واختير لفظ : { ابلعي } على ( ابتلعي ) لكونه أخصر ، ولمجيء خط التجانس بينه وبين : { أقلعي } أوفر . وقيل : { ماءك } بالإفراد دون الجمع ، لما كان في الجمع من صورة الاستكثار المتأبي عنها مقام إظهار الكبرياء والجبروت ، وهو الوجه في إفراد ( الأرض ) و ( السماء ) . وإنما لم يقل : { ابلعي } بدون المفعول أن لا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن ، نظراً إلى مقام ورود الأمر ، الذي هو مقام عظمة وكبرياء . ثم إذا بين المراد اختصر الكلام مع : { أَقْلِعِي } احترازاً عن الحشو المستغني عنه ، وهو - أي : الاختصار - الوجه في أن لم يقل : قيل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت ، ويا سماء أقلعي فأقلعت . واختير ( غيض ) على ( غيّض ) المشدد لكونه أخصر ، وقيل ( الماء ) دون أن يقال : ماء طوفان السماء وكذا الأمر دون أن يقال : أمر نوح ، وهو إنجاز ما كان الله وعد نوحاً من إهلاك قومه ، لقصد الاختصار والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك . ولم يقل : سويت على الجودي ، بمعنى أقرت ، على نحو : ( قيل ) و ( غيض ) و ( قضي ) في البناء للمفعول اعتباراً لبناء الفعل للفاعل مع السفينة في قوله : { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ } مع قصد الاختصار في اللفظ . ثم قيل : { بُعْداً للْقَومِ } دون أن يقال : ليبعد القوم ، طلباً للتأكيد مع الاختصار ، وهو نزول : { بُعْداً } وحده ، منزلة ليبعدوا بُعداً ، مع فائدة أخرى : وهي استعمال اللام مع ( بُعداً ) الدال على معنى أن البُعد حق لهم ، ثم أطلق الظلم ليتناول كل نوع ، حتى يدخل فيه ظلمهم أنفسهم ، لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في تكذيب الرسل . هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم .
وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل : فذاك أنه قد قدم النداء على الأمر ، فقيل : { يَا أَرْضُ ابْلَعِي وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي } دون أن يقال : ابلعي يا أرض ، وأقلعي يا سماء ، جرياً على مقتضى اللازم فيمن كان مأموراً حقيقة ، من تقديم التنبيه ، ليمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى قصداً بذلك لمعنى الترشيح . ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء ، وابتدأ به لابتداء الطوفان منها ، وبنزولها لذلك في القصة منزلة الأصل ، والأصل بالتقديم أولى ، ثم أتبعها قوله : { وَغِيضَ الْمَاءُ } لاتصاله بقصة الماء ، وأخذه بحجزتها ، ألا ترى أصل الكلام : ( : { قيل يا أرض ابلعي ماءك } فبلعت ماءها ، و : { يا سماء أقلعي } عن إرسال الماء ، فأقلعت عن إرساله { وَغِيضَ الْمَاءُ } النازل من السماء فغاض ) . ثم أتبعه ما هو مقصود من القصة وهو قوله : { وَقُضي الأَمْرُ } أي : أنجز الموعود من إهلاك الكفرة ، وإنجاء نوح ومن معه في السفينة ، ثم أتبعه حديث السفينة ، وهو قوله : { وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ } ثم ختمت القصة بما ختمت . هذا كله نظر في الآية من جانبي البلاغة .
وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية ، فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف ، وتأدية لها ملخصة مبينة ، لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد ، ولا التواء يُشبك الطريق إلى المرتاد ، بل إذا جربت نفسك عند استماعها ، وجدت ألفاظها تسابق معانيها ، ومعانيها تسابق ألفاظها ، فما من لفظة في تركيب الآية ونظمها تسبق إلى أذنك إلا ومعناها أسبق إلى قلبك .
وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية ، فألفاظها على ما نرى عربية ، مستعملة جارية على قوانين اللغة ، سليمة من التنافر ، بعيدة عن البشاعة ، عذبة على العذبات ، سلسة على الأسلات ، كل منها كالماء في السلاسة ، وكالعسل في الحلاوة ، وكالنسيم في الرقة . ولله در شأن التنزيل ! لا يتأمل العالم آية من آياته إلا أدرك لطائف لا تسع الحصر ، ولا تظنن الآية مقصورة على ما ذكرت ، فلعل ما تركت أكثر مما ذكرت ؛ لأن المقصود لم يكن إلا مجرد الإرشاد لكيفية اجتناء ثمرات علمي المعاني والبيان ، وأن لا علم في باب التفسير ( بعد علم الأصول ) أقرأ منهما على المرء لمراد الله تعالى من كلامه ، ولا أعون على تعاطي تأويل مشتبهاته ، ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره ، ولا أكشف للقناع عن وجه إعجازه ، وهو الذي يوفي كلام رب العزة من البلاغة حقه ، ويصون له في مظان التأويل ماءه ورونقه . ولَكَم من آية من آيات القرآن تراها قد ضيمت حقها ، واستلبت ماءها ورونقها ، إن وقعت إلى من ليسوا من أهل هذا العلم فأخذوا بها في مآخذ مردودة ، وحملوها على محامل غير مقصودة ، وهم لا يدرون ، ولا يدرون أنهم لا يدرون ، فتلك الآي من مآخذهم في عويل ، ومن محاملهم على ويل طويل ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً - انتهى كلام السكاكي - .
وقد تصدى أبو حيان أيضاً في تفسيره المسمى بـ " النهر " للطائفها ، وساق أحداً وعشرين نوعاً من البديع . وألف السيد محمد بن إسماعيل الأمير رسالة فيها سماها " النهر المورود في تفسير آية هود " أورد تلك الأنواع البديعية أيضاً ، وهي : المناسبة ، والمطابقة ، والمجاز ، والاستعارة ، والإشارة ، والتمثيل ، والإرداف ، والتعليل ، وصحة التقسيم ، والاحتراس ، والإيضاح ، والمساواة ، وحسن النسق ، والإيجاز ، والتسهيم ، والتهذيب ، وحسن البيان ، والتمكين ، والتجنيس ، والمقابلة ، والذم ، والوصف .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ } [ 45 ] .
{ وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي } إعلام بأن نوحاً حملته شفقة الأبوة ، وتعطف الرحم والقرابة ، على طلب نجاته ؛ لشدة تعلقه به ، واهتمامه بأمره . وقد راعى مع ذلك أدب الحضرة وحسن السؤال فقال : { وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ } ولم يقل : لا تخلف وعدك بإنجاء أهلي ، وإنما قال ذلك ففهمه من الأهل ذوي القرابة الصورية ، والرحم النسبية ، وغفل لفرط التأسف على ابنه عن استثنائه تعالى بقوله : { إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } ولم يتحقق أن ابنه هو الذي سبق عليه القول ، فاستعطف ربه بالاسترحام ، وعرض بقوله : { وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ } إلى أن العالم العادل والحكيم لا يخلف وعده .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [ 46 ] .
{ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } أي : الموعود إنجاؤهم ، بل من المستثنين لكفرهم ، أو ليس منهم أصلاً ، لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية ، ولا علاقة بين المؤمن والكافر .
قال القاشاني : أي : أن أهلك في الحقيقة : هو الذي بينك وبينه القرابة الدينية ، واللحمة المعوية ، والاتصال الحقيقي لا الصوري ، كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : ألا وإن وليّ محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته . ألا وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت لحمته .
{ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } بين انتفاء كونه من أهله بأنه غير صالح ، تنبيهاً على أن أهله هم الصلحاء ، أهل دينه وشريعته ، وإنه لتماديه في الفساد والغي ، كأن نفسه عمل غير صالح ، وتلويحاً بأن سبب النجاة ليس إلى الصلاح ، لا قرابته منك بحسب الصورة ، فمن لا صلاح له لا نجاة له ، وهذا سر إيثار : { غَيرُ صَالِحٍ } على ( عمل فاسد ) .
وقد قرأ يعقوب والكسائي ( عَمِلَ ) بلفظ المضي ، والباقون بلفظ المصدر ، بجعله نفس العمل ، مبالغة ، كما بينا .
{ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أي : لا تلتمس مني ملتمساً أو التماساً لا تعلم أصواب هو أم غير صواب ؟ حتى تقف على كنهه . قالوا : والنهي إنما هو عن سؤال ما لا حاجة له إليه أصلاً ، إما لأنه لا يهم ، أو لأنه قامت القرائن على حاله ، كما هنا ، لا عن السؤال للاسترشاد .
{ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } أي : أنهاك أن تكون منهم بسؤالك إياي ما لم تعلم . وقد تنبه عليه السلام عند ذلك التأديب الإلهي والعتاب الرباني ، وتعوذ بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ } [ 47 ] .
{ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي } أي : ما فرط مني : { وَتَرْحَمْنِي } أي : بالوقوف على ما تحب وترضى : { أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ } أي : الذين خسروا أنفسهم ، بالاحتجاب عن علمك وحكمتك .
تنبيه :
ظاهر التنزيل أن ابنه المذكور لصلبه ، ويروى عن الحسن ومجاهد ومحمد بن جعفر الباقر أنه كان ابن امرأته ، ربيبه . وأيده بعضهم بقراءة علي : { ونادى نوح ابنها } - والله أعلم - .
ثم أنبأ تعالى عما قيل لنوح ، بعد أن أرست السفينة على الجودي ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 48 ] .
{ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ } أي : انزل من السفينة : { بِسَلاَمٍ مِّنَّا } أي : سلامة : { وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } أي : في السفينة على دينك وطريقتك إلى آخر الزمان : { وَأُمَمٌ } أي : ومنهم أمم : { سَنُمَتِّعُهُمْ } أي : في الحياة الدنيا لاحتجابهم بها : { ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : في الدنيا ، أو في الآخرة ، أو فيهما .
لطيفة :
ذهب العلماء ، في الطوفان ، مذاهب شتى . فالأكثرون على أنه عمَّ الأرض بأسرها ، ومن ذاهب إليه أنه لم يعم إلا الأرض المأهولة وقتئذ بالبشر ، ومن جانح إلى أنه لم يعمها كلها ولم يهلك البشر كلهم . ولكل فريق حجج يدعم بها مذهبه :
قال تقي الدين المقريزي في " الخطط " : إن جميع أهل الشرائع أتباع الأنبياء من المسلمين واليهود والنصارى قد أجمعوا على أن نوحاً هو الأب الثاني للبشر ، وأن العقب من آدم عليه السلام انحصر فيه ، ومنه ذرأ الله جميع أولاد آدم ، فليس أحد من بني آدم إلا وهو من أولاد نوح ، وخالفت القبط والمجوس وأهل الهند والصين ذلك ، فأنكروا الطوفان . وزعم بعضهم أن الطوفان إنما حدث في إقليم بابل وما وراءه من البلاد الغربية فقط ، وأن أولاد ( كيومرت ) الذي هم عندهم ( الإنسان الأول ) كانوا بالبلاد الشرقية من بابل ، فلم يصل الطوفان إليهم ، ولا إلى الهند والصين ، والحق ما عليه أهل الشرائع ، وأن نوحاً عليه السلام لما أنجاه الله ومن معه بالسفينة ، نزل بهم ، وهم ثمانون رجلاً سوى أولاده ، فماتوا بعد ذلك ، ولم يعقبوا ، وصار العقب من نوح في أولاده الثلاثة ، ويؤيد هذا قول الله تعالى عن نوح : { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } [ الصافات : 77 ] ونحوه في الكامل لابن الأثير .
وقال ابن خلدون : اتفقوا على أن الطوفان الذي كان في زمن نوح وبدعوته ذهب بعمران الأرض أجمع ، بما كان من خراب المعمور ، وهلك الذين ركبوا معه في السفينة ، ولم يعقبوا فصار أهل الأرض كلهم من نسله ، وعاد أباً ثانياً للخليقة - انتهى .
قال بعضهم ( في تقرير عموم الطوفان ، مبرهناً عليه ) إن مياه الطوفان قد تركت آثاراً عجيبة في طبقات الأرض الظاهرة ، فيشاهد في أماكن رواسب بحرية ممتزجة بالأصداف ، حتى في قمم الجبال ، ويرى في السهول والمفاوز بقايا حيوانية ونباتية مختلطة بمواد بحرية ، بعضها ظاهر على سطحها ، وبعضها مدفون على مقربة منه ، واكتشف في الكهوف عظام حيوانية متخالفة الطباع ، بعيدة الائتلاف ، معها بقايا آلات صناعية ، وآثار بشرية ، مما يثبت أن طوفاناً قادها إلى ذاك المكان ، وجمعها قسراً فأبادها ، فتغلغلت بين طبقات الطين فتحجرت ، وظلت شهادة على ما كان ، بأمر الخالق تعالى - انتهى - .
وقد سئل مفتي مصر الإمام الشيخ محمد عبده عن تحقيق عموم الطوفان ، وعموم رسالة نوح ، فأجاب بما صورته :
أما القرآن الكريم فلم يرد فيه نص قاطع على الطوفان ، ولا عموم رسالة نوح عليه السلام ، وما ورد من الأحاديث ، على فرض صحة سنده فهو آحاد لا يوجب اليقين . والمطلوب في تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين لا الظن ، إذا عد اعتقادها من عقائد الدين . وأما المؤرخ ، ومريد الإطلاع فله أن يحصل من الظن ما ترجحه عنده ثقته بالراوي أو المؤرخ ، أو صاحب الرأي . وما يذكره المؤرخون والمفسرون في هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية ، أو عدم الثقة بها ، ولا يتخذ دليلاً قطعياً على معتقد ديني . أما مسألة عموم الطوفان في نفسها ، فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان ، وأهل النظر في طبقات الأرض ، وموضوع خلاف بين مؤرخي الأمم . فأهل الكتاب وعلماء الأمة الإسلامية ؛ على أن الطوفان كان عاماً لكل الأرض ، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر ، واحتجوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال ؛ لأن هذه الأشياء مما لا يتكون إلا في البحر ، فظهورها في رؤوس الجبال دليل على أن الماء صعد إليها مرة من المرات ، ولن يكون ذلك حتى يكون قد عم الأرض . ويزعم غالب أهل النظر من المتأخرين أن الطوفان لم يكن عاماً ، ولهم على ذلك شواهد يطول شرحها ، غير أنه لا يجوز لشخص مسلم أن ينكر قضية أن الطوفان كان عاماً ، لمجرد حكايات عن أهل الصين ، أو لمجرد احتمال التأويل في آيات الكتاب العزيز ، بل على كل من يعتقد بالدين ألا ينفي شيئاً مما يدل عليه ظاهر الآيات والأحاديث التي صح سندها ، وينصرف عنها إلى التأويل إلا بدليل عقلي يقطع بأن الظاهر غير مراد ، والوصول إلى ذلك في مثل هذه المسألة يحتاج إلى بحث طويل وعناء شديد وعلم غزير في طبقات الأرض وما تحتوي عليه ، وذلك يتوقف على علوم شتى ، نقلية وعقلية . ومن هدي برأيه بدون علم يقيني فهو مجازف ، ولا يسمع له قول ، ولا يسمح له ببث جهالاته ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
واستظهر بعضهم أن الطوفان كان عاماً ، إذ لم يكن العمران قائماً إلا بقوم نوح ، فكان عاماً لهم ، وإن كان من جهة خاصاً بهم ؛ إذ ليس ثمَّ غيرهم ، قال :
هبط آدم إلى الأرض وهو ليس بأمة ، إذا مضت عليها قرون ولدت أمماً ، بل هو واحد تمضي عليه السنون ، بل القرون ، ونمو عشيرته لا يكاد يكون إلا كما يتقلص الظل قليلاً قليلاً من آدم إلى نوح ثمانية آباء ، فإن كان ثمانية آباء يعطون من الذرية أضعافاً وآلافاً ، حتى يطؤوا وجه الأرض بالأقدام ، وينشروا العمران في تلك الأيام ، فتلك قضية من أعظم ما يذكره التاريخ أعجوبة للعالمين ! أما تلك الجبال التي وجدت فوقها عظام الأسماك ، فإن كانت مما وصل إليه الطوفان من المكان الخاص الذي سبق به البيان ؛ فلا برهان . وإن كانت في غير ذلك المكان ، فإن لم يكن وضعها إنسان ، كما وجدها إنسان ؛ كان نقل الجوارح والكواسر لتلك العظام ، إلى تلك الجبال مما يسوغه الإمكان . بهذا وبغيره مما لا يغيب عن الأفهام تعلم أن الطوفان خاص عام : خاص بمكان ، عام سائر المكان - والله أعلم - .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } [ 49 ] .
{ تِلْكَ } إشارة إلى قصة نوح عليه السلام : { مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا } أي : الإيحاء إليك ، والإخبار بها . وفي ذكرهم تنبيه على أنه لم يتعلمها ؛ إذ لم يخالط غيرهم ، وأنهم مع كثرتهم لم يسمعوها ، فكيف بواحد منهم ؟ ! : { فَاصْبِرْ } أي : على تبليغ الرسالة ، وأذى قومك ، كما صبر نوح ، وتوقع في العاقبة لك ولمن كذبك نحو ما قيض لنوح ولقومه - كذا في " الكشاف " - : { إِنَّ الْعَاقِبَةَ } أي : في الدنيا بالنصر والظفر ، وفي الآخرة بالنعيم الأبدي { لِلْمُتَّقِينَ } أي : عن الشرك والمعاصي .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ } [ 50 ] .
{ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً } عطف على قوله ( نوحاً ) . أي : وأرسلنا إلى عاد و ( أخاهم ) بمعنى ( واحداً ) منهم كما يقولون : ( يا أخا العرب ) { قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ } أي : وحده { مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ } أي : باتخاذ الأوثان شركاء وجعلها شفعاء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ 51 ] .
{ يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي } إنما خاطب كل رسول به قومه ، إزاحة للتهمة ، وتمحيضاً للنصيحة ، فإنها لا تنجع ما دامت مشوبة بالمطامع { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي : تتفكرون ، إذ تردون نصيحة من لا يسألكم أجراً ، ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك ، أو تتدبرون الصواب من الخطأ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ } [ 52 ] .
{ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْْ } أي : من الوقوف مع الهوى بالشرك : { ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِْ } أي : من عبادة غيره ، بالتوجه إلى التوحيد : { يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً } أي : كثيرة الدر ، أي : الأمطار ، منصوب على الحال من ( السماء ) ولم يؤنث مع أنه من مؤنث ، إما لأن المراد بالسماء السحاب أو المطر ، فذكر على المعنى ، أو ( مفعال ) للمبالغة ، يستوي فيه المذكر والمؤنث كصبور ، أو الهاء حذفت من ( مفعال ) على طريق النسب - أفاده السمين - : { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ } أي : مضمومة إليها أو معها . أي : شدة إلى شدتكم بالقوة البدنية ، أو بالمال أو البنين . وإنما استمالهم إلى الإيمان ورغبهم فيه بكثرة المطر ، وزيادة القوة ؛ لأن القوم كانوا أصحاب زروع وبساتين ، حراصاً على التقوى بما ذكر ، لثراء مالهم وترهيب أعدائهم وقد كانوا مثلاً في القوة ، كما قالوا : { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } [ فصلت : من الآية 15 ] ، { وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ } أي : تعرضوا عما أدعوكم إليه : { مُجْرِمِينَ } أي : مصرين على إجرامكم وآثامكم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } [ 53 ] .
{ قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ } أي : بحجة تدل على صحة دعواك ، وذلك لقصور فهمهم ، وعمى بصيرتهم عن إدراك البرهان ؛ لمكان الغشاوات الطبيعية ، وإذا لم يدركوه أنكروه بالضرورة : { وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا } أي : عبادتها : { عَن قَوْلِكَ } حال من ضمير ( تاركي ) أي : تركاً صادراً عن قولك ، أو ( عن ) للتعليل ، كهي في قوله : { إِلَّا عَنْ مَوْعِدَة } [ التوبة : من الآية 114 ] ، أي : لأجلها ، فتتعلق ( بتاركي ) والأول أبلغ ؛ لدلالته على كونه علة فاعلية ، ولا يفيده ( الباء واللام ) . وهذا كقولهم في الأعراف : { أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } [ الأعراف : من الآية 70 ] .
{ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } أي : مصدقين . إقناط له من الإجابة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ } [ 54 - 55 ] .
{ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ } أي : مسَّك : { بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ } أي : بجنون ، لسبك إياها ، وصدك عنها ، وعداوتك لها ، مكافأة لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء ، ومن ثم تتكلم بما تتكلم .
قال الزمخشري : دلت أجوبتهم المتقدمة على أنهم كانوا جفاة ، غلاظ الأكباد ، لا يبالون بالبهت ، ولا يلتفتون إلى النصح ، ولا تلين شكيمتهم للرشد ، وهذا الأخير دال على جهل مفرط وبله متناه ، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم { قَالَ إِنِّي أُشْهِد اللّهِ } أي : علي : { وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ } قال الزمخشري : من أعظم الآيات أن يواجه بهذا الكلام رجل واحد أمة عطاشاً إلى إراقة دمه يرمونه عن قوس واحد ، وذلك لثقته بربه ، وأنه يعصمه منهم ، فلا تنشب فيه مخالبهم ، ونحو ذلك قال نوح عليه السلام لقومه : { ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ } [ يونس : من الآية 71 ] .
أكد براءته من آلهتهم وشركهم ووثقها بما جرت به عادة الناس من توثيقهم الأمور بشهادة الله ، وشهادة العباد ، فيقول الرجل : الله شهيد على أني لا أفعل كذا ، ويقول لقومه : كونوا شهداء على أني لا أفعله . ولما جاهر بالبراءة مما يعبدون ، أمرهم بالاحتشاد والتعاون في إيصال الكيد إليه ، عليه السلام ، دون إمهال ، بقوله : { فَكِيدُونِي جَمِيعاً } أي : أنتم وآلهتكم : { ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ } يعني إن صح ما لوحتم به ، من كون آلهتكم لها تأثير في ضر ، فكونوا معها فيه ، وباشروه أعجل ما تفعلون دون إمهال .
قال أبو السعود : فالفاء لتفريع الأمر على زعمهم في قدرة آلهتهم على ما قالوا ، وعلى البراءة كليهما ، وهذا من أعظم المعجزات ، فإنه صلى الله عليه وسلم كان رجلاً مفرداً بين الجم الغفير والجمع الكثير ، من عتاة عاد ، الغلاظ الشداد . وقد خاطبهم بما خاطبهم ، وحقرهم وآلهتهم ، وهيجهم على مباشرة مبادئ المضادة والمضارة ، وحثهم على التصدي لأسباب المعازّة والمعارّة ، فلم يقدروا على مباشرة شيء مما كلفوه ، وظهر عجزهم عن ذلك ظهوراً بيناً ، كيف لا وقد التجأ إلى ركن منيع رفيع ، حيث قال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ 56 ]
{ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم } أي : فلا تصلون إلى بسوء لتوكلي على الله : { مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } أي : مالك لها ، قادر عليها ، يصرفها كيف شاء .
قال القاشاني : بيَّن وجوب التوكل على الله ، وكونه حصناً حصيناً أولاً بأن ربوبيته شاملة لكل أحد ، ومن يرب يدبر أمر المربوب ويحفظه ، فلا حاجة له إلى كلاءة غيره وحفظه ، ثم بأن كل ذي نفس تحت قهره وسلطانه ، أسير في يد تصرفه ومملكته وقدرته عاجز عن الفعل والقوة والتأثير في غيره ، لا حراك به بنفسه ، كالميت ، فلا حاجة إلى الاحتراز منه - انتهى - .
والناصية : منبت الشعر من مقدم الرأس ، وتطلق على الشعر النابت فيها أيضاً ، تسمية للحال باسم المحل ، يقال : نصوت الرجل : أخذت بناصيته .
وفي " العناية " : وقولهم : ناصيته بيده ، أي : منقاد له . والأخذ بالناصية عبارة عن القدرة والتسلط ، مجازاً أو كناية .
وقوله تعالى : { إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } تعليل لما يدل عليه التوكل ، من عدم قدرتهم على إضراره ، أي : هو على طريق الحق والعدل في ملكه ، فلا يسلطكم علي ، إذ لا يضيع عنده معتصم به ، ولا يفوته ظلم .
قال في " العناية " : هو تمثيل واستعارة ؛ لأنه مطلع على أمور العباد ، مجاز لهم بالثواب والعقاب ، كاف لمن اعتصم ، كمن وقف على الجادة فحفظها ، ودفع ضرر السابلة بها .
وهو كقوله : { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } [ الفجر : 14 ] والاقتصار على إضافة الرب إلى نفسه ، إما بطريق الاكتفاء لظهور المراد ، وإما للإشارة إلى أن اللطف والإعانة مخصوصة به دونهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } [ 57 ]
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي : تتولوا ، بحذف إحدى التاءين : { فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ } أي : فقامت الحجة عليكم : { وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ } استئناف بالوعيد لهم . أي : فيهلكهم ، ويجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم : { وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً } أي : بتوليكم ؛ لاستحالته عليه ، بل تضرون أنفسكم . أو بذهابكم وهلاككم لا ينقص من ملكه شيء : { إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } أي : رقيب عليه مهيمن ، فلا تخفى عليه أعمالكم ، فيجازيكم بحسبها ، أو حافظ حاكم مستول على كل شيء ، فلا يمكن أن يضره شيء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ 58 ] .
{ وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا } أي : عذابنا ، أو أمرنا بالعذاب ، وهو الريح العقيم : { نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } وقد بين في غير آية ، منها قوله : { وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 6 - 7 ] .
فإن قلت : ما معنى تكرير التنجية ؟ فالجواب : لا تكرير فيه ؛ لأن الأول إخبار بأن نجاتهم برحمة الله وفضله ، والثاني بيان ما نجوا منه ، وأنه أمر شديد عظيم لا سهل ، فهو للامتنان عليهم ، وتحريض لهم على الإيمان . أو الأول إنجاء من عذاب الدنيا ، والثاني من عذاب الآخرة ، تعريضاً بأن المهلكين كما عذبوا في الدنيا بالسموم فهم معذبون في الآخرة بالعذاب الغليظ . ويرجح الأول بملاءمته لمقتضى المقام .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } [ 59 ] .
{ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ } تأنيث اسم الإشارة باعتبار القبيلة . وصيغة البعيد لتحقيرهم ، أو لتنزيلهم منزلة البعيد ؛ لعدمهم . وإذا كانت الإشارة لمصارعهم ، فهي للبعيد المحسوس ، وتعدى الجحود بالباء حملاً له على الكفر ؛ لأنه المراد . أو بتضمينه معناه ، كما أن ( كفر ) جرى مجرى ( جحد ) . فتعدى بنفسه في قوله : { كَفَرُوا رَبَّهُمْ } [ هود : 60 ] . وقيل : ( كفر ) كـ : ( شكر ) يتعدى بنفسه وبالحرف . وظاهر كلام القاموس : أن ( جحد ) كذلك .
والمعنى : كفروا بالله ، وأنكروا آياته التي في الأنفس والآفاق الدالة على وحدانيته . وجمع ( الرسل ) مع أنه لم يرسل إليهم غير هود عليه الصلاة والسلام ؛ تفظيعاً لحالهم ، وإظهاراً لكمال كفرهم وعنادهم ، ببيان أن عصيانهم له عليه الصلاة والسلام عصيان لجميع الرسل السابقين واللاحقين ؛ لاتفاق كلمتهم على التوحيد : { لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } [ البقرة : من الآية 285 ] كذا في " العناية " وأبي السعود .
{ وَاتَّبَعُواْ } أي : أطاعوا في الشرك : { أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } لا يستدل بدليل ، ولا يقبله من غيره . يريد : رؤساءهم وكبراءهم ، ودعاتهم إلى تكذيب الرسل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } [ 60 ] .
{ وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : جعلت تابعة لهم في الدارين ، أي : لازمة .
قال أبو السعود : والتعبير عن ذلك بالتبعية للمبالغة ، فكأنها لا تفارقهم ، وإن ذهبوا كل مذهب ، بل تدور معهم حيثما داروا . ولوقوعه في صحبة إتباعهم رؤساءهم . يعني : أنهم لما اتبعوهم أُتبعوا ذلك جزاء وفاقاً .
{ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ } إذ عبدوا غيره - وتقدم تعدية ( كفر ) - : { أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } دعا عليهم بالهلاك أو باللعنة ، وفيه من الإشعار بالسخط عليهم والمقت ما لا يخفى فظاعته . وتكرير حرف التنبيه وإعادة ( عاد ) للمبالغة في تهويل حالهم ، والحث على الاعتبار بنبئهم . و ( قوم هود ) عطف بيان لـ ( عاد ) فائدته النسبة بذكره عليه السلام ، الذي إنما استحقوا الهلاك بسببه ، كأنه قيل : عاد قوم هود الذين كذبوه . وتناسب الآي بذلك أيضاً ، فإن قبلها : { وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } [ هود : من الآية 59 ] . وقبل ذلك ( حفيظ ) و ( غليظ ) ، وغير ذلك مما هو على وزن ( فعيل ) المناسب لـ ( فعول ) في القوافي - والله أعلم - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } [ 61 ] .
{ وَإِلَى ثَمُودَ } عطف على ما سبق بيانه من قوله : { وَإِلى عَادٍ } أي : وأرسلنا إلى ثمود ، وهي قبيلة من العرب : { أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ } أي : كونكم منها وحده ، فإنه خلق آدم ، ومواد النطف التي خلق نسله منها ، من التراب : { وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } أي : عمركم فيها ، أو جعلكم عمارها ، أي : جعلكم قادرين على عمارتها ، كقوله تعالى في الأعراف : { وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً } [ الأعراف : من الآية 74 ] ، { فَاسْتَغْفِرُوهُ } أي : من الشرك : { ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } بالتوحيد : { إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } أي : قريب الرحمة لمن استغفره ، مجيب دعاءه بالقبول .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } [ 62 ] .
{ قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا } أي : كانت تلوح فيك مخايل الخير ، وأمارات الرشد ، فكنا نرجوك لننتفع بك ، وتكون مشاوراً في الأمور ، ومسترشداً في التدابير ، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك ، وعلمنا أن لا خير فيك . كذا في " الكشاف " .
{ أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } أي : من الأوثان : { وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } أي : من التوحيد : { مُرِيبٍ } أي : موقع في الريبة ، وهي قلق النفس ، وانتفاء الطمأنينة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ } [ 63 ] .
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ } أي : أخبروني : { إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً } أي : حجة ظاهرة ، وبرهان وبصيرة : { مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً } أي : هداية ونبوة : { فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ } أي : ينجيني من عذابه : { إِنْ عَصَيْتُهُ } أي : بالمجاراة معكم في أهوائكم { فَمَا تَزِيدُونَنِي } أي : باستتباعكم إياي : { غَيْرَ تَخْسِيرٍ } أي : غير أن تجعلوني خاسراً تعريضي لسخط الله . أو فما تزيدونني بما تقولون إلا تبصرة بكم بأن أنسبكم إلى الخسران .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ } [ 64 ] .
{ وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ } الإضافة للتشريف ، والإعلام بمباينتها لما يجانسها من حيث الخلقة والخُلق : { لَكُمْ آيَةً } أي : معجزة دالة على صدق نبوتي : { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ } من فرط غضب الله عليكم ، لاجترائكم على آياته المنسوبة إليه .
ثم أخبر بأنهم لم يسمعوا قوله ، ولم يطيعوا بعد رؤية هذه الآية ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [ 65 ] .
{ فَعَقَرُوهَا } أي : قتلوها : { فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } أي : مردود .
قال في " الإكليل " : استدل به في إمهال الخصم ونحوه ثلاثة . وفيه دليل على أن لـ ( المثلاثة ) نظراً في الشرع ، ولهذا شرعت في ( الخيار ) ونحوه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ } [ 66 ] .
{ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا } أي : عذابنا وهو الصيحة ، كما سيبين : { نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ } أي : بسبب رحمة عظيمة : { مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ } وهو هلاكهم بالصيحة : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ } أي : القادر على كل شيء ، والغالب عليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [ 67 ] .
{ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ } أي : من جهة السماء ، فرجفوا لها رجفة الهلاك
{ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } أي : هامدين موتى لا يتحركون . ولا يخفى ما فيه من الدلالة على شدة الأخذ وسرعته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ } [ 68 ] .
{ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ } أي : كأنهم لم يقيموا : { فِيهَا } أي : في مساكنهم : { أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ } أي : فأهلكهم { أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ } أي : هلاكاً ولعنة ؛ لبعدهم عن صراطه . وقد قدمنا الكلام على تفصيل نبئهم في الأعراف بما يغني عن إعادته هنا ، فليراجع .
ثم أشار تعالى إلى نبأ لوط وهلاك قومه ، وهو النبأ الرابع من أنباء هذه السورة ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } [ 69 ] .
{ وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا } أي : الملائكة الذين أرسلناهم لإهلاك قوم لوط : { إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى } أي : بولد وولده . ثم بين أنهم قدموا على التبشير ما يفيد سروراً ، ليكون التبشير سروراً فوق سرور ، بقوله تعالى : { قَالُواْ سَلاَماً } أي : سلمنا عليك سلاماً { قَالَ سَلاَمٌ } أي : عليكم سلام ، أو سلام عليكم ، رفعه إجابة بأحسن من تحيتهم ؛ لأن الرفع أدل على الثبوت من النصب .
ثم أشار إلى إحسان ضيافتهم بقوله : { فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } أي : مشوي ، أو سمين يقطر ودكه ، لقوله : { بِعِجْلٍ سَمِينٍ } [ الذاريات : من الآية 26 ] .
في ( ما ) ثلاثة أوجه : أظهرها أنها نافية ، وفاعل ( لبث ) إما ضمير ( إبراهيم ) ، و : { أنْ جاءَ } مقدر بحرف جر متعلق به ، أي : ما أبطأ في ، أو بأن أو عن ( أن جاء ) ، وإما ( أن جاء ) أي : فما أبطأ ، ولا تأخر مجيئه بعجل . وثاني الأوجه : أنها مصدرية ، وثالثها : أنها بمعنى ( الذي ) وهي فيهما مبتدأ ، و ( أن جاء ) خبره على حذف مضاف . أي : فلبثته ، أو الذي لبثه قدر مجيئه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ } [ 70 ] .
{ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ } أي : لا يمدون إليه أيديهم : { نَكِرَهُمْ } أي : أنكرهم { وَأَوْجَسَ } أي : أحس : { مِنْهُمْ خِيفَةً } لظنه أنهم بشر أرادوا به مكروهاً . والضيف إذا همَّ بفتك لا يأكل من الطعام في عادتهم { قَالُواْ } أي : له لما علموا منه الخوف بإخباره لهم ، كما في آية : { قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لا تَوْجَل } [ الحجر : من الآية 52 - 53 ] . كما قيل هنا : { لاَ تَخَفْ } أي : إنا لا نأكل لأنا ملائكة ، ولم ننزل بالعذاب عليكم : { إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ } أي : لإهلاكهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ } [ 71 ]
{ وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ } أي : سروراً بزوال الخيفة ، أو بهلاك أهل الخبائث { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ } . أي : يولد له . والاسمان يحتمل وقوعهما في البشارة ، أو أنهما حكيا بعد أن ولدا وسُمَّيا بذلك . وتوجيه البشارة إليها هنا ، مع ورود البشارة إلى إبراهيم في آية أخرى ، كآية : { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ } [ الصافات : 101 ] ، { وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } [ الذاريات : من الآية 28 ] ؛ إيذان بمشاركتها لإبراهيم في ذلك حين ورودها ، وإشارة إلى أن ذكر أحدهما فيه اكتفاء عن الآخر ، والمقام أمس بذكره وأبلغ . أو للتوصل إلى سوق نبئها في ذلك ، وخرق العادة فيه ، كما لوح به تعجبها في قوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } [ 72 ] .
{ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى } أي : يا عجبي . وأصله للدعاء بالويل ونحوه ، في جزع التفجع لشدة مكروه يدهم النفس ، ثم استعمل في التعجب . وألفه بدل من ياء المتكلم ، ولذلك أمالها أبو عَمْرو وعاصم في رواية ، وبها قرأ الحسن ( يا ويلتي ) . وقيل : هي ألف الندبة ، ويوقف عليها بهاء السكت .
{ أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ } أي : امرأة مسنة - والأفصح ترك الهاء معها - وسمع من بعض العرب ( عجوزة ) - حكاه يونس - : { وَهَذَا بَعْلِي } أي : زوجي إبراهيم : { شَيْخاً إِنَّ هَذَا } أي : التولد من هرمين : { لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } أي : غريب ، لم تجر به العادة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ } [ 73 ] .
{ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ } أي : أتستبعدين من شأنه وقدرته خلق الولد من الهرمين ؟ .
قال الزمخشري : وإنما أنكرت عليها الملائكة تعجبها ؛ لأنها كانت في بيت الآيات ، ومهبط المعجزات ، والأمور الخارقة للعادات ، فكان عليها أن تتوقر ، ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء الناشئات في غير بيت النبوة ، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب ، وإلى ذلك أشارت الملائكة صلوات الله عليهم في قولهم : { رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ } أردوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة ، ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوة ، فليست بمكان عجب . والكلام مستأنف ، علل به إنكار التعجب ، كأنه قيل : ( إياك والتعجب ) فإن أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم - انتهى - .
فالجملة خبرية ، وجوز كونها دعائية . و ( أهل البيت ) نصب على النداء أو التخصيص ؛ لأن أهل البيت مدح لهم ؛ إذ المراد أهل بيت خليل الرحمن .
{ إِنَّهُ حَمِيدٌ } أي : مستحق للمحامد ، لما وهبه من جلائل النعم : { مَّجِيدٌ } أي : كريم واسع الإحسان ، فلا يبعد أن يعطي الولد بعد الكبر . وهو تذييل بديع لبيان أن مقتضى حالها أن تحمد مستوجب الحمد المحسن إليها بما أحسن وتمجده ؛ إذ شرفها بما شرف .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ } [ 74 ] .
{ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ } أي : خيفة إرادة المكروه منهم بعرفانهم : { وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىْ } أي : بدل الروع : { يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ } أي : في هلاكهم استعطافاً لدفعه .
روي أنه قال : أتهلك البار مع الأثيم ، أتهلكها وفيهم خمسون باراً ؟ حاشا لك ! .
فقيل له : إن وجد فيهم خمسون باراً فنصفح عن الجميع لأجلهم ! .
فقال : أو أربعون ؟ .
فقيل : أو أربعون ! .
وهكذا إلى أن قال : أو عشرة ، فقيل له . لا نهلكها من أجل العشرة ، إلا أنه ليس فيها عشرة أبرار ، بل جميعهم منهمك في الفاحشة . فقال : إنه فيها لوطاً ! فقيل : نحن أعلم بمن فيها لننجينه .
و : { يُجَادِلُنَا } جواب ( لما ) جيء به مضارعاً على حكاية الحال . أو أن ( لما ) كـ ( لو ) تقلب المضارع ماضياً ، كما أن ( إن ) تقلب الماضي مستقبلاً ، أو الجواب محذوف ، والمذكور دليله أو متعلق به .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ } [ 75 ] .
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ } أي : غير عجول على الانتقام من المسيء : { أَوَّاهٌ } كثير التأسف : { مُّنِيبٌ } أي : راجع إلى الله في كل ما يحبه ويرضاه . والمقصود بتعداد صفاته الجميلة المذكورة ؛ بيان الحامل على المجادلة ، وهو رقة القلب وفرط الترحم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } [ 76 ] .
{ يَا إِبْرَاهِيمُ } أي : قيل له : يا إبراهيم : { أَعْرِضْ عَنْ هَذَا } أي : الجدال : { إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ } أي : حكمه بهلاكهم : { وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } أي : بجدال ولا بدعاء ، ولا بغيرهما .
فوائد :
قال بعض المفسرين : لهذه الآيات ثمرات : وهي أن حصول الولد المخصص بالفضل نعمة ، وهلاك العاصي نعمة ، لأن البشرى قد فسرت بولادة إسحاق ، كما في آخر الآية ، وهي : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ } الخ وفسرت بهلاك قوم لوط .
ومنها : استحباب نزول المبشِّر على المبشَّر ؛ لأن الملائكة أرسلهم الله بذلك .
ومنها : أنه يستحب للمبشَّر تلقي ذلك بالطاعة ، شكراً لله تعالى على ما بُشر به .
وحكى الأصم أنهم جاؤوه في أرض يعمل فيها ، فلما فرغ غرز مسحاته ، وصلى ركعتين .
ومنها : أن السلام مشروع ، وأنه ينبغي أن يكون الرد أفضل ؛ لقول إبراهيم : { سَلامٌ } بالرفع ، كما تقدم شرحه - انتهى - .
ومنها : مشروعية الضيافة ، والمبادرة إليها ، واستحباب مبادرة الضيف بالأكل منها .
ومنها : استحباب خدمة الضيف ، ولو للمرأة لقول مجاهد : { وَامْرَأَتُهُ قَائِمَة } أي : في خدمة أضياف إبراهيم . قال في " الوجيز " : وكن لا يحتجبن ، كعادة العرب ونازلة البوادي ، أو كانت عجوزاً ، وخدمة الضيفان من مكارم الأخلاق .
ومنها : جواز مراجعة المرأة الأجانب في القول ، وأن صوتها ليس بعورة . كذا في " الإكليل " .
ومنها : أن امرأة الرجل من أهل بيته ، فيكون أزواجه عليه الصلاة والسلام من أهل بيته . ويأتي ذلك أيضاً في آية : { فَأَسْرِ بِأَهْلِك } [ هود : من الآية 81 ] و [ الحجر : 65 ] .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ } [ 77 ] .
{ وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً } أي : بعد منصرفها من عند إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وكان مقيماً في ( بلوط ممرا ) التي بـ ( حبرون ) المدينة المعروفة اليوم بـ ( الخليل ) ؛ : { سِيءَ بِهِمْ } أي : ساءه مجيئهم ؛ لأنهم أتوه على صورة مُرد ، حسان الوجوه ، فخاف أن يقصدهم قومه ، لظنه أنهم بشر : { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً } يقال : ضاق بالأمر ذرعه وذراعه ، وضاق به ذرعاً ، أي : ضعفت طاقته ، لم يجد من المكروه فيه مخلصاً .
قال الجوهري : أصل الذرع : بسط اليد ، فكأنك تريد : مددت يدك إليه فلم تنله . وقيل : وجه التمثيل : أن القصير الذراع لا ينال ما يناله الطويل الذراع ، ولا يطيق طاقته ، فضُرب مثلاً للذي سقطت قوته ، دون بلوغ الأمر والاقتدار عليه .
وقال الأزهري : الذرع يوضع موضع الطاقة ، والأصل فيه : أن البعير يذرع بيديه في سيره ذرعاً ، على قدر سعة خطوه ، فإذا حمل عليه أكثر من طوقه طاق به ذرعاً عن ذلك وضعف ، ومدَّ عنقه ، فجعل ضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع والطاقة .
و ( ذرعاً ) تمييز ، لأنه خرج مفسراً محوَّلاً . الأصل : ضاق ذرعي به ، وشاهد الذراع قوله :
~وإن بات وحشاً ليلة لم يضق بها ذراعاً ولم يُصبح لها وهو خاشع
{ وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ } أي : شديد . وكيف لا يشتد عليه ، وقد ألم المحذور ، كما قال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } [ 78 ] .
{ وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ } أي : يسرعون كأنما يدفعون دفعاً . وقرئ مبنياً للفاعل { وَمِن قَبْلُ } أي : قبل مجيئهم : { كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ } أي : الفواحش ويكثرونها ، فمرنوا عليها ، وقل عندهم استقباحها ، فلذلك جاءوا مسرعين مجاهرين ، لا يكفهم حياء ، فالجملة معترضة لتأكيد ما قبلها . وقيل : إنها بيان لوجه ضيق صدره ، أي : لما عرف لوط عادتهم في عمل الفواحش قبل ذلك : { قَالَ } أي : لوط : { يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } أراد أن يقي أضيافه ببناته ، وذلك غاية الكرم ، أي : فتزوجوهن . أو كان ذلك مبالغة في تواضعه لهم ، وإظهار لشدة امتعاضه ، مما أوردوا عليه ، طمعاً في أن يستحيوا منه ، ويرقوا له إذا سمعوا ذلك فيتركوا ضيوفه - هذا ملخص ما في " الكشاف " ومن تابعه - وظاهر أنه عليه السلام كان واثقاً بأن قومه لا يؤثرونهن بوجه ما ، مهما أطرى وأطنب وشوق ورغب ، فكان إظهاره وقاية ضيفانه ، وفداءهم بهن ، مع وثوقه المذكور وجزمه ؛ - مبالغة في الاعتناء بحمايتهم ، وقياماً بالواجب في مثل هذا الخطب الفادح الفاضح ، الذي يدوم عاره وشناره ، من الدفاع عنهم بأقصى ما يمكن لكيلا ينسب إلى قصور ، وليعلم أن لا غاية وراء هذا لمن لا ركن له من عشيرة أو قبيلة ، فذلك غاية الغايات في حيطتهم ووقايتهم .
وفي قوله : { هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } من التشويق ، على مرأى من ضيفانه ومسمع ، ما فيه من زيادة الكرم والإكرام ، ورعاية الذمام . وبالجملة فهو ترغيب بمُحال الوقوع باطناً ، وإعذار لنزلائه ظاهراً - والله أعلم - وفي هذا إرشاد إلى التطهر بالطرق المسنونة ، وهي النكاح . وإشارة إلى تناهي وقاحة أولئك بما استأهلوا به أخذهم الآتي .
{ فَاتَّقُواْ اللّهَ } أي : أن تعصوه بما هو أشد من الزنى خبثاً .
{ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي } أي : ولا تهينوني وتفضحوني في شأنهم ، فإنه إذا خزي ضيف الرجل أو جاره ؛ فقد خزي الرجل ، وذلك من عراقة الكرم ، وأصالة المروءة . و ( تخزون ) مجزوم بحذف النون ، والياء محذوفة اكتفاء بالكسرة ، وقرئ بإثباتها على الأصل .
{ أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } أي : فيرعوي عن القبيح ، ويهتدي إلى الصواب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } [ 79 ] .
{ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ } أي : حاجة ؛ إذ لا نريدهن ، وفي تصدير كلامهم باللام المؤذنة بأن ما بعدها جواب القسم ، أي : والله لقد علمت ، إشارة إلى ما ذكرناه من أنه كان واثقاً وجازماً بعدم رغبتهم فيهن ، وأيد ذلك قولهم : { وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } استشهاداً بعلمه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ } [ 80 ] .
{ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً } أي : بدفعكم قوة ، بالبدن أو الولد : { أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ } أي : عشيرة كثيرة ، لأنه كان غريباً عن قومه ، شبهها بركن الجبل في الشدة والمنعة .
أي : لفعلت بكم ما فعلت ، وصنعت ما صنعت .
تنبيه :
قال الإمام ابن حزم رحمه الله في " الملل " :
ظن بعض الفرق أن ما جاء في الحديث الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم : < رحم الله لوطاً ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد > إنكار على لوط عليه السلام . ولا تخالف بين القولين ، بل كلاهما حق ، لأن لوطاً عليه السلام إنما أراد منعة عاجلة يمنع بها قومه مما هم عليه من الفواحش ، من قرابة أو عشيرة أو أتباع مؤمنين . وما جهل قط لوط عليه السلام أنه يأوي من ربه تعالى إلى أمنع قوة ، وأشد ركن . ولا جناح على لوط عليه السلام في طلب قوة الناس ، فقد قال تعالى : { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ } [ البقرة : من الآية 251 ] فهذا الذي طلب لوط عليه السلام . وقد طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار والمهاجرين منعه حتى يبلغ كلام ربه تعالى . فكيف ينكر على لوط أمراً هو فعله عليه السلام . تالله ما أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما أخبر أن لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد ، يعني من نصر الله له بالملائكة . ولم يكن لوط علم بذلك . ومن اعتقد أن لوطاً كان يعتقد أنه ليس له من الله ركن شديد ؛ فقد كفر ، إذ نسب إلى نبي من الأنبياء هذا الكفر . وهذا أيضاً ظن سخيف ؛ إذ من الممتنع أن يظن برب أراه المعجزات ، وهو دائباً يدعو إليه ، هذا الظن . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } [ 81 ] .
{ قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ } أي : إلى إضرارك بإضرارنا : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ } أي : بطائفة من آخره ، أي : ببقية سواد منه عند السحر ، وهو وقت استغراقهم في النوم ، فلا يمكنهم التعرض له ولا لأهله . وقرئ : { فَأَسْرِ } بالقطع والوصل .
{ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } أي : لا ينظر إلى ورائه ، لئلا يلحقه أثر ما نزل عليهم : { إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ } أي : من العذاب ، فإنها لما سمعت وجبة العذاب التفتت فهلكت .
قال في " الإكليل " : فيه أن المرأة والأولاد من الأهل .
{ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } أي : موعدهم بالهلاك الصبح ، والجملة كالتعليل للأمر بالإسراء ، أو جواب لاستعجال لوط واستبطائه العذاب ، أو ذكرت ليتعجل في السير ، فإن قرب الصبح داع إلى الإسراع في الإسراء ، للتباعد عن موقع العذاب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ } [ 82 ] .
{ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا } أي : عذابنا : { جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا } أي : فقلبت تلك المدن ونبتها بسكانها جميعاً { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ } أي : طين متحجر ، كقوله : { حِجَارَةً مِنْ طِينٍ } [ الذاريات : من الآية 33 ] ، { مَّنضُودٍ } أي : يرسل بعضه في إثر بعض متتابعاً .
قال المهايمي : اتصل بعضه ببعض ، ليرجموا رجم الزناة ، بما يناسب قسوتهم ورينهم الذي اتصل بقلوبهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } [ 83 ] .
{ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ } معلمة عنده : { وَمَا هِيَ } أي : تلك الحجارة : { مِنَ الظَّالِمِينَ } أي : بالشرك وغيره : { بِبَعِيدٍ } فإنهم بسبب ظلمهم مستحقون لها ، وملابسون بها . وفيه وعيد شديد لأهل الظلم كافة . وقيل : الضمير للقرى ، أي : هي قريبة من ظالمي مكة ، يمرون بها في أسفارهم إلى الشام ، وقد صار موضع تلك المدن بحر ماء أجاج لم يزل إلى يومنا هذا ، ويعرف بـ : ( البحر الميت ) لأن مياهه لا تغذي شيئاً من جنس الحيوان ، وبـ ( بحر الزفت ) أيضاً ؛ لأنه ينبعث من عمق مقره إلى سطحه ، فيطفو فوقه ، وبـ ( بحيرة لوط ) والأرض التي تليها قاحلة لا تنبت شيئاً .
قال أبو السعود : وتذكير ( بعيد ) على تأويل ( الحجارة ) بالحجر ، أو إجرائه على موصوف مذكر ، أي : بشيء بعيد ، أو لأنه على أنه المصدر ، كـ : ( الزفير ) و ( الصهيل ) . والمصادر يستوي في الوصف بها ، المذكر والمؤنث .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } [ 84 ] .
{ وَإِلَى مَدْيَنَ } أي : وأرسلنا إلى مدين ، عطف على ما قبله و ( مدين ) بلد بين الحجاز والشام ، على مقربة من ( معان ) ويطلق على أهلها ، وهم قوم من العرب كانوا يعمرونها .
{ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ } أي : لتبخسوا الناس أشياءهم بالباطل : { إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ } أي : نعمة وثروة في رزقكم ومعيشتكم ، وعافية وتمتع في وجودكم . يعني : فلا تتعرضوا لزوال ذلك عنكم بما تأتونه مما تنهون عنه ، كما قال سبحانه : { وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } أي : مهلك ، أو لا يشذ منه أحد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [ 85 ]
{ وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ } أي : العدل .
قال الزمخشري : فإن قلت : النهي عن النقصان أمر بالإيفاء ، فما فائدة قوله : { أَوْفُواْ } ؟ .
قلت : نهوا أولاً عن عين القبح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان ؛ لأن في التصريح بالقبيح بغياً على المنهي ، وتعييراً له . ثم ورد الأمر بالإيفاء ، الذي هو حسن في العقول ، مصرحاً بلفظه لزيادة ترغيبٍ فيه ، وبعث عليه ، وجيء به مقيداً ( بالقسط ) أي : ليكن الإيفاء على وجه العدل والتسوية ، من غير زيادة ولا نقصان أمراً بما هو الواجب ؛ لأن ما جاوز العدل فضل ، وأمر مندوب إليه ، وفيه توقيف على أن الموفي عليه أن ينوي بالوفاء القسط ؛ لأن الإيفاء وجه حسنه أنه قسط وعدل . فهذه ثلاث فوائد . انتهى - .
{ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ } أي : لا تنقصوهم حقوقهم بطريق من الطرق ، كالكيل والوزن وغيرهما ، فهو تعميم بعد تخصيص ؛ لأنه أعم من أن يكون في المقدار وغيره . والبخس : الهضم والنقص . ويقال للمكس : البخس ، قال زهير :
~أفي كل أسواق العراق إتاوة وفي كل ما باع امرؤ بخس درهم
~ألا تستحي منا ملوك وتتقي محارمنا لا تتقي الدم بالدم
وروي ( مكس درهم ) . يريد زهير : أخذ الخراج وما هو اليوم في الأسواق من رسوم وظلم . وكان قوم شعيب يأخذون من كل شيء يباع شيئاً ، كما تفعل السماسرة ، أو كانوا يمكسون الناس ، أو كانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء ، فنهوا عن ذلك ، كذا في " الكشاف " و " شرحه " .
قال القاشاني : لما رأى شعيب عليه السلام ، ضلالتهم بالشرك ، واحتجابهم عن الحق بالجبت ، وتهالكهم على كسب الحطام بأنواع الرذائل ، وتماديهم في الحرص على جمع المال بأسوأ الخصال ؛ نهاهم عن ذلك ، وقال : إني أراكم بخير في استعدادكم من إمكان حصول كمال وقبول هداية ، وإني أخاف عليكم إحاطة خطيئاتكم ؛ لاحتجابكم عن الحق ، ووقوفكم مع الغير ، وصرف أفكاركم بالكلية إلى طلب المعاش ، وإعراضكم عن المعاد ، وقصور هممكم على إحراز الفاسدات الفانيات عن تحصيل الباقيات الصالحات ، فلازموا التوحيد والعدالة واعتزلوا عن الشرك والظلم ، الذي هو جماع الرذائل وأم الغوائل .
{ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } أي : لا تعملوا فيها الفساد . يعم أيضاً تنقيص الحقوق وغيره ، كالسرقة ، والدعاء إليه ، والصد عن الإيمان ونحوها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ } [ 86 ] .
{ بَقِيَّةُ اللّهِ } أي : ثوابه الباقي على وفاء الكيل والوزن ، أو ما أبقاه عليكم بعد التنزه عن الحرام ، أو ما تفضل عليكم من الربح بعد وفائهما : { خَيْرٌ لَّكُمْ } أي : في دينكم ودنياكم : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } فإن المؤمن يبارك له إذا تنزه عن الحرام . أو مصدقين بما أقول .
وقال القاشاني : أي : إن كنتم مصدقين ببقاء شيء ، فما يبقى لكم عند الله من الكمالات والسعادات الأخروية ، خير لكم من تلك المكاسب الفانية التي تشقون بها ، وتشقون على أنفسكم في كسبها وتحصيلها ، ثم تتركونها بالموت ، ولا يبقى منها معكم شيء إلا وبال التبعات والعذاب اللازم ، لما في نفوسكم من رواسخ الهيئات .
{ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ } أي : رقيب لأحفظكم عن القبائح وأكفكم عنها بسيطرة . وإنما أنا مبلغ نذير .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } [ 87 ] .
{ قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } أي : من الأصنام ، أجابوا به أمرهم بالتوحيد على الاستهزاء والتهكم بصلواته ، والإشعار بأن مثله لا يدعو إليه داع عقلي ، وإنما دعاك إليه خطرات ووساوس من جنس ما تواظب عليه . وكان شعيب كثير الصلاة ، فلذلك جمعوا وخصوا الصلاة بالذكر . وقرئ : ( أصلاتك ) بالإفراد - قاله القاضي .
{ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء } من نقص ونحوه : { إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } أي : الموصوف بالحلم والرشد في قومك ، يعنون أن ما تأمر به لا يطابق حالك ، وما شهرت به .
كما قال قوم صالح عليه السلام : { قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا } [ هود : من الآية 62 ] ، أو قالوا ذلك تهكماً به ، والمراد أنه على الضد من ذلك . قيل : وهذا أرجح ؛ لأنه أنسب بتهكمهم قبله ، والأدق هو الأول لمماثلته لما خوطب به صالح ، وتعقيبه بمثل ما عقب به ، وهو قوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ 88 ] .
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي } أي : أخبروني إن كنت على برهان يقيني مما أتاني ربي من العمل والنبوة : { وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً } أي : مالاً حلالاً مكتسباً بلا بخس وتطفيف ، أو حكمة ونبوة ، وكمالاً وتكميلاً ، بالاستقامة على التوحيد . هل يصح لي أن أخون الوحي ، وأترك النهي عن الشرك والظلم ، والإصلاح بالتزكية والتحلية . وهو اعتذار عما أنكروه عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء . وحذف جواب ( أرأيتم ) لما دل عليه في مثله ، كما مر في نبأ نوح وصالح عليهما السلام ، وعلى خصوصيته هنا من قوله : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } أي : وما أريد أن آتي ما أنهكم عنه ، لأستبد به دونكم ، فلو كان صواباً لآثرته ، ولم أعرض عنه ، فضلاً عن أن أنهى عنه - أفاده القاضي - .
وفي " التاج " : يقال خالفه إلى الشيء : عصاه إليه ، أو قصده بعد ما نهاه عنه ، وهو من ذلك .
قال القاشاني : أي : ما أقصد إلى جر المنافع الدنيوية الفانية ، بارتكاب الظلم الذي أنهاكم عنه .
{ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ } أي : إصلاح نفوسكم بالتزكية ، والتهيئة لقبول الحكمة ، ما دمت مستطيعاً متمكناً منه { وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ } أي : وما كوني موفقاً للإصلاح إلا بمعونة الله وتأييده { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي : أعتمد : { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي : أرجع في السراء والضراء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } [ 89 ] .
{ وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي } أي : لا يكسبنكم عدواتي : { أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ } من الغرق والريح والصيحة : { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } فإن منازلهم قريبة منكم ، وقد علمتم ما نزل بهم من قلب الأرض وإمطار الحجارة . وذلك لأن مخالفة الرسل تقتضي أحد هذه الأمور .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } [ 90 ] .
{ وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ } أي : من عبادة الأصنام : { ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } أي : بالتوحيد ، أو بالرجوع عن البخس والتطفيف : { إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ } أي : للمستغفرين التائبين : { وَدُودٌ } أي : مبالغ في المحبة لهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } [ 91 ] .
{ قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ } أي : ما نفهم : { كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ } كالتوحيد ، وحرمة البخس . يعنون أنهم لا يقبلونه ، أو قالوا ذلك استهانة به ، كما يقول الرجل لمن لا يعبأ بحديثه : ما أدري ما تقول ! أو جعلوا كلامه هذياناً وتخليطاً لا ينفعهم كثير منه ، و ( الكثير ) مراد به الكل ، أو قالوه فراراً من المكابرة .
قال أبو السعود : الفقه معرفة غرض المتكلم من كلامه . أي : ما نفهم مرادك ، وإنما قالوه بعد ما سمعوا منه دلائل الحق البين على أحسن وجه وأبلغه ، وضاقت عليهم الحيل ، فلم يجدوا إلى محاورته سبيلاً ، سوى الصدود عن منهاج الحق ، والسلوك إلى سبيل الشقاء ، كما هو ديدن المفحم المحجوج ، يقابل البينات بالسب والإبراق والإرعاد . فجعلوا كلامه المشتمل على فنون الحكم والمواعظ ، وأنواع العلوم والمعارف ، من قبيل ما لا يفهم معناه ، ولا يدرك فحواه ، وأدمجوا في ضمن ذلك أن في تضاعيفه ما يستوجب أقصى ما يكون من المؤاخذة والعقاب . ولعل ذلك ما فيه من التحذير من عواقب الأمم السالفة ، ولذلك قالوا :
{ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً } أي : لا قوة لك ، فتمتنع منا إن أردنا بك سوءاً : { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ } أي : قومك وأنهم على ملتنا : { لَرَجَمْنَاكَ } أي : قتلناك برمي الأحجار ، أو شر قتلة : { وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } أي : لا تعز علينا ولا تكرم حتى نكرمك ونمنعك من الرجم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } [ 92 ] .
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ } أي : من أمره ووحيه ودينه { وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً } أي : نسيتموه وجعلتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به ، و ( الظهري ) منسوب إلى الظهر ، والكسر من تغييرات النسب كما قالوا : ( إِمسي ) بالكسر في النسبة إلى ( أمس ) و ( دُهري ) بالضم بالنسبة إلى ( الدهر ) : { إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } أي : عالم لا يخفى عليه فيجازيكم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } [ 93 ] .
{ وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ } أي : غاية تمكنكم واستطاعتكم ، أو على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها ، من كفركم وعداوتكم : { إِنِّي عَامِلٌ } أي : على مكانتي التي كنت عليها من الثبات على الإسلام والمصابرة .
{ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } أي : منتظر لهلاككم . وفي زيادة ( معكم ) إظهار منه عليه السلام لكمال الوثوق بأمره .
قال الزمخشري : فإن قلت : أي : فرق بين إدخال الفاء ونزعها في : { سَوْفَ تَعْلَمُونَ } ؟ قلت : إدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل ، ونزعها وصل خفي تقديري بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر ، كأنهم قالوا : فما يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا ، وعلمت أنت ؟ فقال : سوف تعلمون ! فوصل تارة بالفاء ، وتارة بالاستئناف ، للتفنن في البلاغة ، كما هو عادة بلغاء العرب ، وأقوى الوصلين ، وأبلغهما الاستئناف ؛ للإشعار بأنه مما يسأل عنه ، ويعتني به ، ولذا كان أبلغ في التهويل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [ 94 ] .
{ وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا } إنما ذكره بالواو ، كما في قصة عاد ، إذ لم يسبقه ذكر وعد يجري مجرى السبب له بخلاف قصتي صالح ولوط ، فإنه ذكر بعد الوعد ، وذلك قوله : { وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [ هود : من الآية 65 ] ، وقوله : { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْح } [ هود : من الآية 81 ] ، فلذلك جاء بفاء السببية . أفاده القاضي .
{ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ } أي : بالعذاب : { فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } أي : ميتين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } [ 95 ] .
{ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ } أي : يقيموا : { فِيهَا أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } شبههم بهم ، لأن عذابهم كان أيضاً بالصيحة ، وكانوا قريباً منهم في المنزل ، نظراءهم في الكفر وقطع الطريق ، وكانوا أعراباً مثلهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } [ 96 ] .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا } أي : التسع : { وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } وهو العصا . وكانت أبهر معجزاته ، فلذا خصت ، أو هو الآيات ، والعطف للإشارة إلى الجمع بين كونها آيات وسلطاناً واضحاً على رسالته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } [ 97 ] .
{ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ } أي : بالكفر بموسى ، أو طريقة فرعون الجائرة .
قال الزمخشري : هذا تجهيل لمتبعيه ، حيث شايعوه على أمره ، وهو ضلال مبين لا يخفى على من فيه أدنى مسكة من العقل . وذلك أنه ادعى الإلهية ، وهو بشر مثلهم ، وجاهر بالعسف والظلم والشر الذي لا يأتي إلا من شيطان مارد ، فاتبعوه وسلموا له دعواه ، وتتابعوا على طاعته .
{ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } أي : بمرشد ، أو ذي رشد ، وإنما هو غي وضلال .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ } [ 98 ] .
{ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : يتقدمهم إلى النار ، كما كان يقدمهم في الدنيا إلى الضلال : { فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ } أي : يوردهم . وإيثار لفظ الماضي للدلالة على تحققه والقطع به . وشبه فرعون بالفارط الذي يتقدم الواردة إلى الماء ، وأتباعه بالواردة ، والنار بالماء الذي يردونه .
ثم قيل : { وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ } أي : بئس الذي يردونه النار ، لأن الورد - وهو النصيب من الماء - إنما يراد لتسكين الظمأ ، وتبريد الكبد ، والنار على الضد من ذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ } [ 99 ] .
{ وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ } أي : الدنيا : { لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : يلعنون في الدنيا والآخرة ، فهي تابعة لهم أين كانوا ، فـ : ( يوم ) معطوف على محل ( في ) هذه ؛ لابتداء كلام .
{ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُود } أي : بئس العطاء المعطى ، وهي اللعنة في الدارين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } [ 100 ] .
{ ذَلِكَ } إشارة إلى ما قص من أنباء الأمم : { مِنْ أَنبَاء الْقُرَى } أي : المهلكة : { نَقُصُّهُ عَلَيْكَ } أي : بالوحي : { مِنْهَا قَآئِمٌ } أي : باق ينظر إليها ، قد باد أهلها : { وَحَصِيدٌ } أي : ومنها عافي الأثر كالزرع المحصود .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } [ 101 ] .
{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } بإهلاكنا إياهم : { وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } أي : بتعريضها لما أوجبه من الشرك وعبادة الأوثان والظلم : { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } أي : إهلاك وتخسير .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ 102 ] .
{ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } فيه إشعار بظلمهم وإعلام بسنته تعالى في أخذ الظالمين التي لا تتبدل ، وإنذار كل ظالم ظلم نفسه ، أي : غيره ، من سوء العاقبة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } [ 103 ] .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : فيما قص في هذه السورة ، أو في أخذ الظالمين : { لآيَةً } أي : لعبرة : { لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ } فيعتبر بها عن موجباته : { ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } أي : يشهده الأولون والآخرون ، وأهل السماء والأرض .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ } [ 104 ] .
{ وَمَا نُؤَخِّرُهُ } أي : ذلك اليوم : { إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ } أي : لمدة محدودة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [ 105 ] .
{ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } أي : بإذن الله تعالى ، كقوله تعالى : { لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً } [ النبأ : من الآية 38 ] ، { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } [ 106 ] .
{ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } الزفير : إخراج النفس مع صوت ممدود ، والشهيق : رده . كني بهما عن الغم والكرب ، لأنه يعلو معه النفس غالباً . أو شبه صراخهم بأصوات الحمير .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [ 107 - 108 ] .
{ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ } أي : غير مقطوع ، ولكنه ممتد إلى غير نهاية .
وفي التوقيت بـ : ( السماوات والأرض ) وجهان :
أحدهما : أن يكون عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع ، كقول العرب : ( ما أقام ثبير ) ، و ( ما لاح كوكب ) و ( ما طما البحر ) ونحوها ، لا تعليق قرارهم في الدارين بدوام هذه السماوات والأرض ، فإن النصوص دالة على تأبيد قرارهم ، وانقطاع دوامهما .
وثانيهما : أن يراد سماوات الآخرة وأرضها ، إذ لا بد لأهلها من مظل ومقل ، قال تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } [ إبراهيم : من الآية 48 ] ، وقوله : { وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ } [ الزمر : من الآية 74 ] .
فإن قلت : ما معنى الاستثناء بالمشيئة ، وقد ثبت خلود أهل الدارين فيهما من غير استثناء ؟ .
فالجواب ما قدمناه في قوله تعالى : { قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه } [ الأعراف : من الآية 188 ] ، يعني أن الاستثناء بالمشيئة قد استعمل في أسلوب القرآن ، للدلالة على الثبوت والاستمرار .
والنكتة في الاستثناء بيان أن هذه الأمور الثابتة الدائمة إنما كانت كذلك بمشيئة الله تعالى بطبيعتها في نفسها ، ولو شاء تعالى أن يغيرها لفعل .
وقد أشار لهذا ابن كثير بقوله : يعني أن دوامهم ليس أمراً واجباً بذاته ، بل موكول إلى مشيئته تعالى .
وابن عطية بقوله : هذا على طريق الاستثناء الذي ندب الشارع إلى استعماله في كل كلام ، كقوله : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ } [ الفتح : من الآية 27 ] فليس يحتاج أن يوصف بمتصل ولا منقطع .
وللمفسرين هنا وجوه كثيرة ، وما ذكرناه أحقها وأبدعها .
ولما قص تعالى قصص عَبْدة الأوثان وذكر ما أحله بهم من نقمة ، وما أعد لهم من عذابه قال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ } [ 109 ]
{ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء } أي : في شك من عبادتهم ، في أنها ضلال مؤد إلى مثل ما حل بمن قبلهم . وفيه تسلية له صلوات الله عليه ، وعدة بالانتقام ، ووعيد لهم { مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ } أي : فهم سواء في الإشراك ، وقد بلغك ما نزل بآبائهم ، فسيحل بهم مثله . وهو استئناف معلل للنهي عن المرية : { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أي : من العذاب ، كما وفي لآبائهم : { غَيْرَ مَنقُوصٍ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } [ 110 ]
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَاب } أي : التوراة : { فَاخْتُلِفَ فِيهِ } أي : آمن به قوم ، وكفر به آخرون ، كما اختلف هؤلاء في القرآن : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } يعني ما أشير إليه في قوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : من الآية 33 ] ، { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي : باستئصالهم : { وَإِنَّهُمْ } أي : هؤلاء ، وهم كفار مكة : { لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ } أي : القرآن : { مُرِيبٍ } أي : موقع للناس في الريبة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ 111 ] .
{ وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : فلا يخفى عليه شيء منه ، وسيجزيهم عليه . والتنوين في ( كُلاًّ ) عوض عن المضاف ، أي : وإن كل المختلفين فيه .
تنبيه :
في هذه الآية قراءات : قرئ ( إنه ) و ( لما ) مخففتين ومشددتين ، وبتخفيف ( إن ) وتشديد ( لما ) وبعكسها ، وهذه الأربع قراءات كلها متواترة .
فأما الأولى : ففيها إعمال ( إن ) المخففة ، وهي لغة ثابتة عن العرب ، واللام في ( لما ) لأمر الابتداء داخلة في خبر ( إن ) . و ( ما ) إما موصولة بمعنى ( اللذين ) واقعة على من يعقل ، واللام في ( ليوفينهم ) جواب قسم مضمر ، أي : وإن كلا الذين ، والله ليوفينهم . وإما نكرة موصوفة ، والجملة القسمية وجوابها صفة ( ما ) أي : وإن كلا لخلق ، أو لفريق ، والله ليوفينهم . وقيل : اللام الأولى موطئة للقسم ، ولما اجتمع اللامان واتفقا في اللفظ فصل بينهما بـ ( ما ) فهي زائدة لإصلاح اللفظ . وقيل : اللام المذكورة هي الفارقة بين المخففة والنافية . وقيل : إنها جواب القسم كررت تأكيداً .
وأما الثانية : وهي تشديدهما ، فـ : ( إن ) على حالها وما بعدها منصوب على أنه اسمها ، و ( لما ) بمعنى ( إلا ) أو جازمة بمعنى ( لم ) ومجزومها محذوف ، أي : لما يمهلوا ، أو لما يوفوا أعمالهم إلى الآن ، وسيوفونها .
وأما الثالثة : وهي تخفيف ( إن ) وتشديد ( لم ) فـ ( إن ) مخففة عاملة كما تقدم ، و ( لما ) بمعنى ( إلا ) أو جازمة أيضاً ، أو ( إن ) نافية بمنزلة ( ما ) و ( ما ) بمعنى ( إلا ) و ( كلا ) منصوب بمضمر ، أي : وما أرى كلا إلا .
وأما الرابعة : وهي تشديد ( إن ) وتخفيف ( لما ) فواضحة فـ ( إن ) هي المشددة عملت عملها .
والكلام في ( اللام ) و ( ما ) مثل ما تقدم أولاً من الوجوه الأربعة في ( اللام ) والثلاثة في ( ما ) .
وثمة قراءات أخر فلتراجع في " السمين " وغيره .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ 112 ] .
{ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ } أي : في القرآن ، و ( الكاف ) للتشبيه ، أو بمعنى ( على ) : { وَمَن تَابَ مَعَكَ } أي : من الشرك ، وهم المؤمنون { وَلاَ تَطْغَوْاْ } أي : تجاوزوا حدود الله : { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : فيجازيكم به . قال ابن كثير : يأمر تعالى رسوله والمؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة ، وذلك من أكبر العون على النصر ، وينهى عن الطغيان وهو البغي ، فإنه مصرعة ، ولو كان على مشرك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } [ 113 ] .
{ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ } أي : أنفسهم بالشرك والمعاصي ، أي : لا تسكنوا إليهم . ولا تطمئنوا إليهم ؛ لما يفضي الركون من الرضا بشركهم وتقويتهم ، وتوهين جانب الحق : { فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء } أي : أنصار يمنعون عذابه عنكم بركونكم إليهم : { ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } أي : لا تمنعون مما يراد بكم . والقصد تبعيد المؤمنين عن موادة المشركين المحادّين لله ولرسوله ، والثقة بهم ، وهم أعظم عقبة في الصد عن سبيل الله ؛ لأن ذلك ينافي الإيمان .
قيل : الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم ، والتهديد عليه ، لأن هذا الوعيد الشديد إذا كان فيمن يركن إلى أهله ، فكيف بمن ينغمس في حمأته ؟ .
تنبيه :
قال بعض المفسرين اليمانيين : الآية صريحة بأن الركون إلى الظلمة محرم وكبيرة ، لأنه تعالى توعد بالنار . ولكن ما هو الركون الذي أراده تعالى ؟ قلنا : في ذلك وجوه ؟
فروي عن ابن عباس والأصم أن المعنى : لا تميلوا إلى الظلمة في شيء من دينكم .
وقيل : ترضوا بأعمالهم . عن أبي العالية .
وقيل : تلحقوا بالمشركين . - عن قتادة - .
وقيل : تداهنوا الظلمة . عن السدي وابن زيد .
وقيل : الدخول معهم في ظلمهم وإظهار الرضا بفعلهم ، وإظهار موالاتهم . فأما إذا دخل عليهم لدفع شرهم فيجوز, لأنه تعالى أمر بالرفق في مخالطة الكفار ، والظلمة أولى .
قال الزمخشري : النهي يتناول الانحطاط في هواهم ، والانقطاع إليهم ، ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم ، والرضا بأعمالهم ، والتشبه بهم ، والتزيي بزيهم ، ومد العين إلى زهرتهم وذكرهم بما فيه تعظيم لهم . وتأمل قوله : { وَلاَ تَرْكَنُواْ } فإن الركون هو الميل اليسير . وقوله : { إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ } أي : إلى الذين وجد منهم الظلم ، ولم يقل : إلى الظالمين .
وحكي أن الموفق صلى خلف الإمام ، فقرأ بهذه الآية ، فغشي عليه ، فلما أفاق قيل له ، فقال : هذا فيمن ركن إلى من ظلم ، فكيف بالظالم ؟ انتهى .
قال اليماني : قد وسع العلماء في ذلك وشددوا ، والحالات تختلف ، والأعمال بالنيات ، والتفصيل أولى ، فإن كانت المخالطة لدفع منكر ، أو استعانة عليه ، أو رجاء تركهم الظلم ، أو استكفاء شرورهم فلا حرج في ذلك ، وربما وجب ، وإن كان لإيناسهم وإقرارهم فلا . انتهى .
وأقول : كل هذا مبني على عموم الآية ، وأما إن كانت في مشركي مكة اعتماداً على سباق الآية وسياقها ؛ فالمراد منها ما ذكرناه أولاً - والله أعلم - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } [ 114 ] .
{ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ } أي : غدوة وعشية : { وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ } أي : وساعات منه ، وهي ساعاته القريبة من آخر النهار ، من ( أزلفه ) إذا قربه ، وازدلف إليه . وصلا الغدوة : الفجر ، وصلاة العشية : الظهر والعصر ، لأن ما بعد الزوال عشي ، وصلاة الزلف المغرب والعشاء - كذا في " الكشاف " - .
والآية كقوله تعالى : { أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْر } [ الإسراء : من الآية 78 ] في جمعهما للصلوات الخمس جمعاً بالغاً غاية اللطف في بلاغة الإيجاز ، وانتصاب ( طرفي النهار ) على الظرف لإضافته إليه . و ( زلفاً ) قرأها العامة بضم ففتح ، جمع زلفة ، كظلمة وظلم . وقرئ بضمها ، إما على أنه جمع زلفة أيضاً ، ولكن ضمت عينه إتباعاً لفائه ؛ أو على أنه اسم مفرد كعنق . أو جمع زليف بمعنى زلفة كرغيف ورغف .
وقرئ بإسكان اللام ، إما بالتخفيف ، فيكون فيها ما تقدم ، أو على أن السكون على أصله ، فهو كبسرة وبسر ، من غير إتباع .
وقرئ ( زلفى ) كحبلى ، بمعنى قريبة ، أو على إبدال الألف من التنوين ؛ إجراء للوصل مجرى الوقف . ونصبه إما على الظرفية بعطفه على ( طرفي النهار ) لأن المراد به الساعات ، أو على عطفه على ( الصلاة ) فهو مفعول به .
والزلفة عند ثعلب : أول ساعات الليل .
وقال الأخفش : مطلق ساعات الليل ، وأصل معناه القرب . يقال ازدلف أي : اقترب و ( من الليل ) صفة زلفاً - كذا في " العناية " - .
{ إِنَّ الْحَسَنَاتِ } أي : التي من جملتها ، بل عمدتها ، ما أمرت به من الصلوات : { يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } أي : التي قلما يخلو منها البشر ، أي : يكفرنها { ذَلِكَ } أي : إقامة الصلوات في الأوقات المذكورة : { ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } أي : ذكرى له تعالى ، وإحضار للقلب معه ، وتصفية من كدورات اللهو والنسيان لعظمته .
وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه ؛ أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني عالجت امرأة في أقصى المدينة ، وإني أصبت منها ما دون أن أمسها ، وأنا هذا ، فاقض فيّ ما شئت ! فقال له عمر رضي الله عنه : لقد سترك الله تعالى لو سترت على نفسك . قال : فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً . فقام الرجل فانطلق ، فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً فدعاه ، وتلا عليه هذه الآية : { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } الخ .
فقال رجل من القوم : يا رسول الله ، هذا له خاصة ؟ قال : < بل للناس كافة > . أخرجه البخاري وغيره .
وفي رواية عن أبي أمامة قال له صلى الله عليه وسلم : < أتممت الوضوء وصليت معنا ؟ > قال : نعم ، قال : < فإنك من خطيئتك كما ولدتك أمك ، فلا تعد > . وقرأ الآية .
وفي رواية فنزلت الآية ، والمراد بالنزول شمولها ، بنزولها المتقدم ، لما وقع ، لأنها كانت سبباً في النزول - كما بيناه غير مرة - .
وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس ، هل يبقى من درنه شيء ؟ > قالوا : لا . قال : < فذلك مثل الصلوات الخمس ، يمحو الله بها الخطايا > . ورواه البخاري أيضاً عن جابر ، ورُوي نحوه عن عثمان وسلمان .
وللإمام أحمد عن معاذ ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < أتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن > .
وله عن أبي ذر مرفوعاً : < إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها > قلت : يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله ؟ قال : < هي أفضل الحسنات > أي : فالحسنات مثل الصلاة والذكر والصدقة والاستغفار ، ونحو ذلك من أعمال البر .
لطيفة :
أشار القاشاني عليه الرحمة إلى سر الصلوات الخمس في أوقاتها بما يجدر الوقوف عليه ، فقال :
لما كانت الحواس الخمس شواغل تشغل القلب بما يرد عليه في الهيئات الجسمانية ، وتجذبه عن الحضرة الرحمانية ، وتحجبه عن النور والحضور ، بالإعراض عن جانب القدس ، والتوجه إلى معدن الرجس ، وتبدله الوحشة بالأنس ، والكدورة بالصفاء ؛ فرضت خمس صلوات ، يتفرغ فيها العبد للحضور ، ويسد أبواب الحواس ؛ لئلا يرد على القلب شاغل يشغله ، ويفتح باب القلب إلى الله تعالى بالتوجه والنية ؛ لوصول مدد النور ، ويجمع همه عن التفرق ، ويستأنس بربه عن التوحش ، مع اتحاد الوجهة ، وحصول الجمعية ، فتكون تلك الصلوات خمسة أبواب مفتوحة للقلب ، على جناب الرب ، يدخل عليه بها النور بإزاء تلك الخمسة المفتوحة إلى جانب الغرور ، وداراً للعين الغرور ، التي تدخل بها الظلمة ليُذهب النور الوارد آثارَ ظلماتها ، ويكسح غبار كدوراتها . وهذا معنى قوله : { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } .
وقد ورد في الحديث : < إن الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر > . وأمر بإقامتها طرفي النهار ، لينسحب حكمها ببقاء الجمعية ، واستيلاء الهيئة النورية ، في أوله إلى سائر الأوقات ، فعسى أن يكون من الذين هم على صلاتهم دائمون ، لدوام ذلك الحضور وبقاء ذلك النور ، ويكسح ويزيل في آخره ما حصل في سائر الأوقات من التفرقة والكدورة . ولما كانت القوى الطبيعية المدبرة لأمر الغذاء سلطانها في الليل ، وهي تجذب النفس إلى تدبير البدن بالنوم عن عالمها الروحاني ، وتحجزها عن شأنها الخاص بها ، الذي هو مطالعة عالم القدس بشغلها باستعمال آلات الغذاء ، لعمارة الجسد ، فتسلبها اللطافة ، وتكدرها بالغشاوة ؛ احتيج إلى تلطيفها وتصفيتها باليقظة ، وتنويرها بالصلاة ، فقال : { وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ } انتهى . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ 115 ] .
{ وَاصْبِرْ } أي : على مشاق ما أمرت به من التبليغ ، أو على ما يقولون ، أو على الصلاة كقوله : { وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } [ طه : من الآية 132 ] ، ولا مانع من شموله للكل .
{ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } أي : في أعمالهم فيوفيهم أجورهم من غير بخس .
قال أبو السعود : وإنما عبر عن ذلك بنفي الإضاعة ، لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يمتنع صدوره عنه سبحانه ، وإبراز الإثابة في معرض الأمور الواجبة مع الإيماء إلى أن الصبر على ما ذكر من باب الإحسان . انتهى .
وأشار الشهاب في " العناية " هنا إلى لطيفة من البلاغة القرآنية ، وهو أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت عامة في المعنى ، وفي المنهيات جمعت للأمة .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ } [ 116 ]
{ فَلَوْلاَ كَانَ } أي : فهلا وجد : { مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ } أي : بعمل الشرور والمنكرات ، فإنه لو كان منهم ناهون لم يؤخذ الباقون : { إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ } استثناء منقطع . أي : لكن قليلاً ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد ، وسائرهم تاركون للنهي .
لطيفة :
( البقية ) إما بمعنى الباقية ، والتأنيث لمعنى الخصلة أو القطعة ، أو بقية من الرأي والعقل ، أو بمعنى الفضيلة ، والتاء للنقل إلى الاسمية كالذبيحة . وأطلق على الفضل ( بقية ) استعارة من البقية التي يصطفيها المرء لنفسه ، ويدخرها مما ينفقه ، فإنه يفعل ذلك بأنفسها . ولذا قيل : ( في الزاويا خبايا ، وفي الرجال بقايا ) و ( فلان من بقية القوم ) أي : من خيارهم ، وجوز كون ( البقية ) مصدراً بمعنى ( البقوى ) ، كالتقية بمعنى التقوى ، أي : فهلا كان منهم ذوو إبقاء على أنفسهم ، صيانة لها من سخطه تعالى وعقابه .
{ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ } أي : ما صاروا منعمين فيه من الشهوات ، حتى فجأهم العذاب ، وإتباعه كناية عن الاهتمام به وترك غيره ، كما هو دأب التابع للشيء .
و : { الَّذِينَ ظَلَمُواْ } أعم من المباشرين بأنفسهم للفساد ، ومن تاركي النهي عنه ، وقصره الزمخشري على الثاني ، لأنهم المقصود بالنعي قبله ، حيث قال : أراد بـ ( الذين ظلموا ) تاركي النهي عن المنكرات ، أي : لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعقدوا هممهم بالشهوات ، واتبعوا ما عرفوا فيه التنعم والتترف ، من حب الرئاسة والثروة ، وطلب أسباب العيش الهنيء ، ورفضوا ما وراء ذلك ، ونبذوه وراء ظهورهم .
{ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ } أي : بإتباعهم المذكور ، أو كافرين . قال القاضي : كأنه أراد أن يبين ما كان السبب لاستئصال الأمم السالفة ، وهو فشو الظلم فيهم ، وإتباعهم للهوى ، وترك النهي عن المنكرات مع الكفر ، وقد أشير لذلك بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } [ 117 ] .
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } أي : بأمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر . و ( بظلم ) الباء فيه إما للملابسة ، وهو حال من الفاعل ، أي : استحال في الحكمة أن يهلك القرى ظالماً لها ، وتنكيره للتفخيم ، والإيذان بأن إهلاك المصلحين ظلم عظيم . أو للسببية . والظلم : الشرك ، أي : لا يهلك القرى بسبب إشراك أهلها وهم مصلحون يتعاطون الحق فيما بينهم ، ولا يضمون إلى شركهم فساداً آخر ، وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه تعالى . ولذا قيل : ( يبقى الملك مع الشرك ، ولا يبقى مع الظلم ) وهذا ، وإن كان صحيحاً ، إلا أن مقام دعوة الرسل إلى التوحيد ، ومحو الشرك أولاً ، ثم إلى الاستقامة في المعاملات ثانياً ؛ يقضي بحمل ( الظلم ) هنا على ما هو أعم من الشرك وأصناف المعاصي . وحمل الإصلاح على إصلاحه ، والإقلاع عنه بكون بعضهم متصدين للنهي عنه ، وبعضهم متجهين إلى الاتعاظ ، غير مصرين على ما هم عليه من الشرك ونحوه . كذا أشار له أبو السعود .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } [ 118 ] .
{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي : مجتمعة على الحق والإيمان والصلاح ولكنه لم يشأ ذلك : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } أي : في الحق ، منهم المؤمن به ومنهم الكافر به .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ 119 ] .
{ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } أي : لكن ناساً رحمهم بهدايتهم إلى التوحيد ، وتوفيقهم للكمال ، فاتفقوا في المذهب والمقصد ، ووافقوا في السيرة والطريقة ، قبلتهم الحق ، ودينهم التوحيد والمحبة .
وقوله تعالى : { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } في المشار إليه أقوال . أظهرها أنه للاختلاف الدال عليه ( مختلفين ) . فالضمير حينئذ للناس ، أي : لثمرة الاختلاف ، من كون فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، خلقهم . واللام لام العاقبة والصيرورة ، لأن حكمة خلقهم ليس هذا ، لقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، ولأنه لو خلقهم له لم يعذبهم عليه . أو الإشارة له وللرحمة المفهومة من ( رحم ) لتأويلها بـ ( أن والفعل ) أو كونها بمعنى الخير . وتكون الإشارة لاثنين ، كما في قوله : { عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِك } [ البقرة : من الآية 68 ] . والمراد لاختلاف الجميع ورحمة بعضهم خلقهم . وهذا معزو إلى ابن عباس رضي الله عنهما . وإن كان الضمير لـ ( من ) فالإشارة للرحمة بالتأويل السابق - كذا في " العناية " - .
وأشار القاشاني إلى بقاء اللام على معناها ، وهو التعليل بوجه آخر ، حيث قال : وللاختلاف خلقهم ليستعد كل منهم لشأن وعمل ، ويختار بطبعه أمراً وصنعة ، ويستتب بهم نظام العالم ، ويستقيم أمر المعاش ، فهم محامل لأمر الله ، حمل عليهم حمول الأسباب والأرزاق وما يتعيش به الناس ، ورتب بهم قوام الحياة الدنيا ، كما أن الفئة المرحومة مظاهر لكماله ، أظهر الله بهم صفاته وأفعاله ، وجعلهم مستودع حكمه ومعارفه وأسراره .
وقوله تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } أي : أُحكمت وأبرمت وثبتت وهي هذه : { لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } والمراد من : { الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } عصاتهما ، والتعريف للعهد ، والقرينة عقلية لما علم من الشرع أن العذاب مخصوص بهم ، وأن الوعيد ليس إلا لهم ، ولا حاجة إلى تقدير مضاف كما قيل . بـ : { أَجْمَعِينَ } حينئذ
ظاهر ، وإن لم يحمل على العهد ، وأبقي على إطلاقه ، ففائدة التأكيد بيان أن ملء جهنم من الصنفين ، لا من أحدهما فقط ، ويكون الداخلوها منهما مسكوتاً عنه موكولاً إلى علمه تعالى ، فاندفع ما أورد على ظاهرها من اقتضائه دخول جميع الفريقين جهنم ، وبطلانه معلوم بالضرورة . أما على الأول فظاهر ، وأما على الثاني فالمراد بلفظ ( أجمعين ) تعميم الأصناف ، وذلك لا يقتضي دخول جميع الأفراد ، كما إذا قلت : ملأت الجراب من جميع أصناف الطعام ، فإنه لا يقتضي ذلك إلا أن يكون فيه شيء من كل صنف من الأصناف ، لا أن يكون فيه جميع أفراد الطعام ، كقولك : امتلأ المجلس من جميع أصناف الناس ، لا يقتضي أن يكون في المجلس جميع أفراد الناس ، بل يكون من كل فرد صنف ، وهو ظاهر . وعلى هذا تظهر فائدة لفظ ( أجمعين ) ؛ إذ فيه رد على اليهود وغيرهم ، ممن زعم أنه لا يدخل النار - كذا في " العناية " - .
ولما ذكر تعالى فيما تقدم من أنباء الأمم الماضية ، والقرون الخالية ، ما جرى لهم مع أنبيائهم ؛ أشار هنا إلى سر ذلك وحكمته ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } [ 120 ] .
{ وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } أي : نقوي به قلبك لتصبر على أذى قومك ، وتتأسى بالرسل من قبلك ، وتعلم أن العاقبة لك كما كانت لهم . و ( كلاً ) مفعول ( لنقصّ ) و ( من أنباء ) بيان له . و ( ما نثبت ) بدل من ( كلاً ) أو خبر محذوف .
{ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ } أي : السورة ، أو الأنباء المقتصة : { الْحَقُّ } أي : القصص الحق الثابت : { وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } أي : عبرة لهم يحترزون بها عما أهلك الأمم ، وتذكير لما يجب أن يتدينوا به ، ويجعلوه طريقهم وسيرتهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ } [ 121 ] .
{ وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي : بهذا الحق ، ولا يتعظون ولا يتذكرون : { اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ } أي : حالكم من إتباع الأهواء : { إِنَّا عَامِلُونَ } أي : على حالنا من إتباع ما جاءنا والاتعاظ والتذكر به .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ } [ 122 ] .
{ وَانتَظِرُوا } أي : العواقب : { إِنَّا مُنتَظِرُونَ } أي : ما وعدنا به من الفتح ، وقد أنجز الله وعده . ونصر عبده ، فله الحمد وحده .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ 123 ] .
{ وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : فلا تخفى عليه خافية مما يجري فيهما ، فلا تخفى عليه أعمالكم : { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ } أي : أمر العباد في الآخرة ، فيجازيهم بأعمالهم . وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، وتهديد للكفار بالانتقام منهم : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } فإنه كافيك : { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } بالياء التحتية في قراء الجمهور ، مناسبة لقوله : { للَّذينَ لا يُؤمنُونَ } وفي قراءة بالتاء الفوقية على تغليب المخاطب ، أي : أنت وهم . أي : فيجازي كلاً بما يستحقه - والله أعلم - .(/)
سورة يوسف
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } [ 1 ] .
{ الر } تقدم الكلام على مثله ، وأنها إما حروف مسرودة على نمط التعديد ، والإشارة في قوله : { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } إلى آيات السورة ، نزَّل ما بعده لكونه مترقباً منزلة المتقدم . والإشارة بالبعيد لعظمته ، وبعد مرتبته ، وإما اسم للسورة ، والإشارة في ( تلك ) إليها . والمراد بـ ( الكتاب ) السورة ؛ لأنه بمعنى المكتوب ، فيطلق عليها . أو القرآن ، لأنه كما يطلق على كله ، يطلق على بعضه . و ( المبين ) بمعنى الظاهر أمرها وإعجازها ، إن أخذ من ( بان ) لازماً بمعنى ظهر ، وإن أخذ من المتعدي فالمفعول مقدر ، أي : أنها من عند الله تعالى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ 2 ] .
{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ } أي : الكتاب المنعوت بما ذكر : { قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون } أي : لكي تفهموه ، وتحيطوا بمعانيه ، ولا يلتبس عليكم . كما قال تعالى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } [ فصلت : من الآية 44 ] ، أو لتستعملوا فيه عقولكم ، فتعلموا أن اقتصاصه كذلك ، ممن لم يتعلم القصص معجز ، لا يمكن إلا بالإيحاء .
أو : { لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } بإنزاله عربياً ، ما تضمن من المعاني والأسرار ، التي لا يتضمنها ولا يحتملها غيرها من اللغات ، وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها ، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس . قال بعضهم : نزل أشرف الكتب ، بأشرف اللغات ، على أشرف الرسل ، بسفارة أشرف الملائكة ، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض ، وفي أشرف شهور السنة ، وهو رمضان ، فكمل له الشرف من كل الوجوه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } [ 3 ] .
{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } أي : أبدعه طريقة ، وأعجبه أسلوباً ، وأصدقه أخباراً ، وأجمعه حكماً وعبراً : { بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } أي : بإيحائنا إليك : { هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } أي : عنه ، لم يخطر ببالك . والتعبير عن عدم العلم بالغفلة لإجلال شأن النبي صلى الله عليه وسلم . وقد جوز في هذا أن يكون مفعول نقص على أن ( أحسن ) نصب على المصدر ، وأن يكون مفعول ( أوحينا ) على أن مفعول نقص ( أحسن ) أو محذوف . وأن يكون بدلاً من ( ما ) على أنها موصولة أو خبر محذوف كذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ 4 ] .
{ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ } يعني يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام . والظرف بدل من المفعول قبله بدل اشتمال ، أو مفعول لمحذوف { يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } إنما ناجى يوسف أباه بهذه الرؤيا ، لاعتقاده كمال علمه ، وشفقته عليه ، بحيث لو كانت رؤياه تسوءه لأمكنه صرفها عنه .
قال القاشاني : هذه من المنامات التي تحتاج إلى تعبير ، لانتقال المتخيلة من النفوس الشريفة التي عرض على النفس من الغيب سجودها له ، إلى الكواكب والشمس والقمر ، وما كانت في نفس الأمر إلا أبويه وإخوته . ( يا أبت ) أصله يا أبي ، فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في الزيادة ، وكسرها لأنه عوض عن حرف يناسبها . وقرئ بفتحها لأنها حركة أصلها ، أو لأنه كان ( يا أبتا ) فحذف الألف ، وبقي الفتحة . وقرئ بالضم إجراء لها مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء ، من غير اعتبار التعويض .
وقوله : ( رأيتهم ) استئناف لبيان حالهم التي رآهم عليها ، فلا تكرير ، أو تأكيد للأولى تطرية لطول العهد ، كما في قوله : { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ } [ المؤمنون : 35 ] ، وإنما أجريت مجرى العقلاء في ضميرهم وجمع صفتهم جمعاً سالماً ؛ لوصفها بوصفهم ، وهو السجود .
قال المهايمي : ولو صح كونها ناطقة فلا إشكال . قال : ولم أر من تعرض لهيئة السجود ، ولعله تحريك جانبها الأعلى إلى الأسفل ، مستديرة ظهرت أو مستطيلة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ 5 ] .
{ قَالَ يَا بُنَيَّ } صغره لصغر سنه ، وللشفقة عليه ، ولعذوبة المصغر { لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً } أي : فيفعلوا لأجلك أو لإهلاكك تحيلاً عظيماً متلفاً لك { إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } أي : ظاهر العداوة ، فلا يألو جهداً في إغواء إخوتك وحملهم على ما لا خير فيه .
قال القاشاني : هذا النهي من الإلهامات المجملة ، فإنه قد يلوح صورة الغيب من المجردات الروحانية في الروح ، ويصل أثره إلى القلب ، ولا يتشخص في النفس مفصلاً ، حتى يقع العلم به كما هو ، فيقع في النفس منه خوف واحتراز إن كان مكروهاً ، وفرح وسرور إن كان مرغوباً . ويسمى هذا النوع من الإلهام : إنذارات وبشارات ، فخاف عليه السلام ، من وقوع ما وقع قبل وقوعه ، فنهاه عن إخبارهم برؤياه احترازاً . ويجوز أن يكون احترازه كان من جهة دلالة الرؤيا على شرفه وكرامته ، وزيادة قدره على إخوته ، فخاف من حسدهم عليه عند شعورهم بذلك . انتهى .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : قال الكيا : هذا يدل على جواز ترك إظهار النعمة لمن يخشى منه حسد ومكروه .
وقال ابن العربي : فيه حكم بالعادة أن الإخوة والقرابة يحسدون . قال : وفيه أن يعقوب عرف تأويل الرؤيا ولم يبال بذلك ، فإن الرجل يود أن يكون ولده خيراً منه ، والأخ لا يود ذلك لأخيه .
وقال بعض المفسرين اليمانيين : قال الحاكم : هذا يدل على أنه يجب في بعض الأوقات إخفاء فضيلة ، تحرزاً من الحسود . وهذا داخل في قولنا : إن الحسن إذا كان سبباً للقبيح قبح . ومنه آية الأنعام : { وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ الأنعام : من الآية 108 ] .
وفي هذا ما ذكر عن زين العابدين :
~إني لأكتم من علمي جواهره كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتننا
الأبيات المعروفة ، ذكرها عن زين العابدين ، والغزالي في " منهاج العابدين " والديلمي في كتاب " التصفية " وهذا يعقوب صلوات الله عليه أمر يوسف أن لا يقص رؤياه على إخوته ، والمعنى واحد ، فلا معنى لإنكار من ينكر ويزعم أن العلم لا يحل كتمه . انتهى .
ومقصوده : أن خوف الأشرار من الصوراف عن الصدع بالحق .
قال السيد ابن المرتضى اليماني في " إيثار الحق " : مما زاد الحق غموضاً وخفاء خوف العارفين ، مع قلتهم ، من علماء السوء ، وسلاطين الجور ، وشياطين الخلق ، مع جواز التقية عند ذلك ، بنص القرآن ، وإجماع أهل الإسلام . وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق ، وما برح المحق عدواً لأكثر الخلق .
وذكر رحمه الله قبل في الاستدلال على التقية ؛ أنه تعالى أثنى على مؤمن آل فرعون ، مع كتم إيمانه ، وسميت به سورة ( المؤمن ) . وصح أمر عمار به ، وتقريره عليه ، ونزلت فيه : { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ } [ النحل : من الآية 106 ] ، وقد صح عن أبي هريرة أنه قال في ذلك العصر الأول : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين ، أما أحدهما فبثثته لكم ، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم . قال الغزالي في خطبة " المقصد الأسنى " : من خالط الخلق جدير بأنه يتحامى . لكن من أبصر الحق عسير عليه أن يتعامى . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 6 ] .
{ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } أي : مثل ذلك الاصطفاء ، بإراءة هذه الرؤيا العظيمة الشأن ، يصطفيك للنبوة والسيادة : { وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ } أي : تعبير المنامات ، وإنما سمي التعبير تأويلاً ؛ لأنه جعل المرئي آيلاً إلى ما يذكره المعبر بصدد التعبير وراجعاً إليه . والأحاديث اسم جمع للحديث ، سميت به الرؤيا ؛ لأنها إما حديث ملك أو نفس أو شيطان { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } أي : بما سيؤول إليه أمرك : { وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ } وهم أهله من بنيه ، وحاشيتهم ، أي : يسبغ نعمته عليهم بك : { كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ } بمن هو مستحق للاجتباء : { حَكِيمٌ } في صنعه .
تنبيهات :
الأول : قال أبو السعود : كأن يعقوب عليه السلام أشار بقوله : { وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ } إلى ما سيقع من يوسف عليه السلام ، من تعبيره لرؤيا صاحبي السجن ، ورؤيا الملك ، وكون ذلك ذريعة إلى ما يبلغه الله إليه من الرياسة العظمى التي عبر عنها بإتمام النعمة . وإنما عرف يعقوب عليه السلام ذلك منه من جهة الوحي . أو أراد كون هذه الخصلة سبباً لظهور أمره عليه السلام على الإطلاق ، فيجوز حينئذ أن تكون معرفته بطريق الفراسة ، والاستدلال من الشواهد والدلائل والأمارات والمخايل ، بأن من وفقه الله تعالى لمثل هذه الرؤيا ، لا بد من توفيقه لتعبيرها ، وتأويل أمثالها ، وتمييز ما هو آفاقي منها ، مما هو أنفسي ، كيف لا وهي تدل على كمال تمكن نفسه عليه السلام في عالم المثال ، وقوة تصرفاتها فيه ، فيكون أقبل لفيضان المعارف المتعلقة بذلك العالم ، وبما يحاكيه من الأمور الواقعة بحسبها في عالم الشهادة ، وأقوى وقوفاً على النسب الواقعة بين الصور المعاينة في أحد ذينك العالمين ، وبين الكائنات الظاهرة على وفقها في العالم الآخر . وإن هذا الشأن البديع ، لا بد أن يكون أنموذجاً لظهور أمر من اتصف به ، ومداراً لجريان أحكامه ، فإن لكل نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معجزة ، بها تظهر آثاره ، وتجري أحكامه .
الثاني : استدل بالآية على أن ( الجد ) يطلق عليه اسم ( الأب ) ، فيدل أن من نسب رجلاً إلى جده وقال : ( يا ابن فلان ) أنه لا يكون قذفاً .
الثالث : قال المهايمي : من فوائد هذا المقام استحباب كتمان السر ، وجواز التحذير عن شخص بعينه ، ومدح الشخص في وجهه إذا لم يضره ، واعتبار السبب وإن لم يؤثر ، وأن لكل حادث تأويلاً عند الأولياء ، وأنه تعبر الرؤيا من الصغار ، وإن كان من عالم الخيال ؛ إذ تصور المخيلة معاني معقولة بصور محسوسة ، فترسلها إلى الحس المشترك فيشاهدها . والصادقة منها ما تكون باتصال النفس عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ ، فيتصور بما فيها مما يناسب المعاني ، فإن كانت شديدة المناسبة استغنت عن التعبير ، وإلا احتاجت إليه . فالأخبار عن هذه الرؤيا آية ، وعما ترتب عليها آيات .
بحث في الرؤيا :
قال الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه " الذريعة " في بحث " الفراسة " ما مثاله :
ومن الفراسة علم الرؤيا . وقد عظم الله تعالى أمرها في جميع الكتب المنزلة ، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاس } [ الإسراء : من الآية 60 ] ، وقال : { إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِك } [ الأنفال : من الآية 43 ] الآية ، وقال في قصة إبراهيم : { يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك } [ الصافات : من الآية 102 ] ، وقوله : { يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } [ يوسف : من الآية 4 ] .
والرؤيا هي فعل النفس الناطقة ، ولو لم يكن لها حقيقة لم يكن لإيجاد هذه القوة في الإنسان فائدة . والله تعالى يتعالى عن الباطل . وهي ضربان : ضرب وهو الأكثر أضغاث أحلام وأحاديث النفس بالخواطر الردية ، لكن النفس في تلك الحال كالماء المتموج ، لا يقبل صورة .
وضرب وهو الأقل صحيح ، وذلك قسمان : قسم لا يحتاج إلى تأويل ، ولذلك يحتاج المعبر إلى مهارة يفرق بين الأضغاث وبين غيرها ، وليميز بين الكلمات الروحانية والجسمانية ، ويفرق بين طبقات الناس ؛ إذ كان فيهم من لا تصح له رؤيا ، وفيهم من تصح رؤياه . ثم من صح له ذلك ؛ منهم من يرشح أن تلقى إليه في المنام الأشياء العظيمة الخطيرة ، ومنهم من لا يرشح له ذلك . ولهذا قال اليونانيون : يجب أن يشتغل المعبر بعبارة رؤيا الحكماء والملوك دون الطغام ، وذلك لأن له حظاً من النبوة . وقد قال عليه الصلاة والسلام : < الرؤيا الصادقة جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة > وهذا العلم يحتاج إلى مناسبة بين متحريه ومبينه ، فرب حكيم لا يرزق حذقاً فيه ، ورب نزر الحظ من الحكمة وسائر العلوم توجد له فيه قوة عجيبة . انتهى .
وقال الأستاذ ابن خلدون : حقيقة الرؤيا مطالعة النفس الناطقة في ذاتها الروحانية لمحة من صور الواقعات . فإنها عندما تكون روحانية تكون صور الواقعات فيها موجودة بالفعل ، كما هو شأن الذوات الروحانية كلها ، وتصير روحانية بأن تتجرد عن المواد الجسمانية ، والمدارك البدنية . وقد يقع لها ذلك لمحة بسبب النوم ، كما نذكر ، فتقتبس بها علم ما تتشوف إليه من الأمور المستقبلة ، وتعود به إلى مداركها . فإن كان ذلك الاقتباس ضعيفاً ، وغير جلي بالمحاكاة والمثال في الخيال لتخلطه ؛ فيحتاج من أجل هذه المحاكاة إلى التعبير ، وقد يكون الاقتباس قوياً يستغنى فيه عن المحاكاة ، فلا يحتاج إلى تعبير لخلوصه من المثال والخيال ، والسبب في وقوع هذه اللمحة للنفس ؛ أنها ذات روحانية بالقوة ، مستكملة بالبدن ومداركه ، حتى تصير ذاتها تعقلاً محضاً ويكمل وجودها بالفعل ، فتكون حينئذ ذاتاً روحانية مدركة بغير شيء من الآلات البدنية ، إلا أن نوعها من الروحانيات دون نوع الملائكة أهل الأفق الأعلى ، على الذين لم يستكملوا ذواتهم بشيء من مدارك البدن ولا غيره ، فهذا الاستعداد حاصل لها ما دامت في البدن . ومنه خاص كالذي للأولياء . ومنه عام للبشر على العموم ، وهو أمر الرؤيا . وأما الذي للأنبياء فهو استعداد بالانسلاخ من البشرية إلى الملكية المحضة التي هي أعلى الروحانيات . ويخرج هذا الاستعداد فيهم متكرراً في حالات الوحي ، وهي عندما يعرج على المدارك البدنية ، ويقع فيها ما يقع من الإدراك ، شبيهاً بحال النوم شبهاً بيناً ، وإن كان حال النوم أدون منه بكثير ، فلأجل هذا الشبه عبر الشارع عن الرؤيا بأنها < جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة > وفي رواية < ثلاثة وأربعين > ، وفي رواية < سبعين > وليس العدد في جميعها مقصوداً بالذات ، وإنما المراد الكثرة في تفاوت هذه المراتب ، بدليل ذكر السبعين في بعض طرقه ، وهو للتكثير عند العرب ، وما ذهب إليه بعضهم في رواية < ستة وأربعين > من أن الوحي كان في مبتدئه بالرؤيا ستة أشهر ، وهي نصف سنة ومدة النبوة كلها بمكة والمدنية ثلاث وعشرون سنة ، فنصف السنة منها جزء من ستة وأربعين ؛ فكلام بعيد من التحقيق ؛ لأنه إنما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، ومن أين لنا أن هذه المدة وقعت لغيره من الأنبياء ؟ مع أن ذلك إنما يعطي نسبة زمن الرؤيا من زمن النبوة ، ولا يعطي نسبة حقيقتها من حقيقة النبوة . وإذا تبين لك هذا مما ذكرناه أولاً ، علمت أن معنى هذا الجزء نسبة الاستعداد الأول الشامل للبشر ، إلى الاستعداد القريب الخاص بصنف الأنبياء الفطري لهم ، صلوات الله عليهم ؛ إذ هو الاستعداد البعيد ، وإن كان عاماً في البشر ، ومعه عوائق وموانع كثيرة من حصوله بالفعل . ومن أعظم تلك الموانع الحواس الظاهرة ، ففطر الله البشر على ارتفاع حجاب الحواس بالنوم ، الذي هو جبلي لهم ، فتتعرض النفس عند ارتفاعه إلى معرفة ما تتشوف إليه في عالم الحق ، فتدرك بعض الأحيان منه لمحة يكون فيها الظفر بالمطلوب . ولذلك جعلها الشارع من المبشرات ، فقال : < لم يبق من النبوة إلا المبشرات > قالوا : وما المبشرات يا رسول الله ، قال : < الرؤيا الصالحة ، يراها الرجل الصالح ، أو ترى له > .
وأما السبب ارتفاع حجاب الحواس بالنوم ، فعلى ما أصفها لك : وذلك أن النفس الناطقة إنما إدراكها وأفعالها بالروح الحيواني الجسماني ، وهو بخار لطيف ، مركزه بالتجويف الأيسر من القلب - على ما في كتب التشريح لجالينوس وغيره - وينبعث مع الدم في الشريانات والعروق فيعطي الحس والحركة ، وسائر الأفعال البدنية ، ويرتفع لطيفه إلى الدماغ ، فيعدل من برده ، وتتم أفعال القوى التي في بطونه . فالنفس الناطقة إنما تدرك وتعقل بهذا الروح البخاري ، وهي متعلقة به ، لما اقتضته حكمة التكوين في أن اللطيف لا يؤثر في الكثيف . ولما لطف هذا الروح الحيواني من بين المواد البدنية ، صار محلاً لآثار الذات المباينة له في جسمانيته ، وهي النفس الناطقة ، وصارت آثارها حاصلة في البدن بواسطته .
وقد كنا قدمنا أن إدراكها على نوعين : إدراك بالظاهر وهو بالحواس الخمس ، وإدراك بالباطن وهو بالقوى الدماغية . وأن هذا الإدراك كله صرف لها عن إدراكها ما فوقها من ذواتها الروحانية ، التي هي مستعدة له بالفطرة . ولما كانت الحواس الظاهرة جسمانية ، كانت معرضة للوسن والفشل ، بما يدركها من التعب والكلال ، وتغشى الروح بكثرة التصرف ، فخلق الله لها طلب الاستجمام ، لتجرد الإدراك على الصورة الكاملة . وإنما يكون ذلك بانخناس الروح الحيواني من الحواس الظاهرة كلها ، ورجوعه إلى الحس الباطن . ويعين على ذلك ما يغشى البدن من البرد بالليل ، فتطلب الحرارة الغريزية أعماق البدن ، وتذهب من ظاهره إلى باطنه ، فتكون مشيعة مركبها ، وهو الروح الحيواني إلى الباطن . ولذلك كان النوم للبشر في الغالب إنما هو بالليل ، فإذا انخنس الروح عن الحواس الظاهرة ، ورجع إلى القوى الباطنة ، وخفت عن النفس شواغل الحس وموانعه ، ورجعت إلى الصورة التي في الحافظة ؛ تمثل منها بالتركيب والتحليل صورة خيالية ، وأكثر ما تكون معتادة ، لأنها منتزعة من المدركات المتعاهدة قريباً . ثم ينزلها الحسن المشترك ، الذي هو جامع الحواس الظاهرة ، فيدركها على أنحاء الحواس الخمس الظاهرة .
وربما التفتت النفس لفتة إلى ذاتها الروحانية ، مع منازعتها القوى الباطنية ، فتدرك بإدراكها الروحاني ؛ لأنها مفطورة عليه ، وتقتبس من صور الأشياء التي صارت متعلقة في ذاتها حينئذ ، ثم يأخذ الخيال تلك الصور المدركة ، فيمثلها بالحقيقة أو المحاكاة في القوالب المعهودة . والمحاكاة من هذه هي المحتاجة للتعبير ، وتصرفها بالتركيب والتحليل في صور الحافظة ، قبل أن تدرك من تلك اللمحة ما تدركه هي أضغاث أحلام .
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < الرؤيا ثلاث : رؤيا من الله ، ورؤيا من الملك ، ورؤيا من الشيطان > وهذا التفصيل مطابق لما ذكرناه ، فالجلي من الله ، والمحاكاة الداعية إلى التعبير من الملك ، وأضغاث الأحلام من الشيطان ؛ لأنها كلها باطل ، والشيطان ينبوع الباطل .
هذه حقيقة الرؤيا ، وما يسببها ويشيعها من النوم ، وهي خواص للنفس الإنسانية ، موجودة في البشر على العموم ، لا يخلو عنها أحد منهم ، بل كل واحد من الإنسان رأى في نومه ما صدر له في يقظته مراراً غير واحدة ، وحصل له القطع أنى النفس مدركة للغيب في النوم ، ولا بد . وإذا جاز ذلك في عالم النوم ، فلا يمتنع في غيره من الأحوال ؛ لأن الذات المدركة واحدة ، وخواصها عامة في كل حال . انتهى .
وذكر رحمه الله عند بحث " علم تعبير الرؤيا " أن التعبير لها كان موجوداً في السلف ، كما هو في الخلف ، وأن يوسف الصديق ، صلوات الله عليه ، كان يعبر الرؤيا ، كما وقع في القرآن ، وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن أبي بكر رضي الله عنه ، والرؤيا مدرك من مدارك الغيب كما تقدم . وأما معنى التعبير فاعلم أن الروح العقلي ، إذا أدرك مدركه ، وألقاه إلى الخيال فصوره ، فإنما يصوره في الصور المناسبة لذلك المعنى بعض الشيء . ومن المرئي ما يكون صريحاً لا يفتقر إلى تعبير لجلائها ووضوحها ، أو لقرب الشبه فيها بين المدرك وشبهه . وللبحث تتمة سابغة ، انظرها ثمة .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ } [ 7 ] .
{ لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ } أي : في قصتهم وحديثهم : { آيَاتٌ } أي : دلائل على قدرته تعالى ، وحكمته في كل شيء : { لِّلسَّائِلِينَ } أي : لمن سأل عن نبئهم . أو آيات على نبوته صلوات الله عليه ، لمن سأل عن نبئهم ، فأخبرهم بالصحة من غير تلق عن بشر أو أخذ عن كتاب .
وقال القاشاني : أي : آيات معظمات لمن يسأل عن قصتهم ويعرفها ، تدلهم أولاً : على أن الاصطفاء المحض أمر مخصوص بمشيئة الله تعالى ، لا يتعلق بسعي ساع ولا إرادة مريد ، فيعلمون مراتب الاستعدادات في الأزل .
وثانياً : على أن من أراد الله به خيراً ، لم يمكن لأحد دفعه . ومن عصمه الله ، لم يمكن لأحد رميه بسوء ، ولا قصده بشر ، فيقوى يقينهم وتوكلهم .
وثالثاً : على أن كيد الشيطان وإغواءه أمر لا يأمن منه أحد ، حتى الأنبياء ، فيكونون منه على حذر . وأقوى من ذلك كله أنها تطلعهم من طريق الفهم ، الذي هو الانتقال الذهني على أحوالهم في البداية والنهاية وما بينهما ، وكيفية سلوكهم إلى الله ، فتثير شوقهم وإرادتهم ، وتشحذ بصيرتهم ، وتقوي عزيمتهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ 8 ] .
{ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ } وهو بنيامين شقيقه ، وأمهما راحيل بنت لابان خال يعقوب { أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } أي : والحال أنا جماعة أقوياء ، أحق بالمحبة من صغيرين ، لا كفاية فيهما . والعصبة والعصابة : الجماعة من الرجال - عشرة فصاعداً - سموا بذلك لكون الأمور تعصب بهم ، أي : تشد فتقوى ، وذكرها ليس لإفادة العدد فقط ، بل للإشعار بالقوة ، ليكون أدخل في الإنكار ؛ لأنهم قادرون على خدمته ، والجد في منفعته ، فكيف يؤثر عليهم من لا يقدر على ذلك ؟ .
{ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي : ذهاب عن طريق الصواب في ذلك لتفضيله المفضول بزعمهم . وغاب عنهم أنه كان يحب يوسف لما يرى فيه من المخايل ، لا سيما بعد تلك الرؤيا . وبنيامين لكونه شقيقه وأصغرهم . ومن المعروف زيادة الميل لأصغر البنين .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ } [ 9 ] .
{ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً } من مقول قولهم المحكي قبل ، وإنما قالوا هذا لأن خبر المنام بلغهم ، ويروى أنه قصه عليهم ، فتشاوروا في كيده ، وقالوا ذلك ، وقالوا : لنرى بعد ما يكون من أحلامه ، سخرية واستهزاء . وتنكير ( أرضاً ) وإخلاؤها من الوصف للإبهام ، أي : في أرض مجهولة ، لا يعرفها الأب ، ولا يمكن ليوسف أن يعرف طريق الوصول إليه .
وقوله : { يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } جواب الأمر ، كناية عن خلوص محبته لهم ؛ لأنه بدل على إقباله عليهم بكليته ، وعلى فراغه عن الشغل بيوسف ، فيشتغل بهم { وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد الفراغ من قتله أو طرحه : { قَوْماً صَالِحِينَ } أي : تائبين إلى الله عما جنيتم ، فيكون صلاحكم فداء عن معصية قتله أو طرحه ، أو تصلح دنياكم ، وتنتظم أموركم بعده بخلو وجه أبيكم .
تنبيهات :
الأول : قال ابن إسحاق : لقد اجتمعوا على أمر عظيم من قطيعة الرحم ، وعقوق الوالد ، وقلة الرأفة بالصغير ، الذي لا ذنب له ، و بالكبير الفاني ذي الحق والحرمة والفضل ، والده ؛ ليفرقوا بينه وبين ابنه على صغر سنه ، وحاجته إلى لطف والده ، وسكونه إليه . يغفر الله لهم .
الثاني : قال ابن كثير : اعلم أنه لم يقم دليل على نبوة إخوة يوسف ، وظاهر السياق يدل على خلاف ذلك . ومن الناس من يزعم أنهم أوحي إليهم بعد ذلك ، وفي هذا نظر ، ويحتاج مدعي ذلك إلى دليل . ولم يذكروا سوى قوله تعالى : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ } [ البقرة : من الآية 136 ] ، وهذا فيه احتمال ؛ لأن بطون بني إسرائيل يقال لهم الأسباط ، كما يقال للعرب قبائل ، وللعجم شعوب . يذكر تعالى أنه أوحى إلى الأنبياء من أسباط بني إسرائيل ، فذكرهم إجمالاً ؛ لأنهم كثيرون ، ولكن كل سبط من نسل رجل من إخوة يوسف . ولم يقم دليل على أعيان هؤلاء أنهم أوحي إليهم . والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } [ 10 ] .
{ قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ } أي : صريحاً ورضي به الباقون : { لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ } أي : لأن القتل من الكبائر التي يخاف معها سد باب الصلاح . وإنما أظهره في مكان الإضمار استجلاباً لشفقتهم عليه ، أو استعظاماً لقتله { وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ } أي : في غوره . و ( الجب ) : البئر التي لا حجارة فيها { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ } أي : بعض الأقوام الذي يسيرون في الأرض ، فيتملكه ، فلا يمكنه الرجوع إلى أبيه ، فيحصل مطلوبكم من غير ارتكاب كبيرة يخاف معها سد باب الصلاح .
{ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } أي : عازمين مصرين على أن تفرقوا بينه وبين أبيه . وقد روي أن القائل هو أخوهم الأكبر ، بكر يعقوب ( رَؤُوبين ) .
ولما تواطأوا على رأيه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } [ 11 ] .
{ قَالُواْ } أي : لأبيهم : { يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } أي : لم تخافنا عليه ، ونحن نريد له الخير ونحبه ونشفق عليه ؟ أرادوا بذلك استنزاله عن عادته في حفظه منهم . وفيه دليل على أنه أحس منهم بما أوجب أن لا يأمنهم عليه - كذا في " الكشاف " - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ 12 ] .
{ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ( الرتع ) : الأكل والشرب والسعي والنشاط ، حيث يكون الخضر والمياه والزروع . يريدون : أن إلزامك إياه أن يكون بمكانك ، موجب لملاله القاطع لنشاطه على العبادة ، واكتساب الكمالات .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } [ 13 ] .
{ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } يعني : وإن زعمتم أنكم له حافظون ، فحفظكم إنما يكون ما دمتم ناظرين إليه ، لكن لا يخلو الإنسان عن الغفلة ، فأخاف غفلتكم عنه .
قال الزمخشري : اعتذر إليهم بشيئين :
أحدهما : أن ذهابهم به ، ومفارقته إياه مما يحزنه ؛ لأنه كان لا يصبر عنه ساعة .
والثاني : خوفه عليه من عدوة الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم ولعبهم ، أو قل به اهتمامهم ، ولم تصدق بحفظه عنايتهم .
قال الناصر : وكان أشغل الأمرين لقلبه خوف الذئب عليه ، لأنه مظنة هلاكه . وأما حزنه لمفارقته ريثما يرتع ويلعب ويعود سالماً إليه عما قليل ؛ فأمر سهل . فكأنهم لم يشتغلوا إلا بتأمينه وتطمينه من أشد الأمرين عليه . انتهى أي : فيما حكي عنهم بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَّخَاسِرُونَ } [ 14 ] .
{ قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } أي : جماعة أقوياء ، يمكننا أن ننزعه من يد الذئب : { إِنَّا إِذاً لَّخَاسِرُونَ } أي : هالكون ضعفاً وجبناً . أو عاجزون ، أو مستحقون لأن يدعى عليهم بالخسارة والدمار .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ 15 ] .
{ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ } أي : بعد مراجعة أبيهم في شأنه : { وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ } فيه تعظيم لما أزمعوا ؛ إذ أخذوه ليكرموه ، ويدخلوا السرور على أبيه ، ومكروا ما مكروا { وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا } أي : أعلمناه بإلقاء في روعه ، أو بواسطة ملك عند ذلك تبشيراً له ، بأنك ستخلص مما أنت فيه ، وتحدثهم بما فعلوا بك .
وقوله : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } إما متعلق بـ ( أوحينا ) أي : أوحينا إليه ذلك وهم لا يشعرون ؛ إيناساً له ، وإزالة للوحشة ، أو حال من الهاء في ( لتنبئنهم ) ، أي : لتحدثنهم بذلك وهم لا يشعرون أنك يوسف ، لعلو شأنك ، كما سيأتي في قوله تعالى : { فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } [ يوسف : من الآية 58 ] .
روي أنهم نزعوا قميص يوسف الموشى الذي عليه ، وأخذوه ، وطرحوه في البئر ، وكانت فارغة لا ماء بها ، وجلسوا بعدُ يأكلون ويلهون إلى المساء .
وجواب ( لما ) في الآية محذوف ، مثل فعلوا ما فعلوا ، أو طرحوه فيها . وقيل : الجواب ( أوحينا ) والواو زائدة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ } [ 16 ] .
{ وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ } بيان لمكرهم بأبيهم بطريق الاعتذار الموهم موته القاطع عنه متمناه ، لتنقطع محبته عنه ، ولو بعد حين ، فيرجع إليهم بالحب الكلي . وقدموا عشاء لكونه وقت الظلمة المانعة من احتشامه في الاعتذار الكذب ، ومن تفرسه من وجوههم الكذب ، وأوهموا ببكائهم وتفجعهم عليه إفراط محبتهم له المانعة من الجرأة عليه . ثم نادوه باسم ( الأب ) المضاف إليهم ليرحمهم ، فيترك غضبه عليهم ، الداعي إلى تكذيبهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } [ 17 ] .
{ قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } أي : في العدو والرمي بالنصل : { وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا } أي : ما يتمتع به من الثياب والأزواد وغيرهما ليحفظه : { فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ } أي : كما حذرتَ .
وقوله تعالى : { وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } تلطف عظيم في تقرير ما يحاولونه . يقولون : ونحن نعلم أنك لا تصدقنا في هذه الحالة ، ولو كنا عندك صادقين , فكيف وأنت تتهمنا ، وغير واثق بقولنا ؟ ! .
وقد استفيد من الآية أحكام :
منها : أن بكاء المرء لا يدل على صدقه ؛ لاحتمال أن يكون تصنعاً - نقله ابن العربي - .
ومنها : مشروعية المسابقة ، وفيه من الطب رياضة النفس والدواب ، وتمرين الأعضاء على التصرف - كذا في " الإكليل " - .
قال بعض اليمانين : اللعب إن كان بين الصغار جائز بما لا مفسدة فيه ، ولا تشبه بالفسقة ، وأما بين الكبار ، ففيه ثلاثة أقسام :
الأول : أن يكون في معنى القمار ، فلا يجوز .
الثاني : أن لا يكون في معناه ، وفيه استعانة وحث على القوة والجهاد ، كالمناضلة بالقسي ، والمسابقة على الخيل ، فذلك جائز وفاقاً .
الثالث : أن لا يكون فيه عوض كالمصارعة ونحوها . ففي ذلك قولان للشافعية : رجح الجواز ، إن كان بغير عوض ، أو بعوض يكون دفعه على سبيل الرضا ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صارع يزيد بن ركانة .
وروي أن عائشة قالت : سابقت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين ، فسبقته في المرة الأولى ، فلما بدنتُ سبقني وقال : < هذه بتلك > .
وفي الحديث : < ليس من اللهو ثلاثة : ملاعبة الرجل أهله ، وتأديبه فرسه ، ورميه بقوسه > . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [ 18 ] .
{ وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } بيان لما تآمروا عليه من المكيدة ، وهو أنهم أخذوا قميصه الموشى ، وغمسوه في دم معز كانوا ذبحوه . و ( كذب ) مصدر بتقدير مضاف ، أي : ذي كذب . أو وصف به مبالغة ، كرجل عدل . و ( على ) ظرف لـ : ( جاءوا ) مشعر بتضمنه معنى ( افتروا ) .
وقوله : { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } أي : من تغيب يوسف ، وتفريقه عني ، والاعتذار الكاذب .
قال الناصر : وقواه على اتهامهم أنهم ادعوا الوجه الخاص الذي خاف يعقوب ، عليه السلام ، هلاكه بسببه أولاً ، وهو أكل الذئب ، فاتهمهم أن يكونوا تلقفوا العذر من قوله لهم : { وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْب } وكثيراً ما تتفق الأعذار الباطلة ، من قلق في المخاطب المعتذر إليه ، حتى كان بعض أمراء المؤمنين يلقنون السارق الإنكار . انتهى . وفي " الإكليل " : استنبط من هذا الحكم بالأمارات ، والنظر إلى التهمة ، حيث قال : { بَلْ سَوَّلَتْ } .
لطائف :
قال المهايمي : في الآية من الفوائد أن الجاه يدعو إلى الحسد ، كالمال ، وهو يمنع من المحبة الأصلية من القرابة ونحوها ، بل يجعل عداوتهم أشد من عداوة الأجانب ، وأن الحسد يدعو إلى المكر بالمحسود ، وبمن يراعيه ، وأنه إنما يكون برؤية الماكر نفسه أكمل عقلاً من الممكور به . وأن الحاسد إذا ادعى النصح والحفظ والمحبة ، بل أظهره فعلاً ؛ لم يعتمد عليه .
وكذا من أظهر الأمانة قولاً وفعلاً يفعل الخيانة . وأن الإذلال والإعزاز بيد الله ، لا الخلق . وأن من طلب مراده بمعصية الله بعد عنه ، وأن الخوف من الخلق يورث البلاء ، وأن الإنسان وإن كان نبياً ، يخلق أولاً على طبع البشرية . وأن إتباع الشهوات يورث الحزن الطويل . وأن القدر كائن ، وأن الحذر لا يغني من القدر .
قيل للهدهد : كيف ترى الماء تحت الأرض ولا ترى الشبكة فوقها ؟ قال : إذا جاء القضاء عمي البصر .
و ( التسويل ) تزيين النفس للمرء ما يحرص عليه ، وتصوير القبيح بصورة الحسن { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } ( صبر ) خبر أو مبتدأ ، لكونه موصوفاً ، أي : فشأني صبر جميل . أو فصبر جميل أجمل ، والصبر قوة للنفس على احتمال الآلام كالمصائب إذا عرضت ، والجميل منه هو ما لا شكوى فيه إلى الخلق ولا جزع ، رضا بقضاء الله ، ووقوفاً مع مقتضى العبودية .
{ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } أي : المطلوب منه العون على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف - كذا قدروه - وحقق أبو السعود ؛ أن المعنى على إظهار حال ما تصفون وبيان كونه كذباً ، وإظهار سلامته ، فإنه علم في الكذب ، قال سبحانه : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ الصافات : 180 ] ، وهو الأليق بما سيجيء من قوله تعالى : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً } [ يوسف : من الآية 18 و 83 ] ، وتفسير المستعان عليه باحتمال ما يصفون من هلاك يوسف ، والصبر على الرزء فيه ؛ يأباه تكذبيه عليه السلام لهم في ذلك ، ولا تساعده الصيغة ، فإنها قد غلبت في وصف الشيء بما ليس فيه ، كما أشير إليه . انتهى .
وفي قوله : { وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ } اعتراف بأن تلبسه بالصبر لا يكون إلا بمعونته تعالى .
قال الرازي : لأن الدواعي النفسانية تدعوه إلى إظهار الجزع ، وهي قوية . والدواعي الروحانية تدعوه إلى الصبر والرضا . فكأنهما في تحارب وتجالد . فما لم تحصل إعانته تعالى لم تحصل الغلبة ، فقوله : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } يجري مجرى قوله : { إِيَّاكَ نَعبُدُ } وقوله : { والله المُستَعاَنُ } يجري مجرى قوله : { وإِيَّاك نَستَعِينُ } . انتهى .
ثم ذكر تعالى ما جرى على يوسف في الجب ، بعد ما تقدم بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [ 19 ] .
{ وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ } أي : الذي يرد الماء ويستقي لهم : { فَأَدْلَى دَلْوَهُ } أي : أرسلها في الجب ليملأها ، فتعلق بها يوسف للخروج ، فلما رآه : { قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ } وقرئ ( يَا بُشْرَايَ ) بالإضافة ، والمنادى محذوف . أو نزلت منزلة من ينادي ، ويقال : إن هذه الكلمة تستعمل للتبشير من غير قصد إلى النداء .
قال الزجاج : معنى النداء في هذه الأشياء التي لا تجيب هو تنبيه المخاطبين ، وتوكيد القصة ، فإذا قلت : يا عجباه ! فكأنك قلت : اعجبوا .
و ( الغلام ) : الطارّ الشارب ، أو من ولادته إلى أن يشب . والتنوين للتعظيم .
{ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } أي : أخفوه متاعاً للتجارة فـ : { بِضاعَةً } حال . وفي " الفرائد " : أنه ضمن : { أَسَرُّوهُ } معنى ( جعلوه ) أي : جعلوه بضاعة مسرين ، فهو مفعول به ، أو مفعول له . أي : لأجل التجارة . و ( البضاعة ) من البضع ، وهو القطع ؛ لأنه قطعة وافرة من المال تقتنى للتجارة { وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } [ 20 ] .
{ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } الضمير في ( أَسَرُّوهُ ) و ( شَرَوْهُ ) للسيارة ؛ لأنها بمعنى القوم السائرين . وقد روي أنهم كانوا تجاراً من بلدة مدين . فلما أصعد واردهم يوسف وضموه إلى بضاعتهم ؛ باعوه لقافلة مرت بهم سائرة إلى مصر بعشرين درهماً من الفضة ، ثم أتوا بيوسف إلى مصر . و ( دراهم ) بدل من الثمن و ( المعدود ) ، كناية عن القليل ؛ لأن الكثير يوزن عندهم . و ( الزهد ) فيه بمعنى الرغبة عنه .
فوائد :
قال في " الإكليل " ، استنبط الناس من هذه الآية أحكام اللقيط ، فأخذوا منها أن اللقيط يؤخذ ولا يترك . ومن قوله : ( هذا غلام ) أنه كان صغيراً ، وأن الالتقاط خاص به ، فلا يلتقط الكبير ، وكذا قوله : { وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ } لأن ذلك أمر يختص بالصغار . ومن قوله : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } أن اللقيط يحكم بحريته ، وأن ثمن الحر حرام . قال بعضهم : وجه الاستدلال لأنهم باعوه بثمن حقير لكونه لقيطاً ، وهو لا يملك ؛ إذ لو ملك استوفوا ثمنه .
قال بعض الزيدية : ورد هذا الاستدلال بأن فعلهم ليس شريعة . وأما الآن فلا شبهة أن ظاهر اللقيط الحرية ، كما أن ظاهره الإسلام .
قال المهايمي : ومن الفوائد أن الفرج قد يحصل من حيث لا يحتسب ، وأنه ينتظر للشدة ، وأن من خرج لطلب شيء قد يجد ما لم يكن في خاطره . وأن الشيء الخطير قد يعرض فيه ما يهونه . وأن البشرى قد يعقبها الحزن ، والعزة قد يعقبها الذلة . وبالعكس .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ 21 ] .
{ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } يخبر تعالى عن لطفه بيوسف ، إذ يسر له من اشتراه في مصر ، فاعتنى به ، وأوصى أهله ، وتوسم فيه الخير والصلاح . ومعنى : { أَكْرِمي مَثْوَاهُ } اجعلي مقامه حسناً مرضياً . و ( المثوى ) محل الثواء ، وهو الإقامة .
قال الشهاب : وإكرام مثواه كناية عن إكرامه على أبلغ وجه وأتمه ؛ لأن من أكرم المحل بإحسان الأسرة ، واتخاذ الفراش ونحوه ، فقد أكرم ضيفه بسائر ما يكرم به . أو ( المثوى ) مقحم . كما يقال : المقام السامي .
روي أن القافلة لما نزلت مصر اشتراه منهم رئيس الشرط عند ملك مصر ، فأقام في بيت سيده ، والعناية الربانية تحفه ، والنجاح يحوطه ، فكان يرى سيده أن كل ما يأتي به ينجحه الله تعالى على يده ، فنال حظوة لديه ، وأقامه قيماً على كل ما يملكه ، وضاعف تعالى البركة في زرعه وماله وحوزته .
{ وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ } أي : كما جعلنا له مثوى كريماً في منزل العزيز وقلبه ، جعلنا له تصرفاً بالأمر والنهي ، ومكانة رفيعة في أرض مصر ، ووجاهة في أهلها ، ومحبة في قلوبهم ، ليكون عاقبة ذلك تعليمه تأويل الرؤيا التي ستقع من الملك ، وتفضي بيوسف إلى الرياسة العظمى .
{ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ } أي : لا يُمنع عما يشاء ولا يُنازع فيما يريد . أو على أمر يوسف ، أريد به من الفتنة ما أريد غير مرة ، فلم يكن إلا ما أراد الله له من العاقبة الحميدة .
{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أي : أن الأمر كله بيده ، فيأتون ويذورن زعماً أن لهم شيئاً من الأمر . أو لا يعلمون لطائف صنعه ، وخفايا لطفه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [ 22 ] .
{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } هذه الآية كالتي قبلها ، تخللت تضاعيف نظم القصة لمعنى بديع ، وهو البدار إلى الإعلام بنتائج صبر يوسف ، وثمرات مجاهداته ، وعجائب صنع الله تعالى في مراداته ، إذ طوى له المنح في تلك المحن ، وذخر له السيادة في تلك العبودية . ومعنى : { بَلَغَ أَشُدَّهُ } أي : زمان اشتداد جسمه وقوته .
قال أبو عبيدة : العرب تقول : بلغ فلان أشده ، إذا انتهى منتهاه في شبابه وقوته قبل أن يأخذ في النقصان . و ( الحكم ) إما الحكمة وهو العلم المؤيد بالعمل ، أو الحكم بين الناس .
قال الزمخشري : وفي قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } تنبيه على أنه كان محسناً في عمله ، متقياً في عنفوان أمره ، وأن الله آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه .
وعن الحسن : من أحسن عبادة ربه في شبيبته ، آتاه الله الحكمة في اكتهاله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [ 23 ] .
{ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } هذا رجوع إلى شرح ما جرى على يوسف في منزل العزيز بعد ما أمر امرأته بإكرام مثواه ، من مراودتها له وإبائه . والمراودة : المطالبة . أي : طلبت منه أن يواقعها . وتعديتها بـ ( عن ) لتضمينها معنى المخادعة . والعدول عن التصريح باسمها للمحافظة على السر والستر ، وإيراد الموصول دون امرأة العزيز ، لتقرير المراودة . فإن كونه في بيتها مما يدعو إلى ذلك . قيل لامرأة : ما حملك على ما لا خير فيه ؟ قالت : قرب الوساد ، وطول السواد . ولإظهار كمال نزاهته عليه السلام - كما سيأتي - .
و ( هَيْتَ ) قرئت كـ : ( ليت وقيل وحيث ) ، وبكسر الهاء وبهمزة ساكنة بعدها ، وفتح التاء وضمها . وهي في هذه اللغات اسم فعل بمعنى ( تعال ) . واللام لتبيين المفعول أي : المخاطب . ونقل عن الفراء أنها لغة لأهل حوران سقطت إلى مكة فتكلموا بها .
قال ابن الأبياري : هذا وفاقٌ بين لغة قريش وأهل حوران ، كما اتفقت لغة العرب والروم في ( القسطاس ) ونحوه .
و : { مَعَاذَ اللّهِ } منصوب على المصدر . أي : أعوذ بالله معاذاً مما تدعينني إليه ، لكونه زنى وخيانة فيما اؤتمنت عليه ، وضراً لمن توقع النفع ، وإساءة إلى المحسن .
قال أبو السعود : وهذا اجتناب منه على أتم الوجوه ، وإشارة إلى التعليل بأنه منكر هائل ! يجب أن يعاذ بالله تعالى للخلاص منه ، وما ذاك إلا لأنه عليه السلام قد شاهد بما أراه الله تعالى من البرهان النير على ما هو عليه في حد ذاته من غاية القبح ، ونهاية السوء .
وقوله : { إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } تعليل للامتناع ببعض الأسباب الخارجية ، مما عسى أن يكون مؤثراً عندها ، وداعياً لها إلى اعتباره بعد التنبيه على سببه الذاتي الذي تكاد تقبله لما سولته لها نفسها . والضمير للشأن . وفائدة تصدير الجملة به ؛ الإيذان بفخامة مضمونها ، مع ما فيه من زيادة تقريره في الذهن ، فإن الضمير لا يفهم منه من أول الأمر إلا شأن مبهم له خطر ، فيبقى الذهن مترقباً لما يعقبه ، فيتمكن عند وروده له فضل تمكن . فكأنه قيل : إن الشأن الخطير هذا ، وهو ربي ، أي : سيدي العزيز ، أحسن مثواي ، أي : تعهدي ، حيث أمرك بإكرامي ، فكيف يمكن أن أسيء إليه بالخيانة في حرمه ؟ وفيه إرشاد لها إلى رعاية حق العزيز بألطف وجه . وقيل : الضمير لله عز وجل ، و : { رَبِّي } خبر ، و : { إِنَّ } ، و : { أَحْسَنَ مَثْوَايَ } خبر ثاني . أو هو الخبر ، والأول بدل من الضمير . والمعنى : أن الحال هكذا ، فكيف أعصيه بارتكاب تلك الفاحشة الكبيرة ؟ وفيه تحذير لها من عقاب الله عز وجل . وعلى التقديرين ، ففي الاقتصار على ذكر هذه الحالة من غير تعرض للامتناع عما دعته إليه ؛ إيذان بأن هذه المرتبة من البيان كافية في الدلالة على استحالته ، وكونه مما لا يدخل تحت الوقوع أصلاً .
وقوله تعالى : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } تعليل للامتناع المذكور ، غبّ تعليل . و ( الفلاح ) الظفر ، أو البقاء في الخير . ومعنى ( أفلح ) دخل فيه ، كأصبح وأخواته . والمراد بـ : ( الظالمين ) كل من ظلم ، كائناً من كان ، فيدخل في ذلك المجازون للإحسان بالإساءة ، والعصاة لأمر الله تعالى ، دخولاً أولياً . وقيل : الزناة ، لأنهم ظالمون لأنفسهم ، وللمزني بأهله . انتهى .
وقال بعض اليمانين : ثمرات هذه الآية ثلاث :
الأولى : أن الواجب عند الدعاء إلى المعصية الاستعاذة بالله من ذلك ، ليعصمه منها ، ويدخل فيه دعاء الشيطان ، ودعاء شياطين الإنس ، ودعاء هوى النفس .
الثانية : أن السيد والمالك يسمى ( رباً ) .
الثالثة : أنه يجوز ترك القبيح لقبحه ، ورعاية حق غيره ، وخشية العار ، أو الفقر ، أو الخوف ، ونحو ذلك . ولا يقال : التشريك غير مفيد في كونه تاركاً للقبيح ، وأنه لا يثاب . وتدل أيضاً على لزوم حسن المكافأة بالجميل ، وأن من أخل بالمكافأة عليه كان ظالماً . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ 24 ]
{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } ( الهم ) يكون بمعنى القصد والإرادة ، ويكون فوق الإرادة ودون العزم ، إذا أريد به اجتماع النفس على الأمر والإزماع عليه ، وبالعزم : القصد إلى إمضائه ، فهو أول العزيمة . وهذا معنى قولهم : الهم همان : همٌّ ثابت معه عزم وعقد ورضا ، وهو مذموم مؤاخذ به . وهمٌّ بمعنى خاطر ، وحديث نفس ، من غير تصميم ، وهو غير مؤاخذ به . لأنه خطور المناهي في الصدور ، وتصورها في الأذهان ، لا مؤاخذة بها ما لم توجد في الأعيان .
روى الشيخان وأهل السنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ، ما لم تتكلم به ، أو تعمل به > . ورواه الطبراني عن عِمْرَان بن حصين رضي الله عنهما .
فمعنى قوله تعالى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } أي : بمخالطته ، أي : قصدتها وعزمت عليها عزماً جازماً ، لا يلويها عنه صارف ، بعد ما باشرت مبادئها من المراودة ، وتغليق الأبواب ، ودعوته إلى الإسراع إليها بقولها : { هَيْتَ لَكَ } مما اضطره إلى الهرب إلى الباب .
ومعنى قوله : { وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أي : لولا رؤيته برهان ربه لهمَّ بها ، كما همت به ، لتوفر الدواعي . ولكنه رأى من تأييد الله له بالبرهان ما صرف عنه السوء والفحشاء .
قال أبو حيان : ونظيره ( قارفت الإثم لولا الله عصمك ) . ولا نقول : إن جواب ( لولا ) يتقدم عليها ، وإن لم يقم دليل على امتناعه ، بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف فيها ، حتى ذهب الكوفيون وأعلام البصريين إلى جواز تقدمه ، بل نقول : هو محذوف لدلالة ما قبله عليه . لأن المحذوف في الشرط يقدر من الجنس ما قبله . انتهى .
فالآية حينئذ ناطقة بأنه لم يهمّ أصلاً . وقيل : جواب ( لولا ) لغشيها ونحوه . فمعنى ( الهم ) حينئذ ما قاله الإمام الرازي : من أنه خطور الشيء بالبال ، أو ميل الطبع . كالصائم في الصيف . يرى الماء البارد ، فتحمله نفسه على الميل إليه ، وطلب شربه ، ولكن يمنعه دينه عنه . وكالمرأة الفائقة حسناً وجمالاً ، تتهيأ للشاب النامي القوي ، فتقع بين الشهوة والعفة ، وبين النفس والعقل ، مجاذبة ومنازعة . ( فالهم ) هنا عبارة عن جواذب الطبيعة ، ورؤية البرهان جواذب الحكمة ، وهذا لا يدل على حصول الذنب ، بل كلما كانت هذه الحال أشد كانت القوة على لوازم العبودية أكمل . انتهى .
وكذا قال أبو السعود : إن همه بها بمعنى ميله إليها ، بمقتضى الطبيعة البشرية ، وشهوة الشباب وقرمه ، ميلاً جبلياً ، لا يكاد يدخل تحت التكليف ، لا أنه قصدها قصداً اختيارياً ، ألا يرى إلى ما سبق من استعصامه المنبئ عن كمال كراهيته له ، ونفرته عنه ، وحكمه بعدم إفلاح الظالمين ، وهل هو إلا تسجيل باستحالة صدور الهم منه - عليه السلام - تسجيلاً محكماً ؟ وإنما عبر عنه بالهم ؛ لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر ، بطريق المشاكلة ، لا لشبهه به كما قيل . ولقد أشير إلى تباينهما ، حيث لم يُلزا في قرن واحد من التعبير ، بأن قيل : ولقد هما بالمخالطة ، أو هم كل منهما بالآخر . وصُدِّر الأول بما يقرر وجوده من التوكيد القسمي ، وعقب الثاني بما يعفو أثره من قوله عز وجل : { لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أي : حجته الباهرة ، الدالة على كمال قبح الزنى ، وسوء سبيله . والمراد برؤيته لها كمال إيقانه ، ومشاهدته لها مشاهدة واصلة إلى مرتبة عين اليقين . وكأنه عليه السلام قد شاهد الزنى بموجب ذلك البرهان النير ، على ما هو عليه في حد ذاته أقبح ما يكون ، وأوجب ما يجب أن يحذر منه ، ولذلك فعل ما فعل من الاستعصام ، والحكم بعدم إفلاح من يرتكبه .
وجواب ( لولا ) محذوف ، يدل عليه الكلام . أي : لولا مشاهدة برهان ربه في شأن الزنى لجرى على موجب ميله الجبلي ، ولكن حيث كان مشاهداً له من قبل ؛ استمر على ما هو عليه من قضية البرهان . وفائدة هذه الشرطية بيان أن امتناعه عليه السلام ، لم يكن لعدم مساعدة من جهة الطبيعة ، بل لمحض العفة والنزاهة ، مع وفور الدواعي الداخلية ، وترتيب المقدمات الخارجية ، الموجبة لظهور الأحكام الطبيعية . انتهى .
فاتضح أن لا شبهة فيها على عصمة يوسف عليه السلام ، فإن الأنبياء ليسوا بمعصومين من حديث النفس ، وخواطر الشهوة الجبلية ، ولكنهم معصومون من طاعتها ، والانقياد إليها . ولو لم توجد عندهم دواع جبلية لكانوا إما ملائكة أو عالماً آخر ، ولَمَا كانوا مأجورين على ترك المناهي ؛ لأنهم يكونون مقهورين على تركها طبعاً . والعنين لا يؤجر ويثاب على ترك الزنى ؛ لأن الأجر لا يكون إلا على عمل ، والترك بغير داعية ليس عملاً ، وأما الترك مع الداعية ، فهو كف النفس عما تتشوف إليه فهو عمل نفسي .
وحقيقة عصمة الأنبياء هي نزاهتهم ، وبعدهم عن ارتكاب الفواحش والمنكرات التي بعثوا لتزكية الناس منها ؛ لئلا يكونوا قدوة سيئة ، مفسدين للأخلاق والآداب ، وحجة للسفهاء على انتهاك حرمات الشرائع . وليس معناها أنهم آلهة منزهون عن جميع ما يقتضيه الطبع البشري .
هذا وقد ألصق هنا بعض المفسرين الولعين بسرد الروايات ، ما تلقفوه من أهل الكتب ، ومن المتصولحين ، من تلك الأقاصيص المختلقة على يوسف عليه السلام ، في همه ، التي أنزه تأليفي عن نقلها بردها . وكلها - كما قال العلامة أبو السعود - خرافات وأباطيل ، تمجها الآذان ، وتردها العقول والأذهان ، ويل لمن لا كها ولفقها ، أو سمعها وصدقها . وسبقه الزمخشري ، فجود الكلام في ردها ، فلينظر ، فإنه مما يسر الواقف عليه .
و ( السوء ) : المنكر والفجور والمكروه . ( والفحشاء ) : ما تناهى قبحه .
قال أبو السعود : وفي قوله تعالى : { لِنَصْرفَ عَنْهُ } الخ آية بينة وحجة قاطعة على أنه عليه الصلاة والسلام لم يقع منه هم بالمعصية ، ولا توجه إليها قط ، وإلا لقيل : لنصرفه عن السوء والفحشاء . وإنما توجه إليه ذلك من خارج ، فصرفه الله تعالى بما فيه من موجبات العفة والعصمة . فتأمل .
و ( المخلصين ) قرئ بكسر اللام ، بمعنى الذين أخلصوا دينهم لله ، وبالفتح أي : الذين أخلصهم الله لطاعته بأن عصمهم .
قال الشهاب : قيل : إن كل من له دخل في هذه القصة شهد ببراءته عليه السلام . فشهد الله تعالى بقوله : { لِنَصرفِ } الخ ، وشهد هو على نفسه بقول : { هِيَ رَاوَدَتْنِي } ونحوه ، وشهدت امرأة العزيز بقولها : { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ } وسيدها بقوله : { إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } وإبليس بقوله : { لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } فتضمن إخباره بأنه لم يُغوه . ومع هذا كله لم يبرئه أهل القصص . انتهى . عفا الله عنهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 25 ] .
{ وَاسُتَبَقَا الْبَابَ } متصل بقوله : { وَلَقَد هَمَّتْ بِهِ } الخ ، وقوله : { كَذَلِكَ } الخ ، اعتراف جيء به بين المعطوفين تقريراً لنزاهته . والمعنى : ولقد همت به ، وأبى هو ، واستبقا الباب ، أي : قصد كلٌّ سْبقَ الآخر إلى الباب ؛ فيوسف عليه السلام ليخرج ، وهي لتمنعه من الخروج ، ووحد ( الباب ) هنا مع جمعه أولاً ؛ لأن المراد بالباب البراني الذي منه المخلص .
{ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ } أي : اجتذبته من خلفه فانقد ، أي : انشق قميصه .
{ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ } أي : صادفا بعلها ثمة قادماً .
{ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيم } تبرئة لساحتها ، وإغراء عليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ } [ 26 ] .
{ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ } لأن قدَّه منه أمارة الدفع عن نفسها به ، أو تعثره في مقادم قميصه بسبب إقباله عليها ، فقدَّ لإسراعه خلفها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ } [ 27 ] .
{ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ } لأنه أمارة إدباره عنها بسب أنها تبعته ، واجتذبت ثوبه إليها فقدَّته .
ومن اللطائف ما قيل : إن هذا الشاهد أراد ألا يكون هو الفاضح لها ، ووثق بأن انقطاع قميصه إنما كان من دبر ، فنصبه أمارة لصدقه وكذبها . ثم ذكر القسم الآخر ، وهو قدَّه من قُبل ، على علم بأنه لم ينقدَّ من قبل حتى ينفي عن نفسه التهمة في الشهادة ، وقصد الفضيحة ، وينصفهما جميعاً ، فيذكر أمارة على صدقها المعلوم نفيه ، كما ذكره أمارة على صدقه المعلوم وجوده . ومن ثم قدم أمارة على صدقها ، على أمارة صدقه في الذكر ؛ إزاحة للتهمة ، ووثوقاً بأن الأمارة الثانية هي الواقعة ، فلا يضره تأخيرها . وهذه اللطيفة بعينها - والله أعلم - هي التي راعاها مؤمن آل فرعون في قوله : { وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ } [ غافر : من الآية 28 ] . فقدم قسم الكذب على قسم الصدق ، إزاحة للتهمة التي خشي أن تتطرق إليه في حق موسى عليه السلام ، ووثوقاً بأن القسم الثاني وهو صدقه ، هو الواقع ، فلا يضره تأخيره في الذكر لهذه الفائدة ، ومن ثم قال : { بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ } ولم يقل : كل ما يعدكم ، تعريضاً بأنه معهم عليه ، وأنه حريص على أن يبخسه حقه ، وينحو هذا النحو تأخير يوسف عليه السلام ، لكشف وعاء أخيه الآتي ذكره ، لأنه لو بدأ به لفطنوا أنه الذي أمر بوضع السقاية فيه - والله أعلم - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [ 28 ] .
{ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } يعني بالكيد : الحيلة والمكر . وإنما استعظم كيدهن ؛ لأنه ألطف وأعلق بالقلب ، وأشد تأثيراً في النفس ، ولهن فيه نيقة ورفق ، وبذلك يغلبن الرجال .
تنبيه :
قال ابن الفرس : يحتج بالآية من يرى الحكم بالأمارات والعلامات ، فيما لا تحضره البينات ، كاللقطة ، والسرقة ، والوديعة ، ومعاقد الحيطان ، والسقوف وشبهها .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } [ 29 ] .
{ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا } نودي بحذف حرف النداء ، لقربه وكمال تفطنه للحديث .
أي : يا يوسف أعرض عن هذا الأمر واكتمه ، ولا تحدث به .
{ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ } أي : الذي وقع منك من إرادة السوء بهذا الشاب ، ثم قذفه بما هو بريء منه .
{ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } أي : من جملة القوم المتعمدين للذنب . يقال : خطئ إذا أذنب متعمداً ، وأخطأ إذا فعله من غير تعمد . ولهذا يقال : أصاب الخطأ ، وأخطأ الصواب ، وأصاب الصواب . وإيثار جمع السالم تغليباً للذكور على الإناث . ودل هذا على أن العزيز كان رجلاً حليماً ؛ إذ اكتفى من مؤاخذتها بهذا المقدار .
قال ابن كثير : أو أنه عذرها لأنها رأت ما لا صبر لها عنه . ويقال : إنه كان قليل الغيرة .
قال الشهاب : وهو لطف من الله تعالى بيوسف عليه السلام .
وقال أبو حيان : إنه مقتضى تربة مصر . انتهى .
وقد تقرر لدى المحققين أن لاختلاف أحوال العمران في الخصب والجدب ، وأقاليمه في الحرارة والبرودة وتوابعها ؛ أثراً في أخلاق البشر وأبدانهم . انظر المقدمة الرابعة والخامسة من " مقدمة ابن خلدون " .
ثم ذكر تعالى أن خبر يوسف وامرأة العزيز شاع في المدينة - وهو مصر - بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ 30 ] .
{ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ } العزيز : الأمير ، مأخوذ من ( العز ) وهو الشدة والقهر ، وقد غلب على أمير مصر والإسكندرية .
{ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً } أي : خرق حبه شغاف قلبها ، حتى وصل إلى الفؤاد ، و ( الشغاف ) كسحاب : حجاب القلب .
{ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي : في خطأ عن طريق الرشد والصواب . وإقحام الرؤية ؛ للإشعار بأن حكمهن بضلالها صادر عن رؤية وعلم ، مع التلويح إلى تنزههن عن مثل ذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } [ 31 ] .
{ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ } أي : اغتيابهن ، وسوء قالتهن . استعير ( المكر ) لـ ( الغيبة ) لشبهها له في الإخفاء أو ( المكر ) على حقيقته ، وكن قلن ذلك لتريهن يوسف .
{ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ } أي : تدعوهن للضيافة مكراً بهن { وَأَعْتَدَتْ } أي : أحضرت وهيأت : { لَهُنَّ مُتَّكَأً } أي : ما يتكئن عليه من الوسائد { وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً } أي : ليعالجن بها ما يأكلن من الفواكه ونحوها { وَقَالَتِ } أي : ليوسف : { اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ } أي : ابرز إليهن .
قال الزمخشري : قصدت بتلك - الهيئة - وهي قعودهن متكئات والسكاكين في أيديهن ؛ أن يدهشن ويُبهتن عند رؤيته ، ويشغلن عن نفوسهن ، فتقع أيديهن على أيديهن فيقطعنها ؛ لأن المتكئ إذا بُهت لشيء وقعت يده على يده ، فتبكنهن بالحجة ، وقد كان ذلك كما قال تعالى : { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } أي : أعظمنه ، وهبن حسنه الفائق { وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } أي : جرحنها ، كما تقول : كنت أقطع اللحم فقطعت يدي ، تريد : جرحتها : { وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } حاش : أصله حاشا ، وحذفت ألفه تخفيفاً ، وبها قرأ أبو عَمْرو في الدرج ، أي : تنزيهاً له سبحانه عن صفات النقص والعجز ، وتعجباً من قدرته على مثل ذلك الصنع البديع . وإنما نفين عنه البشرية لغرابة جماله ، وأثبتن له الملكية على نهج القصر ؛ بناء على ما ركز في الطباع ألا أحسن من الملك ، كما ركز فيها ألا أقبح من الشيطان ، ولذلك يشبه كل متناه في الحسن والقبح بهما .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ } [ 32 ] .
{ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ } أي : في الافتتان به : { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ } أي : امتنع ، طالباً للعصمة ، مستزيداً منها .
قال الزمخشري : الاستعصام بناء مبالغة ، يدل على الامتناع البليغ ، والتحفظ الشديد ، كأنه في عصمة ، وهو يجتهد في الاستزادة منها . ونحوه : استمسك ، واستوسع الفتق ، واستجمع الرأي ، واستفحل الخطب . وهذا بيان لما كان من يوسف عليه السلام ، لا مزيد عليه ، وبرهان لا شيء أنور منه ، على أنه برئ مما أضاف إليه أهل الحشو ، مما فسروا به الهم والبرهان . انتهى .
{ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ } أي : ليعاقبن بالسجن والحبس : { وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ } أي : الأذلاء المهانين .
ولما سمع يوسف تهديدها :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ } [ 33 ] .
{ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } أي : من مواتاتها ؛ لأنه مشقة قليلة تعقبها راحات أبدية . ثم فزع إلى الله تعالى في طلب العصمة بقوله : { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ } يعني : ما أردن مني : { أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } أي : أمل إلى إجابتهن بمقتضى البشرية : { وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ } أي : بسبب ارتكاب ما يدعونني إليه من القبيح .
قال أبو السعود : هذا فزع منه ، عليه السلام ، إلى ألطاف الله تعالى . جرياً على سنن الأنبياء والصالحين ، في قصر نيل الخيرات ، والنجاة من الشرور ، على جناب الله عز وجل ، وسلب القوى والقدر عن أنفسهم ، ومبالغة في استدعاء لطفه في صرف كيدهن بإظهار أن لا طاقة له بالمدافعة ، كقول المستغيث : أدركني وإلا هلكت ، لا أنه يطلب الإجبار والإلجاء إلى العصمة والعفة ، وفي نفسه داعية تدعوه إلى هواهن . انتهى .
قال القاشاني : وذلك الدعاء هو صورة افتقار القلب الواجب عليه أبداً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ 34 ] .
{ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ } أي : أجاب له دعاءه : { فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ } أي : أيده بالتأييد القدسي ، فصرفه إلى جناب القدس ، ودفع عنه بذلك كيدهن : { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } أي : لدعاء المتضرعين إليه : { الْعَلِيمُ } أي : بما يصلحهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ } [ 35 ] .
{ ثُمَّ بَدَا لَهُم } أي : ظهر للعزيز وأهله { مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ } أي : الشواهد على براءته : { لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ } أي : إلى مدة يرون رأيهم فيها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [ 36 ] .
{ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ } روي أنهما غلامان كانا لفرعون مصر ، أحدهما رئيس سقاته ، والآخر رئيس طعامه ، غضب عليهما فحبسهما ، فكانا مع يوسف . ثم رآهما يوماً وهما مهمومان ، فسألهما عن شأنهما ، فذكرا له أنهما رأيا رؤيا غمتهما ، وليس لهما من يعبرها . فقال لهما : أليس التأويل لله ؟ قصَّا عليَّ ! فذلك قوله تعالى : { قَالَ أَحَدُهُمَآ } وهو صاحب شرابه : { إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً } أي : عنباً ، تسمية للعنب بما يؤول إليه ، أو الخمر بلغة عمان : اسم للعنب ، وذلك أنه قال : رأيت في المنام كأن بين يدي وعاءاً فيه ثلاثة قضبان عنب ، ثم نضجت عناقيدها وصارت عنباً ، وكانت كأس فرعون في يدي ، فأخذت العنب ، وعصرته في الكأس ، وناولتها لفرعون .
{ وَقَالَ الآخَرُ } وهو صاحب طعامه : { إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ } وذلك أنه قال له : رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال حُواري ، والطير تأكل من السلة العليا فوق رأسي .
{ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } أي : أخبرنا بتفسير ما رأينا ، وما يؤول إليه أمر هذه الرؤيا : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } أي : الذين يحسنون عبارة الرؤيا ، أو من المحسنين إلى أهل السجن ، تداوي مريضهم ، وتعزي حزينهم ، وتوسع على فقيرهم ، فأحسن إلينا بكشف غمتنا ، إن كنت قادراً على ذلك .
ثم أشار ، عليه السلام ، لهما بأن ما رأياه سهل التأويل ، لوجود مثاله في المنام ، وأن له علماً فوقه ، وهو أن يبين لهما كل جليل ودقيق من الأمور المستقبلة ، وإن لم يكن هناك مقدمة المنام ، حتى إن الطعام الموظف الذي يأتيهما كل يوم ، يبينه لهما قبل إتيانه ، وإن ذلك ليس من باب الكهانة ، بل من الفضل الرباني لمن يصطفيه بالنبوة ، وهذا معنى قوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } [ 37 ] .
{ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا } أي : قبل أن يصلكما . والمراد بالطعام : ما يبعث إلى أهل السجن . وتأويله ذكر ما هو ، بأن يقول : يأتيكما طعام كيت وكيت ، فيجدانه كذلك . وحقيقة ( التأويل ) : تفسير الألفاظ المراد منها خلاف ظاهرها ببيان المراد .
قال أبو السعود : فإطلاقه على تعيين ما سيأتي من الطعام ، إما بطريق الاستعارة . فإن ذلك بالنسبة إلى مطلق الطعام المبهم بمنزلة التأويل ، بالنظر إلى ما رُئي في المنام ، وشبيه له . وإما بطريق المشاكلة ، حسبما وقع في عبارتهما من قولهما : { نَبِّئْنا بِتأويلهِ } . ومراده عليه السلام بذلك : بيان كل ما يهمهما من الأمور المترقبة قبل وقوعها . وإنما تخصيص الطعام بالذكر ؛ لكونه عريقاً في ذلك ، بحسب الحال ، مع ما فيه من مراعاة حسن التخلص إليه مما استعبراه من الرؤيتين المتعلقتين بالشراب والطعام .
{ ذَلِكُمَا } أي : ذلك التأويل والإخبار بالمغيبات : { مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي } أي : بالوحي والإلهام ، لا من التكهن والتنجيم . وفيه إشعار بأن له علوماً جمة ، ما سمعاه شذرة من جواهرها . وقوله تعالى : { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } [ 38 ] .
{ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } هذه الجملة إما مسوقة لبيان علة تعليم الله له بالوحي والإلهام ، أي : خصني بذلك لترك الكفر ، وسلوك طريق آبائي المرسلين ، أو كلام مستأنف ، ذكر تمهيداً للدعوة ، وإظهار أنه من بيت النبوة ، لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه ، والوثوق به ، والمراد بتركه ملة الكفر : الامتناع عنها رأساً ، كما يفصح عنه قوله : { مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ } أي : ما صح ولا استقام ذلك لنا ، فضلاً عن الوقوع . وإنما عبر عنه بذلك ؛ لكونه أدخل بحساب الظاهر في اقتدائهما به عليه السلام ، والتخصيص بهم مع أن الشرك لا يصح من غيرهم أيضاً ؛ لأنه يثبت بالطريق الأولى . أو المراد : نفي الوقوع منهم لعصمتهم . وتكرير ( هم ) للدلالة على اختصاصهم ، وتأكيد كفرهم بالآخرة ، وزيادة ( من ) في المفعول أعني : { مِن شَيْءٍ } ؛ لتأكيد العموم ، أي : لا نشرك به شيئاً من الأشياء ، قليلاً أو حقيراً ، صنماً أو ملكاً أو جنياً أو غير ذلك .
وقوله : { ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ } يعني عدم الإشراك بالله ، وهو التوحيد ، من نعم الله العامة ، التي يجب شكره تعالى على الهداية لها بالفطر السليمة ، ونصب الدلائل الأنفسية والآفاقية .
ثم بين أن أكثر الناس نبذوا هذه النعمة بعد ما حق عليهم شكرها .
ولما ذكر ، عليه السلام ، ما هو عليه من الدين القويم ، تلطف في الاستدلال على بطلان ما عليه قومهما من عبادة الأصنام ، فضرب لهما مثلاً يتضح به الحق حق اتضاح ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [ 39 ] .
{ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } وصفهما بالصحبة الضرورية المقتضية للمودة ، وبذل النصيحة . أي : يا صاحبي فيه . فجعل الظرف توسعاً ، مفعولاً به . أي : أأرباب شتى تستعبد الناس خير لهم ، أم أن يكون لهم رب واحد قهار لا يغالب ؟ ! .
قال بعضهم : دلت الآية على أن الشرع كما جاء مطالباً بالاعتقاد ، جاء هادياً لوجه الحسن فيه . وذلك أن هذه الآية تشير إشارة واضحة إلى أن تفرق الآلهة يفرق بين البشر في وجهة قلوبهم إلى أعظم سلطان يتخذونه فوق قوتهم . وهو يذهب بكل فريق إلى التعصب لما وجه قلبه إليه ، وفي ذلك فساد نظامهم كما لا يخفى . أما اعتقاد جميعهم بإله واحد ، فهو توحيد لمنازع نفوسهم إلى سلطان واحد ، يخضع الجميع لحكمه ، وفي ذلك نظام أخوتهم ، وهي قاعدة سعادتهم . فالشرع جاء مبيناً للواقع في أن معرفة الله بصفاته حسنة في نفسها ، فهو ليس مُحْدِثَ الحسن . انتهى .
وفي قوله : { أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ } إشارة إلى ما كان عليه أهل مصر لعهده عليه السلام ، من عبادة أصنام شتى . يقول بعضهم : كما أن مصر كانت تغلبت في العلوم والسلطة ، كذلك في عبادة الأصنام ، فإن أهلها فاقوا كل من سواهم في الضلال ، فكانوا يسجدون للشمس وللقمر والنجوم والأشخاص البشرية والحيوانات ، حتى الهوام وأدنى حشرات الأرض .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ 40 ] .
{ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ } أي : من دون الله : { إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم } يعني أنكم سميتم ما لا يستحق الإلهية آلهة ، ثم طفقتم تعبدونها ، فكأنكم لا تعبدون إلا أسماء فارغة لا مسميات تحتها : { مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } أي : حجة تدل على صحتها : { إِنِ الْحُكْمُ } أي : في أمر العبادة والدين : { إِلاَّ لِلّهِ } لأنه مالك ، وهو لم يحكم بعبادتها ؛ لأنه : { أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ } ؛ لأن العبادة غاية التذلل ، فلا يستحقها إلا من له غاية العظمة { ذَلِكَ } أي : التوحيد الدال على كمال عظمة الله ، بحيث لا يشاركه فيها غيره : { الدِّينُ الْقَيِّمُ } أي : الحق المستقيم الثابت { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أي : لجهلهم ، ولذا كان أكثرهم مشركين .
تنبيه :
لا يخفى أن قوله تعالى : { قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ } إلى هنا ، مقدمة لجواب سؤالهما عن تعبير رؤياهما ، مهد عليه السلام بها له ليدعوهما إلى التوحيد ، ليزدادا علماً بعظم شأنه ، وثقة بأمره ؛ توسلاً بذلك إلى تحقيق ما يتوخاه من هدايتهما ، لا سيما وأن أحدهما ستعاجله منيته بالصلب ، فرجا أن يختم له بخير .
قال الزمخشري : لما استعبراه ووصفاه بالإحسان ، افترض ذلك ، فوصل به وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء ، وهو الإخبار بالغيب ، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام ، وجعل ذلك تخلصاً إلى أن يذكر لهما التوحيد ، ويعرض عليهما الإيمان ، ويزينه لهما ، ويقبح إليهما الشرك بالله . وهذه طريقة على كل ذي علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة إذا استفتاه واحد منهم ، أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة الحسنة والنصيحة أولاً ، ويدعوه إلى ما هو أولى به ، وأوجب عليه مما استفتي فيه ، ثم يفتيه بعد ذلك . وفيه : أن العالم إذا جهلت منزلته في العلم ، فوصف نفسه بما هو بصدده - وغرضه أن يقتبس منه ، وينتفع به في الدين - لم يكن من باب التزكية . انتهى .
وبعد تحقيق الحق ، ودعوتهما إليه ، وبيانه لهما مرتبة علمه ، شرع في تفسير ما استفسراه . ولكونه بحثاً مغايراً لما سبق فصله عنه بتكرير الخطاب فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } [ 41 ] .
{ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً } أي : يخرج من السجن ، ويعود إلى ما كان عليه من سقي سيده الخمر : { وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ } أي : فيقتل ويعلق على خشبة ، فتأكل الطير من لحم رأسه { قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } أي : قطع وتم ما تستفتيان فيه . يعني : مآله ، وهو نجاة أحدهما ، وهلاك الآخر . والتعبير عنه بـ ( الأمر ) ، وعن طلب تأويله بـ : ( الاستفتاء ) تهويلاً لأمره ، وتفخيماً لشأنه ؛ إذ الاستفتاء إنما يكون في النوازل المشكلة الحكم ، المبهمة الجواب ، وإيثار صيغة الاستقبال ، مع سبق استفتائهما في ذلك ؛ لما أنهما بصدده ، إلى أن يقضي عليه السلام من الجواب وطره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } [ 42 ] .
{ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } أي : قال يوسف للذي علم نجاته من الفتيين ، أي : خلوصه من السجن والقتل ، وهو الساقي : { اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } أي : اذكر حالي وصفتي ، وعلمي بالرؤيا ، وما جرى عليّ عند الملك سيدك ، عسى يخلصني مما ظلمت به .
و ( الظن ) بمعنى العلم واليقين ، ورد كثيراً ، والتعبير به إرخاء للعنان ، وتأدب مع الله تعالى . وقيل : الظن بمعناه المعروف ، بناء على أن تأويل يوسف بطريق الاجتهاد ، والحكم بقضاء الأمر اجتهادي أيضاً ، والأول أنسب بالسياق .
تنبيه :
دلت الآية على جواز الاستعانة بمن هو مظنة كشف الغمة ، ولو مشركاً . وقد جاء ذلك في قوله تعالى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } [ المائدة : من الآية 2 ] ، وقوله حكاية عن عيسى : { مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه } [ آل عِمْرَان : من الآية 52 ] و [ الصف : 14 ] وفي الحديث : < والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه > . وجلي أن ذلك من نظام الكون ، والعمران البشري ، ولذلك ميز الإنسان بالنطق .
وأما ما رواه ابن جرير عن ابن عباس مرفوعاً : لو لم يقل - يعني يوسف - الكلمة التي قال ما لبث في السجن طول ما لبث ، حيث يبتغي الفرج من عند غير الله تعالى . فقال الحافظ ابن كثير : حديث ضعيف جداً ، وذكر من رجاله الضعفاء راويين سماهما . ثم قال : وروي أيضاً مرسلاً عن الحسن وقتادة . قال : وهذه المرسلات هاهنا لا تقبل ، لو قُبل المرسل من حيث هو ، في غير هذا الموطن - والله أعلم - انتهى . ولقد أجاد وأفاد عليه الرحمة .
وقوله تعالى : { فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } يعني : فشغله الشيطان حتى نسي ذكر يوسف عند الملك { فَلَبِثَ } أي : مكث يوسف : { فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } أي : طائفة منها .
ولأهل اللغة أقوال في ( البضع ) : ما بين الثلاث إلى التسع ، أو إلى الخمس ، أو ما لم يبلغ العقد ولا نصفه ، يعني ما بين الواحد إلى الأربعة . وقيل غير ذلك .
ولما دنا الفرج من يوسف عليه السلام ، برحمته تعالى ، ما هيأه من الأسباب ؛ رأى فرعون مصر هذه الرؤيا التي أشار إليها تعالى بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ 43 ] .
{ وَقَالَ الْمَلِكُ } أي : لملئه : { إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ } أي : هالكات من الهزال . جمع عجفاء ، بمعنى المهزولة ، ضد السمينة { وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ } أي : وأرى رؤيا ثانية : سبع سنبلات : { خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ } أي : وسبعاً أخر يابسات دقيقة ، أي : نبتت وراءها ، فابتلعت السنابل الخضر الممتلئة ، وإنما استغنى عن عددها وإعدامها للخضر ؛ للاكتفاء بما ذكر من حال البقرات ؛ لأنها نظيرتها .
وقوله : { يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } خطاب للأشراف من قومه ، وكان دعا إثر استيقاظه سحرة مصر وحكماءها ، وقص عليهم رؤياه هذه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ } [ 44 ] .
{ قَالُواْ } أي : الملأ للملك : { أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ } أي : تخاليطها . جمع ( ضغث ) وهو في الأصل ما جمع من أخلاط النبات وحُزِمَ ، ثم استعير لما تجمعه القوة المتخيلة من أحاديث النفس ، ووساوس الشيطان ، وتريها في المنام . و ( الأحلام ) جمع ( حلم ) ، وهو ما يراه النائم ، فهو مرادف للرؤيا ، إلا أنها غلبت في رؤيا الخير والشيء الحسن ، وغلب الحلم على خلافه . وفي الحديث : < الرؤيا من الله ، والحلم من الشيطان > .
قال التوربشتي : الحلم عند العرب يستعمل استعمال الرؤيا ، والتفريق من الاصطلاحات التي سنها الشارع للفصل بين الحق والباطل ، كأنه كره أن يسمى ما كان من الله وما كان من الشيطان باسم واحد ، فجعل الرؤيا عبارة عن الصالح منها ، لما في الرؤيا من الدلالة على المشاهدة بالبصر أو البصيرة ، وجعل الحلم عبارة عما كان من الشيطان ؛ لأن أصل الكلمة لم يستعمل إلى فيما يخيل للحالم في منامه من قضاء الشهوة ، مما لا حقيقة له . انتهى .
والمراد بالجمع في ( الأحلام ) ما فوق الواحد ؛ لأنهما حلمان ، رأى كل واحد منهما إثر استيقاظه منه ، كما روي ، وفهم بعضهم أنه حلم واحد ، فالتمس للجمع نكتة فقال : إما المبالغة في وصفه بالبطلان ، أو تضمنه أشياء مختلفة ، ولا حاجة إليه ، كما بينا .
{ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ } يحتمل أن يريدوا بـ : ( الأحلام ) المنامات الباطلة خاصة . أي : ليس لها تأويل عندنا ، وإنما التأويل للرؤيا الصادقة . وأن يعترفوا بقصور علمهم ، وأنهم ليسوا في التعبير بنحارير .
قال الناصر : وهذا هو الظاهر . وحمل الكلام على الأول يصيره من وادي :
~*على لا حب لا يُهتدى بمناره*
كأنهم قالوا : ولا تأويل للأحلام الباطلة ، فنكون به عالمين . وقول الملك لهم أولاً : { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } دليل على أنهم لم يكونوا في علمه عالمين بها ، لأنه أتى بكلمة الشك ، وجاء اعترافهم بالقصور مطابقاً لشك الملك الذي أخرجه مخرج استفهام عن كونهم عالمين بالرؤيا أو لا . وقول الفتى : { أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ } إلى قوله : { لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } دليل أيضاً على ذلك - والله أعلم - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } [ 45 ] .
{ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا } أي : من صاحبي السجن ، وهو الساقي : { وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } أي : تذكر بعد مدة ، وكان تذكره ، على ما روي ، بعد سنتين : { أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ } أي : أخبركم به بالتلقي عمن عنده علمه ، لا من تلقاء نفسي ، ولذلك لم يقل : أنا أفتيكم فيها ، وعقبه بقوله : { فَأَرْسِلُونِ } أي : فابعثوني إلى يوسف ، وإنما لم يذكره ؛ ثقة بما سبق من التذكر ، وما لحق من قوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } [ 46 ] .
{ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ } أي : أرسل إليه ، فأتاه فقال : يا يوسف ! ، ووصفه بالمبالغة في الصدق ، حسبما ذاق أحواله ، وتعرف صدقه في تأويل رؤياه ، ورؤيا صاحبه ، حيث جاء كما أول ؛ لكونه بصدد اغتنام معارفه ، فهو من باب براعة الاستهلال : { أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ } أي : في تأويل رؤيا ذلك . ولم يغير لفظ الملك ؛ لأن التعبير يكون على وفقه ، كما بينوه . وفي قوله : { أَفْتِنَا } مع أنه المستفتي وحده ؛ إشعار بأن الرؤيا ليست له ، بل لغيره ممن له ملابسة بأمور العامة ، وأنه في ذلك معبر وسفير ، كما آذن بذلك قوله : { لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ } أي : إلى الملك ومن عنده : { لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } أي : ذلك : فيعملون بمقتضاه ، أو يعلمون فضلك ومكانك من العلم ، فيطلبوك ويخلصوك من محنتك . وإنما لم يبت الكلام ، بل قال ( لعلي ) و ( لعلهم ) ؛ مجاراة معه على نهج الأدب ، واحترازاً عن المجازفة ؛ إذ لم يكن على يقين من الرجوع ، فربما اخترم دونه .
~لعل المنايا دون ما تعداني
ولا من علمهم بذلك ، فربما لم يعلموه - أشار إليه أبو السعود - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } [ 47 - 49 ] .
{ قَالَ } أي : يوسف له في تأويلها : { تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً } أي : دائبين مواظبين كل عام منها : { فَمَا حَصَدتُّمْ } أي : من الزرع : { فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ } أي : لا تدرسوه ، فإنه أبقى له : { إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ } أي : في تلك السنين ، يعني بقدر ما تأكلون .
{ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ } أي : السبع المذكورات : { سَبْعٌ شِدَادٌ } أي : سبع سنين صعاب على الناس ؛ لقوة القحط : { يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ } أي : ما رفعتم لهن من الحبوب المتروكة في سنابلها . ولما عبر عن البقرات بالسنين ؛ نسب الأكل إلى السنين ، كما رأى في الواقعة البقرات يأكلن حتى يحصل التطابق بين المعبر وهو المرئي في المنام ، والمعبر به وهو تأويله . ولا يتعين المجاز العقلي - أي : يؤكل فيها - كما في : ( نهاره صائم ) ؛ لجواز أن يكون مشاكلة حينئذ { إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ } أي : تحرزون وتخبئون للزراعة .
{ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ } أي : السنين الموصوفة بالشدة ، وأكل الغلال المدخرة : { عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ } أي : يمطرون من الغيث ، أي : يغاثون من القحط ، أو يرفع عنهم مكروهه من الغوث : { وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } أي : ما كانوا يعصرونه على عادتهم من عنب وزيتون ونحوهما .
قال أبو السعود : والتعرض لذكر ( العصر ) ، مع جواز الاكتفاء عنه بذكر ( الغيث ) المستلزم له عادة ، كما اكتفى به عن ذكر تصرفهم في الحبوب ؛ إما لأن استلزام الغيث له ليس كاستلزامه للحبوب ؛ إذ المذكورات يتوقف صلاحها على مبادئ أُخر غير المطر . وإما لمراعاة جانب المستفتي باعتبار حالته الخاصة به ، بشارة له ، وهي التي يدور عليها حسن موقع تغليبه على الناس ، في القراءة بالفوقانية . وقيل : معنى ( يعصرون ) يحلبون الضروع . انتهى .
واللفظ بعموم معناه يشمله ؛ لأن الحلب فيه عصر الضرع ليخرج الدر .
قال الزمخشري : تأويل البقرات السمان والسنبلات الخضر : بسنين مخصبة ، والعجاف واليابسات : بسنين مجدبة ، ثم بشرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بأن العام الثامن يجيء مباركاً خصيباً ، كثير الخير ، غزير النعم ، وذلك جهة الوحي .
تنبيه :
قال في " الإكليل " : هذه الآية من أصول التعبير . وفيها أيضاً صحة رؤيا الكفار ، وجواز تسميته ملكاً ، وأن قولنا ( الرؤيا لأول عابر ) ليس عاماً في كل رؤيا ؛ لأنهم قالوا : { أضغاثُ أَحْلامٍ } ، ولم تسقط بقولهم ذلك ، فتخص القاعدة بما يحتمل من الرؤيا وجوهاً ، فيعبر بأحدها ، فيقع عليه . وفي قوله : { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ } الخ ، زيادة على ما وقع السؤال عنه فيستدل به ، على أنه لا بأس بذلك في تعبير الرؤيا والفتوى . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } [ 50 ] .
{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ } أي : أخرجوه من السجن وأحضروه ؛ لما علم من علمه وفضله { فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ } أي : يستدعيه إلى الملك : { قَالَ } أي : يوسف له : { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ } أي : سيدك الملك { فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } أي : ما شأنهن وخبرهن ؟ أمره بأن يسأله ويستفهمه عن ذلك ، ولم يكشف له عن القصة ، ولا أوضحها له ؛ لأن السؤال مجملاً ، مما يهيج الملك على الكشف والبحث والاستعلام ، فتحصل البراءة . وإنما كان السؤال المجمل يهيج الإنسان ، ويحركه للبحث عنه ؛ لأنه يأنف من جهله وعدم علمه به ، ولو قال : سله أن يفتش عن ذلك ، لكان طلباً للفحص عنه ، وهو مما يتسامح ويتساهل به ، وفيه جرأة عليه ، فربما امتنع منه ، ولم يلتفت إليه .
قال الزمخشري : إنما تأنى وتثبت في إجابة الملك ، وقدم سؤال النسوة ؛ ليظهر براءة ساحته عما قرف به وسجن فيه ؛ لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده ، ويجعلوه سلماً إلى حط منزلته لديه ، ولئلا يقولوا : ما خلد في السجن إلا لأمر عظيم وجرم كبير ، حق به أن يسجن ويعذب ، ويستكف شره . وفيه دليل على أن الاجتهاد في نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها . قال عليه السلام : < من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم > . ومنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمارين به في معتكفه ، وعنده بعض نسائه : < هي فلانة > ؛ اتقاء للتهمة .
وعن النبي صلى الله عليه وسلم : < لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره ، والله يغفر له ، حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني . ولقد عجبت منه حيث أتاه الرسول فقال : { ارجِعْ إِلى رَبَّكَ } ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبثت ؛ لأسرعت الإجابة ، وبادرتهم الباب ، ولما ابتغيت العذر ، إن كان لحليماً ذا أناة > . انتهى .
رواه عبد الرزاق في مصنفه مرسلاً عن عِكْرِمَة .
وقد روي في المسند والصحيحين مختصراً عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي > . مدحه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأناة ، كان في طي هذه المدحة بالأناة والتثبت تنزيهه وتبرئته مما لعله يسبق إلى الوهم أنه همَّ بامرأة العزيز همّاً يؤاخذ به ؛ لأنه إذا صبر وتثبت فيما له ألا يصبر فيه ، وهو الخروج من السجن ، مع أن الدواعي متوافرة على الخروج منه ؛ فلأن يصبر فيما عليه أن يصبر فيه من الهم أولى وأجدر أفاده الناصر .
قال أبو السعود : وإنما لم يتعرض لامرأة العزيز ، مع ما لقي منها ما لقي ، من مقاساة الأحزان ؛ محافظة على مواجب الحقوق ، واحترازاً عن مكرها ، حيث اعتقدها مقيمة في عدوة العداوة . وأما النسوة فقد كان يطمع في صدعهن بالحق وشهادتهن بإقرارها بأنها راودته عن نفسه فاستعصم ، ولذلك اقتصر على وصفهن بتقطيع الأيدي ، ولم يصرح بمراودتهن له ، وقولهن ( أطع مولاتك ) واكتفى بالإيماء إلى ذلك بقوله : { إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } يعني ما كدنه به ، وفي إضافة علمه إلى الله إشارة إلى عظمه ، وأن كنهه غير مأمول الوصول إليه ، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله . وفيه تشويق وبعث على معرفته ، فهو تتميم لقوله : ( اسأل ) ، ودلالة على أنه برئ مما قرف به ؛ للاستشهاد بعلمه تعالى عليه . وفيه الوعيد لهن على كيدهن ، وأنه تعالى مجاز عليه ، وقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } [ 51 ] .
{ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ } استئناف مبني على السؤال ، كأنه قيل : فماذا كان بعد ذلك ؟ فقيل : قال الملك : ما خطبكن - أي : شأنكن - إذ راودتن يوسف يوم الضيافة ؟ يعني : هل وجدتن منه ميلاً إليكن ؟ .
{ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ } أي : قبيح ، بالغن في نفي جنسه عنه بالتنكير ، وزيادة ( من ) : { قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ } أي : ثبت واستقر وظهر بعد خفائه { أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } أي : في قوله : { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي } .
قال الزمخشري : ولا مزيد على شهادتهن له بالبراءة والنزاهة ، واعترافهن على أنفسهن ، بأنه لم يتعلق بشيء مما قرفنه به ؛ لأنهن خصومه . وإذا اعترف الخصم بأن صاحبه على الحق ، وهو على الباطل ، لم يبق لأحد مقال . انتهى .
~والفضل ما شهدت به الأعداء(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } [ 52 ] .
{ ذَلِكَ } تقول امرأة العزيز : ذلك الذي اعترفت به على نفسي : { لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ } أي : ليعلم يوسف أني لم أكذب عليه في حال الغيبة ، وجئت بالصحيح والصدق فيما سئلت عنه ، أو ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر ، ولا وقع المحذور الأكبر ، وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع ، فاعترفت ليعلم أني بريئة { وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } أي : لا يرضاه ولا يسدده .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 53 ] .
{ وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيم } تريد : وما أبرئ نفسي مع ذلك ، فإن النفس تتحدث وتتمنى ، ولهذا راودته . أو تعني : أني ما أبرئ نفسي من الخيانة ، فإني قد خنته حين قرفته وقلت : { مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ } ؟ وأودعته السجن ، تريد الاعتذار مما كان منها أن كل نفس لأمارة بالسوء ، إلا نفساً رحمها الله بالعصمة ، كنفس يوسف .
ثم إن تأويل قوله تعالى : { ذَلكَ لِيَعْلَمَ } الآية - على أنه حكاية قول امرأة العزيز - قال ابن كثير : هو القول الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ، ومعاني الكلام . وقد حكاه الماوردي في تفسيره ، وانتدب لنصره الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله ، فأفرده بتصنيف على حدة . وقد قيل : إن ذلك من كلام يوسف ، ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم سواه . والمعنى : ذلك التثبت والتأني والتشمر لظهور البراءة ؛ ليعلم العزيز أني لم أخته بظهر الغيب في أهله ، أو ليعلم الله أني لم أخنه ؛ لأن المعصية خيانة . ثم أكد أمانته بقوله : { وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } وأنه لو كان خائناً لما هدى الله عز وجل أمره ، أي : سدده وأحسن عاقبته ، وفيه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها أمانته ، وبالعزيز في خيانة أمانة الله تعالى ، حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه ، ثم أراد أن يتواضع لله ، ويهضم نفسه ؛ لئلا يكون لها مزكياً ، وبحالها في الأمانة معجباً ومفتخراً ، وليبين أن ما فيه من الأمانة ليس به وحده ، وإنما هو بتوفيق الله ولطفه وعصمته ، فقال : { وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي } أي : لا أنزهها من الزلل ، ولا أشهد لها بالبراءة الكلية ، ولا أزكيها ، فإن النفس البشرية تأمر بالسوء ، وتحمل عليه بما فيها من الشهوات ، إلا ما رحم الله من النفوس التي يعصمها من الوقوع في المساوئ .
هذا خلاصة ما قرروه على أنه كلام يوسف . قال ابن كثير : والقول الأول أقوى وأظهر ؛ لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك ، ولم يكن يوسف عليه السلام عندهم ، بل بعد ذلك أحضره الملك - والله أعلم - .
لطائف :
الأولى : محل قوله : ( بالغيب ) الحال من الفاعل أو المفعول ، على معنى : وأنا غائب أو غائبة عنه ، أو وهو غائب عني خفي عن عيني ، أو هو ظرف ، أي : بمكان الغيب ، وهو الخفاء والاستتار وراء الأبواب .
الثانية : قيل معنى : { لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } أي : لا يهديهم بسبب كيدهم ، أوقعت الهداية المنفية على الكيد ، وهي واقعة عليهم تجوزاً للمبالغة ؛ لأنه إذا لم يهد السبب ، علم منه عدم هداية مسببه بالطريق الأولى .
وقيل : المعنى لا يهديهم في كيدهم ، كقوله تعالى : { يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [ التوبة : من الآية 30 ] ، أي : في قولهم .
وقيل : هداية الكيد مجاز عن تنفيذه وتسديده .
الثالثة : قال في " الإكليل " : { وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي } أصل في التواضع ، وكسر النفس وهضمها .
الرابعة : قال الزمخشري : لقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة - ثم ساقها - وقال : وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسله .
قال الناصر : ولقد صدق في التوريك على نقلة هذه الزيادات بالبهت ، وذلك شأن المبطلة من كل طائفة . ويحق الله الحق بكلماته ويبطل الباطل .
الخامسة : رأيت لابن القيم في " الجواب الكافي " في عجيب صبر يوسف وعفته ، مع الدواعي من وجوه . قال عليه الرحمة ، بعد أن مهد مقدمة في مفاسد عشق الصور العاجلة والآجلة : إنها أضعاف ما يذكره ذاكر ، فإنه يفسد القلب بالذات ، وإذا فسد فسدت الإرادات والأقوال والأعمال ، وفسد ثغر التوحيد . والله تعالى إنما حكى هذا المرض عن طائفتين من الناس : وهم اللوطية والنساء ، فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف ، وما راودته ، وكادته به ، وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف لصبره وعفته وتقواه ، ومع أن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلا من صبره الله عليه . فإن موافقة الفعل ، بحسب قوة الداعي ، وزوال المانع ، وكان الداعي هاهنا في غاية القوة وذلك لوجوه :
أحدها : ما ركب الله سبحانه في طبع الرجل من ميله إلى المرأة كما يميل العطشان إلى الماء ، والجائع إلى الطعام ، حتى عن كثيراً من الناس يصبر عن الطعام والشراب ، ولا يصبر عن النساء ، وهذا لا يذم إذا صادف حلالاً ، بل يحمد .
الثاني : أن يوسف عليه السلام كان شاباً ، وشهوة الشباب وحدّته أقوى .
الثالث : أنه كان عزباً لا زوجة له ولا سرية تكسر شدة الشهوة .
الرابع : أنه كان في غربة يتأنى للغريب فيها من قضاء الوطر ما لا يتأتى لغيره في وطنه ، وبين أهله ومعارفه .
الخامس : أن المرأة كانت ذات منصب وجمال ، بحيث أن كل واحد من هذين الأمرين يدعو إلى مواقعتها .
السادس : أنها غير آبية ولا ممتنعة ، فإن كثيراً من الناس يزيل رغبته في المرأة إباؤها وامتناعها ؛ لما يجد في نفسه من ذل الخضوع والسؤال لها ، وكثير من الناس يزيده الإباء والامتناع زيادة حب ، كما قال الشاعر :
~وزادني كلفاً في الحب أن مُنعت أحب شيء إلى الإنسان ما مُنعا
فطباع الناس مختلفة في ذلك ، فمنهم من يتضاعف حبه عند بذل المرأة ورغبتها ، وتضمحل عند إبائها وامتناعها ، ومنهم من يتضاعف حبه وإرادته بالمنع ، ويشتد شوقه بكل ما منع ، ويحصل له من اللذة بالظفر بالضد نظير ما يحصل من لذة الظفر بعد امتناعه ونفاره . واللذة بإدراك المسألة بعد استصعابها وشدة الحرص على إدراكها .
السابع : أنها طلبت وأرادت وبذلت الجهد ، فكفته مؤنة الطلب ، وذل الرغبة إليها ، بل كانت هي الراغبة الذليلة ، وهو العزيز المرغوب إليه .
الثامن : أنه في دارها ، وتحت سلطانها وقهرها ، بحيث يخشى ، إن لم يطاوعها ، من أذاها له ، فاجتمع داعي الرغبة والرهبة .
التاسع : أنه لا يخشى أن تنمي عليه هي ، ولا أحد من جهتها ، فإنها هي الطالبة والراغبة ، وقد غلقت الأبواب ، وغيبت الرقباء .
العاشر : أنه كان مملوكاً لها في الدار ، بحيث يدخل ويخرج ويحضر معها ، ولا ينكر عليه ، وكان الأنس سابقاً على الطلب ، وهو من أقوى الدواعي ، كما قيل لامرأة من العرب : ما حملك على كذا ؟ قالت : قرب الوساد ، وطول السواد . تعني : قرب وساد الرجل من وسادتي ، وطول السواد بيننا .
الحادي عشر : أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال ، فأرته إياهن ، وشكت حالها إليهن ؛ لتستعين بهن عليه ، فاستعان هو بالله عليهن ، فقال : { وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [ يوسف : من الآية 33 ] .
الثاني عشر : أنها توعدته بالسجن والصغار ، وهذا نوع إكراه ؛ إذ هو تهديد ممن يغلب على الظن وقوع ما هدد به ، فيجتمع داعي الشهوة ، وداعي السلامة ، من ضيق السجن والصغار .
الثالث عشر : إن الزوج لم يُظهر من الغيرة والقوة ما يفرق به بينهما ، ويبعد كلاً منهما عن صاحبه ، بل كان غاية ما خاطبهما به أن قال ليوسف : { أَعْرِضْ عَنْ هَذَا } [ يوسف : من الآية 29 ] ، وللمرأة : { اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } [ يوسف : من الآية 29 ] ، وشدة الغيرة للرجل من أقوى الموانع ، وهنا لم يظهر منه غيرة .
ومع هذه الدواعي فآثر مرضاة الله وخوفه ، وحمله حبه لله على أن اختار السجن على الزنى ، فقال : { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } [ يوسف : من الآية 33 ] ، وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه ، وأن ربه تعالى إن لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن صبا إليهن بطبعه ، وكان من الجاهلين ، وهذا من كمال معرفته بربه وبنفسه ، وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحكم ما يزيد على ألف فائدة . انتهى كلام ابن القيم .
ثم أشار تعالى إلى ما امتن به على يوسف من رفع قدره بصبره ، وإعلاء منزلته برحمته بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ } [ 54 ] .
{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } أي : أخصه بها ، دون العزيز ، جرياً على عادة الملوك من الاستئثار بالنفيس العزيز . قال ذلك لما تحقق براءته مما نسب إليه ، وكرم نفسه ، وسعة علمه : { فَلَمَّا كَلَّمَهُ } أي : فلما أتوا به وكلمه ، أي : خاطبه الملك وعرفه ، وشاهد فضله وحكمته وبراءته - وجوز أن يكون فاعل ( كَلَّمَهُ ) يوسف عليه السلام - : { قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ } أي : ذو مكانة ومنزل : { أَمِينٌ } أي : مؤتمن على كل شيء .
روي أن يوسف عليه السلام لما حضر الملك ، وعبر له رؤياه ابتهج بحديثه هو وخاصته ، وقال لهم : هل نجد مثله رجلاً مهبطاً للإمداد الرباني ؟ وقال ليوسف : بعد أن عرفك الله هذا فلا يكون حكيم مثلك ، وأنت على بيتي ، وإلى كلمتك تنقاد رعيتي ، ولا أكون أعظم منك إلا بعرشي ، وقد أقمتك على جميع أرض مصر . ونزع خاتمه من يده ، ووضعه في إصبعه ، وألبسه ثياب بز ، وجعل طوقاً من ذهب في عنقه وأركبه مركبته ، وأمر أن يطاف به في شوارع مصر ، وينادى أمامه بالخضوع له ، وقال له الملك : لا يمضي أمر ، ولا ينفذ شأن في مصر إلا برأيك ومشورتك ، وسماه : مخلص العالم ، وزوجه بنت أحد العظماء لديه . وكان يوسف وقتئذ ابن ثلاثين سنة - والله أعلم - .
قال بعضهم : إن من أمعن النظر في قصة يوسف عليه السلام ، علم يقيناً أن التقي الأمين لا يضيع الله سعيه ، بل يحسن عاقبته ، ويعلي منزلته في الدنيا والآخرة ، وأن المعتصم بالصبر لا يخشى حدثان الدهر وتجاربه ، ولا يخاف صروفه ونوائبه ، فإن الله يعضده ويُنجح مسعاه ويخلد ذكره العاطر على ممر الأدهار . فإن يوسف عليه السلام لما لم يخش للنوائب وعيداً ولا للتجارب تهديداً . ولم يخف للسجن ظلماً وشراً ولا للتنكيل به ألماً وضراً ، بل ألقى توكله على الرب ، وصبر إزاء تلك البلية ثابت القلب ؛ نال بطهارته وتقواه تاج الفخر ولسان الصدق طول أيام الدهر . وها إن فضيلته لم يعف جميل ذكراها مرور الأيام ، ولم يعبث بنضارتها كرور الأعوام ، بل ادخرت لنا مثالاً نقتفي أثره عند طروء التجارب ، وملاذاً نعوذ به في المحن والمصائب ، ومقتدى نتدرب به على التثبت في مواقف العثار ، وننهج منهاجه في التقوى وطيب الإزار . فننال في الدنيا سمة المجد ، ونفوز في الآخرة بدار الخلد .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [ 55 ] .
{ قَالَ } أي : يوسف للملك : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ } أي : ولني خزائن أرضك . يعني جميع الغلات لما يستقبلونه من السنين التي أخبرهم بشأنها ، فيتصرف لهم على الوجه الأرشد والأصلح ، ثم بين اقتداره في ذلك فقال : { إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } أي : أمين أحفظ ما تستحفظنيه ، عالم بوجوه التصرف فيه .
قال الزمخشري : وصف نفسه بالأمانة والكفاية اللتين هم طلبة الملوك ممن يولونه .
وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى ، وإقامة الحق ، وبسط العدل . والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد ، ولعلمه أن أحداً غيره لا يقوم مقامه في ذلك ، فطلب التولية ابتغاء وجه الله ، لا لحب الملك والدنيا .
فإن قلت : كيف جاز أن يتولى عملاً من يد كافر ، ويكون تبعاً له ، وتحت أمره وطاعته ؟ .
قلت : روى مجاهد أنه كان قد أسلم ، وعن قتادة هو دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عملاً من يد سلطان جائر . وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة ويرونه . وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق ، فله أن يستظهر به .
وقيل : كان الملك يصدر عن رأيه ، ولا يعترض عليه في كل ما رأى ، فكان في حكم التابع له والمطيع . انتهى .
وهذه الآية أصل في طلب الولاية كالقضاء ونحوه ، لمن وثق من نفسه بالقيام بحقوقه ، وجواز التولية عن الكافر والظالم . وأصل في جواز مدح الإنسان نفسه لمصلحته ، وفي أن المتولي أمراً ؛ شرطه أن يكون عالماً به ، خبيراً ، ذكي الفطنة . كذا في " الإكليل " .
قال أبو السعود : وإنما لم يذكر إجابة الملك إلى ما سأله ، عليه السلام ، من جعله على خزائن الأرض ، إيذاناً بأن ذلك أمر لا مرد له ، غني عن التصريح ، ولا سيما بعد تقديم ما يندرج تحته من أحكام السلطنة بحذافيرها ، من قوله : { إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ } ، وللتنبيه على أن كل ذلك من الله عز وجل ، وإنما الملك آلة في ذلك .
تنبيه :
قال ابن كثير : خزائن الأرض هي الأهرام التي يجمع فيها الغلات . . . . . الخ .
ولم أر الآن مستنده في كون الأهرام كانت مجمع الغلات ، ولم أقف عليه في كلام غيره .
و ( الأهرام ) بفتح الهمزة ، جمع هرم بفتحتين ، وهي مبان مربعة الدوائر ، مخروطية الشكل ، بقي منها الآن ثلاثة في الجيزة ، بعيدة أميالاً عن القاهرة ، معدودة من غرائب الدنيا ، دعيت لرؤياها أيام رحلتي للديار المصرية عام 1321 هـ . وقد استقر رأي المتأخرين في تحقيق شأنها على أنها كانت مدافن لملوكهم .
ففي كتاب " الأثر الجليل لقدماء وادي النيل " : جميع الأهرام ليست إلا مقابر ملوكية آثر أصحابها أن يتميزوا بها بعد موتهم عن سائر الناس ، كما تميزوا عنهم مدة حياتهم ، وتوخَّوا أن يبقى ذكرهم بسببها على تطاول الدهور ، وتراخي العصور ، وقد أجمع مؤرخو هذا العصر على أن الهرم الأكبر قبر للملك ( خوفو ) والثاني ( خفرع ) والثالث للملك ( منقرع ) وجميعهم من العائلة المنفيسية . ولا عبرة بقول من زعم أنها معابد أو مراصد للكواكب ، أو مدرسة للمعارف الكهنوتية ، أو غير ذلك . انتهى .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ 56 ] .
{ وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ } أي : أرض مصر : { يَتَبَوَّأُ مِنْهَا } أي : ينزل من بلادها : { حَيْثُ يَشَاء } وذلك أنه عليه السلام لما ولاه النظر على خزائن مصر ، تجول في قطرها ، وطاف قراها ، والأمر أمره ، والإشارة إشارته ، عناية منه تعالى ورحمة ، كما قال : { نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } أي : الذين أحسنوا عملاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ 57 ] .
{ وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } أي : ثوابها خير من ثواب الدنيا للمؤمنين المتقين . إشارة إلى أن المطلب الأعلى هو ثواب الآخرة ، وأن ما يدخر لهؤلاء هو أعظم وأجل مما يخولون به في الدنيا من التمكين في الأرض والجاه والثروة والمُلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } [ 58 ] .
{ وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } إشارة إلى ما وقع من مصداق رؤيا يوسف . وذلك أن الأرض أخصبت سبع سنين ، وأخرجت من بركاتها ما يعادل رمل البحر كثرة ، فجمع يوسف غلالها ، وجعل في كل مدينة غلال ما حولها من الحقول ، ولما مضت هذه السبع ، دخلت السنون المجدبة ، فعم القحط مصر والشام ونواحيهما ، فأخذ الناس ، من سائر البلاد ، في المسير إلى مصر ليمتاروا منها ، لأنفسهم وعيالهم ؛ لما علموا من وجود القوت فيها . وكان من جملة من سار للميرة إخوة يوسف ، عن أمر أبيهم يعقوب ؛ لتناول القحط بلادهم - فلسطين - فركبوا عشرة نفر ، واحتبس يعقوب عنده ابنه بنيامين ، شقيق يوسف ، خشية أن يلحقه سوء ، وكان أحب ولده إليه بعد يوسف . فلما هبطوا مصر ، دخلوا على يوسف ، ولم يعرفوه لطول العهد ، ومفارقته إياهم في سن الحداثة ، وعدم استشعارهم في أنفسهم أن يصير إلى ما صار إليه ، وأما هو فعرفهم . روي أنهم لما دخلوا عليه سجدوا له بوجوههم إلى الأرض ، تحية له ، فشرع يخاطبهم متنكراً لهم ، وقال : من أين قدمتم ؟ قالوا : من أرض كنعان ، لنبتاع طعاماً . فقال لهم : أنتم جواسيس ، إنما جئتم لتجسوا ثغور الأرض . قالوا : معاذ الله ! ما جاء عبيدك إلا للميرة ؛ لأن الجهد أصابنا ، ونحن إخوة ، بنو أب واحد . قال : كم أنتم ؟ قالوا : كنا اثني عشر ، هلك منا واحد . قال : فكم أنتم هاهنا ؟ قالوا : عشرة . قال : فأين الأخ الحادي عشر ؟ قالوا : هو عند أبيه يتسلى به من الهالك . قال : لا بد من امتحان صدق كلامكم ، فليبق واحد منكم عندي رهينة ، ولتذهب بقيتكم فتأخذ ميرة لمجاعة أهلكم ، وأتوا بأخيكم الصغير إليَّ ، ليتحقق صدقكم . ثم أخذ شمعون ، واحتبسه عنده ، وأذن للبقية ، وأمر أن يعطوا زاداً للطريق ، وهذا ما أشير إليه في قوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ } [ 59 ] .
{ وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ } بفتح الجيم ، وقرئ بكسرها ، أي : أوقر ركائبهم بالطعام والميرة { قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ } أي : أتمه : { وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ } أي : المضيفين ، وقوله ذلك تحريض لهم على الإتيان به ، لا امتنان .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ } [ 60 ] .
{ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي } أي : فيما تستقبلون : { وَلاَ تَقْرَبُونِ } أي : ولا تقربوني بدخول بلادي مرة ثانية . فالياء محذوفة ، والنون نون الوقاية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ } [ 61 ] .
{ قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ } أي : سنخادعه ونحتال في انتزاعه من يده ، ونجتهد في ذلك . وفيه تنبيه على عزة المطلب ، وصعوبة مناله - قاله أبو السعود - : { وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ } أي : ذلك . يعنون المراودة ، أو الإتيان به ، فيكون ترقياً إلى الوعد بتحصيله بعد المراودة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ 62 ] .
{ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ } أي : لخدامه الكيالين : { اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ } يعني ببضاعتهم ، ما شروا به الطعام . روي أنها كانت فضة . أي : اجعلوها في أمتعتهم من حيث لا يشعرون { لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا } أي : لكي يعرفونها { إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ } أي : وفتحوا أوعيتهم : { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي : حسبما أمرتهم به ، فإن التفضل عليهم بإعطاء البدلين من أقوى الدواعي إلى الرجوع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ 63 ] .
{ فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ } أي : أنذرنا بمنعه بعد هذا ، إن لم نأت بأخينا { فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ } أي : نرفع المانع من الكيل ، ونكتل من الطعام ما نحتاج إليه ، وقرئ ( يكتل ) بالتحتية أي : أخونا لنفسه مع اكتيالنا { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } أي : من أن يناله مكروه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [ 64 ] .
{ قَالَ } أي : يعقوب لهم : { هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ } أي : من قبله ، يوسف . يعني : هل أقدر أن آخذ عليكم العهد والميثاق ، أكثر مما أخذت عليكم في يوسف ، وقد قلتم : { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ يوسف : من الآية 12 ] ، ثم خنتم بضمانكم ؟ فما يؤمنني من مثل ذلك ؟ فلا أثق بكم ، ولا بحفظكم ، وإنما أفوض الأمر إلى الله : { فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً } أي : منكم ومن كل أحد : { وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } أي : أرحم من والديه وإخوته ، فأرجو أن يرحمني بحفظه . وهذا ميل منه إلى الإذن في إرساله معهم لما رأى فيه من المصلحة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ } [ 65 ] .
{ وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ } أي : وجدوا دراهمهم ، ثمن طعامهم في متاعهم .
روي أن أحدهم فتح متاعه ليأخذ علفاً لدابته ، فرأى فضته في فم متاعه ، فقال لإخوته : قد ردت دراهمي وها هي في متاعي ، ثم لما وصلوا كنعان ، وأخذوا يفرغون أوعيتهم ، وجد كل واحد منهم صرة دراهمه في وعائه ، فاستطارت قلوبهم ، ودهشوا ، وحمدوا عناية الله بهم .
{ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي } أي : ماذا نبتغي وراء ذلك ؟ هل من زيادة ؟ أي : لا مزيد على ما فعل ؛ لأنه أكرمنا ، وأحسن مثوانا ، بإنزالنا عنده ، ورد الثمن علينا . والقصد إلى استنزاله عن رأيه . أو : لا نبغي في القول ولا نكذب فيما حكينا لك ، من إحسانه الداعي إلى امتثال أمره . أو : ما نبغي وما ننطق إلا بالصواب فيما نشير به عليك من تجهيزنا مع أخينا ، وقرئ على الخطاب . أي : أي : شيء تطلب وراء هذا من الدليل على صدقنا ؟ .
{ هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا } جملة مستأنفة موضحة لما دل عليه الإنكار من بلوغ اللطف غايته ، كأنهم قالوا : كيف لا ، وهذه بضعتنا ردت إلينا تفضلاً من حيث لا ندري ؟ .
{ وَنَمِيرُ أَهْلَنَا } معطوف على مقدر مفهوم . أي : فنستظهر بها ، ونمير أهلنا إذا رجعنا إلى الملك ، أي : نأتيهم بميرة ، أي : بطعام . يقال : ( ماره ) أتاه بطعام ، ومنه : ( ما عنده خير ولا مير ) .
{ وَنَحْفَظُ أَخَانَا } أي : فلا يصيبه شيء مما تخافه : { وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ } أي : باستصحابه : { ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ } أي : سهل على هذا الملك المحسن لسخائه ، فلا يضايقنا فيه . أو المعنى قصير المدة ، ليس سبيل مثله أن تطول مدته بسبب الحبس والتأخير . أو المعنى : ذلك الذي يكال لنا دون أخينا شيء يسير قليل ، فابعث أخانا معنا حتى نتسع ونتكثر بمكيله . . .
وقال ابن كثير : هذا من تمام الكلام وتحسينه . أي : إن هذا يسير في مقابلة أخذ أخيهم لا يعدل هذا ، فلا يكون من كلامهم ، والجملة محتملة للكل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [ 66 ] .
{ قَالَ } أي : لهم أبوهم : { لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ } أي : بهذه المقالة : { حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ } أي : عهداً منه ، ويميناً به ، لتردنّه عليَّ : { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } أي : تغلبوا كلكم ، فلا تقدرون على تخليصه . وأصله من : ( أحاط به العدو ) سد عليه مسالك النجاة ودنا هلاكه .
{ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } أي : شهيد رقيب . والقصد حثهم على ميثاقهم بتخويفهم من نقضه بمجازاته تعالى .
قال ابن إسحاق : وإنما فعل ذلك ؛ لأنه لم يجد بداً من بعثهم لأجل الميرة التي لا غنى بهم عنها .
لطيفة :
قال الناصر : ولقد صدقت هذه القصة المثل السائر ، وهو قولهم : ( البلاء موكل بالمنطق ) فإن يعقوب عليه السلام قال أولاً في حق يوسف : { وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْب } [ يوسف : من الآية 13 ] ، فابتلي من ناحية هذا القول . وقال ها هنا ثانياً : { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } أي : تغلبوا عليه . فابتلي أيضاً بذلك ، وأحيط بهم وغلبوا عليه . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ 67 ] .
{ وَقَالَ } أي : أبوهم : { يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ } أي : لئلا يستلفت دخولهم من باب واحد أنظار من يقف عليه من الجند ، ومن يعسّ للحاكم ، فيريب بهم ؛ لأن دخول قوم على شكل واحد ، وزيّ متحد ، على بلدهم غرباء عنه ، مما يلفت نظر كل راصد . وكانت المدن وقتئذ مبوبة لا ينفذ إليها إلا من أبوابها ، وعلى كل باب حرسه ، وليس دخول الفرد كدخول الجمع في التنبه ، وإتباع البصر . وقيل : نهاهم لئلا تصيبهم العين إذا دخلوا كوكبة واحدة - وسيأتي بيانه - .
{ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ } أي : لا أدفع عنكم بتدبيري شيئاً مما قضي عليكم ، فإن الحذر لا يمنع القدر .
قال أبو السعود : ولم يرد به عليه السلام إلغاء الحذر بالمرة ، كيف لا وقد قال عز قائلاً : { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة } [ البقرة : من الآية 195 ] ، وقال : { خُذُوا حِذْرَكُمْ } [ النساء : من الآية 71 و 102 ] . بل أراد بيان أن ما وصاهم به ليس مما يستوجب المراد لا محالة ، بل هو تدبير في الجملة . وإنما التأثير وترتيب المنفعة عليه من العزيز القدير ، وإن ذلك ليس بمدافعة للقدر ، بل هو استعانة بالله تعالى ، وهرب منه إليه : { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ } أي : لا يشاركه أحد ، ولا يمانعه شيء : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ 68 ] .
{ وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم } أي : من الأبواب المتفرقة : { مَّا كَانَ } أي : ذلك الدخول : { يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا } أي : أبداها { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ } أي : علم جليل ، لتعليمنا إياه بالوحي ، ونصب الأدلة ، حيث لم يعتقد أن الحذر يدفع القدر ، وأن التدبير له حظ من التأثير . وفي تأكيد الجملة بـ ( إن ) و ( اللام ) وتنكير العلم ، وتعليله بالتعليم المسند إلى ذاته سبحانه ؛ من الدلالة على شأن يعقوب عليه السلام ، وعلو مرتبة علمه وفخامته ما لا يخفى - أفاده أبو السعود - .
{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أي : فيظنون الأسباب مؤثرات .
قال ابن حزم في " الملل " : كان أمر يعقوب عليه السلام بدخولهم من أبواب متفرقة ، إشفاقاً عليهم ، إما من إصابة العين ، وإما من تعرض عدو ، أو مستريب بإجماعهم ، أو ببعض ما يخوفه عليهم . وهو عليه السلام معترف أن فعله ذلك ، وأمره إياهم بما أمرهم به من ذلك ؛ لا يغني عنهم من الله شيئاً يريده عز وجل بهم . ولكن لما كانت طبيعة البشر جارية في يعقوب عليه السلام ، وفي سائر الأنبياء عليهم السلام ، كما قال تعالى حاكياً عن الرسل أنهم قالوا : { إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } [ إبراهيم : من الآية 11 ] ، حملهم ذلك على بعض النظر المخفف لحاجة النفس ونزعها وتوقها إلى سلامة من تحب ، وإن كان ذلك لا يغني شيئاً ، كما كان عليه السلام يحب الفأل الحسن .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآية - على ما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما - أن العين حق ، وأن الحذر لا يرد القدر . ومع ذلك لا بد من ملاحظة الأسباب . انتهى .
وقال بعض اليمانين : لهذه الجملة ثمرات وهي : استحباب البعد عن مضار العباد ، والحذر عنها . فأما فعل الله تعالى فلا يغني الحذر عنه . ثم قال : وفي " التهذيب " أن أبا علي أنكر الضرر بالعين ، وهو مروي عن جماعة من المتكلمين .
وصحح الحاكم والأمير الحسين وغيرهما جواز ذلك ؛ لأخبار وردت فيها .
ثم قال : واختلف من أين أتت المضرة الحاصلة بالعين ، فمن قائل : بأنه يخرج من عين العائن شعاع يتصل بمن يراه ، فيؤثر فيه تأثير السم . وضعفه الحاكم بأنه لو كان كذلك لما اختص ببعض الأشياء دون بعض ، ولأن الجواهر متماثلة ، فلا يؤثر بعضها في بعض . ومن قائل : بأنه فعل العائن . قال : وهذا لا يصح ؛ لأن الجسم لا يفعل في جسم آخر شيئاً إلا بمماسته ، أو ما في حكمها من الاعتمادات ، ولأنه لو كان فعله وقف على اختياره . ومن قائل : بأنه فعل الله ، أجرى الله العادة بذلك لضرب من الإصلاح . وصحح هذا الحاكم ، وهو الذي ذكره الزمخشري والأمير الحسين ، وهو قول أبي هاشم . ذكره عنهما في " التهذيب " . انتهى .
وقد أوضحه الرازي بقوله : قال أبو هاشم وأبو القاسم البلخي : إنه لا يمتنع أن تكون العين حقاً ، ويكون معناه : أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به استحساناً كان المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشخص ، وذلك الشيء ، حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف متعلقاً به ، فهذا المعنى غير ممتنع . ثم لا يبعد أيضاً أنه لو ذكر ربه عند تلك الحالة ، وعدل عن الإعجاب ، وسأل ربه أن يقيه ذلك ، فعنده تتعين المصلحة . ولما كانت هذه العادة مطردة ، لا جرم قيل : العين حق . انتهى .
أقول : وقد بسط الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " هذا البحث بما يشفي ويكفي ، في " بحث هديه صلى الله عليه وسلم في علاج العين " بعد إيراده ما روي في الصحيحين وغيرهما من حقية العين ، وشهرة تأثيرها عند العرب ، قال :
فأبطلت طائفة ممن قل نصيبهم من السمع والعقل ، أمر العين ، وقالوا : إنما ذلك أوهام لا حقيقة لها ، وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل ، ومن أغلظهم حجاباً ، وأكثفهم طباعاً ، وأبعدهم عن معرفة الأرواح والنفوس ، وصفاتها وأفعالها وتأثيراتها . وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم ونحلهم لا يدفع أمر العين ولا ينكره ، وإن اختلفوا في سببه ، وجهة تأثير العين . فقالت طائفة : إن العائن إذا تكيفت نفسه بالكيفية الردية ، انبعثت من عينه قوة سمية تتصل بالمعين فيتضرر . قالوا : ولا يستنكر هذا ، كما لا يستنكر انبعاث قوة سمية من الأفعى تتصل بالإنسان فيهلك ، وهذا أمر قد اشتهر عن نوع من الأفاعي أنها إذا وقع بصرها على الإنسان هلك ، فكذلك العائن .
وقالت فرقة أخرى : لا يستبعد أن ينبعث من عين بعض الناس جواهر لطيفة ، غير مرئية ، فتتصل بالمعين ، وتتخلل مسام جسمه ، فيحصل له الضرر .
وقالت فرقة أخرى : قد أجرى الله العادة بخلق ما يشاء من الضرر عند مقابلة عين العائن لمن يعينه ، من غير أن يكون منه قوة ولا سبب ولا تأثير أصلاً . وهذا مذهب منكري الأسباب والقوى والتأثيرات في العالم . وهؤلاء قد سدوا على أنفسهم باب العلل والتأثيرات والأسباب ، وخالفوا العقلاء أجمعين . ولا ريب أن الله سبحانه خلق في الأجسام والأرواح قوى وطبائع مختلفة ، وجعل في كثير منها خواص وكيفيات مؤثرة ، ولا يمكن للعاقل إنكار تأثير الأرواح في الأجسام ، فإنه أمر مشاهد محسوس . وأنت ترى الوجه كيف يحمر حمرة شديدة إذا نظر إليه من يحتشمه ويستحيي منه ، ويصفر صفرة شديدة عند نظر من يخافه إليه . وقد شاهد الناس من يسقم من النظر ، وتضعف قواه ، وهذا كله بواسطة تأثير الأرواح ، ولشدة ارتباطها بالعين ينسب الفعل إليها ، وليست هي الفاعلة ، وإنما التأثير للروح ، والأرواح مختلفة في طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها ، فروح الحاسد مؤذية للمحسود أذى بيناً ، ولهذا أمر الله سبحانه رسوله أن يستعيذ به من شره . وتأثير الحاسد في أذى المحسود أمر لا ينكره إلا من هو خارج عن حقيقة الإنسانية ، وهو أصل الإصابة بالعين ، فإن النفس الخبيثة الحاسدة تتكيف بكيفية خبيثة تقابل المحسود فتؤثر فيه بتلك الخاصية . وأشبه الأشياء بهذا الأفعى ، فإن السم كامن فيها بالقوة ، فإذا قابلت عدوها انبعث منها قوة غضبية ، وتكيفت نفسها بكيفية خبيثة مؤذية ، فمنها ما تشتد كيفيتها وتقوى حتى تؤثر في إسقاط الجنين ، ومنها ما يؤثر في طمس البصر . كما قال صلى الله عليه وسلم في الأبتر وذي الطفيتين من الحيات : < إنهما يلتمسان البصر ، ويسقطان الحبل > . ومنها ما يؤثر في الإنسان كيفيتها بمجرد الرؤية من غير اتصال به ، لشدة خبث تلك النفس ، وكيفيتها الخبيثة المؤثرة . والتأثير غير موقوف على الاتصالات الجسمية ، كما يظنه من قل علمه ومعرفته بالطبيعة والشريعة ، بل التأثير يكون تارة بالاتصال ، وتارة بالمقابلة ، وتارة بالرؤية وتارة بتوجه الروح نحو من يؤثر فيه ، وتارة بالأدعية والرقي والتعوذات ، وتارة بالوهم والتخيل . ونفس العائن لا يتوقف تأثيرها على الرؤية ، بل قد يكون أعمى فيوصف له الشيء ، فتؤثر نفسه فيه وإن لم يره . وكثير من العائنين يؤثر في المعين بالوصف من غير رؤية ، وقد قال الله تعالى لنبيه : { وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ } [ القلم : من الآية 51 ] ، وقال : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } [ الفلق : 1 - 5 ] ، فكل عائن حاسد ، وليس كل حاسد عائناً . فلما كان الحاسد أعم من العائن ، كانت الاستعاذة منه استعاذة من العائن ، وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعين نحو المحسود والمعين ، تصيبه العين تارة ، وتخطئه تارة ، فإن صادفته مكشوفاً لا وقاية عليه أثرت فيه ، ولا بد ، وإن صادفته حذراً ، شاكي السلاح ، لا منفذ فيه للسهام لم تؤثر فيه ، وربما ردت السهام على صاحبها . وهذا بمثابة الرمي الحسي سواء ، فهذا من النفوس والأرواح ، وهذا من الأجسام والأشباح . وأصله من إعجاب العائن بالشيء ، ثم يتبعه كيفية نفسه الخبيثة ، ثم تستعين على تنفيذ سمها بنظرة إلى المعين . وقد يعين الرجل نفسه ، وقد يعين بغير إرادته ، بل بطبعه . وهذا أردأ ما يكون من النوع الإنساني . وقد قال أصحابنا وغيرهم من الفقهاء : إن من عُرف بذلك ، حبسه الإمام ، وأجرى له ما ينفق عليه إلى الموت . وهذا هو الصواب قطعاً ، انتهى كلام ابن القيم ، عليه الرحمة .
وقال الرازي : ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثره بحسب الكيفيات المحسوسة ، أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، بل قد يكون التأثير نفسانياً محضاً ، ولا يكون للقوى الجسمانية بها تعلق ، والذي يدل عليه أن اللوح الذي يكون قليل العرض ، إذا كان موضوعاً على الأرض قدر الإنسان على المشي عليه ، ولو كان موضوعاً فيما بين جدارين عاليين لعجز الإنسان عن المشي عليه . وما ذاك إلا لأن خوفه من السقوط منه يوجب سقوطه ، فعلمنا أن التأثرات النفسانية موجودة .
وأيضاً إن الإنسان إذا تصور كون فلان مؤذياً له ، حصل في قلبه غضب ، ويسخن مزاجه جداً ، فمبدأ تلك السخونة ليس إلا لذلك التصور النفساني ، ولأن مبدأ الحركات البدنية ليس إلا التصورات النفسانية ، فلما ثبت أن تصور النفس يوجب تغير بدنه الخاص ، لم يبعد أيضاً أن يكون بعض النفوس بحيث تتعدى تأثيراتها إلى سائر الأبدان ، فثبت أنه لا يمتنع في العقل كون النفس مؤثرة في سائر الأبدان . وأيضاً جواهر النفوس مختلفة بالماهية ، فلا يمتنع أن يكون بعض النفوس بحيث يؤثر في تغيير بدن حيوان آخر بشرط أن يراه ، ويتعجب منه . فثبت أن هذا المعنى أمر محتمل ، والتجارب من الزمن الأقدم ساعدت عليه ، والنفوس النبوية نطقت به ، فعنده لا يبقى في وقوعه شك . وإذا ثبت هذا ، ثبت أن الذي أطبق عليه المتقدمون من المفسرين في تفسير هذه الآية بإصابة العين ، كلام حق ، لا يمكن رده . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 69 ] .
{ وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يخبر سبحانه بأن إخوة يوسف لما قدموا عليه ، ضم إليه أخاه بنيامين ، إما على الطعام ، أو في المنزل ، وأعلمه بأنه أخوه ، وقال له : لا تبتئس . أي : لا تحزن بما كانوا يعملون بنا فيما مضى ، فإن الله تعالى قد أحسن إلينا ، وجمعنا بخير .
وقد روي أنهم لما قدموا عليه ، ووقفوا بين يديه ، رأى أخاه بنيامين معهم ، فأمر بإنزالهم في بيته ، وحلولهم في كرامته وضيافته ، وحضورهم معه في غدائه . ثم دخل عليهم فقاموا وسجدوا له ، وسألهم عن سلامة أبيهم ، ورفع طرفه إلى أخيه ، فأدناه وآواه إليه ، وآنسه بحديثه - كما ذكر في الآية - ثم أراد يوسف أن يحتال على بقاء أخيه عنده ، فتواطأ مع فتيانه ، إذا جهز إخوته ، أن يضعوا سقايته في رحل أخيه ، كما بينه تعالى بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } [ 70 ]
{ فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ } أي : من الطعام : { جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ } وهي جام فضة يشرب به يوسف ، وضعه في ميرة أخيه .
وقد روي أن يوسف لما جهزهم وارتحلوا ، أمهلهم حتى انطلقوا وبعدوا قليلاً عن المدينة ، ثم أمر أن يسعى في إثرهم ، ويؤذنوا بما فقد ، كما أشار إليه تعالى بقوله :
{ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } [ 71 - 72 ] .
{ قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } معنى ( أذن ) نادى . يقال : آذنه : أعلمه ، وأذن أكثر الإعلام ، ومنه ( المؤذن ) لكثرة ذلك منه .
و ( العير ) : الإبل التي عليها الأحمال ، لأنها تعير ، أي : تذهب وتجيء ، وهو اسم جمع للإبل ، لا واحد له ، فأطلق على أصحابها . وقيل : هي قافلة الحمير ، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة ( عير ) . و ( الصواع ) هو السقاية المتقدمة ، إناء فضة .
تنبيه :
قال في " الإكليل " : في الآية دليل على جواز الحيلة في التوصل إلى المباح ، وما فيه الغبطة والصلاح ، واستخراج الحقوق .
قال ابن العربي : وفي إطلاق السرقة عليهم وليسوا بسارقين جواز دفع الضرر بضرر أقل منه .
وقوله تعالى : { وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ } أصل في الجعالة .
وقوله : { وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } أصل في الضمان والكفالة . انتهى .
ولما اتهمهم المؤذن ومن معه من الفتيان :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ } [ 73 ] .
{ قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ } أي : ما جئنا للسرقة ، أو لمطلق فساد ، وإنما جئنا للميرة ، وما كنا نوصف بالسرقة . وإنما استشهدوا بعلمهم على براءتهم ، لما تيقنوه من حالهم ، في كرّتي مجيئهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } [ 74 - 75 ] .
{ قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ } أي : السارق : { إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ } .
{ قَالُواْ } أي : لثقتهم ببراءتهم : { جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } أي : جزاء سرقته ، أخذ من وجد في رحله رقيقاً ، وهو قولهم : { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } تقريراً لذلك الحكم وإلزامه ، أي : فأخذه جزاؤه لا غيره . ويجوز أن يكون : { جَزَاؤُهُ } مبتدأ والجملة الشرطية كما هي خبره ، على إقامة الظاهر مقام المضمر ، والأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو هو .
{ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } أي : بالسرقة ، تأكيد إثر تأكيد ، وبيان لقبح السرقة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ 76 ] .
{ فَبَدَأَ } أي : فتي يوسف : { بِأَوْعِيَتِهِمْ } أي : ففتشها : { قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ } أي : بنيامين ، نفياً للتهمة : { ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا } أي : السقاية : { مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } أي : دبرنا لتحصيل غرضه : { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ } أي : شرعه وقانونه . والجملة استئناف وتعليل لذلك الكيد وصنعه . أي : ما صح له أن يأخذ أخاه في قضاء الملك ، فدبر تعالى ما حكم به إخوة يوسف على السارق ، لإيصال يوسف إلى أربه ، رحمة منه وفضلاً . وفيه إعلام بأن يوسف ما كان يتجاوز قانون الملك ، وإلا لاستبد بما شاء ، وهذا من وفور فطنته وكمال حكمته . ويستدل به على جواز تسمية قوانين ملل الكفر ( ديناً ) لها والآيات في ذلك كثيرة .
وقوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ } يعني : أن ذلك الأمر كان بمشيئة الله وتدبيره ؛ لأن ذلك كله كان إلهاماً من الله ليوسف وإخوته ، حتى جرى الأمر وفق المراد .
{ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاءُ } أي : بالعلم ، كما رفعنا يوسف . وفي إيثار صيغة الاستقبال إشعار بأن ذلك سنة إلهية مستمرة ، غير مختصة بهذه المادة .
{ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ } أي : من أولئك المرفوعين : { عَلِيمٌ } أي : فوقه أرفع درجة منه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ } [ 77 ] .
{ قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ } هذا تنصل منهم إلى العزيز بالتشبيه به أي : إن هذا فعل كما فعل أخ له من قبل ، يعنون به يوسف .
{ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } أي : منزلة ، حيث سرقتم أخاكم من أبيكم ، ثم طفقتم تفترون على البريء .
{ وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ } أي : من أمر يوسف .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [ 78 ] .
{ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } لما تعين أخذ بنيامين وإبقاؤه عند يوسف بمقتضى فتواهم ، طفقوا يعطفونه عليهم ، بأن له أباً شيخاً كبيراً يحبه حباً شديداً يتسلى به عن أخيه المفقود ، فخذ أحدنا بدله رقيقاً عندك .
قال بعضهم : الفقه من هذه الجملة أن للكبير حقاً يتوسل به ، كما توسلوا بكبر يعقوب . وقد ورد في الاستسقاء إخراج الشيوخ . انتهى .
وفي ما عزموا عليه لإنقاذ أخيهم من شرك العبودية ، المقضي عليه بها ، ما يشفّ عن حسن طوية ، ووفاء بالوعد ، ويعرب عن أمانة ، وصدق بر ، وشدة تمسك بموثق أبيهم ، محافظة على رضاه وإكرامه ، وهكذا فليتمسك البار بمراضاة أبويه .
وقولهم : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } أي : إلينا ، فأتمم إحسانك بهذه التتمة . أو من المتعودين بالإحسان ، فليكن هذا منه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ } [ 79 ] .
{ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ } أي : إن أخذنا بريئاً بمتهم ؛ لأنه لا يؤخذ أحد بجرم غيره . قال بعضهم : إلا ما ورد في العقل .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقاً مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } [ 80 ] .
{ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً } أي : يئسوا من يوسف وإجابته لهم أشد يأس ، كما دل عليه ( السين والتاء ) فإنهما يزادان في المبالغة .
قال أبو السعود : وإنما حصلت لهم هذه المرتبة من اليأس ، لما شاهدوه من عوذه بالله لما طلبوه ، الدال على كون ذلك عنده في أقصى مراتب الكراهة ، وأنه مما يجب أن يحترز عنه ، ويعاذ بالله عز وجل ، ومن تسميته ( ظلماً ) بقوله : { إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ } ، و ( خلصوا ) بمعنى اعتزلوا وانفردوا عن الناس ، خالصين ، لا يخالطهم سواهم ، و ( نجياً ) حال من فاعل ( خلصوا ) أي : اعتزلوا في هذه الحالة مناجين . وإنما أفردت الحال وصاحبها جمع ؛ إما لأن النجي ( فعيل ) بمعنى ( مفاعل ) كالعشير والخليط ، بمعنى المعاشر والمخالط ، كقوله : { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } [ مريم : من الآية 52 ] ، أي : مناجياً ، وهذا في الاستعمال يفرد مطلقاً . يقال : هم خليطك وعشيرك أي : مخالطوك ومعاشروك . وإما لأنه صفة على ( فعيل ) بمنزلة صديق ، وبابه . فوحد لأنه بزنة المصادر ، كالصهيل والوحيد والذميل . وإما لأنه مصدر بمعنى التناجي ، أطلق على المتناجين مبالغة ، أو لتأويله بالمشتق والمصدر ، ولو بحسب الأصل ، يشمل القليل والكثير ، وتنزيل المصدر منزلة الأوصاف أبلغ في المعنى ، ولذا قال الزمخشري : وأحسن منه - أي : من تأويل : { نَجِيّاً } بذوي نجوى ، أو فوجاً نجياً أي : مناجياً - إنهم تمحضوا تناجياً لاستجماعهم لذلك ، وإفاضتهم فيه ، بجد واهتمام ، كأنهم في أنفسهم صورة التناجي وحقيقته ، وكان تناجيهم في تدبير أمرهم على أي : صفة يذهبون ، وما يقولون لأبيهم في شأن أخيهم ؟ كقوم تعايوا بما دهمهم من الخطب ، فاحتاجوا إلى التشاور . انتهى .
لطيفة :
ذكر القاضي عياض في " الشفا " في ( بحث إعجاز القرآن ) : أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ : { فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً } فقال : أشهد أن مخلوقاً لا يقدر على مثل هذا الكلام .
وقال الثعالبي في كتاب " الإيجاز والإعجاز " في الباب الأول : من أراد أن يعرف جوامع الكلم ، ويتنبه لفضل الاختصار ، ويحيط ببلاغة الإيماء ، ويفطن لكفاية الإيجاز فليتدبر القرآن ، وليتأمل علوه على سائر الكلام .
ثم قال : فمن ذلك قوله عز ذكره ، في إخوة يوسف : { فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً } وهذه صفة اعتزالهم جميع الناس وتقليبهم الآراء ظهراً لبطن ، وأخذهم في تزوير ما يلقون به أباهم عند عودتهم إليه ، وما يوردون عليه من ذكر الحادث . فتضمنت تلك الكلمات القصيرة معاني القصة الطويلة .
وقوله تعالى : { قَالَ كَبِيرُهُمْ } أي : في السن ، كما هو المتبادر ، وهو فيما يروى ، ( رَؤُبين ) : { أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقاً مِّنَ اللّهِ } أي : عهداً وثيقاً في رد أخيكم . وإنما جعل منه تعالى لكون الحلف كان باسمه الكريم { وَمِن قَبْلُ } أي : قبل هذا : { مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ } أي : قصرتم في شأنه و ( ما ) إما مزيدة ، و ( من ) متعلق بالفعل بعده ، والجملة حالية ، وإما مصدرية في موضع رفع بالابتداء ، و ( من قبل ) خبره ، أو في موضع نصب عطفاً على معمول ( تعلموا ) . وإما موصولة بالوجهين ، أي : قدمتموه في حقه من الخيانة ، ولم تحفظوا عهد أبيكم بعد ما قلتم : { وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } [ يوسف : من الآية 11 ] ، و : { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ يوسف : من الآية 63 ] .
{ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ } أي : فلن أفارق أرض مصر : { حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي } أي : في الرجوع : { أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي } أي : بالخروج من مصر ، أو بخلاص أخي بسببٍ ما : { وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } لأنه لا يحكم إلا بالحق والعدل .
ثم أمر كبيرهم أن يخبروا أباهم بما جرى ، فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } [ 81 ] .
{ ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ } أي : نُسبَ إلى سرقة صواع الملك : { وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } أي : ما شهدنا عليه بالسرقة إلا بما تيقناه من إخراج الصواع من رحله .
تنبيه :
استنبط بعضهم من هذا عدم جواز الشهادة على الكتابة بلا علم وتذكر . وكذا من سمع كلمة من وراء حجاب ؛ لعدم العلم به - كذا في " الإكليل " - ولا يخفى أن مثل هذا مما يستأنس به في مواقع الخلاف .
{ وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } أي : وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } [ 82 ] .
{ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا } يعنون مصر . أي : أرسل إلى أهلها فسلهم عن كنه القصة : { وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا } أي : جئنا معها . وكان صحبهم قوم من كنعان : { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } أي : فيما أخبرناك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [ 83 ] .
{ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } معناه : فرجعوا إلى أبيهم ، فقالوا له ما قال لهم أخوهم . فقال : بل سولت ، أي : زينت وسهلت أنفسكم أمراً ، ففعلتموه .
لطيفة :
قال الزمخشري : أمراً أردتموه ، وإلا فما أدرى ذلك الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته ، لولا فتواكم وتعليمكم ؟ ! .
قال الناصر : هذا من الزمخشري إسلاف جواب عن سؤال ، كأن قائلاً يقول : هم في الوقعة الأولى سولت لهم أنفسهم أمراً بلا مراء ، وأما في هذه الوقعة الثانية ، فلم يتعمدوا في حق بنيامين سوءاً ، ولا أخبروا أباهم إلا بالواقع على جليته ، وما تركوه بمصر إلا بمغلوبين عن استصحابه ، فما وجه قوله ثانياً : { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } كما قال لهم أولاً ؟ وإذا ورد السؤال على هذا التقرير ؛ فلا بد من زيد بسط في الجواب ، فنقول : كانوا عند يعقوب عليه السلام حينئذ متهمين ، وهم قمن باتهامه لما أسلفوه في حق يوسف عليه السلام ، وقامت عنده قرينة تؤكد نفي التهمة وتقويها ، وهي أخذ الملك له في السرقة ، ولم يكن ذلك إلا من دين يعقوب وحده ، لا من دين غيره من الناس ، ولا من عادتهم . وإلى ذلك وقعت الإشارة بقوله تعالى : { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ } [ يوسف : من الآية 76 ] ، تنبيهاً من الله تعالى على وجه اتهام يعقوب لهم ، فعلم أن الملك إنما فعل ذلك بفتواهم له به ، وظن أنهم أفتوه بذلك بعد ظهور السرقة تعمداً ؛ ليتخلف أخوهم ، وكان الواقع أنهم استفتوا من قبل أن يدعي عليهم السرقة ، فذكروا ما عندهم ، ولم يشعروا أن المقصود إلزامهم بما قالوا . واتهام من هو بحيث تتطرق التهمة إليه لا حرج فيه ، وخصوصاً فيما يرجع إلى الوالد من الولد . ويحتمل - والله أعلم - أن يكون الوجه الذي سوغ له هذا القول في حقهم ، أنهم جعلوا مجرد وجود الصواع في رحل من يوجد في رحله ، سرقة ، من غير أن يحيلوا الحكم على ثبوت كونه سارقاً بوجه معلوم ، وهذا في شرعنا لا يثبت لا سرقة عليه - ولله أعلم - .
وقوله : { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } واقع بمكانه من حالهم ، وإن كان شرعهم يقتضي ذلك مخالفاً لشرعنا ، فالعمدة على الجواب الأول .
وقوله تعالى : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } أي : لا جزع : { عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً } أي : بيوسف وأخيه المتوقف بمصر ، فتذهب أحزانه بمرة واحدة : { إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } أي : العليم بحالي وحالهم ، الحكيم في تشديد الأمر لينظر مقدار الصبر فيفيض بقدره الأجر ، ومن الأجر المعجل تعجيل الفرج .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } [ 84 ] .
{ وَتَوَلَّى } أي : أعرض : { عَنْهُمْ } أي : عن بنيه كراهة لما جاؤوا به : { وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ } أي : يا حزني الشديد ، و ( الألف ) بدل من ياء المتكلم للتخفيف . وقيل : هي ألف الندبة ، والهاء محذوفة . و ( الأسف ) أشد الحزن والحسرة على ما فات ، وإنما تأسف على يوسف دون أخويه ، والحادث رزأهما . والرزء الأحدث أشد على النفس ، وأظهر أثراً ؛ لأن الرزء في يوسف كان قاعدة مصيباته التي ترتبت عليها الرزايا في ولده ، فكان الأسف عليه أسفاً على من لحق به ، ولأنه لم يُزل عن فكره ، فكان غضاً طرياً عنده ، كما قيل :
~ولم تُنسني أوفى المصيبات بعده وكل جديد يُذكر بالقديم
ولأنه كان واثقاً بحياتهما - دون حياته .
{ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ } وذلك لكثرة بكائه .
قال الزمخشري : إذا كثر الاستعبار محقت العبرة سواد العين ، وقلبته إلى بياض كدر : { فَهُوَ كَظِيمٌ } أي : مملوء من الغيظ على أولاده ، ولا يظهر ما يسوؤهم . ( فعليل ) بمعنى ( مفعول ) كقوله : { وَهُوَ مَكْظُومٌ } [ القلم : من الآية 48 ] ، أو بمعنى شديد التجرع للغيظ أو الحزن ؛ لأنه لم يشكه إلى أحد قط . فهو بمعنى ( فاعل ) .
تنبيه :
دلت الآية على جواز التأسف والبكاء عند المصيبة .
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز لنبي الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ ؟ .
قلت : الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن ، ولذلك حمد صبره ، وأن يضبط نفسه حتى لا يخرج إلى ما لا يحسن .
ولقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال : < إن العين تدمع والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون > .
وإنما الجزع المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة ولطم الصدور والوجوه وتمزيق الثياب .
وعن الحسن أنه بكى على ولد أو غيره ، فقيل له في ذلك ؟ فقال : ما رأيت الله جعل الحزن عاراً على يعقوب .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ } [ 85 ] .
{ قَالُواْ } أي : أولاد يعقوب لأبيهم على سبيل الرفق به ، والشفقة عليه : { تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً } أي : مريضاً مشفياً على الهلاك : { أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ } أي : بالموت . يقولون : إن استمر بك هذا الحال ، خشينا عليك الهلاك والتلف ، واستدل به على جواز الحلف بغلبة الظن . وقيل : إنهم علموه ، لكنهم نزَّلوه منزلة المنكر ، فلذا أكدوه . و : { تَفْتَأُ } مضارع فتئ ، مثلثة التاء . يستعمل مع النفي ملفوظاً أو منوياً ؛ لأن موضعه معلوم ، فيحذف للتخفيف كقوله :
~فقلت يمين الله أبرح قاعداً ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
أي : لا أبرح . ومعنى ( تفتأ ) : لا تزال ولا تبرح .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ 86 ] .
{ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي } أي : غمي وحالي : { وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ } أي : لا أشكو إلى أحد منكم ومن غيركم ، إنما أشكو إلى ربي داعياً له ، وملتجئاً إليه ، فخلوني وشكايتي .
{ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ } أي : لمن شكا إليه من إزالة الشكوى ، ومزيد الرحمة : { مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ما يوجب حسن الظن به ، وهو مع ظن عبده به .
ولما علم من شدة البلاء مع الصبر ، قرب الفرج ، قوى رجاءهم ، وأمرهم أن يرحلوا لمصر ، ويتطلبوا خبر يوسف وأخيه بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [ 87 ] .
{ يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ } أي : تعرَّفوا من نبئهما ، وتخبروا خبرهما : { وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ } أي : فرجه ورحمته المريحة من الشدة : { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ } لم يُقل ( منه ) إشارة إلى ظهور حصوله لمن لم ييأس : { إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } أي : بالله ورحمته ، وقدرته على إفاضة الروح ، بعد مضي المدة في الشدة وسنته في إفاضة اليسر مع العسر ، لا سيما في حق من أحسن الظن به .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ } [ 88 ] .
{ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ } أي : على يوسف بعد ما رجعوا من مصر ، ولانفهامه من المقام طوى ذكره إيجازاً : { قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ } أي : الملك القادر المتمنع : { مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ } أي : الشدة من الجدب : { وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ } أي : بدراهم قليلة في مقابلة ما نمتاره . استقلوا الثمن واستحقروه ؛ اتضاعاً لهيبة الملك ، واستجلاباً لرأفته وحنانه . وأصل معنى ( التزجية ) : الدفع والرمي ، فكنوا به عن القليل الذي يدفع ؛ رغبة عنه ، لذلك : { فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْل } أي : أتممه ووفره بهذه الدراهم المزجاة ، كما توفره بالدراهم الجياد : { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ } أي : برد أخينا ، أو بالإيفاء ، أو بالمسامحة وقبول ما لا يعد عوضاً : { إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ } أي : يثيبهم أحسن المثوبة .
تنبيهات :
الأول : في الآية إرشاد إلى أدب جليل ، وهو تقديم الوسائل أمام المآرب ، فإنها أنجح لها . وهكذا فعل هؤلاء : قدموا ما ذكر من رقة الحال ، والتمسكن وتصغير العوض ، ولم يفجؤوه بحاجتهم ؛ ليكون ذريعة إلى إسعاف مرامهم ، ببعث الشفقة ، وهز العطف والرأفة ، وتحريك سلسلة الرحمة - كما قدمنا - ومن ثم رق لهم ، وملكته الرحمة عليهم ، فلم يتمالك أن عرَّفهم نفسه ، - كما يأتي - .
الثاني : يؤخذ من الآية جواز شكوى الحاجة لمن يرجى منه إزالتها .
الثالث : استدل بعضهم بقوله تعالى : { فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ } على أن أجرة الكيال على البائع ؛ لأنه إذا كان عليه توفية الكيل ، فعليه مؤنته ، وما يتم به .
الرابع : استدل بقوله تعالى : { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا } من قال : إن الصدقة لم تكن محرمة على الأنبياء - كذا في " الإكليل " - وهذا بعد تسليم نبوة إخوة يوسف . وفيها خلاف . وسيأتي في التنبيهات ، آخر السورة ، تحقيق ذلك .
الخامس : في قوله تعالى : { إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِين } حثٌّ على الإحسان ، وإشارة إلى أن المحسن يجزى أحسن جزاء منه تعالى ، وإن لم يجزه المحسن إليه .
ثم بيَّن تعالى رأفة يوسف بتعرفه إليهم بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ } [ 89 ] .
{ قَالَ } أي : يوسف مجيباً لهم : { هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ } أي : شبان غافلون ؟ استفهام تقرير ، يفيد تعظيم الواقعة . ومعناه : ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف ، وما أقبح ما أقدمتم عليه ! كما يقال للمذنب : هل تدري من عصيت وهل تعرف من خالفت ؟ وهذه الآية تصديق لقوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [ يوسف : من الآية 15 ] .
لطائف :
الأولى : أبدى المهايمي مناسبة بديعة في قول يوسف لهم : { هَلْ عَلِمْتُم } إثر قولهم : { إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِين } وهو أنهم أرادوا بقولهم : { إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِين } أنه يعطيهم في الآخرة ما هو خير من العوض الدنيوي ، فأشار لهم يوسف بأنكم تريدون دفع الضرر العاجل ، بوعد الأجر الآجل ، ولا تدفعون عن أنفسكم الضرر الآجل ، كأنكم تنكرونه ، هل علمتم ضرر ما فعلتم بيوسف ؟ .
الثانية : قيل : من تلطفه بهم قوله : { إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ } كالاعتذار عنهم ؛ لأن فعل القبيح على جهل بمقدار قبحه ، أسهل من فعله على علم . وهم لو ضربوا في طرق الاعتذار لم يُلفوا عذراً كهذا . ألا ترى أن موسى عليه السلام ، لما اعتذر عن نفسه لم يزد على أن قال : { فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ } [ الشعراء : 20 ] ففيه تخفيف للأمر عليهم .
الثالثة : قال الزمخشري : فإن قلت : ما فعلهم بأخيه ؟ قلت : تعريضهم إياه للغم والثكل ، بإفراده عن أخيه لأبيه وأمه ، وجفاؤهم به ، حتى كان لا يستطيع أن يكلم أحداً منهم إلا كلام الذليل للعزيز ، وإيذاؤهم له بأنواع الأذى . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ 90 ] .
{ قَالُواْ } أي : استغراباً وتعجباً من أن هذا لا يعلمه إلا يوسف : { أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ } أي : الذي فعلتم به ما فعلتم : { وَهَذَا أَخِي } أي : من أبويِّ .
قال أبو السعود : زادهم ذلك مبالغة في تعريف نفسه ، وتفخيماً لشأن أخيه ، وتكملة لما أفاده قوله : { هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ } حسبما يفيده قوله : { قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا } فكأنه قال : هل علمتم ما فعلتم بنا من التفريق والإذلال ، فأنا يوسف ، وهذا أخي ، قد منَّ الله علينا بالخلاص مما ابتلينا به ، والاجتماع بعد الفرقة ، والعزة بعد الذلة ، والأنس بعد الوحشة .
ثم علل ذلك بطريق الاستئناف التعليلي بقوله : { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ } أي : ربه في جميع أحواله : { وَيِصْبِرْ } أي : على الضراء ، وعن المعاصي { فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } أي : أجرهم ، وفي وضع الظاهر موضع الضمير تنبيه على أن المنعوتين بالتقوى والصبر ، موصوفون بالإحسان .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ } [ 91 ] .
{ قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا } أي : فضَّلك بما ذكرت من التقوى والصبر ، وسيرة المحسنين : { وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ } أي : وإن شأننا وحالنا أنا كنا متعمدين للذنب ، لم نتق ولم نصبر ، ففعلنا بك ما فعلنا ، ولذلك أوثرت علينا . وفيه إشعار بالتوبة والاستغفار ، ولذلك :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [ 92 ] .
{ قَالَ لاَ تَثْرَيبَ } أي : لا تعيير ولا توبيخ ولا تقريح : { عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } أي : وإن كنتم ملومين قبل ظهور منتهى فعلكم ، ولا إثم عليكم ؛ إذ : { يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ } أي : حقي لرضاي عنكم ، وحقه أيضاً لواسع رحمته ، كما قال : { وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } أي : فكأنه لا خطأ منكم . و ( اليوم ) متعلق بالتثريب ، أو بالمقدر في ( عليكم ) من معنى الاستقرار . والمعنى : ولا أثرّبكم اليوم ، وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب ، فما ظنكم بغيره من الأيام ؟ ! فتعبيره بـ ( اليوم ) ليس لوقوع التثريب في غيره ، لأن من لم يثرب أول لقائه واشتعال ناره ، فبعده بطريق الأولى .
وقال الشريف المرتضى في " الدرر " : إن اليوم موضوع موضع الزمان كله كقوله :
~اليوم يرحمنا من كان يغبطنا واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا
ثم زادهم تكريماً بأن دعا لهم بالمغفرة ، لما فرط منهم بقوله : { يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ } .
وقوله : { وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } تحقيق لحصول المغفرة ؛ لأنه عفا عنهم ، فالله أولى بالعفو والرحمة لهم ، وبيان للوثوق بإجابة الدعاء . وجوز تعلق ( اليوم ) بـ ( يغفر ) . والجملة خبرية سيقت بشارة بعاجل غفران الله ؛ لما تجدد يومئذ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم . والوجه الأول أظهر . والثاني من الإغراب في التوجيهات .
تنبيه :
قال بعضهم : إن تجاوز يوسف عن ذنب إخوته ، وإبقاءه عليهم ، ومصافاته لهم ، تعلمنا أن نغفر لمن يسيء إلينا ، ونحسن إليه ، ونصفي له الود ، وأن نغضي عن كل إهانة تلحق بنا ، فيسبغ الله تعالى إذ ذاك علينا نعمه وخيراته في هذه الدنيا ، كما أوسع على يوسف ويورثنا السعادة الأخروية . وأما إذا أضمرنا السوء للمسيئين إلينا ، ونقمنا منهم ، فينتقم الله منا ، ويوردنا مورد الثبور ، فنعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا .
ثم قال لهم يوسف :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } [ 93 ] .
{ اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } أراد يوسف تبشير أبيه بحياته ، وإدخال السرور عليه بذلك ، وتصديقه بإرسال حلة من حلله التي كان يستشعر بها أو يتدثر ، ليكون في مقابلة القميص الأول ، جالب الحزن ، وغشاوة العين . و ( الإلقاء على وجهه ) بمعنى المبالغة في تقريبه منه ، لما ناله من ضعف بصره ، فتتراجع إليه قوة بصره ، بانتعاش قلبه ، بشمه واطمئنانه على سلامته . وللمفرحات تأثير عظيم في صحة الجسم ، وتقوية الأعضاء ، وقد جوَّد الكلام في ذلك الحكيم داود الأنطاكي في " تذكرته " في مادة مفرح بما لا يستغنى عن مراجعته .
وفي " الكنوز " من كتب الطب : الفرح ، إن كان بلطف ، فإنه ينفع الجسم ، ويبسط النفس ، ويريح العقل ، فتقوى الأعضاء وتنتعش . انتهى .
ثم رأيت الرازي عوَّل على نحو ما ذكرناه ، وعبارته : قال المفسرون : لما عرفهم يوسف سألهم عن أبيه ، فقالوا : ذهبت عيناه ، فأعطاهم قميصه . قال المحققون : إنما عرف أن إلقاء القميص على وجهه يوجب قوة البصر بوحي من الله تعالى ، ولولا الوحي ، لما عرف ذلك ؛ لأن العقل لا يدل عليه . ويمكن أن يقال : لعل يوسف عليه السلام علم أن أباه ما صار أعمى إلا أنه من كثرة البكاء ، وضيق القلب ، ضعف بصره ، فإذا ألقي عليه قميصه ، فلا بد أن ينشرح صدره ، وأن يحصل في قلبه الفرح الشديد ، وذلك يقوي الروح ، ويزيل الضعف عن القوى ، فحينئذ يقوى بصره ، ويزول عنه ذلك النقصان . فهذا القدر مما يمكن معرفته بالقلب . فإن القوانين الطبية تدل على صحة هذا المعنى . انتهى .
ولعل الرازي عنى بالمحققين الصوفية ، أو من يقف على الظاهر وقوفاً بحتاً ، ولا يخفى أن أسلوب التنزيل في كناياته ومجازاته أسلوب فريد ، ينبغي التفطن له .
وقد جوز في قوله : { يَأْتِ بَصِيراً } أن يكون معناه : يصير بصيراً ، أو يجيء إليَّ بصيراً ، على حقيقة الإتيان فـ ( بصيراً ) حال . قيل : ينصره قوله : { وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } أي : بأبي وغيره ، وفيه نظر ؛ لأن اتحاد الفعلين هنا في المبنى لا يدل على اتحادهما في المعنى . ولا يقال : الأصل الحقيقة ؛ لأن ذلك فيما يقتضيه السياق ، ولا اقتضاء هنا . فالأول أرق وأبدع ، لما فيه من التجانس .
روي أن يوسف عليه السلام ، بعد أن دعا لهم بالمغفرة قال لهم : إن الله بعثني أمامكم لأحييكم ، وقد مضت سنتا جوع في الأرض وبقي خمس سنين ، ليس فيها حرث ولا حصاد . فأرسلني الله أمامكم ليجعل لكم بقية في الأرض ، ويستبقيكم لنجاة عظيمة . وقد جعلني سبحانه أباً لفرعون ، وسيداً لجميع أهله ، ومتسلطاً على جميع أرض مصر ، فبادروا وأشخصوا إلى أبي ، وأخبروه بجميع مجدي بمصر ، وما رأيتموه ، وقولوا له : كذا قال ابنك يوسف : قد جعلني الله سيداً لجميع المصريين ، فهلم إلي ، فتقم في أرض جاسان ، وتكون قريباً مني أنت وبنوك ، وبنو بنيك ، ومواشيك ، وجميع ما هو لك ، وأعولك ، ها هنا ، فقد بقي خمس سنين مجدبة ، فأخشى أن يهلك الأهل والمال . وكان نما الخبر إلى بيت فرعون . وقيل : جاء إخوة يوسف ، فسر بذلك فرعون وخاصته ، وأمره أيضاً بأن يؤكد عليهم إتيانهم بأبيهم وأهلهم ، ووعدهم خير أرض في مصر تكون لهم ؛ لئلا يأسفوا على ما خلفوا . ثم زود يوسف إخوته أحسن زاد ، وأعطاهم من الحلل والثياب والدراهم مقداراً وافراً ، وبعث إلى أبيه بمثل ذلك ، وأصحبهم عجلات لأطفالهم ونسائهم ، وأوصاهم ألا يتخاصموا في الطريق - والله أعلم - .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ } [ 94 ] .
{ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ } أي : خرجت من مصر . يقال : فصل القوم عن المكان وانفصلوا ، بمعنى فارقوه : { قَالَ أَبُوهُمْ } أي : لحفدته ومن حوله من قومه ، من عظم اشتياقه ليوسف ، وانتظاره لروح الله : { إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ } الريح : الرائحة ، توجد في النسيم . لأتنسم رائحته مقبلة إلي ، كناية عن تحققه وجوده بما ألقى الله في روعه من حياته ، وساق إليه من نسائم البشارة الغيبية بسلامته . وقد كان عظم رجاؤه بذلك من مولاه ، ووثق بنيل مأموله ومبتغاه ، ولذلك نهى بنيه عن الاستيئاس من روح الله . وإذا دنا أجل الضراء أخذت تهب نسائم الفرج حاملة عرف السراء ، يدري ذلك كل من قوي إحساسه ، وعظمت فطنته ، واستنارت بصيرته ، فيكاد أن يلمس في نهاية الشدة زهر الفرج ، ولا يحنث إن آلى أنه يجد من نسيمه أزكى الفرج . عرف ذلك من عرف ، فأحرى بمن نالوا من النبوة ذروة الشرف .
وإضافة الريح إلى الولد معروفة في كلامهم : وفي حديث عند الطبراني : < ريح الولد من ريح الجنة > وقال الشاعر :
~يا حبذا ريح الولد ريح الخزامى في البلد
وقوله : { لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ } بمعنى إلا أنكم تفندون . أو لولاه لصدقتموني . و ( فنده ) نسبه إلى الفند بفتحتين . وهو ضعف الرأي والعقل من الهرم وكبر السن .
قال في " العناية " : مأخوذ من الفند ، وهو الحجر والصخرة ، كأنه جعل حجراً لقلة فهمه ، كما قال :
~إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا
ثم اتسع فيه فقيل : فنده ، إذا ضعف رأيه ، ولامه على ما فعله .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ } [ 95 ] .
{ قَالُواْ } أي : حفدته ومن عنده : { تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ } أي : لفي ذهابك عن الصواب المتقدم ، في إفراطك في محبة يوسف ، ولهجتك بذكره ، ورجائك للقائه ، وكان عندهم أنه مات أو تشتت ، فاستحال الاجتماع به ، وجعله فيه لتمكنه ودوامه عليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ 96 ] .
{ فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ } أي : المخبر بما يسرّه من أمر يوسف : { أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ } أي : طرح البشير القميص على وجه يعقوب ، أو ألقاه يعقوب نفسه على وجهه : { فَارْتَدَّ بَصِيراً } أي : عاد بصيراً لما حدث فيه من السرور والانتعاش : { قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي : من حياة يوسف ، وإنزال الفرج ، وجوَّز كون : { إِنِّي أَعْلَمُ } كلاماً مبتدأ . والمقول : { لاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ } إن كان الخطاب لبنيه . أو : { إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } إن كان لحفدته ومن عنده .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } [ 97 ] .
{ قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } الضمير لبنيه . طلبوا أن يستغفر لهم لما فرط منهم ، أو لحفدته ومن عنده لقولهم : { إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ } والأول أقرب وأصوب .
ولما كان من حق المعترف بذنبه أن يُصفح عنه ، ويسأل له المغفرة ، وعدهم بذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ 98 ] .
{ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } أي : سوف أدعوه لكم ، فإنه المتجاوز عن السيئات ، الرحيم لمن تاب .
قال المهايمي : صرحوا بالذنوب دون الله ؛ لمزيد اهتمامهم بها ، وكأنهم غلب عليهم النظر إلى قهره . وصرح يعقوب بذكر الرب دون الذنوب ، إذ لا مقدار لها بالنظر إلى رحمته التي ربى بها الكل . انتهى .
وهذا من دقائق لطائف التنزيل ومحاسنها فيه .
تنبيه :
قيل : في هذه الآيات دلالة على جواز التبشير ببشائر الدنيا واستحبابه ، وجواز السرور بحصول النعم الحاصلة في الدنيا . وفيها دلالة على إرجاء الاستغفار والدعاء لوقت يرى أنه أحضر فيه قلباً من غيره أو أنه أفضل وأقرب للإجابة .
وقد روي أنه أخر الاستغفار إلى السحر . وتخصيص الأوقات الفاضلة بالاستغفار والدعاء معروف في السنة ، ومنه شرع الاستغفار في السحر ، وعقب الصلوات ، وقضاء الحج . وكان الدعاء في السجود ، وعند الأذان ، وبينه وبين الإقامة ، والإفطار من الصيام أقرب للإجابة مما عداه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ } [ 99 ] .
{ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ } إشارة إلى ورود يعقوب وآله على يوسف . وذلك أنهم تخلوا عن آخرهم ، وترحلوا من بلاد كنعان ، وأركبوا أطفالهم ونساءهم على العجل التي بعث بها فرعون ، وصحبوا ماشيتهم وسرحهم ، وهبطوا أرض مصر - وروي أنهم كانوا سبعين نفساً - وتقدمهم يهوذا إلى يوسف ليدله على أرض ( جاسان ) فينزلونها . ثم خرج يوسف في مركبته ، فتلقى أباه في ( جاسان ) ولما ظهر له ألقى بنفسه على عنقه وبكى طويلاً . والمراد بدخولهم على يوسف وصولهم لملتقاه خارج البلد ، وبإيواء أبويه ضمهما إليه ، واعتناقهما واصطحابه لهما في مركبه . قالوا : عنى بأبويه والده وخالته ؛ لأن أمه راحيل توفيت وهي نفساء بأخيه بنيامين ، وتنزيل الخالة منزلة الأم ؛ لكونها مثلها في زوجة الأب ، وقيامها مقامها وتوقيرها ، كتنزيل العم منزلة الأب في قوله : { وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاق } [ البقرة : من الآية 133 ] .
{ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ } أي : من القحط وأصناف المكاره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [ 100 ] .
{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ } أي : أجلسهما معه على سرير ملكه تكريماً لهما : { وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً } أي : سجد له أبوه وإخوته الباقون ، وكانوا أحد عشر ، تحية وتكرمة له . وكان السجود عندهم للكبير يجري مجرى التحية عندنا .
{ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا } أي : السجود : { تَأْوِيلُ } أي : تعبير : { رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ } أي : التي رأيتها أيام الصبا ، وهي سجود أحد عشر كوكباً والشمس والقمر : { قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً } أي : صدقاً مطابقاً للواقع في الحسّ : { وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ } أي : نجاني من العبودية ، وجعل الملك مطيعاً لي مفوضاَ إليَّ خزائن الأرض . وفي الاقتصار على التحدث بالخروج من السجن على جلالة ملكه ، وفخامة شأنه من التواضع ، وتذكر ما سلف من الضراء ، استدامة للشكر ، ما فيه من أدب النفس الباهر . وفيه إشارة إلى النعمة في الانطلاق من الحبس ؛ لأنه كما قال عبد الملك بن العزيز ، لما كان في حبس الرشيد :
~ومحلة شمل المكاره أهلها وتقلدوا مشنوءة الأسماء
~دار يُهاب بها اللئام وتُتقى وتقل فيها هيبة الكرماء
~ويقول علج ما أراد ولا ترى حراً يقول برقة وحياء
~ويرق عن مس الملاحة وجهه فيصونه بالصمت والإغضاء
وقال شاعر من المسجونين :
~خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
~إذا جاءنا السجان يوماً لحاجة عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
ويؤثر عن يوسف عليه السلام أنه كتب على باب السجن : هذه منازل البلاء ، وتجربة الأصدقاء ، وشماتة الأعداء ، وقبور الأحياء .
هذا وقد حاول كثير من الأدباء مدح السجن بسحر بيانهم ، فقال علي بن الجهم :
~قالوا حبست فقلت ليس بضائري حبسي وأي مهند لا يغمد ؟
~أو ما رأيت الليث يألف غابه كبراً وأوباش السباع تردد
~والبدر يدركه المحاق فتنجلي أيامه وكأنه متجدد
~ولكل حال معقب ولربما أجلى لك المكروه عما تحمد
~والسجن ما لم تغشه لدنية شنعاء نعم المنزل المتورد
~بيت يجدد للكريم كرامة فيزار فيه ولا يزور ويحفد
وأحسن ما قيل في تسلية المسجونين قول البحتري :
~أما في رسول الله يوسف أسوة لمثلك محبوساً على الجور والإفك
~أقام جميل الصبر في السجن برهة فآل به الصبر الجميل إلى الملك
نقله الثعالبي في " اللطائف واليواقيت " .
{ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ } أي : البادية ، وقد كانوا أصحاب مواش : { مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ } أي : أفسد : { الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي } أي : بالحسد . وأسنده إلى الشيطان ، لأنه بوسوسته وإلقائه . وفيه تفادٍ عن تثريبهم أيضاً . وإنما ذكره لأن النعمة بعد البلاء أحسن موقعاً .
{ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ } أي : لطيف التدبير له ، والرفق به { إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ } بوجوه المصالح : { الْحَكِيمُ } في أفعاله وأقضيته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [ 101 ] .
{ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ } أي : بعضاً منه عظيماً ، وهو ملك مصر : { وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ } أي : تعبير الرؤيا : { فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : مبدعهما وخالقهما : { أَنتَ وَلِيِّي } أي : مالك أموري : { فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } أي : من النبيين والمرسلين . دعا يوسف عليه السلام بهذا الدعاء لما تمت نعمة الله عليه باجتماعه بأبويه وإخوته وما آثره به من العلم والملك ، فسأل ربه عز وجل ، كما أتم عليه نعمته في الدنيا ، أن يحفظها عليه باقي عمره ، حتى إذا حان أجله قبضه على الإسلام ، وألحقه بالصالحين . فليس فيه تمنٍّ للموت ، وطلب التوفي منجزاً كما قيل .
روى الإمام أحمد والشيخان عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، إن كان محسناً فيزداد ، وإن كان مسيئاً فلعله يستعتب ، ولكن ليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي > . وفي رواية : < وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي > .
تنبيهان :
الأول : في فقه هذه الآيات : قال بعض اليمانين : يستدل مما روي أن يوسف خرج للقاء أبيه ، على حسن التعظيم باللقاء ، وكذا يأتي مثله في التشييع ، ومنه ما روي في تشييع الضيف : ويستدل مما روي أن المراد بأمه خالته - كما مر - أن من نسب رجلاً إلى خالته فقال : يا ابن فلانة ! لم يكن قاذفاً لها . ويستدل من رفعهما على العرش - وهو السرير الرفيع - جواز اتخاذه ، ورفع الغير ، تعظيماً للمرفوع ، ويستدل من قوله : { وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ } على أن الانتقال منه نعمة ، وذلك لما يحلق أهل البادية من الجفاء ، والبعد عن موارد العلوم ، وعن رفاهة المدنية ، ولطف المعاشرة ، والكمالات الإنسانية ، وروي لجرير :
~أرض الحراثة لو أتاها جرول أعني الحطيئة لاغتدى حراثا
~ما جئتها من أي : وجه جئتها إلا حسبت بيوتها أجداثاً
وفي الحديث : < من بدا جفا > أي : من حل البادية . وفي آخر : < إن الجفا والقسوة في الفدادين > . ففي هذا دليل على حسن النقلة من البوادي إلى المدن . بزيادة .
الثاني : قص كثير نبأ استقرار يعقوب وآله بمصر . ومجمله : أن يوسف اختار لمستقرهم أرض جاسان ، فلما دخلوا مصر أخبر يوسف فرعون بقدوم أبيه وإخوته وجميع ما لهم إلى أرض جاسان ، ثم أدخل أباه على فرعون ، فأكرمه وكلمه حصة . وسأله عن عمره ، فأجابه : مائة وثلاثون سنة ، وأقطعه وبنيه أجود أرض في مصر ، وهي أرض رعمسيس ، أي : عين شمس ، وملكها إياهم ، ودعا له يعقوب ثم انصرف . ثم أخذ يوسف خمسة من إخوته ، فمثلهم بين يدي فرعون ، فقال لهم : ما حرفتكم فأجابوه - كما أوصاهم يوسف - : نحن وآباؤنا رعاة غنم ! فقال فرعون ليوسف : إن كنت تعلم أن فيهم ذوي حذق ، فأقمهم وكلاء على ماشيتي . وأجرى يوسف لأبيه وإخوته وسائر أهله طعاماً على حسبهم . وأقاموا في أرض مصر بجاسان فتملكوا فيها ونموا وكثروا جداً ، وعاش يعقوب في أرض مصر سبع عشرة سنة ، فكانت مدة عمره كله مائة وسبعاً وأربعين سنة . ولما دنا أجله قال ليوسف : لا تدفني بمصر إذا مت ، بل احملني منها إلى مدفن آبائي ، فأجابه لذلك . ثم بعد مدة أخبر يوسف بمرض أبيه ، فأخذ ولديه وسار إلى أبيه ، فانتعش أبوه بمقدمه ، ورأى ولديه ، فقال : من هذان ؟ فقال : ابناي رزقنيهما الله ها هنا . فقال : أدنهما مني ، فأدناهما ، فقبلهما ، ودعا لهما ، وقال له : لم أكن أظن أني أرى وجهك ، والآن أراني الله نسلك أيضاً . ثم أعلم يوسف بدنو أجله ، وبشره بأن الله سيكون معكم ، ويردكم إلى أرض آبائكم ، ثم دعا بقية بنيه ، ودعا لهم بالبركة ، وأوصاهم بأن يضموه إلى قومه ، ويدفنوه مع آبائه في المغارة التي في حبرون ، وهي المعروفة اليوم بمدينة الخليل ، فإن فيها دفن إبراهيم ، وسارة امرأته ، وإسحاق ورفقة زوجته ، وليأة امرأة يعقوب . ولما فرغ يعقوب من وصيته لبنيه فاضت روحه ، فوقع يوسف على وجه أبيه ، وبكى وقبله . ثم أمر الأطباء أن يحنطوه ويصبروه . ولما انقضت أيام التعزية به ، استأذن يوسف فرعون بأن يبرح لدفن أبيه ؛ عملاً بوصيته ، فأذن له وسار من مصر ، وصحبه إخوته آل أبيه وحاشيته ، ووجهاء مصر ، وأتباع فرعون في موكب عظيم ، إلى أن وصلوا أرض كنعان ، ودفنوه في المغارة - كما أوصى - ثم عاد بمن معه إلى مصر ، ولم يزل يوسف يرعى إخوته بالإكرام والإحسان ، إلى أن قرب أجله ، فأوصاهم بأن ينقلوه معهم إذا عادوا إلى الأرض التي كتبها الله لآبائهم . ثم توفي يوسف ، وهو ابن مائة وعشر سنين ، فحنطوه ، وجعلوه في تابوت بمصر .
هذا ما قصه قدماء المؤرخين ، والله أعلم بالحقائق . وإنما لم يذكر هذا القرآن الكريم ؛ لأن القرآن لم يبْنَ على قانون التاريخ ، فليس فيه شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار ، وإنما هي الآيات والعبر ، تجلت في سياق الوقائع ، ولذلك لم تذكر قصة بترتيبها وتفاصيلها ، وإنما يذكر موضع العبرة فيها ، كما سيأتي الإشارة إليه في قوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } [ يوسف : من الآية 111 ] . وقوله : { وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } [ هود : من الآية 120 ] . ومضى في المقدمة بسط هذا البحث ، فراجعه . وسنذكر إن شاء الله في السورة شيئاً من الحكم والعبر المقتبسة من نبأ يوسف ، فانتظر .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ } [ 102 ] .
{ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ } إشارة إلى ما سبق من نبأ يوسف ، البعيد درجة كماله في جميع ما لا يتناهى من المحاسن والأسرار حتى صار معجزاً . والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي : هذا من أخبار الغيوب السابقة ، نوحيه إليك ، ونعلمك به ، لما فيه من العبرة والاتعاظ .
وقوله تعالى : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ } كالدليل على كونه نبأ غيبياً ووحياً سماوياً . أي : لم تعرف هذا النبأ إلا من جهة الوحي ؛ لأنك لم تحضر إخوة يوسف ، حين أجمعوا أمرهم على إلقاء أخيهم في البئر ، وهم يمكرون به ، إذ حثوه على الخروج معهم ، يبغون له الغوائل ، وبأبيهم في استئذانه ليرسله معهم ، أي : فلم تشاهدهم حتى تقف على ظواهر أسرارهم وبواطنها .
قال أبو السعود : وليس المراد مجرد نفي حضوره عليه الصلاة والسلام في مشهد إجماعهم ومكرهم فقط ، بل سائر المشاهد أيضاً . وإنما تخصيصه بالذكر لكونه مطلع القصة ، وأخفى أحوالها ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : { وَهُمْ يَمْكُرُونَ } والخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لكن المراد إلزام المكذبين . والمعنى : ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ؛ إذ لا سبيل إلى معرفتك إياه سوى ذلك ، إذ عدم سماعك ذلك من الغير ، وعدم مطالعتك للكتب أمر لا يشك فيه المكذبون أيضاً ، ولم تكن بين ظهرانيهم عند وقوع الأمر حتى تعرفه كما هو ، فتبلغه إليهم . وفيه تهكم بالكفار ، فكأنهم يشكون في ذلك فيدفع شكهم . وفيه أيضاً إيذان بأن ما ذكر من النبأ هو الحق المطابق للواقع . وما ينقله أهل الكتاب ليس على ما هو عليه . يعني : أن مثل هذا التحقيق بلا وحي لا يتصور إلا بالحضور والمشاهدة ، وإذ ليس ذلك بالحضور فهو بالوحي . ومثله قوله تعالى : { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } [ آل عِمْرَان : من الآية 44 ] . وقوله : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ } [ القصص : من الآية 44 ] . انتهى .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ 103 ] .
{ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ } يريد به العموم ، أو أهل مكة : { وَلَوْ حَرَصْتَ } أي : جهدت كل الجهد على إيمانهم ، وبالغت في إظهار الآيات القاطعة الدالة على صدقك : { بِمُؤْمِنِينَ } أي : بالكتب والرسل ؛ لميلهم إلى الكفر ، وسبيل الشر . يعني : قد وضح بمثل هذا النبأ نبوته صلوات الله عليه ، وقامت الحجة ، ومع ذلك فما آمن أكثر الناس ، كما قال تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 8 - 67 - 103 - 121 - 139 - 158 - 174 - 190 ] .
قال الرازي : ما معناه : وجه اتصال هذه الآية بما قبلها ؛ أن كفار قريش ، وجماعة من اليهود ، طلبوا من النبي عليه الصلاة والسلام قص نبأ يوسف تعنتاً ، فكان يُظن أنهم يؤمنون إذا تلي عليهم ، فلما نزلت وأصروا على كفرهم ؛ قيل له : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ } الخ . وكأنه إشارة إلى ما ذكر في قوله تعالى : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ القصص : من الآية 56 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } [ 104 ] .
{ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ } أي : على هذا النصح ، والدعاء إلى الخير والرشد : { مِنْ أَجْرٍ } أي : أجرة : { إِنْ هُوَ } أي : ما هو ، يعني القرآن : { إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } أي : عظة لهم ، يتذكرون به ويهتدون وينجون في الدنيا والآخرة . يعني : أن هذا القرآن يشتمل على العظة البالغة ، والمراشد القويمة ، وأنت لا تطلب في تلاوته عليهم مالاً ، ولا جعلاً . فلو كانوا عقلاء لقبلوا ، ولم يتمردوا .
قال بعض اليمانين : في الآية دليل على أن من تصدر للإرشاد ، من تعليم ووعظ ؛ فإن عليه اجتناب ما يمنع من قبول كلامه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ 105 ] .
{ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } أي : وكم من آية على وحدانية الخالق ، وقدرته الباهرة ، ونعوته الجليلة ، في السماوات : من كواكبها وأفلاكها ، وفي الأرض : من قطع متجاورات ، وحدائق وجنات ، وجبال راسيات ، وبحار زاخرات ، وقفار شاسعات ، وحيوان ونبات ، وثمار مختلفات ، وأحياء وأموات ، يشاهدونها ولا يعتبرون بها .
قال الرازي : يعني أنه لا عجب إذا لم يتأملوا في الدلائل الدالة على نبوتك ، فإن العالم مملوء من دلائل التوحيد والقدرة والحكمة ، ثم إنهم يمرون عليها ولا يلتفتون إليها ، واعلم أن دلائل التوحيد والعلم والقدرة والحكمة والرحمة ، لا بد وأن تكون من أمور محسوسة ، وهي إما الأجرام الفلكية ، وإما الأجرام العنصرية . أما الأجرام الفلكية فهي قسمان : أفلاك وكواكب . أما الأفلاك فقد يستدل بمقاديرها المعينة على وجود الصانع . وقد يستدل بكون بعضها فوق البعض أو تحته . وقد يستدل بأحوال حركاتها ، إما بسبب أن حركاتها مسبوقة بالعدم ، فلا بد من محرك قادر ، وإما بسبب كيفية حركاتها في سرعتها وبطئها ، وإما بسبب اختلاف جهات تلك الحركات . وأما الأجرام الكوكبية : فتارة يستدل على وجود الصانع بمقاديرها وأحيازها وحركاتها ، وتارة بألوانها وأضوائها ، وتارة بتأثيراتها في حصول الأضواء والأظلال ، والظلمات والنور .
وأما الدلائل المأخوذة من الأجرام العنصرية : فإما أن تكون مأخوذة من بسائط ، وهي عجائب البر والبحر ، وإما من المواليد وهي أقسام :
أحدها : الآثار العلوية ، كالرعد والبرق والسحاب والمطر والثلج والهواء وقوس قزح .
وثانيها : المعادن على اختلاف طبائعها وصفاتها وكيفياتها .
ثالثها : النبات وخاصية الخشب والورق والتمر ، واختصاص كل واحد منها بطبع خاص وطعم خاص ، وخاصية مخصوصة .
ورابعها : اختلاف أحوال الحيوانات في أشكالها وطبائعها وأصواتها وخلقتها .
وخامسها : تشريح أبدان الناس ، وتشريح القوى الإنسانية ، وبيان المنفعة الحاصلة فيها .
فهذه مجامع الدلائل .
ومن هذا الباب أيضاً قصص الأولين ، وحكايات الأقدمين ، وأن الملوك إذا استولوا على الأرض وخربوا البلاد ، وقهروا العباد ؛ ماتوا ولم يبق منهم في الدنيا خبر ولا أثر ، ثم بقي الوزر والعقاب .
ولما كان العقل البشري لا يفي بالإحاطة بشرح دلائل العالم الأعلى والأسفل ؛ ذكر في الكتاب العزيز مجملاً . انتهى .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ } [ 106 ] .
{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ } أي : الناس ، أو أهل مكة : { بِاللّهِ } أي : في إقرارهم بوجوده وخالقيته : { إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ } أي : بعبادتهم لغيره ، وباتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً ، وبقولهم باتخاذه تعالى ولداً : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً } [ الإسراء : 43 ] .
تنبيه :
كما تدل الآية على النعي عليهم بالشرك الأكبر ، وهو أن يعبد مع الله غيره . فإنها تشير إلى ما يتخلل الأفئدة وينغمس به الأكثرون من الشرك الخفي ، الذي لا يشعر صاحبه به غالباً . ومنه قول الحسن في هذه الآية : ذاك المنافق ، يعمل إذا عمل رئاء الناس ، وهو مشرك بعمله . يعني : الشرك في العبادة . فصاحبه ، وإن اعتقد وحدانيته تعالى ؛ ولكن لا يخلص له في عبوديته بل يعمل لحظ نفسه ، أو طلب الدنيا ، أو طلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق ؛ فلله من عمله وسعيه نصيب ، ولنفسه وحظه وهواه نصيب ، وللشيطان نصيب ، وللخلق نصيب . وهذا حال أكثر الناس ، وهو الشرك الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما رواه ابن حبان في صحيحه : < الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل > . فالرياء كله شرك ، وهو محبط للعبادة ، مبطل ثواب العمل ، ويعاقب عليه إذا كان العمل واجباً . فإنه تعالى أمر بعبادته خالصة . قال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ } [ البينة : من الآية 5 ] ، فمن لم يخلص لله في عبادته ؛ لم يفعل ما أمر به ، بل الذي أتى به شيء غير المأمور ، فلا يقبل منه .
وروى مسلم وغيره عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < يقول الله : أنا أغنى الشركاء عن الشرك . من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري ، تركته وشركه > .
وروى الإمام أحمد عن محمود بن لَبِيد ، رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم : < إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ! قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : الرياء > .
ومن الشرك نوع غير مغفور ، وهو الشرك بالله في المحبة والتعظيم ، بأن يحب مخلوقاً كما يحب الله ، فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله ، وهو الشرك الذي قال سبحانه فيه : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً } [ البقرة : من الآية 165 ] الآية . وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم ، وقد جمعتهم الجحيم : { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 97 - 98 ] ، ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق والرزق ، والإماتة والإحياء ، والملك والقدرة ، وإنما سووهم به في الحب والتأله ، والخضوع لهم والتذلل . وهذا غاية الجهل والظلم ، فكيف يسوى من خلق من التراب برب الأرباب ؟ وكيف يسوى العبيد بمالك الرقاب ، وكيف يسوى الفقير بالذات ، الضعيف بالذات ، العاجز بالذات ، المحتاج بالذات ، الذي ليس له من ذاته إلا العدم ؛ بالغني بالذات ، القادر بالذات ، الذي غناه وقدرته وملكه ووجوده وإحسانه وعلمه ورحمته وكماله المطلق التام ، من لوازم ذاته ؟ فأي ظلم أقبح من هذا وأي حكم أشد جوراً منه ؟ حيث عدل من لا عدل له بخلقه . أفاده الشمس ابن القيم في " الجواب الكافي " .
قال الحافظ ابن كثير : وثم شرك خفي لا يشعر به غالباً فاعله ، كما روي عن حذيفة أنه دخل على مريض ، فرأى في عضده سيراً فقطعه ، ثم قال : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ } .
وفي الحديث : < من حلف بغير الله فقد أشرك > رواه الترمذي عن ابن عمر وحسنه . وفي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن الرقى والتمائم والتولة شرك > . ورواه الإمام أحمد بأبسط من هذا عن زينب امرأة عبد الله قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب ، تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه ؟ قالت : وإنه جاء ذات يوم فتنحنح ، وعندي عجوز ترقيني من الحمرة ، فأدخلتها تحت السرير . قالت : فدخل فجلس إلى جانبي ، فرأى في عنقي خيطاً ، فقال : ما هذا الخيط ؟ قالت : قلت : خيط رقي لي فيه ! فأخذه فقطعه ، ثم قال : إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < إن الرقى والتمائم والتولة شرك > . قالت : قلت له : لم تقول هذا ، وقد كانت عيني تفرق ، فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها ، فكان إذا رقاها سكنت ؟ ! فقال : إنما ذاك من الشيطان ، كان ينخسها بيده ، فإذا رقاها كفَّ عنها ، كان يكفيك أن تقولي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : < أذهب الباس ، رب الناس ، اشف وأنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاء لا يغادر سقماً > .
وروى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من علق تميمة فقد أشرك > .
وأخرج أيضاً عن عبد الله بن عَمْرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك > .
وبما ذكر يعلم أن لفظ الآية يتناول كل ما يصدق عليه مسمى الإيمان ، مع وجود مسمى الشرك ، فأهل الشرك الأكبر ما يؤمن أكثرهم بأن الله هو الخالق إلا وهو مشرك به ، بما يتخذه من الشفعاء ، وما يعبده من الأصنام . وكذا أهل الشرك الأصغر من المسلمين ، كالرياء مثلاً ، ما يؤمن أحدهم بالله إلا وهو مشرك به ، بذلك الشرك الخفي . وعلى هذا ، فالشرك يجامع الإيمان ، فإن الموصوف بهما مما تقدم ، مؤمن فيما آمن به ، ومشرك فيما أشرك به . والتسمية في الشريعة لله عز وجل ولرسوله ، فلهما أن يوقعا أي : اسم شاءا على أي : مسمى شاءا . فكما أن الإيمان في اللغة التصديق ، ثم أوقعه الله عز وجل في الشريعة على جميع الطاعات ، واجتناب المعاصي ، إذا قُصد بكل ذلك ، من عمل أو ترك ، وجه الله تعالى ؛ كذلك الشرك نقل عن شرك شيء مع آخر مطلقاً ، إلى الشرك في عبادته تعالى ، وفي خصائص ربوبيته .
قال ابن القيم :
حقيقة الشرك هو التشبه بالخالق ، والتشبه للمخلوق به ، فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية ، فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع ، والعطاء والمنع ، وذلك يوجب تعليق الدعاء ، والخوف والرجاء ، والتوكل به وحده . فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق ، وجعل من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً فضلاً عن غيره مشبهاً بمن له الأمر كله ، جل وعلا . فمن أقبح التشبيه تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات . ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه ، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه . وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده ، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والاستعانة وغاية الذل ، مع غاية الحب ، كل ذلك يجب عقلاً وشرعاً وفطرةً أن يكون له وحده . ويمنع عقلاً وشرعاً وفطرةً أن يكون لغيره . فمن جعل شيئاً من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير ، بمن لا شبيه له ، ولا ند له ، وذلك أقبح التشبيه وأبطله . ولشدة قبحه ، وتضمنه غاية الظلم ؛ أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره ، مع أنه كتب على نفسه الرحمة . ومن خصائص الإلهية العبودية التي قامت على ساقين ، لا قوام لها بدونهما : غاية الحب ، مع غاية الذل . هذا تمام العبودية . وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين . فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله ؛ فقد شبهه به في خالص حقه ، وهذا من المحال أن تأتي به شريعة من الشرائع . وقبحُه مستقر في كل فطرة وعقل ، ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق وعقولهم ، وأفسدتها عليهم ، ومضى على الفطرة من سبقت له من الله الحسنى . إذا عرف هذا فمن خصائص الإلهية السجود ، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به . ومنها التوكل ، فمن توكل على غيره فقد شبهه به . ومنها التوبة ، فمن تاب لغيره فقد شبهه به . ومنها الحلف باسمه تعظيماً وإجلالاً ، فمن حلف بغيره فقد شبهه به . هذا في جانب التشبيه . وأما في جانب التشبه به ، فمن تعاظم وتكبر ، ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم ، والخضوع ، والرجاء ، وتعليق القلب به ، خوفاً ، ورجاء ، والتجاء ، واستعانة ؛ فقد تشبه به ، ونازعه في ربوبيته وإلهيته ، وهو حقيق بأن يهينه غاية الهوان ، ويذله غاية الذل .
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال : < يقول الله عز وجل : العظمة إزاري ، والكبرياء ردائي ، فمن نازعني واحداً منهما عذبته > . وكذلك من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا لله وحده ، كملك الأملاك ، وحاكم الحكام ، ونحوه .
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم : < أغيظ رجل على الله رجل يسمى ملك الأملاك ، لا ملك إلا الله > .
فهذا غضب الله على من تشبه في الاسم ، الذي لا ينبغي إلا له ، فهو سبحانه ملك الملوك وحده ، يحكم عليهم كلهم ، ويقضي عليهم ، لا غيره .
وتتمة هذا البحث في " الجواب الكافي " لابن القيم ، فانظره .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ 107 ] .
{ أَفَأَمِنُواْ } أي : هؤلاء المشركون : { أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللّهِ } أي : عقوبة تنبسط عليهم وتغمرهم : { أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً } أي : فجأة : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي : بإتيانها ، وهذا كقوله تعالى : { أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 45 - 46 - 47 ] ، وقوله : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } [ الأعراف : 97 - 98 - 99 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ 108 ] .
{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي } أي : هذه السبيل ، التي هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد ، سبيلي ، أي : طريقي ومسلكي وسنتي . والسبيل والطريق يذكَّران ويؤنثان . ثم فسر سبيله بقوله : { أَدْعُو إِلَى اللّهِ } أي : إلى دينه وتوحيده ، ومعرفته بصفات كماله ، ونعوت جلاله : { عَلَى بَصِيرَةٍ } أي : مع حجة واضحة ، غير عمياء { أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي } أي : آمن بي ، يدعون إلى الله أيضاً على بصيرة ، لا على هوى { وَسُبْحَانَ اللّهِ } أي : وأنزهه وأجله وأقدسه عن أن يكون له شريك ، أو ندٌّ أو كفءٌ أو ولد أو صاحبة ، تعالى عن ذلك علواً كبيراً { وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } أي : على دينهم .
تنبيهات :
الأول : قال السمين : { أَدْعُو إِلَى اللّهِ } يجوز أن يكون مستأنفاً ، وهو الظاهر ، وأن يكون حالاً من الياء ، و : { عَلَى بَصِيرَةٍ } حال من فاعل : { أَدْعُو } أي : أدعو كائناً على بصيرة ، وقوله : { وَمَنِ اتَّبَعَنِي } عطف على فاعل : { أَدْعُو } ولذلك أكد بالضمير المنفصل . ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر محذوف ، أي : ومن اتبعني يدعو أيضاً ، ويجوز أن يكون : { عَلَى بَصِيرَةٍ } خبراً مقدماً ، و : { أَنَا } مبتدأ مؤخراً و : { مَنِ اتَّبَعَنِي } عطف عليه ، ومفعول : { أَدْعُو } إما منوي ، أي : الناس ، أو منسي .
الثاني : دل قوله تعالى : { عَلَى بَصِيرَةٍ } على مزية هذا الدين الحنيف ، ونهجه الذي انفرد به ، وهو أنه لم يطلب التسليم به لمجرد أنه جاء بحكايته ، ولكنه ادعى وبرهن وحكى مذاهب المخالفين ، وكرَّ عليها بالحجة ، وخاطب العقل ، واستنهض الفكر ، وعرض نظام الأكوان وما فيها من الإحكام والإتقان ، على أنظار العقول ، وطالبها بالإمعان فيها لتصل بذلك إلى اليقين بصحة ما ادعاه ودعا إليه - انظر " رسالة التوحيد " في تتمة ذلك .
الثالث : دلت الآية على أن سيرة أتباعه صلى الله عليه وسلم ، الدعوة إلى الله .
قال الرازي : كل من ذكر الحجة ، وأجاب عن الشبهة ؛ فقد دعا بمقدار وسعه إلى الله . وهذا يدل على أن الدعاء إلى الله تعالى إنما يحسن ويجوز مع هذا الشرط ، وأن يكون على بصيرة مما يقول ، وعلى هدى ويقين ، فإن لم يكن كذلك ، فهو محض الغرور . انتهى .
ولا يخفى أن الدعوة إلى الله إنما هي بنشر مطالب الدين وإذاعة آدابه وتعليمه .
قال بعضهم : ينبغي للعالم أن يكون حديثه مع العامة في حال مخالطته ومجالسته لهم ، في بيان الواجبات والمحرمات ، ونوافل الطاعات ، وذكر الثواب والعقاب ، على الإحسان والإساءة . ويكون كلامه معهم بعبارة قريبة واضحة يعرفونها ويفهمونها ، ويزيد بياناً للأمور التي يعلم أنهم ملابسون لها ، ولا يسكت حتى يسأل عن شيء من العلم ، وهو يعلم أنهم محتاجون إليه ، ومضطرون إليه ، فإن علمه بذلك سؤال منهم بلسان الحال . والعامة قد غلب عليهم التساهل بأمر الدين ، علماً وعملاً ، فلا ينبغي للعلماء أن يساعدوهم على ذلك بالسكوت عن تعليمهم وإرشادهم ، فيعم الهلاك ، ويعظم البلاء . وقلما تختبر عامياً - وأكثر الناس عامة - إلا وجدته جاهلاً بالواجبات والمحرمات ، وبأمور الدين التي لا يجوز ولا يسوغ الجهل بشيء منها . وإن لم يوجد جاهلاً بالكل ، وجد جاهلاً بالبعض . وإن علم شيئاً من ذلك ، وجدت علمه به علماً مسموعاً من ألسنة الناس ، لو أردت أن تقلبه له جهلاً فعلت ذلك بأيسر مؤونة ، لعدم الأصل والصحة فيما يعلمه . وعلى الجملة ، فيتأكد على العلماء أن يجالسوا الناس بالعلم ، ويحدثوهم به ، ويبثوه لهم ، ويكون كلام العالم معهم في بيان الأمر الذي جاؤوا من أجله ، مثل ما إذا جاؤوا لعقد نكاح ، يكون كلامه معهم فيما يتعلق بحقوق النساء من الصداق والنفقة والمعاشرة بالمعروف . أو لعقد بيع ، يكون كلامه في صحيح البيوع وآدابها ، وفوائد التجارة النافعة ، واجتناب الغش والخداع وهكذا . ولا ينبغي للعالم أن يخوض مع الخائضين ، ولا أن يصرف شيئاً من أوقاته في غير إقامة الدين . وبالسكوت عن التذكير والتعليم ، يغلب الفساد ، ويعم الضرر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ 109 ] .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى } أي : لا ملائكة من أهل السماء ، رد لقول المشركين : { لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَة } [ فصلت : من الآية 14 ] ، وهذا كقوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ } [ الفرقان : من الآية 20 ] [ في المطبوع وقع خطأ في الآية ] ، وقوله : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ } [ الأنبياء : 8 ] . وقوله : { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُل } [ الأحقاف : من الآية 9 ] الآية .
واحتج بقوله تعالى : { إِلاَّ رِجَالاً } على أنه لم ينتظم في سلك النبوة امرأة .
والقرى : جمع قرية ، وهي على ما في " القاموس " : المصر الجامع ، وفي " كفاية المتحفظ " : القرية : كل مكان اتصلت به الأبنية ، واتخذ قراراً . وتقع على المدن وغيرهما . انتهى .
قال ابن كثير : والمراد بالقرى هنا المدن . أي : لا أنهم من أهل البوادي الذين هم أجفى الناس طباعاً وأخلاقاً . وهذا هو المعهود المعروف : أن أهل المدن أرق طباعاً ، وألطف من أهل بواديهم . وأهل الريف والسواد أقرب حالاً من الذين يسكنون في البوادي . ولهذا قال تعالى : { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً } الآية [ التوبة : من الآية 97 ] .
قال قتادة : إنما كانوا من أهل القرى ؛ لأنهم أعلم وأحلم من أهل العُمور .
وقوله تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ } أي : هؤلاء المكذبون { فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ } أي : نظر تفكر { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي : من الأمم المكذبة ، كقوله تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } الآية [ الحج : من الآية 46 ] ، فإذا استمعوا خبر ذلك ؛ رأوا أن الله أهلك الكافرين ، ونجى المؤمنين . وهذه كانت سنته تعالى في خلقه ، ولهذا قال تعالى : { وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ } أي : الشرك والفواحش ، وآمنوا بالله ورسله وكتبه .
قال ابن كثير : أي : وكما نجينا المؤمنين في الدنيا ، كذلك كتبنا لهم النجاة في الدار الآخرة ، وهي خير لهم من الدنيا ، كقوله تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [ غافر : 51 ] .
{ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي : تستعملون عقولكم ، فتعلموا أن الآخرة خير ، أو تعلموا كيف عاقبة أولئك .
ثم بيَّن تعالى أن العاقبة لرسله ، وأن نصره يأتيهم إذا تمادى تكذيبهم ، تثبيتاً لفؤاده صلى الله عليه وسلم ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [ 110 ] .
{ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ } أي : من إجابة قومهم { وَظَنُّواْ } أي : علموا وتيقنوا ، يعني : الرسل { أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا } يقرأ : { كُذِّبُوا } بضم الكاف وتشديد الذال . أي : كذبهم قومهم بما جاؤوا به ؛ لطول البلاء عليهم . ويقرأ بضم الكاف وتخفيف الذال ، فالضمير في : { ظَنَّوا } - على ما اختاروه - للقوم . أي : ظنوا أن الرسل قد كذبوا . أي : ما وعدوا به من النصر .
وروي عن ابن عباس أن الضمير للرسل . أي : وظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر . وقال : كانوا بشراً ، وتلا قوله تعالى : { وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّه } [ البقرة : من الآية 214 ] ، وقد استشكلوه على ابن عباس ، وتأولوا لكلامه وجوهاً .
قال الزمخشري : أراد بالظن ما يخطر بالبال ، ويهجس في القلب ، من شبه الوسوسة ، وحديث النفس ، على ما عليه البشرية . انتهى .
وقيل : المراد بظنهم عليهم السلام ذلك ؛ المبالغة في التراخي والإمهال ، على طريق الاستعارة التمثيلية ، بأن شبه المبالغة في التراخي بظن الكذب ، باعتبار استلزام كل منهما ؛ لعدم ترتب المطلوب ، فاستعمل ما لأحدهما للآخر .
وقال الخطابي : لا شك أن ابن عباس لا يجيز على الرسل أنها تُكْذَبُ بالوحي ، ولا تشك في صدق المخبر ، فيحمل كلامه على أنه أراد أنهم ، لطول البلاء عليهم ، وإبطاء النصر ، وشدة استنجاز ما وعدوا به - توهموا أن الذي جاءهم من الوحي كان حسباناً من أنفسهم ، وظنوا عليها الغلط في تلقي ما ورد عليهم من ذلك ، فيكون الذي بني له الفعل أنفسهم ، لا الآتي بالوحي . والمراد بـ ( الكذب ) : الغلط ، لا حقيقة الكذب ، كما يقول القائل : كذبتك نفسك .
قال الحافظ ابن حجر : ويؤيده قراءة مجاهد : { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كَذِبُواْ } بفتح أوله مع التخفيف أي : غلطوا . ويكون فاعل ( وظنوا ) الرسل .
وقال أبو نصر القشيري : ولا يبعد أن المراد خطر بقلب الرسل ، فصرفوه عن أنفسهم . أو المعنى : قربوا من الظن ، كما يقال : بلغت المنزل ، إذا قربت منه .
وقال الترمذي الحكيم : وجهه : أن الرسل كانت تخاف بعد أن وعدهم الله النصر ؛ أن يتخلف النصر ، لا من تهمة بوعد الله ، بل لتهمة النفوس أن تكون قد أحدثت حدثاً ينقض ذلك الشرط ، فكان الأمر إذا طال ، واشتد البلاء عليهم ؛ دخلهم الظن من هذه الجهة .
وحكى الواحدي عن ابن الأنباري أنه قال : ما روي عن ابن عباس غير معول عليه ، وأنه ليس من كلامه ، بل تؤول عليه .
قال ابن حجر : وعجب لابن الأنباري في جزمه بأنه لا يصح ثم للزمخشري في توقفه عن صحة ذلك عن ابن عباس ، فإنه صح عنه ، أي : فرواه البخاري في تفسير البقرة بلفظ : ذهب بها هناك ، وأشار إلى السماء ، وزاد الإسماعيلي عنه : كانوا بشراً ضعفوا وأيسوا وظنوا أنهم قد كذبوا .
وروى البخاري أن عائشة كانت تقرأ ( كذبوا ) مشددة ، وتتأولها على المعنى الأول ، وأن عروة قال لها : لعلها ( كذبوا ) مخففة ، فقالت : معاذ الله ! .
قال الحافظ ابن حجر : وهذا ظاهر في أنها أنكرت القراءة بالتخفيف ، ولعلها لم تبلغها ممن يرجع إليه في ذلك ، وقد قرأها بالتخفيف أئمة الكوفة من القراء : عاصم ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي . ووافقهم من الحجازيين أبو جعفر بن القعقاع . وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي ، والحسن البصري ومحمد بن كعب القرظي في آخرين .
وقوله تعالى : { فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء } وهم الرسل والمؤمنون بهم . وقرئ ( فننجي ) بالتخفيف والتشديد . وقرئ ( فنجا ) .
{ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا } أي : عذابنا : { عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } أي : إذا نزل بهم .
وفيه بيان من شاء الله نجاتهم ؛ لأنه يعلم من المقابلة أنهم من ليسوا بمجرمين ، وهم من تقدم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ 111 ] .
{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ } الضمير ليوسف وإخوته ، أو للأنبياء وأممهم . ورجح الزمخشري الثاني بقراءة ( قصصهم ) بكسر القاف ، جمع قصة . والمفتوح مصدر بمعنى المفعول . وأجيب بأن قصة يوسف وأبيه وإخوته مشتملة على قصص وأخبار مختلفة ، وقد يطلق الجمع على الواحد ، كما مر في : { أَضغَاثُ أَحْلاَمٍ } وسنذكر وجوه العبر منها بعونه تعالى .
{ مَا كَانَ } أي : القرآن المدلول عليه بما سبق دلالة واضحة : { حَدِيثاً يُفْتَرَى } أي : يختلق { وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : من الكتب المنزلة ، فهو يصدق ما فيها من الصحيح ، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير ، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير .
قال بعض المحققين : المراد به أن قصص القرآن ليست مخترعة ولا مفتراة ، بدليل وجود أمثالها بين الناس ، قبل نزوله . فهي وإن اختلفت قليلاً في بعض التفاصيل والجزئيات ، عما يرويه الناس ، إلا أن توافقها في الجملة ، وتصدقها في الجوهر ، فلا تظنوا أيها المشركون أن النبي اخترعها بعقله ، بل اسألوا عنها أهل الكتاب ، تجدوا أنها معروفة بينهم ، ومروية في كتبهم ، فوجود قصص القرآن عند الناس من قبل من أعظم ما يصدقه ويؤيده ؛ لأن النبي صلوات الله عليه ، لم يطلع على كتب أهل الكتاب . ولا يتوهم من هذه الآية أن قصص القرآن يجب ألا تختلف عن قصص التوراة والإنجيل في شيء ما ، كلا إذ لو صح هذا لما قال تعالى : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ النمل : 76 ] ، فقصصه قد تختلف عما عندهم ، وتبين لهم حقه من باطله . فلا منافاة بين تصديق القرآن لقصصهم في الجملة ، ومخالفته لها في بعض الجزئيات - كما قلنا - ويجوز أن يكون المراد بقوله : { تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } تصديق الحق الذي عندهم ، لا كل الذي عندهم ، وإلا لدخل في ذلك عقائدهم الفاسدة وأوهامهم وخرافاتهم وغيرها ، مما جاء القرآن لإزالته ومحقه ، ويستحيل أن يكون مصدقاً لما جاء لإبطاله . فتنبه لذلك . ولا تكن من الغافلين . انتهى .
وقوله تعالى : { وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ } أي : تبيان كل ما يحتاج إليه من أحكام الحلال والحرام ، والآداب والأخلاق ، ووجوه العبر والعظات ، ولذا كان أعظم ما تنقذ به القلوب من الغي إلى الرشاد ، ومن الضلال إلى السداد ، وتبتغي به الرحمة من رب العباد ، كما قال تعالى : { وَهُدًى } أي : من الضلالة : { وَرَحْمَةً } أي : من العذاب : { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي : يصدقون به ، ويعلمون بأوامره ، فإن الإيمان قول وعقد وعمل . وخصهم لأنهم المنتفعون به .
خاتمة في مباحث مهمة :
الأول : فيما قيل في وجوه العبر في هذا القصص .
قال في " اللباب " : الاعتبار والعبرة : الحالة التي يتوصل بها الإنسان من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد . والمراد منه التأمل والتفكر . ووجه الاعتبار بهذه القصة أن الذي قدر على إخراج يوسف من الجب بعد إلقائه فيه ، وإخراجه من السجن ، وتمليكه مصر بعد العبودية ، وجمع شمله بأبيه وإخوته بعد المدة الطويلة ، واليأس من الاجتماع ؛ قادر على إعزاز محمد صلى الله عليه وسلم وإعلاء كلمته ، وإظهار دينه . وأن الإخبار بهذه القصة العجيبة جار مجرى الإخبار عن الغيوب ، فكانت معجزة له صلى الله عليه وسلم .
وقال بعضهم : إن قصة يوسف الصديق ، جمة الفائدة ، وجليلة العائدة ، تحدو بكل امرئ أبيّ إلى الإقتداء بها . فإن من أطلق سوام الفكر في حياة يوسف عليه السلام رآها رغيدة ، وألفاها هنيئة ، وما ذلك إلا لطيب سيرته ، وحميد سريرته ، وتمسكه بعرى التقوى والفضيلة ، ولا سيما فضيلة العفة والطهارة ، التي ترفع قدر صاحبها ، وتنزله المنزلة السامية . فعلى المرء أن يقتفي أثر هذه الفضيلة الجليلة ، كيوسف ، فيتسنم ذروة المجد في هذه الدنيا ، وينال السعادة الدائمة في الآخرة . انتهى .
قال الإمام أبو جعفر بن الزبير : هذه السورة من جملة ما قص على النبي ، صلوات الله عليه ، من أنباء الرسل ، وأخبار من تقدمه ، مما فيه التثبت المشار إليه في قوله تعالى : { وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْك } [ هود : من الآية 120 ] الآية . وإنما أفردت على حدتها ، ولم تنسق على قصص الرسل ، مع أنهم في سورة واحدة ؛ لمفارقة مضمونها تلك القصص . ألا ترى أن تلك قصص إرسال من تقدم ذكرهم عليهم السلام ، وكيفية تلقي قومهم لهم ، وإهلاك مكذبيهم ؟ أما هذه القصة ، فحاصلها : فرج بعد شدة ، وتعريف بحسن عاقبة الصبر ، فإنه تعالى امتحن يعقوب عليه السلام بفقد ابنيه وبصره ، وشتات بنيه . وامتحن يوسف عليه السلام بالجب والبيع وامرأة العزيز وفقد الأب والإخوة والسجن . ثم امتحن جميعهم بشمول الضر ، وقلة ذات اليد : { مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرّ } [ يوسف : من الآية 88 ] الآية . ثم تداركهم الله بإلفهم ، وجمع شملهم ، ورد بصر أبيهم ، وائتلاف قلوبهم ، ورفع ما نزغ به الشيطان ، وخلاص يوسف عليه السلام ، وبكيد من كاده ، واكتنافه بالعصمة ، وبراءته عند الملك والنسوة ، وكل ذلك مما أعقبه جميل الصبر ، وجلالة اليقين ، وحسن تلقي الأقدار بالتفويض والتسليم ، على توالي الامتحان ، وطول المدة . ثم انجرّ في أثناء هذه القصة الجليلة إنابة امرأة العزيز ، ورجوعها إلى الحق ، وشهادتها ليوسف عليه السلام بما منحه الله من النزاهة عن كل ما يشين . ثم استخلاص العزيز إياه ، إلى ما انجرّ في هذه القصة الجليلة من العجائب والعبر . فقد انفردت هذه القصة بنفسها ، ولم تناسب ما ذكر من قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام ، وما جرى في أممهم ، فلهذا فصلت عنهم . وقد أشار في سورة برأسها إلى عاقبة من صبر ورضي وسلم ليتنبه المؤمنون إلى ما في طي ذلك . وقد صرح لهم ما أجملته هذه السورة من الإشارة في قوله تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ } [ النور : من الآية 55 ] إلى قوله : { أَمْنَاً } وكانت قصة يوسف عليه السلام بجملتها أشبه شيء بحال المؤمنين في مكابدتهم في أول الأمر ، وهجرتهم ، وتشققهم مع قومهم ، وقلة ذات أيديهم ، إلى أن جمع الله شملهم : { وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } [ آل عِمْرَان : من الآية 103 ] ، وأورثهم الأرض ، وأيدهم ونصرهم ، وذلك بجليل إيمانهم وعظيم صبرهم . فهذا ما أوجب تجرد هذه القصة عن تلك القصص - والله أعلم - .
ثم إن حال يعقوب ويوسف عليهما السلام ، في صبرهما ، ورؤية حسن عاقبة الصبر في الدنيا ، وما أعد لهما من عظيم الثواب ، أنسب بحال نبينا عليه السلام في مكابدة قريش ، ومفارقة وطنه ، ثم تعقيب ذلك بظفره بعدوه ، وإعزاز دينه ، وإظهار كلمته ، ورجوعه إلى بلده ، على حالة قرت بها عيون المؤمنين ، وما فتح الله عليه وعلى أصحابه ، فتأمل ذلك ! ويوضحه ختم السورة بقوله : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُل } [ يوسف : من الآية 110 ] . فحاصل هذا كله الأمر بالصبر ، وحسن عاقبة أولياء الله فيه - كذا في تفسير " البرهان " للبقاعي ملخصاً - .
وجاء في كتاب " النظام والإسلام " في بحث التربية والآداب في قصص القرآن ما مثاله :
طال الأمر على أمتنا ، فأهملت ما في غضون كتابها من أساس التربية والحكمة ، وكيف تنتقى الرجال الأكفاء في مهام الأعمال . يا ليت شعري ! ما الذي أصابها حتى غضت النظر عن القصص التي قصها ، وأهملت أمرها ، وظن أهلها أنها أمور تاريخية لا تفيد إلا المؤرخين . القصص في كل أمة ، عليها مدار ارتقائها ، سواء كانت وضعية أم حقيقية ، على ألسنة الحيوان أو الإنسان أو الجماد . على هذا تبحث الأمم ، قديمها وحديثها . وناهيك بكتاب " كليلة ودمنة " وما والاه من القصص الناسجة على منواله في الإسلام ، ككتاب " فاكهة الخلفاء " و " مقامات الحريري " . جاء القرآن بقصص الأنبياء ، وهي - لا جرم أعلى منالاً ، وأشرف مزية . كيف لا وقد جمعت أحسن الأسلوب ، واختيار المقامات المناسبة لما سيقت إليه ، والقدوة الحسنة للكمل المخلصين من الأنبياء ومن والاهم ، وتحققها في أنفسها ، لوقوع مواردها ، وإن حب التشبه طبيعة مرتكزة في الإنسان ، لا سيما لمن يقتدي بهم . فهذه خمس مزايا اختصت بها هذه القصص ، ونقصت في سواها . أليس من العيب الفاضح أن نقرأ قصص القرآن ، فلا نكاد نفهم إلا حكايات ذهبت مع الزمان ، ومرت كأمس الدابر ؟ ! وما لنا ولها إذن ؟ تالله إن هذا لهو البوار ! ولم يكن هذا إلا للجهل بالمقصود من قصصها ، وإنها عبرة لمن اعتبر ، وتذكرة لمن تفكر ، وتبصرة لمن ازدجر . أما الرجوع إلى التاريخ ، ومقارنته بما قصه المؤرخون في كتبهم ، وما سطره الأقدمون على مباينتهم ، وما يقوله القاصون في خرافتهم ؛ فتلك سبيل حائد عن الجادة ، يضل فيه الماهرون ، يرشدك لذلك ما تسمعه من نبأ فتية الكهف ، وكيف يقول : { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ } [ الكهف : من الآية 22 ] فانظر كيف أسند العلم لله ، ولم يعول على قول المؤرخين المختلفين ، ثم لم يبين الحقيقة ؛ لئلا يكون ذريعة للطعن في التنزيل . فإن قال : خمسة ، قالوا : ستة ، وإن قال : أربعة ، قالوا سبعة . فكتب المؤرخين كثيرة الاختلاف في القصص ، وما المقصود منها إلا ليكون عبرة . وبالإجمال : فليس القصد من هذه القصص إلا منافعها ، والعبر المبصرة للسامعين : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ } .
ولسنا ممن يتبجح بالقول بلا بيان ، فلا نعتمد إلا على البرهان . تأمل هذا القصص ، تجده لا يذكر إلا ما يناسب الإرشاد والنصح ، ويعرض عن كثير من الوقائع ، إذ لا لزوم له ، ولا معول عليها . فلا ترى قصة إلا وفيها توحيد وعلم ومكارم أخلاق ، وحجج عقلية ، وتبصرة وتذكرة ، ومحاورات جملية ، تلذ العقلاء . ولأقتصر من تلك القصص على ما حكاه عن يوسف الصديق عليه السلام ، وكيف جاوز فيها كل ما لا علاقة له بالأخلاق ، من مدنية المصريين وأحوالهم ، إلى الخلاصة والثمرة . ألا ترى كيف صدرت بحديث سجود الشمس والقمر والكواكب له في الرؤيا ؛ دلالة على أن للطفل استعداداً يظهر على ملامحه ، وأقواله ، وأفعاله ، ورؤياه ؟ وهذا أعظم شيء اعتنى به قدماء الحكماء ، من اليونان والفرس ، كما ذكره المؤرخون وعلماء الأخلاق ، كانوا يختبرون أبناءهم ، ويتأملون ملامحهم ؛ ليعرفوا ما استعدوا له من الصناعات والرئاسات والعلوم . ثم تأمل في قصة الإخوة ، وحديث القميص والجب والذئب والدم ؛ لتعلم ما نشاهده كل يوم من معاداة الأقران لمن ظهرت مبادئ الجمال النفسي ، والخلق المرضي ، والجلال الظاهر على ملامحه ، فيعيبونه بما يشينه في نفسه أو عرضه أو خلقه ؛ دلالة على أن هذه سنة في الكون لا تغادر نبياً ، ولا حكيماً ، ولا عالماً مهما حسنت أخلاقه وجمل ظاهره وباطنه . . . . . ! .
~كل العدوات قد تُرجى إزالتها إلا عداوة من عاداك من حسد
جرت تلك السنة في الأناسي ، فإذا صبر الصالح فاز بالولاية عليهم ، وأحبوه بعد العداوة ولو بعد حين ، وعادوا من آذاه ! ثم انظر في حديث قصة امرأة العزيز ، وكيف عف مع الشباب ، وكيف ساس نفسه وصدق ظن مولاه في الأمانة ، وأرضى إلهه ، واتسم بالفضيلة ، فتوازى جماله الباطني والظاهري . . ! ولنكتف بهذا القدر الآن ، ولنشرع في الكلام على الآداب والأخلاق وتربية الأمراء والعفو والصفح ، التي تضمنتها تلك القصة ! .
فأما علم الأخلاق ، وتربية رؤساء الأمم منها ، فتأمل في كلام الحكماء - أولهم وآخرهم - تجد إجماعهم على أن سياسة أخلاق النفس أولاً فالمنزل فالمدينة ، كل واحدة مقدمة للاحقتها ثمرة لسابقتها ؛ إذ لا يعقل أن يسوس منزله من لم يسس نفسه ، أو يسوس أمته من لم يدبر إدارة منزله ! .
بايع الصحابة - عليهم رضوان الله - الخليفة الأول ، فأخذ قماشاً وذراعاً وذهب إلى السوق في الغداة ، فاستاء الصحابة ولاموه ، فقال : إذا أضعت أهلي ، فأنا للمسلمين أضيع ! ففرضوا له دريهمات من بيت المال ، فقال : إذن أنظر في شؤونكم ! لذلك نجد الغربيين - إذا ولوا رجلاً إدارة بلادهم - أكثروا السؤال عن قرينته وإدارة منزله ، علماً منهم أن منزله أقرب إليه من الأمة .
فانظر هذه الحقائق من سيرة النبي يوسف الصديق كيف ذكرت في الكتب السماوية ، ورتبت في القرآن ترتيباً محكماً ، ذكرت فيها السياسات الثلاث مرتبة هكذا : النفس فالمنزل فالمدينة ، ترتيباً طبيعياً ، تنبيهاً لبني الإسلام على معرفة هذا العلم وانتقائهم الأكفاء للأعمال العامة . فأشير فيها لتربية الأخلاق الفاضلة بالعفة في عنفوان الشباب مع الصديق . وليت شعري ! كيف حفظ أخلاق آبائه وقومه والأنبياء في وسط مدنية المصريين وزخرفهم وجمالهم ، وعبد الله وحده ، ونسي ما يراه من أبي الهول وأبيس والأرباب المتفرقة . . . ؟ ! يذكر هذا تبصرة لمن أحاطت بهم أمواج الحدثان من كل جانب ، أن يحافظوا على أصول دينهم وقواعده ، ثم ليفعلوا ما يشاءون في أمور دنياهم . . !
ظهر صدق يوسف في أخلاقه الشخصية ، فلم يكن ذلك كافياً لإدارة أموره العامة ، فأودع السجن ، وأحيط بالأحداث والجهلة من كل جانب ، فأخذ يسوسهم كما يسوس الرجل أهل منزله ، وبث عقيدته بينهم ، ظاهراً بمظهر الكمال والإحسان والعطف عليهم : { قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِه } [ يوسف : من الآية 37 ] الآية . وأخذ يقص عليهم سيرة أسلافه ، وحبه لمذهبهم ، وبغضه لأصنام المصريين ونحوهم ، فقال : { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [ يوسف : من الآية 37 ] الآية . ثم أخذ يذكرهم أن تفرق وجهة الأمة ضلال في السياسة ، وأن توحيد وجهتها كياسة فيها ، فقال : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [ يوسف : 39 ] ، فتفريق الوجهة شتات الجامعة . لم تَسُدْ أمة في الوجود إلا برجال يوحدون وجهتها أياً كانت ، فيؤمون مقصداً واحداً ! والتفصيل لا يخفى على أولي الألباب . . ! .
وفي " آراء أهل المدينة الفاضلة " للفارابي اثنتا عشرة جامعة بكل منهن قوم اتحدت بها : كاللغة ، والوطن ، والدين ، والأخلاق ، والجنس ، والحكيم المرشد ، والأب الأكبر ، ونحو ذلك مما امتازت به أمة أو جماعة .
ولما تم له ، عليه السلام ، الأمران - سياسة النفس والعشيرة - أخرج من السجن معظماً مبجلاً ، وترقى من تعليم الصعلوك في السجن إلى تعليم الملوك على العروش ، وأخذ يربهم كيف يقتصدون الأموال ، وعبر لهم السنبلات الخضر واليابسات ، والبقرات السمان والعجاف ، وأرشدهم إلى خزن البر وسنابله ؛ لئلا يفسد ، وغير ذلك من الأمور العامة . وهذه هي المرتبة الثالثة : سياسة الأمة بأجمعها بعد قطع تينك العقبتين .
والبراعة والكياسة في علوم العمران ، وتدبير أمر الأمة ، إما بوحي ، وهذا خاص به وبأمثاله من الأنبياء عليهم السلام ، وإما بتعليم وتدريب ، وهو اللائق بسائر الناس .
ترشد هذه السيرة الشريفة إلى أن الأخلاق الفاضلة ما تثبت عليها النفس مع الحقير والعظيم والصغير والكبير ، وأن الإنسان لا يستحقر تعليم الأصاغر ، فإنه لا بد يوماً ما أن يصل إلى الأكابر ، كما في حديث هرقل مع أبي سفيان ، وتعليم الصديق من في السجن . فبلغ صاحب السجن فرعون المصريين .
ابتلي هذا النبي بالسراء والضراء فلم تتغير أخلاقه ، وكان نموذج الكمال في سعة بيت الملك والجلال ، وموضع الثقة في ضيق قبر السجن وعشرة الأسافل التي تتغير بها الأخلاق ، وتنسى بها أصول الأعراق ، وتنزل الكامل من عروش الفضيلة إلى أسفل مقاعد الرذيلة ، ومن أوج الكمال إلى حضيض النقص ! .
وهذه قصة يوسف - الذي تربى في مصر ونشأ فيها ولم تبهجه زخارف تلك المدنية إلى الرذيلة - جاءت عبرة للناس كافة وإلى المصريين خاصة ! بهذه الأخلاق اعتلى يوسف عرش العظمة والجلال ، فساس مصر بعد أن كان مسوساً ، وملك بعد أن كان مملوكاً ! ليس الجزاء على الأخلاق والكمال خاصاً بالآخرة ، بل في الدارين : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يوسف : 56 - 57 ] .
هذه هي الأخلاق الفاضلة ، ذكرت في التنزيل نموذجاً ، في غضون هذه السيرة ، للأمم الإسلامية ؛ ليأخذوا ثمرتها ولا يضيعوا الزمن في أصلها وموردها في التاريخ ، كما يجمد المفسر على الإعراب أو الصرف أو البلاغة ، وهذا غيض من فيض من حكم هذه القصة ، وبها نفهم ما ذكر في أولها : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } [ يوسف : من الآية 3 ] ، دع قول الجاهلين ، وفهم المتنسكين ، وتجاوز خلط المؤرخين ، واختلافهم ، واصغ إلى ما في هذه القصة من هيئة تربية الحكام والأمراء ، كما أشرنا سابقاً ، ولنزدك بياناً ! :
قال علماء الأخلاق والحكماء : لا ينتظم أمر الأمة إلا بمصلحين ، ورجال أعمال قائمين ، وفضلاء مرشدين هادين ، لهم شروط معلومة ، وأخلاق معهودة ؛ فإن كان القائم بالأعمال نبياً فله أربعون خصلة ذكروها . كلها آداب وفضائل بها يسوس أمته . وإن كان رئيساً فاضلاً لمدينة فاضلة ، اكتفوا من الشروط الأربعين ببعضها . وسيدنا يوسف عليه السلام حاز من كمال المرسلين وجمال النبيين . ولقد جاء في سيرته هذه ما يتخذه عقلاء الأمم هدى لاختيار الأكفاء في مهام الأعمال ؛ إذ قد حاز الملك والنبوة ! ونحن لا قبل لنا بالنبوة لانقطاعها ، وإنما نذكر ما يليق بمقام رئاسة المدينة الفاضلة ؛ ولنذكر منها ثلاث عشرة خصلة هي أهم خصال رئيس المدينة الفاضلة ؛ لتكون ذكرى لمن يتفكر في القرآن ، وتنبيهاً للمتعلمين - العاشقين للفضائل - على نفائس الكتاب العظيم ، وحباً في نظرهم في القرآن ، وليعلموا أن تلك القصص وقد أودعت ما لم يكن ليخطر على بال من سمعه للتغني به ومجرد اللهو واللعب ! .
أهم ما شرطه الحكماء في رئيس المدينة الفاضلة :
1 - العفة عن الشهوات ، ليضبط نفسه وتتوافر قوته النفسية : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : من الآية 24 ] .
2 - الحلم عند الغضب ، ليضبط نفسه : { قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ } [ يوسف : من الآية 77 ] .
3 - وضع اللين في موضعه ، والشدة في موضعها : { وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ } [ يوسف : 59 - 60 ] ، والصدر للين والعجز للشدة .
4 - ثقته بنفسه : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [ يوسف : من الآية 55 ] .
5 - قوة الذاكرة ؛ ليمكنه تذكر ما غاب ومضى له سنون ؛ ليضبط السياسات ويعرف للناس أعمالهم : { وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } [ يوسف : 58 ] .
6 - جودة المصورة والقوة المخيلة حتى تأتي بالأشياء تامة الوضوح : { إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : من الآية 4 ] .
7 - استعداده للعلم ، وحبه له ، وتمكنه منه : { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ } [ يوسف : 38 ] ، { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 22 ] ، { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } [ يوسف : من الآية 101 ] .
8 - شفقته على الضعفاء وتواضعه مع جلال قدره وعلو منصبه ، فخاطب الفتيين المسجونين بالتواضع فقال : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ } [ يوسف : من الآية 39 ] الآية ، وحادثهما في أمور دينهما ودنياهما ، فالأول بقوله : { لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ } [ يوسف : من الآية 37 ] . والثاني بقوله : { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } [ يوسف : من الآية 37 ] الآية ، وشهدا له بقولهما : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : من الآية 36 ] .
9 - العفو مع القدرة : { قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [ يوسف : 92 ] .
10 - إكرام العشيرة : { وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } [ يوسف : من الآية 93 ] .
11 - قوة البيان والفصاحة بتعبيره رؤيا الملك ، واقتداره على الأخذ بأفئدة الراعي والرعية والسوقة ، ما كان هذا إلا بالفصاحة المبنية على العلم والحكمة : { فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } [ يوسف : من الآية 54 ] .
12 - حسن التدبير : { فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ } [ يوسف : من الآية 47 ] الآية .
ثم تأمل في اقتدار يوسف عليه السلام على سياسة الملك ، وكيف اجتذب إليه القلوب بالإحسان : { وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ } [ يوسف : من الآية 62 ] الآية ، ودبر الحيلة العجيبة بمسألة الصواع والاتهام بالسرقة ليضم أخاه إليه : { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ } [ يوسف : من الآية 76 ] الآية ، وعامل المحكومين بشرعهم ودينهم وملتهم وعادتهم ، كما عليه جميع الأمم الشرقية الحية من الرفق بالأمة المحكومة لهم ، فيسوسونهم بدينهم وعادتهم وشرعهم وأخلاقهم وأموالهم ؛ إتباعاً لما رسمته الشريعة الغراء مما يناسب حكم سيدنا يوسف عليه السلام ، وذلك أنه أمر أتباعه أن يسألوهم : { قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ } [ يوسف : 74 ] الآية ، فكانت شريعة بني يعقوب أن يستعبدوا السارق سنة عند صاحب المتاع ، فعاملهم بما هم عليه ، لذلك يقول الله تعالى : { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ يوسف : من الآية 76 ] ، امتدح على حسن خطته في السياسة ومراعاته عادة أولئك القوم . وهذه - وإن كانت مسألة بسيطة الظاهر - فهي أم السياسة ورأس علوم العمران ، وأول ما يوصى به السواس والعقلاء ! .
تالله ! ما أجمل القرآن وما أبهج العلم ! وليت شعري كيف يقول الله بعدها : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ يوسف : من الآية 76 ] . ولولا ما فيها من مبدأ شريف وحكم عالية مع وضوحها وبساطتها لذوي النظر السطحي والبُله الغُفْل ؛ ما أعطاها هذا الجلال والإعظام ومدح العلم ! فحيا الله العلم وأدام دولته ! .
ومن العجيب الغريب تدبير هذه الحيلة بإخفاء الصواع ، ثم نظر أمتعتهم جميعاً : { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ } [ يوسف : من الآية 76 ] ، وهذه : - وأيم الله - هي بعينها ما يصنعه ملوك الأرض قاطبة اليوم من السياسات والتلطف في الأمور الخفية ، وإلباسها ألبسة مختلفة لسياسة بلادهم ، وطلباً لحصول المقاصد النافعة ، ودخولاً للبيوت من أبوابها ، ولكن بينهم وبين هذا النبي بون بعيد . . . ! فانظر كيف تعطي هذه القصة هذه الأمور العجيبة ! .
لعمري ! إن من طالع ما أمليناه بإمعان عن هذه القصة يتخيل عند تلاوتها أنه مشاهد أعمال الأمم الحاضرة والغابرة ! وكأنما طالع آراء أهل المدينة الفاضلة ، وعرف الحكماء وسواس الأمم ، وشاهد جمال العلم والأدب والحكمة والموعظة الحسنة ، حتى يعلم علم اليقين كيف قال الله في أول السورة : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } [ يوسف : 3 ] ، ويقول في آخرها : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ } [ يوسف : من الآية 102 ] ، ويقول : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ يوسف : 108 ] . ثم ذكر أن الإنسان لا ينبغي له أن ييأس من روح الله فقال : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ } [ يوسف : من الآية 110 ] الآية . ثم أفاد أن المقصود هو العبر والنظر لتأثير القصص وثمراتها ، لا مجرد تفسيرها ؛ إذ مجرد التفسير أمر بسيط يقنع به البسطاء . وإنما المقصد هو الاتعاظ والاعتبار ، فقال : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى } الآية .
وهذه ترشدك - إن كنت من ذوي الهمة العالية - أن تصبر نفسك مع الذين يتعلمون أمداً طويلاً ، ولا تعجل بالرئاسة حتى يبلغ الكتاب أجله ، وتنال حظاً وافراً من الأخلاق والعلوم . فلا بأس بالوظائف ونفع الأمة مع دوام المثابرة على العلم والاستزادة منه ! فلقد صبر هذا النبي عليه السلام أياماً وأياماً ، ولبس للحوادث أثواباً وأثواباً ، حتى إذا غلب اليأس جاء الفرج والرفعة ! .
فتأمل ! كيف كانت هذه السورة يقرؤها القارئون ، ويسمعها الجاهلون وهم عن آياتها معرضون ! فإذا سمعوا صوتاً حسناً ظنوا أن هذا هو جمال القرآن ، فقالوا للقارئ : سبحان من أعطاك ! وفرحوا بما عندهم من العلم بظواهر ورونق القراءة ، أو مجرد التفسير ومعرفة القصة ، ولم ينظروا إلى الحكم المودعة فيها ! فقبح الجهل ! يترك الرجل أعمى وإن لبس الحلل وارتدى ثياب الفخار الكاذب والسراب الخداع . . كم للإنسان من آيات وعبر في السماوات والأرض فيعرض عنها ! خلقت لنا الأبصار والأسماع والعقول لننظر ماذا في السماوات والأرض مما ذرأ المبدع في الكون ، وتلا القرآن - وهو كلام مبدع الكون - وتلطف في تصوير المعاني ، وألبسها أجمل لباس ، فأعرض العقلاء فضلاً عن العامة ! فما للعامة لا يتعلمون ! وما لذوي البصائر لا ينصحون ولا يبينون ؟ وما للناس لا يكادون يفقهون ؟ .
ذكرنا نموذجاً عن هذه السورة استنشاطاً لهمم العقلاء ، وحثاً لمن لهم ذكاء وفطن وعقول راجحة - على الرجوع إلى كتابهم ونظرهم فيه ، وإزالة لشبه من ارتاب في هذه القصص فأعرض ! وجلي أن قصص القرآن جميعها مملوءة بالحكم كهذه القصة ، وفي كل واحدة منها ما ليس في الأخرى كأنها ثمرات مختلف لونها ! أين من يفقه هذا ممن يقف مع ألفاظها وهم عن آياتها معرضون ؟ ولا عجب فإن نفوس الأسافل تأخذ الحكمة فترجعها من أفق سمائها إلى أرض ضعتها ، كما يصير الماء في شجرة الحنظل مراً . فيقصدها هذا للنغمات ، وذلك لقصة بسيطة ، وآخر تسلية وتضييعاً للزمن ، وآخر يقف عند الألفاظ وإعرابها وصرفها وبلاغتها .
ولكن هذا أرقى مما قبله فقد سار في الطريق وهي الألفاظ ، ولكن هيهات أن يصل للمقصود والثمرات إلا إذا أعدَّ تلك القواعد مقدمة للمقصود وبحث فيه ! وآخرون يسمعون الآيات فيعرضونها على التاريخ ، والمؤرخون مختلفون كما قدمنا . وما مثل هؤلاء في سيرهم إلا كمثل رجل أوتي آلة بخارية ليسقي بها الحرث من النهر ، فجلس بجانبها وترك استعمالها وأخذ يتفكر : من أين هذا الحديد ؟ ولم يجلب الماء ؟ وإلى أي : مسافة يرتفع ، وما العلة فيه ، ومن أين يأتي الفحم الحجري ، وفي أي : الطرق يسير إلى أن يصل إلينا ؟ فيمر عليه شهر وشهران فيذبل زرعه وتبور أرضه . ! ذلك مثل من يقرأ القرآن ويجعل جل عنايته تطبيقه على كلام المؤرخين أو قواعد النحويين أو الصرفيين وعلماء البلاغة فحسب ! اللهم إلا قدراً يسيراً للفهم ! وهذا - لعمر الله - انتكاس على الرأس ، واتخاذ الوسيلة مقصداً ، كمثل من أراد الحج فجعل همته إعداد الذخائر سنين ، فاختطفته المنون وفارق الحياة ولم يحج ! ذلك مثلهم . ! ! انتهى .
المبحث الثاني :
احتج من جوز المعصية على الأنبياء - وهم الكرامية والباقلاني - بما جرى من إخوة يوسف وبيعهم أخاهم وكذبهم لأبيهم ، وبما وقع من يوسف نفسه من أخذه أخاه وإيحاشه أباه .
قال الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله في " الملل والنحل " :
ما احتجوا به لا حجة فيه ؛ لأن إخوة يوسف ، عليه السلام ، لم يكونوا أنبياء ، ولا جاء قط - في أنهم أنبياء - نص لا من قرآن ، ولا من سنة صحيحة ، ولا من إجماع ، ولا من قول أحد من الصحابة رضي الله عنهم ! فأما يوسف عليه السلام فرسول الله بنص القرآن ، قال عز وجل : { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ } إلى قوله : { مِنْ بَعْدِهِ } [ غافر : من الآية 34 ] ، وأما إخوته فأفعالهم تشهد بأنهم لم يكونوا متورعين عن العظائم ، فكيف أن يكونوا أنبياء ؟ ! ولكن الرسولين - أباهم وأخاهم - قد استغفرا لهم وأسقطا التثريب عنهم !
وبرهان ما ذكرنا - من كذب من يزعم أنهم كانوا أنبياء - قول الله تعالى حاكياً عن الرسول أخيهم أنه قال لهم : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً } [ يوسف : من الآية 77 ] ، ولا يجوز البتة أن يقوله لنبي من الأنبياء ، نعم ، ولا لقوم صالحين ! ؛ إذ توقير الأنبياء فرض على جميع الناس ؛ لأن الصالحين ليسوا شراً مكاناً ، وقد عق ابن نوح أباه بأكثر مما عق به إخوة يوسف أباهم ، إلا أن إخوة يوسف لم يكفروا . ولا يحل لمسلم أن يُدخل في الأنبياء من لم يأت نص ولا إجماع أو نقل كافٍ بصحة نبوته ! ولا فرق بين التصديق بنبوة من ليس نبياً ، وبين التكذيب بنبوة من صحت نبوته منهم ! فإن ذكروا في ذلك ما روي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم وهو زيد بن أرقم : ( إنما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولاد الأنبياء أنبياء ! ) فهذه غفلة شديدة وزلة عالم ، من وجوه :
أولها : أنه دعوى لا دليل على صحتها ! .
وثانيها : أنه لو كان ما ذكر لأمكن أن ينبأ إبراهيم في المهد كما نبئ عيسى عليه السلام ، وكما أوتي يحيى الحكم صبياً ؛ فعلى هذا القول لعل إبراهيم كان نبياً ، وقد عاش عامين غير شهرين ، وحاشا لله من هذا . . ! .
وثالثها : أن ولد نوح كان كافراً بنص القرآن : عمل عملاً غير صالح . فلو كان أولاد الأنبياء أنبياء لكان هذا الكافر المسخوط عليه نبياً . وحاشا لله من هذا . . ! .
ورابعها : لو كان ذلك ، لوجب ولا بد أن تكون اليهود كلهم أنبياء إلى اليوم ، بل جميع أهل الأرض أنبياء ؛ لأنه يلزم أن يكون الكل من ولد آدم لصلبه أنبياء ؛ لأن أباهم نبي ، وأولاد أولادهم أنبياء ؛ لأن آباءهم أنبياء وهم أولاد أنبياء ، وهكذا . . . أبداً حتى يبلغ الأمر إلينا ! وفي هذا من الكفر لمن قامت عليه الحجة وثبت عليه ما لا خفاء به . وبالله تعالى التوفيق . . !
ثم قال ابن حزم :
وذكروا - يعني الكرامية ومن وافقهم - أيضاً أخذ يوسف عليه السلام أخاه ، وإيحاشه أباه عليه السلام منه ، وأنه أقام مدة يقدر فيها على أن يعرف أباه خبره وهو يعلم ما يقاسي به من الوجد عليه فلم يفعل ، وليس بينه وبينه إلا عشر ليال ! وبإدخاله صواع الملك في وعاء أخيه ، ولم يعلم بذلك سائر إخوته ، ثم أمر من هتف : { أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } [ يوسف : من الآية 70 ] ، وهم لم يسرقوا شيئاً ، ويقول الله تعالى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [ يوسف : من الآية 24 ] ، وبخدمته لفرعون ، وبقوله للذي كان معه في السجن : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّك } [ يوسف : من الآية 42 ] .
قال ابن حزم : وكل هذا لا حجة لهم في شيء منه ، ونحن نبين ذلك بحول الله تعالى وقوته ، فنقول وبالله تعالى نتأيد : أما أخذه أخاه وإيحاشه أباه منه فلا شك في أن ذلك ليرفق بأخيه وليعود إخوته إليه ، ولعلهم لو مضوا بأخيه لم يعودوا إليه وهم في مملكة أخرى ، وحيث لا طاعة ليوسف عليه السلام ولا لملك مصر هنالك ، وليكون ذلك سبباً لاجتماعه وجمع شمل جميعهم ! ولا سبب إلى أن يظن برسول الله يوسف عليه السلام الذي أوتي العلم والمعرفة بالتأويل - إلا أحسن الوجوه . وليس مع من خالفنا نص بخلاف ما ذكرنا . ولا يحل أن يظن بمسلم فاضل عقوق أبيه ، فكيف برسول الله صلوات الله عليه ؟ ! وأما ظنهم - أنه أقام مدة يقدر فيها على تعريف أبيه خبره ولم يفعل - فهذا جهل شديد ممن ظن هذا ؛ لأن يعقوب في أرض كنعان من عمل فلسطين ، في قوم رحالين خصاصين في لسان آخر وطاعة أخرى ودين آخر وأمة أخرى ! فلم يكن عند يوسف عليه السلام علم بعد فراقه أباه بما فعل ، ولا حي هو أو ميت ؛ أكثر من وعد الله تعالى بأن ينبئهم بفعلهم به ، ولا وجد أحداً يثق به ، فيرسل إليه ؛ للاختلاف الذي ذكرنا . وإنما يستسهل هذا اليوم من يرى أرض الشام ومصر لأمير واحد وملة واحدة ، ولساناً واحداً وأمة واحدة ، والطريق سابل ، والتجار ذاهبون وراجعون ، والرفاق سائرة ومقبلة ، والبُرُد ناهضة وراجعة ، فظن كل بيضاء شحمة ولم يكن الأمر حينئذ كذلك ، ولكن كما قدمنا ، ودليل ذلك أنه حين أمكنه لم يؤخره ، واستجلب أباه وأهله أجمعين عند ضرورة الناس إليه ، وانقيادهم له للجوع الذي كان عمَّ الأرض ، وامتيازهم عنده ، فانتظر وعد ربه تعالى الذي وعده حين ألقوه في الجب ، فأتوه ضارعين راغبين كما وعده تعالى في رؤياه قبل أن يأتوه . وأما قول يوسف لإخوته : { إِنَّكُم لَسَارقُونَ } وهم لم يسرقوا الصواع ، بل هو الذي كان قد أدخله في وعاء أخيه دونهم ؛ فقد صدق عليه السلام ؛ لأنهم سرقوه من أبيه وباعوه ، ولم يقل عليه السلام : إنكم سرقتم الصواع ، وإنما قال : { نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِك } [ يوسف : من الآية 72 ] ، وهو في ذلك صادق ؛ لأنه كان غير واجد له ، فكان فاقداً له بلا شك ! وأما خدمته عليه السلام لفرعون فإنما خدمه تقية ، وفي حق لاستنقاذ الله تعالى بحسن تدبيره ، ولعل الملك أو بعض خواصه ، قد آمن به إلا أن خدمته له على كل حال حسنة وفعل خير ، وتوصل إلى الاجتماع بأبيه وإلى العدل وإلى حياة النفوس ؛ إذ لم يقدر على المغالبة ولا أمكنه غير ذلك ، ولا مرية في أن ذلك كان مباحاً في شريعة يوسف عليه السلام بخلاف شريعتنا ، قال الله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } [ المائدة : من الآية 48 ] . وأما سجود أبويه فلم يكن ذلك محظوراً في شريعتهما بل كان فعلاً حسناً ، وتحقيق رؤياه الصادق من الله تعالى . ولعل ذلك السجود كان تحية كسجود الملائكة لآدم عليه السلام . إلا أن الذي لا شك فيه أنه لم يكن سجود عبادة ولا تذلل ، وإنما كان سجود كرامة فقط بلا شك . وأما قوله عليه السلام للذي كان معه في السجن : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } [ يوسف : من الآية 42 ] ، فما علمنا الرغبة في الانطلاق من السجن محظورة على أحد ، وليس في قوله ذلك دليل على أنه أغفل الدعاء إلى الله عز وجل ، لكنه رغَّب هذا الذي كان معه في السجن في فعل الخير وحضه عليه ! وهذا فرض من وجهين : أحدهما : وجوب السعي في كف الظلم عنه . والثاني : دعاؤه إلى الخير والحسنات . وأما قوله تعالى : { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } [ يوسف : من الآية 42 ] ، فالضمير الذي في ( أنساه ) وهو الهاء راجع إلى الفتى الذي كان معه في السجن ، أي : أن الشيطان أنساه أن يُذكر ربه أمر يوسف عليه السلام . ويحتمل أيضاً أن يكون أنساه الشيطان ذكر الله تعالى ، ولو ذكر الله عز وجل لذكر حاجة يوسف عليه السلام ، وبرهان ذلك قول الله عز وجل : { وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } [ يوسف : من الآية 45 ] فصح يقيناً أن المذكر بعد أمة هو الذي أنساه الشيطان ذكر ربه حتى تذكر . وحتى لو صح أن الضمير من ( أنساه ) راجع إلى يوسف عليه السلام ؛ لما كان في ذلك نقص ولا ذنب ؛ إذ ما كان بالنسيان فلا يبعد عن الأنبياء ! وأما قوله : { هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [ يوسف : من الآية 24 ] ، فليس كما ظن من لم يمعن النظر حتى قال من المتأخرين من قال : ( إنه قعد منها مقعد الرجل من المرأة ) ومعاذ الله من هذا أن يظن برجل من صالحي المسلمين أو مستوريهم ! فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم ! ! فإن قيل : إن هذا قد روي عن ابن عباس رضي الله عنه من طريق جيدة الإسناد ، قلنا : نعم ! ولا حجة في قول أحد إلا فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط ! والوهم في تلك الرواية إنما هي بلا شك عمن دون ابن عباس ، أو لعل ابن عباس لم يقطع بذلك ، إذ إنما أخذه عمن لا يدرى من هو ، ولا شك في أنه شيء سمعه فذكره ؛ لأنه رضي الله عنه لم يحضر ذلك ولا ذكره عن رسول الله ، ومحال أن يقطع ابن عباس بما لا علم له به ! لكن معنى الآية لا يعدو أحد وجهين : إما أنه همَّ بالإيقاع بها وضربها ، كما قال تعالى : { وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } [ غافر : من الآية 5 ] ، وكما يقول القائل : لقد هممت بك ، لكنه عليه السلام امتنع من ذلك ببرهان أراه الله إياه استغنى به عن ضربها ، وعلم أن الفرار أجدى عليه وأظهر لبراءته ، على ما ظهر بعد ذلك من حكم الشاهد بأمر قدِّ القميص . والوجه الثاني : أن الكلام تم عند قوله : { ولَقَدْ همَّتْ بهِ } ثم ابتدأ تعالى خبراً آخر فقال : { وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ } وهذا ظاهر الآية بلا تكلف تأويل ، وبهذا نقول . وبرهان ربه ها هنا : هو النبوة وعصمة الله عز وجل إياه ، ولولا البرهان لكان يهم بالفاحشة ، وهذا لا شك فيه ! ولعل من ينسب هذا إلى النبي المقدس يوسف ؛ ينزه نفسه الرذلة عن مثل هذا المقام فيهلك . وقد خشي النبي صلى الله عليه وسلم الهلاك على من ظن به ذلك الظن ؛ إذ قال للأنصاريين حين لقيهما : < هذه صفية > ومن الباطل الممتنع أن يظن ظان أن يوسف عليه السلام همَّ بالزنى وهو يسمع قول الله تعالى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ } [ يوسف : من الآية 24 ] فنسأل من خالفنا عن الهمِّ بالزنى : سوء هو أم غير سوء ؟ فلا بد أنه سوء ، ولو قال : إنه ليس بسوء لعاند الإجماع ، فإذ هو سوء ، وقد صرف عنه السوء ، فقد صرف عنه الهم بيقين ! وأيضاً فإنها قالت : { مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً } [ يوسف : من الآية 25 ] وأنكر هو ذلك فشهد الصادق المصدق : { إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [ يوسف : 27 ] ، فصح أنها كذبت بنص القرآن ، وإذ كذبت بنص القرآن فما أراد بها قط سوءاً ، فما همَّ بالزنى قط . ولو أراد بها الزنى لكانت من الصادقين ، وهذا بيِّنٌ جداً ، وكذلك قوله تعالى عنه أنه قال : { وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ } [ يوسف : من الآية 33 ] فصح عنه أنه قط لم يصْبُ إليها .
انتهى كلام ابن حزم عليه الرحمة والرضوان . وإنما نقلت كلامه برمته ؛ لأنه كما قيل :
( وما محاسن شيء كله حسن . . . ! ! )(/)
سورة الرعد
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ 1 ] .
قال أبو السعود : { المر } اسم للسورة ، ومحله : إما الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هذه السورة مسماة بهذا الاسم ، وهو أظهر من الرفع على الابتداء ؛ إذ لم يسبق العلم بالتسمية . وقوله تعالى : { تِلْكَ } على الوجه الأول : مبتدأ مستقل ، وعلى الوجه الثاني : مبتدأ ثان ، أو بدل من الأول أشير به إليه إيذاناً بفخامته ، وإما النصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو : اقرأ أو اذكر ، فـ : { تلك } مبتدأ كما إذا جعل : { المر } مسروداً على نمط التعديد ، والخبر على التقادير ، قوله تعالى : { آيَاتُ الْكِتَابِ } أي : الكتاب العجيب الكامل الغني عن الوصف به ، المعروف بذلك من بين الكتب ، الحقيق باختصاص اسم الكتاب به ، فهو عبارة عن جميع القرآن ، أو عن الجميع المنزل حينئذ . وقوله تعالى : { وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } أي : من الكتاب المذكور بكماله : { الْحَقُّ } أي : الثابت المطابق للواقع في كل ما نطق به ، الحقيق بأن يخص به الحقية لعراقته فيها ، وقصور غيره عن مرتبة الكمال فيها . وفي التعبير عنه بالموصول ، وإسناد الإنزال إليه بصيغة المبني للمفعول ، والتعرض لوصف الربوبية مضافاً إلى ضميره عليه السلام ، من الدلالة على فخامة المنزل التابعة لشأن جلالة المنزل وتشريف المنزل إليه ، والإيماء إلى وجه الخبر ؛ ما لا يخفى . . . . ! انتهى ملخصاً بزيادة .
لطيفة :
في : { الَّذِيَ أُنزِلَ } وجهان : أحدهما هو في موضع رفع ، و : { الْحَقُّ } خبره ، أو الخبر : { منْ رَبِّكَ } و : { الْحَقُّ } خبر محذوف ، أو خبر بعد خبر . وثانيهما : محله الجر بالعطف على : { الْكِتَابِ } عطف العام على الخاص أو إحدى الصفتين على الأخرى ، أو بتقدير زيادة الواو في الصفة ، و : { الْحَقُّ } خبر محذوف ، ومنع كثير من النحاة زيادة الواو في الصفات . وآخرون على جوازها لتأكيد اللصوق ، أي : الجمع والاتصال ؛ لأنها كما تجمع المعطوف بالمعطوف عليه ، كذلك تجمع الموصوف بالصفة ، وتفيد أن اتصافه به أمر ثابت ، وقوله تعالى : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي : بذلك الحق لرفضهم التدبر فيه شقاقاً وعناداً . وهذا كقوله تعالى : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } [ 2 ] .
يخبر تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه أنه الذي بقدرته رفع السماوات ، أي : خلقهن مرتفعات عن الأرض ارتفاعاً لا ينال ولا يدرك مداه . وقوله تعالى : { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } أي : أساطين ، جمع عماد أو عمود . وقوله تعالى : { تَرَوْنَهَا } إما استئناف للاستشهاد برؤيتهم السماوات كذلك ، كقول الشاعر :
~أنا بلا سيف ولا رمح تراني
أو صفة لـ ( عمد ) جيء بها إبهاماً ؛ لأن لها عمداً غير مرئية ، وإليه ذهب كثير من السلف ، ورجح ابن كثير الأول ، وأنها لا عمد لها ، قال : وهذا هو اللائق بالسياق والظاهر من قوله تعالى : { وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِه } [ الحج : من الآية 65 ] ، والأكمل أيضاً في القدرة . وقوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } تقدم تفسيره في سورة الأعراف ، وأنه يمر كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل . وقوله تعالى : { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } أي : ذللهما لما أراد منهما من نفع العالم السفلي . وقوله تعالى : { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى } أي : لغاية معينة ينقطع دونها سيره ، وهو قيام الساعة ، كقوله تعالى : { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا } [ يس : من الآية 38 ] ، وقد بين ذلك في قوله تعالى : { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } [ التكوير : 1 ] و : { وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ } [ الانفطار : 2 ] والاقتصار على الشمس والقمر ؛ لأنهما أظهر الكواكب وأعظم من غيرهما ، فتسخير غيرهما يكون بطريق الأولى . وقد جاء التصريح بتسخيرهما مع غيرهما في قوله تعالى : { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر } [ الأعراف : من الآية 54 ] وقوله تعالى : { يُدَبِّرُ الأَمْرَ } أي : أمر العالم العلوي والسفلي ويصرفه ويقضيه بمشيئته وحكمته على أكمل الأحوال ، لا يشغله شأن عن شأن . وقوله تعالى : { يُفَصِّلُ الآيَاتِ } يعني : الآيات الدالة على وحدته وقدرته ونعوته الجليلة . أي : يبينها في كتبه المنزلة . وقوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } أي : لعلكم توقنون وتصدقون بأن هذا المدبر والمفصل ، لا بد لكم من المصير إليه ، بالبعث بعد الموت للجزاء ؛ فإن من تدبر حق التدبر ؛ أيقن أن من قدر على إبداع ما ذكر من الآيات العلوية ؛ قدر على الإعادة والجزاء ! .
لطائف :
الأولى : جُوَّزَ في قوله تعالى : { اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ } أن يكون الموصول خبراً ، وأن يكون صفة ، والخبر : { يُدَبِّرُ الأَمْرَ } ورجح في " الكشف " الأول ، بأن قوله الآتي : { وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ } [ الرعد : من الآية 3 ] ، عطف عليه على سبيل التقابل بين العلويات والسفليات ، وفي المقابل الخبرية متعينة ، فكذا هذا ليتوافقا . والجملة مقررة لقوله : { وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ } [ الرعد : من الآية 1 ] ، وعدل عن ضمير الرب إلى الجلالة لترشيح التقرير . كأنه قيل : كيف لا يكون المنزل ممن هذه أفعاله هو الحق ؟ وتعريف الطرفين لإفادة أنه لا مشارك له فيها ؛ لا سيما وقد جعل صلة للموصول ، وهذا أشد مناسبة للمقام من جعله وصفاً مفيداً لتحقيق كونه مدبراً مفصلاً ، مع التعظيم لشأنهما . والمقصود بالإفادة قوله : { لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } فالمعنى : أنه فعلها كلها لذلك .
الثانية : قال القاضي : قوله تعالى : { رَفَعَ السَّمَاواتِ } الخ دليل على وجود الصانع الحكيم ، فإن ارتفاعها على سائر الأجسام المساوية لها في حقيقة الجرمية ، واختصاصها بما يقتضي ذلك ؛ لا بد وأن يكون بمخصص ليس بجسم ولا جسماني ، يرجح بعض الممكنات على بعض بإرادته ، وعلى هذا المنهاج سائر ما ذكر من الآيات .
الثالثة : { يُدبِّر } و : { يُفصِّل } يقرآن بالياء والنون . وهما مستأنفان . أو الأول حال من ضمير ( سخر ) والثاني من ضمير ( يدبر ) أو كلاهما من ضمائر الأفعال المذكورة .
ولما قرر الشواهد العلوية ؛ أردفها بذكر الدلائل السفلية على قدرته وحكمته . فقال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ 3 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ } أي : بسطها وجعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض لإخراج النعم الكثيرة منها .
قال الشهاب : استدل به بعضهم على تسطيح الأرض ، وأنها غير كرية بالفعل . وأن من أثبته أراد به أنه مقتضى طبعها ! ورد بأنه ثبت كريتها بأدلة عقلية ، لكنه لعظم جرمها يشهد كل قطعة وقطر منها كأنه مسطح ! وهكذا كل دائرة عظيمة . ولا يعلم كريتها إلا هو تعالى .
{ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ } أي : جبالاً ثوابت أوتاداً لها يكثر فيها النبات وتنحفظ تحتها المياه : { وَأَنْهَاراً } متفجرة منها ، وذلك لتكثير النبات والأشجار وحفظ الحيوان : { وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } أي : صنفين اثنين كالحلو والحامض ، والأسود والأبيض ، والصغير والكبير ، والبستاني والجبلي .
قال المهايمي : ليفيد كل صنف فائدة غير فائدة الآخر ، فكان كل صنف نعمة بعد الإنعام بأصول الأصناف ، وجعل لإتمام الإنعام بالأصناف المختلفة الطبائع ؛ لئلا تجتمع فتضار متناولها فصولاً مختلفة إذ :
{ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ } أي : يلبسه مكانه فيصير أسود مظلماً بعد ما كان أبيض منيراً فبطول الليل يحصل الشتاء ، وبطول النهار يحصل الصيف ، وبأحد الاعتدالين يحصل الخريف ، وبالآخر الربيع : { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : في مد الأرض وما بعده : { لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي : لآيات باهرة لقوم يتفكرون فيستدلون بأن تكوين ما ذكر على هذا النمط البديع لا بد له من قادر حكيم ! أو يتفكرون فيعلمون أن تكثير النعم لجلب محبة المنعم بصرفها إلى ما خلقت من أجله . والمحبة موجبة للرجوع إليه . وفيه إشارة إلى أن من دبر ذلك لمعايشهم ، أفلا ينعم عليهم بإرسال رسل وإنزال كتب ترشدهم إلى ما فيه سعادتهم ؟ بلى ، وهو أحكم الحاكمين .
لطائف :
الأولى : قال الرازي : من الاستدلال بأحوال الجبال ، أن بسببها تتولد الأنهار على وجه الأرض . وذلك أن الحجر جسم صلب . فإذا تصاعدت الأبخرة من قعر الأرض ووصلت إلى الجبل احتبست هناك ، فلا تزال تتكامل فيحصل تحت الجبل مياه عظيمة . ثم إنها لكثرتها وقوتها تثقب وتخرج وتسيل على وجه الأرض . فمنفعة الجبال في تولد الأنهار هو من هذا الوجه ، ولهذا السبب . ففي أكثر الأمر أينما ذكر الله الجبال ؛ قرن بها ذكر الأنهار ، مثل ما في هذه الآية ، ومثل قوله : { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً } [ المرسلات : 27 ] .
الثانية : أشار الرازي إلى أن الناس ، كما ابتدأوا من زوجين اثنين بالشخص ، هما آدم وحواء ، فكذا الأشجار والزروع خلقت أولاً من زوجين اثنين ثم كثرت ، والله أعلم .
الثالثة : في قوله : { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ } استعارة تبعية تمثيلية مبنية على تشبيه إزالة نور الجو بالظلمة ، بتغطية الأشياء الظاهرة بالأغطية ، أي : يستر النهار بالليل . والتركيب وإن احتمل العكس أيضاً - بالحمل على تقديم المفعول الثاني على الأول - فإن ضوء النهار أيضاً ساتر لظلمة الليل ، إلا أن الأنسب بالليل أن يكون هو الغاشي . وعد هذا في تضاعيف الآيات السفلية وإن كان تعلقه بالآيات العلوية ظاهراً - باعتبار أن ظهوره في الأرض - فإن الليل إنما هو ظلها ، وفيما فوق موقع ظلها لا ليل أصلاً . ولأن الليل والنهار لهما تعلق بالثمرات من حيث العقد والإنضاج ، على أنهما أيضاً زوجان متقابلان مثلها .
وقرئ ( يغشّي ) من التغشية - أفاده أبو السعود - .
ثم بيَّن تعالى طائفة من الآيات بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ 4 ] .
{ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ } أي : بقاع متقاربات مختلفة الطبائع . فمن طيبة إلى سبخة ، ومن صلبة إلى رخوة ، مما يدل على قادر مدبر مريد حكيم في صنعه : { وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } جمع صنو ، وهي نخلة أصلها واحد وفروعها شتى ، وفي " القاموس " النخلتان ، فما زاد في الأصل الواحد ، كل واحدة منهما صنو ، ويضم . أو عام في جميع الشجر ، وإفراد الزرع لأنه مصدر في الأصل يشمل القليل والكثير : { يُسْقَى } قرئ بالتحتية والفوقية : { بِمَاءٍ وَاحِدٍ } أي : بماء المطر أو بماء النهر : { وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ } فتتفاضل قدراً وشكلاً ورائحةً وطعماً . والأكل ، قرئ بضم الهمزة والكاف وتسكينها وهو ما يؤكل ، وهو هنا الثمر والحب . والمجرور إما ظرف لـ ( نفضل ) أو حال من بعضها ، أي : نفضل بعضها مأكولاً . أو : وفيه الأكل : { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : الذي فصل : { لَآيَاتٍ } على وحدانيته تعالى وباهر قدرته : { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } فإن من عقل ما تقدم جزم بأن من قدر على إبداعها وخلقها مختلفة الأشكال والألوان والطعوم والروائح في تلك البقاع المتباينة المتجاورة ، وجعلها حدائق ذات بهجة ؛ قادر على إعادة ما أبداه ، بل هو أهون في القياس .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ } [ 5 ] .
{ وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، أي : إن تعجب من شيء فقولهم عجيب حقيق بأن يقتصر عليه التعجب ؛ لأن من شاهد ما عدد من الآيات العجيبة التي تدل على قدرة يصغر عندها كل عظيم ؛ أيقن بأن من قدر على إنشائها ولم يعي بخلقها ، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره ، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب . وجوز أن يكون خطاباً لكل من يصلح له ، أي : إن تعجب ، يا من نظر في هذه الآيات ، وعلم قدرة من هذه أفعاله ، فازدد تعجباً ممن ينكر مع هذا ، قدرته على البعث ، وهو أهون من هذه ! .
قال أبو السعود : والأنسب بقوله : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَة } [ الرعد : من الآية 6 ] هو الأول و ( عجب ) خبر قدم على المبتدأ للقصر ، والتسجيل من أول الأمر بكون قولهم : ذاك أمرٌ عجيباً .
وقوله تعالى : { أُوْلَئِكَ } أي : المنكرون لقدرته على البعث : { الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ } أي : تمادوا في الكفر ؛ فإن من أنكر قدرته تعالى فقد أنكره ؛ لأن الإله لا يكون عاجزاً ، وفيه تكذيب لخبره ولرسله عليهم السلام : { وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ } أي : السلاسل في أيمانهم مشدودة إلى أعناقهم يوم القيامة ؛ لأنهم غلوا أفكارهم عن النظر في هذه الأمور ، كما جعلوا خالقهم مغلول القدرة على ذلك وهو القادر الحكيم .
{ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } [ 6 ] .
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ } أي : يستعجلونك بالعقوبة قبل العافية والسلامة منها ، وذلك أنهم سألوا رسول الله صلوات الله عليه ، أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بإنذاره .
قال الشهاب : والمراد بكونها قبل الحسنة ، أن سؤالها قبل سؤالها ، أو أن سؤالها قبل انقضاء الزمان المقدر لها ! .
{ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ } أي : عقوبات أمثالهم من المكذبين . فما لهم لا يعتبرون بها ولا يخشون حلول مثلها ؟ أو العقوبات التي يضرب بها المثل في الشدة . والجملة حالية أو مستأنفة . و ( المثلات ) قراءة العامة فيها فتح الميم وضم الثاء جمع مثُلة - كسمرة وسمرات - وهي العقوبة الفاضحة . سميت بها لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة ، كقوله : { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } أو هي مأخوذة من المثال بمعنى القصاص ، ويقال : أمثلته وأقصصته بمعنى واحد ، أو هي من المثل المضروب لعظمها . وقرئ بفتح الميم وسكون المثلثة ، وهي لغة أهل الحجاز ، وقرئ بضم الميم وسكون المثلثة ، وقرئ بفتحهما وبضمهما .
وقوله تعالى : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ } من الناس من حمل المغفرة على المتعارف منها ، وهو مغفرة الذنوب مطلقاً إلى حيث دل الدليل على التقييد في غير الموحد ، فإن ظلمه - أعني شركه - لا يغفر . . وما عدا الشرك فغفرانه في المشيئة . ومنهم من ذهب إلى المغفرة مراداً بها معناها اللغوي . وهو الستر والصفح ، بالإمهال وتأخير العقاب إلى الآخرة ، أي : إنه ذو صفح عظيم لا يعاجل بالعقوبة . مع أنهم يظلمون ويخطئون بالليل والنهار . كما قال سبحانه : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّة } [ فاطر : من الآية 45 ] ، وهذا التأويل أنسب بالسياق الرهيب ! .
وعجب من الشهاب حيث وافق الرازي في دعواه ( إن تأخير العقاب لا يسمى مغفرة ؛ لأنه مخالف للظاهر ، ولاستعمال القرآن ، وللزومه كون الكفار كلهم مغفوراً لهم لأجل تأخير عقابهم إلى الآخرة ) ولا يخفاك صحة تسميته مغفرة ؛ لأنه في اللغة الستر ، ومن أفراده الستر بالإمهال ؟ ودعوى أنه مخالف للظاهر ولاستعمال القرآن تحكم بحت على أسلوب القرآن ، بإرجاعه إلى ما أصّلوه . مع أن التحاكم إليه في الفروع والأصول ، وهو الحجة في اللغة والاستعمال ! ودعوى فساد اللزوم وتهويل خطبه فارغة ؛ لأنه لا محذور في ذلك ، لا سيما وهو المناسب لاستعجالهم العذاب المذكور قبل ، فالتلازم صحيح ! ثم من المقرر أن القرآن يفسر بعضه بعضاً ، فهذه الآية في معناها كآية : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ } الخ . فما ذكر من التأويل مؤيد بهذه الآية ، فتفطن ولا تكن أسير التقليد . . !
ولما بين تعالى سعة حلمه قرنه ببيان قوة عقابه ؛ ليعتدل الرجاء والخوف ، فقال سبحانه : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } أي : لمن شاء ، كما قال تعالى : { فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [ الأنعام : 147 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الأعراف : من الآية 167 ] ، وقال سبحانه : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ } [ الحجر : 49 - 50 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [ 7 ] .
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } وهم المستعجلون بالسيئة المتقدمون .
قال أبو السعود : وإنما عدل عن الإضمار إلى الموصول ؛ ذماً لهم ونعياً عليهم كفرهم بآيات الله تعالى التي تخر لها صم الجبال ، حيث لم يرفعوا لهم رأساً ، ولم يعدوها من جنس الآيات ، وقالوا عناداً :
{ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } أي : مثل آيات موسى وعيسى عليهما السلام ، أو مثل ما يقترحون من جعل الصفا ذهباً ، أو إزاحة الجبال وجعل مكانها مروجاً وأنهاراً : { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ } أي : مرسل للإنذار والتخويف من سوء عاقبة ما يأتون ويذرون ، وناصح كغيرك من الرسل ، فما عليك إلا البلاغ ، لا إجابة المقترحات : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } أي : نبي داع إلى الحق مرشد بالآية التي تناسب زمنه ، كقوله تعالى : { وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : من الآية 24 ] ، تعريض بأنه صلى الله عليه وسلم ليس بدعاً من الرسل . فقد خلا قبله الهداة الداعون إلى الله ، عليهم السلام . أو المعنى : لكل قوم هاد عظيم الشأن ، قادر على هدايتهم ، هو الله سبحانه ، فما عليك إلا إنذارهم لا هدايتهم . وإيتاؤهم الإيمان وصدهم عن الجحود ؛ فإن ذلك لله وحده كقوله تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء } [ البقرة : من الآية 272 ] ، أو المعنى : { لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } قائد يهديهم إلى الرشد . وهو الكتاب المنزل عليهم الداعي بعنوان الهداية إلى ما فيه صلاحهم . يعني : أن سر الإرسال وآيته الفريدة ؛ إنما هو الدعاء إلى الهدى وتبصير سبله ، والإنذار من الاسترسال في مساقط الردى . وقد أنزل عليك من الهدى أحسنه . فكفى بهدايته آية كبرى وخارقة عظمى . وأما الآيات المقترحة فأمرها إلى الله ، وقد لا يفيد إنزالها هداية ! قال تعالى : { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُون } [ الإسراء : من الآية 59 ] ، { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ } [ الأنعام : من الآية 109 ] ، مع ما يستتبع الإصرار بعدها من الأخذ بلا إمهال ! : { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } [ الأحزاب : 62 ] .
قال الشهاب : وجوز عطف ( هاد ) على ( منذر ) وجعل المتعلق مقدماً عليه ، للفاصلة فيدل على عموم رسالته وشمول دعوته . وقد يجعل خبر مبتدأ مقدر ، أي : وهو هاد ، أو وأنت هاد ، وعلى الأول فيه التفات .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ } [ 8 - 9 ] .
{ اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى } جملة مستأنفة ، جواب سؤال وهو : لماذا لم يجابوا لمقترحهم فتنقطع حجتهم فلعلهم يهتدون بأنه آمر مدبر عليم نافذ القدرة فعال لما تقتضيه حكمته البالغة دون آرائهم السخيفة ؟ وهذا على أن ( الهادي ) بمعنى ( الداعي إلى الحق ) .
وإن كان المراد به الله سبحانه ؛ فالجملة تفسير لقوله ( هاد ) أو مقررة مؤكدة لذلك . كذا في " العناية " .
وأشار الرازي إلى أن الآية : إما متصلة بما قبلها مشيرة إلى أنه تعالى واسع العلم لا يخفى عليه أن اقتراحهم عناد وتعنت ، وأنهم لا يزدادون بإظهار مقترحهم إلا عناداً ، فلذا لم يجابوا إليه . وإما متصلة بقوله : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ } يعني أنه تعالى عالم بجميع المعلومات . فهو تعالى إنما ينزل العذاب بحسب ما يعلم أن فيه مصلحة .
ثم إن لفظ ( ما ) في قوله تعالى : { مَا تَحْمِلُ } مصدرية أو موصولة ، أي : حملها ، أو ما تحمله من الولد ، على أي : حالة هو من ذكورة وأنوثة ، وتمام وخداج ، وحسن وقبح ، وطول وقصر . . . . وغير ذلك من الأحوال الحاضرة والمترقبة .
{ وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ } أي : تنقص من الحمل : { وَمَا تَزْدَادُ } أي : تأخذه زائداً .
قال الزمخشري : ومما تنقصه الرحم وتزداده عدد الولد ؛ فإنها تشمل على واحد ، وقد تشتمل على اثنين وثلاثة وأربعة . ويروى أن شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمه ، ومنه جسد الولد فإنه يكون تاماً ومخدجاً . ومنه مدة ولادته ، فإنها تكون أقل من تسعة أشهر وأزيد عليها ، ومنه الدم فإنها يقل ويكثر .
{ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } أي : بقدر وحدٍّ لا يجاوزه حسب قابليته ، كقوله تعالى : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [ القمر : 49 ] ، وقوله : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [ الفرقان : من الآية 2 ] ، وذلك أنه تعالى خص كل مكون بوقت وحل معينين ، وهيأ لوجوده وبقائه أسباباً مسوقة إليه تقتضي ذلك : { عَالِمُ الْغَيْبِ } أي : ما غاب عن الحس : { وَالشَّهَادَةِ } أي : ما شهده الحس : { الْكَبِيرُ } أي : العظيم الشأن الذي كل شيء دونه : { الْمُتَعَالِ } أي : المستعلي على كل شيء بقدرته . أو المنزه عن صفات المخلوقين ، المتعالي عنها .
وأكثر القراء على حذف ياء : { الْمُتَعَالِ } تخفيفاً ، وصلاً ووقفاً ، وقرئ بإثباته فيهما على الأصل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } [ 10 ] .
{ سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ } أي : في نفسه : { وَمَن جَهَرَ بِهِ } أي : لغيره : { وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ } أي : طالب الخفاء في مختبأ بالليل في ظلمته : { وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } أي : ذاهب في سربه ، أي : في طريقه يبصره كل أحد .
لطيفة :
قيل : إن ( سواء ) بمعنى الاستواء ، وهو يقتضي ذكر شيئين ، وهنا إذا كان ( سارب ) معطوفاً على جزء الصلة أو الصفة ؛ يكون شيئاً واحداً .
وأجيب عنه بوجهين : الأول : أن ( سارب ) معطوف على ( من هو ) لا على ( مستخف ) كأنه قيل : سواء منكم إنسان هو مستخف وآخر هو سارب . والثاني : أنه عطف على ( مستخف ) ، إلا أن ( من ) في معنى الاثنين ، كقوله :
~*نكن مثل من يا ذئب يصطحبان*
كأنه قيل : سواء منكم اثنان : هما مستخف وسارب . وعلى الوجهين ( من ) موصوفة لا موصولة . فيحمل الأولان على ذلك ليتوافق الكل .
وهناك وجه آخر وهو أن يكون الموصول محذوفاً وصلته باقية ، والمعنى : ومن هو مستخف بالليل ومن سارب بالنهار . وحذف الموصول المعطوف وبقاء صلته شائع ، خصوصاً وقد تكرر الموصول في الآية ثلاثاً . ومنه قوله تعالى : { وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُم } [ الأحقاف : من الآية 9 ] . والأصل : ولا ما يفعل بكم . وإلا كان حرف النفي دخيلاً في غير موضعه ؛ لأن الجملة الثانية لو قدرت داخلة في صلة الأول بواسطة العاطف لم يكن للنفي موقع ، وإنما صحب في الأول الموصول لا الصلة ، ومنه قول حسان رضي الله عنه :
~فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء !
أي : ومن يمدحه وينصره .
وهذا الأخير نقله الناصر في " الانتصاف " وهو وجيه جداً . وأما تضعيف غيره له بلزوم حذف الموصول وصدر الصلة معاً ، وأن النجاة وإن ذكروا جواز كل منهما ، لكن اجتماعهما منكر ؛ فهو المنكر ؛ لأن أسلوب التنزيل هو الحجة ، وإليه التحاكم في كل فن ومحجة . والجمود على القواعد ورد ما خالفها إليها - من التعصب واللجاج ، والغفلة عن مقام التنزيل في الاحتجاج ! .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } [ 11 ] .
{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ } أي : لمن أسر أو جهر أو استخفى أو سرب ، ملائكة يتعاقبون عليه : { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } أي : من جوانبه كلها ، أو من أعماله ، ما قدم وأخر : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ } أي : يراقبون ما يلفظ من قول وما يأتي من عمل ، خيراً أو شراً ، بأمره وإذنه ، أو من أجل أمره لهم بحفظه . فـ ( من ) تعليلية أو بمعنى باء السببية ، ولا فرق بين العلة والسبب عند النجاة ، وإن فرق بينهما أهل المعقول .
وفي ( الصحيح ) : < يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار . ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر . فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقول : أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون > .
وفي الحديث الآخر : < إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء ، وعند الجماع ، فاستحيوهم وأكرموهم > .
و ( المعقبات ) جمع معقبة من ( عقب ) مبالغة في ( عقب ) فالتفعيل للمبالغة والزيادة في التعقيب فهو تكثير للفعل أو الفاعل ، لا للتعدية ؛ لأن ثلاثيه متعد بنفسه . أصل معنى ( العقب ) مؤخر الرجل ، ثم تجوَّز به عن كون الفعل بغير فاصل ومهلة ، كأن أحدهم يطأ عقب الآخر . قال الراغب : عقبه إذا تلاه نحو دبره وقفاه . وقيل : هو من ( اعتقب ) أدغمت التاء في القاف ؛ وردوه بأن التاء لا تدغم في القاف من كلمة أو كلمتين . وقد قال أهل التصريف : إن القاف والكاف ، كل منهما يدغم في الآخر ولا يدغمان في غيرهما . والتاء في ( معقبة ) واحدة ( المعقبات ) للمبالغة لا للتأنيث ؛ لأن الملائكة لا توصف به . مثل نسابة وعلامة . أو هي صفة جماعة وطائفة { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ } ظرف مستقر صفة : { مُعَقِّباتٌ } أو ظرف لغو متعلق بها . و ( من ) لابتداء الغاية أو حال من الضمير الذي في الظرف الواقع خبراً . والكلام على هذه الأوجه يتم عند قوله : { وَمنْ خَلْفِهِ } . ويجوز أن يكون ظرفاً لـ : { يَحْفَظُونَهُ } أي : معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، أي : تحفظ ما قدم وأخر من الأعمال ، كناية عن حفظ جميع أعماله . ويجوز أن يكون : { يَحْفَظُونَهُ } صفة لـ : { مُعَقِّباتٌ } أو حالاً من الظرف قبله ، بمعنى أن المعقبات محيطة بجميع جوانبه .
تنبيهات :
الأول : ما قدمناه في معنى الآية هو الأشهر . وعن ابن عباس : هو السلطان الذي له حرس من بين يديه ومن خلفه .
قال الزمخشري : أي : يحفظونه في توهمه وتقديره من أمر الله . أي : من قضاياه ونوازله ، أو على التهكم به .
قال الرازي : وهذا القول اختاره أبو مسلم الأصفهاني . والمعنى : أنه يستوي في علم الله تعالى السر والجهر ، والمستخفي بظلمة الليل والسارب المستظهر بالأعوان والأنصار ، وهم الملوك والأمراء . فمن لجأ إلى الليل فلن يفوت الله أمره ، ومن سار نهاراً بالمعقبات ، وهم الحراس والأعوان الذين يحفظونه ؛ لم ينجه حرسه من الله تعالى ! والمعقب العون ؛ لأنه إذا أبصر هذا ذاك فلا بد أن يبصر ذاك هذا ، فتصير بصيرة كل واحد منهم معاقبة لبصيرة الآخر ، فهذه المعقبات لا تخلص من قضاء الله ومن قدره ! وهم وإن ظنوا أنهم يخلصون مخدومهم من أمر الله ومن قضائه ، فإنهم لا يقدرون على ذلك البتة ! . والمقصود من هذه الجملة : بعث السلاطين والأمراء والكبراء على أن يطلبوا الخلاص من المكاره عن حفظ الله وعصمته ، ولا يعولوا في دفعها على الأعوان والأنصار ، ولذلك قال تعالى بعد : { وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً } الآية .
الثاني : قدمنا أن الضمير في : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ } لمن أسر أو جهر . . الخ . وأرجعه بعضهم لله ، وما بعده ( لمن ) . قال الشهاب : فيه تفكيك للضمائر من غير داع . وقيل : الضمير ( لمن ) الأخير ، وقيل : للنبي ؛ لأنه معلوم من السياق .
الثالث : أشار الرازي في معنى الآية الأشهر إلى سر اختصاص الحفظة ببني آدم ، ما ملخصه : إنهم يدعون إلى الخيرات والطاعات بما يجده المرء من الدواعي القلبية إليها ، وإن الإنسان إذا علم أن الملائكة تحصي عليه أعماله كان إلى الحذر من المعاصي أقرب ؛ لأن من آمن يعتقد جلالة الملائكة وعلو مراتبهم ، فإذا حاول الإقدام على معصية واعتقد أنهم يشاهدونها ؛ زجره الحياء منهم عن الإقدام عليها ، كما يزجره عنه إذا حضره من يعظمه من البشر . وإذا علم أن الملائكة تحصي عليه تلك الأعمال ؛ كان ذلك أيضاً رادعاً له عنها . وإذا علم أن الملائكة يكتبونها كان الردع أكمل . !
{ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ } أي : من العافية والنعمة : { حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } أي : من الأعمال الصالحة أو ملكاتها ، التي هي فطرة الله التي فطر الناس عليها إلى أضدادها : { وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً } أي : لسوء اختيارهم واستحقاقهم لذلك : { فَلاَ مَرَدَّ لَهُ } أي : فلا رد لقضائه فيهم : { وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } أي : يلي أمرهم فيدفع عنهم السوء الذي أراده الله بهم بما قدمت أيديهم من تغيير ما بهم . وفيه دلالة على أن تخلف مراده تعالى محال . وإيذان بأنهم بما باشروه من إنكار البعث واستعجال السيئة واقتراح الآية قد غيروا ما بأنفسهم من الفطرة ، واستحقوا لذلك حلول غضب الله تعالى وعذابه - أفاده أبو السعود - .
تنبيه :
في هذه الآية وعيد شديد وإنذار رهيب قاطع ، بأنه إذا انحرف الآخذون بالدين والمنتمون إليه عن جادته المستقيمة ، ومالوا مع الأهواء ، وتركوا التمسك بآدابه وسنته القويمة ؛ حل بهم ما ينقلهم إلى المحن والبلايا ، ويفرق كلمتهم ، ويوهي قوتهم ، ويسلط عدوهم ! .
وفي حديث قدسي عند ابن أبي حاتم : < ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله ، فيتحولون منها إلى معصية الله ، إلا حول الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون > .
ولابن أبي شيبة : < ما من قربة ولا أهل بيت ، كانوا على ما كرهت من معصيتي ، ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي ، إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي ، إلى ما يحبون من رحمتي > .
وقال القاشاني : لا بد في تغيير النعم إلى النقم ، من استحقاق جلي أو خفي .
وعن بعض السلف : إن الفأرة مزَّقت خُفْي ، وما أعلم ذلك إلا بذنب أحدثته ، وإلا ما سلطها الله عليَّ ! وتمثل بقول الشاعر :
~*لو كنت من مازن لم تستبح إبلي*
أقول : المنقول عن بعض السلف محمول على شدة الخوف منه تعالى ، وإلا فالتحقيق الفرق بين ما ينال الشخص والقوم ، كما أشارت له الآية . وقد جوَّد الكلام في ذلك ، الإمام مفتي مصر في " رسالة التوحيد " في بحث الدين الإسلامي فقال :
كشف الإسلام عن العقل غمة من الوهم فيما يعرض من حوادث الكون الكبير ( العالم ) والكون الصغير ( الإنسان ) . فقرر أن آيات الله الكبرى في صنع العالم إنما يجري أمرها على السنن الإلهية ، التي قدرها الله في علمه الأزلي ، لا يغيرها شي من الطوارئ الجزئية . غير أنه لا يجوز أن يغفل شأن الله فيها . بل ينبغي أن يحيي ذكره عند رؤيتها ، فقد جاء على لسان النبي صلى الله عليه وسلم : < إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله > . وفيه التصريح بأن جميع آيات الكون تجري على نظام واحد لا يقضي فيها إلا العناية الأزلية على السنن التي أقامته عليها . ثم أماط اللثام عن حال الإنسان في النعم التي يتمتع بها الأشخاص أو الأمم ، والمصائب التي يرزؤن بها ؛ ففصل بين الأمرين ( الأشخاص والأمم ) فصلاً لا مجال معه للخلط بينهما .
فأما النعم التي يمتع الله بها بعض الأشخاص في هذه الحياة ، والرزايا التي يرزأ بها في نفسه ؛ فكثير منها كالثروة والجاه ، والقوة والبنين ، أو الفقر والضعة والضعف والفقد ، وقد لا يكون كاسبها أو جالبها ما عليه الشخص في سيرته من استقامة أو عوج أو طاعة وعصيان . وكثيراً ما أمهل الله بعض الطغاة البغاة ، أو الفجرة الفسقة ، وترك لهم متاع الحياة الدنيا ؛ إنظاراً لهم حتى يتلقاهم ما أعد لهم من العذاب المقيم في الحياة الأخرى ! . وكثيراً ما امتحن الله الصالحين من عباده ، وأثنى عليهم في الاستسلام لحكمه ، وهم الذين إذا أصابتهم مصيبة عبروا عن إخلاصهم في التسليم بقوله : { إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ } ! فلا غضب زيدٍ ، ولا رضا عمروٍ ، ولا إخلاص سريرة ، ولا فساد عمل مما يكون له دخل في هذه الرزايا ، ولا في تلك النعم الخاصة ، اللهم إلا فيما ارتباطه بالعمل ارتباط المسبب بالسبب على جاري العادة ، كارتباط الفقر بالإسراف ، والذل بالجبن ، وضياع السلطان بالظلم . وكارتباط الثروة بحسن التدبير في الأغلب ، والمكانة عند الناس بالسعي في مصالحهم على الأكثر ، وما يشبه ذلك مما هو مبين في علم آخر . . . ! .
أما شأن الأمم فليس على ذلك ؛ فإن الروح الذي أودعه الله جميع شرائعه الإلهية : من تصحيح الفكر ، وتسديد النظر ، وتأديب الأهواء ، وتحديد مطامح الشهوات ، والدخول إلى كل أمر من بابه ، وطلب كل رغيبة من أسبابها ، وحفظ الأمانة ، واستشعار الأخوة ، والتعاون على البر ، والتناصح في الخير والشر ، وغير ذلك من أصول الفضائل ، ذلك الروح هو مصدر حياة الأمم ، ومشرق سعادتها في هذه الدنيا قبل الآخرة : { وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [ آل عِمْرَان : من الآية 145 ] ، ولن يسلب الله عنها نعمته ما دام هذا الروح فيها . يزيد الله النعم بقوته وينقصها بضعفه ، حتى إذا فارقها ذهبت السعادة على أثره وتبعته الراحة إلى مقره ! واستبدل الله عزة القوم بالذل ، وكُثرهم بالقل ، ونعيمهم بالشقاء ، وراحتهم بالعناء ، وسلط عليهم الظالمين أو العادلين فأخذهم بهم وهم في غفلة ساهون : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } [ الإسراء : 16 ] ، أمرناهم بالحق ففسقوا عنه إلى الباطل ، ثم لا ينفعهم الأنين ، ولا يجديهم البكاء ، ولا يفيدهم ما بقي من صور الأعمال ، ولا يستجاب منهم الدعاء ، ولا كاشف لما نزل بهم إلا أن يلجأوا إلى ذلك الروح الأكرم فيستنزلوه من سماء الرحمة ، يُرسُل الفكر والذكر والصبر والشكر : { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } [ الأحزاب : 62 ] ، وما أجلَّ ما قاله العباس بن عبد المطلب في استسقائه . اللهم ! إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يرفع إلا بتوبة . . ! .
على هذه السنن ، جرى سلف الأمة ، فبينما كان المسلم يرفع روحه بهذه العقائد السامية ، ويأخذ نفسه بما يتبعها من الأعمال الجليلة ؛ كان غيره يظن أنه يزلزل الأرض بدعائه ، ويشق الفلك ببكائه ، وهو ولع بأهوائه ، ماض في غلوائه ، وما كان يغني عنه ظنه من الحق شيئاً . . ! .
ولما خوَّف تعالى العباد بإنزال ما لا مرد له ؛ أتبعه ببيان آيات قدرته وقهره وجلاله . فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } [ 12 - 13 ] .
{ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً } أي : من الصواعق : { وَطَمَعاً } أي : المطر أن يحيي النبات : { وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ } أي : الماء .
{ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ } أي : يسبح سامعوه من العباد الراجين للمطر متلبسين بحمده ، أي : يضجون بـ ( سبحان الله والحمد لله ) فيكون على حذف مضاف أو إسناداً مجازياً للحامل والسبب ، أو يسبح الرعد نفسه ، بمعنى دلالته على وحدانيته تعالى وفضله ، المستوجب لحمده . فيكون الإسناد على حقيقته والتجوز في التسبيح والتحميد . إذ شبه دلالته بنفسه على تنزيهه عن الشرك والعجز بالتسبيح والتنزيه اللفظي . ودلالته على فضله ورحمته ، بحمد الحامد لما فيها من الدلالة على صفات الكمال .
قال الرازي : الرعد اسم لهذا الصوت المخصوص . والتسبيح والتقديس وما يجري مجراهما ليس إلا وجود لفظ يدل على حصول التنزيه والتقديس لله سبحانه وتعالى . فلما كان حدوث هذا الصوت دليلاً على وجود متعال عن النقص والإمكان ؛ كان ذلك في الحقيقة تسبيحاً وهو معنى قوله تعالى : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : من الآية 44 ] .
{ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ } أي : وتسبح الملائكة من خوف الله تعالى وخشيته وإجلاله : { وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ } أي : فيهلك بها من يشاء . وقوله تعالى : { وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ } يعني الكفرة المخاطبين في قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ } وقد التفت إلى الغيبة ؛ إيذاناً بإسقاطهم عن درجة الخطاب وإعراضاً عنهم ، وتعديداً لجناياتهم لدى كل من يستحق الخطاب . كأنه قيل : هو الذي يفعل أمثال هذه الأفاعيل العجيبة ، من إراءة البرق ، وإنشاء السحاب الثقال ، وإرسال الصواعق الدالة على كمال علمه وقدرته ، ويعقلها من يعقلها من المؤمنين ، أو الرعد نفسه ، والملائكة . ويعملون بموجب ذلك من التسبيح والحمد والخوف من هيبته تعالى و ( هم ) أي : الكفرة الذين حكيت هناتهم مع ذلهم وهوانهم وحقارة شأنهم ، يجادلون في شأنه تعالى ، بإنكار البعث واستعجال العذاب ، استهزاء واقتراح الآيات . قالوا : ولعطف الجملة على ما قبلها من قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ } . أفاده أبو السعود .
أي : يريكم ما ذكر من الآيات الباهرة الدالة على القدرة والوحدانية . وأنتم تجادلون فيه ، و ( الجدال ) أشد الخصومة ، من ( الجدال ) بالسكون ، وهو فتل الحبل ونحوه ؛ لأنه يقوى به وتشتد طاقته { وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } أي : والحال أنه شديد المماحلة والمماكرة والمكايدة لأعدائه ، يأتيهم بالهلكة من حيث لا يحتسبون من ( محله ) إذا كاده وعرَّضه للهلاك ، ومنه ( تمحّل لكذا ) إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه .
تنبيه :
ذكر في العلم الطبيعي : أن الصواعق شرارات تنطلق دفعة واحدة من تموجات السحب ومصادمتها لبعضها ؛ فيحصل في الهواء اهتزاز قوي . وأما الرعد فهو الصوت الذي يحصل من ذلك الانطلاق ويصل إلينا ببطء على حسب بعد السحب الحاملة للصواعق عنا . وعلى حسب اتساع السحب يطول سماعنا لصوت الرعد . وإذا لمع البرق من السحابة ، فقد تمت نتائج الصاعقة ، فمتى مضت برهة لطيفة بين لمعان البرق وسماع الرعد ، فقد أُمن ضررها . فإن لم يمض بينهما شيء ، بأن كان الإنسان قريباً من محل الصاعقة وسمع الرعد مع مشاهدة البرق في آن واحد ؛ أمكن أن يصاب بالصاعقة في مرورها . وأما سبب انفجار الصاعقة فقالوا : من المعلوم أن انطلاق الكهربائية إنما يحصل باتحاد كهربائية الأجسام مع بعضها ، فإذا قرب السحاب من الأجسام الأرضية طلبت الكهربائية السحابية أن تتحد بالكهربائية الأرضية فتنبجس بينهما شرارة كهربائية هي البرق . وحينئذ يقال : إن الأجسام الأرضية صعقت . هذا مجمل ما قالوه .
وقد حاول الرازي الجمع بين ما روي عن بعض السلف : أن الرعد ملك ، وبين ما ثبت في العلم الطبيعي بما يدفع المنافاة فقال : اعلم أن المحققين من الحكماء يذكرون أن هذه الآثار العلوية إنما تتم بقوى روحانية فلكية ، فللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره . وكذا القول في الرياح وفي سائر الآثار العلوية . قال : وهذا عين ما نقلناه من أن الرعد اسم ملك من الملائكة يسبح الله ، فهذا الذي قاله المفسرون بهذه العبارة هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء . فكيف يليق بالعاقل الإنكار ؟ ! انتهى .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } [ 14 ] .
{ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ } أي : الدعاء الحق بالعبادة والتضرع والإنابة . وتوجيه الوجه ثابت له تعالى لا لغيره ؛ لأنه الذي يجيب المضطر ويكشف السوء فهو الحقيق بأن يعبد وحده بالدعاء والالتجاء . فإضافة الدعوة للحق من إضافة الموصوف للصفة .
وفيها إيذان بملابستها للحق ، واختصاصها به ، وكونها بمعزل من شائبة البطلان والضياع والضلال ، كما يقال : كلمة الحق .
ثم بيَّن تعالى مثال من يعبد من الأصنام ويدعي في عدم النفع والجدوى بقوله : { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } أي : الأصنام الذين يدعوهم المشركون من دونه تعالى : { لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ } أي : من مطلوباتهم : { إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } أي : إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه ، أي : كاستجابة الماء لمن مد يديه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه ، والماء جماد لا يشعر ببسط كفه ولا بظمأه وحاجته إليه ، فلا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه ، وكذلك ما يدعونه ، جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم ! . والغرض نفي الاستجابة على القطع بتصوير أنهم أحوج ما يكونون إليها لتحصيل مباغيهم ؛ أخيب ما يكون أحد في سعيه لما هو مضطر إليه فضلاً عن مجرد الحاجة . وحاصله : أنه شبه آلهتهم حين استكفائهم إياهم ما أهمهم بلسان الاضطرار في عدم الشعور فضلاً عن الاستطاعة للاستجابة ، وبقائهم لذلك في الخسران ؛ بحال ماء بمرأى من عطشان باسط كفيه إليه يناديه عبارة وإشارة . فهو لذلك في زيادة ظمأ وشدة خسران ! والتشبيه على هذا من المركب التمثيلي في الأصل ، أبرز في معرض التهكم ، حيث أثبت للماء استجابة زيادة في التخسير والتحسير . فالاستثناء مفرغ من أعم عام المصدر ، أي : لا يستجيبون شيئاً من الاستجابة ، والضمير في ( هو ) للماء و ( بالغه ) للفم ، وقيل : الأول للباسط والثاني للماء . وبسط الكف : نشر الأصابع ممدودة كما في قوله :
~تعود بسط الكف حتى لو أنه أراد انقباضاً لم تُطعه أنامله
{ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ } أي : عبادتهم والتجاؤهم لآلهتهم : { إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } أي : في ضياع لا منفعة فيه ؛ لعدم إمكان إجابتهم .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } [ 15 ] .
{ وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } إخبار عن عظمته تعالى وسلطانه الذي قهر كل شيء ، بأنه يقاد لجلاله وإرادته وتصريفه المكونات بأسرها من أهل الملأ الأعلى والأسفل ، طائعين وكارهين لا يقدرون أن يمتنعوا عليه ، وكذا تنقاد له تعالى ظلالهم حيث تتصف على مشيئته في الامتداد والتقلص والفيء والزوال ! . وقوله : { بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } إما ظرف لـ ( يسجد ) والباء بمعنى ( في ) والمراد بهما الدوام ؛ لأنه يذكر مثله للتأييد ، وإما حال من ( الظلال ) والمراد ما ذكر . أو يقال التخصيص ؛ لأن امتدادها وتقلصها فيهما أظهر . هذا ما جرى عليه الأكثر في معنى ( السجود ) فيكون استعارة للانقياد المذكور ، أو مجازاً مرسلاً لاستعماله في لازم معناه ؛ لأن الانقياد مطلقاً لازم للسجود .
وفي " تنوير الاقتباس " : تأويل السجود بالصلاة والعبادة وجعل ( طوعاً وكرهاً ) نشراً على ترتيب اللف . قال ( طوعاً ) أهل السماء من الملائكة ؛ لأن عبادتهم بغير مشقة و ( كرهاً ) أهل الأرض ؛ لأن عبادتهم بالمشقة ، ثم قال : ويقال ( طوعاً ) لأهل الإخلاص و ( كرهاً ) لأهل النفاق . ثم قال : ( وظلالهم ) يعني وظلال من يسجد لله أيضاً ، وتسجد غدوة عن أيمانهم ، وعشية عن شمائلهم .
قال أبو السعود : وقد قيل : إن المراد حقيقة السجود ، فإن الكفرة حال الاضطرار وهو المعني بقوله تعالى : { وَكَرْهاً } يخصون السجود به سبحانه . قال تعالى : { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [ العنكبوت : من الآية 65 ] ، ولا يبعد أن يخلق الله تعالى في الظلال أفهاماً وعقولاً بها تسجد لله سبحانه ، كما خلقها للجبال حتى اشتغلت بالتسبيح وظهر فيها آثار التجلي كما قاله ابن الأنباري . ويجوز أن يراد بسجودها : ما يشهد فيها من هيئة السجود تبعاً لأصحابها . وأنت خبير بأن اختصاص سجود الكافر حالة الضرورة والشدة ، فالله سبحانه لا يجدي ، فإن سجودهم لأصنامهم حالة الرخاء مخلٌّ بالقصر المستفاد من تقديم الجار والمجرور ، فالوجه حمل السجود على الانقياد ، ولأن تحقيق انقياد الكل في إبداع ، والإعدام له تعالى أدخل في التوبيخ على اتخاذ أولياء من دونه مع تحقيق سجودهم له تعالى . وتخصيص انقياد العقلاء بالذكر مع كون غيرهم أيضاً كذلك ؛ لأنهم العمدة . وانقيادهم دليل انقياد غيرهم . انتهى .
وهذه الآية كقوله تعالى : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ آل عِمْرَان : من الآية 83 ] ، وقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ } [ النحل : من الآية 48 ] الآية .
تنبيه :
هذه السجدة من عزائم سجود التلاوة ، فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عقب قراءته واستماعه لهذه السجدة . كذا في " اللباب " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [ 16 ] .
{ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : خالقهما : { قُلِ اللّهُ } أمر بالجواب من قِبَلِهِ صلى الله عليه وسلم ؛ إشعاراً بتعينه للجواب ، فهو الخصم في تقريره سواء . أو أمره بحكاية اعترافهم ؛ إيذاناً بأنه أمر لا بد لهم منه . كأنه قيل : احك اعترافهم ، فبكتهم بما يلزمهم من الحجة : { قُلْ } أي : إلزاماً لهم وتبكيتاً : { أَفَاتَّخَذْتُم مِّنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } أي : أبعد أن علمتموه رب السماوات والأرض عبدتم من دونه غيره ، فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من علمكم وإقراركم سبب الإشراك ؟ أفاده الزمخشري .
{ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً } أي : لا يقدرون على نفع أنفسهم ولا على دفع الضر عنها ، فكيف يستطيعونه لغيرهم ؟ ! فإذن عبادتهم محض العبث والسفه ! : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ } لما بيَّن ضلالهم وفساد رأيهم في الحجة المذكورة ؛ بيَّن أن الجاهل بها يكون كالأعمى ، والعالم بها كالبصير ، والجهل بمثلها كالظلمات ، والعلم بها كالنور . وكما أن كل أحد يعلم بالضرورة أن الأعمى لا يساوي البصير ، والظلمة لا تساوي النور ، كذلك كل أحد يعلم بالضرورة أن الجاهل بهذه الحجة لا يساوي العالم بها { أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاءَ } أي : بل أجعلوا ، والهمزة للإنكار ، وقوله : { خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ } صفة لـ ( شركاء ) داخلة في حكم الإنكار : { فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ } أي : خلق الله وخلقهم . والمعنى : أنهم ما اتخذوا لله شركاء خالقين مثله حتى يتشابه عليهم الخلق ، فيقولوا : هؤلاء خلقوا كما خلق الله فاستحقوا العبادة كما استحقها ، ولكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق ، فضلاً عما يقدر عليه الخالق .
قال الناصر : وفي قوله تعالى : { خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ } في سياق الإنكار ، تهكم بهم ؛ لأن غير الله لا يخلق خلقاً البتة ، لا بطريق المشابهة والمساواة لله ، تقدس عن التشبيه ، ولا بطريق الانحطاط والقصور ، فقد كان يكفي في الإنكار عليهم ، أن الشركاء التي اتخذوها لا تخلق مطلقاً ، ولكن جاء في قوله تعالى : { كَخَلْقِهِ } تهكم يزيد الإنكار تأكيداً ! .
{ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } أي : لا خالق غير الله ، ولا يستقيم أن يكون له شريك في الخلق ، فلا يكون له شريك في العبادة ! : { وَهُوَ الْوَاحِدُ } أي : المتوحد بالربوبية : { الْقَهَّارُ } الذي لا يغالبُ ، وما عداه مربوب ومقهور ! .
ثم ضرب تعالى مثلين للحق في ثباته وبقائه ، والباطل في اضمحلاله وفنائه بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ } [ 17 ] .
{ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ } أي : المزن : { مَاءً } أي : مطراً : { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } أي : بمقدار ملئها في الصغر والكبر ، أي : أخذ كل واحد بحسبه ، فهذا كبير وسع كثيراً من الماء ، وهذا صغير وسع بقدره : { فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً } أي : فحمل ورفع من قوة الجيشان ، زبداً عالياً على وجه الماء : { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ } أي : من نحو الذهب والفضة والنحاس ، مما يسبك في النار : { ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ } أي : طلب زينة : { أَوْ مَتَاعٍ } كالآواني وآلات الحرب والحرث : { زَبَدٌ مِّثْلُهُ } أي : مثل زبد السيل : وهو خبثه الذي ينفيه الكير : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ } أي : مثلهما ، أي : إذا اجتمعا لا ثبات للباطل ولا دوام ، كما أن الزبد لا يثبت مع الماء ولا مع الذهب والفضة ونحوهما ، مما يسبك في النار ، بل يذهب ويضمحل . وقد بين ذلك بقوله تعالى : { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً } أي : مقذوفاً مرمياً به ، أي : فلا ينتفع به ، بل يتفرق ويتمزق ويذهب في جانبي الوادي ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح . وكذلك خبث ما يوقد عليه من المعادن يذهب ولا يرجع منه شيء ، ولا يبقى إلا ما ينتفع به من الماء والمعدن كما قال : { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ } أي : يبقى فيها منتفعاً به : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ } إلى أمثال الحق والباطل .
تنبيهات :
الأول : قدمنا أن هذه الآية مثل ضربه الله للحق وأهله ، والباطل وحزبه ، كما ضرب الأعمى والبصير والظلمات والنور مثلاً لهما . فمثل الحق وأهله بالماء الذي يُنزله من السماء فتسيل به أودية الناس ، فيحيون به وينفعهم بأنواع المنافع . وبالمعدن الذي ينتفعون به في صوغ الحلي منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفة ، وأن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهراً ، يثبت الماء في مناقعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والقنى والآبار . وكذلك المعدن يبقى أزمنة متطاولة . وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة ، بزبد السيل وخبث المعدن ، فإنه - وإن علا وارتفع وانتفخ - إلا أنه أخيراً يضمحل . وكذلك الشبهات والتمويهات الزائفة قد تقوى وتعظم ، إلا أنها في الآخرة تبطل وتضمحل وتزول ، ويبقى الحق ظاهراً لا يشوبه شيء من الشبهات ؛ لأنه لا بقاء إلا للنافع ، وما تصارع الحق والباطل ، إلا وفاز الحق بقرنه . . . !
الثاني : قوله تعالى : { بِقَدَرِها } صفة ( أودية ) ، أو متعلق بـ ( سالت ) أو ( أنزل ) . وقرأ عامة القراء بفتح الدال ، وقرأ زيد بن علي والأشهب وأبو عَمْرو في رواية بسكونها .
الثالث : قوله تعالى : { احْتَمَلَ } بمعنى حمل ، فالمزيد بمعنى المجرد . كذا قيل . ويظهر لي : أن إيثاره عليه لزيادة في معناه ، وقوة في مبناه ! .
الرابع : الأودية جمع واد ، وهو مفرج بين جبال أو تلال أو آكام . والإسناد إليه مجاز عقلي ، كما في ( جري النهر ) .
قال السمين : وإنما نكَّر الأودية وعرَّف السيل ؛ لأن المطر ينزل في إيقاع على المناوبة فيسيل في بعض أودية الأرض دون بعض . وتعريف السيل ؛ لأنه قد فهم من الفعل قبله وهو ( فسالت ) وهو لو ذكر لكان نكرة . فلما أعيد أُعيد بلفظ التعريف نحو : رأيت رجلاً فأكرمت الرجل . انتهى .
وأصله لأبي حيان حيث قال : عرَّف السيل لأنه عنى به ما فهم من الفعل . والذي يتضمنه الفعل من المصدر وإن كان نكرة ، إلا أنه إذا عاد في الظاهر كان معرفة ، كما كان لو صرح به نكرة . وكذا يضمر إذا عاد على ما دل عليه الفعل من المصدر نحو : من كذب كان شراً له ، أي : الكذب . ولو جاء هنا مضمراً لكان جائزاً عائداً على المصدر المفهوم من ( فسالت ) وأورد عليه : أنه كيف يجوز أن يعني به ما فهم من الفعل وهو حدث ، والمذكور المعرَّف عيْن ، فإن المراد به الماء السائل ؟ وأجيب : بأنه بطريق الاستخدام .
قال الشهاب : وهو غير صحيح ، لا تكلف - كما قيل - لأن الاستخدام أن يذكر لفظ بمعنى ويعاد عليه ضمير بمعنى آخر . سواء كان حقيقياً أو مجازياً ، وهذا ليس كذلك ، لأن الأول مصدر ، أي : حدث في ضمن الفعل ، وهذا اسم عين ظاهر يتصف بذلك الحدث ، فكيف يتصور فيه الاستخدام ؟ نعم ، ما ذكروه أغلبي لا مختص بما ذكر ، فإن مثل الضمير اسم الإشارة ، وكذا اسم الظاهر كما في قول بعضهم :
~أخت الغزالة إشرافاً وملتفتاً
فالحق أنه إنما عرَّف لكونه معهوداً مذكوراً بقوله : { أَوْدِيَةٌ } وإنما لم يجمع لأنه مصدر بحسب الأصل .
الخامس : قوله تعالى : { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ } جملة أخرى معطوفة على الجملة الأولى ، لضرب مثل آخر . و ( زبد ) مبتدأ قدم عليه خبره ، ( من ) في ( مما ) للابتداء أي : نشأ منه ، وجوز كونها للتبعيض ، أي : هو بعضه . ورده أبو السعود بأنه يخل بالتمثيل . وقوله : { فِي النَّارِ } صفة مؤسسة ؛ لأن الموقد عليه يكون في النار وملاصقاً لها ، وقيل : إنها مؤكدة . وقال أبو السعود : في زيادة النار إشعار بالمبالغة في الاعتمال للإذابة وحصول الزبد . وعدم التعرض لإخراجه من الأرض لعدم دخل ذلك العنوان في التمثيل ، كما أن لعنوان إنزال الماء من السماء دخلاً فيه حسبما فصل فيما سلف ، بل له إخلال بذلك . وسر التعبير الموصول في قوله : { وَمِمَّا يُوقِدُونَ } الخ ، الإيجاز بجمعه لأنواع المعادن مع إظهار الكبرياء بالتهاون بها ، كأن أشرف الجواهر خسيس عنده تعالى ؛ إذ عبَّر عن سبكه بإيقاد النار به ، المشعر بأنه كالحطب الخسيس ، وصوَّره بحالة هي أحط حالاته . وهذا لا ينافي كونه ضرب مثلاً للحق ؛ لأن مقام الكبرياء يقتضي التهاون به ، مع الإشارة إلى كونه مرغوباً فيه منتفعاً به بقوله : { ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ } فوفى كلاً من المقامين حقه .
السادس : قدمنا أن قوله تعالى : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ } على حذف مضاف ، أي : مثلهما ، وسر الحذف : الإنباء عن إكمال التماثل بين الممثل والممثل به ، كأن المثل المضروب عين الحق والباطل .
السابع : بدأ بالزبد في البيان في قوله : { فَأَمَّا الزَّبَدُ } وهو متأخر في الكلام السابق ؛ لأن في التقسيم يبدأ بالمؤخر كما في قوله : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ } الخ [ آل عِمْرَان : من الآية 106 ] ، وقد راعى الترتيب فيه ، ولك أن تقول : النكتة فيه أن الزبد هو الظاهر المنظور أولاً ، وغيره باق متأخر في الوجود لاستمراره . والآية من الجمع والتقسيم على ما فصله الطيبي . كذا في " العناية " .
الثامن : قوله تعالى : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ } تفخيم لشأن هذا التمثيل وتأكيد لقوله : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ } إما باعتبار ابتناء هذا على التمثيل الأول ؛ بجعل ذلك إشارة إليهما . كذا في أبي السعود .
التاسع : أشار الحافظ ابن كثير إلى كثرة ضرب الأمثال النارية والمائية في التنزيل والسنة ، قال :
وقد ضرب سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة مَثَلَيْن - ناري ومائي -
وهو قوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَه } [ البقرة : من الآية 17 ] الآية ، ثم قال : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } [ البقرة : من الآية 19 ] الآية ، وهكذا ضرب للكافرين في سورة النور مَثَلَيْن أحدهما قوله : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ } [ النور : من الآية 39 ] الآية ، والسراب إنما يكون في شدة الحر ، ولهذا جاء في " الصحيحين " : < فيقال لليهود يوم القيامة : فما تريدون ؟ فيقولون ؟ أي : ربنا ! عطشنا فاسقنا . فيقال : ألا تردون ؟ فيردون النار ، فإذا هي كسراب يحطم بعضها بعضاً > . ثم قال تعالى في المثل الآخر : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّي } [ النور : من الآية 40 ] الآية ، وفي " الصحيحين " عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً ، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير . وكانت منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا . وأصابت طائفة منها أخرى ، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ! فذلك مثل من فقُه في دين الله ونفعه الله بما بعثني ، ونفع به فَعَلِمَ وعَلَّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ، فهذا مثل الماء > . وفي " مسند الإمام أحمد " عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً ، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش ، وهذه الدواب التي يقعن في النار ، يقعن فيها ، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها . قال : فذلكم مثلي ومثلكم . أنا آخذ بحجزكم عن النار ، هلم عن النار ! فتغلبوني فتتقحمون فيها . . . > وأخرجاه في " الصحيحين " أيضاً . فهذا مثل ناري . انتهى .
ولما بيَّن سبحانه شأن كلٍّ من الحق والباطل حالاً ومآلاً ، تأثره ببيان حال أهل كل منهما مآلاً ، ترغيباً وترهيباً ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } [ 18 ] .
{ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى } أي : للمؤمنين الذين استجابوا لربهم بطاعته وطاعة رسوله ، المثوبة الحسنى كما قال تعالى : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : من الآية 26 ] ، فالحسنى مبتدأ قدم عليه خبره الموصول : { وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ } وهم الكفرة : { لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ } أي : بما في الأرض ، ومثله معه من أصناف الأموال ؛ ليتخلصوا عما بهم . وفيه من تهويل ما يلقاهم ما لا يحيط به البيان ، ولأجله عدل عن أن يقال : وللذين لم يستجيبوا السوأى ، كما تقتضيه المقابلة : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ } أي : في الدار الآخرة ، فيناقشون على الجليل والحقير : { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } أي : المستقر . وفي قوله : { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } إشعار بتفسير الحسنى بالجنة ؛ لانفهامها من مقابلتها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } [ 19 ] .
{ أَفَمَن يَعْلَمُ } أي : يصدق : { أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } يعني القرآن : { الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى } أي : كمن لا يعلم ذلك ، إلا أنه أريد تقبيح حاله فعبر عنه بالأعمى : { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } أي : العقول المبرأة عن مشايعة الإلف ومتابعة الوهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ } [ 20 ] .
{ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ } أي : مما كلفهم به : { وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ } أي : ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه من الإيمان بالله وغيره من المواثيق بينهم وبين العباد ، وهو تعميم بعد تخصيص ، وفيه تأكيد للاستمرار المفهوم من صيغة المستقبل . أفاده أبو السعود .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ } [ 21 ] .
{ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } أي : من أرحامهم وقراباتهم وإخوانهم المؤمنين ، بالإحسان إليهم على حسب الطاقة ، ونصرتهم ، والذب عنهم ، والشفقة عليهم ، والنصيحة لهم ، وكف الأذى عنهم : { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } أي : يعملون له أو يخافون وعيده فلا يعصونه فيما أمر : { وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ } [ 22 ] .
{ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } أي : يدفعون بالكلام الحسن الكلام السيئ إذا خاطبهم به الجاهلون ، كما قال تعالى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن } [ المؤمنون : من الآية 96 ] الآية ، أو يتبعون السيئة الحسنة لتمحوها : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ } أي : عاقبة الدنيا وهي الجنة ؛ لأنها مرجع أهلها . فتعريف الدار للعهد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } [ 23 - 24 ] .
{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } أي : آمن ووحَّد وعمل صالحاً من هؤلاء .
قال أبو السعود : وفي التقييد بالصلاح قطع للأطماع الفارغة لمن يتمسك بمجرد حبل الأنساب .
وأصله للزجَّاج حيث قال : بيَّن تعالى أن الأنساب لا تنفع إذا لم يحصل معها أعمال صالحة ، بل الآباء والأزواج والذاريات لا يدخلون الجنة إلا بالأعمال الصالحة .
وقرئ - شاذاً - بضم لام ( صَلْح ) . قال الزمخشري : والفتح أفصح .
{ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ } .(/)
{ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } .
ثم بيَّن تعالى مآل مقابل الفريق الأول بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ 25 ] .
{ وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } أي : عذاب جهنم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ } [ 26 ] .
{ اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ } هذا كقوله تعالى : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 55 ] ، وتنكير ( متاع ) للتقليل كما في آية : { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [ النساء : من الآية 77 ] ، وقال : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [ الأعلى : 16 - 17 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } [ 27 ] .
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } كقولهم : { فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ } [ الأنبياء : من الآية 5 ] ، وتقدم الكلام على هذا غير مرَّة . وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } جملة جرت مجرى التعجب من قولهم ، مشيرة إلى أنه من باب العناد والاقتراح لما لا تقتضيه الحكمة من الآيات المحسوسة التي لا يمهل أحد بعد مجيئها ، لا من باب طلب الهداية . وإلا فلو كان بغيتهم طلب الهداية بآية لكفاهم إنزال هذا الكتاب من مثله ، صلوات الله عليه ، آية ، فإنه آية الآيات . . . ! . ولكنهم قوم آثروا الضلال على الهدى ، زاغوا عنه فأزاغ الله قلوبهم . فطوى ما دل عليه هذه الجملة ؛ إيجازاً للعلم بها .
قال أبو السعود : { قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ } إضلاله مشيئة تابعة للحكمة الداعية إليها ، أي : يخلق فيه الضلال لصرفه اختياره إلى تحصيله ، ويدعه منهمكاً فيه ؛ لعلمه بأنه لا ينجع فيه اللطف ولا ينفعه الإرشاد ، كمن كان على صفتكم في المكابرة والعناد ، والغلو في الفساد . فلا سبيل له إلى الاهتداء ، ولو جاءته كل آية .
ثم قال : { وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } أي : أقبل إلى الحق ، وتأمل في تضاعيف ما نزل من دلائله الواضحة . وحقيقة الإنابة الدخول في نوبة الخير . وإيثار إيرادها في الصلة على إيراد المشيئة ، كما في الصلة الأولى ؛ للتنبيه على الداعي إلى الهداية بل إلى مشيئتها ، والإشعار بما دعا إلى المشيئة الأولى المكابرة . وفيه حث للكفرة على الإقلاع عما هم عليه من العتو والعناد . وإيثار صيغة الماضي للإيماء إلى استدعاء الهداية لسابقة الإنابة ، كما أن إيثار صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على استمرار المشيئة حسب استمرار مكابرتهم . انتهى .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [ 28 ] .
{ الَّذِينَ آمَنُوا } بدل من ( من أناب ) أي : آمنوا بالله ورسوله وكتابه : { وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ } أي : تسكن وتخشى عند ذكره ، وترضى به مولى ونصيراً . والعدول إلى صيغة المضارع ؛ لإفادة دوام الاطمئنان واستمراره : { أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } أي : بذكره دون غيره تسكن القلوب أُنساً به ، واعتماداً عليه ، ورجاءً منه . وقدر بعضهم مضافاً ، أي : بذكر رحمته ومغفرته ، أو بذكر دلائله الدالة على وحدانيته . ورأى آخرون أن المراد : { بِذِكْرِ اللَّهِ } القرآن ؛ لأنه يسمى ذكراً ، كما قال تعالى : { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ } [ الأنبياء : من الآية 50 ] وقال سبحانه : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] لأنه آية بينة تسكن القلوب ، وتثبت اليقين فيها . وهذا المعنى يناسب قوله : { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } [ يونس : من الآية 20 ] أي : هؤلاء ينكرون كونه آية ، والمؤمنون يعلمون أنه أعظم آية تطمئن لها قلوبهم ببرد اليقين . قال الشهاب : وهو أنسب الوجوه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ } [ 29 ] .
{ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ } الموصول إما مبتدأ ، و : { طُوبَى لَهُمْ } مبتدأ ثان وخبر في موضع الخبر الأول ، وإما خبر لمحذوف ، أي : هم ، وإما بدل من : { أناب } وجملة : { طُوبَى لَهُمْ } دعائية أو خبرية .
قال الزمخشري : ( طوبى ) مصدر من ( طاب ) كبشرى وزلفى . ومعنى ( طوبى لك ) أصبحت خيراً وطيباً ، ومحلها النصب أو الرفع كقولك : طيباً لك ، وطيب لك ، وسلاماً لك وسلام لك . والقراءة في قوله : { وَحُسْنُ مَآبٍ } بالرفع والنصب تدلك على محليها . واللام في : { لَهُمْ } للبيان مثلها في ( سقياً لك ) والواو في : { طُوبَى } منقلبة عن ياء ، لضمة ما قبلها . قال ثعلب : قرئ : { طوبىً لهم } بالتنوين .
قال الفاسي : ومن نوَّن : { طُوبَى } جعله مصدراً بغير ألف ، كسقيا . وزعم بعضهم أنها كلمة أعجمية ، وفي " لسان العرب " عن قتادة ، أنها كلمة عربية ، تقول العرب : طوبى لك إن فعلت كذا وكذا ، وأنشد :
~طوبى لمن يستبدل الطود بالقرى ورسلاً بيقطين العراق وفومها
الرسل : اللبن ، والطود : الجبل ، والفوم : الخبز والحنطة . كذا في " تاج العروس " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَاْ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } [ 30 ] .
{ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ } أي : مضت : { مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَاْ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } أي : لتبلغهم هذا الوحي العظيم والذكر الحكيم ، كما بلغ من خلا قبلك من المرسلين أممهم . وقوله : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } جملة حالية أو مستأنفة ، أي : يكفرون بالبليغ الرحمة ، الذي وسعت رحمته كل شيء ، والعدول إلى المظهر الدال على الرحمة ، إشارة إلى أن الإرسال ناشئ منها ، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] وإلى أنهم لم يشكروا نعمة هذا الوحي الذي هو مدار المنافع الدينية والدنيوية ، وإلى أن الرحمن من أسمائه الحسنى ونعوته العليا ، وقد كانوا يتجافون هذا الاسم الكريم . ولهذا لم يرضوا يوم الحديبية أن يكتبوا " بسم الله الرحمن الرحيم " وقالوا : ما ندري ما الرحمن الرحيم ؟ كما في الصحيح . وقد قال تعالى : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ } [ الإسراء : من الآية 110 ] . وفي " صحيح مسلم " عن ابن عمر مرفوعاً : < أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن > .
{ قُلْ هُوَ } أي : الرحمن الذي كفرتم به وأنكرتم معرفته : { رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } أي : توبتي وإنابتي . فإنه لا يستحق ذلك غيره . ثم أشار تعالى إلى عظمة هذا الوحي وتفضيله على ما سواه بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاءُ اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [ 31 ] .
{ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً } أي : قرآناً مَّا : { سُيِّرَتْ بِهِ } أي : بإنزاله أو بتلاوته : { الْجِبَالُ } أي : أذهبت عن مقارّها ، وزعزعت عن أماكنها : { أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ } أي : شققت حتى تتصدع وتصير قطعاً : { أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى } أي : خوطبت بعد أن أحييت بتلاوته عليها ، والجواب محذوف ، أي : لكان هذا القرآن ؛ لكونه غاية في الهداية والتذكير ، ونهاية في الإنذار والتخويف . وعلى هذا التقدير فالقصد بيان عظم شأن القرآن وفساد رأي الكفرة ، حيث لم يقدروا قدره العليِّ ولم يعدوه من قبيل الآيات ، فاقترحوا غيره مما أوتي موسى وعيسى عليهما السلام . وقدر الزجاج الجواب : ( لما آمنوا به ) كقوله : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى } [ الأنعام : من الآية 111 ] الآية ، وعليه فالقصد بيان غلوهم في المكابرة والعناد وتماديهم في الضلال والفساد .
ونقل عن الفراء ؛ أن الجواب مقدم عليه وهو قوله : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } وما بينهما اعتراض ، وفيه بُعْدٌ وتكلف . وأشار بعضهم إلى أن مراده أنها دليل الجواب ، والتذكير في ( كلم ) لتغليب المذكر من الموتى على غيره .
وقوله تعالى : { بَل لِّلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً } أي : له الأمر الذي عليه يدور فلك الأكوان وجوداً وعدماً ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد لما يدعو إليه من الحكم البالغة ، وهو إضراب عما تضمنته : { لَوْ } من معنى النفي ، أي : لو أن قرآناً فعل به ما ذكر لكان هذا القرآن ، ولكن لم يفعل ، بل فعل ما عليه الشأن الآن ؛ لأن الأمر كله له وحده ، وعلى تقدير الزجاج السالف ، فالإضراب متوجه إلى ما سلف اقتراحهم مع كونهم في العناد على ما شرح . أي : فليس لهم ذلك بل لله الأمر جميعاً ، إن شاء أتى بما اقترحوا وإن شاء لم يأت به حسبما تستدعيه الحكمة ، من غير أن يكون عليه تحكم أو اقتراح . كذا في أبي السعود .
وقوله تعالى : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً } أي : أفلم يعلم ويتبين كقوله :
~ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
وقوله :
~أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم
أي : لم تعلموا ! وييسرونني من إيسار الجزور ، أي : يقسمونني ، ويروى : يأسرونني من ( الأسر ) . أي : أفلم يعلموا أنه تعالى لو شاء هدايتهم لهداهم ؛ لأن الأمر له . ولكن قضت الحكمة أن يكون بناء التكليف على الاختيار .
{ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : من أهل مكة : { تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ } أي : بسبب ما صنعوه من الكفر والتمادي فيه ، وعدم بيانه لتهويله أو استهجانه . والقارعة : الداهية التي تقرع وتقلق ، يعني : ما كان يصيبهم من أنواع البلايا والمصائب من القتل والأسر والنهب والسلب : { أَوْ تَحُلُّ } أي : تلك القارعة : { قَرِيباً } أي : مكاناً قريباً : { مِّن دَارِهِمْ } فيفزعون منها ويتطاير إليهم شررها : { حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ } أي : فتح مكة : { إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } أي : لا ينقض وعده لرسله بالنصرة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : { فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } [ إبراهيم : من الآية 47 ] ، وفي الآية وجه آخر ، وهو حمل : { الَّذِينَ كَفَرُواْ } على جميع الكفار ، أي : لا يزالون ، بسبب تكذيبهم ، تصيبهم القوارع في الدنيا ، أو تصيب من حولهم ليعتبروا ، كقوله تعالى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الأحقاف : 27 ] ، وقوله : { أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ الأنبياء : من الآية 44 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } [ 32 ] .
{ وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : أمهلتهم وتركتهم ملاوةً من الزمن ، في أمن ودعة ، كما يملى للبهيمة في المرعى : { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } أي : عقابي إياهم . وفيه من الدلالة على فظاعته ما لا يخفى . والآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما لقي من المشركين من التكذيب والاقتراح ، على طريقة الاستهزاء به ، ووعيد لهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ 33 ] .
{ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } أي : مراقب لأحوالها ومشاهد لها ، لا يخفى عليه ما تكسبه من خير أو شر . فهو مجاز ؛ لأن القائم على الشيء عالم به ، ولذا يقال : وقف عليه ، إذا علمه فلم يخف عليه شيء من أحواله ، والخبر محذوف تقديره : كمن ليس كذلك . وإنما حذف اكتفاء بدلالة السياق عليه وهو قوله : { وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء } أي : عبدوها معه من أصنام وأنداد وأوثان ، وقوله : { قُلْ سَمُّوهُمْ } تبكيت لهم إثر تبكيت ، أي : سموهم من هم ، وماذا أسماؤهم ؟ فإنهم لا حقيقة لهم ! أو صفوهم وانظروا هل لهم ما يستحقون به العبادة ويستأهلون الشركة ؟ .
وقال الرازي : إنما يقال ذلك في الأمر المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى ألا يذكر ولا يوضع له اسم ، فعند ذلك يقال : سمه إن شئت ، يعني : أنه أخس من يسمى ويذكر ، ولكنك إن شئت أن تضع له اسماً فافعل . فكأنه تعالى قال : سموهم بالآلهة ، على سبيل التهديد ، والمعنى : سواء سميتموهم بهذا الاسم أو لم تسموهم به ، فإنها في الحقارة بحيث لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها .
{ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ } أي : بشركاء لا يعلمهم سبحانه . وإذا كان لا يعلمهم ، وهو عالم بكل شيء مما كان ومما يكون ، فهم لا حقيقة لهم . فهو نفي لهم بنفي لازمهم على طريق الكناية .
قال الناصر : وحقيقة هذا النفي أنهم ليسوا بشركاء ، وأن الله لا يعلمهم كذلك ؛ لأنهم ليسوا كذلك ، وإن كانت لهم ذوات ثابتة يعلمها الله ، إلا أنها مربوبة حادثة لا آلهة معبودة . ولكن مجيء النفي على هذا السنن المتلو بديع لا تكتنه بلاغته وبراعته . ولو أتى الكلام على الأصل غير محلى بهذا التصريف البديع لكان : وجعلوا لله شركاء وما هم بشركاء . فلم يكن بهذا الموقع الذي اقتضته التلاوة .
وقوله تعالى : { أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ } أي : بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة ، كتسمية الزنجي كافوراً من غير بياض فيه ولا رائحة طيبة ، لفرط الجهل وسخافة العقل ، وهذا كقوله تعالى : { ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِم } [ التوبة : من الآية 30 ] : { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا } [ يوسف : من الآية 40 ] ، وعن الضحاك إن الظاهر بمعنى الباطل ، كقوله :
~وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر
تنبيه :
قال الزمخشري : هذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة التي ورد عليها ، منادٍ على نفسه بلسان طلق ذلق ؛ أنه ليس من كلام البشر لمن عرف وأنصف من نفسه .
قال شارحوه : فإن قوله تعالى : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ } لما كان كافياً في هدم قاعدة الإشراك مع السابق واللاحق وما ضمن من زيادات النكت ، وكان إبطالاً من طريق حق ، مذيلاً بإيطال من طرف النقيض على معنى : ليتهم إذ أشركوا بمن لا يجوز أن يشرك به ، أشركوا من يتوهم فيه ذلك أدنى توهم ، وروعي فيه أنه لا أسماء للشركاء ولا حقيقة لها فضلاً عن المسمى على الكناية الإيمائية . ثم بولغ بأنها لا تستأهل أن يسأل عنها على الكناية التلويحية استدلالاً بنفي العلم عن نفي المعلوم . ثم منه إلى عدم الاستئهال مع التوبيخ ، وتقدير أنهم يريدون أن ينبئوا عالم السر والخفيات بما لا يعلمه وهو محال على محال وفي جعل اتخاذهم شركاء ، ومجادلة الرسول عليه الصلاة والسلام إنباء له تعالى ؛ نكتة بل نكت سرية . ثم أضرب عن ذلك . وقيل : قد بين الشمس لذي عينين ، وما تلك التسمية إلا بظاهر من القول لا طائل تحته بل هو صوت فارغ .
فمن تأمل حق التأمل ، اعترف بأنه كلام خالق القُوَى والقُدَر ، الذي تقف دون أستار أسراره أفهام البشر . . . !
وقوله تعالى : { بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ } إضراب عن الاحتجاج عليهم . كأنه قيل : دع ذكر ما كنا فيه من الدلائل على فساد قولهم ؛ لأنه زين لهم كفرهم ومكرهم ، فلا ينتفعون بهذه الدلائل .
وقوله تعالى :
{ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ } أي : عن سبيل الله ، وقرئ بفتح الصاد أي : صدوا الناس : { وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ } أي : يخلق فيه الضلال بسوء اختياره ، أو يخذله : { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } أي : من أحد يهديه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ } [ 34 ] .
{ لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وهو ما نالهم على أيدي المؤمنين ، أو ما فيه من عذاب الحيرة والضِلَّة . فإن نفس غير المؤمنين في نكد مستمر وداء دويِّ لا برء له إلا الإيمان ، كما فصل في موضع آخر { وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ } أي : من عذاب الدنيا كمَّاً وكيفاً : { وَمَا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ } أي : حافظ يعصمهم من عذابه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ } [ 35 ] .
{ مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ } أي : عن الكفر والمعاصي : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ } .
في الآية وجوه من الإعراب :
( الأول ) : أن ( مثل ) مبتدأ خبره محذوف ، أي : فيما يقص ويتلى عليكم صفة الجنة ، وجملة ( تجري ) مفسرة أو مستأنفة استئنافاً بيانياً أو حال من ضمير ( وعد ) أي : وعدها مقدراً جريان أنهارها . وهذا الوجه سالم من التكلف ، مع ما فيه من الإيجاز والإجمال والتفصيل . وقُدَّر الخبر فيه مقدماً لطول ذيل المبتدأ ، أو لئلا يفصل به بينه وبين ما يفسره ، أو هو كالمفسر له .
( الثاني ) : أن خبره ( تجري ) - على طريقة قولك : صفة زيد أسمر - قيل : هو غير مستقيم معنى ؛ لأنه يقتضي أن الأنهار في صفة الجنة ، وهي فيها لا في صفتها . مع تأنيث الضمير العائد على المثل حملاً على المعنى .
( الثالث ) : أن ثمة موصوفاً محذوفاً ، أي : مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار ، وقوله ( وظلها ) مبتدأ محذوف الخبر أي : كذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ } [ 36 ] .
{ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } لأنه يحصل لهم به من المعاني والدلائل وكشف الشبهات ما لم يحصل لهم من تلك الكتب السالفة . قيل : عنى بهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام ، فإنهم يفرحون بما أنزل من القرآن ؛ لما يرون فيه من الشواهد على حقيته التي لا يمترى فيه ، ومن المعارف والمزايا الباهرة التي لا تحصى ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ } [ البقرة : من الآية 121 ] { وَمِنَ الأَحْزَابِ } يعني بقية أهل الكتاب والمشركين : { مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } وهو ما يخالف معتقدهم ، وجوز أن يراد ( بالموصول ) من يفرح به منهم لمجرد تصديقه لما بين يديه وتعظيمه له وإن لم يؤمنوا . وبـ : { الأَحْزَابِ } المشركون ، خاصة المنكرين لما فيه من التوحيد . ولذا أمر برد إنكارهم بقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو } أي : لا إلى غيره : { وَإِلَيْهِ مَآبِ } أي : مرجعي للجزاء ، لا إلى غيره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ } [ 37 ] .
{ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً } أي : حاكماً بالحق ، أو حكمة عربية : { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ } أي : لئن تابعتهم على دين ، ما هو إلا أهواء بعد ثبوت العلم عندك بالبراهين والحجج ؛ فلا ينصرك ناصر ولا يقيك واق . وهذا من باب الإلهاب والتهييج والبعث للسامعين على الثبات في الدين والتصلب ، وأن لا يزلَّ زالٌّ عند الشبهة بعد استمساكه بالحجة . وإلا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة الشكيمة بمكان . كذا في " الكشاف " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } [ 38 ] .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً } أي : مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم ، وهو رد لقولهم : لو كان نبياً لكان من جنس الملائكة كما قالوا : { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ } [ الفرقان : من الآية 7 ] ، وإعلام بأن ذلك سنة كثير من الرسل ، فما جاز في حقهم لِمَ لا يجوز في حقه ؟ وقد قال تعالى له : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } [ الكهف : من الآية 110 ] { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ } أي : ما صح له ولا استقام ولم يكن في وسعه أن يأتي بما يقترح عليه ، إلا بإرادته تعالى في وقته ؛ لأن الآيات معينة بإزاء الأوقات التي تحدث فيها ، من غير تغير وتبدل وتقدم وتأخر . فأمرها منوط بمشيئته تعالى ، المبنية على الحكم والمصالح التي عليها يدور أمر الكائنات : { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } أي : لكل وقت من الأوقات أمر مكتوب ، مقدر معين أو مفروض في ذلك الوقت على الخلق حسبما تقتضيه الحكمة ، فالشرائع معينة عند الله بحسب الأوقات ، في كل وقت يأتي ، بما هو صلاح ذلك الوقت ، رسولٌ من عنده . وكذا جميع الحوادث من الآيات وغيرها ، فليس الأمر على إرادة الكفار واقتراحاتهم ، بل على حسب ما يشاؤه تعالى ويختاره ، وفيه رد لاستعجالهم الآجال وإتيان الخوارق والعذاب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } [ 39 ] .
{ يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ } أي : ينسخ ما يشاء نسخه من الشرائع لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت : { وَيُثْبِتُ } أي : بَدَلهُ ما فيه المصلحة ، أو يبقيه على حاله غير منسوخ : { وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } أي : أصله .
قال الرازي : العرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أُمّاً له ، ومنه أم الرأس : للدماغ ، وأم القرى : لمكة . وكل مدينة فهي أمٌّ لما حولها من القرى . فكذلك أمُّ الكتاب ، هو الذي يكون أصلاً لجميع الكتب . روى عليُّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية يقول : يبدل الله ما يشاء فينسخه ويثبت ما يشاء فلا يبدله : { وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } يقول : وجملة ذلك عنده في أم الكتاب الناسخ والمنسوخ . وما يبدل وما يثبت . كل ذلك في كتاب . وعن قتادة : أن هذه الآية كقوله تعالى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا } [ البقرة : من الآية 106 ] الآية .
تنبيه :
تمسك جماعة بظاهر قوله تعالى : { يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ } فقالوا : إنها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ . قالوا : يمحو الله من الرزق ويزيد فيه . وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر .
قال الرازي : هو مذهب عمر وابن مسعود . والقائلون بهذا القول كانوا يدعون ويتضرعون إلى الله تعالى في أن يجعلهم سعداء لا أشقياء . انتهى .
أشار بذلك إلى آثار أخرجها ابن جرير عن عمر وابن مسعود . وليس في الصحيح شيء منها .
ظهر لي في دمر في 12 ربيع الأول سنة 1324 :
إن ما يستدل به الكثير من الآيات لمطلبٍ ما ، أن يدقق النظر فيه تدقيقاً زائداً ، فقد يكون سياق الآية لأمرٍ لا يحتمل غيره ، ويظن ظان أنه يستدل بها في بحث آخر ، وقد يؤكده ما يراه من إطباق كثير من أرباب التصانيف على ذلك وإنما المدار على فهم الأسلوب والسياق والسباق .
خُذ لك مثلاً قوله تعالى : { يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } فكم ترى من يستدل بها على العلم المعلق ، ومحو ما في اللوح الذي يسمونه ( لوح المحو والإثبات ) ويوردون من الإشكالات والأجوبة ما لا يجد الواقف عليه مقنعاً ولا مطمأناً .
مع أن هذه الآية ، لو تمعن فيها القارئ ؛ لعلم أنها في معنى غير ما يتوهمون . وذلك أنهم كانوا يقترحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوائل البعثة ، أن يأتي بآية كآية موسى وعيسى ؛ توهماً أن ذلك هو أقصى ما يدل على نبوة النبي في كل زمان ومكان ، فأعلمهم الله تعالى أن دور تلك الآيات الحسية انقضى دورها ، وذهب عصرها . وقد استعد البشر للتنبه إلى الآية العقلية وهي آية الاعتبار والتبصر . وإن تلك الآيات محيت كما محي عصرها . وقد أثبت تعالى غيرها مما هو أجلى وأوضح وأدل على الدعوة ، وهو قوله تعالى قبلها : { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [ 40 ] .
{ وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ } أي : من إنزال العذاب في حياتك : { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } أي : قبل ذلك : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ } أي : تبليغ الوحي : { وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } أي : حسابهم وجزاؤهم . قال أبو حيان : جواب الشرط الأول : ( فذلك شافيك ) والثاني : ( فلا لوم عليك ) وقوله تعالى : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ } الخ دليل عليهما .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ 41 ] .
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } أي : أرض الكفرة ، ننقصها عليهم بإظهار دين الإسلام في أطراف ممالكهم .
قال ابن عباس : أي : أولم يروا أنا نفتح للرسول الأرض بعد الأرض ؛ يعني أن انتقاص أحوال الكفرة وازدياد قوة المسلمين من أقوى العلامات على أنه تعالى ينجز وعده ، ونظيره قوله تعالى : { أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ الأنبياء : من الآية 44 ] ، وقوله : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ } [ فصلت : من الآية 53 ] .
قال الشهاب : هذا مرتبط بما قبله . يعني لم يؤخر عذابهم لإهمالهم ، بل لوقته المقدر ، أوَ مَا تَرَى نقص ما في أيديهم من البلاد وزيادة ما لأهل الإسلام ، ولم يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم به تعظيماً له ، وخاطبهم تهويلاً وتنبيهاً عن سنة الغفلة . ومعنى : { نَأْتِي الأَرْضَ } يأتيها أمرنا وعذابنا . انتهى .
وقيل : { نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } بموت أهلها وتخريب ديارهم وبلادهم . فهؤلاء الكفرة كيف أمنوا من أن يحدث فيهم أمثال هذه الوقائع ؟ .
تنبيه :
يذكرون - ها هنا - رواية عن ابن عباس ومجاهد : أن نقصها من أطرافها هو موت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها . ويؤيد من يعتمد ذلك بأن الجوهري حكى عن ثعلب : أن الأطراف يطلق على الأشراف ، جمع طرف وهو الرجل الكريم ، وشاهده قول الفرزدق :
~واسأل بنا وبكم إذا وردت منى أطراف كل قبيلة من يتبع
يريد أشراف كل قبيلة . فمعنى الآية : أولم يروا ما يحدث في الدنيا من الاختلافات : موت بعد حياة ، وذل بعد عز ، ونقص بعد كمال ، وإذا كان هذا مشاهداً محسوساً ؛ فما الذي يؤمنهم من أن يقلب الله الأمر عليهم فيذلهم بعد العزة ! ولا يخفاك أن هذا المعنى لا يذكره السلف تفسيراً للآية على أنه المراد منها ، وإنما يذكرونه تهويلاً لخطب موت العلماء بسبب أنهم أركان الأرض وصلاحها وكمالها وعمرانها ، فموتهم نقص لها وخراب منها . كما قال أحمد بن غزال :
~الأرض تحيى إذا ما عاش عالمها متى يمت عالم منها يمت طرف
~كالأرض تحيى إذا ما الغيث حل بها وإن أبى عاد في أكنافها التلف
ولذا قال الزهري كما في " لسان العرب " : أطراف الأرض نواحيها ، الواحد طرف ، و : { نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } أي : نواحيها ناحية ناحية ، وعلى هذا من فسر ( نقصها من أطرافها ) فتوح الأرضين . وأما من جعل ( نقصها من أطرافها ) موت علمائها فهو من غير هذا ، قال : والتفسير على القول الأول .
وقوله تعالى : { وَاللّهُ يَحْكُمُ } أي : ما يشاء كما يشاء ، وقد حكم للإسلام بالعز والإقبال ، وعلى الكفر بالذل والإدبار ، حسبما يشاهد من المخايل والآثار . وفي الالتفات من التكلم إلى الغيبة ، وبناء الحكم على الاسم الجليل ، من الدلالة على الفخمة وتربية المهابة وتحقيق مضمون الخبر بالإشارة إلى العلة ما لا يخفى ، وهو جملة اعتراضية جيء بها لتأكيد فحوى ما تقدمها .
وقوله تعالى : { لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ } اعتراض في اعتراض ؛ لبيان علو شأن حكمه تعالى ، وقيل : نصب على الحالية ، كأنه قيل : والله يحكم نافذاً حكمه ، كما تقول : جاء زيد لا عمامة على رأسه ، أي : حاسراً . و ( المعقب ) من ينكر على الشيء فيبطله ، وحقيقته من يعقبه ويقفّيه بالرد والإبطال . أفاده أبو السعود .
{ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } أي : فعمَّا قليل يحاسبهم ويجازيهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا بالقتل والأسر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ } [ 42 ] .
{ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي : مكر الكفار الذين خلوا ، إيقاع المكروه بأنبيائهم والمؤمنين كما مكر هؤلاء ، وقوله : { فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً } إشارة إلى ضعف مكرهم وكيدهم لاضمحلاله وذهاب أثره ، وأنه مما لا يسوء ، وأن المكر المرهوب هو ما سيؤخذون به من إيقاع فنون النكال ، وهم نائمون على فرش الإمهال ، مما لا يخطر لهم على بال ، كما يومئ إليه قوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ } أي : فيوفيها جزاءها المعد لها على ما كسبت من فنون المعاصي التي منها مكرهم ، من حيث لا يحتسبون : { وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ } أي : العاقبة الحميدة ، وعلى من تدور الدائرة ، وهذا كقوله تعالى : { وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا } [ النمل : 50 - 52 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } [ 43 ] .
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } فإنه أظهر على رسالتي ، من الحجج القاطعة والبينات الساطعة ، وما فيه مندوحة عن شهادة شاهد آخر . قيل : جعل هذا شهادة ( وهو فعل والشهادة قول ) على سبيل الاستعارة ؛ لأنه يغني عن الشهادة بل هو أقوى . انتهى . ولا يخفى أن الشهادة أعم من القول والفعل . على أن المراد من تلك الججج هي آيات القرآن والذكر الحكيم ، وهي كلامه تعالى ، وقد قال تعالى : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي } [ يونس : 53 ] .
وقوله تعالى : { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } أي : ومن هو من علماء أهل الكتاب فإنهم يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم ونعته في كتابهم من بشارات الأنبياء به . كما قال تعالى : { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ } [ الأعراف : 157 ] وقال تعالى : { أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ } [ الشعراء : 197 ] .
ويروى عن مجاهد أنه عنى بـ : { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } عبد الله بن سلام . ونوقش بأن السورة مكية ، وإسلامه كان بالمدينة . وأجاب البعض بأن بعض السور المكية ربما وجد في مدني وبالعكس ، وكأن هذه الآية من ذلك .
وقد روى الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في " دلائل النبوة " : أن عبد الله بن سلام أسلم قبل الهجرة ، حيث رحل إلى مكة قبلها ، واستيقن نبوته صلوات الله عليه . ثم آب إلى المدينة وكتم إسلامه إلى أن كانت الهجرة . والله أعلم .(/)
سورة إبراهيم
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ 1 ] .
{ الَر كِتَابٌ } خبر لـ ( آلر ) على كونه مبتدأ . أو خبر لمحذوف على كونه خبراً لمضمر ، أو مسروداً على نمط التعديد . وقوله تعالى : { أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ } صفة له : { لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } أي : من الضلال إلى الهدى : { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } أي : أمره . وقوله تعالى : { إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } بدل من قوله : { إِلَى النُّورِ } بتكرير العامل . أو مستأنف ، كأنه قيل : إلى أي : نور ؟ فقيل : { إِلَى صِرَاطِ } الخ و : { الْعَزِيزِ } الذي لا يغالب ولا يمانع بل هو القاهر القادر . و : { الْحَميدِ } المحمود في أمره ونهيه لإنعامه فيهما بأعظم النعم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } [ 2 ] .
{ اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } قرئ لفظ الجلالة بالرفع على الابتداء وخبره ما بعده . أو على الخبرية لمحذوف . وقرئ بالجر ، عطف بيان لـ : { الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } : { وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ } أي : بما أنزلناه إليك : { مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } يوم القيامة وهو عذاب النار .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } [ 3 ] .
{ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ } أي : يؤثرونها عليها : { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ } بتعويق الناس عن الإيمان : { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } أي : يصفونها بالانحراف عن الحق والصواب ، أو يبغون أهلها أن يعوجوا بالردة ، أو يبغون لها اعوجاجاً ، أي : يطلبون أن يروا فيها عوجاً قادحاً ، على الحذف والإيصال : { أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } أي : ضلوا عن طريق الحق ووقفوا دونه بمراحل ، والبعد في الحقيقة للضال نفسه ، وصف به فعله للمبالغة بجعل الضلال نفسه ضالاً . وفي إيثار الظرف على ( أولئك ضالون ضلالاً بعيداً ) دلالة على تمكنهم فيه ، باشتماله عليهم اشتمال المحيط على المحاط ، مبالغة في إثبات وصف الضلال . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 4 ] .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } أي : ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه ، فلا يكون لهم حجة على الله ولا يقولوا : لم نفهم ما خوطبنا به كما قال : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } [ فصلت : من الآية 44 ] . ( فإن قلت ) : لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم ، وإنما بعث إلى الناس جميعاً : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [ الأعراف : من الآية 158 ] ، بل إلى الثقلين وهم على ألسنة مختلفة . فإن لم تكن للعرب حجة ، فلغيرهم الحجة . وإن لم تكن لغيرهم حجة ، فلو نزل بالعجمية لم تكن للعرب حجة أيضاً ؟ ( قلت ) : لا يخلو إما أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها ، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة ؛ لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل ؛ فبقي أن ينزل بلسان واحد فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول ؛ لأنهم أقرب إليه . فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر ؛ قامت التراجم ببيانه وتفهيمه ، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم في كل أمة من أمم العجم ، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة والأقطار المتنازحة والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة على كتاب واحد ، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه ، وما يتشعب من ذلك من جلائل الفوائد ، وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكد القرائح فيه ، من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب ، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل وأسلم من التنازع والاختلاف ، ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها مع اختلافها وكثرتها ، وكان مستقلاً بصفة الإعجاز في كل واحدٍ منها ، وكلم الرسول العربي كل أمة بلسانها ، كما كلم أمته التي هو منها يتلوه عليهم معجزاً ؛ لكان ذلك أمراً قريباً من الإلجاء . ومعنى : { بِلِسَانِ قَوْمِهِ } بلغة قومه - كذا في " الكشاف " - .
وقال بعض المحققين : يقول قائل : ألا تدل هذه الآية على أن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانت للعرب خاصة ؟ نقول : لا ؛ لأنه جرت سنة الله أن يختار أمة واحدة ويعدها لتهذيب الأمم الأخرى ، كما يعد فرداً واحداً منها لتهذيب سائر أفرادها . ولما كانت الأمة العربية هي المختارة لتهذيب الأمم وتعديل عوجها وإقامة منار العدل في ذلك العالم المظلم ؛ فقد وجب أن التهذيب الإلهي ينزل بلغتها خاصة حتى تستعيد وتتهيأ لأداء وظيفتها . وقد أتم الله نعمته عليها ، فقامت بما عهد إليها بما أدهش العالم أجمع ، ولله في خلقه شؤون .
تنبيه :
استدل بالآية من ذهب إلى أن اللغات اصطلاحية . قال : لأنها لو كانت توقيفية لم تعلم إلا بعد مجيء الرسول ، والآية صريحة في علمها قبله .
وقوله تعالى : { فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ } أي : لمباشرته أسبابه المؤدية إليه ، أو يخذله ولا يلطف به لعلمه أنه لا ينجع فيه الإلطاف : { وَيَهْدِي مَن يَشَاء } لما فيه من الإنابة والإقبال إلى الحق . ( والفاء ) فصيحة ، كأنه قيل : فبينوه ، فأضل الله من شاء إضلاله وهدى من شاء . والحذف للإيذان بأن مسارعة كل رسول إلى ما أمر به ، وجريان كل من أهل الخذلان والهداية على سنته ، أمر محقق غني عن الذكر والبيان : { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي : فلا يغالب ، ولا يقضي إلا بما فيه الحكمة .
ثم أشير إلى تفصيل ما أجمل في قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } [ 5 ] .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ } أي : أنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم ، كقوم نوح ولوط . ومنه : أيام العرب ؛ لحروبها وملاحمها ؛ لأنها تعظم بها الأيام . وقيل : أيامه : نعماؤه عليهم . فتكون الآية بعدها تفصيلاً لها . وقيل : هي أعم من النعماء والبلاء . والوجه الأول أولى فيما أراه ؛ لاختصاص كل آية بمقام ، والتأسيس خير من التأكيد . وفي الالتفات من التكلم إلى الغيبة ، بالإضافة إلى الاسم الجليل ، إيذان بفخامة شأنها . قال أبو بكر ابن العربي : هذه الآية في الوعظ المرقق للقلوب .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : في التذكير بها : { لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي : يصبر على بلائه ويشكر نعماءه . فإذا سمع بما أنزل الله من البلاء على الأمم ، أو أفاض عليهم من النعم ، تنبه على ما يجب عليه من الصبر والشكر . وقيل : أراد ( لكل مؤمن ) لأن الشكر والصبر عنوان المؤمن . وتقديم ( الصبار ) على ( الشكور ) لتقدم متعلق الصبر - أعني الإيمان على متعلق الشكر - أعني النعماء - وكون الشكر عاقبة الصبر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } [ 6 ] .
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } أي : يبغونكم إياه : { وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ } أي : المولودين صغاراً : { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ } أي : يبقونهن في الحياة : { وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } الإشارة إلى فعل آل فرعون . . ونسبته إليه تعالى للخلق أو الإقدار والتمكين . قيل : كون قتل الأبناء ، ابتلاء ظاهر . وأما استحياء النساء ، وهن البنات أي : استبقاؤهن ، فلأنهم كانوا يستخدمونهن ويفرقون بينهن وبين الأزواج ، أو لأن بقاءهن دون البنين رزية في نفسه كما قيل :
~ومن أعظم الرزء فيما أرى بقاء البنات وموت البنينا
ويجوز أن تكون الإشارة إلى الإلجاء من ذلك . و ( البلاء ) : الابتلاء بالنعمة ، وهو بلاء عظيم .
قال الزمخشري : البلاء يكون ابتلاء بالنعمة والمحنة جميعاً . قال تعالى : { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } [ الأنبياء : من الآية 35 ] ، وقال زهير :
~فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
ولذا جوز أن تكون الإشارة إلى جميع ما مرَّ ، الشامل للنعمة والنقمة .
لطيفة :
أشار أهل المعاني إلى نكتة مجيء : { وَيُذَبِّحُونَ } هنا بالواو ، وفي سورة البقرة : { يُذَبِّحُون } [ البقرة : من الآية 49 ] ، وفي الأعراف : { يُقَتِّلُونَ } [ الأعراف : من الآية 141 ] ، بدونها . والقصة واحدة - بأنه حيث طرح الواو قصد تفسير العذاب وبيانه - ، فلم يعطف لما بينهما من كمال الاتصال . وحيث عطف - كما هنا - لم يقصد ذلك . والعذاب ، إن كان المراد منه الجنس ، فالتذبيح ، لكونه أشد أنواعه ، عطف عليه عطف جبريل على الملائكة ، تنبيهاً على أنه لشدته كأنه ليس من ذلك الجنس . وإن كان المراد به غيره ، كاسترقاقهم واستعمالهم في الأعمال الشاقة ، فهما متغايران ، والمحل محل العطف . وجوز أيضاً كون العطف هنا للتفسير وكأن التفسير - لكونه أوفى بالمراد وأظهر - بمنزلة المغاير فلذا عطف .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [ 7 ] .
{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ } أي : آذن وأعلم إعلاماً بليغاً - من جملة ما قال موسى لقومه - : { لَئِن شَكَرْتُمْ } أي : نعمه ، بصرفها إلى ما خُلقت له . كالعقل إلى تصحيح الاعتقاد فيه واستعمال سائر النعم بمقتضاه : { لأَزِيدَنَّكُمْ } أي : من النعم : { وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } فيصيبكم منه ما يسلب تلك النعم ويحل أشد النقم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ 8 ] .
{ وَقَالَ مُوسَى } أي : لقومه : { إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي : غني عن شكر عباده ، المحمود بأجلّ المحامد . وإن كفره من كفره . وهو تعليل لما حذف من جواب ( إن ) أي : إن تكفروا لم يرجع وباله إلا عليكم ، فإن الله لغني عن شكر الشاكرين .
وفي " صحيح مسلم " عن أبي ذر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل : أنه قال : < يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً . يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ، ما نقص ذلك في ملكي شيئاً . يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البخر > فسبحانه من غني حميد .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } [ 9 ] .
{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ } أي : في مؤاخذة من كفر : { نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ } أي : مع كثرتهم : { وَعَادٍ } أي : مع غاية قوتهم : { وَثَمُودَ } مع كثرة تحصنهم وصنائعهم : { وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } .
قال ابن جرير : هذا من تمام قول موسى لقومه ، يعني : وتذكاره إياهم بأيام الله بانتقامه من الأمم المكذبة بالرسل .
قال ابن كثير : وفيما قال ابن جرير نظر ؛ والظاهر أنه خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة ؛ فإنه قد قيل : إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة ، فلو كان هذا من كلام موسى لقومه لقصَّه عليهم ، ولا شك حينئذ أن تكون هاتان القصتان في التوراة ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ } جملة من مبتدأ وخبر وقعت اعتراضاً ، أو عطف ( الذين ) على قوم نوح ، و : { لاَ يَعْلَمُهُمْ } الخ اعتراض ، ومعنى الاعتراض على الثاني : ألم يأتكم أنباء الجم الغفير الذي لا يحصى كثرة فتعتبروا بها ؟ إن في ذلك لمعتبراً . وعلى الأول : فهو ترق ، ومعناه : ألم يأتكم نبأ هؤلاء ومن لا يحصى بعدهم ؟ كأنه يقول : دع التفصيل فإنه لا مطمع فيه ، وفيه لطف لإيهام الجمع بين الإجمال والتفصيل .
وقوله تعالى : { فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ } يحتمل الأيدي والأفواه أن يكونا الجارحتين المعروفتين . وأن يكونا من مجاز الكلام . وفي الأول وجوه :
أي : ردوا أيديهم في أفواههم فعضوها غيظاً وضجراً مما جاءت به الرسل ، كقوله : { عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ } [ آل عِمْرَان : من الآية 119 ] ، أو وضعوها على أفواههم ضحكاً واستهزاءً كمن غلبه الضحك . أو وضعوها على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء أن يكفوا ويسكتوا . أو أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل أن اسكتوا . و ( في ) بمعنى ( إلى ) أو وضعوا أيديهم على أفواه الرسل منعاً لهم من الكلام ، أو أنهم أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواههم ليقطعوا كلامهم . ومن بالغ في منع غيره من الكلام ؛ فقد يفعل به ذلك . أو أشاروا بأيديهم إلى جوابهم وهو قولهم : { إِنَّا كَفَرْنَا } أي : هذا جوابنا الذي نقوله بأفواهنا ، والمراد إشارتهم إلى كلامهم كما يقع في كلام المتخاطبين ، أنهم يشيرون إلى أن هذا هو الجواب ثم يقررونه ، أو يقررون ثم يشيرون بأيديهم إلى أن هذا هو الجواب . قيل : وهو أقوى الوجوه المتقدمة ؛ لأنهم لما حاولوا الإنكار على الرسل كل الإنكار ، جمعوا في الإنكار بين الفعل والقول . ولذا أتى بالفاء تنبيهاً على أنهم لم يمهلوا ، بل عقبوا دعوتهم بالتكذيب . وفي تصديرهم الجملة بـ ( أن ) ومواجهة الرسل بضمائر الخطاب وإعادة ذلك مبالغة في التأكيد .
وفي الثاني - أعني المعنى المجازي - وجوه :
قال أبو مسلم الأصفهاني : المراد باليد ما نطقت به الرسل من الحجج ، وذلك لأن إسماع الحجة إنعام عظيم ، والإنعام يسمى يداً ، يقال : لفلان عندي يد ، إذا أولاه معروفاً . وقد تذكر اليد والمراد منها صفقة البيع والعقد ، كقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [ الفتح : من الآية 10 ] . فالبينات التي كان الأنبياء عليهم السلام يذكرونها ويقررونها نعمٌ وأيادٍ ، وأيضاً العهود التي كانوا يأتون بها مع القوم أيادٍ ، وجمع اليد في العدد القليل هو الأيدي ، وفي العدد الكثير الأيادي . فثبت أن بيانات الأنبياء عليهم السلام وعهودهم صح تسميتها بالأيدي . وإذا كانت النصائح والعهود إنما تظهر من الفم ، فإذا لم تقبل صارت مردودة إلى حيث جاءت ، ونظير قوله تعالى : { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } [ النور : من الآية 15 ] ، فلما كان القبول تلقياً بالأفواه عن الأفواه كان الدفع رداً في الأفواه . انتهى .
وفي " الرازي " تتمة الأوجه فانظرها إن شئت .
قال في " العناية " : فإن قلت : قولهم : { إِنَّا كَفَرْنَا } جزم بالكفر لا سيما وقد أكد بـ ( إن ) ، فقولهم : { وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ } ينافيه ، قلت : أجيب بأن الواو بمعنى أو ، أي : أحد الأمرين لازم وهو : إنا كفرنا جزماً فإن لم نجزم فلا أقل من أن نكون شاكين فيه . وأيا ما كان ، فلا سبيل إلى الإقرار . وقيل : إن الكفر عدم الإيمان عمن هو من شأنه ، فكفرنا بمعنى لم نصدق ، وذلك لا ينافي الشك ، أو متعلق الكفر الكتب والشرائع ، ومتعلق الشك وما يدعونهم إليه من التوحيد مثلاً . انتهى .
أي : فلا ينافي شكهم في ذلك كفرهم القطعي بالأول .
وقوله تعالى : { مُرِيبٍ } بمعنى موقع في الريبة ، من ( أرابه ) أوقعه فيها ؛ أو ذي ريبة ، من ( أراب ) : صار ذا ريبة وهي صفة مؤكدة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } [ 10 ] .
{ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : وهو مما لا مجال للشك فيه لغاية ظهوره .
قال ابن كثير : هذا يحتمل معنيين : أحدهما : أفي وجوده شك ؟ فإن الفطر شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به . فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة ، ولكن قد يعرض لبعض الفطر شك واضطراب فيحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده ، ولهذا قالت لهم الرسل ترشدهم إلى طريق معرفته بأنه فاطر السماوات والأرض - أي : الذي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق - فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهر عليهما . فلا بد لهما من صانع وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء وإلهه ومليكه . والمعنى الثاني : أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له ، شك ؟ وهو الخالق لجميع الموجودات ولا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له ، فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع ، ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنونها تنفعهم أو تقربهم من الله زلفى . انتهى .
وسبق لنا في سورة الأعراف البحث في أن معرفته تعالى ضرورية أو نظرية فارجع إليه .
وفي إدخال همزة الإنكار على الظرف إيذان بأن مدار الإنكار ليس نفس الشك بل وقوعه فيما لا يكاد يتوهم فيه الشك أصلاً ، وفي العدول عن تطبيق الجواب على كلام الكفرة بأن يقولوا : ( أأنتم في شك مريب من الله ) مبالغة في تنزيه ساحة جلاله عن شائبة الشك وتسجيل عليهم بسخافة العقول .
وقوله تعالى : { يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ } أي : يدعوكم إلى الإيمان بإرساله إيانا ، لا أنا ندعوكم إليه من تلقاء أنفسنا كما يوهمه قولكم : { مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْه } . ولام ( ليغفر ) متعلقة بـ ( يدعو ) أي : لأجل المغفرة لا لفائدته ، تعالى وتقدس . أو للتعدية أي : يدعوكم إلى المغفرة ، كقولك : دعوتك لزيد . و ( من ) إما تبعيضية أي : بعض ذنوبكم وهو ما بينهم وبين الله تعالى دون المظالم ، أو صلة على مذهب الأخفش وغيره ، من زيادتها في الإيجاب ، أو للبدل أي : بدل عقوبة ذنوبكم ، أو على تضمين ( يغفر ) معنى ( يخلص ) .
وادعى الزمخشري مجيئه بـ ( من ) هكذا في خطاب الكافرين دون المؤمنين في جميع القرآن . قال : وكان ذلك للتفرقة بين خطابين ، ولئلا يسوى بين الفريقين في الميعاد .
قال في " الكشاف " : وللتخصيص فائدة أخرى وهي التفرقة بين الخطابين بالتصريح بمغفرة الكل ، وإبقاء البعض في حق الكفرة مسكوتاً عنه لئلا يتكلوا على الإيمان .
وقوله تعالى : { وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي : يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى : { قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } أي : آية مما نقترحه تدل على فضلكم علينا بالنبوة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [ 11 ] .
{ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } أي : بالرسالة والنبوة : { وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ } أي : بأمره وإرادته ، وهو لم يرد ذلك ، لقوله : { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ } [ الإسراء : من الآية 59 ] .
{ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } قال الزمخشري : أمرٌ منهم للمؤمنين كافة بالتوكل ، وقصدوا به أنفسهم قصداً أولياً وأمَرُوها به كأنهم قالوا : ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم وما يجري علينا منكم . ألا ترى إلى قوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ 12 ] .
{ وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ } ومعناه : وأي عذر لنا في أن لا نتوكل عليه : { وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا } أي : أرشد كلاً منا سبيله ومنهاجه الذي شرع له ، وأوجب عليه سلوكه في الدين . وحيث كانت أذية الكفار مما يوجب القلق والاضطراب القادح في التوكل ، قالوا على سبيل التوكيد القسمي ، مظهرين لكمال العزيمة : { وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا } أي : من الكلام السيئ والأفعال السخيفة . وقوله : { وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } فيه اهتمام بالتوكل عليه سبحانه ؛ لأن مقام الدعوة يقتضيه . ولذا أعيد ذكره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } [ 13 - 14 ] .
{ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } يخبر تعالى عما توعد به الكافرون رسلهم ، لما رأوهم صابرين متوكلين ، لا يهمهم شأنهم من الإخراج من الأرض ، والنفي من بين أظهرهم ، أو العود في ملتهم . والمعنى : ليكونن أحد الأمرين .
والسبب في هذا التوعد - كما قال الرازي - أن أهل الحق في كل زمان يكونون قليلين ، وأهل الباطل يكونون كثيرين . والظلمة والفسقة يكونون متعاونين متعاضدين . فلهذه الأسباب قدروا على هذه السفاهة . فإن قيل : يتوهم من لفظ ( العود ) أنهم كانوا في ملة الكفر قبل ! أجيب : بأن ( عاد ) بمعنى صار . وهو كثير الاستعمال بهذا المعنى ، أو الكلام على ظنهم وزعمهم أنهم كانوا من أهل ملتهم قبل إظهار الدعوة . أو الخطاب للرسل ولقومهم ، فغلبوا عليهم في نسبة العود إليهم .
وقوله تعالى : { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ } الخ وعد صادق للرسل ، وبشارة حقة . كما قال تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ الصافات : 171 - 173 ] ، وقال تعالى : { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا } [ الأعراف : من الآية 137 ] ، والآيات في ذلك كثيرة . والإشارة في ( ذلك ) إلى الموحى به وهو إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين . وقوله : { لِمَنْ خافَ } الخ ، أي : للمتقين ؛ لأنهم الموصوفون بما ذكر كقوله : { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : من الآية 128 ] . و ( المقام ) إما موقف الحساب ، فهو اسم مكان ، وإضافته إليه سبحانه لكونه بين يديه ، أو مصدر ميمي ، بمعنى : حفظي وقيامي لأعمالهم ليجازوا عليها . أو مقحم للتفخيم والتعظيم كما يقال : المقام العالي . وياء المتكلم في ( وعيد ) محذوفة للاكتفاء بالكسرة عنها في غير الوقف .
قال السمين : أثبت الياء هنا وفي ( ق ) في موضعين : { كلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ } [ ق : من الآية 14 ] ، { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } [ ق : من الآية 45 ] ، وصلاً ، وحذفها وقفاً ورش عن نافع . وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } [ 15 ] .
{ وَاسْتَفْتَحُواْ } أي : سألوا من الله الفتح على أعدائهم ، أو القضاء بينهم وبين أعدائهم . من ( الفتاحة ) وهي الحكومة كقوله : { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَق } [ الأعراف : من الآية 89 ] ، فالضمير : للرسل ، وقيل : للكفرة ، وقيل : للفريقين ، فإنهم سألوا أن ينصر المحقّ ويهلك المبطل . وقوله : { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } أي : فنصروا عند استفتاحهم وأفلحوا : { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } وهم قومهم . أو استفتح الكفار على الرسل وخابوا ولم يفلحوا . وإنما قيل : { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالتجبر والعناد . أو استفتحوا جميعاً فنَصَرَ الرسلَ وأنجز لهم الوعد ، وخاب أعداؤهم . و ( الجبار ) المتكبر على طاعة الله تعالى وعبادته . و ( العنيد ) المعاند للحق ، كخليط بمعنى مخالط .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ } [ 16 ]
{ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ } جملة في محل جر صفة لـ ( جبار ) كناية عن تطلبها له وترصدها إياه ، ومن تطلب شيئاً وترصده أدركه لا محالة . وقيل : على تقدير مضاف ، أي : من وراء حياته وانقضاء عمره { وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ } وهو ما يسيل من جوف أهل النار ، قد خالط القيح والدم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } [ 17 ]
{ يَتَجَرَّعُهُ } أي : يتكلف تجرعه لقهره عليه : { وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } لخبثه : { وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } أي : تحيط به أسبابه من الأهوال ، وما هو بمستريح مما نزل به : { وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } أي : شديد متصل لا ينقطع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ } [ 18 ] .
{ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ } [ 18 ] المثل مستعار للصفة التي فيها غرابة . شبه تعالى أعمالهم اللاتي كانوا يعملونها لأوثانهم أو يراؤون بها - كإنفاق الأموال وعقر الإبل للضيفان ، في حبوطها ؛ لكونها على غير تقوى وإيمان - برماد طيرته الريح العاصف . وقوله تعالى : { لاَّ يَقْدِرُونَ } الخ ، مستأنف ، فذلك للتمثيل بمعنى المقصود منه ومحصل وجهه ، أي : لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء منها ، أي : لا يرون له أثراً من ثواب ، كما لا يقدر ، من الرماد المطير في الريح ، على شيء .
قال أبو السعود : الاكتفاء ببيان عدم رؤية الأثر لأعمالهم للأصنام ، مع أن لها عقوبات هائلة ؛ للتصريح ببطلان اعتقادهم وزعمهم أنها شفعاء لهم عند الله تعالى ، وفيه تهكم بهم . وفي توصيف الضلال بالبعد ، إشارة إلى بعد ضلالهم عن طريق الحق أو عن الثواب .
و ( اشتد به ) من ( شد ) بمعنى عدا والباء للتعدية أو ملابسة . أو من ( الشدة ) بمعنى القوة ، أي : قويت بملابسة حمله . و ( العصف ) قوة هبوب الريح ، وصف به زمانها على الإسناد المجازي ، كـ : ( نهاره صائم ) وخبر ( مثل ) محذوف أي : فيما يتلى عليكم . وجملة : { أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ } مستأنفة جواباً لسؤال : كيف مثلهم ؟ أو ( أعمالهم ) بدل من ( مثل ) و ( كرماد ) الخبر .
وهذه الآية كقوله تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً } [ الفرقان : 23 ] . وقوله تعالى : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ آل عِمْرَان : 117 ] . وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } [ البقرة : 264 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } [ 19 - 20 ] .
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } الخطاب للرسول صلوات الله عليه ، والمراد به أمته . أو لكل أحد من الكفرة لقوله ( يذهبكم ) والرؤية رؤية القلب .
وفي الآية وجهان من التأويل : أحدهما : أنها سيقت لبيان قدرته تعالى على معاد الأبدان يوم القيامة ، بأنه خلق السماوات والأرض التي هي أكبر من خلق الناس . أي : أفليس الذي قدر على هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وعظمتها وما فيها من الكواكب الثوابت والسيارات والآيات الباهرات ، وهذه الأرض بما فيها من مهاد ووهاد وأوتاد وبراري وقفار وبحار وأشجار ونبات وحيوان على اختلاف أصنافها ومنافعها وأشكالها وألوانها : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الأحقاف : 33 ] .
وقال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } [ يّس : 77 - 81 ] .
الوجه الثاني : ترهيب المشركين بأنهم غير معجزين ، أي : إن يشأ يهلككم إذا خالفتم أمره ويخلف قوماً خيراً منكم ، كقوله تعالى : { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [ محمد : من الآية 38 ] ، وقوله : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً } [ النساء : 133 ] .
وقوله تعالى : { بِالْحقِّ } أي : بالحكمة المنزهة عن العبث كقوله : { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً } [ آل عِمْرَان : من الآية 191 ] ، وقوله : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً } [ ص : من الآية 27 ] ، وقوله : { مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقّ } [ يونس : من الآية 5 ] ، وذلك ليتفكر في خلقها ويستدل بها على وجود بارئها وقدرته ووحدته .
ثم أخبر تعالى عن تخاصم المجرمين في المحشر وتبرئهم من بعضهم ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } [ 21 ] .
{ وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً } أي : اجتمعوا لحسابه وقضائه يوم القيامة في براز من الأرض ، وهو المكان الذي ليس فيه شيء يستر أحداً ، أو برزوا من قبورهم ، أي : ظهروا لذلك : { فَقَالَ الضُّعَفَاءُ } وهم الأتباع : { لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ } أي : على الرسل وهم قادتهم - توبيخاً لهم : { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً } أي : تابعين ، مهما أمرتمونا ائتمرنا : { فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ } أي : بعض الإغناء : { قَالُواْ } أي : المستكبرون : { لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ } إحالة لضلالهم وإضلالهم ، على مقامه سبحانه ، أو لو هدانا باهتدائنا ، ولكن زغنا فأزاغنا ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [ الصف : من الآية 5 ] ، { سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } أي : منجى ومهرب من العذاب . ونظير الآية قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } [ سبأ : من الآية 31 ] .
واستظهر ابن كثير هذه المراجعة في النار بعد دخولهم إليها لآية : { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ } [ غافر : 47 ] .
ولا يخفى أن الآية في هذه السورة تصدق بالتخاصم في الموقف وفي النار ؛ لإفادتها أن ذلك أثر بروزهم ، وهو صادق بما ذكرنا ، فلا قرينة فيها ؛ لكون ذلك في النار فقط ، كما ادَّعاه . وربما كان قوله : { وَبَرَزُواْ } يدل للموقف بمعناه المتقدم . ثم إن هذا التخاصم يجوز أن يكون متعدد المواطن لظاهر قوله : { عِندَ رَبِّهِمْ } وقوله : { في النَّارِ } ويجوز أن يكون مرة واحدة . والمراد بـ ( النار ) العذاب . ووقوفهم عند ربهم ، واليأس محيط بهم ، وجهنم ترقبهم ، عذاب وأي عذاب ! .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 22 ] .
{ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ } وهو الحكم بنجاة السعداء وهلاك الأشقياء : { إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ } أي : على ألسنة رسله بأن في إتباعهم النجاة والسلامة ، أي : فوفى به وأنجز : { وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ } أي : ووعدتكم وعد الباطل ، وهو أن لا بعث ولا جزاء . ولئن كان ، فالأصنام شفعاؤكم . ولم يصرح ببطلانه لدلالة قوله : { فَأَخْلَفْتُكُمْ } عليه . والإخلاف مستعار لعدم تحقق ما أخبر به وكذبه ، أو مشاكلة . وفي الآية من الإيجاز البليغ شبه الاحتباك . حيث حذف أولاً ( فوفى به ) لدلالة قوله بعدُ : { فَأَخْلَفْتُكُمْ } عليه لأنه مقابله ، وحذف ثانياً ( وعد الباطل ) لدلالة : { وَعدَ الْحَقِّ } .
{ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ } أي : حجة وبرهان : { إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي } أي : أسرعتم لطاعتي بمجرد ذلك ، أي : وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاؤوكم به ، فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه : { فَلاَ تَلُومُونِي } أي : بوعدي إياكم ، إذ لم يكن بطرق القسر : { وَلُومُواْ أَنفُسَكُم } أي : حيث استجبتم لي باختياركم ، حين دعوتكم بلا حجة ولا دليل . ولم تستجيبوا ربكم ، إذ دعاكم دعوة الحق المقرونة بالبراهين والحجج .
قال القاشاني : لما ظهر سلطان الحق على شيطان الوهم وتنوَّر بنوره ، أسلم وأطاع وصار محقاً ، عالماً بأن الحجة لله في دعوته للخلق إلى الحق لا له . ودعوته إلى الباطل بتسويل الحكام وتزيين الحياة الدنيا عليهم واهية فارغة من الحجة . وأقرَّ بأن وعده تعالى بالبقاء بعد خراب البدن والثواب والعقاب عند البعث حقٌّ قد وفى به . ووعدي بأن ليس إلا الحياة الدنيا باطل اختلقته . فاستحقاق اللوم ليس إلا لمن قبل الدعوة الخالية عن الحجة فاستجاب لها . وأعرض عن الدعوة المقرونة بالبرهان فلم يستجب لها . انتهى .
وحكي في " الإكليل " عن ابن الفرس : أن بعضهم انتزع من هذا إبطال التقليد في الاعتقاد . قال : وهو انتزاع حسن ؛ لأنهم اتبعوا الشيطان بمجرد دعواه ، ولم يطلبوا منه برهاناً . فحكى الله تقبيحاً لذلك الفعل منهم . انتهى .
{ مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ } أي : بمغيثكم ومنجيكم من العذاب : { وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } أي : مما أنا فيه . قال ابن الأعرابي : الصارخ : المستغيث ، والمصرخ : المغيث ، يقال : صرخ فلان إذا استغاث وقال : واغوثاه ! وأصرخته : أغثته . فالهمزة للسلب ، يعني أزلت صراخه ، وهو مدُّ الصوت { إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ } أي : كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم - أي : في الدنيا - يعني : جحدت أن أكون شريكاً لله عز وجل ، وتبرأت منه ومنكم ، فلم يبق بيني وبينكم علاقة كقوله تعالى : { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُم } [ فاطر : من الآية 14 ] ، وقوله : { وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 6 ] ، وقوله : { كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 82 ] { إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ابتداء كلام منه تعالى ، أو تتمة كلام الشيطان .
قال الزمخشري : وإنما حكى الله عز وعلا ما سيقوله في ذلك الوقت ؛ ليكون لطفاً للسامعين في النظر لعاقبتهم والاستعداد لما لا بد لهم من الوصول إليه ، وأن يتصوروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول الشيطان فيه ما يقول ، فيخافوا ويعملوا ما يخلصهم منه وينجيهم .
ولما ذكر تعالى مآل الأشقياء وما صاروا إليه من الخزي والنكال ، عطف بمآل السعداء بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } [ 23 ] .
{ وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ } أي : بالله ورسوله وكتابه : { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } أي : الطاعات : { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } أي : من تحت مساكنها وشجرها ، أنهار الخمر والماء والعسل واللبن : { خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } متعلق بـ ( أدخل ) أي : أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره : { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } أي : تحييهم وتكرمهم الملائكة بالسلام عليهم ، كقوله تعالى : { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُم } [ الزمر : من الآية 73 ] ، وقوله : { وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سلامٌ عَليْكُم } [ الرعد : 23 - 24 ] .
ولما بين تعالى ما أعد للمشركين والمؤمنين من المآل الأخروي ، ضرب مثلاً للشرك والإيمان - بأن مآل الثاني الثبات والاستقرار ؛ لأنه الذي ينفع الناس ، ومآل الأول إلى الدمار والاندحار - فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [ 24 - 25 ] .
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ } يعني في الأرض ضارب بعروقه فيها : { وَفَرْعُهَا } أي : أعلاها ورأسها : { فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا } أي : ثمرها : { كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } أي : بإرادته وتكوينه : { وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي : لأن فيها زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني المعقولة بالصور المحسوسة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } [ 26 ] .
{ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ } أي : استؤصلت وأخذت جثتها بالكلية : { مِن فَوْقِ الأَرْضِ } أي : لأن عروقها قريبة منه : { مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } أي : استقرار .
تنبيه :
لحظ في الممثل به - أعني الشجرة - أوصاف جليلة لتلحظ في جانب الممثل له . فمنها : كونها طيبة ، أعم من طيب المنظر والصورة والشكل ومن طيب الريح وطيب الثمرة وطيب المنفعة . وكون أصلها ثابتاً أي : راسخاً باقياً في أمن من الانقلاع والانقطاع والزوال والفناء ليعظم الفرح به والسرور . وكون فرعها في السماء فدل على كمال حال تلك الشجرة من جهة ارتفاع أغصانها وقوتها في التصاعد ، مما يبرهن على ثبات الأصل ورسوخ العروق ، وجهة بعدها عن العفونات والأقذار فتكون ثمرتها نقية طاهرة طيبة عن جميع الشوائب ، وكون ثمرتها تجتنى كل حين فلا تنقطع بركاتها وخيراتها . ولا ريب أن وجود هذه الأوصاف مما يدل على فخامة الموصوف وإنافة فضله . ولا تخفى مطابقة هذا الممثل به للممثل له - أعني الحق - وهو الإسلام الذي جاء به خاتم الأنبياء عليهم السلام .
ولما كان المثل مضروباً للحق والباطل في الثبات وعدمه ، والقصد أهلهما ؛ صرح بهما فذلك له ، فقال في أهل المثل الأول :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء } [ 27 ] .
{ يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } القول الثابت : هو الكلمة الطيبة التي ذكرت صفتها العجيبة وهو الحق . و ( بالقول ) جوزوا تعلقه بـ ( يثبت ) و ( آمنوا ) . والمعنى على الأول : ثبتهم بالبقاء على ذلك ، أو ثبتهم في سؤال القبر به ، وعلى الثاني فالباء سببية ، والمعنى : آمنوا بالتوحيد الخالص فوحدوه ونزهوه عما لا يليق بجنابه . و ( في الحياة ) متعلق بـ ( يثبت ) أو بـ ( الثابت ) كما قاله أبو البقاء . واقتصر الزمخشري وأتباعه على الأول حيث قال :
القول الثابت الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه فاعتقده واطمأنت إليه نفسه . وتثبيتهم به في الدنيا ، أنهم إذا فتنوا في دينهم لم يزلِّوا ، كما ثبت أصحاب الأخدود والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد ، وتثبيتهم في الآخرة أنهم إذا سئلوا عند تواقف الأشهاد عن معتقدهم ودينهم لم يتلعثموا ولم يبهتوا ولم تحيرهم أهوال الحشر . وقيل : معناه : الثبات عند سؤال القبر . فعن البراء بن عازب رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < المسلم إذا سُئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، قال : فذلك قوله تعالى : { يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ } > رواه الشيخان وأهل السنن .
وعليه ، فتفسير الآخرة بالقبر ؛ لكون الميت انقطع بالموت عن أحكام الدنيا .
وقال في أصحاب المثل الثاني :
{ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ } أي : يخلق فيهم الضلال عن الحق الذي ثبت المؤمنين عليه حسب إرادتهم واختيارهم ، ووصفهم بالظلم لوضعهم الشيء في غير موضعه ، أو لظلمهم أنفسهم حيث بدلوا فطرة الله التي فطر الناس عليها : { وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء } أي : من التثبيت والإضلال حسبما تقتضيه حكمته البالغة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ * وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ } [ 28 - 30 ] .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً } يعني كفار مكة ، أتتهم نعمة الله ، وهي التوحيد والإيمان والهداية ببعثة رسول من أنفسهم ، فبدلوا شكرها كفراً عظيماً وغمصاً لها : { وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ } أي : ممن أضلوه وصدره عن الهدى فتابعهم : { دَارَ الْبَوَارِ } أي : الهلاك .
{ جَهَنَّمَ } عطف بيان لها : { يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً } أي : من الأوثان فعبدوها : { لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ } أي : عن عبادته وحده : { قُلْ } أي : تهديداً لأولئك الضالين المضلين : { تَمَتَّعُواْ } أي : بشهوات الحياة الدنيا : { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ } [ 31 ] .
{ قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ } وهو يوم القيامة : { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ } أي : ليتدارك به التقصير ، أو يفتدى به : { وَلاَ خِلاَلٌ } أي : مخالة . مصدر بمعنى المصاحبة ؛ أي : لا مفاداة فيه ولا خلة أحد بمغنية شيئاً من شفاعة أو مسامحة بمال يفتدي به ، كما قال تعالى : { وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } [ البقرة : 123 ] .
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه لا بيع فيه ولا خلال ؟ قلت : من قبل أن الناس يخرجون أموالهم في عقود المعاوضات فيعطون بدلاً ليأخذوا مثله ، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستجروا بهداياهم أمثالها ، أو خيراً منها . وأما الإنفاق لوجه الله خالصاً ، فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص ، فبُعثوا عليه ليأخذوا بدله في اليوم : { لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ } أي : لا انتفاع فيه بمبايعة ولا بمخالة ولا بما ينفقون فيه أموالهم من المعاوضات والمكارمات ، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله . انتهى .
قال أبو السعود : والظاهر أن ( من ) متعلقة بـ ( أنفقوا ) وتذكير إتيان ذلك اليوم لتأكيد مضمونه ، من حيث أن كلاً من فقدان الشفاعة وما يتدارك به التقصير ؛ معاوضة وتبرعاً ، وانقطاع آثار البيع والخلال الواقعين في الدنيا وعدم الانتفاع بهما من أقوى الدواعي إلى الإتيان بما تبقى عوائده وتدوم فوائده من الإنفاق في سبيله تعالى . أو من حيث إن ادخار المال وترك إنفاقه ، إنما يقع غالباً للتجارات والمهاداة . فحيث لا يمكن ذلك في الآخرة ، فلا وجه لادخاره إلى وقت الموت . وتخصيص التأكيد بذلك لميل الطباع إلى المال ، وكونها مجبولة على حبه والفتنة به . ولا يبعد أن يكون تأكيداً لمضمون الأمر بإقامة الصلاة أيضاً ، من حيث إن تركها ، كثيراً ما يكون بالاشتغال بالبيوع والمخالات . كما في قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا } [ الجمعة : من الآية 11 ] . ولما ذكر أحوال الكافرين لنعم الله تعالى ، وأمر المؤمنين بإقامة مراسم الطاعة شكراً لنعمه ؛ شرع في تفصيل ما يستوجب على كافة الأنام المثابرة على الشكر والطاعة من النعم العظام ، حثاً للمؤمنين عليها وتقريعاً للكفرة المخلين بها ، الواضعين موضعها الكفر والمعاصي ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ } [ 32 ] .
{ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ } أي : المزن : { مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ } أي : تعيشون به : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ } أي : السفن : { لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ } أي : بإرادته : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ } أي : فتجري حيث تشاؤون من شرب وسقي وسواهما .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } [ 33 ] .
{ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ } أي : يدأبان في سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات : { وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } أي : يتعاقبان خلفه ، لمعاشكم وسباتكم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [ 34 ] .
{ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } أي : ما تحتاجون إليه مما تصلح أحوالكم ومعايشكم به ، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال .
وقال القاشاني : { مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } بألسنة استعداداتكم ، فإن كل شيء يسأله بلسان استعداده ، كما لا يفيض عليه مع السؤال بلا تخلف وتراخ : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا } لعدم تناهيها : { إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ } أي : بوضع نور الاستعداد ومادة البقاء في ظلمة الطبيعة ومحل الفناء وصرفه فيها . أو بنقص حق الله أو حق نفسه بإبطال الاستعداد { كَفَّارٌ } أي : بتلك النعم التي لا تحصى ، باستعمالها في غير ما ينبغي أن تستعمل ، وغفلته عن المنعم عليه به ، واحتجابه بها عنه . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ } [ 35 ] .
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ } أي : اذكر وقت قوله صلوات الله عليه .
قال أبو السعود : والمقصود من تذكيره ، تذكير ما وقع فيه من مقالاته عليه السلام على نهج التفصيل . والمراد به : تأكيد ما سلف من تعجبه عليه السلام ببيان فنٍ آخر من جناياتهم ، حيث كفروا بالنعم الخاصة بهم ، بعد ما كفروا بالنعم العامة . وعصوا أباهم إبراهيم عليه السلام حيث أسكنهم بمكة شرَّفها الله تعالى لإقامة الصلاة والاجتناب عن عبادة الأصنام والشكر لنعم الله تعالى . وسأله تعالى أن يجعله بلداً آمناً ويرزقهم من الثمرات ، وتهوي قلوب الناس إليهم من كل أوب سحيق . فاستجاب الله دعاءه ، وجعله حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء . فكفروا بتلك النعم العظام ، واستبدلوا بالبلد الحرام دار البوار . وجعلوا لله أنداداً وفعلوا ما فعلوا .
{ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ } يعني البلد الحرام ، مكة المكرمة : { آمِناً } أي : ذا أمن . أو آمناً أهله { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ } أي : بعدني وإياهم : { أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 36 ] .
{ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ } أي : كن سبباً في إضلالهم . كما يقال فتنتهم الدنيا وغرتهم ، إشارة إلى أنه افتتن بالأصنام خلائق لا تحصى . والجملة تعليل لدعائه . وإنما صدره بالنداء إظهاراً لاعتنائه به ، ورغبته في استجابته : { فَمَن تَبِعَنِي } أي : على ملتي وكان حنيفاً مسلماً مثلي : { فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي } أي : فخالف ملتي : { فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : فإنك ذو الأسماء الحسنى ، والمجد الأسمى ، الغني عن الناس أجمعين . وتخصيص الاسمين إشارة إلى سبق الرحمة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [ 37 ] .
{ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي } أي : بعض أولادي . وهم إسماعيل ومن ولد منه : { بِوَادٍ } هو وادي مكة : { غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } أي : لا يكون فيه زرع : { عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ } أي : الذي حرمت التعرض له والتهاون به : { رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ } أي : لكي يأتوا بعبادتك مقوَّمة في ذلك الموضع . وهو متعلق بـ : { أَسْكَنتُ } أي : ما أسكنتهم هذا الوادي إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم ويعمروه بذكرك وعبادتك وحدك . وتكرير النداء وتوسيطه ؛ لإظهار كمال العناية بإقامة الصلاة .
{ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } أي : تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقاً ، فيأنسوا ويتعارفوا فيتآلفوا ويعودوا على بعضهم بالمنافع : { وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ } أي : فتجلبها إليهم التجار : { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } أي : نعمة إقامتهم عند بيتك المحرم بالصلاة فيها ، على كمال الإخلاص والتوحيد ، مع فراغ القلب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء } [ 38 ] .
{ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء } لأن الكل خلقه : { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } [ الملك : من الآية 14 ] .
قال الزمخشري : المعنى : إنك أعلم بأحوالنا وما يصلحنا وما يفسدنا منا . وأنت أرحم بنا منا بأنفسنا ولها ، فلا حاجة إلى الدعاء والطلب . وإنما ندعوك إظهاراً للعبودية لك ، وتخشعاً لعظمتك ، وتذللاً لعزتك ، وافتقاراً إلى ما عندك ، واستعجالاً لنيل أياديك ، وولهاً إلى رحمتك . وكما يتملق العبد بين يدي سيده رغبة في إصابة معروفه ، مع توفر السيد على حسن الملكة .
وعن بعضهم : أنه رفع حاجته إلى كريم فأبطأ عليه النجح ، فأراد أن يذكره فقال : مثلك لا يذكر استقصاراً ولا توهماً للغفلة عن حوائج السائلين ، ولكن ذا الحاجة لا تدعه حاجته أن لا يتكلم فيها . انتهى .
وجوَّز في قوله تعالى : { وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ } الخ ، أن يكون من كلامه تعالى ، تصديقاً لإبراهيم ، أو من كلامه عليه السلام .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ } [ 39 ] .
{ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ } أي : ليقوما مقامي في الدعوة إليه تعالى وبث الحنيفية وإقامة الصلاة بعد ذهابي : { إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ } أي : مجيبه .
قال الزمخشري : وإنما ذكر حال الكبر ، لأن المنَّة بهبة الولد فيها أعظم ، من حيث إنها حال وقوع اليأس من الولادة ، والظفر بالحاجة على عقب اليأس ، من أجل النعم وأحلاها في نفس الظافر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ } [ 40 ] .
{ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ } أي : عبادتي ، كذا في " التنوير " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } [ 41 ] .
{ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } أي : مجازاة العباد على أعمالهم . قرئ ( ولوالدِي ) بالإفراد ، وكأن هذا قبل تبين أمره له عليه السلام .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ } [ 42 ] .
{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ } يعني مشركي أهل مكة . أي : لا تحسبه ، إذا أنظَّرهم وأجَّلهم ، أنه غافل عنهم ، مهمل لهم ، لا يعاقبهم على عملهم ، بل هو يحصيه عليهم ويعدُّه عليهم عداً . وفيه تسلية للرسول صلوات الله عليه ، ووعد له أكيد ، ووعيد للكفرة وسائر الظالمين شديد .
{ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ } أي : بإمهالهم متمتعين بشهواتهم ، ولا يعجل عقوبتهم : { لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ } أي : ترتفع فيه أبصار أهل الموقف ، لهول ما يرون . فلا تقر أعينهم في أماكنها ولا تطرف .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ } [ 43 ] .
{ مُهْطِعِينَ } أي : مسرعين إلى الداعي الذي يدعوهم إلى المحشر . وهذا بيان لكيفية قيامهم من قبورهم ، وعجلتهم إلى المحشر ، كقوله تعالى : { مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاع } [ القمر : من الآية 8 ] ، وقوله : { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً } [ المعارج : من الآية 43 ] .
{ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ } أي : رافعيها إلى السماء : { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } أي : لا يطرفون ، ولكن عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان : { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء } أي : لا قوة فيها ولا ثبات ؛ لشدة الفزع .
قال الزمخشري : الهواء : الخلاء الذي لم تشغله الأجرام ، فوصف به . فقيل : قلب فلان هواء ، إذا كان جباناً لا قوة في قلبه ولا جراءة . ويقال للأحمق أيضاً : قلبه هواء . والمعنى : أن القلوب يومئذ زائلة عن أماكنها . والأبصار شاخصة ، والرؤوس مرفوعة إلى السماء من هول ذلك اليوم وشدته وخوف ما يقع فيه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ } [ 44 ] .
قوله : { وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ } يعني يوم القيامة : { فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا } أي : رُدَّنا إلى الدنيا وأمهلنا : { إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ } أي : أمد من الزمان قريب : { نُّجِبْ دَعْوَتَكَ } أي : إلى الإقرار بتوحيدك وأسمائك الحسنى : { وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ } أي : [ إلى ما ] دعونا إليه من الشرائع .
{ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم } على إضمار القول . أي : فيقال لهم توبيخاً وتبكيتاً [ ألم ] تكونوا تحلفون : { مِّن قَبْلُ } يعني في الدنيا : { مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ } أي : من دار الدنيا إلى دار أخرى للجزاء . كقوله تعالى : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ } [ النحل : من الآية 38 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ } [ 45 ] .
{ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } كعاد وثمود : { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ } أي : بما تشاهدونه في منازلهم من آثار ما نزل بهم ، وما تواتر عندكم من أخبارهم : { وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ } أي : صفات ما فعلوا وما فعل بهم . أي : ومع ذلك فلم يكن لكم فيهم معتبر ولا مزدجر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } [ 46 ] .
{ وَقَدْ مَكَرُواْ } أي : بالنبي صلوات الله عليه : { مَكْرَهُمْ } أي : العظيم ، أي : الذي استفرغوا فيه جهدهم لإبطال الحق وتقرير الباطل : { وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ } أي : جزاء مكرهم : { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ } أي : في العظم والشدة : { لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } أي : مُسَوَّى ومُعَداً لإزالة الجبال عن مقارِّها ، لتناهي شدته .
وجوَّز في ( إن ) كونها نافية واللام مؤكدة له . والمعنى : ومحال أن تزول الجبال بمكرهم ، على أن الجبال مَثَلٌ ( أي : استعارة تمثيلية ) لآيات الله وشرائعه ؛ لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتاً وتمكناً . وينصره قراءة ابن مسعود : ( وَمَا كانَ مَكرُهُم ) وقرئ ( لَتَزُولُ ) بلام الابتداء أي : هو من الشدة بحيث تزول منه الجبال وتنقلع من أماكنها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } [ 47 ] .
{ فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } أي : من نصرهم المبين في قوله تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا } [ غافر : من الآية 51 ] ، { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } [ المجادلة : من الآية 21 ] ، { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ } [ النور : من الآية 55 ] الآية .
واستظهر أبو السعود : أن المعنى بالوعد هنا عذابهم الأخروي المتقدم في قوله تعالى : { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ } الخ [ إبراهيم : من الآية 42 ] ، ولا يخفى أن الوعد قد بين في مثل الآية الأخيرة والأوليين في معناها . والبيان يرفع اللبس . وإنما أوثر تقديم المفعول الثاني ، أعني ( وعده ) على الأول وهو ( رسله ) للإيذان بالعناية به . فإن الآية في سياق الإنذار والتهديد للظالمين بما توعدهم الله به على ألسنة الرسل . فالمهم في التهديد ذكر الوعيد . كذا في " الانتصاف " .
وفي " الكشف " تقديمه للاعتناء به وكونه المقصود بالإفادة . وما ذكره ممن وقع الوعد على لسانه ، إنما ذكر بطريق التبع للإيضاح ، والتفصيل بعد الإجمال . وهو من أسلوب الترقي كما في قوله : { رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي } [ طه : من الآية 25 ] . و : { إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ } أي : غالب لا يُماكَرُ : { ذُو انْتِقَامٍ } من أعدائه ، نصراً لأوليائه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [ 48 ] .
{ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } وذلك أنه تسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوَّى ، فلا يرى فيها عوج ولا أمت . وتبدل السماوات بانتثار كواكبها ، وكسوف شمسها ، وخسوف قمرها ، وانشقاقها ، وكونها أبواباً و ( يوم ) بدل من ( يوم يأتيهم ) أو ظرف للانتقام أو مقدر بـ ( اذكر ) أو ( لا يخلف وعده ) .
{ وَبَرَزُواْ } أي : الخلائق أو الظالمون من أجداثهم : { للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } أي : لحسابه وجزائه .
قال أبو السعود : والتعرض للوصفين لتهويل الخطب وتربية المهابة وإظهار بطلان الشرك وتحقيق الانتقام في ذلك اليوم على تقدير كونه ظرفاً له . وتحقيق إتيان العذاب الموعود على تقدير كونه بدلاً من ( يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ ) فإن الأمر إذا كان لواحد غلاَّب ؛ كان في غاية الشدة والصعوبة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ } [ 49 ] .
{ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ } جمع ( مقرَّن ) وهو من جمع في قَرَن ( بفتحتين ) الوثاق الذي يربط به . أي : قرن بعضهم مع بعض حسب اقترانهم في الجرائم والفساد . فيجمع بين النظراء والأشكال منهم ، كل صنف إلى صنف . كما قال تعالى : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } [ الصافات : 22 ] . وقال : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } [ التكوير : 7 ] ، أو : قرنوا مع الشياطين ، لقوله تعالى : { لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ } [ مريم : 68 ] ، أو قرنت أيدهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال . وقوله تعالى : { فِي الأصْفَادِ } أي : القيود أو الأغلال ، جمع صَفَد ( بفتحتين ) بمعنى القيد أو الغل . والقيد هو الذي يوضع في الرجل . والغُل ( بالضم ) ما في اليد والعنق وما يضم به اليد والرجل إلى العنق . والجار متعلق بـ : { مُقَرَّنينَ } أو حال من ضميره أي : مصفدين ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ } [ 50 ] .
{ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ } تشبيه لهم بأكره ما يوجد منظراً عند العرب ، وهو الإبل الجربى التي تطلى بالقطران . وإعلام بأن لهم أعظم ما ينال الجلد داء وهو تقرحه بالجرب . وأخبث ما يكون دواء لقبحه لوناً وريحاً ، وهو القطران ، فإنه أسود منتن الريح .
قال الزمخشري : تطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل ، وهي القمص لتجتمع عليهم الأربع : لذع القطران ، وحرقته ، وإسراع النار في جلودهم ، واللون الوحش ، ونتن الريح ، على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين . وكل ما وعده الله وأوعد به في الآخرة فبينه وبين ما نشاهده من جنسه ما لا يقادَرُ قدره ، وكأنه ما عندنا منه إلا الأسامي والمسميات ثمة . فبكرمه الواسع نعوذ من سخطه . ونسأله التوفيق فيما ينجينا من عذابه . انتهى .
ويؤيد ما بيناه من أن في الآية إشارة إلى ابتلائهم بجرب جهنم : ما رواه الإمام أحمد ومسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم : < أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن : الفخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة على الميت ، والنائحة إذا لم تتب قبل موتها ، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب > .
وقد وقفت على رسالة لشمس البلغاء الخوارزمي أنفذها لمن شكا إليه داء الجرب ، جاء منها قوله : الجرب حكة مادتها يبوسة وحرارة ، ووقود والتهاب ، وعسكر من عساكر البلاء تمده القذارة ، كما تزيد فيه اليبوسة والحرارة ، وعلة تدل على تضييع واجب النفس من التعهد ، وعلى التفريط في العلاج والتفقد ، تنطق بأن صاحبها ضعيف المُنَّة في التوقي ، أسير في يد الحرص والتشهي ، غاش لنفسه ، قليل البقيا على روحه . وهذه العلة تكسب صاحبها خزياً وحياءً ، وتورثه خجلاً واسترخاءً ، ينظر إلى الناس بعين المريب ، ويتستر عنهم كتستر المعيب . تنفر عنه الطباع ، وتستقذره النفوس ، وتنبو عن مواكلته العيون . وأقل ما يصيبه أنه يحرم آلة المطاعم وهي يداه ، وآلة اللقاء والزيارة وهي رجلاه . ولو لم يكن من دقائق آفاتها ومن عجيب هباتها . إلا أنها تشيخ الفتيان ، وتمسخ الإنسان ، وتجعله أمِّياً بعد أن كان غير أمِّي ، وأعجمياً وليس بأعجمِّي . تنفر عن نفسه نفسُه ، وتهرب من فراشه عرسُه ، ويتباعد عنه أقرب الناس منه . ثم هي رُبع من أرباع الخذلان وقسم من أقسام الحرمان . قال الشاعر :
~أعاذك الله من أشياء أربعة الموت والعشق والإفلاس والجرب
وما الظن بداء قد سارت به الأمثال وقيلت فيه دون سائر الأدواء الأقوال .
قال أبو تمام :
~لما رأت أُختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها أعدى من الجرب
وقال لَبِيد :
~ذهب الذين يُعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
فجعله رأس الأدواء ، ووصفه بأنه غاية البلاء . انتهى . وقوله تعالى :
{ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ } أي : تعلوها وتحيط بها النار التي تمس جسدهم المسربل بالقطران . وتخصيص الوجوه ؛ لكونها أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه ، كالقلب في باطنه ، ولذلك قال : { تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ } [ الهمزة : 7 ] ، ولكونها مجمع الحواس التي خلقت لإدراك الحق . وقد أعرضوا عنه ، ولم يستعملوها في تدبره . كما أن الفؤاد أشرف الأعضاء الباطنة ومحل المعرفة ، قد ملؤوها بالجهالات . أفاده الزمخشري وأبو السعود .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ 51 ] .
{ لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } الجار متعلق بمحذوف . أي : يفعل بالمجرمين ما يفعل ليجزي ، الخ . و ( النفس ) مخصوصة بالنفس المجرمة بقرينة المقام . أو عام للبرة والفاجرة . وعليه فيجوز تعلقه بقوله : { وَبَرزُوْا } وما بينهما اعتراض أو بـ ( ترى ) : { إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } أي : محاسبة الخلائق يوم القيامة ؛ لأنه لا يشغله شأن عن شأن . وجميع الخلق بالنسبة إلى قدرته كالواحد منهم ، كقوله : { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَة } [ لقمان : 28 ] ، أو المعنى : سريع حسابه ، أي : مجيئه كقوله : { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 1 ] وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } [ 52 ] .
{ هَذَا } إشارة إلى القرآن أو السورة وقوله : { بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ } أي : كفاية لهم لما فيه من العظة والتذكير . وقوله : { وَلِيُنذَرُواْ بِهِ } أي : ليخوَّفوا وليوعظوا به عن الجرائم التي أخذ بها الأولون : { وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ } أي : يستدلوا بما فيه من الحجج والدلائل على أنه لا إله إلا هو . وإنما قدم إنذارهم ؛ لأنهم إذا خافوا ما أُنذروا به ؛ دعتهم المخافة إلى النظر حتى يتوصلوا إلى التوحيد ؛ لأن الخشية أمُّ الخير كله . أفاده الزمخشري : { وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } أي : ليتعظ به ذوو العقول ، فيقبلوا على ما فيه نجاتهم وسعادتهم .(/)
سورة الحجر
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ } [ 1 ] .
{ الَرَ } تقدم الكلام في مثله : { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ } الإشارة إلى : { الَرَ } لأنه اسم للسورة ، أي : تلك السورة العظيمة آيات الكتاب الكامل وآيات قرآن عظيم الشأن ، مبين للحكم والأحكام ولسبيل الرشد والغي . من ( أَبَان ) المتعدي . أو الظاهر معانيه أو أمر إعجازه ، وكونه آية قاهرة من ( أَبَان ) اللازم . أو الإشارة إلى آيات السورة ، أو إلى جميع آيات القرآن . وتعريف الكتاب للتعظيم والتفخيم ، كتنكير ( قرآن ) . وقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } [ 2 ] .
{ رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } تبشير للنبي صلى الله عليه وسلم بظهور دينه . وأنه سوف يأتي أيام يتمنى الكافرون بها أن لو سبق لهم الإسلام فكانوا من السابقين ؛ لما يرون من إعلاء كلمة الدين وظهوره على رغم الملحدين ؛ لأن من تأخر إسلامه منهم ، وإن ناله من الفضل ما وعد به الحسنى ، ولكن لا يلحق السابقين : { لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً } [ الحديد : 10 ] ، وفيه تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم على الصدع بالدعوة والصبر عليها ؛ ، لما أن العاقبة له . وإنما جيء بصيغة التقليل جرياً على مذهب العرب في قولهم : لعلك ستندم على فعلك ، ترفعاً واستغناءً عن التصريح بالغرض بناءً على ادعاء ظهوره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [ 3 ] .
{ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ } أي : بدنياهم وتنفيذ شهواتهم : { وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ } أي : يشغلهم عن التوبة والتذكير ، أملَ استقامة الحال . وأن لا يلقوا إلا خيراً في المآل : { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } أي : لمن تكون له العقبى .
قال الزمخشري : فيه تنبيه .
ثم بيَّن تعالى سر تأخير عذابهم بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ 4 ] .
{ وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } أي : أجل مقدر ليتأمل في أسباب الهلاك ليتخلص عنها ، وذلك بما قام من الحجة عليها ، بتقدم الإنذار وتكرره على سمعهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } [ 5 ] .
{ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا } أي : لا تهلك قبله : { وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } أي : عنه ؛ للزوم الحجة وارتفاع الأعذار . ثم أخبر تعالى عن عتوهم في كفرهم بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ 6 ] .
{ وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } أي : يا أيها المدعي ذلك ! إنك لمجنون في دعائك إيانا إلى اتباعك ، وترك ما وجدنا عليه آباءنا . أو في دعواك تنزيل الذكر . أو نادوه بذلك استهزاء وتهكماً . أو هو من كلامه تعالى تبرئة له عما نسبوه إليه من أول الأمر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ } [ 7 - 8 ] .
{ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } أي : هلا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك ويعضدونك على إنذارك كقوله : { لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } [ الفرقان : 7 ] ، وقول فرعون : { فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } [ الزخرف : 53 ] .
ثم أشار إلى جواب مقالهم ، ورد مقترحهم بقوله تعالى : { مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ } أي : عليهم فيأتونهم ويشاهدونهم : { إِلاَّ بِالحَقِّ } أي : الحكمة التي جرت بها السنة الإلهية ، وهو العذاب : { وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ } أي : مؤخرين . كقوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً } [ الفرقان : 21 - 22 ] .
ثم أشار إلى رد إنكارهم التنزيل مع تسلية وبشارة عظيمة ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ 9 ] .
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } أي : من كل من بغى له كيداً . فلا يزال نور ذكره يسري ، وبحر هداه يجري ، وظلال حقيَّته في علومه تمتد على الآفاق ، ودعائم أصوله الثابتة تطاول السبع الطباق ، رغماً عن كيد الكائدين ، وإفساد المفسدين : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [ الصف : 8 ] ، وفي إيراد الجملة الثانية اسمية ؛ دلالة على دوام الحفظ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ } [ 10 - 11 ] .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا } أي : رسلاً : { مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ } أي : فرقهم وطوائفهم . جمع ( شيعة ) وهي الفرقة المتفقة على مذهب وطريقة . و ( الأولين ) نعت لمحذوف . أي : الأمم . أو الكلام من إضافة الصفة للموصوف .
{ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ } أي : كما يفعله هؤلاء المشركون .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِين َ *لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } [ 12 - 13 ] .
{ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ } أي : الذكر المنزل : { فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ } أي : الكافرين وقوله : { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي : بالذكر . حال من ضمير ( نسلكه ) أي : مكذَّباً مستهزأ به غير مقبول .
قال الزمخشري : كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت : كذلك أنزلها باللئام . تعني مثل هذا الإنزال أنزلها بهم ، مردودة غير مقضية . وقيل الجملة بيان لما قبلها . وجوز في ضمير ( نسلكه ) أن يعود إلى الاستهزاء والتكذيب المعلوم . وقوله تعالى : { وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } استئناف جيء به تكملة للتسلية ، وتصريحاً بالوعيد والتهديد . أي : قد مضت السنة فيهم من هلاكهم ، وزهوق باطلهم ، ونصر الرسل وغلبة جنود المؤمنين عليهم واستعمارهم ديارهم ، ثم بيَّن تعالى أنهم لا يتركون الاستهزاء بالرسل وإن أتتهم الآيات التي تشبه الملجئة لقوة عنادهم وبغيهم ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } [ 14 - 15 ] .
{ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم } أي : على هؤلاء المستهزئين : { بَاباً مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ } أي : فصاروا طول نهارهم : { فِيهِ يَعْرُجُونَ } أي : يصعدون مستوضحين لما يرونه فيها من العجائب .
{ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا } أي : حيرت أو حبست من الإبصار ، وما نراه شيء نتخايله لا حقيقة له : { بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } .
قال الناصر في " الانتصاف " : المراد ، والله أعلم ، يعني من الآيتين : إقامة الحجة على المكذبين بأن الله تعالى سلك القرآن في قلوبهم وأدخله في سويدائها ، كما سلك ذلك في قلوب المؤمنين المصدقين . فكذب به هؤلاء وصدق به هؤلاء ، كلٍّ على علم وفهمٍ : { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } [ الأنفال : 42 ] ، ولئلا يكون للكفار على الله حجة بأنهم ما فهموا وجوه الإعجاز كما فهمها من آمن . فأعلمهم الله تعالى من الآن ، وهم في مهلة وإمكان ؛ أنهم ما كفروا إلا على علم ، معاندين باغين غير معذورين ، والله أعلم . ولذلك عقبه تعالى بقوله : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم } الآية ، أي : هؤلاء فهموا القرآن وعلموا وجوه إعجازه ، وولج ذلك في قلوبهم ووقر ، ولكنهم قوم سجيتهم العناد وسيمتهم اللدد ، حتى لو سلك بهم أوضح السبيل وأدعاها إلى الإيمان بضرورة المشاهدة ، وذلك بأن يُفتح لهم باب في السماء ، ويعرج بهم إليه حتى يدخلوا منها نهاراً .
وإلى ذلك الإشارة بقوله : { فَظَلُّوا } لأن الظلول إنما يكون نهاراً ؛ لقالوا بعد هذا الإيضاح العظيم المكشوف : { إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا } وسحرنا محمد . وما هذه إلا خيالات لا حقائق تحتها . فأسجل عليهم بذلك أنهم لا عذر لهم في التكذيب ، من عدم سماع ووعي ووصول إلى القلوب وفهم ، كما فهم غيرهم من المصدقين ؛ لأن ذلك كله حاصل لهم . وإنما بهم العناد واللدد والإصرار لا غيره . والله أعلم .
ثم بيَّن تعالى دلائل وحدته وعظمته وقدرته الباهرة ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ * إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ } [ 16 - 18 ] .
{ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً } جمع ( برج ) يطلق على القصر والحصن وعلى المنازل الاثني عشر التي تنتقل فيها الشمس في ظاهر الرؤية .
وقد فسرت البروج في الآية بالنجوم وبالمنازل المذكورة وبالقصور ، على التشبيه بحصون الأرض وقصورها . فإن النجوم هياكل فخيمة عظيمة : { وَزَيَّنَّاهَا } أي : السماء بتلك البروج المختلفة الأشكال والأضواء المرئية : { لِلنَّاظِرِينَ } أي : إلى حركاتها وأضوائها . أو للمتفكرين المعتبرين المستدلين بها على قدرة موجدها ووحدانيته .
{ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ }
{ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ } أي : اختلس : { السَّمْعَ } أي : من الملائكة السماوية : { فَأَتْبَعَهُ } أي : تبعه ولحقه : { شِهَابٌ مُّبِينٌ } أي : لهب محرق ظاهر ، فيرجع أو فيحترق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ } [ 19 ] .
{ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا } أي : بسطناها : { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } أي : جبالاً ثوابت : { وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ } أي : وزن بميزان الحكمة ، وقدر بمقدار تقتضيه ، لا يصلح فيه زيادة ولا نقصان ، أو بمعنى مستحسن متناسب ، من قولهم : كلام موزون .
وقد ذكر الشريف المرتضى في " الدرر " أن العرب استعملته بهذا المعنى ، كقول عمر ابن أبي ربيعة .
~وحديث ألذه هو مما تشتهيه النفوس يوزن وزنا(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [ 20 - 21 ] .
{ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ } أي : ما تعيشون به من المطاعم والملابس وغيرهما ، مما تقتضيه ضرورة الحياة : { وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } أي : من الأنعام والدواب وما أشبهها . قال القاضي : وفذلكة الآية الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار وشكل معينين ، مختلفة الأجزاء في الوضع ، محدثة فيها أنواع النبات والحيوان المختلفة خلقة وطبيعة ، مع جواز أن لا يكون كذلك ، على كمال قدرته وتناهي حكمته ، والتفرد في الألوهية والامتنان على العباد بما أنعم عليهم في ذلك ؛ ليوحدوه ويعبدوه . ثم بالغ في ذلك وقال : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } أي : وما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه . شبه اقتداره على كل شيء وإيجاده بالخزائن المودعة فيها الأشياء ، المعدَّة لإخراج ما يشاء منها وما يخرجه إلا بقدر معلوم ، استعارة تمثيلية . أو شبَّه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يحوج إخراجها إلى كلفة واجتهاد ، استعارة مكنية ، ومعنى : { نُنَزِّلُهُ } أي : نوجده ونخرجه في عالم الشهادة . والقدر المعلوم : الأجل المعين له ، حسبما تقتضيه الحكمة ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ * وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ } [ 22 - 23 ] .
{ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } أي : تلقح السحاب ، أي : تجعلها حوامل بالماء ، وذلك أن السحاب بخار يصير ، بإصابته الهواء البارد حوامل للماء . قاله المهايمي . فاللواقح عليه جمع ( ملقح ) بحذف الزوائد . أو تلقح الشجر بجري مائها فيه ، أو تنيمته ليثمر ويزهو . وجوَّز كون اللواقح جمع ( لاقح ) وهي الناقة الحامل . فشبهت الريح التي تجيء بالمزن الممطرة بها ، كما يشبه ما لا تكون كذلك بـ ( العقيم ) فقيل : ريح عقيم { فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } أي : بقادرين على إيجاده وإنزاله . و ( الخزن ) اتخاذ الخزائن يستعار للقدرة ، كما مرَّ ، أو بحافظين له في أمكنة ينابيعه ، من سهول وجبال وعيون وآبار ، بل هو تعالى وحده الذي حفظه وسلكه ينابيع في الأرض وجعله عذباً ورحم بسقياه .
{ وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ } أي : الباقون بعد هلاك الخلق كله . وقيل للباقي : وارث ، استعارة من ( وارث الميت ) لأنه يبقى بعد فنائه . ومنه قوله صلوات الله عليه في دعائه : < واجعله الوارث منا > . كذا في " الكشاف " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [ 24 - 25 ] .
{ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ } أي : من تقدم ولادةً وموتاً ، ومن تأخر من الأولين والآخرين . أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد . أو من تقدم في الإسلام وسبق إلى الطاعة ومن تأخر . لا يخفى علينا شيء من أحوالكم . وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته ، فإن ما يدل على قدرته دليل على علمه ، وفي تكرير قوله : { وَلَقَدْ عَلِمْنَا } من كمال التأكيد ما لا يخفى .
{ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ } أي : الأولين والآخرين على كثرتهم : { إِنَّهُ حَكِيمٌ } أي : يدبر أمرهم في الحشر على وفق الحكمة : { عَلِيمٌ } أي : بكل ما فيهم من خفايا الصفات الذميمة : { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُم } [ الأنعام : 139 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ } [ 26 - 27 ] .
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ } يعني آدم : { مِن صَلْصَالٍ } أي : طين يابس مصوِّت : { مِّنْ حَمَإٍ } صفة لصلصال ، أي : كائن من طين متغير مسود : { مَّسْنُونٍ } أي : مصور ، من ( سنة الوجه ) وهي صورته . أو مصبوب ، من ( سنِّ الماء ) صبه . أي : مفرغ على هيئة الإنسان . كأنه سبحانه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف ، فيبس حتى إذا نقر صلصل ، ثم صيَّره جسداً ولحماً ونفخ فيه من روحه .
{ وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ } أي : من قبل الإنسان .
{ مِن نَّارِ السَّمُومِ } أي : من نار الريح الشديد الحرِّ .
قال أبو السعود : ومساق الآية ، كما هو ، للدلالة على كمال قدرته تعالى ، وبيان بدء خلق الثقلين ؛ فهو التنبيه على المقدمة الثانية التي يتوقف عليها إمكان الحشر ، وهو قبول المواد للجمع والإحياء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ 28 - 29 ] .
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } أي : عدلت خلقته وأكملتها : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } أي : تحية له وتعظيماً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ 30 - 33 ] .
{ فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } .
يعني : وقد خلقتني من نار ، فأنا خير منه ، كمما صرح به في آية غيرها . وفي تكرير قوله : { مِن صَلْصالٍ } الخ تذكير للإنسان بأصله هذا المفضول ؛ ليكون كابحاً من جماح غوايته ، وشدة تمرده .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } [ 34 - 38 ] .
{ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا } أي : من زمرة الملائكة المعززين : { فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } أي : مطرود من كل خير وكرامة . فإن من يطرد يرجم بالحجارة . أو شيطان يرجم بالشهب ، وهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته . فإن من عارض النص بالقياس فهو رجيم ملعون . أفاده أبو السعود .
{ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ } أي : الجزاء . وهو يوم القيامة .
{ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } وهو يوم البعث .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } [ 39 - 41 ] .
{ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ } أي : المعاصي : { فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } أي : الذين أخلصتهم لطاعتك وجردتهم بالتوجه إليك . وقرئ بكسر اللام ، أي : الذين أخلصوا دينهم لك وأعمالهم من غير حظ لغيرك فيها .
{ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } أي : حق نهجه ومراعاته لا اعوجاج فيه . وهو أن لا سلطان لك على عبادي المخلصين ، إلا الذين يناسبونك في الغواية والبعد عن صراطي فيتبعونك ، كما قال سبحانه :(/)
{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } [ 42 - 44 ] .
{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } أي : قهر على الإغراء .
{ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } أي : المطبوعين على الغواية .
{ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } قال المهايمي : لأن غوايتهم إنما كانت بترك متابعة الدليل مع متابعة الأهوية الباطلة ؛ لغلبتها عليهم .
{ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ } أي : الغواة : { جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } أي : حزب معين مفرز من غيره ، حسبما يقتضيه استعداده .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون ٍ *ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِين َ *لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } [ 45 - 48 ] .
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا } أي : يقال لهم ادخلوها : { بِسَلاَمٍ } أي : سالمين أو مسلماً عليكم : { آمِنِينَ } أي : من الآفات والزوال .
{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } أي : حقد كان في الدنيا ، لبعضهم على بعض : { إِخْوَاناً } حال من فاعل : { ادْخُلُوها } أو الضمير في ( آمنين ) : { عَلَى سُرُرٍ } أي : مراتب عالية : { مُّتَقَابِلِينَ } لتساوي درجاتهم وتقارب مراتبهم . فيتلذذ بعضهم برؤية وجه بعض : { مُّتَقَابِلِينَ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ } أي : تعب : { وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } لسرمدية مقامهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ * وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ } [ 49 - 52 ] .
{ نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } أي : لمن تاب وآمن وعمل صالحاً .
{ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ } أي : لمن لم يتب من كفره . والجملة فذلكة لما سلف من الوعد والوعيد وتقرير له .
{ وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ } أي : عن نبئه . والضيف كالزّور ، يقع على الواحد والجمع .
قال في " الكشاف " : عطف : { وَنَبِّئْهُمْ } على : { نَبِّىءْ عِبَادِي } ليتخذوا ما أحلَّ من العذاب بقوم لوط ، عبرة يعتبرون بها سخط الله وانتقامه من المجرمين ، ويتحققوا عنده أن عذابه هو العذاب الأليم .
{ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ } أي : خائفون ، وذلك لما رأى أيديهم لا تصل إلى طعامه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ } [ 53 - 56 ] .
{ قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ } أي : مع مس الكبر بأن يولد لي ، والكبر مانع منه : { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } قال الزمخشري : هي ( ما ) الاستفهامية دخلها معنى التعجب . كأنه قال : فبأي أعجوبة تبشروني . أو أراد إنكم تبشرونني بما هو غير متصور في العادة ، فبأي شيء تبشرون ؟ يعني لا تبشروني في الحقيقة بشيء ؛ لأن البشارة بمثل هذا ، بشارة بغير شيء .
{ قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ } أي : الآيسين من ذلك .
{ قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ } يعني لم أستنكر ذلك قنوطاً من رحمته ، ولكن استبعاداً له في العادة التي أجراها الله تعالى ، والتصريح برحمة الله في أحسن مواقعه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ } [ 57 - 60 ] .
{ قَالَ } أي : إبراهيم ، بعد أن ذهب عنه الروع : { فَمَا خَطْبُكُمْ } أي : أمركم الخطير الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة : { أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } أي : إلى إهلاكهم . يعنون قوم لوط .
{ إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ } أي : الباقين مع الكفرة ، لتهلك معهم . وإسناد التقدير له مجازي من باب قول خواص الملك ( دبرنا كذا وأمرنا بكذا ) وإنما يعنون دبر ملك وأمر . هذا إذا كان ( قدرنا ) بمعنى أردنا وقضينا . وإن كان بمعنى علمنا ، فلا غرو في علم الملائكة ذلك ، بإخباره تعالى إياهم به .
ومن الناس من يجعل ( قدرنا ) من كلامه تعالى ، غير محكي عن الملائكة . قال في " الانتصاف " : وهو الظاهر لاستغنائه عن التأويل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } [ 61 - 64 ] .
{ فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } أي : لا أعرفكم ولا أدري من أي : الأقوام أنتم وما أقدمكم .
وقال المهايمي : أي : يخاف منكم تارة وعليكم أخرى . والظاهر أنه قال ذلك لهم بعد معاناته الشدائد من قومه لأجلهم ، كما فصل في سورة هود .
{ قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } أي : العذاب الذي كنت تتوعدهم به ، فيمرون به ويكذبونك .
{ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ } أي : اليقين مع هلاكهم : { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ * وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ * وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ } [ 65 - 67 ] .
{ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ } أي : فاذهب بهم في الليل : { بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ } أي : في طائفة منه ، وهي آخره : { وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ } أي : كن على أثرهم تذودهم وتسرع بهم وتطَّلع على حالهم : { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } أي : لينظر ما وراءه ، فيرى من الهول ما لا يطيقه : { وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } .
{ وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } أي : يستأصلون عن آخرهم ، حال كونهم داخلين في الصبح .
{ وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ } أي : مدينة لوط ، وهي سدوم : { يَسْتَبْشِرُونَ } أي : بأضيافه ، طمعاً فيهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ * قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ * قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ } [ 68 - 77 ] .
{ قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ } أي : بالإساءة إليهم ، فإن الإساءة إليهم فضيحة للمضيف .
{ وَاتَّقُوا اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ } .
{ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ } أي : عن أن تجير أحداً منهم ، أو تدفع عنهم ، أو تمنع بيننا وبينهم ، فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد . وكان يقوم صلى الله عليه وسلم بالنهي عن المنكر والحجر بينهم وبين المتعرِّض له . فأوعدوه وقالوا : { لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ } [ الشعراء : 167 ] . أفاده الزمخشري .
{ قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } تقدم الكلام عليه في سورة هود مفصلاً .
{ لَعَمْرُكَ } قسم بحياة النبي صلى الله عليه وسلم ، اعترض به تعباً من شدة غفلتهم وتكريماً للمخاطب : { إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ } أي : غفلتهم التي ذهبت معها أحلامهم : { يَعْمَهُونَ } أي : يترددون فلا يفهمون ما يقال لهم . ولما لم يسمعوا منه النصيحة المبقية لهم ؛ أسمعهم الله الصيحة المهلكة لهم .
{ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ } أي : صيحة العذاب : { مُشْرِقِينَ } أي : داخلين في وقت شروق الشمس .
{ فَجَعَلْنَا } أي : من تلك الصيحة المحركة للأرض : { عَالِيَهَا سَافِلَهَا } قال المهايمي : لجعلهم الرجال العالين كالنساء السافلات .
{ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ } أي : طين متحجر ؛ لرجمهم على لواطهم .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ } أي : الناظرين بطريق في الآيات .
{ وَإِنَّهَا } يعني مدينة قوم لوط المدمَّرة : { لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ } أي : ثابت يسلكه الناس ، لم يندرس بعد ، وهم يبصرون تلك الآثار .
قال الزمخشري : وهو تنبيه لقريش ، كقوله : { وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [ الصافات : 137 - 138 ] .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ } أي : في هلاكهم لعبرة لهم .
تنبيهان :
الأول : قال ابن القيم في " أقسام القرآن " : أكثر المفسرين من السلف والخلف ، بل لا يعرف السلف فيه نزاعاً - أن هذا - يعني قوله تعالى : { لَعْمُركَ } قسم من الله بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم . وهذا من أعظم فضائله أن يقسم الرب عز وجل بحياته . وهذه مزية لا تعرف لغيره .
ولم يوفق الزمخشري لذلك ، فصرف القسم إلى أنه بحياة لوط . وإنه من قول الملائكة .
فقال : هو على إرادة القول . أي : قالت الملائكة للوط عليه السلام : { لَعْمُركَ } الآية ، وليس في اللفظ ما يدل على واحد من الأمرين ، بل ظاهر اللفظ وسياقه إنما يدل على أن ما فهمه السلف أطيب ، لا أهل التعطيل والاعتزال .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : { لَعْمُركَ } أي : حياتك ، قال : وما أقسم الله تعالى بحياة نبي غيره . والعَمر والعُمر واحد ، إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لإثبات الأخف ؛ لكثرة دور الخلف على ألسنتهم . وأيضاً فإن العمر حياة مخصوصة ، فهو عمر شريف عظيم أهلٌ أن يقسم به ؛ لمزيته على كل عمر من أعمار بني آدم . ولا ريب أن عمره وحياته من أعظم النعم والآيات ، فهو أهل أن يقسم به . والقسم به أولى من القسم بغيره من المخلوقات . ثم قال ابن القيم : وإنما وصف الله سبحانه اللوطية بالسكرة ؛ لأن للعشق سكرة مثل سكرة الخمر كما قال القائل :
~سُكْرَانِ سُكْرُ هَوْى وَسُكْرُ مُدَامَةٍ وَمَتَى إِفَاقَةُ مَنْ بِهِ سُكْرانِ
الثاني : قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ } قال السيوطي في " الإكليل " : هذه الآية أصل في الفراسة . أخرج الترمذي من حديث أبي سعيد مرفوعاً : < اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله > ، ثم قرأ هذه الآية . وقد كان بعض قضاة المالكية يحكم بالفراسة في الأحكام ، جرياً على طريق إياس بن معاوية . انتهى .
وقد أجاد الكلام في الفراسة الراغب الأصفهاني في كتاب " الذريعة " حيث قال في الباب السابع : وأما الفراسة ، فالاستدلال بهيئة الإنسان وأشكاله وألوانه وأقواله ، على أخلاقه وفضائله ورذائله .
وربما يقال : هي صناعة صيادة لمعرفة أخلاق الإنسان وأحواله . وقد نبه الله تعالى على صدقها بقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } [ الحجر : 75 ] ، وقوله : { تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُم } [ البقرة : 273 ] ، وقوله : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } [ محمد : 30 ] ، ولفظها من قولهم ( فَرسَ السبعُ الشاةَ ) فكأن الفراسة اختلاس المعارف ، وذلك ضربان : ضرب يحصل للإنسان عن خاطر لا يعرف سببه ، وذلك ضرب من الإلهام ، بل ضرب من الوحي ، وإياه عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : < المؤمن ينظر بنور الله > وهو الذي يسمى صاحبه : المروّع والمحدَّث . وقال عليه الصلاة والسلام : < إن يكن في هذه الأمة محدَّث فهو عمر > .
وقيل في قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } [ الشورى : 51 ] الآية ، إنما كان وحياً بإلقائه في الروع ، وذلك للأنبياء كما قال عز وجل : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلبِكَ } [ الشعراء : 193 - 194 ] ، وقد يكون بإلهام في حال اليقظة ، وقد يكون في حال المنام . ولأجل ذلك قال عليه الصلاة السلام : < الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة > .
والضرب الثاني من الفراسة يكون بضاعة متعلمة وهي معرفة ما بين الألوان والأشكال ، وما بين الأمزجة والأخلاق والأفعال الطبيعية . ومن عرف ذلك كان ذا فهم ثاقب بالفراسة . وقد عمل في ذلك كتب ، من تتبع الصحيح منها اطلع على صدق ما ضمنوه . والفراسة ضرب من الظن . وسئل بعض محصلة الصوفية عن الفرق بينهما فقال : الظن بتقلب القلب ، والفراسة بنور الرب . ومن قوي فيه نور الروح المذكور في قوله تعالى : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } [ الحجر : 29 ] و [ ص : 72 ] ، كان ممن وصفه بقوله : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } [ هود : 17 ] ، وكان ذلك النور شاهداً ؛ أصاب فيما حكم به . ومن الفراسة قوله عليه السلام في المتلاعنين : < إن أمرهما بيِّنٌ ، لولا حكم الله > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ * وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } [ 78 - 81 ] .
{ وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ } ( إن ) مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف . أي : وإن الشأن كان أصحاب الأيكة ، وهم قوم شعيب عليه السلام . كانوا يسكنون أيكة ، وهي بقعة كثيرة الأشجار ، فظلموا بأنواع من الظلم ، من شركهم بالله وقطعهم الطريق ونقصهم المكيال والميزان . فبعث الله إليهم شعيباً عليه السلام فكذبوه .
{ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ } أي : بعذاب الظلة ، وهي : سحابة أظلتهم بنار تقاذفت منها ، فأحرقتهم : { وَإِنَّهُمَا } يعني قرى قوم لوط والأيكة : { لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } أي : طريق واضح . وقد كانوا قريباً من قوم لوط ، بعدهم في الزمان ومسامتين لهم في المكان . ولهذا لما أنذرهم شعيب قال : { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيد } [ هود : 89 ] .
{ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ } يعني ثمود ، كذبوا صالحاً عليه السلام . ومن كذب واحداً من الأنبياء عليهم السلام ، فقد كذب الجميع ؛ لاتفاقهم على التوحيد والأصول التي لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار . و ( الحجر ) : واد بين المدينة والشام كانوا يسكنونه . معروف ، يجتازه ركب الحج الشاميِّ .
{ وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } يعني بالآيات ما دلهم على صدق دعوى نبيهم ، كالناقة التي أخرجها الله لهم بدعاء صالح من صخرة صماء ، وكانت تسرح في بلادهم : { لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } [ الشعراء : 155 ] ، فلما عتوا وعقروها ، قال : { تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [ هود : 65 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ * فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ * وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } [ 82 - 87 ] .
{ وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ } أي : من حوادث الدهر .
{ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ } أي : وقت الصباح من اليوم الرابع . وفي سورة الأعراف : { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة } [ الأعراف : 78 ] أي : الزلزلة ، وهي من توابع الصيحة . أو هي مجاز عنها .
{ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي : ما كانوا يستغلونه من زروعهم وثمارهم التي ضنوا بمائها عن الناقة ، حتى عقروها ؛ لئلا تضيق في المياه ، فما دفعت عنهم تلك الأموال لما جاء أمره تعالى .
{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ } أي : إلا خلقاً متلبساً بالحق والحكمة الثابتة ، التي لا تقبل التغير . وهي الاستدلال بها على الصانع وصفاته وأسمائه وأفعاله ليعرفوه فيعبدوه ، بحيث لا يلائم استمرار الفساد . ولذلك اقتضت الحكمة إرسال الرسل مبشرين ومنذرين : { وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ } أي : فيجزي كلاً بما كانوا يعملون : { فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } أي : عاملهم معاملة الصفوح الحكيم ، كقوله : { فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [ الزخرف : 89 ] .
وقوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ } تقرير للمعاد ، وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة . فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق شيء ، العليم بما تمزَّق من الأجساد وتفرَّق في سائر أقطار الأرض ، كقوله تعالى : { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } [ يس : 81 ] .
{ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } قال الرازي : إنه تعالى لما صبَّره على أذى قومه وأمره بأن يصفح الصفح الجميل ؛ أتبع ذلك بذكر النعم العظيمة التي خصه بها ؛ لأن الإنسان إذا تذكر نعم الله عليه ، سهل عليه الصفح والتجاوز .
( والسبع المثاني ) هو القرآن كله كما قاله ابن العباس في رواية طاوس ؛ لقوله تعالى : { كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ } [ الزمر : 23 ] ، والواو في قوله : { وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } لعطف الصفة ، كقول الشاعر :
~إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
و ( السبع ) : يراد بها الكثرة في الآحاد ، كالسبعين في العشرات . و ( المثاني ) جمع مثنى بمعنى التثنية أو الثناء ، فإنه تكرر قراءته أو ألفاظه أو قصصه ومواعظه . أو مثنى عليه بالبلاغة والإعجاز . أو مثنى على الله تعالى بأفعاله العظمى وصفاته الحسنى .
وقد روي عن بعض السلف تفسير السبع بالسور الطوال الأول ، وهذا لم يقصد به ، إلا أن اللفظ الكريم يتناولها ، لا أنها هي المعنية . كيف لا وهذه السورة مكية وتلك مدنيات ؟ كالقول بأنها الفاتحة سواء . وأما حديث : < الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته > عند الشيخين ؛ فمعناه أنها من السبع ، لعطف قوله : < والقرآن العظيم الذي أوتيته > ولو كان القصر على بابه ، لناقضه لمعطوف ؛ لاقتضائه أنها هو لا غيره . وبداهة بطلانه لا تخفى .
وسر الإخبار بأنها السبع ، كون الفاتحة مشتملة على مجمل ما في القرآن . وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها ، كما بينه الإمام مفتي مصر في " تفسير الفاتحة " فراجعه . هذا ما ظهر لي الآن في تحقيق الآية .
وللأثري الواقف مع ظاهر ما صح من الأخبار ، الجازم بأن السبع في الآية هي الفاتحة لظاهر الحديث ، أن يجيب عن القصر بأن المراد بالمعطوف القرآن بمعنى المقروء ، لا بمعنى الكتاب كله . والله أعلم .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ * كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ } [ 88 - 90 ] .
{ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } يعني : قد أوتيت النعمة العظمى ، التي كل نعمة وإن عظمت فهي إليها حقيرة ، وهي القرآن العظيم . فعليك أن تستغني ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به من زخارف الدنيا وزينتها أصنافاً من الكفار متمنياً لها . فإنه مستحقر بالإضافة إلى ما أوتيته . وفي التعبير عما أوتوه ( بالمتاع ) إنباء عن وشك زوالها عنهم .
{ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي : لعدم إيمانهم ، المرجو بسببه تقوي ضعفاء المسلمين بهم : { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } أي : تواضع لمن معك من فقراء المؤمنين وضعفائهم ، وطب نفساً عن إيمان الأغنياء والأقوياء .
{ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ } أي : المنذر المظهر للعذاب لمن لم يؤمن .
{ كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ } أي : مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين . أو إنذاراً مثل ما أنزلنا . قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : المقتسمون أصحاب صالح عليه السلام, الذين تقاسموا بالله : { لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ } فأخذتهم الصيحة ، كما مر . فالاقتسام من ( القسم ) لا من القسمة .
وهذا التأويل اختاره ابن قتيبة .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ 91 - 93 ] .
{ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ } أي : أجزاء ، جمع ( عضة ) يعني كفار مكة . قالوا : سحر . وقالوا : كهانة . وقالوا : أساطير الأولين . وهو مبتدأ خبره : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : من التقسيم فنجازيهم عليه . وجوَّز تعلق ( كما ) بقوله : { لَنَسْأَلَنَّهُمْ } أي : لنسألنهم أجمعين مثل ما أنزلنا . فيكون ( كما ) رأس آية و ( المقتسمون ) حينئذ : إما من تقدم ، أو المشركون . ويعني بالإنزال عليهم إنزال الهداية التي أَبَوْها . وجوَّز جعل الموصول مفعولاً أول للنذير ، أو لما دلَّ عليه من أنذر ، أي : النذير . أو أنذر المعضين الذين يجزئون القرآن إلى سحر وشعر وأساطير ، مثل ما أنزلنا على المقتسمين . وجوَّز جعل ( كما ) متعلقاً بقوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ } أي : أنزلنا عليك كما أنزلنا على أهل الكتاب الذين جزؤوا القرآن إلى حق وباطل . حيث قالوا : قسم منه حق موافق لما عندنا . وقسم باطل لا يوافقه . أو القرآن هو مقروؤهم . أي : قسموا ما قرؤوا من كتبهم وحرفوه ، فأقروا ببعضه وكذبوا ببعضه . والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِين َ *الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [ 94 - 96 ] .
{ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } أمر من ( الصدع ) بمعنى الإظهار والجهر ، من ( انصداع الفجر ) . أو من ( صدع الزجاجة ) ونحوها وهو تفريق أجزائها . أي : افرق بين الحق والباطل : { وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } أي : الذين يرومون صدك عن التبليغ ، فلا تبال بهم .
{ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ } أي : حفظناك من شرهم ، فلا ينالك منهم ما يحذر . وهذا ضمان منه تعالى ، له صلوات الله عليه ؛ لينهض بالصدع نهضة من لا يهاب ولا يخشى . كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [ المائدة : 67 ] .
{ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ } وصفهم بذلك ؛ تسليةً له عليه الصلاة والسلام ، وتهويناً للخطب عليه ، بأنهم أصحاب تلك الجريمة العظمى ، التي هي أكبر الكبائر ، التي سيخذلون بسببها . كما قال : { فَسَوْفَ يَعْلَمُُونَ } أي : عاقبة أمرهم . وقد جوَّز في الموصول أن يكون صفة ( للمستهزئين ) ومنصوباً بإضمار فعل . ومرفوعاً بتقدير ( هم ) . وفي الآية وعيد شديد لمن جعل معه تعالى معبوداً آخر . وقد أشار كثير من المفسرين إلى أن قوله تعالى : { إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ } عنى به ما عجله من إهلاكهم . كما روى ابن إسحاق عن عروة : أن عظماء المستهزئين كانوا خمسة نفر ، وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم : من بني أسد أبو زَمْعَة ، كان النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه ، فقال : < اللهم أعم بصره ، وأثكله ولده > ومن بني زهرة الأسود ، ومن بني مخزوم الوليد بن المغيرة ، ومن بني سهم العاص بن وائل ، ومن خزاعة الحارث . فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء ؛ أنزل الله تعالى : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } إلى قوله : { فَسَوفَ يَعْلمُونَ } . قال ابن إسحاق عن عروة : إن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت ، فقام وقام رسول الله إلى جنبه ، فمر به الأسود ، فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات منه . ومر به الوليد فأشار إلى أثر جراح بأسفل كعب رجله كان أصابه قبل ذلك بسنتين فانتقض به فقتله . ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص قدمه ، فخرج على حمار يريد الطائف ، فربض على شبرقة فدخلت في أخمص قدمه . ومر به الحارث فأشار إلى رأسه فامتخط قيحاً فقتله . انتهى .
ومثله ما رواه ابن مسعود : قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصلي في ظل الكعبة ، وناس من قريش وأبو جهل قد نحروا جزوراً في ناحية مكة ، فبعثوا فجاؤوا بسلاها وطرحوه بين كتفيه وهو ساجد . فجاءت فاطمة فطرحته عنه ، فلما انصرف قال : < اللهم ! عليك بقريش وبأبي جهل وعتبة وشيبة والوليد بن عُتْبَة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط > .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : فلقد رأيتهم قتلى في قليب بدر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ 97 - 99 ] .
{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } لما ذكر تعالى أن قومه يهزأون ويسفهون ؛ أعلمه بما يعلمه سبحانه منه ، من ضيق صدره وانقباضه بما يقولون ؛ لأن الجبلة البشرية والمزاج الإنساني يقتضي ذلك . ثم أعلمه بما يزيل ضيق الصدر والحزن ، وذلك أمره من التسبيح والتحميد والصلاة ، كما قال تعالى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } [ البقرة : 45 ] ، وقال : { أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 ] ومعلوم أن في الإقبال على ما ذكر ، استنزال الإمداد الرباني بالنصر والمعونة ؛ لقوله : { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 153 ] و [ الأنفال : 46 ] ، وقوله : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } [ البقرة : 152 ] ، وقوله : { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } [ النحل : 128 ] .
وقد روي في شمائله صلوات الله عليه ؛ أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ، تأويلاً لما ذكر .
قال أبو السعود : وتحلية الجملة بالتأكيد ؛ لإفادة تحقيق ما تضمنته من التسلية . وفي التعرض لعنوان الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى من إظهار اللطف به عليه الصلاة والسلام ، والإشعار بعلة الحكم ، أعني الأمر بالتسبيح والحمد . والمراد من ( الساجدين ) المصلين ، من إطلاق الجزء على الكل . و ( اليقين ) : الموت ، فإنه متيقن اللحوق بكل حيّ مخلوق . وإسناد الإتيان إليه ؛ للإيذان بأنه متوجه إلى الحيِّ طالب للوصول إليه . والمعنى : دُمْ على العبادة ما دمت حياً . كقوله تعالى في سورة مريم : { وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً } [ مريم : 31 ] .
وقيل : المراد بـ ( اليقين ) : تعذيب هؤلاء وأن ينزل بهم ما وعده . ولا ريب أنه من المتيقن ، إلا أن إرادة الموت منه أولى ، يدلُّ له قوله تعالى إخباراً عن أهل النار : { قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } [ المدثر : 43 - 47 ] . وما في الصحيح عن أم العلاء امرأة من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على عثمان بن مظعون وقد مات ، قالت أم العلاء : رحمة الله عليك أبا السائب ! فشهادتي عليك : لقد أكرمك الله ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < وما يدريك أن الله أكرمه ؟ > فقلت : بأبي وأمي يا رسول الله ! فمن ؟ فقال : < أما هو فقد جاءه اليقين ، وإني لأرجو له الخير > .
تنبيه :
قال الحافظ ابن كثير : يستدل بهذه الآية الكريمة وهي قوله : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } على أن العبادة ، كالصلاة ونحوها ، واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتاً ، كما في صحيح البخاري عن عِمْرَان بن حصين رضي الله عنهما ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال : < صل قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب > . ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين : المعرفة . فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم . وهذا كفر وضلال وجهل . فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا هم وأصحابهم ، أعلم الناس بالله ، وأعرافهم بحقوقه وصفاته ، وما يستحق من التعظيم ، وكانوا مع هذا أعبد الناس وأكثرهم مواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة . انتهى .(/)
سورة النحل
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ 1 ] .
{ أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } تقرر في غير ما آية ، أن المشركين كانوا يستعجلون ما وعدوا من قيام الساعة أو إهلاكهم ، كما فعل يوم بدر ، استهزاءً وتكذيباً بالوعد . فقيل لهم : { أَتَى أَمْرُ اللّهِ } أي : ما توعدونه مما ذكر . والتعبير عنه بـ : { أَمْرُ اللّهِ } ؛ للتفخيم والتهويل . وللإيذان بأن تحققه في نفسه وإتيانه ، منوط بحكمه النافذ وقضائه الغالب . وإتيانه عبارة عن دنوِّه واقترابه ، على طريقة نظم المتوقع في سلك الواقع . أو عن إتيان مباديه القريبة ، على نهج إسناد حال الأسباب إلى المسببات . والآية كقوله تعالى : { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 1 ] ، وقوله : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } [ القمر : 1 ] ، وقوله : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [ العنكبوت : 53 ] . ثم إنه تعالى نزه نفسه عن شركهم به غيره ، وعبادتهم معه ما سواه ، من الأوثان والأنداد ، الذي أفضى بهم إلى الاستهزاء والعناد ، واعتقادهم أنها شفعاؤهم إذا جاء الميعاد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ } [ 2 ] .
{ يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ } رد لاستبعادهم النبوة ، بأن ذلك سنة له تعالى . ولذا ذكر صيغة الاستقبال ، كقوله تعالى : { يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِه } [ غافر : 15 ] ، وقوله تعالى : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاس } [ الحج : 75 ] . والروح هو الوحي ، الذي من جملته القرآن ؛ لقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيْمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } [ الشورى : 52 ] . والتعبير عنه بالروح على نهج الاستعارة . فإنه يحيي القلوب الميتة بالجهل . و : { مِنْ أَمْرِهِ } بيان للروح ، أو حال منه ، أو صفة ، أو متعلق بـ ( ينزل ) و ( من ) للسببية . و : { أَنْ أَنْذِرُواْ } بدل من الروح . أي : أخبروهم بالتوحيد والتقوى . فقوله : { فَاتَّقُونِ } من جملة المنذر به . أو هو خطاب للمستعجلين ، على طريقة الالتفات ، والفاء فصيحة ، أي : إذا كانت سنته تعالى ذلك ، فاتقون ، بما ينافيه من الإشراك وفروعه من الاستعجال .
قال الزمخشري : ثم دل على وحدانيته وأنه لا إله إلا هو ، بما ذكر ، مما لا يقدر عليه غيره ، من خلق السماوات والأرض ، وخلق الإنسان وما يصلحه ، وما لا بد له منه من خلق البهائم لأكله وركوبه ، وجر أثقاله وسائر حاجاته ، وخلق ما لا يعلمون من أصناف خلائقه . ومثله متعال عن أن يشرك به غيره ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِيْنَ تُرِيحُونَ وَحِيْنَ تَسْرَحُونَ } [ 3 - 6 ] .
{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ } أي : بالحكمة ، كما تقدم : { تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ } أي : مهينة ضعيفة : { فَإِذَا هُوَ } بعد تكامله بشراً : { خَصِيمٌ مُّبِينٌ } أي : مخاصم لخالقه مجادل ، يجحد وحدانيته ويحارب رسله . وهو إنما خلق ليكون عبداً لا ضداً .
{ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ } أي : لمصالحكم ، وهي الأزواج الثمانية المفصلة في سورة الأنعام .
قال الزمخشري : وأكثر ما تقع على الإبل .
{ فِيهَا دِفْءٌ } أي : ما يدفئ ، أي : يسخن به من صوف أو وبر أو شعر ، فيقي البرد { وَمَنَافِعُ } أي : من نسلها ودرِّها وركوب ظهرها : { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } أي : زينة : { حِيْنَ تُرِيحُونَ } أي : تردونها من مراعيها إلى مراحها ( بضم الميم ) وهو مقرِّها في دور أهلها بالعشيِّ : { وَحِينَ تَسْرَحُونَ } أي : تخرجونها بالغداة إلى المراعي .
قال الزمخشري : منَّ الله بالتجمل بها كما منَّ بالانتفاع بها ؛ لأنه من أغراض أصحاب المواشي ، بل هو من معاظمها ؛ لأن الرعيان ، إذا روحوها بالعشي ، وسرحوها بالغداة ، فزينت بإراحتها وتسريحها الأفنية ، وتجاوب فيها الثغاء والرغاء ؛ أنست أهلها وفرحت أربابها ، وأجلتهم في عيون الناظرين إليها ، وكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس . ونحوه : { لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة } [ النحل : 8 ] ، { يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً } [ الأعراف : 26 ] .
فإن قلت : لِمَ قدمت الإراحة على التسريح ؟ قلت : لأن الجمال في الإراحة أظهر ، إذا أقبلت ، ملأى البطون ، حافلة الضروع ، ثم أوت إلى الحظائر لأهلها . انتهى .
ثم أشار إلى فائدة جامعة للحاجة والزينة فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ 7 - 8 ] .
{ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } أي : أحمالكم : { إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ } بكسر الشين المعجمة وفتحها ، قراءتان ، وهما لغتان في معنى ( المشقة ) أي : لم تكونوا بالغيه بأنفسكم إلا بجهد ومشقة ، فضلاً عن أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم : { إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } أي : حيث سخرها لمنافعكم .
ثم أشار إلى ما هو أتم في دفع المشقة وإفادة الزينة ، فقال :
{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ } عطف على ( الأنعام ) : { لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } عطف محل ( لتركبوها ) فهي مفعول له ، أو مصدر لمحذوف . أي : وتتزينوا بها زينة ، أو مصدر واقع موقع الحال من فاعل ( تركبوها ) أو مفعوله . أي : متزينين بها ، أو متزيناً بها . وسر التصريح باللام في المعطوف عليه ، دون المعطوف ؛ هو الإشارة إلى أن المقصود المعتبر الأصلي في الأصناف ؛ هو الركوب . وأما التزين بها فأمر تابع غير مقصود قصد الركوب . فاقترن المقصود المهم باللام المفيدة للتعليل ؛ تنبيهاً على أنه أهم الغرضين وأقوى السببين . وتجرد التزين منها تنبيهاً على تبعيته أو قصوره عن الركوب . والله أعلم . كذا في " الانتصاف " .
تنبيه :
استدل بهذه الآية القائلون بتحريم لحوم الخيل ، قائلين بأن التعليل بالركوب يدل على أنها مخلوقة لهذه المصلحة دون غيرها . قالوا : ويؤيد ذلك إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر وإخراجها عن الأنعام . فيفيد ذلك اتحاد حكمها في تحريم الأكل . قالوا : ولو كان أكل الخيل جائزاً ؛ لكان ذكره والامتنان به أولى من ذكر الركوب ؛ لأنه أعظم فائدة منه . وأجاب المجوزون لأكلها ، بأنه لا حجة في التعليل بالركوب ؛ لأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها لا ينافي عيره .
ولا نسلم أن الأكل أكثر فائدة من الركوب حتى يذكر ويكون ذكره أقدم من ذكر الركوب . وأيضاً لو كانت هذه الآية تدل على تحريم الخيل ؛ لدلت على تحريم الحمر الأهلية ، وحينئذ لا يكون ثَم حاجة لتجديد التحريم لها عام خيبر . وقد قدمنا أن هذه السورة مكية .
والحاصل : أن الأدلة الصحيحة قد دلت على حل أكل لحوم الخيل . فلو سلمنا أن هذه الآية متمسكاً للقائلين بالتحريم ؛ لكانت السنة المطهرة الثابتة رافعة لهذا الاحتمال ، ودافعة لهذا الاستدلال . وقد ورد في حل أكل لحوم الخيل ، أحاديث منها ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أسماء قالت : نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً ، فأكلناه . وأخرج أبو عبيد وابن أبي شيبة والترمذي وصححه ، والنسائي وغيرهم عن جابر قال : أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل ، ونهانا عن لحوم الحمر الأهلية . وأخرج أبو داود نحوه . وثبت أيضاً في الصحيحين من حديث جابر قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية ، وأذن في الخيل .
وأما ما أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما من حديث خالد بن الوليد قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع ، وعن لحوم الخيل والبغال والحمير . ففي إسناده صالح بن يحيى ، فيه مقال . ولو فرض صحته لم يقو على معارضة أحاديث الحل . على أنه يمكن أن يكون متقدماً على يوم خيبر ، فيكون منسوخاً . كذا في " فتح البيان " .
وفي " الإكليل " : أخذ المالكية ، من الاقتران المذكور ، رداً على الحنفية في قولهم بوجوب الزكاة فيها . أي : الخيل . وقوله تعالى :
{ وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي : من المخلوقات في القفار والبحار ، وصيغة الاستقبال للدلالة على التجدد والاستمرار . أو لاستحضار الصورة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [ 9 ] .
{ وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } في الآية فوائد :
الأولى : قال ابن كثير : لما ذكر تعالى من الحيوانات ما يسار عليه في السبل الحسية نبه على الطرق المعنوية الدينية ، وكثيراً ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية الدينية ، كقوله تعالى : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } [ البقرة : 197 ] ، وقال تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } [ الأعراف : 26 ] .
ولما ذكر تعالى في هذه السورة الحيوانات من الأنعام وغيرها ، التي يركبونها ويبلغون عليها حاجة في صدورهم ، وتحمل أثقالهم إلى البلاد والأماكن البعيدة والأسفار الشاقة ؛ شرع في ذكر الطرق التي يسلكها الناس إليه ، فبين أن الحق منها موصلة إليه ، فقال : { وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } . كقوله تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه } [ الأنعام : 153 ] . وقال : { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } [ الحجر : 41 ] . انتهى . وقوله سبحانه : { إِنِّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى } .
الثانية : قال أبو السعود : ( القصد ) : مصدر بمعنى الفاعل . يقال : سبيل قصد وقاصد : أي : مستقيم . على طريقة الاستعارة أو على نهج إسناد حال سالكه إليه ، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه . أي : حقٌّ عليه سبحانه وتعالى ، بموجب رحمته ووعده المحتوم ، بيان الطريق المستقيم الموصل لمن يسلكه إلى الحق ، الذي هو التوحيد : بنصب الأدلة وإرسال الرسل وإنزال الكتب لدعوة الناس إليه . أو مصدر بمعنى الإقامة والتعديل . قاله أبو البقاء . أي : عليه ، عز وجل ، تقويمها وتعديلها . أي : جعلها بحيث يصل سالكها إلى الحق . لكن لا بعد ما كانت في نفسها منحرفة عنه ، بل إبداعها ابتداء كذلك على نهج ( سبحان من صغَّر البعوض ، وكبَّر الفيل ) . وحقيقته راجعة إلى ما ذكر من نصب الأدلة . وقد فعل ذلك حيث أبدع هذه البدائع التي كل واحد منها لاحبٌ يهتدى بمناره ، وعلم يستضاء بناره ، وأرسل رسلاً مبشرين ومنذرين ، وأنزل عليهم كتباً من جملتها هذا الوحي الناطق بحقيقة الحق ، الفاحص عن كل ما جل من الأسرار ودق ، الهادي إلى سبيل الاستدلال بتلك الأدلة المفضية إلى معالم الهدى ، المنجِّية عن فيافي الضلالة ومهاوي الردى .
الثالثة : الضمير في : { وَمِنْهَا جَائِرٌ } للسبيل . فإنها تؤنث . أي : وبعض السبيل مائل عن الحق ، منحرف عنه ، لا يوصل سالكه إليه . وهو طرق الضلالة التي لا يكاد يحصى عددها ، المندرج كلها تحت الجائر ، كقوله تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] .
قال أبو السعود ، بعد ما تقدم ، أي : وعلى الله تعالى بيان الطريق المستقيم الموصل إلى الحق وتعديله ، بما ذكر من نصب الأدلة ليسلكه الناس باختيارهم ويصلوا إلى المقصد . وهذا هو الهداية المفسرة بالدلالة على ما يوصل إلى المطلوب ، لا الهداية المستلزمة للاهتداء البتة . فإن ذلك مما ليس بحق على الله تعالى . لا بحسب ذاته ولا بحسب رحمته ، بل هو مخلٌّ بحكمته ، حيث يستدعي تسوية المحسن والمسيء ، والمطيع والعاصي ، بحسب الاستعداد . وإليه أشير بقوله تعالى : { وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } أي : لو شاء أن يهديكم إلى ما ذكر من التوحيد ، هداية موصلة إليه البتة ، مستلزمة لاهتدائكم أجمعين ؛ لفعل ذلك ، ولكن لم يشأه ؛ لأن مشيئته تابعة للحكمة الداعية إليها . ولا حكمة في تلك المشيئة ؛ لما أن الذي عليه يدور فلك التكليف ، وإليه ينسحب الثواب والعقاب ، إنما هو الاختيار الذي عليه يترتب الأعمال ، التي بها نيط الجزاء .
ولما كان أشرف أجسام العلم السفلي ، بعد الحيوان ، النبات ، تأثر ما مرَّ من الإنعام بالأنعام والدواب ، التي يستدل بها على وحدته تعالى ، بذكر عجائب أحوال النبات ، للحكمة نفسها ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ 10 - 11 ] .
{ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ } أي : المزن : { مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ } يسكن حرارة العطش : { وَمِنْهُ شَجَرٌ } أي : ومنه يحصل شجر . والمراد به : ما ينبت من الأرض ، سواء كان له ساق أو لا { فِيهِ تُسِيمُونَ } أي : ترعون أنعامكم .
{ يُنبِتُ } أي : الله عز وجل : { لَكُم بِهِ الزَّرْعَ } أي : الذي فيه قوت الإنسان : { وَالزَّيْتُونَ } أي : الذي فيه إدامه . : { وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ } أي : اللذين فيهما ، مع ذلك ، مزيد التلذذ : { وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ } أي : يخرجها بهذا الماء الواحد ، على اختلاف صنوفها وطعومها وألوانها وروائحها . ولهذا قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : في إنزال وإنبات ما فصل : { لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي : دلالة وحجة على وحدانيته تعالى . كما قال سبحانه : { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } [ النمل : 60 ] .
قال أبو السعود : وأصله للرازي في شرح كون ما ذكره حجة ؛ فإن من تفكر في أن الحبة أو النواة تقع في الأرض وتصل إليها نداوة تنفذ فيها فينشق أسفلها فيخرج منه عروق تنبسط في أعماق الأرض ، وينشق أعلاها وإن كانت منتكسة في الوقوع ، ويخرج منه ساق فينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار والحبوب والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الأشكال والألوان والخواص والطبائع ، وعلى نواة قابلة لتوليد الأمثال على النمط المحرر ، لا إلى نهاية ، مع اتحاد المواد واستواء نسبة الطبائع السفلية والتأثيرات العلوية ، بالنسبة إلى الكل ؛ عَلم أن من هذه أفعاله وآثاره لا يمكن أن يشبهه شيء في شيء من صفات الكمال ، فضلاً عن أن يشاركه أخس الأشياء في أخص صفاته ، التي هي الألوهية واستحقاق العبادة . تعالى عن ذلك علواً كبيراً . وحيث افتقر سلوك هذه الطريقة إلى ترتيب المقدمات الفكرية ، قطع الآية الكريمة بالتفكر . انتهى . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ 12 ] .
{ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ } أي : لمنامكم ومعاشكم ولعقد الثمار وإنضاجها : { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } لإصلاح ما نيط بهما صلاحه من المكونات : { وَالْنُّجُومُ } ليهتدى بها في ظلمات البر والبحر . وقوله تعالى : { مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ } حال من الجميع ، على معنى جعلها مسخرات ؛ لأن في التسخير معنى ( الجعل ) فصحت على أنه تجريد . أو على أن التسخير لهم نفع خاص .
فمعناه : نفعكم حال كونها مسخرات لما خلقت له ، مما هو طريق لنفعكم . فـ ( سخر ) بمعنى ( نفع ) على الاستعارة أو المجاز المرسل ؛ لأن النفع من لوازم التسخير . أو على أن ( مسخرات ) مصدر ميميِّ ، منصوب على أنه مفعول مطلق . وسخرها مسخرات ، على منوال ضربته ضربات ، أو يجعل قوله : { مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ } بمعنى مستمرة على التسخير بأمره الإيجادي ؛ لأن الإحداث لا يدل على الاستمرار . وقرئ بنصب الليل والنهار وحدهما ، ورفع ما بعدهما على الابتداء والخبر . وقرئ : { وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ } بالرفع مبتدأ وخبر ، وما قبله بالنصب : { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : تسخير ما ذكر : { لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } .
ولما نبه تعالى على معالم السماوات ، نبه على ما خلق في الأرض من الأمور العجيبة ، والأشياء المختلفة ، من الحيوانات والمعادن والنباتات والجمادات ، على اختلاف ألوانها وأشكالها ، وما فيها من المنافع والخواص ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } [ 13 ] .
{ وَمَا ذَرَأَ } عطف على قوله تعالى : { وَالنُّجُومُ } رفعاً ونصباً ، على أنه مفعول ( لجعل ) أي : وما خلق : { لَكُمْ فِي الأَرْضِ } أي : من حيوان ونبات : { مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } .
ثم نبه تعالى ممتناً على تسخيره البحر ، وتعداد النعم به إثر امتنانه بنعم البر ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ 14 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً } هو السمك .
قال الزمخشري : ووصفه بالطراوة ؛ لأن الفساد يسرع إليه ، فيسارع إلى أكله ، خيفة الفساد عليه .
قال الناصر : فكأن ذلك تعليم لأكله ، وإرشاد إلى أنه لا ينبغي أن يتناول إلا طرياً . والأطباء يقولون : إن تناوله بعد ذهاب طراوته أضر شيء يكون . والله أعلم . انتهى .
قال الشهاب : ففيه إدماج لحكم طبي . وهذا لا ينافي تقديده وأكله مخللاً ، كما توهم . انتهى .
أقول : الأظهر في سر وصفه بالطراوة : هو التنبيه على حسنه ولطفه ، وعلى التفكير في باهر قدرته وعجيب صنعه سبحانه ، في خلقه إياه ، على كيفية تباين لحوم حيوانات البر ، مع اشتراكهما في الحيوانية .
{ وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً } كاللؤلؤ والمرجان : { تَلْبَسُونَهَا } أي : تلبسها نساؤكم ، والإسناد إليهم ؛ لأنهن من جملتهم في الخلطة والتابعية ، ولأنهن إنما يتزين بها من أجلهم ، فكأنها زينتهم ولباسهم . أو معنى ( تلبسون ) تتمتعون وتلتذون ، على طريق الاستعارة والمجاز . ولو جعل من مجاز البعض لصح . أي : تلبسها نساؤكم .
قال الناصر : ولله درُّ مالك رضي الله عنه ، حيث جعل للزوج الحجر على زوجته فيما له بال من مالها . وذلك مقدر بالزائد على الثلث ؛ لحقه فيه بالتجمل . فانظر إلى مكانة حظ الرجال من مال النساء ومن زينتهن ، حتى جعل حظ المرأة من مالها وزينتها حلية له . فعبر عن حظه في لبسها بلبسه ، كما يعبر عن حظها سواء .
قال الشهاب : فإن قلت : الظاهر أن يقال تحلونهن ، أو تقلدونهن كما قال :
~تروع حصاه حالية العذارى فتلمس جانب العقد النظيم
وهي للنساء دون الرجال . قلت : أما الأول فسهل ؛ لأن المراد لازمه . أي : تحلونهن . والثاني على فرض تسليمه : هم يتمتعون بزينة النساء ، فكأنهم لابسون . وإذا لم يكن تغليباً ، فهو مجاز ، بمعنى : تجعلونها لباساً لبناتكم ونسائكم . ونكتة العدول : أن النساء مأمورات بالحجاب وإخفاء الزينة عن غير المحارم . فأخفي التصريح به ليكون اللفظ كالمعنى . انتهى .
وناقش صاحب " فتح البيان " ما قدروه في الآية حيث قال : وظاهر قوله تعالى : { تَلْبَسُونَها } أنه يجوز للرجال أن يلبسوا اللؤلؤ والمرجان ، أي : يجعلونهما حلية لهم كما يجوز للنساء . ولا حاجة لما تكلفه جماعة من المفسرين في تأويل قوله : { تَلْبَسُونَها } بقولهم : تلبسها نساؤهم . لأنهن من جملتهم ، أو لكونهن يلبسنها لأجلهم . وليس في الشريعة المطهرة ما يقتضي منع الرجال من التحلي باللؤلؤ والمرجان ، ما لم يستعمله على صفة لا يستعمله عليها إلا النساء خاصة . فإن ذلك ممنوع ، ورد الشرع بمنعه ، من جهة كونه تشبهاً بهن ، لا من جهة كونه حلية لؤلؤ أو مرجاناً . انتهى .
قال السيوطي في " الإكليل " : في الآية دليل على إباحة لبس الرجال الجواهر ونحوها . واستدل بها من قال بحنث الحالف لا يلبس حلياً بلبس اللؤلؤ ؛ لأنه تعالى سماه ( حلياً ) واستدل بها بعضهم على أنه لا زكاة في حلي النساء . فأخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر ، أنه سئل : هل في حلي النساء صدقة ؟ قال : لا ، هي كما قال : { حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } . انتهى .
قال في " فتح البيان " : وفي هذا الاستدلال نظر . والذي ينبغي التعويل عليه : أن الأصل البراءة من الزكاة حتى يرد الدليل بوجوبها في شيء من أنواع المال فتلزم . وقد ورد في الذهب والفضة ما هو معروف . ولم يرد في الجواهر ، على اختلاف أصنافها ما يدل على وجوب الزكاة فيها . وقوله تعالى : { وَتَرَى الْفُلْكَ } أي : السفن : { مَوَاخِرَ فِيهِ } أي : جواري جمع ( ماخرة ) بمعنى جارية . وأصل معنى ( المخر ) : الشق ؛ لأنها تشق الماء بمقدمها : { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } عطف على محذوف ، أي : لتنتفعوا بذلك : { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } أي : من سعة رزقه ، بركوبها للتجارة : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : فتصرفون ما أنعم به عليكم إلى ما خلق لأجله .
قال أبو السعود : ولعل تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر ، من حيث إن فيها قطعاً لمسافة طويلة ، مع أحمال ثقيلة ، في مدة قليلة ، من غير مزاولة أسباب السفر . بل من غير حركة أصلاً . مع أنها في تضاعيف المهالك . وعدم توسيط الفوز بالمطلوب بين الابتغاء والشكر ؛ للإيذان باستغنائه عن التصريح به وبحصولهما معاً .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } [ 15 - 16 ] .
{ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ } أي : جبالاً ثوابت : { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } أي : تضطرب : { وَأَنْهَاراً } أي : جعل فيها أنهاراً تجري من مكان إلى آخر ، رزقاً للعباد : { وَسُبُلاً } أي : طرقاً يسلك فيها من بلاد إلى غيرها ، حتى في الجبال ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً } [ الأنبياء : 31 ] { لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي : بها إلى مآربكم .
{ وَعَلامَاتٍ } أي : دلائل يستدل بها المسافرون من جبل ومنهل وريح ، براً وبحراً ، إذا ضلوا الطريق : { وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } أي : في الظلام براً وبحراً . والعدول عن سنن الخطاب إلى الغيبة ؛ للالتفات . وتقديم ( بالنجم ) للفاصلة ، وتقديم الضمير للتقوي . وهذا أولى من دعوى الزمخشري ؛ أن التقديم للتخصيص بقوم هم قريش لكونهم أصحاب رحلة وسفر ، وذلك لأن الخطاب في الآيات السابقة عاماً فكذا يكون في لاحقها .
تنبيه :
قال في " الإكليل " : هذه الآية أصل لمراعاة النجوم لمعرفة الأوقات والقبلة والطرق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 17 - 18 ] .
{ أَفَمَن يَخْلُقُ } أي : كل شيء ، لا سيما تلك المصنوعات العظيمة المذكورة ، وهو الله الواحد الأحد : { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } أي : شيئاً ما ، وهو ما يعبدون من دونه ، وهذا تبكيت للمشركين وإبطال لإشراكهم بإنكار أن يساويه ويستحق مشاركته ما لا يقدر على خلق شيء من ذلك ، بل على إيجاد شيء ما .
وزعم الزمخشري ومتابعوه ؛ أن قضية الإلزام أن يقال : ( أفمن لا يخلق كمن يخلق ) ثم تكلموا في سره . وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى : { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى } [ آل عِمْرَان : 36 ] ، فجدد به عهداً : { أَفَلا تَذَكَّرُونَ } أي : فتعرفوا فساد ذلك ، فإنه لوضوحه لا يفتقر إلى شيء سوى التذكر .
ثم نبه ، سبحانه وتعالى ، على كثرة نعمه عليهم وإحسانه بما لا يحصى ؛ إشارة إلى أن حق عبادته غير مقدور ، بقوله تعالى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا } أي : لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم ، فضلاً أن تطيقوا القيام بحقها من أداء الشكر : { إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : حيث يتجاوز عن التقصير في أداء شكرها ، ولا يقطعها عنكم لتفريطكم ، ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها . قاله الزمخشري .
ولحظ ابن جرير ؛ أن مغفرته تعالى ورحمته لهم ، إذا تابوا وأنابوا . أي : فيتجاوز عن تقصيرهم بشكرها الحقيقي ، ولا يعذبهم بعد توبتهم وإنابتهم إلى طاعته .
لطيفة :
قال أبو السعود : كان الظاهر إيراد هذه الآية عقيب ما تقدم من النعم المعددة ، تكملة لها على طريقة قوله تعالى : { وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [ النحل : 8 ] . ولعل فصل ما بينهما بقوله : { أَفَمَنْ يَخْلُقُ } [ النحل : 17 ] ؛ للمبادرة إلى إلزام الحجة ، وإلقاء الحجر ، إثر تفصيل ما فصل من الأفاعيل ، التي هي أدلة الوحدانية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } [ 19 - 21 ] .
{ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } أي : من أعمالكم وسيجزيكم عليه .
{ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أي : فأنى تستحق الألوهية ، وقد نفي عنها أخص صفاتها ؟ فإنها ذوات مفتقرة إلى الإيجاد . أو المعنى : أن الناس يخلقونها بالنحت والتصوير . وهم لا يقدرون على نحو ذلك ، فهم أعجز من عبدتهم . كما قال الخليل عليه السلام : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 95 - 96 ] .
ثم أكد ذلك بأن أثبت لهم ما ينافي الألوهية بقوله :
{ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ } أي : هي جمادات لا أرواح فيها ، فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل . وقوله : { غَيْرُ أَحْيَاءٍ } تأكيد أو تأسيس ، لأن بعض الأموات مما يعتريه الحياة ، سابقاً أو لاحقاً ، كأجساد الحيوان ، والنطف التي ينشئها الله تعالى حيواناً . فلذا احترز عنه بقوله : { غَيْرُ أَحْيَاءٍ } أي : لا يعتريها الحياة أصلاً . فهي أموات على الإطلاق ، حالاً ومآلاً : { وَمَا يَشْعُرُونَ } أي : تلك الأصنام المعبودة : { أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } أي : متى يكون بعثها . وقد رُوي أنها تبعث ، ويجعل فيها حياة ، فتبرأ من عابديها ، ثم يؤمر بها وبهم جميعاً إلى النار .
وجوَّز عود الضمير إلى عابديها . أي : وما تشعر الأصنام متى يبعث عبدتهم تهكماً بحالها ؛ لأن شعور الجماد محال . فكيف بشعور ما لا يعلمه إلا الله ؟ وفيه إشعار بأن معرفته وقت البعث من لوازم الألوهية ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُون َ *لاَ جَرَمَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ } [ 22 - 23 ] .
{ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } تصريح بالمدعى ، وتمحيض للنتيجة ، غب إقامة الدليل . كما أفاده أبو السعود : { فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ } أي : لوحدانيته تعالى ، جاحدة لها ، كما أخبر عنهم ، متعجبين من ذلك بقوله : { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ ص : 5 ] ، وقال تعالى : { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ الزمر : 45 ] ، وقوله تعالى : { وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } أي : عن عبادته تعالى .
{ لاَ جَرَمَ } أي : حقاً : { أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ } أي : عن التوحيد ، وهم المشركون ، أو عن الحق مطلقاً فيتناول هؤلاء . وهذا كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ } [ 24 - 25 ] .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } أي : لم ينزل شيئاً . إنما هذا الذي يتلى علينا أحاديث الأولين ، استمدها منها . كما قال تعالى : { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفرقان : 5 ] .
{ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي : قالوا ذلك ليحملوا أوزارهم الخاصة بهم ، وهي أوزار ضلالهم في أنفسهم ، وبعض أوزار من أضلوهم ، كقوله تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [ العنكبوت : 13 ] ، فاللام في قوله : { لِيَحْمِلُوا } لام العاقبة ؛ لأن ما ذكر مترتب على فعلهم . ولا باعثاً إما مجازاً ، وإما حقيقة ، على معنى أنه قدر صدوره منهم ليحملوا . وقد قيل : إنها للتعليل وإنها لام أمر جازمة . والمعنى : إن ذلك متحتم عليهم . فيتم الكلام عند قوله : { أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } كذا في " العناية " . وقوله تعالى : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } قال الزمخشري : حال من المفعول : أي : من لا يعلم أنهم ضُلال . وإنما وصف بالضلال واحتمال الوزر من أضلوه ، وإن لم يعلم ؛ لأنه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز بين المحق والمبطل . فجهله لا يعذره : { أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ } أي : ألا بئس ما يحملون . ففيه وعيد وتهديد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } [ 26 ] .
{ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي : بأنبيائهم : { فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ } أي : قلع بنيانهم من قواعده وأُسُسه فهدمه عليهم حتى أهلكهم و ( الإتيان ) يتجوز به عن ( الإهلاك ) كقوله تعالى : { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا } [ الحشر : 2 ] ، ويقال : أُتِي فلان من مأمنه ، أي : جاءه الهلاك من جهة أمنه . وأتى عليه الدهر : أهلكه وأفناه . ومنه الأُتُوُّ وهو الموت والبلاء . يقال أتى على فلان أتوُّ ، أي : موت أو بلاء يصيبه . وقد جوَّز في الآية إرادة حقيقة هلاكهم . كالمحكي عن قوم لوط وصالح عليهما السلام ، فيما تقدم . أو مجازه على طريق التمثيل ؛ لإفساد ما أبرموه من هدم دينه تعالى . شبهت حال أولئك الماكرين في تسويتهم المكايد ، للإيقاع بالرسل عليهم السلام . وفي إبطاله تعالى تلك الحيل ، وجعله إياها أسباباً لهلاكهم ، بحال قوم بنوا بنياناً وعمَّدوه بالأساطين . فأتى ذلك من قبل أساطينه بأن ضعضعت ، فسقط عليهم السقف فهلكوا . ووجه الشبه : أن ما عدوه سبب بقائهم ، عاد سبب استئصالهم وفنائهم ، كقولهم : من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً . وقوله : { مِن فَوْقِهمْ } متعلق بـ ( خَرَّ ) . و ( من ) لابتداء الغاية ، أو متعلق بمحذوف على أنه حال من ( السقف ) مؤكدة . وقيل : إنه ليس بتأكيد ؛ لأن العرب تقول : خر علينا سقف ووقع علينا حائط ، إذا انهدم في ملكه وإن لم يقع عليه : { وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ } أي : الهلاك والدمار : { مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } أي : لا يحتسبون .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ 27 ] .
{ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ } أي : يذلِّهم ويهينهم بعذاب الخزي . لقوله تعالى : { رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } [ آل عِمْرَان : 192 ] ، { وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ } أي : تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم . وفيه تقريع وتوبيخ بالقول ، واستهزاء بهم ؛ إذْ أضاف الشركاء إلى نفسه لأدنى ملابسة ، بناءً على زعمهم ، مع الإهانة بالفعل المدلول عليها بقوله : { يُخْزِيهِمْ } أي : ما لهم لا يحضرونكم ليدفعوا عنكم ! لأنهم كانوا يقولون : إن صح ما تقول فالأصنام تشفع لنا . فهو كقوله : { أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } [ الأنعام : 22 ] . وقيل : حكي عن المشركين زيادة في توبيخهم { قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } وهم الأنبياء أو العلماء ، الذين كانوا يدعونهم إلى الحق فيشاقونهم : { إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ } أي : الفضيحة والعذاب : { عَلَى الْكَافِرِينَ } أي : المشركين به تعالى . ما لا يضرهم ولا ينفعهم . وإنما قال : { الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } هذا شماتة بهم ، وزيادة إهانة بالتوبيخ بالقول ، وتقريراً لما كانوا يعظونهم ، وتحقيقاً لما أوعدوهم به .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } [ 28 - 29 ] .
{ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } هذا إخبار عن حال المشركين الظالمي أنفسهم بتبديل فطرة الله ، عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم ، بأنهم يلقون السلم ، أي : ينقادون ويسالمون ويتركون المشاقة . والعدول إلى صيغة الماضي ؛ للدلالة على تحقق الوقوع . وأصل الإلقاء في الأجسام فاستعمل في إظهار الانقياد ؛ إشعاراً بغاية خضوعهم واستكانتهم . وجعل ذلك كالشيء الملقى بين يدي القاهر الغالب على الاستعارة . وقوله تعالى : { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ } منصوب بقول مضمر ، حال . أي : قائلين ذلك . أو هو تفسير ( للسلم ) الذي ألقوه ؛ لأنه بمعنى القول ؛ بدليل الآية الأخرى : { فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْل } [ النحل : 86 ] ، كما يقولون يوم المعاد : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ، { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } [ المجادلة : 18 ] . ثم أخبر تعالى أن الملائكة تجيبهم بقوله : { بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : فلا يفيد الإنكار والكذب على الأنفس : { فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا } أي : مقدراً خلودكم .
قال ابن كثير : وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم ، وينال أجسادهم في قبورها . من حرها وسمومها . فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم ، وخلدت في نار جهنم { لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا } [ فاطر : 36 ] كما قال تعالى : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [ غافر : 46 ] ، وقوله : { فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } أي : بئس المقيل والمقام لمن كان متكبراً عن آيات الله وإتباع رسله . فذكرهم بعنوان التكبُّر ؛ للإشعار بعليته لثوائهم فيها . ولما أخبر عن الأشقياء بأنهم قالوا في جواب : { مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ } هو : { أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } فجحدوا رحمته وكفروا نعمته ؛ تأثره بالإخبار عن السعداء الذين اعترفوا بخيره ورحمته ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ } [ 30 ] .
{ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ } وهم المؤمنون : { مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً } أي : أنزل خيراً ، أي : رحمة وبركة لمن اتبعه وآمن به . ثم أخبر سبحانه عما وعد به عباده بقوله : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ } أي : لمن أحسن عمله ، مكافأة في الدنيا بإحسانهم ، ولهم في الآخرة ما هو خير منها . فقوله : { فِي هَذِهِ الدُّنْيَا } متعلق بـ : { حَسَنَةٌ } كتعلقه بـ : { أَحْسَنُواْ } . قال الشهاب : والحسنة التي في الدنيا : الظفر وحسن السيرة وغير ذلك . وهذه الآية كقوله تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ النحل : 97 ] ، وقوله : { فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَة } [ آل عِمْرَان : 148 ] ، وقال تعالى : { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ } [ آل عِمْرَان : 198 ] ، وقال : { وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [ الأعلى : 17 ] . ثم وصف تعالى الدار الآخرة بقوله : { وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِين َ *الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ 31 - 32 ] .
{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ } كقوله : تعالى : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } [ الزخرف : 71 ] ، { كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ } .
ثم أخبر تعالى عن حالهم عند الاحتضار ، في مقابلة أولئك ، بقوله سبحانه :
{ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ } أي : طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي وكل سوء : { يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : لتدخل أرواحكم الجنة ، فإنها في نعيم برزخي إلى البعث . أو المراد بشارتهم بأنهم يدخلونها كقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [ فصلت : 30 ] الآيات .
ثم أشار إلى تقريع المشركين ، وتهديدهم على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ } [ 33 - 34 ] .
{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ } أي : لقبض أرواحهم بالعذاب : { أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } أي : العذاب المستأصل . أو يوم القيامة وما يعاينونه من الأهوال : { كَذَلِكَ } أي : مثل فعل هؤلاء من الشرك والاستهزاء : { فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي : فتمادوا في ضلالهم حتى ذاقوا بأس الله : { وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ } فيما أحل بهم في عذابه الآتي بيانه . وذلك لأنه تعالى أعذر إليهم وأقام حججه عليهم : بإرسال رسله وإنزال كتبه : { وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } .
{ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } جزاء سيئات أعمالهم من الشرك وإنكار الوحدانية وتكذيب الرسل ونحوها : { وَحَاقَ بِهِم } أي : أحاط بهم : { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ } من العذاب الذي توعدتهم به الرسل . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ * وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [ 35 - 36 ] .
{ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } .
يخبر تعالى عن اغترار المشركين بما هم فيه واعتذارهم عنه بالاحتجاج بالقدر ؛ تكذيباً للرسول صلوات الله عليه ، وطعناً في الرسالة ، وذلك قولهم : { لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ } أي : من البحائر والسوائب والوصائل وغير ذلك مما كانوا ابتدعوه واخترعوه من تلقاء أنفسهم ، مما لم يُنزل الله به سلطاناً . ثم أعلم تعالى مشاكلتهم لمن تقدمهم ، بقوله : { كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي : من الشرك والتحريم ، متمسكين بمثل هذه الشبهة .
قال ابن كثير : مضمون كلامهم أنه لو كان تعالى كارهاً لما فعلنا ، لأنكره علينا بالعقوبة ، ولما مكننا منه . قال الله تعالى راداً عليهم شبههم : { فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ } أي : ليس الأمر كما تزعمون أنه لم ينكره عليكم . بل قد أنكره عليكم أشد الإنكار ، ونهاكم عنه آكد النهي ، وبعث في كل أمة ، أي : في كل قرن وطائفة من الناس ، رسولاً . وكلهم يدعو إلى عبادة الله ، وينهى عن عبادة ما سواه : { أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } وهو ما يعبد من دونه سبحانه . فلم يزل تعالى يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم ، من عهد نوح أول رسول إلى أهل الأرض ، إلى زمن خاتم النبيين صلوات الله عليه وعليهم . ودعوة الكل واحدة كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] ، وكما أخبر هنا في هذه الآية . فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول : { لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ } فمشيئته تعالى الشرعية عنهم منتفية ؛ لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله . وأما مشيئته الكونية ، وهي تمكينهم من ذلك قدراً ، فلا حجة لهم فيها . أي : لأنها من سر القدر الذي حُظر الخوض فيه . ثم إنه تعالى أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا ، بعد إنذار الرسل ، بقوله : { فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ } الآية . وقد تقدم لنا في سورة الأنعام نقل ما للأئمة في مثل هذه الآية . ونسوق هنا أيضاً ما قرأته للإمام ابن تيمية ، عليه الرحمة ، في أول الجزء الثاني من " منهاج السنة " مما يتعلق بالآية ، وإن يكن سبق لنا نقل عنه أيضاً ، فإن الآية من معارك الأفهام ، فلا علينا أن نجلو عن الشبه فيها صدأ الأوهام . قال عليه الرحمة : هذا مقام يكثر خوض النفوس فيه . فإن كثيراً من الناس ، إذا أمر بما يجب عليه تعلل بالقدر وقال : حتى يقدر الله ذلك أو يقدرني الله على ذلك ، أو حتى يقضي الله ذلك . وكذلك إذا نهي عن فعل ما حرم الله قال : الله قضاه علي بذلك ، ونحو هذا الكلام . والاحتجاج بالقدر حجة باطلة داحضة ، باتفاق كل ذي عقل ودين من جميع العالمين . والمحتج به لا يقبل من غيره مثل هذه الحجة ، إذا احتج بها في ظلم ظلمه إياه وترك ما يجب عليه من حقوقه . بل يطلب منه ما له عليه ، ويعاقبه على عدوانه عليه . وإنما هو من جنس شبه السوفسطائية التي تعرض في العلوم . فكأنك تعلم فسادها بالضرورة . وإن كانت تعرض كثيراً للكثير من الناس ، حتى قد يشك في وجود نفسه ، وغير ذلك من المعارض الضرورية . فكذلك هذا يعرض في الأعمال حتى يظن أنها شبهة في إسقاط الصدق والعدل الواجب ، وغير ذلك ، وإباحة الكذب والظلم وغير ذلك . ولكن تعلم القلوب بالضرورة أن هذه شبهة باطلة . ولهذا لا يقبله أحد عند التحقيق ولا يحتج بها أحد إلا مع عدم علمه بالحجة بما فعله ، فإذا كان معه علم بأن ما فعله هو المصلحة ، وهو المأمور ، وهو الذي ينبغي فعله ولم يحتج بالقدر . وكذلك إذا كان معه علم بأن الذي لم يفعله ليس عليه أن يفعله ، أو ليس بمصلحة ، أو ليس هو مأموراً به ؛ لم يحتج بالقدر . بل إذا كان متبعاً لهواه بغير علم ، احتج بالقدر . ولهذا لما قال المشركون : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] ، قال الله تعالى : { هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ } [ الأنعام : من الآية 148 ] : { قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأنعام : 149 ] ، فإن هؤلاء المشركين يعلمون بفطرتهم وعقولهم أن هذه الحجة داحضة وباطلة . فإن أحدهم لو ظلم الآخر أو حرج في ماله أو فرج امرأته أو قتل ولده أو كان مصراً على الظلم فنهاه الناس عن ذلك فقال : لو شاء الله لم أفعل هذا ؛ لم يقبلوا منه هذه الحجة ، ولا هو يقبلها من غيره . وإنما يحتج بها المحتج دفعاً للوم بلا وجه . فقال الله تعالى : { هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } بأن هذا الشرك والتحريم من أمر الله ، وأنه مصلحة ينبغي فعله : { إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ } فإنه لا علم عندكم بذلك ، إن تظنون ذلك إلا ظناً : { وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ } وتفترون . فعمدتكم في نفس الأمر ظنكم وخرصكم ، ليس عمدتكم في نفس الأمر كون الله شاء ذلك وقدره . فإن مجرد المشيئة والقدر لا تكون عمدة لأحد في الفعل ، ولا حجة لأحد على أحد ولا عذراً لأحد ؛ إذ الناس كلهم مشتركون في القدر . فلو كان هذا حجة وعمدة لم يحصل فرق بين العادل والظالم والصادق والكاذب والعالم والجاهل والبر والفاجر . ولم يكن فرق بين ما يصلح الناس من الأعمال [ و ] ما يفسدهم وما ينفعهم وما يضرهم . وهؤلاء المشركون المحتجون بالقدر على ترك ما أرسل الله به رسله من توحيده ، والإيمان به ؛ لو احتج به بعضهم على بعض في سقوط حقوقه ومخالفة أمره ، لم يقبله منه . بل كان هؤلاء المشركون يذم بعضهم بعضاً ويعادي بعضهم بعضاً ويقاتل بعضهم بعضاً على فعل من يريد تركاً لحقهم ، أو ظلماً . فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى حق الله على عباده وطاعة أمره ، واحتجوا بالقدر ؛ فصاروا يحتجون بالقدر على ترك حقِّ ربهم ومخالفة أمره ، بما لا يقبلونه ممن ترك حقهم وخالف أمرهم . وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < يا معاذ بن جبل ! أتدري ما حق الله على عباده ؟ ! حقه على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ حقهم عليه أن لا يعذبهم > .
فالاحتجاج بالقدر حال الجاهلية الذين لا علم عندهم بما يفعلون ويتركون : { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } وهم إنما يحتجون به في ترك حق ربهم ومخالفة أمره ، لا في ترك ما يرونه حقاً لهم ولا في مخالفة أمرهم . ولهذا تجد المحتجين والمستندين إليه من النساك والصوفية والفقراء والعامة والجند والفقهاء وغيرهم ؛ يفرون إليه عند إتباع الظن وما تهوى الأنفس . فلو كان معهم علم وهدى لم يحتجوا بالقدر أصلاً . بل يعتمدون عليه لعدم الهدى والعلم ، وهذا أصل شريف ، من اعتنى به علم منشأ الضلال والغي لكثير من الناس . ولهذا تجد المشايخ والصالحين المتبعين للأمر والنهي ، كثيراً ما يوصون أتباعهم بالعلم بالشرع . فإنه كثيراً ما يعرض لهم إرادات في أشياء ومحبة لها . فيتبعون فيها أهواءهم ظانين أنه دين الله تعالى ، وليس معهم إلى الظن والذوق والوجدان الذي يرجع إلى محبة النفس وإرادتها . فيحتجون تارة بالقدر وتارة بالظن والخرص ، وهم متبعون أهواءهم في الحقيقة . فإذا اتبعوا العلم ، وهو ما جاء به الشارع صلى الله عليه وسلم خرجوا عن الظن وما تهوى الأنفس ، واتبعوا ما جاءهم من ربهم وهو الهدى ، كما قال تعالى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } [ طه : 123 ] ، وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى عن المشركين في سورة الأنعام والنحل والزخرف كما قال تعالى : { وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } [ الزخرف : 20 ] ، فتبين أنه لا علم لهم بذلك ، إن هم إلا يخرصون . وقال في سورة الأنعام : { قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ } [ الأنعام : 149 ] : إرسال الرسل وإنزال الكتب كما قال تعالى : { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [ النساء : 165 ] ، ثم أثبت القدر بقوله : { فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } فأثبت الحجة الشرعية وبين المشيئة القدرية . وكلاهما حق . وقال في النحل : { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } [ النحل : 35 ] فبيَّن سبحانه وتعالى أن هذا الكلام تكذيب للرسل فيما جاءوهم به ، ليس حجة لهم . فلو كان حجة لاحتج به على تكذيب كل صدق وفعل كل ظلم . ففي فطرة بني آدم أنه ليس حجة صحيحة . بل من احتج به احتج لعدم العلم وإتباع الظن . كفعل الذين كذبوا الرسل بهذه المدافعة . بل الحجة البالغة لله بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < لا أحد أحب إليه العذر من [ في المطبوع : في ] الله ، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ، ولا أحد أحب إليه المدح من الله ، من أجل ذلك مدح نفسه . ولا أحد أغير من الله ، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن > . فبين أنه سبحانه يحب المدح وأن يعذر ويبغض الفواحش ، فيحب أن يمدح بالعدل والإحسان ، وألا يوصف بالظلم . ومن المعلوم أنه من قدم إلى أتباعه بأن افعلوا كذا ولا تفعلوا . وبيَّن لهم وأزاح علتهم ، ثم تعدوا حدوده وأفسدوا أمورهم ؛ كان له أن يعذبهم وينتقم منهم . فإذا قالوا : أليس الله قدر علينا هذا ؟ لو شاء الله ما فعلنا هذا . قيل لهم : أنتم لا حجة لكم ولا عندكم ما تعتذرون به ، وتبيَّن [ في المطبوع : يبيِّن ] أن ما فعلتموه كان حسناً ، أو كنتم معذورين فيه . فهذا الكلام غير مقبول منكم . وقد قامت الحجة عليكم بما تقدم من البيان والإعذار . ولو أن ولي أمر أعطى قوماً مالاً ليوصلوه إلى بلد ، فسافروا به وتركوه في البرية ليس عنده أحد وباتوا في مكان بعيد منه ، وكان ولي الأمر قد أرسل جنداً يغزون بعض الأعداء ، فاجتازوا تلك الطريق ، فرأوا ذلك المال فظنوه لقطة ليس له أحد فأخذوه وذهبوا ؛ لكان يحسن منه أن يعاقب الأولين لتفريطهم وتضييعهم حفظ ما أمرهم به . ولو قالوا له : أنت لم تعلمنا أنك تبعث بعدنا جنداً حتى يحترز المال منهم ! قال : هذا لا يجب علي ، ولو فعلته لكان زيادة إعانة لكم . لكن كان عليكم أن تحفظوا ذلك كما تحفظون الودائع والأمانات . وكانت حجته عليهم قائمة ولم يكن يدعى فيهم ظالماً ، وإن كان لم يُعنهم بالإعلام بذلك الجند ، لكن عمل المصلحة في إرسال الأولين والآخرين . والله سبحانه وتعالى ، وله المثل الأعلى ، حكَمٌ عدل في كل ما جعله ، ولا يخرج شيء عن مشيئته وقدرته . فإذا أمر الناس بحفظ الحدود وإقامة الفرائض لمصلحتهم ؛ كان ذلك من إحسانه إليهم وتعريفهم ما ينفعهم . وإذا خلق أموراً أخرى ، فإذا فرَّطوا واعتدوا بسبب خلقه الأمور الأخرى ، كان عادلاً حكماً في خلق هذا وخلق هذا ، والأمر بهذا والأمر بهذا . وإن كان لم يمدَ الأولين بزيادة يحترسون بها من التفريط والعدوان ، لا سيما مع علمه بأن تلك الزيادة ، لو خلقها للزم منها تفويت مصلحة أرجح ، فإن الضدين لا يجتمعان . والمقصود هنا أنه لا يحتج أحد بالقدر إلا حجة تعليل ؛ لدعم إتباع الحق الذي بينه العلم . فإن الإنسان حيٌّ حساس متحرك بالإرادة . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : < أصدق الأسماء الحارث وهمام > فالحارث : الكاسب العامل . والهمام : المتحرك الهمّ . والهمّ مبدأ الإرادة والقصد . فكل إنسان حارث هَمَّام ، وهو المتحرك بالإرادة ، وذلك لا يكون إلا بعد الحس والشعور . فإن الإرادة مسبوقة بالشعور بالمراد ، فلا يتصور إرادة ولا حب ولا شوق ولا اختيار ولا طلب إلا بعد الشعور وما هو من جنسه . كالحس والعلم والسمع والبصر والشم والذوق واللمس ونحو هذه الأمور . فهذا الإدراك والشعور هو مقدمة الإرادة والحب والطلب . والحيِّ مفطور على حب ما ينفعهُ ويلائمه ، وبغض ما يكرهه ويضره . فإذا تصوّر الشيء الملائم النافع ، أراده وأحبه . وإن تصور الشيء الضار أبغضه ونفر عنه . لكن ذلك التصوُّر قد يكون علماً وقد يكون ظناً وخرصاً . فإذا كان عالماً بأن مراده هو النافع ، وهو المصلحة وهو الذي يلائمه ؛ كان على الهدى والحق . وإذا لم يكن معه علم بذلك ، كان متبعاً للظن وما تهوى نفسه . فإذا جاءه العلم والبيان بأن هذا ليس مصلحة ، أخذ يحتج بالقدر ، حجة لدَدٍ وتفريج ، لا حجة اعتماد على الحق والعلم . فلا يحتج أحد في باطنه أو ظاهره بالقدر ، إلا لعدم العلم بما هو عليه الحق . وإذا كان كذلك كان من احتج بالقدر على الرسل مقراً بأن ما هو عليه ليس معه به علم ، وإنما تكلم بغير علم . ومن تكلم بغير علم كان مبطلاً في كلامه ، ومن احتج بغير علم كانت حجته داحضة . فإما أن يكون جاهلاً ، فعليه أن يتبع العلم . وإما أن يكون قد عرف الحق واتبع هواه ، فعليه أن يتبع الحق ويدع هواه . فتبين أن المحتج بالقدر متبع لهواه بغير علم : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّه } [ القصص : 50 ] . انتهى . وله تتمة سابغة الذيل لا بأس بالوقوف عليها .
وقال القاشاني في هذه الآية : إنما قالوا ذلك عناداً وتعنتاً عن فرط بالجهل وإلزاماً للموحدين بناءً على مذهبهم . إذ لو قالوا ذلك عن علم ويقين لكانوا موحدين لا مشركين بنسبة الإرادة والتأثير إلى الغير ؛ لأن من علم أنه لا يمكن وقوع شيء بغير مشيئة من الله ، علم أنه لو شاء كل من في العالم شيئاً ، لم يشأ الله ذلك ؛ لم يمكن وقوعه . فاعترف بنفي القدرة والإرادة عما عدا الله تعالى ، فلم يبق مشركاً ، قال الله تعالى : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا } [ الأنعام : 107 ] ، وقوله تعالى : { كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } [ النحل : 35 ] ، أي : في تكذيب الرسل بالعناد . انتهى .
وقال الإمام مفتي مصر في تفسير سورة العصر ، من هذا البحث ما مثاله : فالعقل والشرع والحس والوجدان متضافرة على أن فعل العبد فعله . وكون جميع الأشياء راجعة إلى الله تعالى ووجود الممكنات ، إنما هو نسبتها إليه . ولا يتصور اعتبارها موجودة إلا إذا اعتبرت مستندة إليه ، مما قام عليه الدليل بل كاد يصل إلى البداهة كذلك . ومثل هذا يقال في عظم قدرة الله تعالى . وإنه إن شاء سلبنا من القدرة والاختيار ما وهبنا . فهو أمر نشاهده كل يوم ، نُدبِّر شيئاً ، ثم يأتي من الموانع من تحقيقه ما لم يكن في الحسبان ، ونتناول عملاً ثم تنقطع قدرتنا عن تتميمه . كل ذلك لا نزاع فيه . شمول علم الله لما كان ولما يكون قام عليه الدليل . ولا شبهة فيه عند الملّييّن ، فوجب على المسلم أن يعتقد بأن الله خالق كل شيء على النحو الذي يعلمه ، وأن يقرِّر بنسبة عمله إليه كما هو بديهي عنده . ويعلم بما أمره به ويجتنب ما نهاه عنه باستعمال ذلك الاختيار الذي يجده من نفسه . وليس عليه بعد ذلك أن يرفع بصره إلى ما وراءه . فقد نعى الله على المشركين قولهم : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] . ووردت الأحاديث متواترة المعنى في النهي عن الخوض في القدر وسره . فلو صبر العبد حق الصبر ؛ لوقف عند ما حدَّ الله له ، ولم ينزع بنفسه إلى تعدي حدود الله التي ضربها لعباده . ولست أحب التكلم في هذه المسألة بأكثر من هذا . وإلا خرجت من الصابرين ، وخضت في القدر مع الخائضين . ومن ثار به الهوس فتوهم أن علينا أن نعتقد أن العبد لا فعل له ، فقد خالف كتاب الله وعصى رسول الله . وقد أقول ( واعتمادي على الله فيما أقول ) : إن من يقول ذلك ، يخرج عن دين الله ، ويعطل شرع الله ، فليحذر مؤمن بالله أن يقول ذلك . انتهى .
وقال في موضع آخر : الاحتجاج على ترك العمل بالقدر من عقائد الملحدين . وقد جاء الكتاب الكريم بتشنيع اعتقادهم والنعي عليهم فيه . وقد حكى لنا ما كانوا يقولون من نحو : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] ، فلا يسوغ لأحد منا ، وهو يدعي أنه مؤمن بالقرآن ؛ أن يحتج بما كان يحتج به المشركون . انتهى . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ * وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ 37 - 38 ] .
{ إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ } أي : من يخلق فيه الضلالة بسوء اختياره : { وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ } أي : ينصرونهم في الهداية ، أو يدفعون العذاب عنهم . ثم بيَّن تعالى نوعاً آخر من أباطيلهم . وهو إنكارهم البعث بقوله :
{ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } أي : جاهدين فيها فـ : { جَهْدَ } مصدر في موقع الحال : { لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أي : أنه يبعثهم ، فيبتّون القول بعدمه ! وإنه وعداً عليه حقٌّ ، فيكذبونه ؛ وذلك لجهلهم بشؤون الله عز شأنه من العلم والقدرة والحكمة وغيرها من صفات الكمال . وبما يجوز عليه وما لا يجوز ، وعدم وقوفهم على سر التكوين والغاية القصوى منه . وعلى أن البعث مما تقتضيه الحكمة . أفاده أبو السعود .
ثم ذكر حكمته تعالى في المعاد ، وحشر الأجساد يوم التناد ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ * إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ 39 - 40 ] .
{ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ } وهو الحق ، وأنهم كانوا على الضلالة قبله : { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ } أي : في أباطيلهم . لا سيما في إيمانهم بعدم البعث . ولذا تقول لهم الزبانية يوم القيامة : { هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } [ الطور : 14 ] . ثم بيَّن عظيم قدرته ، وأنه لا يعجزه شيء ما ، بقوله سبحانه :
{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } أي : فيوجد على ما شاء تكوينه ، كقوله تعالى : { وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [ القمر : 50 ] ، وقوله : { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ لقمان : 28 ] .
قال الزمخشري : ( قولنا ) مبتدأ ، و ( أن نقول ) خبره ، و ( كن فيكون ) من ( كان ) التامة التي بمعنى الحدوث والوجود . أي : إذا أردنا وجود شيء فليس إلا أن نقول له : أحدث ، فهو يحدث عقيب ذلك ، لا يتوقف . وهذا مثل ؛ لأن مراداً لا يمتنع عليه ، وأن وجوده عند إرادته تعالى غير متوقف ، كوجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع الممتثل . ولا قولَ ثَمَّ . والمعنى : إن إيجاد كل مقدور على الله تعالى بهذه السهولة . فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو في شق المقدورات ؟ . انتهى .
قال الشهاب : فسقط ما قيل : إنَّ ( كن ) إن كان خطاباً مع المعدوم فهو محال . وإن كان مع الموجود كان إيجاداً للموجود . وفي الآية كلام لطيف مضى في سورة البقرة . فارجع إليه .
ثم أخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين الذين فارقوا الدار والأهل والخلان ؛ رجاء ثوابه وابتغاء مرضاته ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ 41 ] .
{ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ } أي : مخلصين لوجهه ، أو في حقه ، وهم إما مهاجرة الحبشة الذين اشتد أذى قومهم بمكة ، حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى بلاد الحبش بأمره صلى الله عليه وسلم ، وذلك مخافة الفتنة وفراراً إليه تعالى بدينهم ، وكانوا ثلاثة وثمانين رجلاً سوى صغار أبنائهم ، وهي أول هجرة في الإسلام . ويؤيده كون السورة مكية .
أو هم مهاجرة المدينة ، أخبر به قبل وقوعه أو بعده ، إلا أنها ألحقت بالمكية . وقوله تعالى : { مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } أي : أوذوا ، وأريد فتنتهم عن الدين : { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } يعني بالغلبة على من ظلمهم ، وإيراثهم أرضهم وديارهم : { وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } يعني مضطهديهم وظالميهم . وقد روي أن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه ، كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه ، يقول : ( خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما ادخر لك في الآخرة أفضل ) . ثم وصفهم تعالى بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ 42 - 44 ] .
{ الَّذِينَ صَبَرُواْ } أي : على ما أوذوا في سبيل الله : { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي : فلا يخشون أحداً غيره . والوصفان المذكوران : الصبر والتوكل ، من أمهات الصفات التي يجب على الداعي إلى الحق ، والمدافع عنه ، أن يكونا خلقاً له ؛ إذ لا ظفر بغاية إلا بهما . ولما عجبوا من إيحاء الله لرسوله ، واصطفائه برسالته ؛ قيل في درء شبهتهم .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } يعني أهل الكتاب أو علماء الأحبار ؛ ليعلموكم أنه لم يرسل للدعوة العامة ملك من أهل السماء . فالذكر : إما بمعنى الكتاب لما فيه من الذكر والعظة ، كقوله : { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ } [ يس : 69 ] ، أو بمعنى الحفظ لأخبار الأمم السالفة . وفي الآية دليل على وجوب الرجوع إلى العلماء فيما لا يعلم . واستدل بها بعضهم على جواز التقليد في الفروع للعاميِّ . وفي ذلك بحث طويل في " إيقاظ الهمم " لِلْفُلاَّنِي ، فارجع إليه إن شئت . وأشار إلى طرف منه في " فتح البيان " .
وقوله تعالى : { بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ } أي : بالآيات المبرهنة على صدقهم والكتب المرشدة إلى مصالح الخلق . والجار متعلق بمقدر يدل عليه ما قبله ، أي : أرسلناهم . أو بـ ( ما أرسلنا ) . أو بـ ( نوحي ) أو بـ ( لا تعلمون ) ، على أن الشرط للتبكيت والإلزام : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ } أي : القرآن المذكِّر والموقظ من سنة الغفلة : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } أي : مما أمروا ونهوا ووعدوا وأوعدوا : { وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } أي : ينظرون لأنفسهم فيهتدون فيفوزون بالنجاة في الدارين . أو يتأملون ما فيه من العبر فيحترزون عما أصاب الأولين . ولذا تأثره بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } [ 45 ] .
{ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ } أي : المكرات السيئات التي قُصَّتْ عنهم . فهي صفة لمصدر محذوف أو مفعول لـ ( مكروا ) بتضمينه معنى ( عملوا ) : { أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ }
أي : من جهة لا يعلمون بها ، كما لا يشعر الممكور بقصد الماكر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ * أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ } [ 46 - 48 ] .
{ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ } أي : سعيهم في المعايش واشتغالهم بها : { فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ } أي : لا يعجزون ربهم على أي : حال كانوا .
{ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ } أي : توقع للهلاك ومخافة له ، فإنه يكون أبلغ وأشد . أو ننقص في أبدانهم وأموالهم وثمارهم حتى يهلكوا . يقال : تخوفه : تنقصه وأخذ من أطرافه : { فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ } أي : حيث يحلم عنكم ولا يعاجلكم بالعقوبة . ثم أخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه بانقياد سائر مخلوقاته : جمادات وحيوانات ومكلفين من الجن والإنس والملائكة له سبحانه ، بقوله : { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ } أي : جسم قائم له ظل : { يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ } أي : يرجع شيئاً فشيئاً : { عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ } أي : عن جانبي كل واحد منها ، بُكْرَةً وَعَشِيْاً : { سُجَّداً لِلّهِ } أي : منقادة له على حسب مشيئته في الامتداد والتقلص وغيرهما ، غير ممتنعة عليه فيما سخرها له : { وَهُمْ دَاخِرُونَ } أي : صاغرون . وغلب في جمعها من يعقل ، فأتى بالواو . أو لأن الدخور من أوصاف العقلاء . فهو إما تغليب أو استعارة ، وكذا ضمير ( هم ) أيضاً ؛ لأنه مخصوص بالعقلاء . فيجوز أن يعتبر ما ذكر فيه ، ويجعل ما بعده جارياً على المشاكلة .
لطيفة :
لابن الصائغ في سر توحيد اليمين وجمع الشمائل توجيه لطيف . وملخصه : أنه نظر إلى الغاية فيهما ؛ لأن ظل الغداة يضمحل بحيث لا يبقى منه إلا اليسير ، فكأنه في جهة واحدة . وهو في العشيِّ على العكس ، لاستيلائه على جميع الجهات . فلحظت الغايتان . هذا من جهة المعنى .
وأما من جهة اللفظ فجمع ليطابق ( سجداً ) المجاور له ، كما أفرد الأول لمجاورة ضمير ( ظلاله ) وقدَّم الإفراد لأنه أصل أخف . و ( عن اليمين ) متعلق بـ ( يَتَفَيَّأُ ) أو حال . كذا في " العناية " .
ثم بيَّن سجود سائر المخلوقات سواء كانت لها ظلال أم لا ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } [ 49 ] .
{ وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ } أي : الملائكة ، مع علو شأنهم : { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } أي : عن عبادته والسجود له .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ 50 ] .
{ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } أي : من الطاعات والتدبير . واستدل بقوله : { مِّن فَوْقِهِمْ } على ثبوت الفوقية والعلو له تعالى . وقد صنف في ذلك الحافظ الذهبي كتاب " العلوّ " وابن القيم كناب " الجيوش الإسلامية " وغيرهما . وأطنب فيها الحكيم ابن رشد في " مناهج الدولة " فليرجع إليها . وكلهم متفقون على أنه علوٌّ بلا تشبيه ولا تمثيل . وانفرد السلف بخطر التأويل والتعطيل . وقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ } [ 51 ] .
{ وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ } إعلام بنهيه الصريح عن الإشراك . وبأمره بعبادته وحده ، وإنما خصص هذا العدد ؛ لأنه الأقل ، فيعلم انتفاء ما فوقه بالدلالة . فإن قيل : الواحد والمثنى نص في معناهما ، لا يحتاج معهما إلى ذكر العدد ، كما يذكر مع الجميع . أي : في نحو رجال ثلاثة ، وأفراس أربعة ؛ لأن المعدود عارٍ عن الدلالة على العدد الخاص ، فلِمَ ذكر العدد فيهما ؟ أجيب بأن العدد يدل على أمرين : الجنسية والعدد المخصوص . فلما أريد الثاني صرح به للدلالة على أنه المقصود الذي سيق له الكلام وتوجه له النهي دون غيره . فإنه قد يراد بالمفرد الجنس ، نحو : نعم الرجل زيد . وكذا المثنى كقوله :
~فإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب أولها الكلام
وقيل : ذكر العدد للإيماء بأن الاثنينية تنافي الألوهية . فهو في معنى قوله : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] ، فلذا صرح بها ، وعقبت بذكر الوحدة التي هي من لوازم الألوهية .
قال الشهاب : ولا حاجة إلى جعل الضمير للمعبود بحق المراد من الجلالة على طريق الاستخدام .
وقوله تعالى : { وَقَالَ اللَّهَ } معطوف على قوله : { وَلِلَّه يَسْجُدُ } أو على قوله : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ } وقيل : إنه معطوف على : { مَا خَلَقَ اللَّهُ } على أسلوب :
~علفتها تبنا وماء باردا
أي : { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ } ولم يسمعوا ما قال الله ؟ ولا يخفى تكلفه . وفي قوله : { فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ } التفات عن الغيبة ، مبالغة في الترهيب . فإن تخويف الحاضر مواجهة ، أبلغ من ترهيب الغائب ، لا سيما بعد وصفه بالوحدة والألوهية المقتضية للعظمة والقدرة التامة على الانتقام . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ * وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ 52 - 55 ] .
{ وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } معطوف على قوله : { إِنَّمَا هوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ } أو على الخبر ، أو مستأنف { وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً } أي : العبادة لازمة له وحده . ولزومها له ينافي خوف الغير ؛ إذ يقتضي تخصيصه تعالى بالرهبة والخشية ، وهذا كقوله : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [ آل عِمْرَان : 83 ] .
{ أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ } أي : وهو مالك النفع والضر .
{ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ } أي فمن فضله وإحسانه : { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } أي : لا تتضرعون إلا إليه ؛ لعلمكم أنه لا يقدر على كشفه إلا هو سبحانه . والجؤار : رفع الصوت . يقال : جأر إذا أفرط في الدعاء والتضرع ، وأصله صياح الوحش .
{ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } أي : بنسبة النعمة إلى غيره ورؤيتها منه . وكذا بنسبة الضر إلى الغير ، وإحالة الذنب في ذلك عليه ، والاستعانة في رفعه به . وذلك هو كفران النعمة ، والغفلة عن المنعم المشار إليهما بقوله :
{ لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ } أي : من نعمة الكشف عنهم . واللام للعاقبة والصيرورة : { فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أي : وبال ذلك الكفر . وفيه إشعار بشدة الوعيد ، وأنه إنما يعلم بالمشاهدة ، ولا يمكن وصفه ، فلذا أبهم .
وللقاشانيِّ وجه آخر ، قال : أو فسوف تعلمون ، بظهور التوحيد ، أن لا تأثير لغير الله في شيء . ثم بيَّن تعالى من مثالب المشركين بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ } [ 56 - 57 ] .
{ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } أي : لآلهتهم التي لا علم لها ؛ لأنها جماد : { نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ } أي : من الزرع والأنعام وغيرهما تقرباً إليها : { تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ } أي : من أنها آلهة يتقرب إليها . ومرَّ نظير الآية في سورة الأنعام في قوله سبحانه : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً } [ الأنعام : 136 ] الآية ، فانظر تفصيلها ثمة .
{ وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ } هذا بيان لعظيمة من عظائمهم ، وهو جعلهم الملائكة الذين هم عَبَّاد الرحمن بنات لله ، فنسبوا له تعالى ولداً ولا ولد له . واجترءوا على التفوه بمثل ذلك ، وعلى نسبة أدنى القسمين له من الأولاد ، وهو البنات ، وهم لا يرضونها لأنفسهم ؛ لأنهم يشتهون الذكور ، أي : يختارونهم لأنفسهم ويأنفون من البنات . وقد نزه مقامه الأقدس عن ذلك بقوله : { سُبْحَانَهُ } أي : عن إفكهم وقولهم . وفيه تعجب من جراءتهم على التفوه بهذا المنكر من القول ، ومن مقاسمتهم لجلاله بالاستئثار كما قال سبحانه : { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى } [ النجم : 21 - 22 ] . وقال تعالى : { أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِيْنَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [ الصافات : 151 - 154 ] . ثم أشار إلى شدة كراهتهم للإناث ، بما يمثل عظم تلك النسبة إلى الجناب الأقدس وفظاعتها ، بقوله سبحانه وتعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ 58 - 59 ] .
{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ } أي : صار أو دام النهار كله : { مُسْوَدّاً } أي : متغيراً من الغم والحزن والغيظ والكراهية التي حصلت له عند هذه البشارة . وسواد الوجه وبياضه يعبر عن المساءة والمسرة ، كناية أو مجازاً { وَهُوَ كَظِيمٌ } أي : مشتد الغيظ على امرأته ؛ لأنه بزعمه ، حصل له منها ما يوجب أشد الحياء ، حتى أنه : { يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ } أي : يستخفي منهم : { مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ } أي : من أجله وخوف التعيير به . ثم يفكر فيما يصنع به ، وهو قوله تعالى : { أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ } أي : محدثاً نفسه متفكراً في أن يتركه على هوانٍ وذلٍّ ، لا يورِّثه ولا يعتني به ، ويفضل ذكور ولده عليه : { أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ } أي : يخفيه ويدفنه فيه حياً : { أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي : حيث يجعلون الولد الذي هذا شأنه من الحقارة والهون عندهم ، لله تعالى وتقدس ، ويجعلون لأنفسهم من هو على عكس هذا الوصف . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 60 ] .
{ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ } أي : مثل من ذكرت مساوئهم : { مَثَلُ السَّوْءِ } أي : صفات الذل من الحاجة إلى الأولاد وكراهية الإناث ووَأدهن ، خشية الإملاق ، المنادى كل ذلك بالعجز والقصور والشح البالغ . ووضع الموصول موضع الضمير ؛ للإشعار بأن مدار اتصافهم بتلك القبائح هو الكفر بالآخرة : { وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ } أي : الوصف العالي الشأن ، وهو الغني عن العالمين ، والكمال المطلق والتقدس عن سمات المخلوقين : { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .(/)
ثم أخبر تعالى عن حلمه بخلقه ، مع ظلمهم ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ } [ 61 - 62 ] .
{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم } أي : بكفرهم ومعاصيهم التي منها ما عدد من المساوئ المتقدمة : { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا } أي : على الأرض المدلول عليها بالناس ، وبقوله تعالى : { مِن دَآبَّةٍ } أي : لأهلكها بالمرة بشؤم ظلم الظالمين : { وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي : وقت معين تقتضيه الحكمة . يستغفر منهم من يستغفر فيغفر له ، ويصر من يصر فيزداد عذاباً : { فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ } أي : المسمى : { لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ }
{ وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ } أي : ينسون إليه : { مَا يَكْرَهُونَ } أي : من البنات ومن الشركاء . وهم يأنفون من الأولى كما يكرهون مشاركة أحد لهم في مالهم . وهو تكرير لما سبق ، تثنيةً للتقريع وتوطئةً لقوله تعالى :
{ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى } أي : يجعلون لله ذلك ، مع دعواهم أن لهم العاقبة الحسنى عند الله ، إن كان ثم معاد ، كما قصه تعالى عنهم بقوله : { وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى } [ فصلت : من الآية 50 ] ، يعني جَمَعَ هؤلاء بين عمل السوء وتمنِّي المحال ، بأن يجازوا على ذلك حسناً .
وقد روي أنه وجد في أحد أحجار الكعبة لما جدِّدت مكتوباً ( تعملون السيئات وتَجْزَوْنَ الحسنات . أجل . كما يجتبى من الشوك العنب ) و : { أَنَّ لَهُمُ } الخ بدل من ( الكذب ) أو بتقدير بأن لهم .
قال الشهاب : قوله تعالى : قوله : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ } من بليغ الكلام وبديعه كقولهم : ( عينها تصف السحر ) أي : ساحرة . وقدها يصف الهيف ، أي : هيفاء .
قال أبو العلاء المعري :
~سرى برق المعرة بعد وهن فبات برامة يصف الكلالا
ثم رد كلامهم وأثبت ضده بقوله سبحانه : { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ } أي : معجَّلون إليها ومُقدَّمونَ . من ( الفرط ) وهو السابق إلى الورد . يقال : أفرطته في طلب الماء إذا قدمته . أو متروكون منسيِّون في النار . من ( أفرطته ) بمعنى تركته ونسيته ، على ما حكاه الفراء ، كقوله تعالى : { فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا } [ الأعراف : 51 ] وقرأ نافع ( مُفْرِطُونَ ) بكسر الراء . اسم فاعل من ( أفرط ) إذا تجاوز ، أي : متجاوزو الحد في معاصي الله . وقرأ أبو جعفر بكسر الراء المشددة من ( فرَّط في كذا ) إذا قصر . ويقرب من الآية ما قص عنهم في قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ فصلت : 50 ] . وقال تعالى : { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً } [ الكهف : 35 - 36 ] .
ثم ذكر تعالى نعمته في إرسال الرسل وتكذيب أممهم ؛ ليتأسى صلوات الله عليه بهم بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ 63 - 64 ] .
{ تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } أي : من الكفر والتكذيب والعناد : { فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ } أي : قرينهم ، يُغويهم . أو المراد باليوم : يوم القيامة . والولي بمعنى الناصر . وجعله ناصراً فيه ، مع أنهم لا ينصرون ؛ مبالغة في نفيه وتهكم ، على حدِّ ( عتابه السيف ) : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ } أي : فالقرآن هو الفرقان الفاصل بين الحق والباطل ، وكل ما يتنازع فيه : { وَهُدًى } أي : للقلوب : { وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } ثم أشار إلى عظيم قدرته في آياته الكونية الدالة على وحدانيته ، إثر قدرته في إحياء القلوب الميتة بالكفر ، بما أنزله من وحيه وهداه ورحمته ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } [ 65 - 66 ] .
{ وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاءِ } أي : المزن : { مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } أي : بالنبات والزرع ، بعد جدبها ويبسها : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أي : هذا التذكير ، ويعقلون وجه دلالته .
{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ } وهو ما في الكرش من الثفل : { وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } أي : سهل المرور في حلقهم .
بيَّن تعالى آيته في الأنعام بما ذكر ؛ ليستدل به على وحدانيته وانفراده بالألوهية ، وليستدل به أيضاً على الحشر . فإن العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والتراب . فقلبُ الطين نباتاً وعشباً ، ثم تبديله دماً في جوف الحيوان ، ثم تحويله إلى لبن ؛ أعظم عبرة على قدرته تعالى على قلب هذه الأجسام الميتة من صفة إلى صفة . وإنما ذكر الضمير في بطونه هنا ، وأنثه في سورة المؤمنين ؛ لكون الأنعام اسم جمع ، فيذكر ويفرد ضميره ، باعتبار لفظه . ويؤنث ويجمع باعتبار معناه .
وقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ 67 ] .
{ وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } بيان لآيته تعالى في الثمرات المذكورة ، ومنته في المشروب منها والمطعوم . و ( السَّكَرُ ) : مصدر سمي به الخمر . فهو بمعنى السُّكْر كالرُّشَد والرُّشْد .
قال الفراء : السَّكَر : الخمر نفسها . والرزق الحسن : الزبيب والتمر وما أشبههما ، ولا يقال : الخمر محرمة ، فكيف ذكرها الله في معرض الإنعام ؟ لأن هذه السورة مكية ، وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة . وكان نزول هذه الآية في الوقت الذي كانت الخمر فيه غير محرمة . وأجاب الرازي بجواب ثان .
وهو : أنه لا حاجة إلى التزام هذا النسخ ، وذلك لأنه تعالى ذكر ما في هذه الأشياء من المنافع ، وخاطب المشركين بها ، والخمر من أشربتهم ، فهي منفعة في حقهم .
قال : ثم إنه تعالى نبه في هذه الآية أيضاً على تحريمها . وذلك لأنه ميز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر ، فوجب أن لا يكون السَّكَر رزقاَ حسناً . ولا شك أنه حسن بحسب الشهوة فوجب أن يقال : الرجوع عن كونه حسناً بحسب الشريعة . وهذا إنما يكون كذلك إذا كانت محرمة . انتهى .
تنبيه :
قال ابن كثير : دلت الآية على التسوية بين المسكر المتخذ من النخل والمتخذ من العنب كما هو مذهب الجمهور .
وفي " فتح البيان " قد حمل السكر جماعة من الحنفية على ما لا يسكر من الأنبذة وعلى ما ذهب ثلثاه بالطبخ حتى يشتد إلى حد السكر . كما في " الكشاف " .
قالوا : إنما يمتن الله على عباده بما أحله لا بما حرمه عليهم . وهذا مردود بالأحاديث الصحيحة المتواترة على فرض تأخره عن آية تحريم الخمر . انتهى .
وليس هذا موضع بسط ذلك . قال ابن كثير : وقد ناسب ذكر العقل ها هنا في قوله تعالى : { لِقَومٍ يَعقِلُونَ } فإنه أشرف ما في الإنسان . ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة ؛ صيانة لعقولها . انتهى .
ولما بيَّن تعالى أن إخراج الألبان من النعم ، وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب ، دلائل قاهرة وبينات باهرة ، على أن لهذا العالم إلهاً واحداً قادراً مختاراً حكماً ؛ أرشد إلى آيته الساطعة في النحل أيضاً بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ 68 - 69 ] .
{ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } المراد من الوحي : الإلهام والهداية إلى بنائها تلك البيوت العجيبة المسدسة ، من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض ، مما لا يمكن مثله للبشر إلا بأدوات وآلات . وقد أرشدها تعالى إلى بنائها بيوتاً تأوي إليها في ثلاثة أمكنة : الجبال . والشجر . وبيوت الناس ، حيث يعرشون ، أي : يبنون العروش ، جمع ( عرش ) وهو البيت الذي يستظل به كالعريش . وليس للنحل بيت في غير هذه الأمكنة : الجبال والشجر وبيوت الناس . وأكثر بيوتها ما كان في الجبال ، وهو المتقدم في الآية ، ثم في الشجر دون ذلك ، ثم في الثالث أقل .
فالنحل إذاً نوعان : جبلية تسكن في الجبال والفيافي لا يتعهدها أحد من الناس . وأهلية تأوي إلى البيوت وتتعهد في الخلايا . ومن بديع الإلهام فيها اتخاذها البيوت قبل المرعى . فهي تتخذها أولاً . فإذا استقر لها بيت خرجت منه ، فرعت ، وأكلت من الثمرات ، ثم أوت إلى بيوتها . وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله : { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ } أي : من كل ثمرة تشتهيها ، حلوها ومرها . فالعموم عرفي ، أو لفظ ( كُل ) للتكثير ، أو هو عام مخصوص بالعادة . ولو أبقي الأمر على ظاهره لجاز ؛ لأنه لا يلزم من الأمر بالأكل من جميع الثمرات الأكل منها ؛ لأن الأمر للتخلية والإباحة .
لطيفة :
إنما أوثر ( من ) في قوله تعالى : { مِنَ الجِبَالِ } الخ ، على ( في ) دلالة على معنى التبعيض . وأن لا تبنى بيوتها في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش ، ولا في كل مكان منها . نبه عليه الزمخشري .
قال الناصر : ويتزين هذا المعنى الذي نبه عليه في تبعيض ( من ) المتعلقة باتخاذ البيوت ، بإطلاق الأكل . كأنه تعالى وكلَ الأكل إلى شهوتها واختيارها ، فلم يحجر عليها فيه ، وإن حجر عليها في البيوت وأمرت باتخاذها في بعض المواضع دون بعض ؛ لأن مصلحة الآكل حاصلة على الإطلاق باستمرار مشتهاها منه . وأما البيوت فلا تحصل مصلحتها في كل موضع . ولهذا المعنى دخلت ( ثم ) لتفاوت الأمر بين الحجر عليها في اتخاذ البيوت ، والإطلاق لها في تناول الثمرات . كما تقول : راع الحلال فيما تأكله ، ثم كل أي : شيء شئت . فتوسط ( ثم ) لتفاوت الحجر والإطلاق . فسبحان اللطيف الخبير .
وقوله تعالى : { فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً } أي : الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل . فالسبل مجاز عن طرق العمل وأنواعها ، أو على حقيقتها . أي : إذا أكلت الثمار في المواضع النائية ، فاسلكي راجعة إلى بيوتك سبل ربك ، لا تتوعَّر عليك ولا تضلين فيها . و ( ذللاً ) جمع ذلول ، حال من ( السبل ) أي : مذللة ذللها الله لك وسهلها . فهي تسلك من هذا الجو العظيم ، والبراري الشاسعة والأودية والجبال الشاهقة . ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة . وقوله تعالى : { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ } استئناف ، عدل به عن خطاب النحل ؛ لبيان ما يظهر منها من عجيب صنعه تعالى ؛ تعديداً للنعم ، وتنبيهاً على العبر ، وإرشاداً إلى الآيات العظيمة من هذا الحيوان الضعيف . وسمي العسل شراباً ؛ لأنه يشرب مع الماء وغيره : { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } أي فمنه أبيض وأصفر وأحمر ؛ لاختلاف ما يؤكل من النَّور أو مزاجها : { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } لأنه من جملة الأشفية والأدوية في بعض الأمراض . وله دخل في أكثر ما به الشفاء والمعاجين ، وقلَّ معجون من المعاجين ، لم يذكر الأطباء فيه العسل . وقد قام الآن مقامه السكر ، لكثرته بالنسبة إليه . وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي استطلق بطنه فقال : < اسقه عسلاً > فذهب فسقاه عسلاً ، فقال : يا رسول الله ! سقيته عسلاً ما زاده إلا استطلاقاً . قال : < اذهب فاسقه عسلاً > فذهب فسقاه عسلاً ثم جاء فقال : يا رسول الله ! ما زاده إلا استطلاقاً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < صدق الله وكذب بطن أخيك ، اذهب فاسقه عسلاً . فذهب فسقاه عسلاً فبرأ > .
قال ابن كثير : قال بعض العلماء بالطب : كان هذا الرجل عنده فضلات . فلما سقاه عسلاً وسكر حارّ تحللت فأسرعت في الاندفاع ، فزاده إسهالاً ، فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره ، وهو مصلحة لأخيه ، ثم سقاه فازداد التحليل والدفع ، ثم سقاه فكذلك ، فلما اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن ، استمسك بطنه ، وصلح مزاجه واندفعت الأسقام والآلام ببركة إشارته صلى الله عليه وسلم . انتهى .
وفي " العناية " للشهاب هنا ، قصة عن طبقات الأطباء فيها تأييد لقصة الأعرابي فانظرها .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي : فيعتبرون ويستدلون على وحدانيته سبحانه ، وانفراده بألوهيته . وأنه هو الذي ألهم هذه الدواب الضعيفة فعلمت مساقط الأنداء ، من وراء البيداء ، فتقع على كل حرارة عبقة ، وزهرة أنقة ، ثم تصدر عنها بما تحفظه رضاباً ، وتلفظه شراباً .
قال الحجة الغزالي " في الإحياء " : انظر إلى النحل كيف أوحى الله إليها حتى اتخذت من الجبال بيوتاً . وكيف استخرج من لعابها الشمع والعسل . وجعل أحدهما ضياءً والآخر شفاءً . ثم لو تأملت عجائب أمرها في تناولها الأزهار والأنوار ، واحترازها من النجاسات والأقدار ، وطاعتها لواحد من جملتها وهو أكبرها شخصاً وهو أميرها ، ثم ما سخر الله لأميرها من العدل والإنصاف بينها ، حتى أنه ليقتل منها على باب المنفذ كل ما وقع منها على نجاسة ؛ لقضيت من ذلك العجب إن كنت بصيراً في نفسك ، وفارغاً من هم بطنك وفرجك ، وشهوات نفسك في معاداة أقرانك ، وموالاة إخوانك . ثم دع عنك جميع ذلك ، وانظر إلى بنيانها بيتاً من الشمع ، واختيارها من جميع الأشكال الشكل المسدس ، فلا تبني بيتها مستديراً ولا مربعاً ولا مخمساً ، بل مسدساً لخاصية في الشكل المسدس ، يقصر فهم المهندس عن درك ذلك . وهو أن أوسع الأشكال وأحواها المستدير وما يقرب منه . فإن المربع تخرج منه زوايا ضائعة . وشكل النحل مستدير مستطيل . فترك المربع حتى لا تبقى الزوايا فارغة . ثم لو بناها مستديرة لبقي خارج البيوت فرج ضائعة ، فإن الأشكال المستديرة إذا اجتمعت لم تجتمع متراصة ، ولا شكل في الأشكال ذوات الزوايا يقرب في الاحتواء من المستدير . ثم تتراص الجملة منه بحيث لا تبقى بعد اجتماعها فرجة إلا المسدس . وهذه خاصية هذا الشكل . فانظر كيف ألهم الله تعالى النحل ، على صغر جرمه ، ذلك ؛ لطفاً به وعناية بوجوده فيما هو محتاج إليه ؛ ليهنأ عيشه . فسبحانه ما أعظم شأنه وأوسع لطفه وامتنانه . وفي طبعه أنه يهرب بعضه من بعض ويقاتل بعضه بعضاً في الخلايا ويلسع من دنا من الخلية . وربما هلك الملسوع . وإذا أهلك شيء منها داخل الخلايا أخرجته الأحياء إلى خارج . وفي طبعه أيضاً النظافة . فلذلك يخرج رجيعه من الخلية ؛ لأنه منتن الريح . وهو يعلم زماني الربيع والخريف . والذي يعمله في الربيع أجود . والصغير أعمل من الكبير ، وهو يشرب من الماء ما كان صافياً عذباً ، يطلبه حيث كان . ولا يأكل من العسل إلا قدر شبعة . وإذا قلَّ العسل في الخلية ، قذفه بالماء ليكثر ، خوفاً على نفسه من نفاذه ؛ لأنه إذا نفد أفسد النحل بيوت الملوك وبيوت الذكور . وربما قتلت ما كان منها هناك .
قال حكيم من اليونان لتلامذته : كونوا كالنحل في الخلايا . قالوا : وكيف النحل في الخلايا ؟ قال : إنها لا تترك عندها بطالاً إلا نفته وأبعدته وأقصته عن الخلية ، لأنه يضيق المكان ، ويفني العسل ، ويعلم النشيط الكسل .
والنحل يسلخ جلده كالحيات . وتوافقه الأصوات اللذيذة المطربة ، ويضره السوس . ودواؤه أن يطرح له في كل خلية كف ملح . وأن يفتح في كل شهر مرة ، ويدخن بأخثاء البقر . وفي طبعه أنه متى طار من الخلية ، يرعى ثم يعود ، فتعود كل نحلة إلى مكانها لا تخطئه . كذا في " حياة الحيوان " .
وذكر الإمام الغزالي أيضاً في كتاب " الحكمة في خلق المخلوقات " : أن الله تعالى جعل للنحل رئيساً تتبعه وتهتدي به فيما تناله من أقواتها . فإن ظهر مع الرئيس الذي تتبعه رئيس آخر من جنسه ؛ قتل أحدهما الآخر ، وذلك لمصلحة ظاهرة ، وهو خوف الافتراق ؛ لأنهما إذا كانا أميرين ، وسلك كل واحد منهما فجَّاً ، افترق النحل خلفهما . ثم إنها أُلهمت أن ترعى رطوبات من على الأزهار . فيستحيل في أجوافها عسلاً . فعلم من هذا التسخير ما فيه من مصالح العباد ، من شراب فيه شفاء للناس ، كما أخبر سبحانه وتعالى . وفيه غذاء وملاذ للعباد . وفيه من أقوات فضلات عظيمة جعلت لمنافع بني آدم . فهي مثل ما يفضل من اللبن الذي خلق لمصالح أولاد البهائم وأقواتها . وما فضل من ذلك ففيه من البركة والكثرة ما ينتفع به الناس . ثم انظر ما تحمله النحل من الشمع في أرجلها ، لتوعي فيه العسل وتحفظه . فلا تكاد تجد وعاء أحفظ للعسل من الشمع في الأجناح . فانظر في هذه الذبابة ، هل في علمها وقدرتها جمع الشمع مع العسل ؟ أو عندها من المعرفة بحيث رتبت حفظ العسل مدة طويلة باستقراره في الشمع وصيانته في الجبال والشجر في المواضع التي تحفظه ولا يفسد فيها ! ثم انظر لخروجها نهاراً لرعيها ورجوعها عشية إلى أماكنها وقد حملت ما يقوم بقوتها ويفضل عنها ، ولها في ترتيب بيوتها من الحكمة في بنائها حافظ لما تلقيه من أجوافها من العسل ، ولها جهة أخرى تجعل فيها برازها مباعداً عن مواضع العسل . وفيها غير هذا مما انفرد الله بعلمه .
قال أبو السعود : ولما ذكر سبحانه من عجائب أحوال ما ذكر من الماء والنبات والأنعام والنحل ؛ أشار إلى بعض عجائب أحوال البشر من أول عمره إلى آخره وتطوراته فيما بين ذلك . وقد ضبطوا مراتب العمر في أربع : الأولى : سن النشوء والنماء . والثانية : سن الوقوف وهي سن الشباب . والثالثة : سن الانحطاط القليل وهي سن الكهولة . والرابعة : سن الانحطاط الكبير وهي سن الشيخوخة ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ * وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ } [ 70 - 71 ] .
{ وَاللّهُ خَلَقَكُمْ } أي : أنشأكم من العدم : { ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ } أي : أضعفه وأردئه وهو الهرم . وقوله تعالى : { لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً } اللام للصيرورة والعاقبة . أي : فيصيرُ ، إن كان عالماً جاهلاً ، فيريكم من قدرته أنه كما قدر على نقله من العلم إلى الجهل ، أنه قادر على إحيائه بعد إماتته .
قال في " العناية " : وكونه غير عالم بعد علمه ، كناية عن النسيان ؛ لأن الناسي يعلم الشيء ثم ينساه ، فلا يعلم بعد ما علم . أو العالم بمعنى الإدراك والتعقل ، والمعنى : لا يترقى في إدراك عقله وفهمه ؛ لأن الشاب في الترقي ، والشيخ في التوقف والنقصان .
وفي " الكشاف " : ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولية في النسيان . وأن يعلم شيئاً ثم يسرع في نسيانه ، فلا يعلمه إن سئل عنه . وقيل : لئلا يعقل بعد عقله الأول شيئاً . وقيل : لئلا يعلم زيادة علم على علمه الأول . و ( شيئاً ) منصوب على المصدرية أو المفعولية . وجوَّز فيه التنازع بين ( يعلم ) و ( علم ) وكون مفعول ( علم ) محذوفاً لقصد العموم . أي : لا يعلم شيئاً ما بعد علم أشياء كثيرة { إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ } أي : جعلكم متفاوتين فيه ، فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم ، وهم بشر مثلكم : { فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ } أي : في الرزق ، وهم الملاك : { بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } أي : بمعطيهم إياه : { فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ } أي : فيستووا مع عبيدهم في الرزق .
والآية مثلٌ ضرب للذين جعلوا له تعالى شركاء . أي : أنتم لا تسوون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم ، ولا تجعلونهم فيه شركاء ، ولا ترضون ذلك لأنفسكم . فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي شركاء في الإلهية والتعظيم ؟ كما قال في الأخرى : { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } [ الروم : 28 ] .
{ أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ } أي : فيشركون معه غيره وهو المنعم عليهم . أو حيث أنكروا أمثال هذه الحجج البالغة بعد ما أنعم بها عليهم ؟ ! فإنه لا نعمة على العالم أجل من إقامة الحجج وإيضاح السبل بإرسال الرسل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ * وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ * فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ 72 - 74 ] .
{ وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ } أي : في جنسكم وشكلكم إناثاً أزواجاً لتأنسوا بها وتحصل المودة والألفة والرحمة : { وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً } أي : بنات وأولاد أولاد : { وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ } وهو منفعة الأصنام وشفاعتها : { وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ } أي : في إضافة نعمه إلى الأصنام ، أو في تحريم ما أحل لهم .
{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً } أي : من مطر أو نبات و ( شيئاً ) نصب على المفعولية من ( رزق ) إن كان مصدراً ، وإن جعل اسماً للمرزوق فـ ( شيئاً ) بدل منه بمعنى قليلاً . و ( من السماوات ) متعلق بـ ( يملك ) على كون الرزق مصدراً . أو هو صفة لـ ( زرقاً ) : { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } أي : أن يتملكوه . أو لا استطاعة لهم أصلاً . أو الضمير للمشركين . أي : ولا يستطيعون مع أنهم أحياء متصرفون فكيف بالجماد ؟ ! .
{ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ } أي : فلا تجعلوا له أنداداً وأمثالاً . والضرب للمثل فيه معنى الجعل . والأمثال جمع ( مثل ) بكسر فسكون على هذا ، وقيل : جمع ( مَثَل ) بفتحتين ، والآية استعارة تمثيلية للإشراك به . حيث جعل المشرك به الذي يشبهه بخلقه ، بمنزلة ضارب المثل . فإن المشبه المخذول يشبه صفة بصفة ، وذاتاً بذات . كما أن ضارب المثل كذلك . فكأنه قيل : ولا تشركوا . وعدل عنه لما ذكر ؛ دلالة على التعميم في النهي عن التشبيه وصفاً وذاتاً . وفي لفظة ( الأمثال ) لمن لا مثال له ، نعيٌ عظيم على سوء فعلهم . كذا في " شرح الكشاف " .
{ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } أي : يعلم قبح ما تشركون وأنتم لا تعلمونه . ولو علمتموه لما جرأتم عليه ، فهو تعليل للنهي . أو يعلم كنه الأشياء وأنتم لا تعلمونه ، فدعوا رأيكم وقياسكم دون نصه . ولما نهاهم عن ضرب المثل الفعلي وهو الإشراك ؛ عقبه بالكشف لذي البصيرة ، عن حالهم في تلك الغفلة ، وحال من تابعهم ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ 75 ] .
{ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } يعني أن مثل هؤلاء في إشراكهم ، مثلُ من سوى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف ، وبين حر مالك يتصرف في ماله كيف يشاء ، ولا مساواة بينهما ، مع أنهما سيان في البشرية والمخلوقية لله سبحانه وتعالى . فما الظن برب العالمين حيث يشركون به أعجز المخلوقات ؟ ! وإيثار قوله : { وَمَن رَّزَقْنَاهُ } الخ على ( مالكاً ) للتنبيه على أن ما بيده ، هو من فضل الله ورزقه ، وعلى تذكيره الإنفاق منه في السر والجهر ، ليكون عاملاً بأمر الله فيه .
وقوله تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } أي : على ما هدى أولياءه . وأنعم عليهم من التوحيد . أو الحمد كله له لا يستحقه شيء من الأصنام . أو الحمد لله على قوة هذه الحجة وظهور المحبة وأكثرهم لا يعلمونها ، مع أنها في غاية ظهورها ونهاية وضوحها .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ 76 ] .
{ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً } أي : مثلاً آخر يدل على ما دل عليه المثل السابق على وجه أوضح : { رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ } أي : أخرس : { لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ } أي : مما يقدر عليه المنطيق المفصح عما في نفسه : { وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ } أي : ثقيل على من يلي أمره ، لعدم اهتمامه بإقامة مصالح نفسه : { أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ } أي : حيث يرسله في أمر لا يأت بنجحه وكفاية مهمه : { هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } أي : ومن هو بليغ منطيق ذو كفاية ورشد لينفع الناس ، بحثهم على العدل الشامل لجميع الفضائل .
{ وَهُوَ } أي : في نفسه مع ما ذكر من نفعه العام : { عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي : على سيرة صالحة ودين قويم ، لا يتوجه إلى مطلب إلا ويبلغه بأقرب سعي وأسهله .
قال الأزهري : ضرب تعالى مثلاً للصنم الذي عبدوه وهو لا يقدر على شيء ، فهو كلٌّ على مولاه ؛ لأنه يحمله إذا ظعن فيحوله من مكان إلى مكان . فقال الله تعالى : هل يستوي هذا الصنم الكل ، ومن يأمر بالعدل ؟ استفهام معناه التوبيخ ، كأنه قال : لا تسووا بين الصنم وبين الخالق جل جلاله . انتهى .
وإليه أشار الزمخشري بقوله : وهذا مثل ضربه الله لنفسه ، ولما يفيض على عباده ويشملهم مع آثار رحمته وألطافه ونعمه الدينية والدنيوية . وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع . انتهى .
وناقش الرازي في حمله على الصنم بأن الوصف بالرجل وبالبكم وبالكل وبالتوجه في جهات المنافع ، يمنع من حملها على الوثن . وكذا الوصف في الثاني بأنه على صراط مستقيم ، يمنع من حمله على الله تعالى . انتهى .
وقد يقال في جوابه : بأن الأوصاف الأول ، وإن كانت ظاهرة في الإنسان ( والأصل في الإطلاق ما يتبادر وهو الحقيقة ) إلا أن المقام صرفها إلى الوثن ؛ لأن الآيات في بيان حقارة ما يعبد من دونه تعالى ، وكونه لا يصلح للألوهية بوجه ما ؛ لما فيه من صفات النقص . وأما الوصف في قوله : { عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } فكقوله تعالى : { إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ هود : 56 ] ، فصح الحمل .
ثم رأيت للإمام ابن القيم في " أعلام الموقعين " ما يؤيد ما اعتمدناه حيث قال في بحث أمثال القرآن ، في هذين المثلين ما صورته :
فالمثل الأول : يعني قوله تعالى : { ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً } الآية ، ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان . فالله سبحانه هو المالك لكل شيء . ينفق كيف يشاء على عبيده سراً وجهراً وليلاً ونهاراً . يمينه ملأى لا يغيضها نفقة ، سحَّاء الليل والنهار . والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء ، فكيف يجعلونها شركاء إلي ويعبدونها من دوني ، مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين ؟ هذا قول مجاهد وغيره .
وقال ابن عباس : هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ، ومثل المؤمن في الخير الذي عنده ثم رزقه منه [ رزقاً ] حسناً ، فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سراً وجهراً . والكافر بمنزلة عبد مملوك عاجز لا يقدر على شيء ؛ لأنه لا خير عنده . فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء ؟ والقول الأول أشبه بالمراد ، فإنه أظهر في بطلان الشرك ، وأوضح عند المخاطب ، وأعظم في إقامة الحجة ، وأقرب نسباً بقوله : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 73 - 74 ] ، ثم قال : { ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } ومن لوازم هذا المثل وأحكامه أن يكون المؤمن الموحد ممن رزقه منه رزقاً حسناً . والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء . فهذا مما ينبه عليه المثل وأرشد إليه . فذكره ابن عباس منبهاً على إرادته ، لا أن الآية اختصت به . فتأمله فإنك تجده كثيراً في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرآن . فيظن الظان أن ذلك هو معنى الآية التي لا معنى لها غيره ، فيحكيه قوله .
وأما المثل الثاني ، فهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لنفسه ولما يعبدون من دونه أيضاً . فالصنم الذي يعبد من دونه بمنزلة رجل أبكم لا يعقل ولا ينطق . بل وهو أبكم القلب واللسان ، قد عدم النطق القلبي واللساني ، مع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء البتة . وعلى هذا فأينما أرسلته لا يأتيك بخير ، ولا يقضي لك حاجة . والله سبحانه حيّ قادر متكلم يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم . وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد . فإن أمره بالعدل ، وهو الحق يتضمن أنه سبحانه عالم به معلم له ، راض به آمر لعباده به ، محب لأهله لا يأمر بسواه ، بل تنزه عن ضده الذي هو الجور والظلم والسفه والباطل . بل أمره وشرعه عدل كله . وأهل العدل هم أولياءه وأحباؤه . وهم المجاورون له عند يمينه ، على منابر من نور . وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني والأمر القدري الكوني . وكلاهما عدل لا جور فيه بوجه . كما في الحديث الصحيح : < اللهم إني عبدك ، ابن عبدك ، ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض فِيَّ حكمك ، عدل فِيَّ قضاؤك > . فقضاؤه هو أمره الكوني : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] فلا يأمر إلا بحق وعدل . وقضاؤه وقدره القائم به حق وعدل . وإن كان في المقضي المقدر ما هو جور وظلم ، فالقضاء غير المقضي ، والقدر غير المقدر . ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم ، وهذا نظير قوله رسوله شعيب [ كذا في المطبوع ، و هذا القول لهود لا لشعيب ] : { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ هود : 56 ] ، وقوله : { مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } نظير قوله ( ناصيتي بيدك ) وقوله : { إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } نظير قوله ( عدل فِيَّ قضاؤك ) فالأول ملكه ، والثاني حمده . وهو سبحانه له الملك وله الحمد . وكونه سبحانه على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق ، ولا يأمر إلا بالعدل ، ولا يفعل إلا ما هو مصلحة ورحمة وحكمة وعدل . فهو على الحق في أقواله وأفعاله . فلا يقضي على العبد بما يكون ظالماً به ولا يؤخذ بغير ذنبه . ولا ينقصه من حسناته شيئاً . ولا يحمل عليه من سيئات غيره التي لم يعملها ، ولم يتسبب إليها شيئاً . ولا يؤاخذ أحداً بذنب غيره ، ولا يفعل قط ما لا يحمد عليه ويثنى به عليه ويكون له فيه العواقب الحميدة والغايات المطلوبة . فإن كونه على صراط مستقيم يأبى ذلك كله .
قال محمد بن جرير الطبري : وقوله : { إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } يقول : إن ربي على طريق الحق يجازي المحسن من خلقه بإحسانه والمسيء بإساءته ، لا يظلم أحداً منهم ولا يقبل منهم إلا الإسلام له والإيمان به .
ثم حكي عن مجاهد من طريق شِبْل بن أبي نَجِيْح عنه : { إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } قال : الحق . وكذلك رواه ابن جريج عنه .
وقالت فرقة : هي مثل قوله : { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } [ الفجر : 14 ] ، وهذا اختلاف عبارة . فإن كونه بالمرصاد هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته .
وقالت فرقة : في الكلام حذف تقديره : إن ربي يحثكم على صراط مستقيم ويحضكم عليه . وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية التي أريد بها . فليس كما زعموا ولا دليل على هذا المقدر . وقد فرَّق سبحانه بين كونه آمراً بالعدل وبين كونه على صراط مستقيم . وإن أرادوا أن حثه على الصراط المستقيم من جملة كونه على صراط مستقيم ، فقد أصابوا .
وقالت فرقة أخرى : معنى كونه على صراط مستقيم : أن مَرَدَّ العباد والأمور كلها إلى الله لا يفوته شيء منها . وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية فليس كذلك . وإن أرادوا أن هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم ومن مقتضاه وموجبه ، فهو حق .
وقالت فرقة أخرى : معناه كل شيء تحت قدرته وقهره في ملكه وقبضته ، وهذا وإن كان حقاً فليس هو معنى الآية . وقد فرَّق شعيب [ الصواب : هود ] بين قوله : { مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } [ هود : 56 ] ، وبين قوله : { إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ هود : 56 ] . فهما معنيان مستقلان .
فالقول قول مجاهد . وهو قول أئمة التفسير . ولا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه .
وقال جرير يمدح عُمَر بن عبد العزيز :
~أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم
وقد قال تعالى : { مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ الأنعام : 39 ] . وإذا كان سبحانه هو الذي جعل رسله وأتباعهم على الصراط المستقيم في أقوالهم وأفعالهم فهو سبحانه أحق بأن يكون على صراط مستقيم في قوله وفعله . وإن كان صراط الرسل وأتباعهم هو موافقة أمره ، فصراطه الذي هو سبحانه عليه ، هو ما يقتضيه حمده وكماله ومجده من قوله الحق وفعله ، وبالله التوفيق .
وفي الآية قول ثان مثل الآية الأولى سواء : إنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر . وقد تقدم ما في هذا القول ، وبالله التوفيق . انتهى بحروفه . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 77 ] .
{ وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
الآية إما جواب لاستعجالهم ما يوعدون ، أو لاستبطائهم الساعة ، أو لبيان كماله في العلم والقدرة ؛ تعريضاً بأن معبوداتهم عريّة منهما . فأشار إلى الأول بقوله : { وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : يختص به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفي عليهم علمه ، أو غيبهما : هو يوم القيامة ، فإن علمه غائب عن أهلهما ، لم يطلع عليه أحد منهم ، وأشار إلى الثاني بقوله : { وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } و ( الساعة ) : الوقت الذي تقوم فيه القيامة . و ( اللمح ) : النظر بسرعة . أي : كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها ( أو هو أقرب ) من ذلك ، أي : أسرع زماناً ، بأن يقع في بعض زمانه . وفيه من كمال تقرير قدرته تعالى ما لا يخفى . وقوله : { إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تعليل له ، إشارة إلى أن مقدوراته تعالى لا تتناهى ، وأن ما يذكر بعض منها . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ 78 - 79 ] .
{ وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً } عطف على قوله تعالى : { وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } منتظم معه في سلك أدلة التوحيد من قوله تعالى : { وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاءً } وقوله تعالى : { وَاللّهُ خَلَقَكُمْ } وقوله تعالى : : { وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } أفاده أبو السعود . و ( شيئاً ) منصوب على المصدرية أو مفعول ( تعلمون ) والنفي منصب عليه . أي : لا تعلمون شيئاً أصلاً من حق المنعم وغيره .
{ وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ } أي : فتدركون به الأصوات : { وَالأَبْصَارَ } فتحسون المرئيات : { وَالأَفْئِدَةَ } أي : العقول : { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : لتصرفوها فيما خلقت له من التوحيد والاعتبار بها ، والمشي على السنن الكونية . ثم نبه تعالى على آيته في خلقه الطير بقوله :
{ أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ } أي : مذللات : { فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ } أي : ما يمسكهن في الجو من غير تعلق بمادة ولا اعتماد على جسم ثقيل إلا هو سبحانه : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } قال الحجة الغزالي في " الحكمة في خلق المخلوقات " ، في حكمة الطير ، في هذه الآية ، ما مثاله :
اعلم رحمك الله أن الله تعالى خلق الطير وأحكمه حكمة تقتضي الخفة للطيران . ولم يخلق فيه ما يثقله . وخلق فيه ما يحتاج إليه وما فيه قوامه وصرف غذائه ، فقسم لكل عضو منه ما يناسبه . فإن كان رخواً أو يابساً أو بين ذلك ، انصرف إلى كل عضو من غذائه ما هو لائق به . فخلق للطير الرجلين دون اليدين لضرورة مشيه وتنقله ، وإعانة له في ارتفاعه عن الأرض وقت طيرانه ، واسعة الأسفل ليثبت في موطن على الأرض وهي خف فيه . أو بعض أصابع مخلوقة من جلد رقيق صلب من نسبة جلد ساقيه . وجعل جلد ساقيه غليظاً متقناً جداً ليستغني به عن الريش في الحر والبرد . وكان من الحكمة ، خلقه على هذه الصفة ؛ لأنه في رعيه وطلب قوته لا يستغني عن مواضع فيها الطين والماء . فلو كسيت ساقاه بريش لتضرر ببلله وتلويثه . فأغناه سبحانه عن الريش في موضع لا يليق به حتى يكون مخلصاً للطيران . وما خلق من الطير ذا أرجل طوال جعلت رقبته طويلة لينال غذاءه من غير حرج بها . إذ لو طالت رجله وقصر عنقه لم يمكنه الرعي في البراري ولا في البحائر حتى ينكبّ على صدره . وكثيراً ما يعان بطول المنقار أيضاً مع طول العنق ؛ ليزداد مطلبه عليه سهولة . ولو طال عنقه وقصرت رجلاه أثقله عنقه واختل رعيه . وخلق صدره ودائره ملفوفاً على عظم كهيئة نصف دائرة ، حتى يخرق في الهواء بغير كلفة ، وكذلك رؤوس أجنحته مدورة إعانة له على الطيران . وجعل لكل جنس من الطير منقاراً يناسب رعيه ويصلح لما يغتذي به من تقطيع ولقط وحفر وغير ذلك . فمنه مخلب لتقطيع خص به الكواسر وما قوته اللحم . ومنه عريض مشرشر جوانبه تنطبق على ما يلتقطه انطباقاً محكماً . ومنه معتدل اللقط وأكل الخضر . ومنه طويل المنقار جعله صلباً شديداً شبه العظم وفيه ليونة ، وما هي في العظم ؛ لكثرة الحاجة إلى استعماله . وهو مقام الأسنان في غير الطير من الحيوان . وقوى سبحانه أصل الريش وجعله قصباً منسوباً فيما يناسبه من الجلد الصلب في الأجنحة ولأجل كثرة الطيران ، ولأن حركة الطيران قوية فهو محتاج إلى الإتقان لأجل الريش . وجعل ريشه وقاية مما يضره من حر أو برد . ومعونة متخللة الهواء للطيران . وخص الأجنحة بأقوى الريش وأثبته وأتقنه ؛ لكثرة دعاء الحاجة إليه . وجعل في سائر بدنه ريشاً غيره كسوة ووقاية وجمالاً له . وجعل في ريشه من الحكمة ، أن البلل لا يفسده والأدران لا توسخه . فإن أصابه ماء كان أيسر انتفاض يطرد عنه بلله ، فيعود إلى خفته . وجعل له منفذاً واحداً للولادة وخروج فضلاته لأجل خفته . وخلق ريش ذنبه معونة له على استقامته في طيرانه ، فلولاه لما مالت به الأجنحة في حال الطيران يميناً وشمالاً ، فكان له بمنزل رجل السفينة الذي يعدل بها سيرها . وخلق في طباعه الحذر وقاية لسلامته . ولما كان طعامه يبتلعه بلعاً بل مضغ ، جعل لبعضه منقاراً صلباً يقطع به اللحم ويقوم له مقام ما يقطع بالمدية . وصار يزدرد ما يأكله صحيحاً . وأعين بفضل حرارة في جوفه تطحن الطعام طحناً يستغني به عن المضغ وثقل الأسنان . واعتبر ذلك بحب العنب وغيره . فإنه يخرج من بطون الحيوان صحيحاً ، وينسحق في أجواف الطير . ثم إنه خلقه يبيض ولا يلد ، لئلا يثقل عن الطيران . فإنه لو خلقت فراخه في جوفه حتى يكمل خلقها لثقل بها وتعوق عن النهوض للطيران . أفلا ترى كيف دبر كل شيء من خلقه بما يليق به من الحكمة ؟ ! انتهى ملخصاً .
ثم بيَّن تعالى نعمته على البشر ليستدل به على وحدانيته ، بقوله ، عطفاً على ما مرَّ :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ } [ 80 ] .
{ وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً } أي : موضعاً تسكنون فيه وتأوون إليه لما لا يحصى من وجوه منافعكم : { وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً } أي : بيوتاً أخرى وهي الخيام والفساطيط والقباب المتخذة من الجلود نفسها ، أو من الوبر والصوف والشعر أيضاً . فإنها من حيث كونها نابتة على جلودها يصدق عليها أنها من جلودها أو الجلود مجاز عن المجموع : { تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ } أي : تجدونها خفيفة المحمل وقت ترحالكم ووقت نزولكم في مراحلكم . لا يثقل عليكم ضربها . أو هي خفيفة عليكم في أوقات السفر والحضر جميعاً . قيل : والأول أولى ؛ لأن ظهور المنة في خفتها إنما يتحقق في حال السفر . وأما المستوطن فغير مثقل : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا } أي : وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبار الإبل وأشعار المعز : { أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ } الأثاث ما يتخذ للاستعمال بلبس أو فرش . والمتاع ما يتخذه للتجارة . وقيل هما بمعنى . ومعنى ( إلى حين ) أي : إلى أن تقضوا منه أوطاركم . أو إلى أن يبلى ويفنى . أو إلى أن تموتوا .
تنبيه :
استدل بالآية على طهارة جلود المأكولات وأصوافها وأوبارها وأشعارها ، إذا خرجت في الحياة أو بعد التذكية . واستدل بعموم الآية من أباحها مطلقاً ولو من غير مذكاة . كذا في " الإكليل " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } [ 81 ] .
{ وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ } أي : من الشجر والجبال والأبنية وغيرها : { ظِلاَلاً } أي : أفياء تستظلون بها من حر الشمس : { وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً } أي : بيوتاً ومعاقل وحصوناً تستترون بها : { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } جمع سربال ، وهو كل ما يلبس من القطن والصوف ونحوها . وإنما خص الحر ؛ اكتفاء بذكر أحد الضدين عن ذكر الآخر . أو لأن الوقاية من الحر أهم عند العرب ؛ لشدته بأكثر بلادهم وخصوصاً قُطَّان الحجاز وهم الأصل في هذا الخطاب . قيل : يبعده ذكر وقاية البرد سابقاً في قوله : { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } [ النحل : 5 ] وهو وجه الاقتصار على الحرّ هنا ، لتقدم ذكر خلافه : { وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } كالدروع من الحديد والزرد ونحوها ، التي يتقى بها سلاح العدو في الحرب : { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } أي : إرادة أن تنظروا فيما أسبغ عليكم من النعم الظاهرة والباطنة والأنفسية والآفاقية ، فتسلموا وجوهكم إليه تعالى ، وتؤمنوا به وحده .
قال أبو السعود : وإفراد النعمة ، إما لأن المراد بها المصدر ، أو لإظهار أن ذلك بالنسبة إلى جانب الكبرياء شيء قليل . وقرئ ( تسلمون ) بفتح اللام أي : من العذاب أو الجراح .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ * يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ * وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } [ 82 - 84 ] .
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي : بعد هذا البيان وهذا الامتنان : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } .
{ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ } أي : التي عددت ، وأنها بخلقه : { ثُمَّ يُنكِرُونَهَا } أي : بعبادتهم غير المنعم بها ، وقولهم : هي من الله ، ولكنها بشفاعة آلهتنا : { وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ } .
ثم أخبر تعالى عن شأنهم في معادهم بقوله :
{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً } وهو نبيها يشهد عليها بما أجابته من إيمان وكفر فيما بلغها : { ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : في الاعتذار ؛ لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه ، كقوله : { هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 35 - 36 ] ، { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } أي : لا يطلب منهم العتبى . أي : إزالة عتب ربهم وغضبه . ( والعتبى ) بالضم : الرضا وهو الرجوع عن الإساءة إلى ما يرضي العاتب . يقال : استعتبه : أعطاه العتبى بالرجوع إلى مسرته . والعتب : لومك الرجل على إساءة كانت له إليك ، والمرء إنما يطلب العتاب من خصمه ؛ ليزيل ما في نفسه عليه من الموجدة والغضب ويرجع إلى الرضا عنه ، فإذا لم يطلب العتاب منه ، دل ذلك على أنه ثابت على غضبه عليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ } [ 85 - 86 ] .
{ وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } أي : يؤخرون .
{ وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ } يعني أوثانهم التي عبدوها : { قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ } أي : أرباباً أو نعبدها : { فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ } أي : أجابوهم بالتكذيب في تسميتهم شركاء وآلهة ؛ تنزيهاً لله عن الشرك . أو بالتكذيب في دعواهم أنهم حملوهم على عبادتهم .
قال أبو مسلم الأصفهاني : مقصود المشركين إحالة هذا الذنب على هذه الأصنام . وظنوا أن ذلك ينجيهم من عذاب الله تعالى أو ينقص من عذابهم . فعند هذا تكذبهم بتلك الأصنام . وهذه الآية كقوله تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 5 - 6 ] ، وقال تعالى : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 81 - 82 ] . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [ 87 ] .
{ وَأَلْقَوْاْ } أي : وألقى الذين ظلموا : { إِلَى اللّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ } أي : الاستسلام لحكمه بعد إبائهم في الدنيا : { وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } .
أي من أن لله شركاء ، وأنهم يشفعون لهم عند الله تعالى . فإن قيل : قد جاء إنكارهم كقوله تعالى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } [ المجادلة : 18 ] والجواب ( كما قال القاشاني ) : إن ذلك بحسب المواقف . فالإنكار في الموقف الأول وقت قوة هيئات الرذائل وشدة شكيمة النفس في الشيطنة وغاية البعد عن النور الإلهي ، للاحتجاب بالحجب الغليظة والغواشي المظلمة حتى لا يعلم أنه كان يراه ويطلع عليه . ونهاية تكدر نور الفطرة حتى يمكنه إظهار خلاف مقتضاه ، والاستسلام في الموقف الثاني بعد مرور أحقاب كثيرة من ساعات اليوم ، الذي كان مقداره خمسين ألف سنة ، حين زالت الهيئات ورقت ، وضعفت شراشر النفس في رذائلها ، وقرب من عالم النور ، لرقة الحجب ولمعان نور فطرته الأولى ، فيعترف وينقاد . هذا إذا كان الاستسلام والإنكار لنفوس بعينها . وقد يكون الاستسلام للبعض الذين لم ترسخ هيئات رذائلهم ولم تغلظ حجبهم ولم ينطفئ نور استعدادهم . والإنكار لمن رسخت فيه الهيئات وقويت وغلبت عليه الشيطنة واستقرت ، وكثف الحجاب وبطل الاستعداد ، والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ * وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [ 88 - 89 ] .
{ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } أي : يضاعف لهم العذاب كما ضاعفوا كفرهم بصدهم غيرهم عن الإيمان ، كقوله تعالى : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْه } [ الأنعام : 26 ] . وفي الآية دليل على تفاوت الكفار في عذابهم ، كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم . كما قال تعالى : { لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 38 ] .
{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ } وهو نبيهم : { وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ } أي : اذكر ذلك اليوم ، وما منحك الله فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع . وما يلحق الكافرين فيه من تمني كونهم تراباً ، لهول المطلع .
وقد ذكر ذلك في آية النساء في قوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً } [ النساء : 41 - 42 ] . وقوله تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } مستأنف ، أو حال بتقدير ( قد ) . [ في المطبوع وقع خطأ في الآية ]
قال الرازي : وجه تعلق هذا الكلام بما قبله ، أنه تعالى لما قال : { وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ } بيَّن أنه أزاح علتهم فيما كلفوا . فلا حجة لهم ولا معذرة .
وقال ابن كثير في وجه ذلك : إن المراد ، والله أعلم ، إن الذي فرض عليك تبليغ الكتاب الذي أنزله عليك ، سائلك عن ذلك يوم القيامة : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } [ الأعراف : 6 ] ، { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعَمَلُونَ } [ الحجر : 92 - 93 ] ، { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } [ المائدة : 109 ] . وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } [ القصص : 85 ] . أي : إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إليه ومعيدك يوم القيامة وسائلك عن أداء ما فرض عليك . هذا أحد الأقوال ، وهو متجه حسن . انتهى .
و ( التبيان ) من المصادر التي بنيت على هذه الصيغة ؛ لتكثير الفعل والمبالغة فيه . أي : تبييناً لكل علم نافع من خبر ما سبق وعلم ما سيأتي وكل حلال وحرام ، وما الناس محتاجون إليه في أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم : { وَهُدىً } أي : هداية لمن استسلم وانقاد لسلامة فطرته إلى كماله : { وَرَحْمَةً } أي : له بتبليغه إلى ذلك الكمال بالتربية والإمداد ، ونجاته من العذاب ، وبشارة له بالسعادة الأبدية . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ 90 ] .
{ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ } أي : فيما نزله تبياناً لكل شيء : { بِالْعَدْلِ } وهو القسط والتسوية في الحقوق فيما بينكم . وترك الظلم وإيصال كل ذي حق حقه : { وَالْإِحْسَانِ } أي : التفضيل بأن يقابل الخير بأكثر منه ، والشر بأن يعفو عنه : { وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى } أي : إعطاء القرابة ما يحتاجون إليه : { وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ } أي : عما فحش من الذنوب وأفرط قبحها ، كالزنى : { وَالْمُنكَرِ } أي : كل ما أنكره الشرع : { وَالْبَغْيِ } أي : العدوان على الناس : { يَعِظُكُمْ } أي : بما يأمركم وينهاكم : { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي : تتعظون بمواعظ الله ، فتعملون بما فيه رضا الله تعالى .
وروى ابن جرير عن ابن مسعود : إن أجمع آية في القرآن ، لخير وشر ، هذه الآية . وروى الإمام أحمد : أن عثمان بن مظعون مرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس بفناء بيته . فكشر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال له : < ألا تجلس ؟ > فقال : بلى . فجلس . ثم أوحي إليه هذه الآية فقرأها عليه . قال عثمان : فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمداً صلى الله عليه وسلم .
ولما تليت الآية على أكثم بن صيفي قال لقومه : إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها . فكونوا في هذا الأمر رؤساء ولا تكونوا فيه أذناباً . وعن عِكْرِمَة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الوليد بن المغيرة هذه الآية فقال له : يا ابن أخي ! أعد عليَّ ، فأعادها . فقال له الوليد : والله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وما هو بقول البشر .
وقد نقل أن بني أمية كانوا يسبون علياً ، كرم الله وجهه ، في خطبهم . فلما آلت الخلافة إلى عُمَر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، أسقط ذلك منها ، وأقام هذه الآية مقامه . وهو من أعظم مآثره .
قال الناصر : ولعل المعوض بهذه الآية عن تلك الهنات ، لاحظ التطبيق بين ذكر النهي عن البغي فيها ، وبين الحديث الوارد في أن المناصب لعليّ باغ . حيث يقول صلى الله عليه وسلم لعمار ( وكان من حزب علي ) : < تقتلك الفئة الباغية > . فقتل مع علي يوم صفين . انتهى .
ولما فيها أيضاً من العدل والإحسان إلى ذوي القربى ، وكونها أجمع آية ؛ لاندراج ما ذكر فيها . والله أعلم .
ثم بيَّن تعالى أمره بالوفاء بالعهد والميثاق ، والمحافظة على الأيمان المؤكدة بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } [ 91 ] .
{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } .
روى ابن جرير عن بريدة قال : نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم . كان من أسلم بايع النبي على الإسلام ، فأمروا بالوفاء بهذه البيعة وأن لا ينقصوها بعد توكيدها بالأيمان . أي : لا يحملنكم قلة المؤمنين وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام . وظاهر أن العهد يتناول كل أمر يجب الوفاء بمقتضاه ، مما يلتزمه المرء باختياره ، كالمبايعة على الإسلام ، وعهد الجهاد ، وما التزمه من نذر وما أكده بحلف . وعلى هذا ، فتخصيص اليمين بالذكر ؛ للتنبيه على أنه أولى أنواع العهد بوجوب الرعاية . و ( التوكيد والتأكيد ) ، لغتان فصيحتان . والأصل الواو ، والهمزة بدل منها . والواو في قوله : { وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } للحال من فاعل : { تَنقُضُواْ } أو من فاعل المصدر وإن كان محذوفاً . ومعنى : { كَفِيلاً } شهيداً رقيباً . و ( الجعل ) مجاز ، فإن من حلف به تعالى وهو مطلع عليه فكأنه جعله شاهداً . قال الشهاب : ولو أبقى ( الكفيل ) على ظاهره ، وجعل تمثيلاً لعدم تخلصهم من عقوبته ، وأنه يسلمهم لها كما يسلم الكفيل من كفله ، كما يقال : ( من ظلم فقد أقام كفيلاً بظلمه ) تنبيهاً على أنه لا يمكنه التخلص من العقوبة كما ذكره الراغب ؛ لكان معنى بليغاً جداً . وقوله تعالى : { إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } كالتفسير لما قبله . وفيه ترغيب وترهيب .
تنبيه :
في الآية الحث على البر في الأيمان . وجلي أنها فيما فيه طاعة وبر وتقوى . وأما فيما عدا ذلك فالخير في نقضها . وقد دل عليه ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال : < إني ، والله ، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها ، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها > . وفي رواية : < وكفَّرت عن يميني > . فالحديث في معنى ، والآية في معنى آخر . فلا تعارض ، كما وهم . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [ 92 ] .
{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً } تأكيد لوجوب الوفاء وتحريم النقص . أي : لا تكونوا في نقص الأيمان كالمرأة التي أنحت على غزلها ، بعد أن أحكمته وأبرمته ، فجعلته أنكاثاً ، أي : أنقاضاً ، جنوناً منها وحمقاً .
ففي التمثيل إشارة إلى أن ناقض يمينه خارج من الرجال الكمَّل ، داخل في زمرة النساء . بل في أدناهن ، وهي الخرقاء .
وقوله تعالى : { تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ } حال من الضمير في : { وَلاَ تَكُونُوا } أي : لا تكونوا مشابهين لامرأة هذا شأنها ، حال كونكم متخذين أيمانكم مفسدة بينكم : { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } أي : سبب أن تكون جماعة ، كقريش ، هي أزيد عدداً وأوفر مالاً من جماعة كالمؤمنين : { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ } أي : يعاملكم معاملة من يختبركم بكونهم أربى ؛ لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقوتهم ، وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم ؟ : { وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } أي : فيتميز المحق من المبطل ، بما يظهر من درجات الثواب والعقاب . وهو إنذار وتحذير من مخالفة ملة الإسلام .
تنيبه :
قال أبو علي الزجاجي ، من أئمة الشافعية : في هذه الآية أصل لما يقوله أصحابنا ، من إبطال الدور ؛ لأن الله تعالى ذم من أعاد على الشيء بالإفساد بعد إحكامه . نقله في " الإكليل " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ 93 ] .
{ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي : حنيفة مسلمة : { وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : في الدنيا ، سؤال تبكيت ومجازاة ، لا استفسار وتفهم . وهو المنفي في غير هذه الآية . أو في موقف دون موقف كما مر .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ 94 ] .
{ وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ } تصريح بالنهي عنه ، بعد أن نهى عنه ضمناً ، لأخذه فيا تقدم قيداً للمنهي عنه ، تأكيداً عليهم ومبالغة في قبح المنهي : { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } أي : فتزل أقدامكم عن محجة الحق ، بعد رسوخها فيه : { وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ } أي : ما يسوءكم في الدنيا : { بِمَا صَدَدتُّمْ } أي : بصدودكم عن الوفاء ، أو بصدكم غيركم : { عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي : في الآخرة .
لطيفة :
تنكير ( قدم ) للإيذان بأن زلل قدم واحدة عظيم ، فكيف بأقدام كثيرة ؟ وأشار في " البحر " إلى نكتة أخرى : قال : الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع فيؤتى بما هو له مجموعاً . وتارة يلاحظ فيه كل فرد فرد فيفرد ماله كقوله : { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً } [ يوسف : 31 ] ، أي : لكل واحدة منهن متكئاً . ولما كان المعنى : لا يفعل هذا كل واحد منكم ؛ أفرد : { قَدَمٌ } مراعاة لهذا المعنى . ثم قال : { وَتَذُوقُوا } مراعاة للفظ الجمع .
قال الشهاب : هذا توجيه للإفراد من جهة العربية ، فلا ينافي النكتة الأولى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِندَ اللّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ 95 ] .
{ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً } أي : لا تستبدلوا بعهد الله وبيعة رسوله عرضاً من الدنيا يسيراً . وهو ما كانت قريش يعدونهم ويمنُّونهم ، إن ارتدوا : { إِنَّمَا عِندَ اللّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي : من إظهاركم في الدنيا وإثابتكم في الآخرة : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : من ذوي العلم والتمييز . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 96 ] .
{ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ } تعليل للخيرية بطريق الاستئناف . أي : ما عندكم مما تتمتعون به ، يفرغ وينقص ، فإنه إلى أجل معدود محصور مقدر متناه . وما عنده تعالى من ثوابه لكم في الجنة باق لا انقطاع له . فإنه دائم لا يحول ولا يزول : { وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم } أي : على أذى المشركين ومشاق الإسلام : { بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : بجزاء أحسن من أعمالهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ 97 ] .
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } هذا وعد منه تعالى لمن عمل صالحاً . وهو العمل التابع لكتاب الله وسنة رسوله ، من ذكر أو أنثى ، وهو ثابت على إيمانه إلى الموت ، بأن يحييه الله تعالى حياة طيبة .
قال المهايمي : أي : فيتلذذ بعمله في الدنيا فوق تلذذ صاحب المال والجاه ، ولا يبطل تلذذه إعساره ؛ إذ يرضيه الله بقسمته فيقنعه ويقل اهتمامه بحفظ المال وتنميته . والكافر لا يهنأ عيشه بالمال والجاه ؛ إذ يزداد حرصاً وخوف فوات . ويجزون بالأحسن في الآخرة . فلا يقال لهم : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا } [ الأحقاف : 20 ] بل يكمل جزاء أعمالهم الأدنى بحيث يلحق بالأعلى . انتهى .
وعندي أن الحياة الطيبة هي الحياة التي فيه ثلج الصدور بلذة اليقين وحلاوة الإيمان والرغبة في الموعود والرضا بالقضاء . وعتق الروح مما كانوا يستعبدون له . والاستكانة إلى معبود واحد ، والتنور بسر الوجود الذي قام به ، وغير ذلك من مزاياه المقررة في مواضعها . هذا في الدنيا . وأما في الآخرة ، فله الجزاء الأحسن والثواب الأوفى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } [ 98 - 100 ] .
{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } .
لما كان القرآن هو الذكر الحكيم والحق المبين ، وكان لكل حق محارب وهو شيطان الجن أو الإنس يثير الشبهات بوساوسه ، ويفسد القلوب بدسائسه ؛ أمر صلى الله عليه وسلم بأن يستعيذ بالله ويلتجئ إليه ، عند تلاوة القرآن ، من وسوسته ؛ لأن قوة الإنسان تضعف عن دفعه بسهولة ، فيحتاج إلى الاستعانة عليه بالله واللياذ بجواره منه . وقد بينت آية : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ الحج : 52 ] ، أن هذه عادة الشيطان إثر ما يتلوه كل نبي على أمته من الأحكام المتجددة التي يوحى بها لسعادة البشر ، أنه يحول عنها الأنظار ، ويسعى لهدم ما أقيمت لأجله . وإن الله يحكم آياته وينسخ شبه الشيطان ؛ ليحق الحق ويبطل الباطل . فلما كانت هذه عادته ، ولها من الأثر ما لها ، احتيج إلى الاستعاذة به تعالى منها ، عند قراءة الوحي ونشر تعاليمه .
ثم بيَّن تعالى أن أثر وسوسته إنما يكون فيمن له سلطان عليهم . أي : تسلط وولاية من أوليائه المتبعين خطواته . وأما الذين آمنوا وتوكلوا على ربهم ، فصبروا على المكاره ولم يبالوا بما يلقون في سبيل الجهاد بالحق من العثرات ؛ فليس له عليهم سلطان . فهم يضادون أمانيه ويهدمون كل ما يلقيه ؛ لأن إيمانهم يفيدهم النور الكاشف عن مكره ، والتوكل على الله يفيدهم التقوية بالله ، فيمنع من معاندة الشيطان وقوة تأثيره . و ( الرجيم ) من أوصاف الشيطان الغالبة ، أي : الملعون المرجوم باللعنة أو المطرود أو المرجوم بالكواكب . والضمير في ( به ) لربهم والباء للتعدية ، أو للشيطان ، والباء للسببية ، أي : بسببه وغروره ووسوسته . ورجح باتحاد الضمائر فيه . وأشار بعضهم إلى أن المعنى : أشركوه في عبادة الله تعالى ، وكله مما يحتمله اللفظ الكريم ويصح إرادته .
تنبيه :
في الآية مشروعية الاستعاذة قبل القراءة ، وهو شامل لحالة الصلاة وغيرها . وقال قوم بوجوبها لظاهر الأمر . وسرها في غيره صلى الله عليه وسلم : التحصن به تعالى أن لا يلبس الشيطان القراءة ، وأن لا يمنع من التدبر والتذكر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [ 101 - 102 ] .
{ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } .
التبديل : رفع الشيء مع وضع غيره مكانه ، فتبديل الآية : رفعها بآية أخرى . والأكثرون : على أن المعنى نسخ آية من القرآن لفظاً أو حكماً بآية أخرى غيرها ؛ لحكمة باهرة أشير إليها بقوله : { وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } من ناسخ قضت الحكمة أن يتبدل المنسوخ الأول به . وذهب قوم إلى أن المعنى تبديل آية من آيات الأنبياء المتقدمين ، كآية موسى وعيسى وغيرهما من الآيات الكونية الآفاقية ، بآية أخرى نفسية علمية ، وهي كون المنزل هدى ورحمة وبشارة يدركها العقل إذا تنبه لها وجرى على نظامه الفطري . وذلك لاستعداد الإنسان وقتئذ ؛ لأن يخاطب عقله ويستصرخ فمه ولبه . فلم يؤت من قبل الخوارق الكونية ويدهش بها كما كان لمن سلف . فبدلت تلك بآية هو كتاب العلم والهدى من نَبِيٍ أُمِّيِّ لم يقرأ ولم يكتب . وكون الكتاب بيِّن الصدق قاطع البرهان ناصع البيان بالنسبة لمن أوتي ورزق الفهم . وهذا التأويل الثاني يرجحه على الأول ؛ أن السورة مكية ، وليس في المكي منسوخ بالمعنى الذي يريدونه . وللبحث تفصيل في موضع آخر . وقد أشرنا إلى ذلك في آيتين من سورة البقرة في قوله تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا } الخ [ البقرة : 23 ] ، وقوله : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } [ البقرة : 106 ] ، والمقصود أنه تعالى ، لما رحم العالمين وجعل القرآن مكان ما تقدم ، نسبوا الموحى إليه به إلى الافتراء ؛ رداً للحق ، وعناداً للهدى ، وتولياً للشيطان ، وتعبداً لوسوسته ، وما ذاك إلا لجهلهم المتناهي ، كما قال : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } واعتراض قوله : { وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } لتوبيخ الكفرة والتنبيه على فساد رأيهم .
ثم أمره تعالى بأن يصدع بالحق في شأنه بقوله : { قُلْ نَزَّلَهُ } أي : القرآن المدلول عليه بالآية : { رُوحُ الْقُدُسِ } يعني جبريل عليه السلام . أضيف إلى القدس وهو الطهر ، كما يقال : ( حاتم الجود ، وزيد الخير ، وخبر السوء ، ورجل صدق ) والمراد : الروح المقدس ، وحاتم الجود ، وزيد الخيِّر ، والخبر السيئ ، والرجل الصادق . وإنما أضافوا الموصوف إلى مصدر الصفة للمبالغة في كثرة ملابسته له واختصاصه به . والمقدس : المطهر من الأدناس البشرية . وإضافة ( الرب ) إلى ضميره صلوات الله عليه في قوله تعالى : { مِن رَّبِّكَ } ؛ للدلالة على تحقيق إفاضة آثار الربوبية . وقوله : { بِالْحَقِّ } أي : متلبساً بالحق الثابت الموافق للحكمة التي اقتضاها دور عصره . وقوله تعالى : { لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ } أي : على الحق ونبذ وساوس الشياطين . وفي قوله تعالى : { وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } تعريض بحصول أضداد هذه الصفات لغيرهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } [ 103 ] .
{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ }
يخبر تعالى عن المشركين في قولهم غير ما نقل عنهم قبل من المقالة الشنعاء ، وكذبهم وبهتهم أن الرسول إنما يعلمه هذا الذي يتلوه من القرآن ، بشر . يعنون رجلاً أعجمياً كان بين أظهرهم يقرأ في الكتب المتقدمة . ربما يتحدث معه النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً . وإنما لم يصرح ؛ باسمه للإيذان بأن مدار خطئهم ليس بنسبته صلوات الله عليه إلى التعلم من شخص معين بل من البشر ، كائناً من كان . ثم أشار تعالى وضوح بطلان بهتهم ، بأن لسان الرجل الذي ينسبون إليه التعليم أعجمي غير مبين . وهذا القرآن الكريم لسان عربي مبين ، ذو بيان وفصاحة . ومن أين للأعجمي أن يذوق بلاغة هذا التنزيل ، وما حواه من العلوم ، فضلاً أن ينطق به ، فضلاً أن يكون معلماً له ! . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [ 104 - 105 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } تهديد لهم على كفرهم بالقرآن ، بعد ما أماط شبهتهم ورد طعنهم فيه .
وقوله تعالى : { إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ } رد لقولهم : { إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ } وقلب للأمر عليهم ، ببيان أنهم هم المفترون لا هو . يعني : إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن ، لأنه لا يخاف عقاباً يردعه عنه . وقوله تعالى : { وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ } إشارة إلى الذين لا يؤمنون ، ويدخل فيهم قريش دخولاً أولياً . أي : الكاذبون في الحقيقة ونفس الأمر . أو الكاملون فيه ؛ لأنه لا كذب أعظم من تكذيب آياته تعالى ، والطعن فيها بأمثال هاتيك الأباطيل . ولا يخفى ما في الحصر ، بعد القصر ، من العناية بمقامه صلوات الله عليه . وقد كان أصدق الناس وأبرهم وأكملهم علماً وعملاً وإيماناً وإيقاناً ، معروفاً بالصدق في قومه ، لا يشك في ذلك أحد منهم بحيث لا يُدْعى بينهم إلا بـ ( الأمين محمد ) . ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن تلك المسائل التي سألها ، من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان فيما قال له : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال : لا . فقال هرقل : ما كان ليدع الكذب على الناس ، ويذهب فيكذب على الله تعالى .
تنبيه :
في هذه الآية دلالة قوية على أن الكذب من أكبر الكبائر وأفحش الفواحش . والدليل عليه : أن كلمة : { إِنَّمَا } للحصر . والمعنى : أن الكذب والفرية لا يقدم عليهما إلا من كان غير مؤمن بآيات الله ، وإلا من كان كافراً . وهذا تهديد في النهاية .
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : هل يكذب المؤمن ؟ قال : لا . ثم قرأ هذه الآية . أفاده الرازي . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إِيْمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيْمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُون َ *لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ } [ 106 - 109 ] .
{ مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إِيْمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيْمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ } .
لما بيَّن تعالى فضل من آمن وصبر على أذى المشركين ، في المحاماة عن الدين ، تأثره ببيان ما للردة وإيثار الضلال على الهدى ، من الوعد الشديد ، بهذه الآيات . واستثنى المكره المطمئن القلب بالإيمان بالله ورسوله ؛ فإنه إذا وافق المشركين بلفظ ، لإيلام قوي وإيذاء شديد وتهديد بقتل ، فلا جناح عليه . إنما الجناح على من شرح بالكفر صدراً ، أي : طاب به نفساً واعتقده ، استحباباً للحياة الدنيا الفانية ، أي : إيثاراً لها على الآخرة الباقية ، فذاك الذي له من الوعيد ما بينته الآيات الكريمة ، من غضب الله عليهم أولاً ، وعذابه العظيم لهم ، وهو عذاب النار ثانياً . وعدم هدايتهم باختيارهم الكفر ثالثاً . ورابعاً بالطبع على قلوبهم بقساوتها وكدورتها . فلم ينفتح لهم طريق الفهم ، وعلى سمعهم وأبصارهم بسد طريق المعنى المراد من مسموعاتهم وطريق الاعتبار من مبصراتهم إلى القلب . فلم يؤثر فيهم شيء من أسباب الهداية من طريق الباطن من فيض العلم وإشراق النور . ولا من طريق الظاهر بطريق التعليم والتعلم والاعتبار من آثار الصنع . وخامساً بكونهم هم الغافلين بالحقيقة ، لعدم انتباههم بوجه من الوجوه . وامتناع تيقظهم من نوم الجهل بسبب من الأسباب . وجليٌّ ، أن كل نقمة من هذه الخمس ، على انفرادها ، من أعظم الحواجز عن الفوز بالخيرات والسعادات . فكيف بها كلها ! .
قال الرازي : ومعلوم أنه إنما أدخل الإنسان الدنيا ليكون كالتاجر الذي يشتري بطاعاته سعادات الآخرة . فإذا حصلت هذه الموانع عظم خسرانه . فلهذا قال : { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ } أي : الذين ضاعت دنياهم التي استنفدوا في تحصيلها وسعهم ، وأتلفوا في طلبها أعمارهم ، وليسوا من الآخرة في شيء إلا في وبال التحسرات .
تنبيهات :
الأول : ( من ) في قوله تعالى : { مَن كَفَرَ } موصول مبتدأ خبره : { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } وقوله : { إِلَّا مَن أَكرِهَ } استثناء مقدم من حكم الغضب . وقوله : { وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً } رجوع إلى صدر الآية وحكمها ، بأسلوب مبين لمن كفر ، موضح له . بمثابة عطف البيان أو عطف التفسير . وهذا الوجه من الإعراب لم أره لأحد ، ولا يظهر غيره لمن ذاق حلاوة أسلوب القرآن .
الثاني : استدل بالآية على أن المكره غير مكلف . وأن الإكراه يبيح التلفظ بكلمة الكفر ، بشرط طمأنينة القلب على الإيمان . واستدل العلماء بالآية على نفي طلاق المكره وعتاقه ، وكل قول أو فعل صدر منه ، إلا ما استثنى . أفاده السيوطي في " الإكليل " .
الثالث : روي عن ابن عباس : أنها نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم فوافقهم مكرهاً . ثم جاء معتذراً . قال ابن جرير : أخذ المشركون عماراً فعذبوه ، حتى قاربهم في بعض ما أرادوا . فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : < كيف تجد قلبك ؟ > قال : مطمئناً بالإيمان . قال صلى الله عليه وسلم : < إن عادوا فَعُدْ > .
وقال ابن إسحاق : إن المشركين عَدَوْا على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه . فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين . فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش . وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر . يفتنونهم عن دينهم . فمنهم من يفتتن من شدة البلاء الذي يصيبه . ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم . وكان بلال رضي الله عنه عبداً لبعض بني جُمح ، يخرجه أمية بن خلف ، إذا حميت الظهيرة ، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره . ثم يقول له : لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى . فيقول ( وهو في ذلك البلاء ) : أحدٌ ، أحدٌ ، حتى اشتراه أبو بكر وأعتقه .
وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه ، رضي الله عنهم ، إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة ، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : < صبراً آل ياسر ، موعدكم الجنة > فأما أمه فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام .
قال سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم ؟ قال : نعم . والله ! إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه ، حتى ما يقدر على أن يستوي جالساً من شدة الضرب الذي نزل به ، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة . حتى يقولوا له : اللات والعزى إلهك من دون الله ؟ فيقول : نعم . حتى إن الجُعَل ليمر بهم فيقولون له : هذا الجُعل إلهك من دون الله ؟ فيقول : نعم ؛ افتداء منهم ، مما يبلغون من جَهدْه .
وقد ذكر ابن هشام في " السيرة " في بحث " عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم بالأذى والفتنة " غرائب في هذا الباب ، فانظره .
قال ابن كثير : ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي ؛ إبقاء لمهجته . ويجوز له أن يأبى ، كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ، وهو يفعلون به الأفاعيل ، وهو يقول : أحدٌ ، أحدٌ . ويقول : والله ! لو أعلم كلمة أغيظ لكم منها لقلتها . رضي الله عنه وأرضاه . وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري ، لما قال له مسيلمة الكذاب : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ فيقول : نعم . فيقول : أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول : لا أسمع . فلم يزل يقطعه إرباً إرباً ، وهو ثابت على ذلك .
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمي ، أحد الصحابة ، أنه أسرته الروم ، فجاءوا به إلى ملكهم . فقال له : تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي . فقال له : لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب ، على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ، ما فعلت . فقال : إذاً أقتلك . فقال : أنت وذاك . فأمر به فصلب . وأمر الرماة فرموه قريباً من يديه ورجليه ، وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى . ثم أمر به فأنزل . ثم أمر بقدر فأحميت . وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر ، فإذا هو عظام تلوح ، وعرض عليه فأبى . فأمر به أن يلقى فيها . فرفع بالبكرة ليلقى فيها فبكى . فطمع فيه ودعاه ، فقال : إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة ، تلقى في هذا القدر الساعة . فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي ، نفس تعذب هذا العذاب في الله .
وفي بعض الروايات : أنه سجنه ومنعه الطعام والشراب أياماً . ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه . ثم استدعاه فقال : ما منعك أن تأكل ؟ فقال : أما هو فقد حلَّ لي . ولكن لم أكن لأُشَمِّتَكَ فِيَّ . فقال له الملك : فقبِّل رأسي وأنا أطلقك وأطلق جميع أسارى المسلمين . قال : فقبَّل رأسه . وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده . فلما رجع قال عُمَر بن الخطاب : حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة ، وأنا أبدأ فقام فقبل رأسه . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 110 ] .
{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } بيان للذين كانوا مستضعفين بمكة ، مهانين في قومهم ، وافقوهم على الفتنة ظاهراً ، ثم أمكنهم الخلاص بالهجرة ، فتركوا بلادهم وأهاليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه ، وجاهدوا الكافرين وصبروا على مشاقِّ الجهاد . أخبر تعالى أن هؤلاء من بعد الفتنة المذكورة ، أي : إجابتهم إليها : { لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } فيغفر لهم ما فرط منهم ويرحمهم بالجزاء الحسن .
والجار في قوله : { لِلَّذِينَ } متعلق بالخبر على نية التقديم والتأخير ، والخبر لـ ( إن ) الأولى . والثانية مكررة للتأكيد . أو للثانية وخير الأولى مقدر ، وشمل قوله : { هَاجَرُوا } من هاجر إلى الحبشة من مكة فراراً بدينه من الفتنة ، ومن هاجر بعد إلى المدينة كذلك . كما شمل قوله : { جَاهَدُوا } في بث الحق ونشر كلمة الإيمان والدفاع عنه . أو قاتلوا في سبيل الله ، ولأجل هذا الاحتمال في الفعلين قيل : الآية مدنية ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ 111 ] .
{ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } منصوب بـ ( رحيم ) أو بـ ( اذكر ) واليوم يوم القيامة . ومعنى : { تُجَادِلُ } أي : تحاجّ وتسعى في خلاصها . لا يهمها إلا ذاتها وشأنها . ولا يغني عنها مال ولا أب ولا ابن ولا شيء ما : { وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } أي : من خير وشر : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } في ذلك . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } [ 112 - 113 ] .
{ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } .
اعلم أنه لما هدد الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة ، أنذرهم بنقمته في الدنيا أيضاً بالجوع والخوف . ومعنى قوله تعالى : { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً } أي : جعل القرية التي هذه حالها مثلاً لكل قوم أنعم الله عليهم . فأبطرتهم النعمة ، فكفروا وتولوا ، فأنزل الله بهم نقمته . فيدخل فيهم أهل مكة دخولاً أولياً ، أو لقوم معينين ، وهم أهل مكة . والقرية إما مقدرة بهذه الصفة غير معنية ؛ إذ لا يلزم وجود المشبه به . أو معينة من قرى الأولين . وقد ضمن ( ضرب ) معنى ( جعل ) و ( مثلاً ) مفعول ثان ، و ( قريةً ) مفعول أول .
قال أبو السعود : وتأخير ( قرية ) مع كونها مفعولاً أول ؛ لئلا يحول المفعول الثاني بينها وبين صفتها وما يترتب عليها ؛ إذ التأخير عن الكل مخلٍّ بتجاذب أطراف النظم وتجاوبها . ولأن تأخير ما حقه التقديم مما يورث النفس ترقباً لوروده ، وتشوقاً إليه . لا سيما إذا كان في المقدم ما يدعو إليه . فإن المثل مما يدعو إلى المحافظة على تفاصيل أحوال ما هو مثل . فيتمكن المؤخر عند وروده لديها فضل تمكن . والمراد بالقرية : أهلها مجازاً ، أو بتقدير مضاف . ومعنى كونها : { آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً } أنه لا يزعجها خوف . و ( الرغد ) الواسع . و ( الأنعم ) جمع نعمة .
وفي قوله تعالى : { فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ } شبه أثر الجوع والخوف وضررهما المحيط بهم ، باللباس الغاشي للابس . فاستعير له اسمه ، وأوقع عليه الإذاقة المستعارة ؛ لمطلق الإيصال المنبئة عن شدة الإصابة ، بما فيها من اجتماع إدراكي اللامسة والذائقة ، على نهج التجريد . فإنها لشيوع استعمالها في ذلك ، وكثرة جريانها على الألسنة جرت مجرى الحقيقة .
قال ابن كثير : هذا مثل أريد به أهل مكة . فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة ، يتخطف الناس من حولها ، ومن دخلها كان آمناً لا يخاف ، كما قال تعالى : { وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا } [ القصص : 57 ] وهكذا قال ها هنا ، و : { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً } أي : هنيئاً سهلاً : { مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ } أي : جحدت آلاء الله عليها ، وأعظمها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ } [ إبراهيم : 28 - 29 ] ، ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما ، فقال : { فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ } أي : ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليهم ثمرات كل شيء ويأتيها رزقها من كل مكان ، وذلك أنهم استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا إلا خلافه ، فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف ، فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم ، فأكلوا العلهز : ( هو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحر ) وقوله : { والْخَوْفِ } وذلك أنهم بدلوا بأمنهم خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين هاجروا إلى المدينة ، من سطوته وسراياه وجيوشه ، وجعل كل ما لهم في دمار وسفال . حتى فتحها الله عليهم . وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله فيهم منهم . وامتن به عليهم في قوله : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [ آل عِمْرَان : 164 ] الآية . وقوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَّسُولاً } [ الطلاق : 10 ] ، وقوله : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [ البقرة : 151 ] ، إلى قوله : { وَلاَ تَكْفُرُونِ } وكما أنه انعكس على الكافرين حالهم فخافوا بعد الأمن ، وجاعوا بعد الرغد ؛ بدَّل الله المؤمنين من بعد خوفهم أمناً ، ورزقهم بعد العَيْلة ، وجعلهم أمراء الناس وحكامهم وسادتهم وقادتهم وأئمتهم . انتهى .
ثم بيَّن تعالى ضلال المشركين في تحريم ما أحل الله من البحائر والسوائب وغيرها ، مفصلاً ما حرمه مما ليس فيه كانوا يحرمونه بأهوائهم . وهو مأذون بأكله كما قال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ 114 ] .
{ فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ } أي : من الحرث والأنعام : { حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } أي : تريدون عبادته فاستحلوها ، فإن عبادته في تحليلها . واشكروه فإنه المنعم المتفضل بذلك وحده .
ثم ذكر ما حرمه عليهم ، مما فيه مضرة لهم في دينهم ودنياهم ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 115 ] .
{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ } أي : ذبح على اسم غيره تعالى : { فَمَنِ اضْطُرَّ } أي : أجهد إلى ما حرم الله : { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } أي : متعد قدر الضرورة وسد الرمق : { فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : فلا يؤاخذه بذلك .
وقد تقدم الكلام على مثل هذه الآية في سورة البقرة بما فيه كفاية . فأغنى عن إعادته .
ثم نهى تعالى عن سلوك سبيل المشركين الذين حللوا وحرموا بمجرد ما وصفوه واصطلحوا عليه من الأسماء بآرائهم ، في البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وغيرها ، مما كان شرعاً لهم ابتدعوه في جاهليتهم ، فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 116 - 117 ] .
{ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
أي : لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم : { مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا } من غير استناد ذلك الوصف إلى وحي من الله . فـ ( الكذب ) مفعول ( تقولوا ) وقوله : { هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ } بدل من ( الكذب ) واللام صلة للقول ، كما يقال : لا تقل للنبيذ إنه حلال ، أي : في شأنه وحقه . فهي للاختصاص . وفيه إشارة إلى أنه مجرد قول باللسان ، لا حكم مصمم عليه . أو : { هَذا حَلال } مفعول ( تقولوا ) و ( الكذب ) مفعول ( تصف ) واللام في : { لِمَا تَصِفُ } تعليلية ، و ( ما ) مصدرية . ومعنى تصف : تذكر . وقوله : { لِّتَفْتَرُواْ } بدل من التعليل الأول . أي : لا تقولوا : هذا حلال وهذا حرام لأجل وصف ألسنتكم الكذب ، أي : لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة . وليس بتكرار مع قوله : { لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ } لأن هذا لإثبات الكذب مطلقاً ، وذلك لإثبات الكذب على الله . فهو إشارة إلى أنهم ، لتمرنهم على الكذب ، اجترؤوا على الكذب على الله ، فنسبوا ما حللوه وحوموه إليه . وعلى هذا الوجه - كون الكذب مفعول ( تصف ) - ففي وصف ألسنتهم الكذب مبالغة في وصف كلامهم بالكذب ؛ لجعله عين الكذب . ترقى عنها إلى أن خيل أن ماهية الكذب كانت مجهولة ، حتى كشف كلامهم عن ماهية الكذب وأوضحها ، فـ ( تصف ) بمعنى توضح . فهو بمنزلة الحد والتعريف الكاشف عن ماهية الكذب . فالتعريف في الكذب للجنس . كأنَّ ألسنتهم إذا نطقت كشفت عن حقيقته ، وعليه قول المعري :
~سرى برق المعرة بعد وهن فبات برامة يصف الكلالا
ونحوه : ( نهاره صائم ) إذا وصف اليوم بما يوصف به الشخص ؛ لكثرة وقوع ذلك الفعل فيه . و ( وجهها يصف الجمال ) لأن وجهها لما كان موصوفاً بالجمال الفائق ، صار كأنه حقيقة الجمال ومنبعه ، الذي يعرف منه . حتى كأنه يصفه ويعرِّفه ، كقوله :
~أضحت يمنيك من جود مصورة لا بل يمنيك منها صور الجود
فهو من الإسناد المجازي . أو نقول : إن وجهها يصف الجمال بلسان الحال . فهو استعارة مكنية . كأنه يقول : ما بي هو الجمال بعينه ، ومثله ورد في كلام العرب والعجم . هذا زبدة ما في " شروح الكشاف " .
وما في الآية أبلغ من المثال المذكور ، لما سمعت . أفاده في " العناية " . واللام في : { لِّتَفْتَرُواْ } لام الصيرورة والعاقبة المستعارة من التعليلية ؛ إذ ما صدر منهم ليس لأجل هذا ، بل لأغراض آخر يترتب عليها ما ذكر . وجوَّز كونها تعليلية ، وقصدهم لذلك غير بعيد . وفي قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ } الآية . وعيد شديد بعدم ظفرهم وفوزهم بمطلوب يعتد له لا في الدنيا ولا في الآخرة . أما في الدنيا ، فلأن ما يفترون لأجله متاع قليل ينقطع عن قريب . وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم ، كما قال : { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ لقمان : 24 ] .
تنبيه :
قال الحافظ ابن كثير : يدخل في الآية كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي أو حلل شيئاً مما حرم الله . أو حرَّم شيئاً مما أباح الله ، بمجرد رأيه وتشهيه .
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي نضرة قال : فرأت هذه الآية في سورة النحل ، فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا .
قال في " فتح البيان " : صدق رحمه الله . فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فتيا من أفتى بخلاف ما في كتاب الله ، أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما يقع كثيراً من المُؤْثِرَين للرأي المقدمين له على الرواية ، أو الجاهلين بعلم الكتاب والسنة .
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال : عسى رجل يقول : إن الله أمر بكذا أو نهى عن كذا . فيقول الله عز وجل : كذبت ، أو يقول : إن الله حرَّم كذا وأحلَّ كذا : فيقول الله له : كذبت .
قال ابن العربي : كره مالك وقوم أن يقول المفتي : هذا حلال وهذا حرام في المسائل الاجتهادية ، وإنما يقال ذلك فيما نص الله عليه ، ويقال في المسائل الاجتهادية : إني أكره كذا وكذا ، ونحو ذلك .
ولما ذكر تعالى ما حرمه علينا من الميتة والدم الخ ، بيَّن ما كان حرمه على اليهود في شريعتهم مما ليس فيه أيضاً شيء مما حرمه المشركون ؛ تحقيقاً لافترائهم بأن ما حظروه لا سند له في شريعة سابقة ولا لاحقة ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 118 - 119 ] .
{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ } يعني اليهود : { حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ } أي : في سورة الأنعام في قوله تعالى : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } [ الأنعام : 146 ] الآية { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } أي : فيما حرمنا عليهم : { وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي : فاستحقوا ذلك . كقوله : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً } [ النساء : 160 ] . وقد سلف لنا ما ذكروه في تفسيرها مما يجيء هنا ، فتذكر . قالوا : في الآية تنبيه على الفرق بينهم وبين غيرهم في التحريم . فإن هذه الأمة لم يحرم عليها إلا ما فيه مضرة لها . وغيرهم قد يحرم عليهم ما لا ضرر فيه ، عقوبة لهم بالمنع ، كاليهود .
ثم بيَّن تعالى عظيم فضله في قبول توبة من تاب من العصاة بقوله :
{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ } أي : العمل فيما بينهم وبين ربهم : { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } أي : التوبة : { لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
ثم نوه تعالى بإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، دعاء لهم إلى سلوك طريقته في التوحيد ، ورفض الوثنية ، وتبرئة لمقامه ، مما كانوا يفترون عليه ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ 120 - 121 ] .
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } أي : إماماً يقتدى به ، كقوله تعالى : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } [ البقرة : 124 ] . أو كان وحده أمة من الأمم ؛ لاستجماعه كمالات لا توجد في غيره : { قَانِتاً لِلّهِ } أي : خاشعاً مطيعاً له ، قائماً بما أمره : { حَنِيفاً } أي : مائلاً عن كل دين باطل إلى الدين الحق : { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ } أي : قائماً بشكر نعم الله عليه ، مستعملاً لها على الوجه الذي ينبغي ، كقوله تعالى : { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [ النجم : 37 ] ، أي : قام بجميع ما أمره الله تعالى به : { اجْتَبَاهُ } أي : اختاره واصطفاه للنبوة : { وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، على شرع مرضي .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ 122 - 123 ] .
{ وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً } أي : من الذكر الجميل ، كما قال : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } [ مريم : 50 ] ، ومن الصلاة والسلام عليه ، كما قال : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْراهِيمَ } [ الصافات : 108 - 109 ] ، ومن تمتيعه بالحظوظ ليتقوى على القيام بحقوق العبودية : { وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ } أي : في عالم الأرواح : { لَمِنَ الصَّالِحِينَ } أي : المتمكنين في مقام الاستقامة ، بإيفاء كل ذي حق حقه ، الذين لهم الدرجات العليا في الجنة .
{ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } أي : بعد هذه الكرامات والحسنات التي أعطيناه إياها في الدارين ، شرفناه وكرمناه بأمرنا ، بإتباعك إياه في التوحيد وأصول الدين التي لا تتغير في الشرائع . كأمر المبدأ والمعاد والحشر والجزاء وأمثالها ، لا في فروع الشريعة وأوضاعها وأحكامها ، فإنها تتغير بحسب المصالح واختلاف الأزمنة والطبائع ، وما عليه أحوال الناس من العادات والخلائق . قاله القاشانِيِّ .
وفي " الإكليل " : استدل أصحابنا بهذه الآية على وجوب الختان ، وما كان من شرعه ، ولم يرد به ناسخ .
لطيفة :
قال الزمخشري : في : { ثُمَّ } هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإجلال محله ، والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم من الكرامة ، وأجلِّ ما أولي من النعمة ؛ إتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته ، من قبل أنها دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة ، من بين سائر النعوت التي أثنى الله عليه بها .
قال الناصر : وإنما تفيد ذلك : { ثم } لأنها في أصل وضعها لتراخي المعطوف عليه في الزمان . ثم استعملت في تراخيه عنه في علو المرتبة ، بحيث يكون المعطوف على رتبته أشمخ محلاً مما عطف عليه . فكأنه بعد أن عدَّد مناقب الخليل عليه السلام ، قال تعالى وها هنا ما هو أعلى من ذلك كله قدراً ، وأرفع رتبةً ، وأبعد رفعةً ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم الأمي ، الذي هو سيد البشر ، متبع لملة إبراهيم ، مأمور بإتباعه بالوحي ، متلوُّاً أمره بذلك في القرآن العظيم . ففي ذلك تعظيم لهما جميعاً . لكن نصيب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا التعظيم أوفر وأكبر ، على ما مهدناه . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ 124 ] .
{ إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ } يعني اليهود ، فرض عليهم تقديسه وإراحة أنفسهم ودوابهم فيه من الأعمال . فاعتدوا فيه واحتالوا لحلِّه .
قال القاشاني : أي : ما فرض عليك ، إنما فرض عليهم . فلا يلزمك إتباع موسى في ذلك ، بل إتباع إبراهيم ، وقوله تعالى : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : بالمجازاة على اختلافهم ، يعني إفسادهم وزيغهم عن طريق الحق .
ثم بيَّن تعالى أدب الدعوة إلى دينه الحق ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [ 125 ] .
{ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ } أي : بالمقالة المحكمة الصحيحة . وهو الدليل الموضح للحق ، المزيح للشبهة : { وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } أي : العبر اللطيفة والوقائع المخيفة ، ليحذروا بأسه تعالى : { وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي : جادل معانديهم بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة ، من الرفق واللين ، وحسن الخطاب ، من غير عنف ، فإن ذلك أبلغ في تسكين لهبهم . وقوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } أي : عليك البلاغ والدعوة بالصفة المبينة ، فلا تذهب نفسك على من ضلَّ منهم حسرات ، فإنه ليس عليك هُدَاهُمْ ؛ لأنه هو أعلم بمن يبقى على الضلال وبمن يهتدي إليه ، فيجازي كلاً منهما بما يستحقه . أو المعنى : اسلك في الدعوة والمناظرة الطريقة المذكورة . فإن الله تعالى هو أعلم بحال من لا يرعوي عن الضلال بموجب استعداده المكتسب . وبحال من يصير أمره إلى الاهتداء لما فيه من خير جبلِّي . فما شرعه لك في الدعوة ، هو الذي تقتضيه الحكمة . فإنه كاف في هداية المهتدين وإزالة عذر الضالين . أفاده أبو السعود .
تنبيه :
دلَّ قوله تعالى : { وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } على الحث على الإنصاف في المناظرة ، وإتباع الحق ، والرفق والمداراة ، على وجه يظهر منه أن القصد إثبات الحق وإزهاق الباطل ، وأن لا غرض سواه .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } [ 126 ] .
{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ } أي : الزموا سيرة العدالة ، لا تجاوزوها . فإنها أقل درجات كمالكم . فإن كان لكم قدم في الفتوة ، وعرق راسخ في الفضل والكرم والمروءة ؛ فاتركوا الانتصار والانتقام ممن جنى عليكم ، وعارضوه بالعفو مع القدرة ، واصبروا على الجناية ، فإنه : { لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ } ألا تراه كيف أكده بالقسم واللام في جوابه ، وترك المضمر إلى المظهر حيث ما قال : ( لَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) بل قال : { لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ } للتسجيل عليهم بالمدح والتعظيم بصفة الصبر . فإن الصابر ترقى عن مقام النفس وقابل فعل نفس صاحبه بصفة القلب . فلم يتكدر بظهور صفة النفس . وعارض ظلمة نفس صاحبه بنور قلبه . فكثيراً ما يندم ويتجاوز عن مقام النفس . وتنكسر سورة غضبه فيصلح . وإن لم يكن لكم هذا المقام الشريف ، فلا تعاقبوا المسيء بسورة الغضب بأكثر مما جنى عليكم فتظلموا ، أو تتورطوا بأقبح الرذائل وأفحشها ، فيفسد حالكم ويزيد وبالكم على وبال الجاني . أفاده القاشانِيِّ .
تنبيهات :
الأول : في " الإكليل " : قال ابن العربي : في الآية جواز المماثلة في القصاص خلافاً لمن قال : لا قود إلا بالسيف . ويستدل بها لمسألة الظفر ، كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن سيرين والنخعي ؛ أنهما استدلا بها عليها . ولفظ النَّخَعِي : سئل عن الرجل يخون الرجل ثم يقع له في يده الدراهم ؟ قال : إن شاء ذهب من دراهمه بمثل ما خانه . ثم قرأ هذه الآية . ولفظ ابن سيرين : إن أخذ منكم رجل شيئاً ، فخذوا مثله .
قال ابن كثير : وكذا قال مجاهد وإبراهيم والحسن البصري وغيرهم ، واختاره ابن جرير . فعمومها يشمل العدل في القصاص والمماثلة في استيفاء الحق .
الثاني : قال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار قال : نزلت سورة النحل كلها بمكة . وهي مكية إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة بعد أحد ، حين قتل حمزة رضي الله عنه ومُثِّلَ به . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم > . فلما سمع المسلمون ذلك قالوا : والله ! لئن أظهرنا الله عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط . فأنزل الله الآية هذه ، إلى آخر السورة .
قال الحافظ ابن كثير : هذا مرسل وفيه مبهم لم يسم . ورواه الحافظ البزار من وجه آخر موصولاً عن أبي هريرة رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ، حين استشهد ، فنظر إلى منظر لم ينظر أوجع للقلب منه ، وقد مُثِّلَ به . فقال : < رحمة الله عليك . إن كنتَ لما علمتُ ، لوصولاً للرحم ، فعولاً للخيرات . والله لولا حزنٌ من بعدك عليك ، لسرَّني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع . ( أو كلمة نحوها ) . أما والله ! على ذلك لأمثلن بسبعين كمثلتك > . فنزلت هذه الآية . فكفَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني عن يمينه ، وأمسك عن ذلك .
قال ابن كثير : وهذا إسناد فيه ضعف ؛ لأن صالحاً ( أحد رواته ) هو ابن بشير المريِّ ، ضعيف عند الأئمة . وقال البخاري : هو منكر الحديث . وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه عن أُبَيِّ بن كعب ، قال : لما كان يوم أحد قتل من الأنصار ستون رجلاً ومن المهاجرين ستة ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : لئن كان لنا يوم مثل هذا من المشركين لنمثلن بهم . فلما كان يوم الفتح قال رجل : لا تعرف قريش بعد اليوم . فنادى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمَّنَ الأسود والأبيض إلا فلاناً وفلاناً - ناساً سماهم - فنزلت الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < نصبر ولا نعاقب > .
أقول : بمعرفة ما قدمنا من معنى سبب النزول - في مقدمة التفسير - يعلم أن لا حاجة إلى الذهاب إلى أنها مدنية ألحقت بالسورة ؛ ولا إلى ما روي من هذه الآثار ؛ إذ به يتضح عدم التنافي ، والتقاء الآثار مع الآية فتذكَّره .
الثالث : قال ابن كثير : هذه الآية الكريمة لها أمثال في القرآن ، فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب إلى الفضل ، كما في قوله تعالى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] . ثم قال : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [ الشورى : 40 ] الآية . وقال : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } [ المائدة : 45 ] ثم قال : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } [ المائدة : 45 ] انتهى .
ثم أكد تعالى الأمر بالصبر ، ليقوي الثبات والاحتمال ، لكل ما يلاقيه في سبيل الحق ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } [ 127 - 128 ] .
{ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ } أي : بمعونته وتوفيقه : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي : على الكافرين ، أي : على كفرهم وعدم هدايتهم : { وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } أي : في ضيق صدر مما يمكرون من فنون المكايد
{ إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } تعليل لما قبله . أي : فإنه تعالى كافيك وناصرك ومؤيدك ومظفرك بهم ؛ لأنه تعالى مع المتقين والمحسنين بالمعونة والنصر والتأييد ، فيحفظهم ويكلؤهم ويظهرهم على أعدائهم . قال ابن كثير : هذهمُعَيَّة خاصة كقوله تعالى : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } [ الأنفال : 12 ] . وقوله لموسى وهارون : { لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [ طه : 46 ] . وأما المعية العامة فالسمع والبصر والعلم كقوله تعالى : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم } [ الحديد : 4 ] ، وقوله : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } [ المجادلة : 7 ] .
قال أبو السعود : تكرير الموصول للإيذان بكفاية كل من الصلتين في ولايته سبحانه ، من غير أن تكون إحداهما تتمة للأخرى . وإيراد الأولى فعلية للدلالة على الحدوث . كما أن إيراد الثانية اسمية لإفادة كون مضمونها شيمة راسخة فيهم . وتقديم التقوى على الإحسان لما أن التخلية متقدمة على التحلية . والمراد بالموصولين إما جنس المتقين والمحسنين ، وهو صلى الله عليه وسلم داخل في زمرتهم دخولاً أولياً . وإما هو صلى الله عليه وسلم ومن شايعه . عبَّر عنهم بذلك ، مدحاً لهم وثناءً عليهم بالنعتين الجميلين . وفيه رمز إلى أن صنيعه صلى الله عليه وسلم مستتبع لإقتداء الأمة به ، كقول من قال لابن عباس رضي الله عنهما ، عند التعزية بأبيه العباس :
~اصبر نكن بك صابرين فإنما صبر الرعية عند صبر الرَّاسِ
وبعد هذا البيت :
~خير من العباس أجرك بعده والله خير منك للعباس
قال ابن عباس : ما عزاني أحد من تعزيته .
وعن هَرِم بن حيان أنه قيل له حين الاحتضار : أوص . قال : إنما الوصية من المال ، فلا مال لي . وأوصيكم بخواتيم سورة النحل . . .(/)
سورة الإسراء
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [ 1 ] .
{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } .
يمجد تعالى نفسه بقوله : { سُبْحَانَ } وينزه ذاته العلية عما لا يليق بجلاله ، ويعظم شأنه لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه فلا إله غيره . وقوله تعالى : { الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أي : سيَّره منه ليلاً . و ( أسرى ) بمعنى ( سرى ) يقال : أسراه وأسرى به وسرى به . فهمزة ( أسرى ) ليست للتعدية ، ولذا عدي بالباء . وفرق بعضهم بين أسرى وسرى بالمبالغة في ( أسرى ) لإفادة السرعة في السير ، ولذا أوثر على ( سرى ) .
والإسراء سير الليل كله ، كأسرى ، فقوله تعالى : { لَيْلاً } للتأكيد أو للتجريد عن بعض القيود . مثل : أسعفت مرامه . مع أن الإسعاف قضاء الحاجة . أو للتنبيه على أنه المقصود بالذكر . وقد استظهره الناصر في " الانتصاف " قال : ونظيره في إفراد أحد ما دل عليه اللفظ المتقدم مضموناً لغيره ، قوله تعالى : { لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ } [ النحل : 51 ] . فالاسم الحامل للتثنية دال عليها وعلى الجنسية ، وكذلك المفرد . فأريد التنبيه على أن أحد المعنيين ، وهو التثنية ، مراد مقصود ، وكذلك أريد الإيقاظ ؛ لأن الوحدانية هي المقصودة في قوله : { إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ } ولو اقتصر على قوله : { إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ } لأوهم أن المهم إثبات الإلهية له . والغرض من الكلام ليس إلا إثبات الوحدانية .
وقيل : سرُّ قوله : { لَيْلاً } إفادة تقليل الوقت الذي كان الإسراء والرجوع فيه . أي : أنه كان في بعض الليل ، أخذاً من تنكيره . فقد نقل عن سيبويه أن الليل والنهار إذا عُرِّفا كانا معياراً للتعميم ، فلا تقول : أرقت الليل ، وأنت تريد ساعة منه ، إلا أن تقصد المبالغة . بخلاف المنكر فإنه لا يفيد ذلك . فلما عدل عن تعريفه هنا ، علم أنه لم يقصد استغراق السرى ، وهذا هو المراد من البعضية . وجوَّز بعضهم أن يكون ( أسرى ) من ( السراة ) وهي الأرض الواسعة . وأصله من الواو ، أسرى مثل أجبل وأتهم ، أي : ذهب به في سراة من الأرض ، وهو غريب . وفي تخصيص الليل إعلام بفضله ؛ لأنه وقت السر والنجوى والتجلي الأسمى ، ولذلك كان أكثر عبادته صلى الله عليه وسلم بالليل . والمراد ( بعبده ) خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم . وفي ذكره بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضمير الجلالة من التشريف والتنويه والتنبيه على اختصاصه به عز وجل وانقياده لأوامره - ما لا يخفى .
والعبد لغةً : الإنسان مطلقاً والمملوك والعبودية الذل والخضوع والرق والطاعة ، كالعبادة والعبودة .
قال ابن القيم في " طريق الهجرتين " : أكمل الخلق أكملهم عبودية . وأعظمهم شهوداً . لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه ، وعدم استغنائه عنه طرفة عين . ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم : < أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك > .
ثم قال : ولهذا كان أقرب الخلق إلى الله وسيلة ، وأعظمهم عنده جاهاً ، وأرفعهم عنده منزلة ؛ لتكميله مقام العبودية والفقر . وكان يقول : < أيها الناس ! ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي ، إنما أنا عبد > . وكان يقول : < لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم ، إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله > . وذكره سبحانه بسمة العبودية في أشرف مقاماته : مقام الإسراء ، ومقام الدعوة ، ومقام التحدي . فقال : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً } وقال : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } [ الجن : 19 ] . وقال : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } [ البقرة : 23 ] . وفي حديث الشفاعة : أن المسيح يقول لهم : اذهبوا إلى محمد ، عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . فنال ذلك بكمال عبوديته لله ، وبكمال مغفرة الله له . انتهى .
وقوله تعالى : { مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } يعني مسجد مكة المكرمة . سمي حراماً ، كبلده ، لكونه لا يحل انتهاكه بقتال فيه ، ولا بصيد صيده ، ولا بقطع شجره ولا كلئه . وقوله سبحانه : { إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى } هو مسجد بيت المقدس ، وكان يعرف بهيكل سليمان ؛ لأنه الذي بناه وشيده و : { الأَقْصَى } بمعنى الأبعد . سمي بذلك لبعده عن مكة ، وقوله تعالى : { الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } أي : جوانبه ببركات الدين والدنيا ؛ لأن تلك الأرض المقدسة مقر الأنبياء ومهبط وحيهم ومنمى الزروع والثمار . فاكتنفته البركة الإلهية من نواحيه كلها . فبركته إذن مضاعفة ؛ لكونه في أرض مباركة ، ولكونه من أعظم مساجد الله تعالى . والمساجد بيوت الله . ولكونه متعبد الأنبياء ومقامهم ومهبط وحيه عليهم ، فبورك فيه بركتهم ويمنهم أيضاً .
وقيل في خصائص ( الأقصى ) : إنه متعبد الأنبياء السابقين ، ومسرى خاتم النبيين ، ومعراجه إلى السماوات العلى والمشهد الأسمى . بيت نوه الله به في الآيات المفصلة ، وتليت فيه الكتب الأربعة المنزلة . لأجله أمسك الله الشمس على يوشع أن تغرب ليتيسر فتحه على من وعدوا به ويقرب . وهو قبلة الصلاة في الملتين ، وفي صدر الإسلام بعد الهجرتين . وهو أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين . لا تشدُّ الرحال بعد المسجدين إلا إليه ، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه . انتهى . ومن فضائله ما رواه الإمام أحمد والنسائي والحاكم صححه ، عن ابن عَمْرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه ثلاثاً ، فأعطاه اثنتين وأنا أرجو يكون أعطاه الثالثة > .
سأله حكماً يصادف حكمه فأعطاه إياه .
وسأله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه .
وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد - يعني ببيت المقدس - خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : < ونحن نرجو أن يكون الله أعطاه ذلك > .
وروي أن ابن عمر كان إذا دخله لا يشرب من مائه ؛ تجريداً لقصد الصلاة .
وقال الشيرازي في " عرائس البيان " : كان بداية المعرج الذهاب إلى الأقصى ؛ لأن هناك الآيات الكبرى من أنوار تجليه تعالى لأرواح الأنبياء وأشباحهم . وهناك بقربه طور سينا ، وطور زيتا ، ومقام إبراهيم وموسى وعيسى في تلك الجبال ، مواضع كشوف الحق ، لذلك قال : { بَارَكْنا حَوْلَهُ } . انتهى .
والالتفات في : { بَارَكْنا } لتعظيم ما ذكر ؛ لأن فعل العظيم يكون عظيماً ، لا سيما إذا عبَّر عنه بصيغة التعظيم . والنكتة العامة تنشيط السامعين .
وقوله تعالى : { لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا } إشارة إلى حكمة الإسراء . أي : لكي نُرِي محمداً صلى الله عليه وسلم من آياتنا العظيمة التي من جملتها ذهابه في برهة من الليل ، مسيرة شهر ، ومشاهدة بيت المقدس ، وتمثل الأنبياء له ، ووقوفه على مقاماتهم العلية .
قيل : أراد تعالى أن يريه صلى الله عليه وسلم من الآيات الحسية بعد ما أراه الآيات العقلية ؛ لأن الآيات الحسية أكبر في قطع الشبهة ودفع الوساوس من العقلية ؛ إذ لا يشك أحد فيما كان سبيل معرفته الحس والعيان . وقد تعترض الشبهة والوساوس في العقليات ؛ لأنه لا يشك أحد في نفسه أنه هو . فشاء عز وجل أن يري رسوله آيات حسية فتدفع المنصفين إلى قبولها والإيمان بها والإقرار له بالرسالة ؛ إذ ليس ذلك عمل سحر ولا افتراء ولا أساطير الأولين ، كذا يستفاد من " التأويلات " لأبي منصور .
وما أحسن ما قاله ابن إسحاق : كان في مسراه صلى الله عليه وسلم وما ذكر منه بلاء وتمحيص ، وأمر من أمر الله في قدرته وسلطانه . فيه عبرة لأولي الألباب ، وهدى ورحمة وثباتاً لمن آمن بالله وصدق . وكان من أمر الله سبحانه وتعالى على يقين . فأسرى به سبحانه وتعالى كيف شاء ليريه من آياته ما أراد . حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم ، وقدرته التي يصنع بها ما يريد . انتهى .
وقوله تعالى : { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } أي : السميع لأقوال عباده وأفعالهم ، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء .
تنبيهات :
الأول : دلت هذه الآية على ثبوت الإسراء ، وهو سير النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ليلاً . وأما العروج إلى السماوات وإلى ما فوق العرش ، فهذه الآية لا تدل عليه . ومنهم من يستدل عليه بأول سورة النجم . والكلام عليه ثمة .
الثانية : ذهب الأكثرون إلى أن الإسراء كان بعد المبعث ، وأنه قبل هجرته [ في المطبوع : هجرة ] بسنة . قاله الزهري وابن سعد وغيرهما . وبه جزم النووي ، وبالغ ابن حزم فنقل الإجماع فيه . وقال : كان في رجب سنة اثنتي عشرة من النبوة .
وفي " إنسان العيون " : أن تلك الليلة كانت ليلة سبع عشرة . وقيل : سبع وعشرين خلت من ربيع الأول ، وقيل : ليلة تسع وعشرين خلت من رمضان ، وقيل : سبع وعشرين خلت من ربيع الآخر ، وقيل : من رجب . واختار هذا الأخير الحافظ عبد الغني المقدسي ، قال : وعليه عمل الناس . والله أعلم .
الثالث : في " زاد المعاد " لابن القيم : كان الإسراء مرة واحدة . وقيل : مرتين : مرة يقظة ومرة مناماً . وأرباب هذه القول كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين حديث شريك وقوله < ثم استيقظت > وبين سائر الروايات . ومنهم من قال : بل كان هذا مرتين : مرة قبل الوحي ؛ لقوله في حديث شريك ( وذلك قبل أن يوحى إليه ) ومرة بعد الوحي كما دلت عليه سائر الأحاديث . ومنهم من قال : بل ثلاث مرات : مرة قبل الوحي ، ومربين بعده . وكل هذا خبط ، وهذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل ، الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف سياق بعض الروايات ، جعلوه مرة أخرى . فكلما اختلفت عليهم الروايات عددوا الوقائع . والصواب الذي عليه أئمة النقل ؛ أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة . ويا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مراراً ! كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة تفرض عليه الصلوات خمسين ، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمساً ، ثم يقول أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي ، ثم يعيدها في المرة الثانية إلى الخمسين ثم يحطها عشراً عشراً ؟ ! .
الرابع : قال القاضي عياض ، عليه الرحمة ، في " الشفا " : اختلف السلف والعلماء هل كان إسراء بروحه أو جسده ؟ على ثلاث مقالات : فذهبت طائفة على أنه إسراء بالروح ، وأنه رؤيا منام ، مع اتفاقهم أن رؤيا الأنبياء حق ووحي . وإلى هذا ذهب معاوية ، وحكي عن الحسن ( والمشهور عنه خلافه ) وإليه أشار محمد بن إسحاق . وحجتهم قوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ } [ الإسراء : 60 ] وما حكوا عن عائشة : ما فقدت جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله < بينا أنا نائم > ، وقول أنس : ( وهو نائم في المسجد الحرام ) وذكر القصة ، ثم قال في آخرها : ( فاستيقظ وأنا بالمسجد الحرام ) .
وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه إسراء بالجسد وفي اليقظة . وهذا هو الحق ، وهذا قول ابن عباس وجابر وأنس وحذيفة وعمر وأبي هريرة ومالك بن صعصعة وأبي حبة البدري وابن مسعود والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة وابن المسيب وابن شهاب وابن زيد والحسن وإبراهيم ومسروق ومجاهد وعكرمة وابن جريج . وهو دليل قول عائشة . وهو قول الطبري وابن حنبل وجماعة عظيمة من المسلمين . وهو قول أكثر المتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والمفسرين .
وقالت طائفة : كان الإسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس . وإلى السماء بالروح ، واحتجوا بقوله : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء الذي وقع التعجب فيه بعظيم القدرة والتمدح بتشريف النبي وإظهار الكرامة له بالإسراء إليه . قال هؤلاء : ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره ، فيكون أبلغ في المدح .
ثم اختلفت هاتان الفرقتان : هل صلى ببيت المقدس أم لا ؟ ففي حديث أنس وغيره صلاته فيه . وأنكر ذلك حذيفة وقال : والله ! ما زالا عن ظهر البراق حتى رجعا .
ثم قال القاضي عياض : والحق في هذا والصحيح ، إن شاء الله ، أنه إسراء بالجسد والروح في القصة كلها . وعليه تدل الآية وصحيح الأخبار والاعتبار . ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل ، إلا عند الاستحالة ، وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة ؛ إذ لو كان مناماً لقال : ( بروح عبده ) ولم يقل ( بعبده ) وقوله : { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } [ النجم : 17 ] ، ولو كان مناماً لما كانت فيه آية ولا معجزة ، ولما استبعده الكفار ولا كذبوه ، ولا ارتد به ضعفاء من أسلم وافتتنوا به ؛ إذ مثل هذا من المنامات لا ينكر . بل لم يكن ذلك منهم إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه وحال يقظته ، إلى ما ذكر في الحديث ، من ذكر صلاته بالأنبياء ببيت المقدس في رواية أنس ( أو في السماء ) على ما روى غيره ، وذكر مجيء جبريل له بالبراق وخبر المعراج واستفتاح السماء فيقال : ومن معك ؟ فيقول : محمد . ولقائه الأنبياء فيها وخبرهم معه وترحيبهم به وشأنه في فرض الصلاة ومراجعته مع موسى في ذلك .
وفي بعض هذه الأخبار : < فأخذ ، يعني جبريل ، بيدي ، فعرج بي إلى السماء > إلى قوله : < ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام > ، وأنه وصل إلى سدرة المنتهى ، وأنه دخل الجنة ورأى فيها ما ذكره . قال ابن عباس : هي رؤيا عين رآها النبي صلى الله عليه وسلم ، لا رؤيا منام .
وعن الحسن فيه : < بينا أنا نائم في الحجر جاءني جبريل فهمزني بعقبه فقمت ، فجلست فلم أر شيئاً ، فعدت لمضجعي > . ذكر ذلك ثلاثاً ، فقال في الثالثة : < فأخذ بعضدي فجرني إلى باب المسجد ، فإذا بدابة > ، وذكر خبر البراق .
وعن أم هانئ : ما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي تلك الليلة . صلى العشاء الآخرة ونام بيننا . فلما كان قبيل الفجر أَهَبْنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فلما صلى الصبح وصلينا قال : يا أم هانئ ! لقد صليت معكم العشاء الآخرة ، كما رأيت بهذا الوادي ، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ، ثم صليت الغداة معكم الآن كما ترون . وهذا بيِّنٌ في أنه بجسمه .
وعن أبي بكر ( من رواية شَدَّاد بن أوس عنه ) أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به : طلبتك يا رسول الله البارحة في مكانك فلم أجدك . فأجابه : أن جبريل حمله إلى المسجد الأقصى .
وعن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < صليت ليلة أسري بي في مقدم المسجد ثم دخلت الصخرة > ، وهذه التصريحات ظاهرة غير مستحيلة ، فتحمل على ظاهرها .
وعن أبي ذرِّ رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : < فرج سقف بيتي وأنا بمكة ، فنزل جبريل ثم أخذ بيدي فعرج بي > .
وعن أنس : < أتيت فانطلقوا بي إلى زمزم > . وعن أبي هريرة : < لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي ، فسألتني عن أشياء لم أثبتها ، فكربت كربا ما كربت مثله قط ، فرفعه الله لي أنظر إليه > . ونحوه عن جابر .
وقد روى عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث الإسراء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : < ثم رجعت إلى خديجة وما تحولت عن جانبها > .
ثم قال القاضي عياض " في إبطال حجج من قال : إنها نوم " : احتجوا بقوله : { وَمَا جَعَلنا الرُّؤْيا } فسماها ( رؤيا ) . قلنا : قوله : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } يرده ؛ لأنه لا يقال في النوم ( أسرى ) .
وقوله : { فِتنَةً للِنَّاسِ } يؤيد أنها رؤيا عين وإسراء شخص ؛ إذ ليس في الحلم فتنة ، ولا يكذب به أحد ؛ لأن كل أحد يرى مثل ذلك في منامه من الكون في ساعة واحدة في أقطار متباينة . على أن المفسرين قد اختلفوا في هذه الآية . فذهب بعضهم إلى أنها نزلت في قصة الحديبية وما وقع في نفوس الناس من ذلك . وقيل غير هذا .
وأما قولهم : إنه قد سماها في الحديث مناماً ، وقوله في حديث آخر : < بين النائم واليقظان > . وقوله أيضاً : وهو نائم . وقوله : < ثم استيقظت > ، فلا حجة فيه ؛ إذ يحتمل أن أول وصول الملك إليه كان وهو نائم . أو أول حلمه والإسراء به وهو نائم . وليس في الحديث أنه كان نائماً في القصة كلها إلا ما يدل عليه : < ثم استيقظت وأنا في المسجد الحرام > فلعل قوله < استيقظت > بمعنى أصبحت . أو استيقظ من نوم آخر بعد وصوله بيته . ويدل عليه : أن مسراه لم يكن طول ليلة ، وإنما كان في بعضه . وقد يكون قوله : < استيقظت وأنا في المسجد الحرام > لما كان غَمَرَهُ من عجائب ما طالع من ملكوت السماوات والأرض ، وخامر بطنه من مشاهدة الملأ الأعلى ، وما رأى من آيات ربه الكبرى . فلم يستفق ويرجع إلى حال البشرية إلا وهو بالمسجد الحرام . ووجه ثالث : أن يكون نومه واستيقاظه حقيقة على مقتضى لفظه ، ولكنه أسرى بجسده وقلبه حاضر ، ورؤيا الأنبياء حق . تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم .
وقد مال بعض أصحاب الإشارات إلى نحو من هذا . قال : تغميض عينيه لئلا يشغله شيء من المحسوسات عن الله ، ولا يصح هذا أن يكون في وقت صلاته بالأنبياء ، ولعله كانت له في هذا الإسراء حالات .
ووجه رابع : وهو أن يعبر بالنوم ها هنا عن هيئة النائم من الاضطجاع . ويقويه قوله في رواية عبد بن حميد عن هَمَّام : < بينا أنا نائم > ، وربما قال < مضطجع > ، وفي رواية هدبة عنه < بينا أنا في الحطيم > ، وربما قال < في الحجر مضطجع > . وقوله في الرواية الأخرى : < بين النائم واليقظان > فيكون سمى هيئته بالنوم لما كانت هيئة النائم غالباً . وذهب بعضهم إلى أن هذه الزيادات من النوم ، وذكر شق البطن ، ودنوُّ الرب ، الواقعة في هذا الحديث ، إنما هي من رواية شريك عن أنس . فهي منكرة من روايته . انتهى كلام عياض . وبقيت له بقية من شاء فليراجعها .
الخامس : جملة الأقوال في الإسراء والمعراج ، على ما حكاه ابن القيم في " زاد المعاد " ستة : بروحه وجسده وهو الذي صححوه ، وقيل : كان ذلك مناماً ، وقيل : بل يقال أسري به ولا يقال يقظة ولا مناماً ، وقيل : كان الإسراء إلى بيت المقدس يقظة وإلى السماء مناماً ، وقيل : كان الإسراء مرتين ، مرة يقظة ومرة مناماً . وقيل : بل أسري به ثلاث مرات . وكان ذلك بعد البعث بالاتفاق . وأما ما وقع في حديث شريك أن ذلك قبل أن يوحى إليه ، فقيل : هو غلط ، وقيل : الوحي هنا مقيد وليس بالوحي المطلق الذي هو مبدأ النبوة . والمراد : قبل أن يوحى إليه في شأن الإسراء ، فأسري به فجأة من غير تقدم إعلام ، وقد قدمنا أن عائشة ومعاوية والحسن ، نقل الأكثرون عنهم ؛ أنها رؤيا منام . وكذا حكى ابن جرير عن حذيفة ، إلا أن ابن القيم نبه على دقيقة غريبة . قال رحمه الله : نقل ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية أنهما قالا : إنما كان الإسراء بروحه ولم يفقد جسده . ونقل عن الحسن البصري نحو ذلك . ولكن ينبغي أن يعلم الفرق بين أن يقال : كان الإسراء مناماً ، وبين أن يقال : كان بروحه دون جسده . وبينهما فرق عظيم . وعائشة ومعاوية لم يقولا كان مناماً ، وإنما قالا : أسرى بروحه ولم يفقد جسده . وفرق بين الأمرين . فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالاً مضروبة للمعلوم في الصور المحسوسة . فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء ، أو ذهب به إلى مكة وأقطار الأرض ، وروحه لم تصعد ولم تذهب . وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال . والذين قالوا عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم طائفتان : طائفة قالت : عرج بروحه وبدنه . وطائفة قالت : عرج بروحه ولم يفقد بدنه . وهؤلاء لم يريدوا أن المعراج كان مناماً . وإنما أرادوا أن الروح ذاتها أسري بها وعرج بها حقيقة . وباشرت من جنس ما تباشر بعد المفارقة في صعودها إلى السماوات سماء سماء ، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة ، فتقف بين يدي الله عز وجل . فيأمر فيها بما يشاء ، ثم تنزل إلى الأرض . فالذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء أكمل مما يحصل للروح عند المفارقة . ومعلوم أن هذا أمر فوق ما يراه النائم . لكن لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام خرق العوائد حتى شق بطنه وهو حيّ لا يتألم ؛ كذلك عرج بذات روحه المقدسة حقيقة من غير إماتة . ومن سواه صلى الله عليه وسلم ، لا تنال ذات روحه الصعود إلى السماء إلا بعد الموت والمفارقة . فالأنبياء إنما استقرت أرواحهم هناك بعد مفارقة الأبدان . وروح رسول الله صلى الله عليه وسلم صعدت إلى هناك في حال الحياة ثم عادت . وبعد وفاته استقرت في الرفيق الأعلى مع أرواح الأنبياء . ومع هذا فلها إشراف على البدن ، وإشراق وتعلق به . بحيث يرد السلام على من سلم عليه . وبهذا التعلق رأى موسى قائماً يصلي في قبره ، ورآه في السماء السادسة . ومعلوم أنه لم يعرج بموسى من قبره ثم رد إليه ، وإنما ذلك مقام روحه واستقرارها ، وقبره مقام بدنه واستقراره إلى يوم معاد الأرواح إلى أجسادها . فرآه يصلي في قبره ، ورآه في المساء السادسة . كما أنه صلى الله عليه وسلم في أرفع مكان في الرفيق الأعلى مستقراً هناك ، وبدنه في ضريحه غير مفقود . وإذا سلم عليه المسلم ، ردَّ الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ، ولم يفارق الملأ الأعلى . ومن كثف إدراكه وغلظت طباعه عن إدراك هذا ؛ فلينظر إلى الشمس في علوِّ محلها وتعلقها وتأثيرها في الأرض ، وحياة النبات والحيوان بها . هذا ، وشأن الروح فوق هذا . فلها شأن وللأبدان شأن . وهذه النار تكون في محلها ، وحرارتها تؤثر في الجسم البعيد عنها . مع أن الارتباط والتعلق الذي بين الروح والبدن أقوى وأكمل من ذلك وأتم . فشأن الروح أعلى من ذلك وألطف .
~فقلْ للعيونِ الرُّمْدِ إياكِ أنْ ترَيْ سنا الشَّمسِ فاستغشِي ظلامَ اللَّيَاليَا
انتهى كلام ابن القيم .
وقال العلامة سعدي في " حواشي البيضاوي " : والمعراج بروحه في اليقظة - وهو الذي أشار إليه ابن القيم - خارق أيضاً للعادة . انتهى .
وتعقب العلامة القنوي له : بأنه نوع مراقبة وانسلاخ ، والذي ذهب إليه الصوفية ساقط ؛ لأنه فوقه بكثير . بل غيره كما تبين قبل . وبالجملة ، فالذي فهمه الأكثرون من قول عائشة ومعاوية وحذيفة والحسن ؛ أن ذلك رؤيا منام . وما ذكره ابن القيم من أنه إسراء بالروح ؛ فيحتمله اللفظ المأثور عنهم .
ونظيره قوله بعضهم : إن ذلك كان أمراً إعجازياً . والحقيقة أنه كشفٌ روحانِيٌّ . وقد قرروا في عدم استحالة كونه يقظة بالروح والجسم ؛ أن خالق العالم قادر على كل الممكنات . وحصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد في جسده صلى الله عليه وسلم ممكن . فوجب كونه تعالى قادراً عليه . وغاية ما في الباب أنه خلاف العادة . والمعجزات كلها كذلك . وفي " العقائد النسفية وحواشيها " : الخرق والالتئام على السماوات جائز ؛ لأن الأجسام كلها متماثلة في تركبها من الجواهر الفردة ، فيصح على كلِّ ما يصح على الآخر . فالأجسام العنصرية قابلة للخرق والالتئام . وكذا الأجسام الفلكية . والله تعالى قادراً على الممكنات كلها . فيكون قادراً على الخرق في السماوات ؛ لأنه ممكن فيها . وفي الرازي براهين أخر . فانظرها .
جاء في كتاب " إظهار الحق " : أن بعض أهل الكتاب مارى في المعراج ، فبُكّتْ بأن صعود الجسم العنصري إلى الأفلاك صرحت به التوراة الموجودة لديهم في ( أخنوخ ) . وأنه نقل حيّاً إلى السماء لئلا يرى الموت . كما في الفصل الخامس من سفر التكوين . وصرَّحت في صعود ( إليا ) في الفصل الثاني من سفر الملوك . وفي إنجيل مرقس في الفصل السادس عشر التصريح برفع المسيح عليه السلام إلى السماء . انتهى .
أقول : أخنوخ : هو إدريس عليه السلام ، المنوه به في قوله تعالى : { وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } [ مريم : 57 ] ، وإيليا : نَبِيٌّ أرسل إلى آحاب أحد ملوك اليهود الكفرة ، الذين شهروا عبادة بعل وغيره من الأصنام بالسامرة . وتسمى الآن : سِبَسطِيَّة : من قسم الأرض المقدسة ، زعموا أنه ظهرت على يد إيليا خوارق باهرة . وأنه قتل سدنة بعل وهدم مذبحه ، إلى أن ارتفع في مركبة نارية وخيل نارية نحو السماء ، جانب نهر الأردن في بطاح أريحا ، شاهده خليفته اليشاع النبي بعده . كذا في تاريخ الكتاب المقدس . و ( إيليا ) : هو إلياس ، و ( اليشاع ) : هو اليسع المذكوران في القرآن المجيد .
وقد نوه بالأول في سورة الصفات بقوله تعالى : { وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ وَاللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ } [ الصافات : 123 - 126 ] .
السادس : قيل : إن المسجد الأقصى في زمن الإسراء كان خرابا بشهادة التاريخ . وذلك لأن سليمان عليه السلام بناه على مكان الصخرة . ثم خرب وألقيت على الصخرة زبالة البلد عنادا لليهود . وبقي كذلك حتى فتح أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه القدس . انظر ( تاريخ أبي الفداء ) وغيره . فكيف أطلق عليه اسم المسجد ؟ وأجيب : بأن المسجد في حال هدمه يسمى مسجداً ، باعتبار ما كان عليه وما وضع له ، كما أطلق المسجد على حرم مكة ، وهو لم يكن يومئذ مسجداً . وإنما كان بيتاً للأصنام .
لكن إبراهيم وإسماعيل ، لما بنيا الكعبة للعبادة الصحيحة ، كما بنى سليمان هيكله هذا لها ، سمي مسجداً بهذا الاعتبار . أو يقال : إنه أطلق عليهما اسم المسجد للإشارة إلى ما يؤول إليه أمرهما . وهو كونهما مسجدين للمسلمين .
السابع : في التفاضل بين ليلة القدر وليلة الإسراء . سئل الإمام تقي الدين أحمد ابن تيمية رضي الله عنه ، عن رجل قال : ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر ، وقال آخر : بل ليلة القدر أفضل ، فأيهما المصيب ؟ .
فأجاب : أما القائل بأن ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر . إن أراد به أن تكون الليلة التي أسري فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم ونظائرها من كل عام أفضل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من ليلة القدر ، بحيث يكون قيامها والدعاء فيها أفضل منه في ليلة القدر . فهذا باطل لم يقله أحد من المسلمين ، وهو معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام . هذا إذا كانت ليلة الإسراء يعرف عينها . فكيف ولم يقم دليل معلوم لا على شهرها ولا عشرها ولا على عينها ؟ بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة ، ليس فيها ما يقطع به ، ولا شرع للمسلمين تخصيص الليلة ، التي يظن أنها ليلة الإسراء ، بقيام ولا غيره . بخلاف ليلة القدر فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه > وفي الصحيحين عنه : < تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان > . وقد أخبر سبحانه أنها خير من ألف شهر فإنه نزل فيها القرآن .
وإن أراد أن الليلة المعينة التي أسري فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وحصل له فيها ما لم يحصل له في غيرها ، من غير أن يشرع تخصيصها بقيام ولا عبادة ، فهذا صحيح . وليس إذا أعطى الله نبيه صلى الله عليه وسلم فضيلة في مكان أو زمان ، يجب أن يكون ذلك الزمان والمكان أفضل من جميع الأمكنة والأزمنة . هذا إذا قدَّر أنه قام دليل على أن إنعام الله تعالى على نبيه ليلة الإسراء كان أعظم من إنعامه عليه بإنزال القرآن ليلة القدر ، وغير ذلك من النعم التي أنعم عليه . والكلام في مثل هذا يحتاج إلى علم بحقائق الأمر ومقادير النعم التي لا تعرف إلا بوحي . ولا يجوز لأحد أن يتكلم فيها بلا علم .
ولا يعرف عن أحد من المسلمين أنه نقل لليلة الإسراء فضيلة على غيرها . لا سيما على ليلة القدر . ولا كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يقصدون تخصيص ليلة الإسراء بأمر من الأمور ولا يذكرونها . ولهذا لا يعرف أي : ليلة كانت . وإن كان الإسراء من أعظم فضائله صلى الله عليه وسلم ، ومع هذا لم يشرع تخصيص ذلك الزمان ولا ذلك المكان بعبادة شرعية . بل غار حراء الذي ابتدئ فيه بنزول الوحي ، وكان يتحراه قبل النبوة ، لم يقصده هو ولا أحد من أصحابه بعد النبوة مدة مقامه بمكة . ولا خص اليوم الذي أنزل فيه الوحي بعبادة ولا غيرها . ولا خص المكان الذي ابتدئ فيه الوحي ولا الزمان بشيء . ومن خص الأمكنة والأزمنة من عنده بعبادات لأجل هذا وأمثاله ، كان من جنس أهل الكتاب الذين جعلوا زمان أحوال المسيح مراسم وعبادات . كيوم الميلاد ، ويوم التعميد ، وغير ذلك من أحواله . وقد رأى عُمَر بن الخطاب جماعة يتبادرون مكاناً يصلون فيه . فقال : ما هذا ؟ قالوا : مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد ؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا . فمن أدركته فيه الصلاة فليصل ، وإلا فليمض . وقد قال بعض الناس : إن ليلة الإسراء في حق النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من ليلة القدر . وليلة القدر بالنسبة إلى الأمة أفضل من ليلة الإسراء . فهذه الليلة في حق الأمة أفضل لهم . وليلة الإسراء في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل له . انتهى . نقله الشمس ابن القيم " في زاد المعاد " .
الثامن : قال الشمس ابن القيم في " زاد المعاد " : اختلف الصحابة : هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه تلك الليلة أم لا ؟ فصح عن ابن عباس أنه رأى ربه . وصح عنه أنه قال : رآه بفؤاده . وصح عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك وقالا : إن قوله تعالى : { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى } [ النجم : 13 - 14 ] إنما هو جبريل . وصح عن أبي ذر أنه سأله : هل رأيت ربك ؟ قال : < نور ، أنى أراه ؟ ! > . أي : حال بيني وبين رؤية النور . كما قال في لفظ آخر : < رأيت نوراً > . وقد حكى عثمان بن سعيد الدارميِّ اتفاق الصحابة على أنه لم يره . قال شيخ الإسلام ابن تيمية ، قدس الله روحه : وليس قول ابن عباس أنه رآه مناقضاً لهذا . ولا قوله رآه بفؤاده . وقد صح عنه أنه قال : < رأيت ربي تبارك وتعالى > . ولكن لم يكن هذا في الإسراء ، و لكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح . ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه . وعلى هذا بنى الإمام أحمد رحمه الله وقال : نعم ، رآه حقاً . فإن رؤيا الأنبياء حق ولا بد . ولكن لم يقل أحمد : إنه رآه بعيني رأسه . ومن حكى عنه ذلك فقد وهم عليه . ولكن قال مرة : رآه ، ومرة قال : رآه بفؤاده . فحكيت عنه روايتان وحكيت عنه الثالثة . من تصرف بعض أصحابه أنه رآه بعيني رأسه . وهذه نصوص أحمد موجودة ليس فيها ذلك . وأما قول ابن عباس : رآه بفؤاده مرتين . فإن كان استناده إلى قوله تعالى : { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } [ النجم : 11 ] ، ثم قال : { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى } [ النجم : 13 ] ، والظاهر أنه مستنده ، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل . رآه مرتين في صورته التي خلق عليها . وقول ابن عباس هذا . هو مستند الإمام أحمد في قوله : رآه بفؤاده . والله أعلم .
التاسع : قال الحافظ [ في المطبوع : الجاحظ ] أبو الخطاب عُمَر بن دِحْية في كتابه " التنوير في مولد السراج المنير " بعد ذكره حديث الإسراء من طريق أنس : وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عُمَر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وأبي ذر ومالك بن صعصعة وأبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وشداد بن أوس وأبي بن كعب وعبد الرحمن بن قُرْط وأبي حبة وأبي ليلى الأنصاريين وعبد الله بن عَمْرو وجابر وحذيفة وبريدة وأبي أيوب وأبي أمامة وسمرة بن جُنْدب وأبي الحمراء وصهيب الرومي وأم هانئ وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين ، منهم من ساقه بطوله ومنهم من اختصره ، على ما وقع في المسانيد . وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة ؛ ، فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون . وأعرض عنه الزنادقة والملحدون . انتهى .
وقد نقل الرازي عن بعض المعتزلة رده لجمل فيه - ساقها - صعب عليهم دركها . ولا إشكال فيها في الحقيقة بحمده تعالى . ولكن هم وأمثالهم ممن ضعفت عنايتهم بفن الحديث وغلب عليهم فن المعقول . ولقد فاتهم بسبب ذلك خير كثير . وليس في الأحاديث الصحيحة ما يناقض المفعول أو الواقع ، بوجه ما ، يعلم ذلك الراسخون . وفوق كل ذي علم عليم .
وقد بقي ممن رواه من الصحابة . غير من تقدم ؛ سهل بن سعد وعبد الله بن حوالة الأزدي وعبد الله بن أسعد بن زرارة وأبو الدرداء وعبد الله بن عُمَر . وأما من رواه من التابعين مرسلاً فكثير ، منهم : الحسن بن الحسين عليهما السلام وكعب ومحمد بن الحنفية وعروة وسفيان الثوري والوليد بن مسلم وعبد الرحمن بن أبي ليلى وآخرون . كما يعلم من مراجعة " الدر المنثور " للحافظ السيوطي .
وأما طرقه في الصحيحين . فقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : إنها تدور على أنس بن مالك مع اختلاف أصحابه عنه . فرواه قتادة عنه عن مالك بن صعصعة . وليس في أحاديث المعراج أصح منه . ورواه الزهري عنه عن أبي ذر . ورواه شَرِيك بن أبي نمر وثابت البُناني عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة . وفي سياق كل منهم عنه ما ليس عند الآخر . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً } [ 2 - 3 ] .
{ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً } .
قال ابن كثير : لما ذكر تعالى أنه أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم عطف بذكر موسى عبده ورسوله وكليمه . فإنه تعالى كثيراً ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد عليهما السلام ، وبين ذكر التوراة والقرآن . وقال الرازي : لما ذكر الله تعالى في الآية الأولى إكرامه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن أسرى به ، ذكر في هذه الآية أنه أكرم موسى عليه الصلاة والسلام قبله بالكتاب الذي آتاه . وقال الشهاب في " العناية " : عقبت آية الإسراء بهذه ؛ استطراداً ، بجامع أن موسى عليه الصلاة والسلام أعطي التوراة بمسيره إلى الطور وهو بمنزلة معراجه ؛ لأنه صح ثمة التكليم ، وشُرِّف باسم الكليم مدمجاً فيه تفاوت ما بين الكتابين ومن أنزلا عليه . وإن شئت فوازن بين : { أَسْرَى بِعَبْدِهِ } و : { وَآتَيْنَا مُوْسَى } وبين : { هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ } و : { يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } . و ( الواو ) استئنافية أو عاطفة على جملة ( سبحان الذي أسرى ) الخ لا على ( أسرى ) لبعده ، وتكلفه . وضمير ( وجعلناه ) للكتاب أو لموسى و ( لبني إسرائيل ) متعلق بـ ( هدى ) أو بـ ( جعلناه ) ، وهي تعليلية .
وقوله : { أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً } أي : ولياً ومعبوداً تكلون إليه أموركم ؛ لأنه تعالى أنزل على كل نبي أرسله ، أن يعبده وحده لا شريك له ، وقد قرئ : { أَلّا يتَّخِذُوا } بالياء على الغيبة على حذف لام التعليل . والتقدير : جعلناه هدى لئلا يتخذوا . وقرئ بالتاء على الخطاب ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن ( أنْ ) بمعنى أي . وهي مفسرة لما تضمنه الكتاب من الأمر والنهي .
الثاني : أن ( أن ) زائدة ، أي : قلنا : لا تتخذوا .
الثالث : أن ( لا ) زائدة ، والتقدير : مخافة أن تتخذوا . والوكيل والموكول إليه . أي : المفوض إليه الأمور . وهو الرب . فـ ( فعيل ) بمعنى مفعول . و ( دون ) بمعنى غير . و ( من ) زائدة . أو تبعيضية . وقوله : { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } نصب على الاختصاص أو النداء . وفيه تهييج وتنبيه على المنة . والإنعام عليهم في إنجاء آبائهم من الغرق بحملهم مع نوح في السفينة . وإيماء إلى علة النهي . كأنه قيل : لا تشركوا به ، فإنه المنعم عليكم والمنجي لكم من الشدائد . وأنهم ضعفاء محتاجون إلى لطفه . وفي التعبير بـ ( الذرية ) الغالب إطلاقها على الأطفال والنساء ، مناسبة تامة لما ذكر . وذكر حملهم في السفينة ؛ للإشارة إلى أنه لم يكن لهم حينئذ وكيل يتكلون عليه سواه . وقوله : { عَبْداً شَكُوراً } أي : لمعرفته بنعم الله واستعمالها على الوجه الذي ينبغي . وفيه إيماء بأن إنجاءه ومن معه كان ببركة شكره ، وحث للذرية على الإقتداء به . وقيل : إنه استطراد . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً } [ 4 - 5 ] .
{ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ } أي : كتاب اللوح المحفوظ ، أي : حكمنا فيه : { لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ } يعني أرض فلسطين بيت المقدس التي بارك الله حولها . والإفساد بالكفر والمعاصي .
قال السمين : في تعدية ( قضينا ) بـ ( إلى ) تضمينه معنى أنفذنا . أي : أنفذنا إليهم بالقضاء المحتوم . ومتعلق القضاء محذوف . أي : بفسادهم . وقوله : { لَتُفْسِدُنَّْ } جواب قسم محذوف مؤكد لمعنى القضاء ، أو جواب لقوله : { وَقَضَيْنَا } لأنه ضمن معنى القسم . ومنه قولهم : ( قضاء الله لأفعلن كذا ) فيُجْرُون القضاء والقدر مجرى القسم ، فيتلقيان بما يتلقى به القسم . و ( مرتين ) أي : إفسادتين . منصوب على أنه مصدر ( لتفسدن ) من غير لفظه . وعدل عنه ؛ لأن تثنية المصدر وجمعه ليس بمطرد { وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً } أي : ولتستكبرن وتتعظمُنَّ عن طاعة الله تعالى ، أو لتظلمن الناس
{ فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا } أي : موعود أولى المرتين ، أي : وما وعدوا به في المرة الأولى ، يعني وعد المؤاخذة على أولى المفسدتين : { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي : ذوي قوة وبطش في الحرب ، شديد : { فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ } ترددوا خلال أماكنكم ومحالكم للقتل والسبي والنهب : { وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً } أي : مَقْضِياً لا صارف له .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً * عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } [ 6 - 8 ] .
{ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ } أي : بعد هذه المؤاخذة الشديدة ، رددنا ، عند توبتكم ، لكم الغلبة التي كانت لكم في الأصل ، عليهم : { وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } أي : قوماً ورهطاً . جمع ( نفر ) أو اسم جمع له . وأصله من ينفر مع الرجل من قومه . وقوله تعالى :
{ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } بمثابة التعليل لما قبله . أي : فعلنا ذلك لتعلموا أنكم إن أحسنتم توبتكم وأعمالكم ، أحسنتم لأنفسكم ، بإبقاء الغلبة لها والإمداد بالأموال والبنين وتكثير النفير : { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } أي : فإساءتكم ضارة لها بغلبة الأعداء وسلب الأموال والبنين والنفير : { فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ } أي : مؤاخذة المرة الآخرة وعقوبتها . وقوله تعالى : { لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ } متعلق بجواب ( إذا ) المحذوف . أي : بعثناهم ليسوؤا وجوهكم ، أي : ذواتكم بالإذلال والقهر .
قال الشهاب : عديت المساءة إلى الوجوه ، وإن كانت عليهم ؛ لأن آثار الأعراض النفسانية إنما تظهر في الوجه ، كنضارة الوجه وإشراقه بالفرح ، وكلوحه وسواده بالخوف والحزن . فالوجه ، بمعنى الذات مجاز مرسل ، أو استعارة تبعية . وقيل : الوجوه بمعنى الرؤساء . وهو تكلف . واختير هذا على ( لِيَسُوؤكُم ) مع أنه أخصر وأظهر ؛ إشارة إلى أنه جمع عليهم ألم النفس والبدن ، المدلول بقوله : { وَلِيُتَبِّرُواْ } . انتهى .
وقوله تعالى : { وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ } أي : الأقصى : { كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ } أي : يدمروا : { مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } أي : عظيماً فظيعاً ، والتتبير : التدمير . وكل شيء كسرته وفتَّته فقد تبرته . ثم أشار إلى أن فعله تعالى ليخلصوا توبتهم وأعمالهم بقوله :
{ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ } أي : إذا أخلصتم الإنابة [ المطبوع : إذ أخلصتم للإنابة ] ، وأحسنتم الأعمال ، وأقمتم الكتاب وما نزل إليكم ؛ لأنكم علمتم من سنته تعالى أنه لا ينزل بلاء إلا بذنب ولا يرفعه إلا بتوبة ، ولذا قال : { وَإِنْ عُدتُّمْ } أي : بعد هذه التوبة والإنابة إلى الاستكبار : { عُدْنَا } أي : إلى تسليط الأعداء وسلب الأموال والأولاد في الدنيا .
{ وَجَعَلْنَا } أي : يوم القيامة : { جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } أي : محبساً وسجناً يحصرهم في العذاب والحرمان عن الثواب .
قال الشهاب : إن كان - ( حصيراً ) - اسماً للمكان فهو جامد لا يلزم تذكيره وتأنيثه . وإن كان بمعنى حاصراً أي : محيطاً بهم ، وفعيل بمعنى فاعل ؛ يلزم مطابقته ، فإما لأنه على النسب ، كلابن وتامر . أو لحمه على ( فعيل ) بمعنى ( مفعول ) . أو لأن تأنيث جهنم غير حقيقي ، أو لتأويلها بمذكر . انتهى .
وقيل : حصيراً ، أي : بساطاً كما يبسط الحصير . مثل قوله تعالى : { لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ } [ الأعراف : 41 ] ، فهو تشبيه بليغ . والحصير بهذا المعنى بمعنى محصور لحصر بعض طاقاته على بعض . كما قاله الراغب .
تنبيه :
روي أن بني إسرائيل كان الأمر مستتباً لهم في فلسطين إلى موت سليمان عليه السلام ، فلما ملك ابنه بعده ، وذلك قبل المسيح بما ينيف على تسعمائة سنة ، وقع من الاختلال في عهده ما أفضى إلى تقريره عبادة الأوثان . فعوجل بعد خمس سنين من ملكه بأخذ ملك مصر بيت المقدس وسلب كنوز هيكلها ( المسجد الأقصى ) ونهب ما فيها . ولما ساء تصرفه تمرد عليه شعبه وخلعوا طاعته . فانقسمت مملكته إلى قسمين : أحدهما : دعي مملكة يهوذا ، وهي المؤلفة من سبطي يهوذا وبنيامين ، بقيا خاضعين لابن سليمان .
وثانيهما : دعي مملكة إسرائيل ، وهي المؤلفة من بقية الأسباط العشرة . وكان أول ملك على مملكة إسرائيل رجل يقال له يربعام ، خاف من رجوع رعاياه إلى طاعة ابن سليمان إذا صعدوا إلى أورشليم في الأعياد الاحتفالية ليعبدوا الله في الهيكل ويقربوا ذبائحهم هناك . فأقام في مملكته عجلين من ذهب . وأمر رعيته بعبادتهما . ورتب لهم أعياداً احتفالية وكهنة . وقامت حروب هائلة بين ملوك هاتين الطائفتين . وكان يتخللهما من الملوك من ينزع عبادة الأوثان . إلا أنه لا يلبث الحال حين يأتي ملك آخر فيعيد الوثنية . واستمرت مملكة إسرائيل نحواً من مائتين وخمسين سنة . وفي نهاية أمرهم عظمت خطيئاتهم فسلط عليهم ملك أشُّور ، ففتح السامرة - بلدهم - وسباهم إلى أشُّور وانقرضت مملكة العشرة الأسباط ، ولم يسمع ذكرهم بعد . ثم أرسل مللك أشُّور قوماً من بلده وأسكنهم مدن السامرة ليعمروها مع من بقي من أهلها . وأرسل معهم كاهناً من اليهود ليقيم لمن بقي طقوسهم . فعادوا إلى شركهم وعبادة الأوثان مع الله تعالى . وأما مملكة يهوذا فبقيت بعد انقراض مملكة إسرائيل ما ينيف على عشرين سنة ، وفي أواخر أيامها قام فيها ملك شرير . فزحف إليه ملك بابل نبوخذ ناصر ( بختنصر ) فسبى قسماً من شعبه ، وكان السبي الأول .
ثم قام ، بعد ذلك الملك الشرير ، ابنُه ، فسار على طريقة أبيه . فعاد إليه ملك بابل المذكور واستأسره هو وآله ورؤساءه وقسماً من الشعب ، وسلب الهيكل . وكان هذا السبي الثاني بعد ثماني سنيين من الأول .
ثم قام فيهم ملك أشَرُّ ممن تقدم - وهو آخر ملوكهم - وفي أيامه حاصر ملك بابل المذكور أيضاً بيت المقدس ، وأسره إلى بابل ، وأحرق المدينة والهيكل ، وسبى كل شعب يهوذا ، ما عدا مساكين الأرض ، إلى بابل . وهذا هو السبي الثالث والأخير .
و هكذا انقرضت هذه المملكة وكانت إقامتهم في بابل سبعين سنة . ثم أطلقوا من الأسر فعادوا إلى بيت المقدس . وجددوا عمارتها وقيام الهيكل . وبقيت اليهود تحت تسلط ملوك الفرس إلى أن ظهر الإسكندر الكبير ، وغلبت اليونان الفرس وجاء الإسكندر إلى سورية فدخل بنو إسرائيل تحت حكم اليونان . وبعد وفاة الإسكندر انقسم ملكه إلى أربعة أقسام :
منها مملكة سورية ومصر . وكانت بينهما حروب متصلة . والإسرائيليون ، لما كانوا بينهم ، كانوا تارة تحت تملك مصر وأخرى تحت تسلط سورية . واتفق في خلال ذلك أن رفض كثير من اليهود الديانة اليهودية ، وتمسكوا بديانة اليونانيين .
ثم استولى الرومانيين على فلسطين . وجرت حروب هائلة بينهم وبين اليهود ، أفضى الأمر إلى تسلط الرومانيين عليهم . وتملكوا بيت المقدس . وهدم تيطس ، أحد ملوكهم ، الهيكل إلى أساسه . وأحرق كتب اليهود وتشتت أمرهم ، ولم يبق لهم ملك ولا رئاسة بعده ، وزعموا أن ذلك بعد رفع المسيح بنحو أربعين سنة ، وزعموا أن الهيكل تراجع للعمارة ورمم ، إلى أن سارت هيلانة أم قسطنطين إلى القدس وبنت كنيسة على القبر ، الذي يزعم النصارى أنه قبر المسيح . وخربت الهيكل . وأمرت أن تلقى فيه قمامات البلد وزبالته . فصار موضع الصخرة مزبلة . وبقي كذلك حتى قدم عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه وفتح القدس . فأمر بتنظيفه وبنى في قبلته مسجداً ، إلى أن ملك الوليد بن عبد الملك ، فجدد بناءه على أساسه القديم وبنى قبة الصخرة .
وتفصيل هذه الماجريات معروفة في كتب التاريخ . ونحن لم نورد ما أوردناه على أنه تفسير للآية . لأنها بإيجازها غنية عنه . وفي تفسيرنا لألفاظها كفاية في فهمها ، إلا أن أكثر المفسرين تطرقوا لبعض ماجريات اليهود هنا ، فنقحنا منها أحسن ما حرره المؤرخون المتأخرون ؛ إيضاحاً لأفاعيلهم التي أشارت إليها الآيات الكريمة .
وقد قدمنا في سورة يوسف ؛ أنه ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار . وإنما هي الآيات في العبر تجلت في سياق الوقائع . ولذلك لم تذكر قصة بتفاصيلها . وإنما يذكر موضع العبرة فيها . كما قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } [ يوسف : 111 ] .
ثم بيَّن تعالى مزية التنزيل الكريم التي فاق بها سائر ما أنزل ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً } [ 9 ] .
{ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } أي : للحالة التي هي أقوم الحالات وأسدها ، أو للملة ، أو للطريقة .
قال الزمخشري : وأينما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف ؛ لما في إبهام الموصوف بحذفه ، من فخامة تفقد مع إيضاحه .
{ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً } أي : يبشر المخلصين في إيمانهم ، وهم الذين يعملون الصالحات كلها ، ويجتنبون السيئات ؛ أن لهم في الدنيا والآخرة ثواباً وافراً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً } [ 10 - 11 ] .
{ وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ } أي : بالبعث والجزاء على الأعمال : { أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } أي : في الآخرة ، وهو عذاب النار .
{ وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ } أي : مثل دعائه بالخير : { وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً } قال أبو السعود : الآية بيان لحال المهدي إثر بيان حال الهادي . وإظهار لما بينهما من التباين . والمراد بالإنسان الجنس ، أُسند إليه حال بعض أفراده . أو حكى عنه حاله في بعض أحيانه . فالمعنى ، على الأول : أن القرآن يدعو الإنسان إلى الخير الذي لا خير فوقه من الأجر الكبير . ويحذره من الشر الذي لا شر وراءه من العذاب الأليم ، وهو ، أي : بعض منه وهو الكافر ، يدعو لنفسه بما هو الشر من العذاب المذكور ، إما بلسانه حقيقة كدأب من قال : { اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] ، ومن قال : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [ الأعراف : 70 ] ، إلى غير ذلك مما حكى عنهم . وإما بأعمالهم السيئة المفضية إليه ، الموجبة له مجازاً ، كما هو ديدن كلهم . وقوله : { وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً } يعني بالإنسان : من أسند إليه الدعاء المذكور من أفراده . عجولاً يسارع إلى طلب ما يخطر بباله ، متعامياً عن ضرره . أو مبالغاً في العجلة ، يستعجل العذاب وهو آتيه لا محالة . ففيه نوع تهكم به . وعلى تقدير حمل الدعاء على أعمالهم ، تحمل العجولية على اللج والتمادي في استيجاب العذاب بتلك الأعمال .
وعلى الثاني : أن القرآن يدعو الإنسان إلى ما هو خير . وهو في بعض أحيانه ، كما عند الغضب ، يدعه ويدعو الله تعالى لنفسه وأهله وماله بما هو شر . وكان الإنسان بحسب جبلته عجولاً ضجراً لا يتأنى إلى أن يزول عنه ما يعتريه . أو يدعو بما هو شر وهو يحسبه خيراً . وكان الإنسان عجولاً غير متبصراً لا يتدبر في أموره حق التدبر ليتحقق ما هو خير حقيق بالدعاء به ، وما هو شر جدير بالاستعاذة منه . انتهى .
ثم أشار تعالى إلى بعض وجوه الهداية في القرآن ، بالإرشاد إلى مسلك الاستدلال بالآيات والدلائل الآفاقية ، التي كل منها برهان نَيْرٌ لا ريب فيه . ومنهاج بَيْنٌ لا يضل من ينتحيه ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } [ 12 ] .
{ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ } أي : جعلناهما ، بهيئاتهما وتعاقبهما واختلافهما في الطول والقصر ، علامتين تدلان على أن لهما خالقاً حكيماً { فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ } أي : بجعلها مظلمة : { وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً } أي : مضيئة لتمييز الأشياء المحسوسة . والإضافة فيهما إما بيانية ، أي : الآية التي هي الليل ، والآية التي هي النهار . وإما حقيقية . وآية الليل والنهار نيراهما . والمراد بمحو القمر خلقه مطموس النور في نفسه . أو نقص ما استفاده من الشمس شيئاً فشيئاً إلى المحاق . وبجعل الشمس مبصرة إبداعها مضيئة بالذات ، ذات أشعة تبصر بها الأشياء . فالإسناد في ( مبصرة ) مجازي إلى السبب العادي ، أو تجوز بعلاقة السبب . وقوله تعالى : { لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } متعلق بـ ( جعلنا ) أي : لتطلبوا في النهار رزقاً منه سبحانه بالانتشار للمعاش والصناعات والأعمال والأسفار { وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } أي : الحساب المتعلق بما في ضمن السنين من الأشهر والليالي والأيام ، أو الحساب الجاري في المعاملات ، كالبيوع والإجارات ، وفي العبادات ، أي : لتعرف مضي الآجال المضروبة لذلك ؛ إذ لولاه لما علم أحد حسبان الأوقات ولتعطلت الأمور .
قال السيوطي في " الإكليل " : هذه الآية أصل في علم المواقيت والهيئة والتاريخ . وفي الآية لف ونشر غير مرتب . انتهى .
وقوله تعالى : { وَكُلَّ شَيْءٍ } أي : مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم : { فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } أي : بيناه في القرآن بياناً بليغاً لا التباس معه . كقوله تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ } [ النحل : 89 ] ، فظهر كونه هادياً للتي هي أقوم ظهوراً بيناً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُورا ً *اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً* م َّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ 13 - 15 ] .
{ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } أي : ألزمناه عمله الصادر منه باختياره خيراً وشراً ، بحيث لا يفارقه أبداً . بل يلزمه لزوم الطوق في العنق ، لا ينفك عنه بحال .
قال الطبري : المعنى : وكل إنسان ألزمناه ما قضي أنه عامله ، وهو صائر إليه من شقاء أو سعادة بعمله ، في عنقه لا يفارقه . وإنما قوله : { أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } مثل لما كانت العرب تتفاءل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها .
وذلك أن العرب كانوا إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال ؛ وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى شر ، اعتبروا أحوال الطير : وهو أنه يطير بنفسه أو يحتاج إلى إزعاجه . وإذا طار فهل يطير متيامناً أو متياسراً أو صاعداً إلى الجو ، إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ، ويستدلون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر والسعادة والنحوسة ، فلما كثر ذلك منهم ، سمي الخير والشر بالطائر ، تسمية للشيء باسم لازمه .
قال الطبري : فأعلمهم جل ثناؤه أن كل إنسان منهم قد ألزمه ربه طائره في عنقه ، نحساً كان ذلك الذي ألزمه من الطائر وشقاء يورده سعيراً ، أو كان سعداً يورده جنان عدن . وإنما أضيف إلى العنق ولم يضف إلى اليد أو غيرها من أعضاء الجسد ، قيل : لأن العنق هو موضع السمات وموضع القلائد والأطوقة وغير ذلك مما يزين أو يشين ، فجرى كلام العرب بنسبة الأشياء اللازمة ببني آدم وغيرهم من ذلك ، إلى أعناقهم . وكثر استعمالهم ذلك حتى أضافوا الأشياء اللازمة سائر الأبدان إلى الأعناق . كما أضافوا جنايات أعضاء الأبدان إلى اليد ، فقالوا : ذلك بما كسبت يداه . وإن كان الذي جر عليه لسانه أو فرجه . فكذلك قوله : { أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } وحاصله : - كما قاله الرازي - أن قوله : { في عُنُقِهِ } كناية عن اللزوم . كما يقال : ( جعلت هذا في عنقك ) أي : قلدتك هذا العمل وألزمتك الاحتفاظ به . ويقال : ( قلدتك كذا وطوقتك كذا ) أي : صرفته إليك وألزمته إياك . ومنه ( قلده السلطان كذا ) أي : صارت الولاية ، في لزومها له ، في موضع القلادة ومكان الطوق . ومنه يقال ( فلان يقلد فلاناً ) أي : يجعل ذلك الاعتقاد كالقلادة المربوطة على عنقه . وقوله تعالى : { وَنُخْرِجُ لَهُ } أي : نظهر له : { يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : البعث للجزاء على الأعمال : { كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً } أي : يجده مفتوحاً فيه حسناته وسيئاته . ويقال له :
{ اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } أي : شهيداً بما عملت .
قال القاشاني : { كِتَاباً } هيكلاً مصوراً يصور أعماله : { يَلْقَاهُ مَنشُوراً } لظهور تلك الهيئات فيه بالفعل مفصلة ، لا مطوياً كما كان عند كونها فيه بالقوة . يقال له : { اقْرَأْ كَتَابَكَ } أي : اقرأه قراءة المأمور الممتثل لأمر آمرٍ مطاع يأمره بالقراءة . أو تأمره القوى الملكوتية . سواء كان قارئاً أو غير قارئ ؛ لأن الأعمال هناك ممثلة بهيئاتها وصورها ، يعرفها كل أحد . لا على سبيل الكتابة بالحروف فلا يعرفها الأميِّ : { كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } لأن نفسه تشاهد ما فعلته لازماً إياها ، نصب عينها ، مفصلاً لا يمكنها الإنكار .
وقوله تعالى : { مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ } قال أبو السعود : فذلكة لما تقدم من بيان كون القرآن هادياً لأقوم الطرائق ، ولزوم الأعمال لأصحابها . أي : من اهتدى بهدايته ، وعمل بما فيه تضاعيفه من الأحكام ، وانتهى عما نهاه عنه ، فإنما تعود منفعة اهتدائه إلى نفسه ، لا تتخطاه إلى غيره ممن لا يهتدي : { وَمَن ضَلَّ } أي : عن الطريقة التي يهديه إليها : { فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } أي : وبال ضلاله عليها ، لا على من عداه ممن لم يباشره . فقوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } مؤكد لما قبله للاهتمام به .
قال أبو السعود : أي : لا تحمل نفسه حاملة للوزر ، وزر نفس أخرى ، حتى يمكن تخلص النفس الثانية عن وزرها . ويختل ما بين العامل وعمله من التلازم . بل إنما تحمل كل منهما وزرها . وهذا تحقيق لمعنى قوله عز وجل : { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } وأما ما يدل عليه قوله تعالى : { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا } [ النساء : 85 ] ، وقوله تعالى : { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ النحل : 25 ] من حمل الغير وزر الغير ، وانتفاعه بحسنته ، وتضرره بسيئته ، فهو في الحقيقة انتفاع بحسنة نفسه ، وتضرر بسيئته . فإن جزاء الحسنة والسيئة اللتين يعملهما العامل لازم له . وإنما الذي يصل إلى من يشفع جزاء شفاعته ، لا جزاء أصل الحسنة والسيئة ، وكذلك جزاء الضلال مقصور على الضالين . وما يحمله المضلون إنما هو جزاء الإضلال لا جزاء الضلال .
وإنما خصَّ التأكيد بالجملة الثانية قطعاً للأطماع الفارغة . حيث كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق ، فالتبعة على أسلافهم الذين قلدوهم . انتهى .
وقوله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } بيان للعناية الربانية ، إثر بيان اختصاص آثار الهداية والضلال بأصحابها ، وعدم حرمان المهتدي من ثمرات هدايته ، وعدم مؤاخذة النفس بجناية غيرها . أي : وما صح وما استقام منا ، بل استحال في سنتنا المبنية على الحكم البالغة ، أن نعذب قوماً حتى نبعث إليهم رسولاً يهديهم إلى الحق ، ويردعهم عن الضلال ؛ لإقامة الحجة وقطعاً للعذر . والعذاب أعم من الدنيوي والأخروي ، لقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى } [ طه : 134 ] وقال تعالى : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ } [ الملك : 8 - 9 ] ، وكذا قوله : { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ الزمر : 71 ] ، وقال تعالى : { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } [ فاطر : 37 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى لا يعذب قوماً عذاب استئصال ، ولا يدخل أحداً النار إلا بعد إرسال الرسل . قال قتادة : إن الله تعالى لا يعذب أحداً حتى يتقدم إليه بخبر أو بينة . ولا يعذب أحداً إلا بذنبه . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } [ 16 ] .
{ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } بيان لوقوع التعذيب بعد الرسالة . وأنه إنما كان للتمرد على الرسل والتنكب عن منهجهم . وقد تدل الآية على أن التعذيب المتقدم مراد به الهلاك الدنيوي لانحصارها فيه . والمعنى : إذا أردنا أن نعذب قوماً عذاب استئصال : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } يعني متنعميها ، بالطاعة على لسان الرسول المبعوث إليهم : { فَفَسَقُواْ فِيهَا } بمخالفة أمره تعالى والخروج عن طاعته : { فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ } فوجب عليها ، بمعصيتهم وفسقهم وطغيانهم ، وعيد الله الذي أوعد من كفر به وخالف رسله ، من الهلاك بعد الإعذار والإنذار بالرسل والحجج : { فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } أي : فخربناها تخريباً لا يكتنه كنهه ولا يوصف . وأهلكنا من كان فيها من أهلها إهلاكاً هائلاً ، كما جرى لبيت المقدس ، لما انحرف اليهود عن شرعتهم ، على ما قدمنا بيانه . وإنما خص المترفين ، وهم الجبارون والملوك والرؤساء بالذكر مع توجه الأمر إلى الكل ؛ لأنهم الأصل في الخطاب والباقي تبع لهم . ولأن توجه الأمر إليهم آكد . وإنما حذف مفعول : { أَمَرْنَا } لظهور أن المراد به الحق والخير . لا سيما بعد ذكر هداية القرآن لما يهدي إليه . وفي إيثار ( القرية ) على أهلها زيادة تهويل وتفظيع ، إشارة إلى التنكيل بهم بهدم صروحهم ودورهم ، وطمس أثرهم ، وهو أوجع للقلب وأنكى للعدو . ولذلك أتى إثره بالمصدر المؤكد فقال : { تَدْمِيراً } أي : كلياً بحيث لم يبق لهم زرع أو ضرع .
قال القاشانِيِّ : إن لكل شيء في الدنيا زوالاً . وزواله بحصول استعداد يقتضي ذلك . وكما أن زوال البدن بزوال الاعتدال ، وحصول انحراف يبعده عن بقائه وثباته ؛ فكذلك هلاك المدينة وزوالها بحدوث انحراف فيها من الجادة المستقيمة التي هي صراط الله وهي الشريعة الحافظة للنظام . فإذا جاء وقت إهلاك قرية ، فلا بد من استحقاقها للإهلاك . وذلك بالفسق والخروج عن طاعة الله . فلما تعلقت إرادته بإهلاكها ، تقدمه أولاً بالضرورة فسق مترفيها من أصحاب الترف والتنعم بطراً وأشراً بنعمة الله ، واستعمالاً لها فيما لا ينبغي . وذلك بأمر من الله وقدر منه ، لشقاوة كانت تلزم استعداداتهم . وحينئذ وجب إهلاكهم . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } [ 17 ] .
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ } أي : وكثيراً ما أهلكنا من الأمم الكافرة من بعد زمن نوح ، كعاد وثمود وفرعون . ممن قُصَّتْ أنباؤهم في القرآن العظيم ومن لم تقص . و : { الْقُرُونِ } جمع قرن يطلق على الزمن المعين وعلى أهله المقترنين فيه ، وعلى كل أمة هلكت فلم يبق منها أحد . وخص : { نُوحِ } ولم يقل : ( من بعد آدم ) لأنه أول رسول آذاه قومه فاستأصلهم العذاب . ففيه تهديد وإنذار للمشركين .
{ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } أي : لا يخفى عليه شيء منها ، فيدرك سرها وعلنها وسيجازي عليها .
والآية تدل - كما قال الزمخشري - : على أن الذنوب هي أسباب الهلكة ، وذلك لأنه لما عقب إهلاكهم بعلمه بالذنوب علما أتَمَّ ، دل على أنه جازاهم بها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } [ 18 - 19 ] .
{ مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } .
أي من كان طلبه الدنيا العاجلة ، ولها يعمل ويسعى ، وإياها يبتغي ؛ لا يوقن بمعاد ولا يرجو ثواباً ولا عقاباً من ربه على علمه : { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ } أي : ما نشاؤه من بسط الدنيا عليه أو تقتيرها لمن أراد الله أن يفعل به ذلك . أو من إهلاكه بما يشاء تعالى من عقوباته المعجلة . ثم يصلى جهنم في الآخرة : { مَذْمُوماً } على قلة شكره لمولاه ، وسوء صنيعه فيما سلف له : { مَّدْحُوراً } مطروداً من الرحمة ، مبعداً مقصيِّاً في النار . ومن أراد الآخرة وإياها طلب ، ولها عمل عملها الذي هو طاعة الله وما يرضيه عنه ، فأولئك كان عملهم مشكوراً بحسن الجزاء .
تنبيه :
قال القفال رحمه الله : هذه الآية داخلة في معنى قوله : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } فالآية الأولى تشير إلى من جعل طائر نفسه شؤماً . والثانية لمن جعله يمناً وخيراً . وفي قوله تعالى : { وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا } أي : ما يحق ويليق بها من الأعمال الصالحة ، تبيين لقوله : { وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ } بأن إرادتها هو بالسعي والنصب في مغالبة الباطل وإعلاء شأن الحق مع التلبس بالإيمان الصحيح ، بفعل المأمور واجتناب المنهي عنه . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورا ً *انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا ً *لاَّ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً } [ 20 - 22 ] .
{ كُلاًّ نُّمِدُّ } أي : كل واحد من الفريقين . وقوله : { هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ } بدل من ( كلاً ) : { مِنْ عَطَاء رَبِّكَ } أي : فضله . فيرزقهما جميعاً من رزقه إلى بلوغهما الأمد واستيفائهما الأجل ، ما كتب لهما . ثم تختلف بهما الأحوال بعد الممات ، وتفترق بهما بعد الورود المصادرُ . ففريق مريدي العاجلة ، إلى جهنم مصدرهم . وفريق مريدي الآخرة ، إلى الجنة مآبهم : { وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً } أي : ممنوعاً لا يمنعه من عاصٍ لعصيانه . والجملة كالتعليل لشمول الإمداد للفريقين .
{ انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } أي : في الرزق في الدنيا : { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } لأن فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
ثم أشار تعالى إلى ما به تنال درجات الآخرة من البراءة من الشرك ، ومن الاعتصام بالإيمان وشعبه ، بقوله : { لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً } أي : لا تجعل معه شريكاً في عبادته فتصير مذموماً ملوماً على الشرك ، مخذولاً من الله ، يكلك إلى ذاك الشريك ولا ينصرك : { وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ } [ آل عِمْرَان : 160 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } [ 23 - 24 ] .
{ وَقَضَى رَبُّكَ } أي : أمر أمراً مقطوعاً به : { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } أي : وبأن تحسنوا بالوالدين إحساناً . قال القاشانِيِّ : قرن سبحانه وتعالى إحسان الوالدين بالتوحيد وتخصيصه بالعبادة ؛ لكونهما مناسبين للحضرة الربوبية ؛ لتربيتها إياك عاجزاً صغيراً ضعيفاً لا قدرة لك ولا حراك بك . وهما أول مظهر ظهر فيه آثار صفات الله تعالى من الإيجاد والربوبية ، والرحمة والرأفة بالنسبة إليك . ومع ذلك فإنهما محتاجان إلى قضاء حقوقهما ، والله غني عن ذلك . فأهم الواجبات بعد التوحيد إذاً ؛ إكرامهما والقيام بحقوقهما ما أمكن : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيْماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } في هذا من المبالغة في إكرام الوالدين وبرهما ما لا يخفى . و : { إمَّا } هي ( إن ) الشرطية زيدت عليها ( ما ) تأكيداً لها . و : { أَحَدُهُما } فاعل ( يبلغن ) و : { كِلاهُمَا } عطف عليه . ومعنى : { عِنْدَكَ } هو أن يكبرا ويعجزا ، وكانا كلاًّ على ولدهما ، ولا كافل لهما غيره ، فهما عنده في بيته وكنفه . وذلك أشق عليه وأشد احتمالاً وصبراً . وربما تولى منهما ما كانا يتوليان منه في حال الطفولة . فهو مأمور بأن يستعمل معهما وطأة الخلق ولين الجانب والاحتمال ، حتى لا يقول لهما ، إذا أضجره ما يستقذر منهما ، أو يستثقل من مؤنهما : { أُفٍّ } فضلاً عما يزيد عليه . أفاده الزمخشري .
{ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } أي : تزجرهم عما لا يعجبك ، بغلظة : { وَقُلْ لَّهُمَا } بدل التأفيف والنهر : { قَوْلاً كَرِيْماً } أي : حسناً كما يقتضيه حسن الأدب معهما . ومعنى قوله : { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ } تذلل لهما وتواضع . وفيه استعارة مكنية وتخييلية . فشبه الذل بطائر تشبيهاً مضمراً ، وأثبت له الجناح تخييلاً ، والخفض ترشيحاً . و ( خفضه ) ما يفعله إذا ضم أفراخه للتربية . أو استعارة تصريحية في المفرد وهو الجناح ، والخفض ترشيح . و ( الجناح ) الجانب كما يقال ( جناحا العسكر ) وخفضه مجاز ، كما يقال ( ليِّنْ الجانب ) و ( منخفض الجانب ) . وإضافة الجناح إلى الذل للبيان ؛ لأنه صفة مبيِّنة . أي : جناحك الذليل . وفيه مبالغة لأنه وصف بالمصدر . فكأنه جعل عين الذل . أو التركيب استعارة تمثيلية . فيكون مثلاً لغاية التواضع . وسر ذكر الجناح وخفضه ، تصوير الذل كأنه مشاهد محسوس . و : { مِنَ } في قوله تعالى : { مِنَ الرَّحْمَةِ } ابتدائية على سبيل التعليل . أي : من فرط رحمتك لهما ، وعطفك عليهما ، لكبرهما وافتقارهما اليوم ، إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس . وافتقارُ المرء إلى من كان مفتقراً له ، غايةٌ في الضراعة والمسكنة ، فيرحمه أشد رحمة . كما قال الخفاجي :
~يا من أتى يسأل عن فاقتي ما حال من يسأل من سائله ؟
~ما ذلة السلطان إلا إذا أصبح محتاجاً إلى عامله
وقوله تعالى : { وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } أي : رب ! تعطف عليهما برحمتك ومغفرتك ، كما تعطفا عليَّ في صغري ، فرحماني وربياني صغيراً حتى استقللت بنفسي ، واستغنيت عنهما .
قال الزمخشري : أي : لا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها ، وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية . واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك . والكاف للتعليل . أي : لأجل تربيتهما لي .
قال الطيبي : الكاف لتأكيد الوجود . كأنه قيل : رب ارحمهما رحمة محققة مكشوفة لا ريب فيهما ، كقوله : { مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ } [ الذاريات : 23 ] ، وهو وجه حسن .
تنبيه :
استحب بعض السلف أن يدعو المرء لوالديه في أواخر التشهد قبيل السلام ؛ لأنه وقت فاضل . وقد جمعت من الأدعية المأثورة للوالدين المتوفيين أو أحدهما ، جملة ضممتها لكتابي " الأوراد المأثورة " . لا أزال أدعو لهما بما في السحر أو بين أذان الفجر وإقامة صلاته ؛ لما أرى من مزية هذا الوقت على غيره . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً * وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً } [ 25 - 27 ] .
{ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ } أي : ضمائركم من قصد البر إلى الوالدين والعقوق : { إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ } أي : قاصدين للصلاح والبر دون العقوق : { فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ } أي : التوابين الرجاعين إليه تعالى بالندم عما فرط منهم ، والاستقامة على المأمور : { غَفُوراً } أي : لهم ما اكتسبوا . ولا يخفى ما في صدر الآية من الوعد لمن أضمر البر . والوعيد لمن أضمر الكراهة والاستثقال والعقوق .
قيل : الآية استئناف يقتضيه مقام التأكيد والتشديد . كأنه قيل : كيف يقوم بحقهما وقد تبدر بوادر ؟ فقيل : إذا بنيتم الأمر على الأساس ، وكان المستمر ذلك ، ثم اتفقت بادرة من غير قصد إلى المساءة ، فلطف الله يحجز دون عذابه . ويجوز - كما قال الزمخشري - أن يكون هذا عاماً لكل من فرطت منه جناية ثم تاب منها . ويندرج تحته الجاني على أبويه ، التائب من جنايته ؛ لوروده على أثره .
ثم وصى تعالى بغير الوالدين من الأقارب ، بعد الوصية بهما ، بقوله سبحانه :
{ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } أي : من صلته وحسن المعاشرة والبر له بالإنفاق عليه .
قال المهايمي : لم يقل ( القريب ) لأن المطلق ينصرف إلى الكامل . والإضافة لما كانت لأدنى الملابسة ، صدق ( ذو القربى ) على كل من له قرابة ما : { وَالْمِسْكِينَ } أي : الفقير من الأباعد . وفي الأقارب مع الصدقة صلة الرحم { وَابْنَ السَّبِيلِ } أي : المسافر المنقطع به . أي : أعنه وقوِّه على قطع سفره . ويدخل فيه ما يعطاه من حمولة أو معونة أو ضيافة ، فإن ذلك كله من حقه : { وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } أي : بوجه من الوجوه ، بالإنفاق في محرم أو مكروه ، أو على من لا يستحق ، فتحسبه إحساناً إلى نفسك أو غيرك . أفاده المهايمي .
وفي " الكشاف " : كانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها ، وتبذر أموالها في الفخر والسمعة ، وتذكر ذلك في أشعارها . فأمر الله بالنفقة في وجوهها ، مما يقرب منه ويزلف .
{ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ } أي : أمثالهم في كفران نعمة المال بصرفه فيما لا ينبغي . وهذا غاية المذمة ؛ لأن لا شر من الشيطان . أو هم إخوانهم أتباعهم في المصادقة والإطاعة . كما يطيع الصديق صديقه والتابع متبوعه ، أو هم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد . والجملة تعليل المنهي عنه عن التبذير ، ببيان أنه يجعل صاحبه مقروناً معهم . وقوله : { وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً } من تتمة التعليل . قال أبو السعود : أي : مبالغاً في كفران نعمته تعالى ؛ لأن شأنه أن يصرف جميع ما أعطاه الله تعالى من القوى ، أي : مبالغاً في كفران نعمته تعالى ؛ لأن شأنه أن يصرف جميع ما أعطاه الله تعالى من القوى إلى غير ما خلقت له من أنواع المعاصي ، والإفساد في الأرض ، وإضلال الناس ، وحملهم على الكفر بالله ، وكفران نعمه الفائضة عليهم ، وصرفها إلى غير ما أمر الله تعالى به . وتخصيص هذا الوصف بالذكر ، من بين سائر أوصافه القبيحة ؛ للإيذان بأن التبذير ، الذي هو عبارة عن صرف نعم الله تعالى إلى غير مصرفها ، من باب الكفران ، المقابل للشكر الذي هو عبارة عن صرفها إلى ما خلقت هي له . والتعرض لوصف الربوبية ؛ للإشعار بكمل عتِّوه . فإن كفران نعمة الرب ، مع كون الربوبية من أقوى الدواعي إلى شكرها ، غاية الكفران ونهاية الضلال والطغيان . انتهى .
وقد استدل بالآية من منع إعطاء المال كله في سبيل الخير ، ومن منع الصدقة بكل ماله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً } [ 28 ] .
{ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً } أي : وإن أنت أعرضت عن ذوي القربى والمسكين وابن السبيل ، حياء من الرد ، لانتظار رزق من الله ترجوه أن يأتيك فتعطيه ، فلا تؤيسهم وقل لهم قولاً ليناً سهلاً ، وعدهم وعداً جميلاً . قال في " الكشف " : ( ابتغاء ) أقيم مقام فقدانه ، وفيه لطف . فكأن ذلك الإعراض لأجل السعي لهم . وهو من وضع المسبب موضع السبب . فإن الفقد سبب للابتغاء .
قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآية الأمر بالقول اللين عند عدم وجود ما يعطى منه ، وفسره ابن زيد : بالدعاء . والحسن وابن عباس : بالعدة . انتهى .
وظاهر ، أن القول الميسور يشمل الكل . وذهب المهايمي إلى أن الآية في منعهم خوفاً من أن يصرفوه فيما لا ينبغي . قال : أي : وإن تحقق إعراضك عمن تريد الإحسان إليهم ، طلب رحمة من ربك في المنع عنهم ؛ لئلا يقعوا في التبذير ، بصرف المعطي إلى شرب الخمر أو الزنى ، لما عرفت من عاداتهم ، فقل لهم في الدفع قولاً سهلاً عليهم ، إحساناً إليهم بدل العطاء . انتهى .
ولم أره لغيره ، والنظم الكريم يحتمله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } [ 29 ] .
{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ } أي : لا تمسك يدك عن النفقة والعطية لمن له حق ممن تقدم ، بمنزلة المشدودة يده إلى عنقه ، الذي لا يقدر على الأخذ بها والإعطاء : { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } أي : بالتبذير والسرف . قال ابن كثير : أي : لا تسرف في الإنفاق ، فتعطي غير طاقتك وتخرج أكثر من دخلك : { فَتَقْعُدَ } أي : فتبقى : { مَلُوماً } يلومك الفقراء والقرابة : { مَّحْسُوراً } أي : نادماً ، من ( الحسرة ) أو منقطعاً بك لا شيء عندك ، من ( حسره السفر ) إذا بلغ منه الجهد وأثر فيه .
وفي النهيين استعارتان تمثيليتان شبه في الأولى فعل الشحيح في منعه ، بمن يده مغلولة لعنقه ، بحيث لا يقدر على مدِّها .
وفي الثانية شبه السرف ببسط الكف بحيث لا تحفظ شيئاً . وهو ظاهر . وجعل ابن كثير قوله تعالى : { فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } من باب اللف والنشر المرتب . قال : أي : فتقعد ، إن بخلت ، ملوماً يلومك الناس ويذمونك ، ويستغنون عنك ، كما قال زهير في المعلقة :
~ومن كان ذا مال فيبخل بماله على قومه يُسْتغنَ عنه ويُذْممِ
ومتى بسطت يدك فوق طاقتك ، قعدت بلا شيء تنفقه ، فتكون كالحسير ، وهي الدابة التي عجزت عن السير ، فوقفت ضعفاً وعجزاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } [ 30 ] .
{ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ } أي : يوسعه ويضيقه ، حسب مشيئته وحكمته { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } أي : خبيراً ببواطنهم ، بصيراً بظواهرهم .
قال المهايمي : ولما وجب إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل ، لحفظ أرواحهم ، فالأولاد بحفظ الأرواح أولى ، لذلك قال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } [ 31 ] .
{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } نهي لهم عما كانوا يفعلونه في الجاهلية من قتلهم أولادهم . وهو وأدهم بناتهم . أي : دفنهن في الحياة . كانوا يئدونهن خشية الفاقة وهي الإملاق والفقر ، بالإنفاق عليهم إذا كبروا . فنهاهم الله وضمن لهم أرزاقهم بقوله : { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ } أي : نحن المختصون بإعطاء رزقهم في الصغر والكبر ، وقوله تعالى : { وَإِيَّاكُمْ } أي : الآن بإغنائكم . وقوله تعالى : { إنَّ قَتْلَهُمْ } أي : للإملاق الحاضر والخشية في المستقبل : { كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } أي : لإفضائه إلى تخريب العالم . وأي خطأ أكبر من ذلك .
تنبيه :
دل قوله تعالى : { خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } على أن ذلك هو الحامل لهم على الوأد ، لا خوف العار كما زعموا . قال المبرد في " الكامل " : كانت العرب في الجاهلية تئد البنات ، ولم يكن هذا في جميعها . إنما كان في تميم بن مرّ ، وقيس ، وأسد ، وهذيل ، وبكر بن وائل .
ثم قال : ودل على ما من أجله قتلوا البنات فقال : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } وقال : { وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنّ } [ الممتحنة : 12 ] ، فهذا خبر بيِّنٌ أن ذلك للحاجة . وقد روى بعضهم : أنهم إنما فعلوا ذلك أنفة . وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى ؛ أن تميماً منعت النعمان الإتاوة . فوجه إليهم أخاه الريان بن المنذر ، فاستاق النعم وسبى الذراري . فوفدت إليه بنو تميم . فلما رآها أحب البقيا . فأناب القوم وسألوه النساء . فقال النعمان : كل امرأة اختارت أباها ردت إليه ، وإن اختارت صاحبها تركت عليه . فكلهن اختار أباها ، إلا ابنة القيس بن عاصم فإنها اختارت صاحبها عَمْرو بن المشمرج . فنذر قيس ألا تولد له ابنة إلا قتلها . فهذا شيء يعتلُّ به من وأد ، ويقول : فعلناه أنفة ، وقد أكذب ذلك بما أنزل الله تعالى في القرآن .
وقال ابن عباس رحمه الله ( في تأويل هذه الآية ) : وكانوا لا يورثون ولا يتخذون إلا من طاعن بالرمح ومنع الحريم . يريد : الذكران . والخطأ كالإثم ، لفظاً ومعنى .
ولما نهى عن قتل الأولاد ، نهى عن قطع النسل بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً } [ 32 ] .
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } أي : فعلة قبيحة متناهية في القبح . توجب النفرة عن صاحبه ، والتفرقة بين الناس : { وَسَاءَ سَبِيلاً } أي : بئس طريقاً طريقه . فإنه غصب الأبضاع المؤدي إلى اختلاف أمر الأنساب ، وهيجان الفتن غصباً من غير سبب ، والسبب ممكن ، وهو الصهر الذي شرعه الله . وقال المهايمي : { سَاء سَبِيلاً } لقضاء الشهوة [ في المطبوع الشهرة ] التي خلقت لطلب النسل ، بتضييعه . ثم ذكر ما هو أعظم في التنفير والتفرقة فقال تعالى مجده :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } [ 33 ] .
{ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ } أي : قتلها ، وهي نفس الإنسان : { إِلاَّ بِالحَقِّ } أي : إلا بسبب الحق ، فيتعلق بـ : { لاَ تَقْتُلُواْ } أو حال من فاعل ( لا تقتلوا ) أو من مفعوله . وجوَّز تعلقه بـ ( حرَّم ) أي : حرَّم قتلها إلا بالحق ، وحقها أن لا تقتل إلا بكفر بعد إسلام ، أو زنى بعد إحصان ، أو قوداً بنفس : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } أي : ومن قتل بغير حق ، مما تقدم ، فقد جعلنا لوليه ، الذي بينه وبينه قرابة توجب المطالبة بدمه : { سُلْطاناً } أي : تسلطاً على القاتل في الاقتصاص منه . أو حجة يثب بها عليه ، وحينئذ فلا يسرف في القتل . أي : فلا يقتل غير القاتل ولا اثنين ، والقاتل واحد ، كعادة الجاهلية . كان إذا قبل منهم واحد قتلوا به جماعة . وقوله : { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } تعليل للنهي . والضمير للولي . يعني : حسبه أن الله قد نصره بأن أوجب له القصاص ، فلا يستزد على ذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً } [ 34 ] .
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي : لا تتصرفوا في ماله إلا بالطريقة التي هي أحسن ، وهي حفظه عليه وتثميره وإصلاحه . وقوله تعالى : { حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } غاية جواز التصرف على الوجه الحسن ، أي : حتى يبلغ وقت اشتداده في العقل وتدبير ماله وصلاح حاله في دينه : { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } أي : العقد الذي تعاقدون به الناس في الصلح بين أهل الحرب والإسلام ، وفيما بينكم أيضاً . والبيوع والأشربة والإجارات ونحوها : { إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً } أي : مطلوباً ، يطلب من المعاهد الثبات عليه ، وعدم إضاعته . أو : صاحبه مسؤول عن نقضه إياه . والمعنى : لا تنقضوا العهود الجائزة بينكم وبين من عاهدتموهم ، فتخفروها وتغدروا بمن أعطيتموه إياها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ 35 ] .
{ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ } أي : أتموه إذا كلتم لغيركم ولا تبخسوه : { وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ } أي : بالميزان السوي ؛ بلا اعوجاج ولا خديعة : { ذَلِكَ خَيْرٌ } أي : لكم في معاشكم لانتظام أموركم بالعدل ، وإيفاء الحقوق أربابها : { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } أي : عاقبة ومآلاً ؛ إذ ليس معه مظلمة يطالب بها يوم القيامة . ثم أمر تعالى برعاية القسطاس المعنوي .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً * وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً } [ 36 - 37 ] .
{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أي : لا تتبعه في قول أو فعل ، تسنده إلى سمع أو بصر أو عقل . من : ( قفا أثره ) إذا تبعه .
قال الزمخشري : والمراد النهي عن أن يقول الرجل ما لا يعلم ، وأن يعمل بما لا يعلم . ويدخل فيه النهي عن التقليد دخولاً ظاهراً ؛ لأنه إتباع لما لا يعلم صحته من فساده . انتهى .
ولا يخفى ما يندرج تحت هذه الآية من أنواع كثيرة . كمذاهب الجاهلية في الإلهيات والتحريم والتحليل ، وكشهادة الزور ، والقذف ، ورمي المحصنات الغافلات ، والكذب ، وما شاكلها : { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً } أي : كان صاحبها مسؤولاً عما نسب إليها يوم القيامة . أو تُسأل نفس الأعضاء لتشهد على صاحبها .
قال المهايمي : قدم السمع ؛ لأن أكثر ما ينسب الناس أقوالهم إليه . وأخر الفؤاد ؛ لأنه منتهى الحواس . ولم يذكر بقيتها ؛ لأنه لا يخالفها قول أو فعل .
{ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً } أي : مختالاً ، أي : مشية المعجب المتكبر ؛ إذ لا يفيدك قوةً ولا علواً . كما قال سبحانه : { إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ } أي : لن تجعل فيها خرقاً بدوسك لها ، وشدة وطأتك : { وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً } أي : لن تحاذيها بتطاولك ومد قامتك ، كما يفعله المختال تكلفاً . وفي هذا تهكم بالمختال ، وإيذان بأن ذلك مفاخرة مع الأرض وبعض أجزائها .
قال الناصر : وفي هذا التهكم والتقريع لمن يعتاد هذه المشية ، كفاية في الانزجار عنها . ولقد حفظ الله عوام زماننا عن هذه المشية ، وتورط فيها قراؤنا وفقهاؤنا . بينا أحدهم قد عرف مسألتين أو أجلس بين يديه طالبين ، أو شدَّ طرفاً من رياسة الدنيا ، إذا هو يتبختر في مشيه ، ويترجع ولا يرى أنه يطاول الجبال ، ولكن يحك بيافوخه عنان السماء ، كأنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون . وماذا يفيده أن يقرأ القرآن أو يُقرأ عليه ، وقلبه عن تدبره على مراحل . والله ولي التوفيق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً * ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً } [ 38 - 39 ] .
{ كُلُّ ذَلِكَ } أي : المنهي عنه من قوله : { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ } إلى هذه الغاية : { كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً } قال المهايمي : أما الشرك فلإخلاله بالكمال المطلق الذي لا يتصور مع الشرك . وأما عبادة الغير فلما فيها من تعظيمه المخصوص بذي الكمال المطلق ، فهو في معنى الشرك . وأما العقوق فلأنه كفران نعمة الأبوين في التربية ، أحوج ما يكون المرء إليها . ومنع الحقوق بالبخل تفريط ، والتبذير والبسط إفراط . وهما مذمومان . والذميم مكروه . والقتل يمنع الحكمة من بلوغها إلى كمالها . . . والزنى وإتلاف مال اليتيم في معناه . ونقض العهد مخلٌّ بنظام العالم . وكذا اقتفاء ما لا يعلم . والتكبر من خواص الحق . وعادة الملوك كراهة أن يأخذ أحد من خواصه شيئاً .
{ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ } أي : مما يحكم العقل بصحته ، وتصلح النفس بأسوته .
قال المهايمي : أي : من العلم المحكم الذي لا يتغير بشبهة : { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ } كرره للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه . وأنه رأس كل حكمة وملاكها . ومن عدمه لم ينفعه علومه وحكمه .
قال أبو السعود : وقد رتب عليه ما هو عائدة الإشراك أولاً حيث قيل : { فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً } ورتب عليه ها هنا نتيجة في العقبى فقيل : { فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً } أي : بالجهل العظيم : { مَّدْحُوراً } أي : مبعداً مطروداً من الرحمة . وفي إيراد الإلقاء ، مبنياً للمفعول ، جري على سنن الكبرياء ، وازدراء بالمشرك وجعلٌ له ، من قبيل خشبة يأخذها آخذ بكفه ، فيطرحها في التنور . انتهى . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً } [ 40 ] .
{ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً } .
خطاب للذين قالوا من مشركي العرب : ( الملائكة بنات الله ) والهمزة للإنكار . قال الزمخشري : والمعنى : أفخصكم ربكم ، على وجه الخلوص والصفاء ، بأفضل الأولاد وهم الذكور ، ولم يجعل فيهم نصيباً لنفسه ، واتخذ أدونهم ، وهن البنات ، وأنتم لا ترضونهن لأنفسكم ، بل تئدونهن وتقتلونهن . فهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم وعادتكم . فإن العبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء ، وأصفاها من الشوب ، ويكون أردؤها وأدونها للسادات . وقوله تعالى : { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً } أي : بإضافة الأولاد إليه ، وهي خاصة المحدثات . ثم بإيثاركم أنفسكم عليه ، حيث تجعلون له ما تكرهون .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً * قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً } [ 41 - 42 ] .
{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ } أي : كررنا للناس البيان بوجوه كثيرة ، وبينا فيه من كل مثل : { لِيَذَّكَّرُواْ } أي : ليتعظوا ويطمئنوا إلى ما يحتج به عليهم : { وَمَا يَزِيدُهُمْ } أي : التصريف المذكور : { إِلاَّ نُفُوراً } أي : عن الحق وبعداً عنه ، الذي يقربه وجوه البيان .
وقوله تعالى : { قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً } أي : قل لهؤلاء المشركين ( الزاعمين أن لله شركاء من خلقه ، العابدين معه غيره ، ليقربهم إليه زلفى ) : لو كان الأمر كما تقولون ، وأن معه آلهة تعبد لتقرب إليه وتشفع لديه ؛ لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون إليه ، ويبتغون الزلفى والطاعة لديه ، فاعبدوه أنتم وحده كما يعبده من تدعونه من دونه . ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه . فإنه لا يحب ذلك ولا يرضاه . بل يكرهه ويأباه . وقد نهى عن ذلك على ألسنة جميع رسله وأنبيائه . هذا ما اختاره ابن كثير ، وسبقه إليه ابن جرير .
وحاصله : أن السبيل بمعنى الوسيلة الموصلة إليه . وفيه إشارة إلى قياس اقتراني تقريره هكذا : ولو كان كما زعمتم معه آلهة لتقربوا إليه . وكل من كان كذلك ليس إلهاً ، فهم ليسوا بآلهة . وقيل : معنى : { لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً } أي : لطلبوا إليه سبيلاً بالمغالبة والممانعة ، كما هو ديدن الملوك بعضهم مع بعض ، على طريقة قوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] وهذا الوجه قدمه الزمخشري على الأول . وقال أبو السعود : إنه الأظهر الأنسب لقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً * تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } [ 43 - 44 ] .
{ سُبْحَانَهُ } فإنه صريح في أن المراد بيان أنه يلزم مما يقولونه محذور عظيم ، من حيث لا يحتسبون . وأما ابتغاء السبيل إليه تعالى بالتقرب ، فليس مما يختص بهذا التقرير ، ولا هو مما يلزمهم من حيث لا يشعرون . بل هو أمر يعتقدونه رأساً . انتهى . ومعنى : { سُبْحَانَهُ } أي : تنزه عن الولد والشريك تنزهاً حقيقاً به : { وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً } أي : تعاظم عن ذلك تعاظماً كبيراً . فإن مثل هذه الفرية والبهتان ، مما يتنزه عنه مقامه الأسمى .
قال الشهاب : وذكر العلو ، بعد عنوانه بـ ( ذي العرش ) . في أعلى مراتب البلاغة . وقوله تعالى :
{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } أي : تُنزِّهُ الله ، وتُقدسُهُ وتُجلُّهُ السماوات والأرض ومن فيهن من المخلوقات عما يصفه به المشركون . وتشهد جميعها له بالوحدانية في إلهيته وربوبيته ، كما قال : { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً } [ مريم : 90 - 91 ] ، وقوله تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } أي : لأنها بخلاف لغاتكم .
قال ابن كثير : وهذا عام في الحيوانات والجمادات والنباتات ، على أشهر القولين . ثم استدل بما صح من تسبيح الطعام ، والحصا ، مما خرج في الصحيحين والمسانيد ، مما هو مشهور . واختاره الراغب في " مفرداته " وقال : إنه تسبيح على الحقيقة بدلالة قوله : { وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } ودلالة قوله : { وَمَن فِيهنَّ } بعد ذكر السماوات والأرض لا يصح أن يكون تقديره ( يسبح له من في السماوات ويسجد له من في الأرض ) لأن هذا ممن نفقهه ، ولأنه محال أن يكون ذلك تقديره . ثم يعطف عليه بقوله : { وَمَن فِيهنَّ } والأشياء كلها تسبح له وتسجد بعضها بالتسخير وبعضها بالاختيار . والآية تدل على أن المذكورات تسبح باختيار ، لما ذكر من الدلالة . انتهى .
وذهب كثيرون إلى أن التسبيح المذكور مجازي ، على طريقة الاستعارة التمثيلية أو التبعية ، كـ : ( نطقت الحال ) فإنه استعير فيه للتسبيح للدلالة على وجود فاعل قادر حكيم واجب الوجود ، منزه عن الولد والشريك ، كما يدل الأثر على مؤثره . فجعلت تلك الدلالة الحالية كأنه تنزيه له عما يخالفه .
~وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
قالوا : والخطاب في قوله تعالى : { وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } للمشركين . أي : لإخلالكم بالنظر الصحيح الذي به يفهم تسبيحهم . وقد بالغ في رد القول الأول واختيار الثاني ، الإمام ابن حزم في كتابه " الملل والنحل " ولا بأس بإيراده ، لما فيه من الغرائب .
قال رحمه الله في الرد على من قال : ( إن في البهائم رسلاً ) : إنما يخاطب الله تعالى بالحجة من يعقلها . قال الله تعالى : { يَا أُولِي الْأَلْبَاب } [ البقرة : 179 ] ، وقد علمنا بضرورة الحسن ؛ أن الله تعالى إنما خص بالنطق - الذي هو التصرف في العلوم ومعرفة الأشياء على ما هي عليه ، والتصرف في الصناعات على اختلافها - الإنسان خاصة . وأضفنا إليهم ، بالخبر الصادق ، الجن والملائكة . ثم قال رحمه الله : وقد قاد السخف بعضهم إلى أن جعل للجمادات تمييزاً لمثل قوله تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ } ونحوه من الآيات . ولا حجة لهم فيه ؛ لأن القرآن واجب أن يحمل على ظاهره ، كذلك كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومن خالف ذلك كان عاصياً لله عز وجل ، مبدلاً لكلماته ، ما لم يأت نص في أحدهما ، أو إجماع متيقن ، أو ضرورة حس على خلاف ظاهره ، فيوقف عند ذلك . ويكون من حمله على ظاهره حينئذ ناسباً الكذب إلى الله عز وجل ، أو كاذباً عليه وعلى نبيه عليه السلام ، نعوذ بالله من كلا الوجهين .
وإذ قد بينا قبلُ بالبراهين الضرورية ؛ أن الحيوان ( غير الإنسان والجن والملائكة ) لا نطق له . نعني أنه لا تصرف له في العلوم والصناعات . وكان هذا القول مشاهداً بالحس معلوماً بالضرورة ، لا ينكره إلا وقح مكابر لحسِّه ، وبيَّنا أن كل ما كان بخلاف التمييز المعهود عندنا ، فإنه ليس تمييزاً . وكان هذا أيضاً يعلم بالضرورة والعيان والمشاهدة ؛ فوجب أنه بخلاف ما يسمى في الشريعة واللغة نطقاً وقولاً وتسبيحاً وسجوداً . فقد وجب أنها أسماء مشتركة اتفقت ألفاظها . وأما معانيها فمختلفة ، لا يحل لأحد أن يحملها على غير هذا ؛ لأنه إن فعل كان مخبراً أن الله تعالى قال ما يبطله العيان والعقل الذي به عرفنا الله تعالى ، ولولاه ما عرفناه .
فاللفظ مشترك والمعنى هو ما قام الدليل عليه ، بيان ذلك : أن التسبيح عندنا إنما هو قول ( سبحان الله وبحمده ) وبالضرورة نعلم أن الحجارة والخشب والهوام والحشرات والألوان لا تقول ( سبحان الله ، بالسين والباء والحاء والألف والنون واللام والهاء ) هذا ما لا يشك فيه من له مسكة عقل . فإذ لا شك في هذا ، فباليقين علمنا أن التسبيح الذي ذكره الله تعالى هو حق وهو معنى غير تسبيحنا نحن بلا شك . فإذ لا شك في هذا فإن التسبيح في أصل اللغة هو تنزيه الله تعالى عن السوء . فإذا قد صح هذا ؛ فإن كل شيء في العالم بلا شك منزه لله تعالى عن السوء الذي هو صفة الحدوث . وليس في العالم شيء إلا وهو دال ( بما فيه من دلائل الصنعة واقتضائه صانعاً لا يشبهه ) على أن الله تعالى منزه عن كل سوء ونقص ، وهذا هو الذي لا يفهمه ولا يفقهه كثير من الناس ، كما قال تعالى : { وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } فهذا هو تسبيح كل شيء بحمد الله تعالى بلا شك . وهذا المعنى حق لا ينكره موحد . فإن كان قولنا هذا متفقاً على صحته ، وكانت الضرورة توجب أنه ليس هو التسبيح المعهود عندنا ، فقد ثبت قولنا وانتفى قول من خالفنا بظنه .
وأيضاً فإن الله تعالى يقول : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } والكافر الدهري شيء لا يشك في أنه شيء ، وهو لا يسبح بحمد الله تعالى البتة ، فصح ضرورة أن الكافر يسبح ؛ إذ هو من جملة الأشياء التي تسبح بحمد الله تعالى . وإن تسبيحه ليس هو قوله ( سبحان الله وبحمده ) بلا شك . ولكن تنزيه الله تعالى بدلائل خلقه وتركيبه عن أن يكون الخالق مشبهاً لشيء مما خلق . وهذا يقيني لا شك فيه .
فصح بما ذكرنا أن لفظة ( التسبيح ) هي من الأسماء المشتركة ، وهي التي تقع على نوعين فصاعداً . انتهى كلامه .
ومحصله : نفي أن يكون للجمادات تسبيح وتمييز بالمعنى الموجود في الإنسان . وهو حق لا شبهة فيه ولا يسوغ لأحد إنكاره . إلا أنه لا ينفي أن يكون له تسبيح وفيه تمييز يناسبه ، فيرجع الخلاف لفظياً . وقد وافق العلم الحديث الآن - كما قاله بعض الفضلاء - على أن في الجماد أثراً من الحياة . وأن فيه جميع الصفات الجوهرية التي تميز الأحياء . وأن ما فيه في الجواهر الفردة ودقائق المادة ليست ميتة ، بل هي عناصر حية متحركة لها صورة من صور الحياة الدنيا المشاهدة في جميع أنواع المادة مثل الجذب ، والدفع ، والتأثر بالمؤثرات الخارجية ، وتغير قوة التوازن ، وتجمع الدقائق على أشكال منتظمة ، طبقاً لتراكيب محدودة ، وإفراز مركبات كيماوية مختلفة . وبالجملة ؛ فما يقوله العلم الجديد عن مشابهة الأجسام غير الحية للأجسام الحية يطابق تصورات الأقدمين والشعراء في ذلك . انتهى .
وقوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } أي : حيث لم يعاجلهم بالعقوبة ، مع كفرهم وقصورهم في النظر . ولو تابوا لغفر لهم ما كان منهم .
ثم مثل تعالى حالة المشركين مع التنزيل الكريم ، حينما يقرؤه عليهم الرسول ، صلوات الله عليه ، يدعوهم إلى العمل بما فيه من التوحيد ، ورفض الشرك وغير ذلك من ضلالهم ، بمن طمس على بصيرته وبصره وسمعه ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ 45 ] .
{ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ } أي : على هؤلاء المشركين : { جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ } أي : لا يصدقون بالبعث ولا يقرون بالثواب والعقاب ، جزاء على الأعمال : { حِجَاباً مَّسْتُوراً } أي : من الجهل وعمى القلب . فيحجب قلوبهم عن أن يفهموا ما تقرؤه عليهم فينتفعوا به ؛ عقوبة منا لهم على كفرهم .
ومعنى كون الحجاب مستوراً ، أي : عن العيون ، فلا تدركه أبصارهم . وعن الأخفش : إن ( مفعولاً ) يرد بمعنى ( فاعل ) كميمون ومشؤوم بمعنى يامن وشائم . كما أن ( فاعلاً ) يرد بمعنى ( مفعول ) كماء دافق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً } [ 46 ] .
{ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } أي : أغطية كثيرة ، جمع ( كنان ) : { أَن يَفْقَهُوهُ } أي : كراهة أن يفقهوه : { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً } أي : صمماً يمنعهم من استماعه . وذلك ما يتغشاها من خذلان الله تعالى إياها ، عن فهم ما يتلى عليهم والإنصات له .
قال أبو السعود : هذه تمثيلات معربة عن كمال جهلهم بشؤون النبي صلى الله عليه وسلم ، وفرط نبوُّ قلوبهم عن القرآن الكريم ، ومج أسماعهم له . جيء بها بياناً لعدم فقههم لتسبيح لسان المقال ، إثر بيان عدم فقههم لتسبيح لسان الحال ، وإيذاناً بأن هذا التسبيح من الظهور بحيث لا يصور عدم فهمه ، إلا لمانع قوي يعتري المشاعر فيبطلها ؛ تنبيهاً على أن حالهم هذا أقبح من حالهم السابق .
{ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ } أي : غير مشفوع بذكره ذكر شيء من آلهتهم : { وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً } أي : هرباً من استماع التوحيد . قال القاشانِيِّ : لتشتت أهوائهم ، وتفرق همهم في عبادة متعبداتهم ، من أصناف [ في المطبوع أصنام ] الجسمانيات والشهوات . فلا يناسب بواطنهم معنى الوحدة ؛ لتألفها بالكثرة واحتجابها بها . ثم أخبر تعالى عما يتناجى به المشركون ، رؤساء قريش ، بقوله متوعداً لهم :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورا ً *انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً } [ 47 - 48 ] .
{ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ } أي : بسببه أو لأجله من الهزء والاستخفاف واللغو : { إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } أي : سحر ، فجُنَّ فاختلط كلامه .
{ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ } أي : مثلوك بالشاعر والساحر المجنون : { فَضَلُّواْ } أي : عن الحق والهداية بك : { فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً } أي : فلا يهتدون لطريق الحق لضلالهم عنه وبعدهم منه ، وأن الله قد خذلهم عن إصابته . أو المعنى فلا يستطيعون سبيلاً إلى طعن يمكن أن يقبله أحد ، بل يخبطون بما لا يرتاب في بطلانه أحد . كالمتحير في أمره لا يدري ماذا يصنع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } [ 49 - 52 ] .
{ وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً } وهو ما بلي وتفتت : { أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } أي : يعظم في نفوسكم عن قبول الحياة ويعظم في زعمكم على الخالق إحياؤه . فإنه يحييكم ولا يعجزه بعثكم . فكيف إذا كنتم عظاماً مرفوتة وقد كانت موصوفة بالحياة قبل ! والشيء أقبل لما عهد فيه مما لم يعهد : { فَسَيَقُولُونَ } أي : بعد لزوم الحجة عليهم : { مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ } أي : يحركونها برفع وخفض ، تعجباً واستهزاءً : { وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ } أي : ما ذكرته من الإعادة : { قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً } .
{ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ } أي : يوم يبعثكم فتنبعثون . قال القاضي : استعار لهما الدعاء والاستجابة ؛ للتنبيه على سرعتهما وتيسر أمرهما ، وإن المقصود منهما الإحضار للمحاسبة والجزاء . انتهى .
وقيل : إنهما حقيقة كما في آية : { يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ } [ ق : 41 ] ، وفي قوله : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } وجوه للمعربين . ككونه بدلاً من ( قريباً ) على أنه ظرف . أو منصوب بـ ( يكون ) أو بمقدر كـ ( اذكر ) أو ( تبعثون ) وقوله تعالى : { بِحَمْدِهِ } أي : وله الحمد على ما أحضركم للجزاء وتحقق وعده الصدق : { وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } أي : تستقصرون مدة لبثكم في القبور والمضاجع لذهولكم عن ذلك الزمان . أو في الحياة الأولى ، لاستقصاركم إياها ، بالنسبة إلى الحياة الآخرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً* ر َّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } [ 53 - 54 ] .
{ وَقُل لِّعِبَادِي } أي : الذين آمنوا معك . إرادة تقريب أصحابهم إلى الصواب ، كأمر البعث : { يَقُولُواْ } في النصيحة ، الكلمة : { الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي : فلا يخاشنوا أحداً ، ولا يغلطوا بالقول : { إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ } أي : يفسد ويهيج الشر والمراء ، لتقع بينهم المضارة : { إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً } وقوله تعالى :
{ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ } خطاب لهؤلاء المشركين من قريش . أي : إن يشأ يرحمكم فيتوب عليكم برحمته وتنيبوا إليه . وإن يشأ يعذبكم بأن يخذلكم عن الإيمان ، فتموتوا على الشرك فيعذبكم عليه يوم القيامة .
وقوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } أي : موكولاً إليك أمرهم ، تقسرهم على الإيمان . وإنما أرسلناك مبشراً ونذيراً ، تبلغهم رسالاتنا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً } [ 55 ] .
{ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : فلا يخفى عليه شيء فيهما . فهو أعلم بهؤلاء ضرورة . وفيه إشارة إلى رحمته تعالى ببعثة الرسل ؛ لحاجة الخلق إليها ، وإلى مشيئته فيمن يصطفي لرسالته ، ويختار لنبوته . ويعلمه أهلاً لها . وقوله تعالى :
{ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ } أي : لاقتضاء علمه وحكمته ذلك . فإنه أعلم بمن في السماوات والأرض وأحوالهم . فآتى موسى التوراة وكلمه . وعيسى الإنجيل ، وداود الزبور . فضلهم بما آتاهم على غيرهم . وقد آتى محمداً القرآن ففضله به على الأنبياء كافة . وقوله تعالى : { وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً } أي : يشتمل على الحكمة وفصل الخطاب ، ففضلناه به . قيل : الآية ردٌّ عليهم إذ استبعدوا أن يكون صلى الله عليه وسلم نبياً ، دون من يعدُّونه عظيماً بينهم في الغنى والجاه . وذكر من في السماوات لإبطال قولهم : { لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ } [ الفرقان : 21 ] وذكر من في الأرض لرد قولهم : { لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] وتخصيص داود بالذكر ؛ إشارة لتفضيل النبي صلى الله عليه وسلم كما دل عليه ما كتب فيه من : { أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } [ الأنبياء : 105 ] ففيه تلميح إلى ما وقع فيه من وصفه بما ذكر فيه . وإيثار الزبور على الملك ؛ بيان لحيثية شرفه ، وأن بما أوحي إليه من الكتاب والعلم ، لا بالملك والمال ، كذا قالوا . والظاهر أنه للإشارة إلى أن داود عليه السلام لم يكن في نشأته الأولى ممن يظن أنه يبلغ ما بلغ في الحكمة والملك ، وقد اختصه الله بهما وميزه الله على أهل عصره . وإذ كان ذلك اختصاصاً ربانياً ، فلا غرابة أن يختص سبحانه من العرب ، من علم أنه أرجحهم عقلاً ، وأكملهم فضلاً ، لختم نبوته ، وهداية بريته ، بمنهاجه وشرعته .(/)
وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً } [ 56 - 57 ] .
{ قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً } .
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً } .
أي قل لهؤلاء المشركين ، الذين يعبدون من دون الله من خلقه : ادعوا من زعمتموهم أرباباً وآلهة من دونه ، عند ضر ينزل بكم ، وانظروا هل يقدرون على دفع ذلك عنكم أو تحويله عنكم إلى غيركم ، فتدعونهم آلهة ، أي : فإنهم لا يقدرون على ذلك ولا يملكونه ، وإنما يملكه ويقدر عليه خالقكم وخالقهم .
روى الطبري عن ابن عباس ؛ أن الآية عني بها قوم مشركون ، كانوا يعبدون المسيح وعزيراً والملائكة . فأخبرهم الله تعالى أن هؤلاء عبيده يرجون رحمته ويخافون عذابه ، ويتقربون إليه بالأعمال . ونظير هذه الآية في النهي عن أن يشرك به تعالى الملائكة والأنبياء ، قوله سبحانه : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ آل عِمْرَان : 79 - 80 ] ، وفي قوله تعالى : : { وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } إشارة إلى أن العبادة لا تتم إلا بالرجاء والخوف . فبالرجاء تكثر الطاعات ، وبالخوف تقل السيئات . وقوله تعالى : { مَحْذُوراً } أي : ينبغي أن يحذر منه ويخاف من حلوله . عياذاً بالله منه . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً } [ 58 ] .
{ وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً } .
إخبار بأنه حتم وقضى ؛ أنه ما من قرية يتمرد أهلها على نبيهم ، إلا ويبيدهم ، أو ينزل بهم من العذاب شديده . وذلك لذنوبهم وخطيئاتهم وعدم استجابتهم لنبيهم ، كما قال تعالى : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } [ هود : 101 ] . وقال تعالى : { فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً } [ الطلاق : 9 ] وقال تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ } [ الطلاق : 8 ] الآيات . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً } [ 59 ] .
{ وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ } أي : التي تقترحها قريش : { إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ } أي : إلا تكذيب الأولين الذين هم أمثالهم ، كعاد وثمود . وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك . فاستوجبوا الاستئصال ، على ما مضت به السنة الإلهية . وقد قضينا أن لا نستأصلهم ، لأن منهم من يؤمن أو يلد من يؤمن . ثم ذكر بعض الأمم المهلكة بتكذيب الآيات المقترحة ، فقال : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ } أي : أعطينا قوم صالح الناقة بسؤالهم : { مُبْصِرَةً } أي : بينة ، تبصر الغير برهانها : { فَظَلَمُواْ بِهَا } أي : فكفروا بها وظلموا أنفسهم بسبب عقرها ، فأبادهم الله عن آخرهم وانتقم منهم : { وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً } أي : وما نرسل الآيات المقترحة إلا تخويفاً للناس ، ليعلموا السنة الإلهية مع العاتين ، فيتذكروا ويتوبوا .
روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً ، وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعوا ، فقيل له : إن شئت أن تستأني بهم ، وإن شئت أن يأتيهم الذي سألوا ، فإن كفروا ، هلكوا كما أهلكت من كان قبلهم من الأمم . قال : < لا بل أستأني بهم > ، وأنزل الله تعالى : { وَمَا مَنَعنَا أَن نُّرسِلَ } الآية . ورواه النسائي .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً } [ 60 ] .
{ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ } أي : علماً ، فلا يخفى عليه شيء من كفرهم وتكذيبهم . ومنه ما جرى منهم ، إثر الرؤيا والإخبار بالشجرة ، من الجحود والهزء واللغو . كما قال سبحانه : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } قال الأكثرون : يعني ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء من الآيات . فلما ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم للناس ، أنكر بعضهم ذلك وكذبوا . وجعل الله ذلك ثباتاً ويقيناً للمخلصين . فكانت فتنة ، أي : اختباراً وامتحاناً . وتمسك بهذا من جعل الإسراء مناماً ؛ لكون الرؤيا مخصوصة بالمنام . وأجيب بأن قوله تعالى : { إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } يرده ؛ لأن رؤيا المنام لا يفتتن بها أحد ولا يكذب . وجاء في اللغة ( الرؤيا بمعنى الرؤية مطلقاً ) وهو معنى حقيقي لها . وقيل : إنها حقيقة في رؤيا المنام ورؤيا اليقظة ليلاً . وقد ذكر السهيلي أنه ورد في كلام العرب بهذا المعنى ، وأنه كالقربى والقربة . وقيل : إنه مجاز ، إما مشاكلة لتسميتهم له رؤيا ، أو جار على زعمهم . أو على التشبيه بها لما فيها من خرق العادة أو لوقوعها ليلاً ، أو لسرعتها . أفاده الشهاب .
وروى الطبري عن الحسن في الآية هذه ؛ قال : أسري به صلى الله عليه وسلم عشاء إلى بيت المقدس ، فصلى فيه وأراه الله ما أراه من الآيات ، ثم أصبح بمكة ، فأخبرهم أنه أسري به إلى بيت المقدس . فقالوا له : يا محمد ! ما شأنك ؟ أمسيت فيه ثم أصبحت فينا ، تخبرنا أنك أتيت بيت المقدس ؟ فعجبوا من ذلك حتى ارتد بعضهم عن الإسلام .
وقال قوم : الآية في رؤياه صلى الله عليه وسلم التي رأى أنه يدخل مكة . فروى البريِّ عن ابن عباس ، قال : يقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُرِيَ أنه دخل مكة هو وأصحابه ، وهو يومئذ بالمدينة ، فعجل رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى مكة قبل الأجل ، فرده المشركون ، فقالت أناس : قد رُدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان حدثنا أنه سيدخلها . فكانت رجعته فتنتهم . وذلك عام الحديبية . ثم دخل مكة في العام المقبل . وأنزل الله عز وجل : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ } [ الفتح : 27 ] ولا يقال : إن السورة مكية وقصة الحديبية بعد الهجرة ، لاحتمال أنه رأى تلك الرؤيا بمكة ، ونزلت عليه هذه الآية . ولكنه ذكرها عام الحديبية ؛ لأنه كان إذ ذاك بمكة . فعلم أن دخوله بعد خروجه منها . كذا قيل .
وذهب بعضهم إلى أن كثيراً من السور المكية ضم إليها آيات مدنية ، كما في " الإتقان " . والطبري رجح الأول وفاقاً للأكثر . وقد قدمنا مراراً ؛ أن السلف قد يريدون بقولهم : ( نزلت الآية في كذا ) أن لفظ الآية مما يشمل ذلك . لا أنه كان سبباً لنزوله حقيقة . وعليه ، فلا إشكال .
وقوله تعالى : { وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ } عطف على الرؤيا ، والأكثرون على أنها شجرة الزقوم ، المذكورة في سورة الصافات في قوله تعالى : { أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ } [ الصافات : 62 - 65 ] الآيات . وفتنتهم فيها ما رواه الطبري عن ابن عباس وقتادة ؛ أن أبا جهل قال : زعم صاحبكم هذا - يعني النبي صلوات الله عليه - أن في النار شجرة ، والنار تأكل الشجر ! فكذبوا بذلك . وفي رواية : أن أبا جهل قال : أيخوفني بشجر الزقوم ؟ ثم دعا بتمر وزبد وجعل يأكل ويقول : تزقموا ، فما نعلم الزقوم غير هذا . والمراد بلعنها في القرآن : لعن طاعمها فيه ، على أنه مجاز في الإسناد . أو الملعون بمعنى المؤذي لأنها تغلي في البطون كغلي الحميم . فهو إما مجاز مرسل أو استعارة . وقوله تعالى : { وَنُخَوِّفُهُمْ } أي : بذلك وبنظائره من الآيات : { فَمَا يَزِيدُهُمْ } أي : التخويف : { إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً } أي : تمادياً فيما هم فيه من الضلال والكفر .
قال المهايمي : أي : فلو أرسلنا إليهم الآيات المقترحة لقالوا إنه أجل من أحاط بأبواب السحر . فلا فائدة في إرسالها سوى تعجيل العذاب الدنيوي . لكنه ينافي إظهار دينه على الدين كله .
ثم أشار تعالى إلى أن هذا الطغيان من إتباع الشيطان . وأنه وحزبه ، لعتوهم وتمردهم عن الحق ، في النار ، بقوله(/)
سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً } [ 61 - 62 ] .
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ } أي : تحيةً وتكريماً : { فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } كما قال في الآية الأخرى : { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } [ ص : 76 ] .
{ قَالَ } أي : جراءةً على الرب وكفراً به : { أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ } أي : أخبرني عن هذا الذي كرمته عليَّ بأن أمرتني بالسجود له ، لِمَ كرمته عليَّ ؟ . أو المعنى : أخبرني أهذا الذي كرمته عليَّ : { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً } أي : لأعمنَّهم وأهلكنَّهم بالإغواء ، إلا المخلصين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَآءً مَّوْفُوراً * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً } [ 63 - 65 ] .
{ قَالَ اذْهَبْ } أي : امض لشأنك الذي اخترته : { فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَآءً مَّوْفُوراً } أي : جزاءً مكملاً .
{ وَاسْتَفْزِزْ } أي : استخف وأزعج : { مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ } أي : أن تستفزه فتخدعه : { بِصَوْتِكَ } أي : بدعائك إلى الفساد . وعبَّر عن الدعاء بالصوت تحقيراً له حتى كأنه لا معنى له : { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } أي : صح عليهم ، من الجلبة ( بفتحات ) وهي الصياح . و ( الخيل ) الخيالة ، أي : ركبان الخيل مجازاً . وأصل معنى الخيل الأفراس . ( والرّجل ) اسم جمع للراجل وهو خلاف الفارس ، والمراد الأعوان والأتباع مطلقاً .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله ؟ . قلت : هو كلام ورد مورد التمثيل ، مثلت حاله في تسلطه على من يغويه ، بمغوار - بكسر الميم ، الكثير الغارة وهي الحرب والنهب - أوقع على قوم فصوت بهم صوتاً يستفزهم من أماكنهم ، ويقلقهم عن مراكزهم . وأجلب عليهم بجنده من خيالة حتى استأصلهم - أي : فالكلام استعارة تمثيلية مركبة ، استعير فيه المجموع والهيئة للمجموع والهيئة . ووجهه ما ذكره من استئصالهم وإهلاكهم ، أو غلبته وتسخيره لهم . وجوَّز أن يكون التجوز في المفردات تجوزاً بصوته عن دعائه إلى الشر بالوسوسة ، وبخيله ورجله عن كل راكب وماش من أهل العبث والفساد بإغوائه { وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ } أي : بحمله إياهم على إنفاقها في المعاصي وجمعها من حرام والتصرف فيها تحريماً وتحليلاً بما لا يرضى : { وَالأَوْلادِ } أي : بالتفاخر فيهم وتضليلهم بصبغهم غير صبغة الدين ووأدهم ، ونحو ذلك مما يعصى الله بسببه : { وَعِدْهُمْ } أي : المواعيد الباطلة والأماني الكاذبة من سلامة العاقبة ودوام الغلبة : { وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً } وهو تزيين الباطل بزينة الحق .
{ إِنَّ عِبَادِي } أي : المخلصين : { لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } أي : تسلط بالإغواء : { وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً } أي : كفيلاً لهم يتوكلون عليه ولا يلجؤون في أمورهم إلا إليه . وهو كافيهم .
وقد أشار القاشانِيِّ إلى أن الآية تشير إلى انقسام الناس مع الشيطان على أصناف . وعبارته : تمكن الشيطان من إغواء العباد على أقسام ؛ لأن الاستعدادات متفاوتة . فمن كان ضعيف الاستعداد استفزه . أي : استخفه بصوته ، يكفيه وسوسة وهمس بل هاجس ولمة . ومن كان قوي الاستعداد ، فإن أخلص استعداده عن شوائب الصفات النفسانية ، أو أخلصه الله تعالى عن شوائب الغيرية ، فليس له إلى إغوائه سبيل ، كما قال : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } وإلا فإن كان منغمساً في الشواغل الحسية ، غارزاً رأسه في الأمور الدنيوية ، شاركه في أمواله وأولاده ، بأن يحرضه على إشراكهم بالله في المحبة ، بحبهم كحب الله . ويسول له التمتع بهم ، والتكاثر والتفاخر بوجودهم . ويمنيه الأماني الكاذبة ويزين عليه الآمال الفارغة . وإن لم ينغمس ، فإن كان عالماً بصيراً بتسويلاته ، أجلب عليه بخيله ورجله . أي : مكر به بأنواع الحيل . وكاده بصنوف الفتن . وأفتى له في تحصيل أنواع الحطام والملاذ بأنها من جملة مصالح المعاش . وغره بالعلم وحمله على الإعجاب ، وأمثال ذلك حتى يصير ممن أضله الله على علم . وإن لم يكن عالماً بل عابداً متنسكاً ، أغواه بالوعد والتمنية . وغرَّه بالطاعة والتزكية أيسر ما يكون . انتهى .
ثم بيَّن تعالى بعضاً من آيات وحدانيته وألوهيته بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } [ 66 ] .
{ رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ } أي : يُسَيِّر لكم السفن في البحر : { لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } أي : من رزقه . والآية صريحة في ركوب البحر للتجارة : { إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } حيث سهل لكم أسباب ذلك .
قال أبو السعود : وهذا تذكير لبعض النعم التي هي من دلائل التوحيد ، وتمهيد لذكر توحيدهم عند مساس الضر ، تكملة لما مر من قوله : { فَلاَ يَمْلِكُون } الآية ، وذلك قوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً } [ 67 ] .
{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ } أي : خوف الغرق : { ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } أي : ذهب عن أوهامكم وخواطركم كل من تدعونه وتعبدونه ، إلا إياه وحده . فإنكم لا تذكرون سواه . فطرةُ فطر الله الخلق عليها .
وهذه الآية مما يستدل بها على الرجوع إلى الفطرة الصحيحة . وقد استدل لكثير من الأصول بها ، كما يعلم ذلك من كلام الأئمة في مسائل شتى . كمسألة وجود الخالق وعلوه ، والمعاد وغيرها . وقوله تعالى : { فَلَمَّا نَجَّاكُمْ } أي : من الغرق : { إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ } أي : عن التوحيد : { وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً } أي : بأنعم الله . والجملة كالتعليل للإعراض . قال الشهاب : وفيه لطف ، حيث أعرض عن خطابهم بخصوصهم . وذكر أن جنس الإنسان(/)
مجبول على هذا . فلما أعرضوا أعرض الله عنهم . ثم خوفهم تعالى بقدرته العظيمة ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً * أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً } [ 68 - 69 ] .
{ أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ } أي : يغوِّره بكم : { أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً } أي : ريحاً ترمي بالحصباء يرجمكم بها ، فيكون أشدُّ عليكم من الغرق : { ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً } أي : من يتوكل بصرف ذلك عنكم
{ أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ } أي : يقوي دواعيكم لركوب البحر : { تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الرِّيحِ } أي : ريحاً شديدة لا تمر بشيء إلا قصفته ، فتكسر السفينة وسط البحر : { فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً } أي : مطالباً بما فعلنا . مثل من يطالب على مُغْرِقٍ سوانا . وهذا كقوله : { وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا } [ الشمس : 15 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } [ 70 ] .
{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } أي : بالنطق والتمييز والعقل والمعرفة والصورة والتسلط على ما في الأرض والتمتع به : { وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } أي : يسرنا لهم أسباب المعاش والمعاد بالسير في طلبها فيهما ، وتحصيلها : { وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ } أي : فنون المستلذات التي لم يرزقها غيرهم من المخلوقات : { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } أي : عظيماً ، فحق عليهم أن يشكروا هذه النعم ، بأن يعبدوا المتفضل بها وحده ويقيموا شرائعه وحدوده .
تنبيه :
ظاهر قوله تعالى : ( على كثير ) أن ثمة من لم يفضل البشر عليه . قيل : وهم الذوات المقدسة من الملأ الأعلى . أعني الملائكة .
قال القاشانِيِّ : وأما أفضلية بعض الناس ، كالأنبياء على الملائكة المقربين ، فليست من جهة كونهم بني آدم . بل من جهة السر المودع فيهم ، المشار إليه بقوله : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ] ، وهو ما أعد لذلك البعض من المعرفة الإلهية التامة . وحينئذ ليس هو بهذا الاعتبار من بني آدم كما قيل :
~وإني وإن كنت ابن آدم صورة فلي فيه معنى شاهدٌ بأُبُوَّتِي
وذهب قوم إلى تأويل ( الكثير ) بـ ( الكل ) كما أوَّل ( القليل ) بمعنى ( العدم ) في قوله تعالى : { فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 88 ] . والمعنى : وفضلناهم على الجم الغفير من خلقنا ، أي : جميع المخلوقات .
قال القاشانِيِّ : على أن تكون ( من ) للبيان والمبالغة في تعظيمه ، بوصف المفضل عليهم بالكثرة وتنكير الوصف وتقديمه على الموصوف . أي : كثير ، وأي كثير ، وهو جميع مخلوقاتنا لدلالة ( من ) على العموم ، ولا يخفى أنه لا يلزم من تفضيل جنس على جنس آخر تفضيل كل فرد منه على كل فرد من الآخر . والمسألة معروفة في كتب الكلام .(/)
وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً } [ 71 - 72 ] .
{ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } أي : بمن ائتموا به من نَبِيٍّ أو مُقَدَّمٍ في الدين أو كتاب أو دين . فيقال : يا أتباع فلان ! يا أهل دين كذا وكتاب كذا . وقيل : بكتاب أعمالهم ، فيقال : يا أصحاب كتاب الخير ! ويا أصحاب كتاب الشر ! قالوا : وفيه شرف لأصحاب الحديث ؛ لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال القاشانِيِّ : أي : نحضر كل طائفة من الأمم مع شاهدهم الذي يحضرهم ويتوجهون إليه ويعرفونه ، سواء كان صورة نبي آمنوا به ، أو إمام اقتدوا به ، أو دين أو كتاب ، أو ما شئت . على أن تكون ( الباء ) بمعنى ( مع ) . أو ننسبهم إلى إمامهم وندعوهم باسمه ؛ لكونه هو الغالب عليهم وعلى أمرهم ، المستعلي محبتهم إياه على سائر محباتهم .
ورجح ابن كثير ، رحمه الله ، القول بأن الإمام هو كتاب الأعمال ، لقوله تعالى : { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } [ يس : 12 ] ، وقال تعالى : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } [ الكهف : 49 ] الآية ، وقال تعالى : { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الجاثية : 28 - 29 ] . وما رجحه رحمه الله هو الصواب ؛ لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً ، وأول ما ينبغي الاهتمام به في معاني الآيات ، هو الرجوع إلى نظائرها . وقوله تعالى : { فَمَنْ أُوتِيَ } أي : من هؤلاء المدعوين : { كِتَابَهُ } أي : كتاب أعماله : { بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ } أي : فرحاً وابتهاجاً بما فيه من العمل الصالح : { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } أي : لا ينقصوه من أجورهم قدر فتيل ، وهو ما في شق النواة ، أو ما تفتله بين أصبعيك ، أو هو أدنى شيء ، فإن الفتيل مثل في القلة ، كقوله تعالى : { وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً } [ مريم : 60 ] .
{ وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً } أي : ومن كان في هذه الحياة الدنيا أعمى عن الاهتداء إلى الحق ، فهو في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة ، وأضل سبيلاً منه في الدنيا ؛ لأن له في هذه الحياة آلات وأدوات وأسباباً يمكنه الاهتداء بها . وهو في مقام الكسب باقي الاستعداد . ولم يبق هناك شيء من ذلك . قيل : العمى حقيقة فيمن لا يدرك المبصرات ؛ لفساد حاسته ، مجازٌ في عمى البصيرة وهو عدم الاهتداء إلى طريق النجاة . وقيل : هو حقيقة فيهما . وعليه جوَّز أن يكون ( أعمى ) الثاني أفعل تفضيل ؛ لأنه من عمى القلب لا عمى البصر . ويجوز أن يصاغ من العيوب الباطنة أفعل تفضيل كالأحمق والأبله .
لطيفة :
قال الناصر : يحتمل أن تكون هذه الآية قسيمة الأولى . أي : فمن أوتي كتابه بيمينه فهو الذي يبصره ويقرؤه . ومن كان في الدنيا أعمى غير مبصر في نفسه ، ولا ناظر في معاده ، فهو في الآخرة كذلك ، غير مبصر في كتابه ، بل أعمى عنه ، أو أشد عمى مما كان في الدنيا ، على اختلاف التأويلين . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً } [ 73 - 74 ] .
{ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً } إخبار عن تأييده تعالى رسوله ، صلوات الله عليه وسلامه ، وتثبيته وعصمته وتولي أمره وحفظه . فإن المشركين ، لكثرة تفننهم في ضروب الأذى وشدة تعنتهم وقوة شكيمتهم ، كادوا أن يفتنوه . ولكن عناية الله وحفظه ، هو الذي ثبت قدمه في مثل مقامه في الدعوة إلى الله الذي لا يثبت فيه أحد غيره . وقد روي أن ثقيفاً قالوا : لا نؤمن حتى تعطينا خصالاً نفتخر بها على العرب : لا ننحني في الصلاة ، ولا نكسر أصنامنا بأيدينا ، وإن تمتعنا باللات سنة من غير أن نعبدها ، فإن خشيت أن يسمع العرب : ( لِمَ أعطيتهم ما لم تعطنا ) فقل : الله أمرني بذلك .
وروي أن قريشاً قالوا : لا ندعك يا محمد أن تستلم الحجر الأسود حتى تمس آلهتنا . وقالوا أيضاً : نؤمن بك إن تمس آلهتنا .
قال الإمام الطبري : يجوز أن تكون الفتنة فما ذكر . وأن تكون غير ذلك . ولا بيان في الكتاب ولا في خبر يقطع العذر أي : ذلك كان . فالأصوب : الإيمان بظاهره حتى يأتي ما يجب التسليم له ، ببيان ما عني بذلك منه .
قال الزجاج : معنى الكلام : كادوا يفتنونك . ودخلت ( أن ) المخففة من الثقيلة و ( اللام ) للتأكيد . والمعنى : أن الشأن قاربوا أن يفتنوك ، أي : يخدعوك . ويصرفوك عن القرآن ، أي : عن حكمه . وذلك لأن في إعطائهم ما سألوا مخالفة لحكم القرآن . وقوله : { لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ } أي : غير ما أوحينا إليك وهو قولهم : قل الله أمرني بذلك : { وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } أي : لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك خليلاً ، وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كفرهم ، وراض بشركهم . ثم قال : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ } أي : على الحق بعصمتنا إياك : { لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ } أي : تميل إليهم : { شَيْئاً قَلِيلاً } وقوله : { شَيْئاً } عبارة عن المصدر ، أو ركوناً قليلاً .
وعن قتادة : لما نزلت هذه الآية . قال النبي صلى الله عليه وسلم : < اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين > .
ثم توعده في ذلك أشد التوعد ، فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً } [ 75 ] .
{ إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ } أي : ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات ، يريد عذاب الدنيا وعذاب الآخرة . و ( الضعف ) عبارة عن أن يضم إلى الشيء مثله ، ودل على إضمار العذاب وصف العذاب بالضعف في كثير من الآيات ، كقوله تعالى : { رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ } [ ص : 61 ] ، وقال : { لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 38 ] .
والسبب في تضعيف العذاب ؛ أن أقسام نعم الله على الأنبياء أكثر . فكانت ذنوبهم أعظم . فكانت العقوبة المستحقة عليها أكثر . ونظيره قوله تعالى : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } [ الأحزاب : 30 ] .
تنبيهات :
الأول : قال القفال رحمه الله ( بعد ذكره ما روي في سبب نزولها مما قدمناه ) : ويمكن أيضاً تأويلها من غير تقييد بسبب يضاف نزولها فيه ؛ لأن من المعلوم أن المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقصى ما يقدرون عليه . فتارة كانوا يقولون : إن عبدت آلهتنا عبدنا إلهك ، فأنزل الله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أعبُدُ ما تَعْبُدُونَ } [ الكافرون : 1 - 2 ] ، وقوله : { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [ القلم : 9 ] ، وعرضوا عليه الأموال الكثيرة والنساء الجميلة ليترك ادعاء النبوة ، فأنزل الله تعالى : { وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْك } [ طه : 131 ] . ودعوه إلى طرد المؤمنين عن نفسه فأنزل الله تعالى قوله : { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم } [ الأنعام : 52 ] ، فيجوز أن تكون هذه الآيات نزلت في هذا الباب . وذلك أنهم قصدوا أن يفتنوه عن دينه ، وأن يزيلوه عن منهجه . فبين تعالى أنه يثبته على الدين القويم والمنهج المستقيم . وعلى هذا الطريق . فلا حاجة في تفسير هذا الآيات ، إلى شيء من تلك الروايات . والله أعلم .
الثاني : قال القاضي : معنى قوله تعالى : { وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاك } الآية ، إنك كنت على صدد الركون إليهم ، لقوة خداعهم وشدة احتيالهم . لكن أدركتك عصمتنا فمنعت أن تقرب من الركون ، فضلاً عن أن تركن عليهم . وهو صريح في أنه عليه الصلاة والسلام ما همَّ بإجابتهم ، مع قوة الداعي إليها ، ودليل على أن العصمة بتوفيق الله وحفظه .
الثالث : قال الزمخشري : في ذكر الكيدودة وتقليلها ، مع إتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين ؛ دليل بيِّنٌ على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته . وفيه دليل على أن أدنى مداهنة للغواة ، مضادة لله وخروج عن ولا يته ، وسبب موجب لغضبه ونكاله . فعلى المؤمن ، إذا تلا هذه الآية أن يجثو عندها ويتدبرها فهي جديرة بالتدبر . وبأن يستشعر الناظر فيها الخشية وازدياد التصلب في دين الله .
الرابع : جاء في " حواشي جامع البيان " ما مثاله بالحرف : من الفوائد الجليلة في هذه الآية ، أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك ، بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً . فإنها شعائر الكفر والشرك . وهي أعظم المنكرات ، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة . وهكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثاناً وطواغيت تعبد من دون الله . والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذور والتقبيل ، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض ، مع القدرة على إزالته . وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ، وأعظم شرك عندها وبها . فإن اللات - على ما نقله ابن خزيمة عن مجاهد - رجل كان يلت لهم السويق فمات . فعكفوا على قبره يعبدونه ويعظمونه . ولم يقولوا : إن اللات خلقت السماوات والأرض ، بل كان شركهم باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى كشرك أهل الشرك من أرباب المشاهد بعينه ، من النذور لها ، والشرك بها ، والتمسح بها ، وتقبيلها ، واستلامها . وما طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مجرد مس آلهتهم ، كما قالوا نؤمن بك إن تمس آلهتنا ، وما التمسوا منه إلا التمتيع باللات سنة من غير عبادة ، فتوعد بهذا الوعيد الشديد والتهديد الأكيد أن لو ركن إليهم . فالرزية كل الرزية ما ابتلي به القبوريون من أهل هذا الزمان . فإنهم لم يدعوا شيئاًً مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام ، إلا فعلوه بالقبور . فإنا لله وإنا إليه راجعون . بل كثير منهم ، إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه ، حلف بالله فاجراً ، فإذا قيل له بعد ذلك : احلف بشيخك ، أو بمعتقدك الولي الفلاني ، تلكأ وأبى واعترف بالحق . وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال : ( ثالث ثلاثة ) فيا علماء الدين ! ويا ملوك المسلمين ! أي : رزء للإسلام أشد من الكفر ؟ وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله ؟ وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه ؟ وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجباً ؟(/)
فاللهم ! انصر من نصر الحق واهدنا إلى سواء السبيل . انتهى .
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً } [ 76 - 77 ]
{ وَإِن كَادُواْ } أي : أهل مكة : { لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ } أي : ليزعجونك بمعاداتهم من مكة : { لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ } أي : ولو خرجت لا يبقون بعد خروجك : { إِلاَّ قَلِيلا ً } أي : زماناً قليلاً .
{ سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا } يعني أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم ، فسنة الله أن يهلكهم . ونصبت نصب المصدر المؤكد . أي : سنَّ الله ذلك سنة : { وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً } أي : تغييراً . ولا يخفى أن المراد بعدم لبثهم ، إهلاكهم . سواء كان بالاستئصال أو لا . قال ابن كثير : وكذلك وقع ، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بين هجرته من بين أظهرهم بعد ما اشتد أذاهم له إلا سنة ونصف ، حتى جمعهم الله وإياه ببدر على غير ميعاد . فأمكنه منهم ، وسلطه عليهم ، وأظفره بهم . فقتل أشرافهم وسبى سراتهم . ولهذا قال تعالى : { سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا } أي : هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم . يخرج الرسول من بين أظهرهم ويأتيهم العذاب . ولولا أنه صلى الله عليه وسلم رسول الرحمة ، لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به ، كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } [ 78 ] .
{ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } لما ذكر تعالى ، قبلُ ، كيد المشركين وكيدودتهم استفزازه من الأرض ، أمره بأن يستعين بإقامة الصلوات والإقبال على عبادته تعالى ، والابتهال إليه على دفع كيدهم ومكرهم ، وتأييده عليهم . ونظيره قوله تعالى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ } [ الحجر : 97 - 98 ] ، وقوله : { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى } [ طه : 130 ] ، وقوله : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } [ البقرة : 45 ] ، هذا من حيث نظم الآية مع ما قبلها . وأما معناها ، فقوله : { لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } أي : لزوالها . قال ابن تيمية : الدلوك : الزوال عند أكثر السلف ، وهو الصواب . واللام للتأقيت . أي : بيان الوقت بمعنى ( بعد ) وتكون بمعنى ( عند ) أيضاً . وقيل : للتعليل ؛ لأن دخول الوقت سبب لوجوب الصلاة . وأما : { غَسَقِ اللَّيْلِ } فهو اجتماع الليل وظلمته . وأما : { قُرْآنَ الْفَجْرِ } فهو صلاة الصبح . سميت قرآناً لأنه ركنها . كما سميت ركوعاً وسجوداً . فهو من تسمية الكل باسم جزئه المهم . فيدل على وجوب القراءة فيها صريحاً ، وفي غيرها بدلالة النص والقياس . ومعنى : { مَشْهُوداً } يشهده ملائكة الليل والنهار . ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء ، فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار . أو يشهده الكثير من المصلين في العادة ! ومن حقه أن يكون مشهوداً بالجماعة الكثيرة . والأكثرون على أن قوله تعالى : { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ } منصوب بالعطف على ( الصلاة ) أي : وأقم صلاة الفجر . وجوَّز بعض النحاة نصبه على الإغراء . أي : وعليك قرآن الفجر ، أو الزم .
تنبيهات :
الأول : هذه الآية جامعة للصلوات الخمس ومواقيتها ، فدلوك الشمس يتناول الظهر والعصر تناولاً واحداً . وغسق الليل يتناول المغرب والعشاء تناولاً واحداً . وقرآن الفجر هي صلاة مفردة لا تجمع ولا تقصر . قيل : هذا يقتضي أن يكون الدلوك مشتركاً بين الظهر والعصر . والغسق مشتركاً بين المغرب والعشاء . فيدل على جواز الجمع مطلقاً بين الأولين ، وكذا بين الأخيرين . فالجواب : هو كذلك بعذر السفر أو المطر ونحوها . وأما في غيرها فلا ، وذلك لما بينته السنة من فعل كل واحدة في الوقت الخاص بها ، إلا بعذر . قال الحافظ ابن كثير : قد بينت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تواتراً من أفعاله وأقواله ، تفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الإسلام اليوم ، مما تلقوه خلفاً عن سلف ، وقرناً بعد قرن ، كما هو مقرر في مواضعه .
وقال العلامة أبو السعود : ليس المراد إقامتها فيما بين الوقتين على وجه الاستمرار ، بل إقامة كل صلاة في وقتها الذي عين لها ببيان جبريل عليه السلام . كما أن أعداد ركعات كل صلاة موكولة إلى بيانه عليه السلام . ولعل الاكتفاء ببيان المبدأ والمنتهى في أوقات الصلوات من غير فصل بينها ؛ لما أن الإنسان فيما بين هذه الأوقات على اليقظة . فبعضها متصل ببعض ، بخلاف أول وقت العشاء والفجر فإنه باشتغاله فيما بينهما بالنوم ينقطع أحدهما عن الآخر . ولذلك فصل وقت الفجر عن سائر الأوقات . انتهى .
والظاهر أن مستند من جوَّز الجمع في الحضر مطلقاً هذه الآية مع أثر ابن عباس .
جاء في " رحمة الأمة " ما مثاله : وعن ابن سيرين أنه يجوز الجمع من غير خوف ولا مرض لحاجة ، ما لم يتخذه عادة . واختار ابن المنذر وجماعة جواز الجمع في الحضر من غير خوف ولا مطر ولا مرض . انتهى .
وقد روى الشيخان وغيرهما عن ابن عباس قال : صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة سبعاً وثمانياً : الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء .
ومن رواية لمسلم : صلى الظهر والعصر جميعاً ، والمغرب والعشاء جميعاً ، من غير خوف ولا سفر . وكثير من الرواة حملوا ذلك على ليلة مطيرة . والمسألة شهيرة .
الثاني : قلنا إن هذه الآية إحدى الآيات التي جمعت الصلوات الخمس ، ومنها قوله تعالى : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ } [ هود : 114 ] ، فالطرف الأول صلاة الفجر ، فإن صلاة الفجر في النهار . فإن الصائم يصوم النهار . وهو يصوم من طلوع الفجر . والوتر تصلى بالليل ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : < صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بركعة > . وإذا قيل : نصف النهار ؛ فالمراد به النهار المبتدئ من طلوع الشمس . فهذا في هذا الموضوع ، ولفظ ( النهار ) يراد به من طلوع الفجر ، ويراد به من طلوع الشمس . لكن قوله : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ } أريد به من طلوع الفجر بلا ريب ، لأن ما بعد طلوع الشمس ليس على المسلمين فيه صلاة واجبة ، بل ولا مستحبة . بل الصلاة في أول الطلوع منهي عنها حتى ترتفع الشمس . وهل تستحب الصلاة لوقت الضحى أو لا تستحب إلا لأمر عارض ؟ فيه نزاع ليس هذا موضعه . فعلم أنه أراد بالطرف الأول : من طلوع الفجر . وأما الطرف الثاني : فمن الزوال إلى الغروب . فجعل الصلاة في هذا الوقت صلاة في الطرف الثاني وأشرك بينهما فيه . ثم قال : { وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ } فأجمل المغرب والعشاء في ( زلف من الليل ) وهو ساعات من الليل . فالمواقيت هنا ثلاثة .
وقال تعالى : { لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ } [ النور : 58 ] فذكر الفجر وذكر الظهر وذكر صلاة العشاء . فمن الظهيرة إلى ما بعد صلاة العشاء وقتان للصلاة . وقد ذكر الأول من هذا الوقت والآخر من هذا الوقت . وقد دل على المواقيت في آيات أخر كقوله تعالى : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ } [ الروم : 17 - 18 ] ، فتبين أن له التسبيح والحمد في السماوات والأرض حين المساء وحين الصباح وعشياً وحين الإظهار . فالمساء يتناول المغرب والعشاء ، والصباح يتناول الفجر ، والعشي يتناول العصر ، والإظهار يتناول الظهر .
وقال تعالى : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى } [ طه : 130 ] ، وفي الآية الأخرى : { قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } [ ق : 39 - 40 ] ، فقبل طلوع الشمس هي صلاة الفجر . وقبل غروبها هي العصر ، وبذلك فسرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته عن جرير بن عبد الله قال : كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال : < إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا > . ثم قرأ قوله تعالى : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } وقوله تعالى : { وَمِنَ اللَّيْلِ } : { وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ } مطلق في آناء الليل ، يتناول المغرب والعشاء . أفاد ذلك تقي الدين ابن تيمية في فتواه في " المواقيت الكبرى " .
الثالث : هذه الآية من الآيات التي أمر تعالى فيها بإقامة الصلاة لوقتها . قال ابن تيمية عليه الرحمة ، في فتواه المتقدمة : وقت الصلاة وقتان . وقت الرفاهية والاختيار . ووقت الحاجة والعذر . فالوقت في حال الرفاهية خمسة أوقات كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عَمْرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < وقت الظهر ما لم يصر ظل كل شيء مثله . ووقت العصر ما لم تصفر الشمس . ووقت المغرب ما لم يغب نور الشفق . ووقت العشاء إلى نصف الليل . ووقت الفجر ما لم تطلع الشمس > . وقد روي هذا الحديث من حديث أبي هريرة في السنن . ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم في المواقيت حديث من قوله إلا هذا . وسائر ما روي فعل منه ، والأحاديث الصحيحة المتأخرة من فعله توافق هذا الحديث . ولهذا ما في هذا الحديث من المواقيت هو الصحيح عند الفقهاء العارفين بالحديث . والنزاع بين العلماء في آخر وقت الظهر ، وأول وقت العصر وآخره ، وآخر وقت المغرب ، وآخر وقت العشاء ، وآخر وقت الفجر ، فالجماهير من السلف والخلف من فقهاء الحديث وأهل الحجاز وقت الظهر عندهم من الزوال إلى أن يصير ظل كل شيء مثله . سوى الفيء الذي زالت عليه الشمس ، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد . وقال أبو حنيفة : إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه ، ثم يدخل وقت العصر عند الجمهور ، وعند أبي حنيفة إنما يدخل إذا صار ظل كل شيء مثليه ، ونقل عنه ، أن ما بين المثل إلى المثلين ليس وقتاً لا للظهر ولا للعصر . وعلى قول الجمهور ، فهل آخر هذا أول هذا ، أو بينهما قدر أربع ركعات مشترك ؟ فيه نزاع . فالجمهور على الأول ، والثاني منقول عن مالك . وإذا صار ظل كل شيء مثليه ، خرج وقت العصر في إحدى الروايتين عن أحمد . وهو منقول عن مالك والشافعي مع خلاف في مذهبهما . والصحيح أن وقتها ممتد بلا كراهة إلى اصفرار الشمس . وهو الرواية الثانية عن أحمد ، كما نطق به حديث عبد الله بن عَمْرو ، مما عمل به النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، بعد عمله بمكة . وهذا قول أبي يوسف ومحمد . فلم يكن للعصر وقت متفق عليه . ولكن الصواب المقطوع به ، الذي تواترت به السنن واتفق عليه الجماهير ؛ أن وقتها يدخل إذا صار ظل كل شيء مثله . وليس مع القول الآخر نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم لا صحيح ولا ضعيف . ولكن الأمراء الذين كانوا يؤخرون الصلاة ؛ لما اعتادوا تأخير الصلاة ، واشتهر ذلك ، صار يظن من يظن أنه السنة . وقد احتج له بالمثل المضروب المسلمين وأهل الكتاب . ولا حجة فيه لاتفاق أهل الحساب على أن وقت الظهر أطول من وقت العصر . الذي أوله إذا صار ظل كل شيء مثليه .
وأما أوقات الحاجة والعذر فهي ثلاثة : من الزوال إلى الغروب . ومن الغروب إلى الفجر ومن الفجر إلى طلوع الشمس . فالأول وقت الظهر والعصر عند العذر . واتسع فيها وفيهما من وجهين : أحدهما : تقديم العصر إلى وقت الظهر ، كما قدمها النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة . وكما كان يقدمها في سفرة تبوك ، إذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس . وتقديم العشاء إلى المغرب في المطر . فهذا جمع تقديم ، والثاني جمع تأخير ، العصر فيها إلى الغروب ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : < من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر . ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر > . مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : < وقت العصر ما لم تصفر الشمس > وأنه لم يؤخر الصلاة قط إلى الاصفرار . ويوم الخندق كان التأخير إلى بعد الغروب . وهو منسوخ في أشهر قولي العلماء بقوله تعالى : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى } [ البقرة : 238 ] ، وهذا مذهب مالك والشافعي ، وأحمد في أشهر الروايتين عنه . وقيل : يخير حال القتال في التأخير والصلاة في الوقت بحسب الإمكان . وهو الرواية الأخرى عنه . وقيل : بل يؤخرها . وهو قول أبي حنيفة أيضاً . ففي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : < تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان ، قام فنقر أربعاً ، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً > . فوصف صلاة المنافق بالتأخير إلى حين الغروب والنقر . فدل على المنع من هذا وهذا . فلما قال صلى الله عليه وسلم هذا وهذا ، علم أن الوقت وقتان . فمن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك مطلقاً . وليس له أن يؤخر إلى ذلك الوقت مع إمكان الصلاة قبله . بخلاف من لا يمكنه الصلاة قبل ذلك . كالحائض إذا طهرت ، والمجنون يفيق ، والنائم يستيقظ ، والناسي يذكر ، ودل تقديم العصر يوم عرفة على أنها تفعل في موضع مع الظهر عقيب الزوال . ودل هذا الحديث على أنها يدرك وقتها بإدراك ركعة منها قبل الغروب . مع أنه بيَّن بقوله وفعله ؛ أن وقتها إذا صار ظل كل شيء مثله ، ما لم تصفر الشمس . فدل ذلك على أن هذا الوقت المختص بها ، وقت مع التمكن والرفاهية . ليس لأحد أن يؤخرها عنه ولا يقدمها عليه . وقد عرف من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وابن عباس ؛ أنهم قالوا ( في الحائض إذا طهرت قبل غروب الشمس ) : تصلي الظهر والعصر . وإذا طهرت قبل طلوع الفجر ، صلت المغرب والعشاء . ولم يعرف عن صحابي خلاف ذلك . وبذلك أخذ الجمهور كمالك والشافعي وأحمد . وهذا مما يدل على أنه كانت الصحابة ترى أن الليل عند العذر مشترك بين المغرب والعشاء إلى الفجر . والنصف الثاني عند العذر مشترك بين الظهر والعصر من الزوال إلى الغروب . كما دل على ذلك السنة والقرآن - يعني الآية المذكورة وأمثالها مما سقناه قبل - والذين ينازعون الجمهور في الوقت المشترك ، ويقولون ليس لكل منهما إلا وقت يخصها ، يقولون : الغرض إنما ثبت بالقرآن . والقرآن أوجب مطلق الذكر في قوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكرَ اسْمَ رَبِّه فَصَلَّى } [ الأعلى : 14 - 15 ] ، فلا موجب لخصوص التكبير عندهم ، بل مطلق الذكر . وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل قط إلا بتكبير . ولا أحد من خلفائه ولا أحد من أئمة المسلمين ولا آحادهم المعروفين يُعْرَفُ أنه صلى إلا بتكبير . ومع هذا فيجوزونه بمطلق الذكر . لأن القرآن مطلق في الذكر . فيقال لهم : القرآن مطلق في آناء الليل وفي غسق الليل . ومطلق في الطرف الأول وفي الطرف الثاني ، فدل على جواز الصلاة في هذا وهذا لو قُدِّر أن النبي صلى الله عليه وسلم داوم على التفريق ، فكيف إذا ثبت عنه أنه جمع بينهما في الوقت غير مرة ؟ ! وكذلك يقولون : قوله تعالى : { ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } [ الحج : 77 ] ، مطلق . فهو الفرض ، والطمأنينة إنما جاء بها خبر واحد . فيفيد الوجوب دون الفرضية . وكذلك يقولون في الفاتحة : إن القرآن مطلق في إيجاب قراءة ما تيسر منه ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من بعده لم يصلوا إلا بالفاتحة . ومع قوله : < لا صلاة إلا بأم القرآن > . و < إن كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ، فهي خداج ، فهي خداج > . ويقولون : هذا يفيد الوجوب دون الفرضية . أو هذا خبر واحد فلا يقيد به مطلق القرآن . ومعلوم أن القرآن مطلق في الوقت المشترك أعظم من هذا ، وليس معهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يوجب فعل كل واحدة من الأربع في الوقت الخاص إلا فعله المتواتر ، وقوله الذي هو من أخبار الآحاد . مع ما فيه من الإجمال ، كقوله لَمَّا بيَّنَ المواقيت الخمسة : < الوقت ما بين هذين > وقوله : < ما بين هذين وقت > دلالته على وجوب الصلاة في هذا الوقت دون دلالة قوله : < لا صلاة إلا بأم الكتاب > وقوله : < من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج > وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : < سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها ، فصلوا الصلاة لوقتها ، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة > . ولهذا احتج أحمد على وجوب فعلها في الوقت عند الرفاهية بقوله صلى الله عليه وسلم : < فصلوا الصلاة لوقتها > وهو الوقت الذي بينه لهم . والأمراء لم يكونوا يؤخرون صلاة النهار إلى الليل . ولا صلاة الليل إلى النهار . وإنما كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر والعصر إلى آخر النهار . ودل هذا على أن من فعل هذا لم يقاتل ؛ لأنهم سألوه عن الأمراء ، أنقاتلهم ؟ قال : < لا ، ما صلوا > وهذه كانت صلاتهم . ودل على أن هذه الصلاة لا تجوز بحال ، وتفويت يوم الخندق منسوخ . وأما الجمع بينهما في الوقت المشترك فهو ثابت في السنة في مواضع متعددة . وبعضها مما أجمع عليه المسلمون ، والآثار المشهورة عن الصحابة تبين أن الوقت المشترك وقت في حال العذر . كقول عُمَر بن الخطاب : الجمع بين الصلاتين ، من غير عذر ، من الكبائر ، فدل على أن الجمع بينهما للعذر جائز . وقال عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وأبو هريرة ( فيمن طهرت في آخر النهار ) : إنها تصلي الظهر والعصر ، ( وفيمن طهرت آخر الليل ) : إنها تصلي المغرب والعشاء . وهو قول الثلاثة : مالك والشافعي وأحمد ، وأما التفويت فلا يجوز بحال ، فمن جوز التفويت في بعض الصور ، فقوله ضعيف ، وإن جوز الجمع . وأما من أوجب التفويت ومنع الجمع ، فقد جمع في قوله بين أصلين ضعيفين : بين إباحة ما حرمه الله ورسوله ، وتحريمه ما شرعه الله ورسوله . فإنه قد ثبت أن الجمع خير من التفويت . فهذا الأصل ينظم كثيراً من المواقيت . وتفويت العصر إلى حين الاصفرار . وتفويت العشاء إلى النصف الثاني أيضاً لا يجوز إلا لضرورة ، والجمع بين الصلاتين خير من الصلاة في هذا الوقت ، بل الصلاة بالتيمم قبل دخول وقت الضرورة خير من الصلاة بالوضوء في وقت الضرورة . وقد نص على ذلك الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره . وقالوا : لا يجوز تأخيرها إلى الاصفرار . بل إذا لم يجد الماء إلا فيه ، فإنه يصلي بالتيمم قبل الاصفرار ، ولا يصليها حين الاصفرار بالوضوء . انتهى كلامه عليه الرحمة .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } [ 79 ] .
{ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } أمرٌ له بصلاة الليل ، إثر أمره بالصلوات الخمس وفي : { مِنْ } وجهان : أحدهما : أنها متعلقة بـ ( تهجد ) أي : تهجد بالقرآن بعض الليل . والثاني : أنها متعلقة بمحذوف عطف عليه ( فتهجد ) أي : قم من الليل ، أي : في بعضه فتهجد بالقرآن . والتهجد ترك الهجود وهو النوم ، و ( تفعل ) يأتي للسلب : كـ ( تأثم وتحرج ) بمعنى ترك الإثم والحرج . قال الأزهري : المعروف في كلام العرب أن الهاجد النائم . وأما المتهجد فهو القائم إلى الصلاة من النوم . وكأنه قيل له : ( متهجد ) لإلقائه الهجود عن نفسه ، كما يقال للعابد ( متحنث ) لإلقائه الحنث عن نفسه . انتهى .
ونقل عن ابن فارس : أن معناه : صلِّ ليلاً . وكذا عن ابن الأعرابي قال : هجد الرجل وتهجد ، إذا صلى بالليل . والمعروف الأول . والضمير في ( به ) للقرآن من حيث هو ، لا بقيد إضافته إلى الفجر ، أو للبعض المفهوم من ( من ) والباء بمعنى ( في ) أي : تهجد في ذلك البعض . وقوله تعالى : { نَافِلَةً لَّكَ } أي : عبادة زائدة لك على الصلوات الخمس .
قال الزمخشري : وضع ( نافلة ) موضع ( تهجداً ) لأن التهجد عبادة زائدة . فكان التهجد والنافلة يجمعهما معنى واحد . والمعنى : أن التهجد زيد لك على الصلوات المفروضة ، فريضة عليك خاصة دون غيرك ؛ لأنه تطوع لهم . انتهى .
قال أبو السعود : ولعله هو الوجه في تأخير ذكرها عن ذكر صلاة الفجر ، مع تقدم وقتها على وقتها .
وقوله تعالى : { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } أي : يحمده القائم فيه وكل من رآه وعرفه . وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات . والمشهور أنه مقام الشفاعة العظمى ؛ للفصل بين الخلائق الذي يحمده فيه الأولون والآخرون . كما وردت به الأخبار الصحيحة . ومعنى النظم الكريم على هذا : كما انبعثت من النوم الذي هو الموت الأصغر ، بالصلاة والعبادة ، فسيبعثك ربك من بعد الموت الأكبر ، مقاماً محموداً عندك وعند جميع الناس . وفيه تهوين لمشقة قيام الليل . أشار له أبو السعود .
تنبيه :
قال ابن جرير : ذهب آخرون إلى أن ذلك المقام المحمود ، الذي وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبعثه إياه ، هو أن يجلسه معه على عرشه . رواه ليث عن مجاهد . وقد شنع الواحدي على القائل به ، مع أنه رواه عن ابن مسعود أيضاً . وعبارته - على ما نقلها الرازي - : وهذا قول رذل موحش فظيع ، ونص الكتاب ينادي بفساد هذا التفسير ويدل عليه وجوه :
الأول : أن البعث ضد الإجلاس ، يقال : بعثت النازل والقاعد فانبعث ، ويقال : بعث الله الميت ، أي : أقامه من قبره . فتفسير البعث بالإجلاس تفسير للضد بالضد وهو فاسد .
الثاني : أنه تعالى قال : { مَقَاماً مَّحْمُوداً } ولم يقل مقعداً . والمقام موضع القيام لا موضع القعود .
الثالث : لو كان تعالى جالساً على العرش ، بحيث يجلس عنده محمد عليه الصلاة والسلام لكان محدوداً متناهياً . ومن كان كذلك فهو محدَث .
الرابع : يقال : إن جلوسه مع الله على العرش ليس فيه كثير إعزاز ؛ لأن هؤلاء الجهال والحمقى يقولون ( في كل أهل الجنة ) : إنهم يزورون الله تعالى وإنهم يجلسون معه وإنه تعالى يسألهم عن أحوالهم التي كانوا عليها في الدنيا ، وإذا كانت هذه الحالة حاصلة عندهم لكل المؤمنين ، لم يكن لتخصيص محمد صلى الله عليه وسلم بها مزيد شرف ورتبة .
الخامس : أنه إذا قيل : السلطان بعث فلاناً ، فهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم . ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه . فثبت أن هذا القول كلام رذل سقط ، لا يميل إليه إلا إنسان قليل العقل عديم الدين . انتهى كلام الواحدي .
وليته اطلع على ما كتبه ابن جرير حتى يمسك من جماح يراعه ، ويبصر الأدب مع السلف مع المخارج العلمية لهم . وهاك ما قاله ابن جرير رحمه الله ( بعد ما نقل عن مجاهد قوله المتقدم ) :
وأولى القولين بالصواب ، ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مقام الشفاعة - ثم قال - : وهذا وإن كان هو الصحيح في القول ، في تأويل المقام المحمود ، لما ذكرنا من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين . فإن ما قاله مجاهد من أن الله يقعد محمداً صلى الله عليه وسلم على عرشه ، قوله غير مدفوع صحته . لا من جهة خبر ولا نظر . وذلك لأنه لا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه ، ولا عن التابعين ، بإحالة ذلك . فأما من جهة النظر فإن جميع من ينتحل الإسلام ، إنما اختلفوا في معنى ذلك على أوجه ثلاثة : فقالت فرقة منهم : الله عز وجل بائن من خلقه ، كان قبل خلقه الأشياء ، ثم خلق الأشياء فلم يماسها ، وهو كما لم يزل ، غير أن الأشياء التي خلقها ، إذا لم يكن هو لها مماساً ، وجب أن يكون لها مبايناً ؛ إذ لا فعَّال للأشياء إلا وهو مماس للأجسام أو مباين لها . قالوا : فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله عز وجل فاعل الأشياء ، ولم يجز في قولهم إنه يوصف بأنه مماس للأشياء ، وجب بزعمهم أنه لها مباين . فعلى مذهب هؤلاء سواء أقعد محمداً صلى الله عليه وسلم على عرشه أو على الأرض ( إذ كان من قولهم : إن بينونته من عرشه وبينونته من أرضه بمعنى واحد ، في أنه بائن منهما كليهما غير مماس لواحد منهما ) . وقالت فرقة أخرى : كان الله تعالى ذكره قبل خلقه الأشياء لا شيء يماسه ولا شيء يباينه ، ثم خلق الأشياء فأقامها بقدرته ، وهو كما لم يزل قبل خلقه الأشياء ، لا شيء يماسه ولا شيء يباينه . فعلى قول هؤلاء أيضاً : سواء أقْعَدَ محمداً صلى الله عليه وسلم على عرشه أو على أرضه ( إذ كان سواء على قولهم : عرشه وأرضه ، في أنه لا مماس ولا مباين لهذا ، كما أنه لا مماس ولا مباين لهذه ) .
وقالت فرقة أخرى : كان الله عز ذكره قبل خلقه الأشياء لا شيء يماسه ولا شيء يباينه ، ثم أحدث الأشياء وخلقها ، فخلق لنفسه عرشاً استوى عليه جالساً وصار له مماساً ، كما أنه قد كان قبل خلقه الأشياء لا شيء يرزقه رزقاً ولا شيء يحرمه ذلك . ثم خلق الأشياء فرزق هذا وحرم هذا وأعطى هذا ومنع هذا . قالوا : فكذلك كان قبل خلقه الأشياء ، لا شيء يماسه ولا يباينهُ . وخلق الأشياء فماس العرش بجلوسه عليه دون سائر خلقه ، فهو مماس ما شاء من خلقه ومباين ما شاء منه . فعلى مذهب هؤلاء أيضاً سواء أقعد محمداً على عرشه أو أقعده على منبر من نور ، إذ كان من قولهم : أن جلوس الرب على عرشه ليس بجلوس يشغل جميع العرش ، ولا في إقعاد محمد صلى الله عليه وسلم موجباً له صفة الربوبية ، ولا مخرجه من صفة العبودية لربه . كما أن مباينة محمد صلى الله عليه وسلم ما كان مبايناً له من الأشياء ، غير موجبة له صفة الربوبية ولا مخرجته من صفة العبودية لربه . من أجل أنه موصوف بأنه مباين له ، كما أن الله عز وجل موصوف - على قول قائل هذه المقالة بأنه مباين لها . هو مباين له . قالوا : فإذا كان معنى ( مباين ومباين ) لا يوجب لمحمد صلى الله عليه وسلم الخروج من صفة العبودية ، والدخول في معنى الربوبية فكذلك لا يوجب له ذلك قعوده على عرش الرحمن . فقد تبين إذاً بما قلنا أنه غير محال في قول أحد ممن ينتحل الإسلام ما قاله مجاهد ، من أن الله تبارك وتعالى يقعد محمداً على عرشه ، فإن قال قائل : فإنا لا ننكر إقعاد الله محمداً على عرشه ، وإنما ننكر إقعاده معه . ( حدثني ) عباس بن عبد العظيم قال : حدثنا يحيى بن كثير عن الجريري ، عن سيف السدوسي عن عبد الله بن سلام قال : إن محمداً صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ، على كرسي الرب ، بين يدي الرب تبارك وتعالى . وإنما ينكر إقعاده إياه معه . قيل : أفجائز عندك أن يقعده عليه لا معه ؟ فإن أجاز ذلك صار إلى الإقرار بأنه إما معه أو إلى أنه يقعده ، والله للعرش مباين ، أو لا مماسٌّ ولا مباين ، وبأي ذلك قال ، كان منه دخولاً في بعض ما كان ينكره . وإن قال : ذلك غير جائز منه ، خروجاً من قول جميع الفرق التي حكينا قولهم ، وذلك فراق لقول جميع من ينتحل الإسلام ؛ إذ كان لا قول في ذلك إلا الأقوال الثلاثة التي حكيناها . وغير محال في قول منها ما قال مجاهد في ذلك . انتهى كلام ابن جرير رحمه الله .
وأقول : لك أن تجيب أيضاً عن إيرادات الواحدي الخمسة ، التي أفسد بها قول مجاهد . أما جواب إيراده الأول ، فإن مجاهداً لم يفسر مادة البعث وحدها بالإجلاس . وإنما فسر بعثه المقام المحمود بما ذكر .
وعن الثاني : بأن المقام هو المنزلة والقدرة والرفعة ، معروف ذلك في اللغة .
وعن الثالث : بدفع اللازم المذكور ؛ لأنه كما اتفق على أن له ذاتاً لا تماثلها الذوات ، فكذلك كل ما يوصف به مما ورد في الكتاب والآثار فإنه لا يماثل الصفات ، ولا يجوز قياس الخالق على المخلوق .
وعن الرابع : بأنه مكابرة ؛ إذ كل أحد يعرف - في الشاهد - لو أن ملكاً استدعى جماعة للحضور لديه ، ورفع أفضلهم على عرشه ، أن المرفوع ذو مقام يفوق به الكل .
وعن الخامس : بأنه من واد آخر غير ما نحن فيه ؛ إذ لا بعث لإصلاح المهمات في الآخرة ، وإنما معنى الآية : إنه يرفعك مقاماً محموداً . وذلك يصدق على ما قاله مجاهد وما قال الأكثر . فتأمل وأنصف . وقد أنشد الحافظ الذهبي في كتابه " العلو لله العظيم " للإمام الدارقطني في ترجمته ، قوله :
~حديث الشفاعة في أحمد إلى أحمد المصطفى نسنده
~وأما حديث بإقعاده على العرش أيضاً فلا نجحده
~أمرُّوا الحديث على وجهه ولا تدخلوا فيه ما يفسده
وقال الذهبي في كتابه المنوه به ، في ترجمة ( محمد بن مصعب ) العابد شيخ بغداد ما مثاله : وقال المروذي : سمعت أبا عبد الله الخفاف . سمعت ابن مصعب وتلا : { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } قال : نعم يقعده على العرش . ذكر الإمام أحمد ، محمد بن مصعب فقال : قد كتبت عنه . وأي رجل هو ؟ ! قال الذهبي : فأما قضية قعود نبينا على العرش ، فلم يثبت في ذلك نص ، بل في الباب حديث واهٍ . وما فسر به مجاهد الآية ، كما ذكرناه . فقد أنكره بعض أهل الكلام . فقام المروذي وقد بالغ في الانتصار لذلك وجمع فيه كتاباً وطُرقَ قول مجاهد ، من رواية ليث بن أبي سُلَيم ، وعطاء بن السائب ، وأبي يحيى القتات وجابر بن يزيد . وممن أفتى في ذلك العصر ، بأن هذا الأثر يسلم ولا يعارض . أبو داود السجستاني صاحب السنن وإبراهيم الحربي وخلق . بحيث إن ابن الإمام أحمد قال عقيب قول مجاهد : أنا منكرٌ على كل من رد هذا الحديث . وهو عندي رجل سوء متهم . سمعته من جماعة . وما رأيت محدثاً ينكره . وعندنا إنما تنكره الجهمية . وقد حدثنا هارون بن معروف . ثنا محمد بن فضيل عن ليث ، عن مجاهد في قوله : { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } قال : يعقده على العرش . فحدثت به أبي رحمه الله فقال : لم يُقَدَّرْ لي أن أسمعه من ابن فضيل : بحيث إن المروذيِّ روى حكاية بنزول ، عن إبراهيم بن عرفة . وسمعت ابن عمير يقول : سمعت أحمد بن حنبل يقول : هذا قد تلقته العلماء بالقبول . وقال المروذي : قال أبو داود السجستاني : ثنا ابن أبي صفوان الثقفي . ثنا يحيى بن أبي كثير . ثنا سَلْم بن جعفر ، وكان ثقة ، ثنا الجريري ، ثنا سيف السدوسي عن عبد الله بن سلام ، قال : إذا كان يوم القيامة جيء بنبيكم صلى الله عليه وسلم حتى يجلس بين يدي الله عز وجل على كرسيه . الحديث . وقد رواه ابن جرير في تفسيره . ( أعني قول مجاهد ) وكذلك أخرجه النقاش في تفسيره . وكذلك رد شيخ الشافعية ابن سريج على من أنكره . بحيث إن الإمام أبا بكر الخلال قال في كتاب ( السنة ) من جمعه : أخبرني الحسن بن صالح العطار . عن محمد بن علي السراج . قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت : إن فلاناً الترمذي يقول : إن الله لا يقعدك معه على العرش . ونحن نقول : بل يقعدك ، فأقبل عليَّ شبه المغضب وهو يقول : بلى ، والله ! بلى ، والله ! يقعدني على العرش . فانتبهت . بحيث إن الفقيه أبا بكر أحمد بن سليمان النجاد المحدث قال ( فيما نقله عنه القاضي أبو يعلى الفراء ) : لو أن حالفاً حلف بالطلاق ثلاثاً ؛ إن الله يقعد محمداً صلى الله عليه وسلم على العرش . واستفتاني ، لقلت له : صدقت وبررت .
قال الذهبي : فأبصر ، حفظك الله من الهوى ، كيف آل الغلو بهذا المحدث إلى وجوب الأخذ بأثر منكر . واليوم يردون الأحاديث الصريحة في العلو . بل يحاول بعض الطغام أن يرد . قوله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] . انتهى .(/)
وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً * وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } [ 80 - 81 ] .
{ وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ } أي : مدخلاً حسناً مرضياً بلا آفة : { وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } أي : مخرجاً حسناً مرضياً من غير آفة الميل إلى النفس ، ولا الضلال بعد الهدى . و : { وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً } أي : عزاً ناصراً للإسلام على الكفر ، مظهراً له عليه .
وقد رأى المهايمي ارتباط الآية بما قبلها في معناها حيث قال : { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي } أي : في هذه العبادات ، فإنها لا توصلك إلى المقام المحمود ، إلا إذا صدق دخولك فيها وخروجك عنها ، ولا يتم إلا بإمداد الله بعد استمدادك منه . وقولك : { رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ } أي : بمشاهدتك في هذه العبادات ، وتخليتي عن الرياء والعجب ، وتصفيتي بإخلاص العمل ، وإخلاص طلب الأجر ، ورؤية المنة لله ، ورؤية التقصير فيها : { وَأَخْرِجْنِي } عنها : { مُخْرَجَ صِدْقٍ } فلا تستعملني فيما يحبطها عليِّ ، ولا تردني على نفسي . وإذا غلبني الشيطان أو النفس أو الخلق ، أو وردت عليَّ شبهة ، فاجعل لي من لدنك ، لا من عند فكري : { سُلطَاناً } أي : حجة : { نَصِيْراً } ينصرني على ما ذكر ؛ ليبقي عليَّ عبادتي فيوصلني إلى المقام المحمود . انتهى .
واللفظ الكريم محتمل لذلك . ويظهر لنا أنه إشارة للهجرة كما ستراه .
{ وَقُلْ } أي : استبشاراً بقرب الظفر والنصر ، وترهيباً للمشركين : { جَاء الْحَقُّ } وهو الوعد بالسلطان النصير والإسلام ودولته : { وَزَهَقَ الْبَاطِلُ } أي : ذهب وهلك . وهو الشرك وجولته : { إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } أي : مضمحلاً غير ثابت في كل وقت .
تنبيه :
سياق هذه الآيات مع سباقها أعني قوله تعالى : { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ } يدل على أن نزولها في أوقات الاهتمام للهجرة إلى المدينة ، ومبارحة مكة ، وأنه تعالى أمر نبيه بأن يبتهل إليه في تيسير إدخاله لمهاجره على ما يرضيه ، وإخراجه من بلده كذلك . وأن يجعل له حماية من لدنه ، تعز جانبه وتعصمه ممن يرومه بسوء .
وأسلوب التنزيل العزيز في مثل هذا الدعاء ، هو إرادة الخبر بحصول المدعو ، ومشيئة الله بوقوعه عن قرب . ولذلك عقبه بقوله : { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ } إعلاماً بأن الأمر تم ، والفرج جاء ، ودحر الباطل ، ورجع إلى أصله ، وهو العدم .
روى الحافظ أبو يعلى عن جابر رضي الله عنه قال : دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة . وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً ، تعبد من دون الله . فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبَّت على وجوهها . وقال : { جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } . ورواه الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود ، بنحوه .
قال في " الإكليل " : فيه استحباب تلاوة هذه الآية عند إزالة المنكر .
ثم بيَّن تعالى خسار المشركين ، بإعراضهم عما يشفي أمراضهم المعنوية ، وهو القرآن الكريم ونجاح المؤمنين بالاستشفاء بهداه ورحمته ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً } [ 82 ] .
{ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً } أي : وننزل عليك من القرآن ما يستشفى به من الجهل والضلالة . ورحمة ببيان الحقائق وإقامة البراهين للمؤمنين به ، دون الكافرين ؛ لأن المؤمنين يعملون بما فيه من فرائض الله وشرائعه . فيدخلهم الجنة وينجيهم من العذاب . فهو لهم رحمة ونعمة . ولا يزيد الظالمين ، بكفرهم وشركهم ، إلا خساراً . أي : إهلاكاً ؛ لأنهم كلما جاءهم أمر من الله أو نهي ، كفروا به ، فزادهم خساراً إلى ما كانوا فيه قبلُ ، ورجساً إلى رجسهم .
قال الشهاب : ( الشفاء ) : استعارة تصريحية أو تخييلية . بتشبيه الكفر بالمرض . و ( من ) بيانية ، قدمت على المبين وهو ( ما ) اعتناء .
تنبيه :
ذهب بعضهم إلى أن القرآن مما يستشفى به من الأمراض الحسية لهذه الآية . بحمل قوله : { شِفَاءٌ } على معنيين من باب عموم المجاز . أو حمل المشترك على معنييه ، وممن قرر ذلك الرازي . وعبارته : اعلم أن القرآن شفاء من الأمراض الروحانية . وشفاء أيضاً من الأمراض الجسمانية . أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية فظاهر . وذلك لأن الأمراض الروحانية نوعان : الاعتقادات الباطلة . والأخلاق المذمومة . أما الاعتقادات الباطلة ، فأشدها فساد الاعتقادات في الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر . والقرآن مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه المطالب ، وإبطال المذاهب الباطلة فيها . لا جرم كان شفاء من هذا النوع من المرض الروحاني . وأما الأخلاق المذمومة ، فالقرآن مشتمل على تفصيلها وتعريف ما فيها من المفاسد ، والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة الكاملة ، والأعمال المحمودة . فكان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض . فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الروحانية .
وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية ، فلأن التبرك بقراءته يدفع كثيراً من الأمراض . ولما اعترف الجمهور من الفلاسفة وأصحاب الطلسمات بأنه لقراءة الرقى المجهولة والعزائم التي لا يفهم منها شيء آثاراً عظيمة في تحصيل المنافع ودفع المفاسد ؛ فلأن تكون قراءة هذا القرآن العظيم ، المشتمل على ذكر جلال الله وكبريائه ، وتعظيم الملائكة المقربين ، وتحقير المردة والشياطين سبباً لحصول النفع في الدين والدنيا كان أولى . ويتأكد ما ذكرنا بحديث : < من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله تعالى > . وأما كونه رحمة للمؤمنين ، فاعلم أنا بينا أن الأرواح البشرية مرضية بسبب العقائد الباطلة والأخلاق الفاسدة . والقرآن منه ما يفيد الخلاص من شبهات الضالين وتمويهات المبطلين ، وهو الشفاء . ومنه ما يفيد تعليم كيفية اكتساب العلوم العالية والأخلاق الفاضلة ، التي بها يصل الإنسان إلى جوار رب العالمين ، والاختلاط بزمرة الملائكة المقربين ، وهو الرحمة . ولما كانت إزالة المرض مقدمة على السعي في تكميل موجبات الصحة ، لا جرم بدأ الله تعالى ، في هذه الآية ، بذكر الشفاء ثم أتبعه بذكر الرحمة ، انتهى .
وقال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " في بحث الأدوية والأغذية المفردة ، التي جاءت على لسانه صلى الله عليه وسلم في حرف القاف ( قرآن ) : قال الله تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } . والصحيح أن ( من ) ها هنا لبيان الجنس ، لا للتبعيض . وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ } [ يونس : 57 ] . فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية . وأدواء الدنيا والآخرة . وما كل أحد يؤهل ولا يوفق للاستشفاء به . وإذا أحسن العليل التداوي به ، ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام ، واعتقاد جازم ، واستيفاء شروطه ؛ لم يقاومه الداء أبداً . وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء ، الذي لو أنزل على الجبال لصدعها ، أو على الأرض لقطعها ؟ ! فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل للدلالة على دوائه وسببه والحمية منه ، لمن رزقه الله فهماً في كتابه . فمن لم يشفه القرآن فلا شفاه الله . ومن لم يكفه فلا كفاه الله .
ثم قال في ( حرف الكاف ) : ورخص جماعة من السلف في كتابة بعض القرآن وشربه ، وجعل ذلك من الشفاء الذي جعل الله فيه . ثم ذكر ما كان يكتبه شيخ الإسلام ابن تيمية للرعاف . فانظره .
وذكر قبلُ في فاتحة الكتاب ، من سر كونها شفاء ، حقائق بديعة . وكذا في بحث الرقي . وذكر أيضاً أن من الأدوية التي تشفي من الأمراض ، ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء ، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم ، من الأدوية القلبية والروحانية وقوة القلب واعتماده على الله والتوكل عليه والالتجاء إليه ، والانطراح والانكسار بين يديه ، والتذلل له والصدقة والصلاة والدعاء والتوبة والاستغفار ، والإحسان إلى الخلق وإغاثة الملهوف والتفريج عن المكروب . فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها . فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لم يصل إليه علم أعلم الأطباء ، ولا تجربته ولا قياسه . وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أموراً كثيرة . ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية . وهذا جار على قانون الحكمة الإلهية ، ليس خارجاً عنها . ولكن الأسباب متنوعة ، فإن القلب متى اتصل برب العالمين ، وخالق الداء والدواء ، ومدبر الطبيعة ومصرفها على ما يشاء ، كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد منه ، المعرض عنه . وقد علم أن الأرواح متى قويت وقويت النفس والطبيعة ؛ تَعَاونَا على دفع الداء وقهره . فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه ، وفرحت بقربها من بارئها وأنسها به وحبها له وتنعمها بذكره ، وانصراف قواها كلها إليه ، وجمعها عليه ، واستعانتها به ، وتوكلها عليه ؛ أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية ، ويوجب لها هذا القوة دفع الألم بالكلية ؟ ! ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس وأعظمهم حجاباً ، وأكثفهم نفساً ، وأبعدهم عن الله وعن حقيقة الإنسانية .
وقد أسهب ، عليه الرحمة ، أيضاً في كتاب " إغاثة اللهفان " في بيان تضمن القرآن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه ، بما تنبغي مراجعته ؛ ليزداد المريد علماً .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً } [ 83 ] .
{ وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً } إشارة إلى السبب في وقوع هؤلاء الضالين في أودية الضلال . وهو حب الدنيا وإيثارها على الأخرى ، وكفران نعمه تعالى ، بالإعراض عن شكرها ، والجزع واليأس من الفرج عند مس شر قضى عليه . وكل ذلك مما ينافي عقد الإيمان . فإن المؤمن ينظر بعين البصيرة ، ويشاهد قدرة الله تعالى في كلتا الحالتين . ويتيقن في الحالة الأولى ؛ أن الشكر رباط النعم . وفي الثانية أن الصبر دفاع النقم . فيشكر ويصبر . ويعلم أن المنعم يقدر ، فلم يعرض عند النعمة بطراً وأشراً . ولم يغفل عن المنعم ولم يجزع عند النقمة جزعاً وضجراً .
فالآية وصف للجنس باعتبار بعض أفراده ممن هو على هذه الصفة . كقوله تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [ هود : 9 - 11 ] .
قال الزمخشري : { وَنَأَى بِجَانِبِهِ } تأكيد للإعراض ؛ لأن الإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه . والنأي بالجانب : أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره . أو أراد الاستكبار ، لأن ذلك من عادة المستكبرين .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً } [ 84 ] .
{ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ } أي : على مذهبه وطريقته وخليقته وملكته الغالبة عليه ، الحاصلة له من استعداد حقيقته ، التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة ، من قولهم : ( طريق ذو شواكل ) وهي الطرق التي تتشعب منه لتشاكلها . أي : تشابهها في الشكل . فسميت عادة المرء بها ، لأنها تشاكل حاله . والدليل عليه قوله تعالى : { فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً } أي : أسدُّ مذهباً وطريقة ، من العاملين : عامل الخير بمقتضى سجية القلب الفاضلة ، وعامل الشر بمقتضى طبيعة النفس ، فيجازيهما بحسب أعمالهما .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [ 85 ] .
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } قال القاشاني : أي : الذي يحيا به بدن الإنسان ويدبره : { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } أي : ليس من عالم الخلق حتى يمكن تعريفه للظاهريين البدنيين ، الذين يتجاوز إدراكهم الحس والمحسوس ، بالتشبيه ببعض ما شعروا به ، والتوصيف . بل من عالم الأمر ، أي : الإبداع الذي هو عالم الذوات المجردة عن الهيولى ، والجواهر المقدسة عن الشكل واللون والجهة والأين ، فلا يمكنكم إدراكه أيها المحجوبون بالكون ؛ لقصور إدراككم وعلمكم عنه : { وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } هو علم المحسوسات . وذلك شيء نزر حقير بالنسبة إلى علم الله والراسخين في العلم . - هذا ما قاله القاشاني - وحاصل الجواب عليه : أن الروح موجود محدث بأمره تعالى بلا مادة ، وتولد من أصل كأعضاء الجسد ، حتى يمكن تعريفه ببعض مبادئه ، بل هو من عالم الأمر لا من عالم الخلق . فيكون الاقتصار في الجواب على قوله : { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } كما اقتصر موسى في جواب قول فرعون : { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 23 ] ، على قوله : { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ الشعراء : 24 ] ، إعلاماً بأن إدراكه بالكنه على ما هو عليه ، لا يعلمه إلا الله تعالى . وأنه شيء بمفارقته يموت الإنسان ، وبملازمته له يبقى . كما أومأ إليه قوله تعالى : { وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } أي : علماً قليلاً تستعيدونه من طرق الحواس . وهو هذا القدر الإجمالي .
قال الشهاب : والسؤال - على هذا - عن حقيقتها . والجواب إجمالي بأنها من المبدعات من غير مادة . ولذا قيل : إنه من الأسلوب الحكيم . كما في قوله : { يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ } [ البقرة : 189 ] ، إشارة إلى أن حقيقتها لا تعلم ، وإنما يعلم منها هذا المقدار . فالمراد بـ ( الأمر ) على هذا التفسير ( قول كن ) ولذا قالوا لمثله : عالم الأمر . انتهى .
قال أبو السعود عليه الرحمة : وليس هذا من قبيل قوله سبحانه : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] ، فإن ذلك عبارة عن سرعة التكوين . سواء كان الكائن من عالم الأمر أو من عالم الخلق . بل إنه من الإبداعيات الكائنة بمحض الأمر التكويني من غير تحصل من مادة . وحكى ، عليه الرحمة ، قولاً آخر وهو : أن الأمر بمعنى الشأن . قال : والإضافة للاختصاص العلمي لا الإيجادي ، لاشتراك الكل فيه . وفيها من تشريف المضاف ما لا يخفى . كما في الإضافة الثانية من تشريف المضاف إليه . أي : هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأسرار الخفية التي لا يكاد يحوم حولها عقول البشر . وعليه ، فـ ( من ) بيانية أو تبعيضية . ويكون نهياً لهم عن السؤال عنها ، وتركاً للبيان . وهذا رأي كثيرين ، أمسكوا عن الخوض فيها ، وقالوا : إنها شيء استأثر الله بعلمه ولم يطلع أحداً من خلقه ، فلا يجوز البحث عنها بأكثر من أنها شيء موجود ، بل غلا بعضهم وقال : إن الإفاضة في بحث الروح بدعة في الدين . إذا لم يبينه الله لرسوله بأكثر مما في الآية . فالاشتغال بالتفتيش عنه غلو فيما لم يرد به قرآن ولم يقم عليه برهان ، وما كان كذلك فهو عناد .
وأجاب الخائضون في بحثها ، بأن الآية لا يدل معناها على ذكر دلالة قطعية ، ولا دلالة فيها على المنع من الخوض فيها ، ولا على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلمها . وغاية الأمر أنه أمر بترك الجواب عنها تفصيلاً . إما لأن الإمساك عن ذلك كان عند اليهود السائلين عنها ، من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم ، أو لأن سؤالهم كان تعنتاً . فإنها تطلق على معان : منها الراحة وبرد النسيم . وعلى جبريل والقرآن وعيسى عليه السلام والحياة والقلب والرحمة وغير ذلك . فأضمروا على أنه إذا أجاب بأحد هذه الأمور ، قالوا : لم نرده ، وإنما أردنا كذا .
ثم الأقاويل فيها من الحكماء والعلماء الأقدمين مختلفة . ولا يتم الجواب في محل الخلاف . فأتى بالجواب مجملاً على وجه يصدق على كل من ذلك مرموزاً ، ليعلمه العلماء بالله . واقتضت المصلحة العامة منع الكلام فيه لغيرهم ؛ لأن الأفهام لا تحتمله . خصوصاً على طريقة الحكماء ؛ إذ من غلب على طبعه الجمود لا يقبله ولا يصدق به في صفة الباري . فكيف يصدق به في حق الروح الإنساني . بل قال بعض المدققين : إن في الآية والجواب ببيان حقيقتها ، وأنها من إبداعاته الكائنة بتكوينه ، من غير سبق مادة - وهو ما ذكرناه أولاً - وفي الجواب بذلك ما فيه الكفاية لذوي البصائر والدراية . ومقنع لمن كان له في النزاع إذا فُصل مطمع . وقد استحسن بعضهم هذا الجواب وقال مذيلاً له : فيكون قوله : { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } على أن السؤال عن حقيقتها مطابقاً ، إلا أنه إجمالي . أي : من الممكنات التي يمكن الوقوف على حقائقها ، وإن كان بإعمال روية وإيقاظ فكر كباقي عالم الأمر . وعلى أن السؤال عن قدمها وحدوثها كذلك ، إلا أنه تفصيلي . وأيَّاً ما كان ، فلم يترك بيانها ، ولو كانت مما لا سبيل إلى معرفته لقيل : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } كما قيل في الساعة ، أو نحو ذلك . بل لو لم يكن السبيل لمعرفته ، ولو بوجه ما ، متيسراً لكثير من الناس ؛ لم يكن لأمره بالتفكر فيها ، والتبصر في أمرها ، للاستدلال بها عليه ، والتوصل بواسطة معرفتها إليه ، الذي هو الغاية القصوى والثمرة العظمى ؛ من فائدة . بل كان عبثاً . فدل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِم } [ الروم : 8 ] ، وقوله : { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] ، ونحو ذلك ، أنها أمر تدركه العقول ، وبه يكون إليه تعالى الوصول .
ثم إن الذين خاضوا في البحث عنها ، أثرت عنهم أقوال شتى . وقد أفردت لذلك تآليف قديمة وحديثة ، والذي يهمنا معرفته ما عول عليه الأئمة المدققون ، الذين نقبوا عن أقوال المتقدمين ، ونقدوها بمحك الكتاب والسنة ، فنبذوا ما يخالفهما وتمسكوا بما يوافقهما .
فمنهم الإمام ابن حزم . قال رحمه الله في كتابه " الملل والنحل " بعد سرد مذاهب شتى : وذهب سائر أهل الإسلام والملل المقرة بالمعاد ، إلى أن النفس جسم طويل عريض عميق ذات مكان . عاقلة مميزة مصرفة للجسد . قال : وبهذا نقول . والنفس والروح اسمان لمسمى واحد ، ومعناهما واحد . ثم قال : وأما من ذهب إلى أن النفس وليست جسماً ، فقولٌ يبطل بالقرآن والسنة وإجماع الأمة . فأما القرآن ، فإن الله عز وجل قال : { هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ } [ يونس : 30 ] ، وقال تعالى : { الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْم } [ غافر : 17 ] ، وقال تعالى : { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } [ الطور : 21 ] ، فصح أن النفس هي الفعالة الكاسبة المجيبة المخطئة . وقال تعالى : { إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } [ يوسف : 53 ] ، وقال تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [ غافر : 46 ] . وقال تعالى : { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ } [ البقرة : 154 ] ، وقال تعالى : { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلهِ } [ آل عِمْرَان : 169 - 170 ] فصح أن الأنفس ، منها ما يعرض على النار قبل يوم القيامة ، فيعذب . ومنها ما يرزق وينعم فرحاً ، ويكون مسروراً قبل القيامة . ولا شك أن أجساد آل فرعون وأجساد المقتولين في سبيل الله ، قد تقطعت أوصالها وأكلها السباع والطير وحيوان الماء . فصح أن الأنفس منقولة من مكان إلى مكان . ولا شك في أن العرض لا يلقى العذاب ولا يحس ، فليست عرضاً . وصح أنها تنتقل في الأماكن قائمة بنفسها ، وهذه صفة الجسم لا صفة الجوهر عند القائل به ، فصح ، ضرورةً ، أنها جسم .
وأما من السنن فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر في الجنة > . وقوله صلى الله عليه وسلم : إنه < رأى نسم بني آدم عند سماء الدنيا عن يمين آدم ويساره > . فصح أن الأنفس مرئية في أماكنها ، وقوله عليه السلام : < إن نفس المؤمن إذا قبضت ، عرج بها إلى السماء وفعل بها كذا ، ونفس الكافر إذا قبضت فعل بها كذا > فصح أنها معذبة ومنعمة ومنقولة في الأماكن ، وهذه صفة الأجسام ضرورة .
وأما من الإجماع ، فلا اختلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن أنفس العباد منقولة بعد خروجها من الأجساد ، إلى نعيم أو إلى صنوف ضيق وعذاب . وهذه صفة الأجسام .
ثم قال : ومعنى قول الله تعالى : { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } إنما هو لأن الجسد مخلوق من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم عظماً ثم لحماً ثم أمشاجاً . وليس الروح كذلك . وإنما قال الله تعالى آمراً له بالكون ( كن فكان ) فصح أن النفس والروح والنسمة أسماء مترادفة لمعنى واحد ، وقد يقع الروح أيضاً على غير هذا . فجبريل عليه السلام الروح الأمين . والقرآن روح من عند الله .
وقال ابن حزم أيضاً ، قبل ذلك ، في بحث عذاب القبر : والذي نقول به في مستقر الأرواح ، هو ما قاله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم لا نتعداه ، فهو البرهان الواضح وهو أن الله تعالى قال : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } [ الأعراف : 172 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا } [ الأعراف : 11 ] ، فصح أن الله عز وجل خلق الأرواح جملة ، وهي الأنفس . وكذلك أخبر عليه السلام : < إن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف > وهي العاقلة ، الحساسة - وأخذ عز وجل عهدها وشهادتها - وهي مخلوقة مصورة عاقلة ، قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم ، على جميعهم السلام ، وقبل أن يدخلها في الأجساد . والأجساد يومئذ تراب وماء . ثم أقرها تعالى حيث شاء . لأن الله تعالى ذكر ذلك بلفظة ( ثم ) التي توجب التعقيب والمهلة . ثم أقرها عز وجل حيث شاء . وهو البرزخ الذي ترجع إليه عند الموت . لا تزال يبعث منها الجملة ، بعد الجملة . فينفخها في الأجساد المتولدة من المني ، المنحدر من أصلاب الرجال وأرحام النساء ، كما قال تعالى : { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى } [ القيامة : 37 - 38 ] . وقال عز وجل : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً } [ المؤمنون : 12 - 14 ] ، الآية ، وكذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أنه يجمع خلق ابن آدم في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ، ثم علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح > فيبلوهم الله عز وجل في الدنيا كما شاء . ثم يتوفاها فترجع إلى البرزخ الذي رآها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به عند سماء الدنيا : أرواح أهل السعادة عن يمين آدم عليه الصلاة السلام ، وأرواح أهل الشقاوة عن يساره عليه السلام . وذلك عند منقطع العناصر ، وتعجل أرواح الأنبياء عليهم السلام وأرواح الشهداء إلى الجنة .
وقد ذكر محمد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهويه ، أنه ذكر هذا القول الذي قلنا بعينه ، وقال : على هذا أجمع أهل العلم .
ثم قال ابن حزم : ولا تزال الأرواح هنالك ، حتى يتم عدد الأرواح كلها بنفخها في أجسادها ، ثم برجوعها إلى البرزخ المذكور . فتقوم الساعة ، ويعيد عز وجل الأرواح ثانية إلى الأجساد . وهي الحياة الثانية . ويحاسب الخلق : فريق في الجنة وفريق في السعير ، مخلدين أبداً . انتهى .
فصل
ومنهم شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ، عليه الرحمة ، قال في : " تفسير سورة الإخلاص " بعد أن ذكر نزاع المتكلمين المتفلسفة في الملائكة . هل هي متحيزة أم لا ؟ وكذلك نزاعهم في روح الإنسان التي تفارقه بالموت ، على قول الجمهور الذين يقولون : هي عين قائمة بنفسها ليست عرضاً من أعراض البدن كالحياة وغيرها . ولا جزءاً من أجزاء البدن كالهواء الخارج منه . فإن كثيراً من المتكلمين زعموا أنها عرض قائم بالبدن ، أو جزء من أجزاء البدن . لكن هذا مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف والخلف . ولقول جماهير العقلاء من جميع الأمم . ومخالف للأدلة ، وهذا مما استطال به الفلاسفة على كثير من أهل الكلام .
قال القاضي أبو بكر : أكثر المتكلمين على أن الروح عرض من الأعراض . وبهذا نقول ، إذا لم يعن بالروح النفس ، فإنه قال : الروح الكائن في الجسد ضربان : أحدهما الحياة القائمة به والآخر النفس . والنفس ريح ينبث به ، والمراد بالنفس ، ما يخرج بنفس التنفس من أجزاء الهواء المتحلل من المسام . وهذا قول الإسفرائيني وغيره . وقال ابن فورك : هو ما يجري في تجاويف الأعضاء . وأبو المعالي خالف هؤلاء وأحسن في مخالفتهم فقال : إن الروح أجسام لطيفة مشابكة للأجسام المحسوسة . أجرى الله العادة بحياة الأجساد ما استمرت مشابكتها لها . فإذا فارقتها تعقب الموت الحياة في استمرار العادة . ومذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر سلف الأمة وأئمة السنة ، وأن الروح عين قائمة بنفسها . تفارق البدن ، وتنعم وتعذب . ليست هي البدن ، ولا جزءاً من أجزاءه كالنفس المذكور .
ثم الذين قالوا : إنها عين ، تنازعوا : هل هي جسم متحيز ؟ على قولين : كتنازعهم في الملائكة . فالمتكلمون منهم يقولون : جسم . والمتفلسفة يقولون : جوهر عقلي ليس بجسم . وأصل تسميتهم المجردات والمفارقات ، هو مأخوذ من نفس الإنسان . فإنها لما كانت تفارق بدنه بالموت ، وتتجرد عنه سموها : مفارقة مجردة . ثم أثبتوا ما أثبتوه من العقول والنفوس وسموها : مفارقات ومجردات ؛ لمفارقتها المادة التي هي عندهم الجسم . وهذه المفارقات عندهم ما لا يكون جسماً ولا قائماً بجسم . لكن النفس متعلقة بالجسم تعلق التدبير . والعقل لا تعلق له بالأجسام أصلاً . ولا ريب أن جماهير العقلاء على إثبات الفرق بين البدن والروح التي تفارق .
والجمهور يسمون ذلك روحاً وهذا جسماً ، لكن لفظ الجسم في اللغة ليس هو الجسم في اصطلاح المتكلمين . بل الجسم هو الجسد . وهو الجسم الغليظ ، أو غلظه . والروح ليست مثل البدن في الغلظ والكثافة ، ولذلك لا تسمى جسماً . فمن جعل الملائكة والأرواح جسماً بالمعنى اللغوي ، فما أصاب في ذلك . وأما أهل الاصطلاح من المتكلمة والمتفلسفة ، فيجعلون مسمى الجسم أعم من ذلك . وهو ما أمكنت الإشارة الحسية إليه . وما قيل إنه هنا وهناك وما قبل الأبعاد الثلاثة ونحو ذلك .
ثم قال عليه الرحمة : وما يقوله هؤلاء المتفلسفة في النفس الناطقة ، من أنها لا يشار إليها ولا توصف بحركة ولا سكون ولا صعود ولا نزول ، وليس داخل العالم ولا خارجه ؛ هو كلام باطل عند جماهير العقلاء . ولا سيما من يقول منهم ، كابن سينا وأمثاله : إنها لا تعرف شيئاً من الأمور الجزئية ، وإنما تعرف الأمور الكلية ، فإن هذا مكابرة ظاهرة ، فإنها تعرف بدنها وتعرف كل ما تراه بالبدن وتشمه وتسمعه وتذوقه وتقصده وتأمر به وتحبه وتكرهه ، إلى غير ذلك مما تتصرف فيه بعلمها وعملها . فكيف يقال : إنها لا تعرف الأمور المعينة وإنما تعرف أموراً كلية ! ؟ وكذلك قولهم : إن تعلقها بالبدن ليس إلا مجرد تعلق التدبير والتصريف ، كتدبير الملك لمملكته ؛ من أفسد الكلام . فإن الملك يدبر أمر مملكته ، فيأمر وينهى . ولكن لا يصرفهم هو بمشيئته وقدرته ، إن لم يتحركوا هم بإرادتهم وقدرتهم .
والملك لا يلتذ بلذة أحدهم ولا يتألم بتألمه ، وليس كذلك الروح والبدن . بل قد جعل الله بينهما من الاتحاد والائتلاف ما لا يعرف له نظير يقاس به . ولكن دخول الروح فيه ليس هو مماثلاً لدخول شيء من الأجسام المشهودة . فليس دخولها فيه كدخول الماء ونحوه من المائعات في الأوعية . فإن هذه إنما تلاقي السطح الداخل في الأوعية لا بطونها ولا ظهورها ، وإنما يلاقي الأوعية منها أطرافها دون أوساطها . وليس كذلك الروح والبدن . بل الروح متعلقة بجميع أجزاء البدن باطنه وظاهره . وكذلك دخولها فيها ليس كدخول الطعام والشراب في بدن الآكل . فإن ذلك له مجار معروفة ، وهو مستحيل إلى غير ذلك من صفاته . ولا جريانها في البدن كجريان الدم . فإن الدم يكون في بعض البدن دون بعض . ففي الجملة كل ما يذكر من النظائر لا يكون كل شيء منه متعلقاً بالآخر ، بخلاف الروح والبدن . لكن هي مع هذا في البدن قد ولجت فيه . وتخرج منه وقت الموت ، وتسلُّ منه شيئاً فشيئاً . فتخرج من البدن شيئاً فشيئاً . لا تفارقه كما يفارق الملك مدينته التي يدبرها . والناس لما لم يشهدوا لها نظيراً ، عسر عليهم التعبير عن حقيقتها . وهذا تنبيه لهم على رب العالمين ، حيث لم يعرفوا حقيقته ، ولا تصوروا كيف هو سبحانه وتعالى . وإن ما يضاف إليه من صفاته هو على ما يليق به جل جلاله . فإن الروح ، التي هي بعض عبيده ، توصف بأنها تعرج إذا نام الإنسان ، وتسجد تحت العرش . وهي مع هذا في بدن صاحبها لم تفارقه بالكلية . والإنسان ، في نومه ، يحس بتصرفات روحه تؤثر في بدنه . فهذا الصعود الذي توصف به الروح لا يماثل صعود المشهودات . فإنها إذا صعدت إلى مكان فارقت الأول بالكلية . وحركتها إلى العلو حركة انتقال من مكان . وحركة الروح بعروجها وسجودها ليس كذلك . انتهى .
فصل
وكتب بعض المنقبين عن مباحث المدققين العصريين في الروح ما مثاله : إن نظرية الروحيين التي يستدلون عليها في أوربا بالحس في هذه الأيام ، هي أن للإنسان روحاً هبطت عليه من الملأ الأعلى . لا يصل العقل إلى إدراك كنهها . وإنها متصلة بهذا الجسد الطيني ، بواسطة هيكل لطيف شفاف على شكل الجسد تماماً . ولكنه ليس من طبيعته ولا محكوماً بقوانينه . وإنه كغلاف للسرّ الإلهي المسمى روحاً . ولعل في هذا ما يشبه قول الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه عن الروح ( هي صورة كالجسد ) ويقولون : إن الروح وغلافها هذا يخرجان من الجسد عند حصول الموت للشخص ، إلى عالم غير هذا العالم . ولكنهما لا ينفصلان عنه كل الانفصال ، بل أرواح الموتى منتشرة حولنا في كل جهة . ولكنا لا نراها بأعيننا ، لعدم استعداد أعيننا لذلك . كما أنها ليست مستعدة لرؤية أشعة ( رونتجن ) مع أنها موجودة كما تدل عليه الآية التي صنعها له . وقد دخلت تطبيقاتها في علم الطب وأفادت العلم الطبيعي فائدة كبرى . ولكن يوجد أشخاص فيهم استعداد خاص به يرون الأرواح رائحة غادية ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، رؤية حقيقية . انتهى ملخصاً .
تنبيه :
جميع ما قدمناه ، بناء على أن المراد بالروح في الآية روح الإنسان .
قال ابن القيم في كتاب " الروح " : وفي ذلك خلاف بين السلف والخلف . وأكثر السلف ، بل كلهم ، على أن الروح المسؤول عنها في الآية ليست أرواح بني آدم . بل هو الروح الذي أخبر الله عنه في كتابه ، أنه يقوم يوم القيامة مع الملائكة ، وهو ملك عظيم . وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله قال : بينا أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرَّة المدينة ، وهو متكئ على عسيب ، فمررنا على نفر من اليهود . فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ، وقال بعضهم : لا تسألوه عسى أن يخبر فيه بشيء تكرهونه ، وقال بعضهم : نسأله ، فقام رجل فقال : يا أبا القاسم ! ما الروح ؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعلمت أنه يوحى إليه فقمت . فلما تجلى عنه قال : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } الآية ، ومعلوم أنهم إنما سألوه عن أمر لا يعرف إلا بالوحي . وذلك هو الروح الذي عند الله لا يعلمها الناس . وأما أرواح بني آدم فليست من الغيب . وقد تكلم فيها طوائف الناس من أهل الملل وغيرهم . فلم يكن الجواب عنها من أعلام النبوة . فإن قيل : فقد روى أبو الشيخ عن السدي عن أبي مالك ، عن ابن عباس قال : بعثت قريش عقبة بن أبي معيط وعبد الله بن أمية بن المغيرة إلى يهود المدينة يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم . فقالوا : إنه قد خرج فينا رجل يزعم أنه نبي ، وليس على ديننا . ولا على دينكم . قالوا : فمن تبعه ؟ قالوا : سفلتنا والضعفاء والعبيد ومن لا خير فيه . وأما أشراف قومه فلم يتبعوه ، فقالوا : إنه قد أظلَّ زمان نبي يخرج ، وهو على ما تصفون من أمر هذا الرجل ، فأتوه فاسألوه عن ثلاث خصال فأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن فهو نبي صادق ، وإن لم يخبركم بهن فهو كذاب ، سلوه عن الروح التي نفخ الله تعالى في آدم ، فإن قال لكم : هي من الله ، فقولوا : كيف يعذب الله في النار شيئاً هو منه ؟ فسأل جبريل عنها فأنزل الله الآية . يقول : هو خلق من خلق الله ليس هو من الله .
قيل : مثل هذا الإسناد لا يحتج به . فإنه من تفسير السدي عن أبي مالك . وفيه أشياء منكرة . وسياق هذه القصة في السؤال ، من الصحاح والمسانيد ، كلها تخالف سياق السدي . وقد رواها الأعمش والمغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم على ملأ من اليهود ، وأنا أمشي معه ، فسألوه عن الروح ، قال : فسكت ، فظننت أنه يوحى إليه ، فنزلت : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } يعني اليهود : { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } الآية . وكذلك هي في قراءة عبد الله . فقالوا : كذلك نجد مثله في التوراة أن الروح من أمر الله عز وجل . رواه جرير بن عبد الحميد وغيره عن المغيرة . وروى يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن داود بن أبي هند ، عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس قال : أتت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عن الروح . فلم يجبهم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء . فأنزل الله عز وجل الآية . فهذا يدل على ضعف حديث السدي ، وأن السؤال كان بمكة ، فإن هذا الحديث وحديث ابن مسعود صريح أن السؤال كان بالمدينة مباشرة من اليهود . ولو كان قد تقدم السؤال والجواب بمكة ، لم يسكت النبي صلى الله عليه وسلم ، ولبادر على جوابهم بما تقدم من إعلام الله له ، وما أنزل الله عليه . وقد اضطربت الروايات عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أعظم اضطراب . فإما أن تكون من قبل الرواة ، أو تكون أقواله قد اضطربت فيها . ثم ساق ابن القيم الروايات عنه مسندة ، ثم قال : والروح في القرآن على عدة أوجه :
أحدها : الوحي ، كقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] ، وقوله : { يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } [ غافر : 15 ] ، وسمى الوحي روحاً لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح .
الثاني : القوة والثبات والنصرة التي يؤيد بها من شاء من عباده المؤمنين ، كما قال : { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيْمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } [ المجادلة : 22 ] .
الثالث : جبريل كقوله تعالى : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ } [ الشعراء : 193 - 194 ] ، وقال تعالى : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ } [ البقرة : 97 ] ، وهو روح القدس ، قال تعالى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ } [ النحل : 102 ] .
الرابع : الروح التي سأل عنها اليهود فأجيبوا بأنها من أمر الله . وقد قيل إنها الروح المذكورة في قوله تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُون } [ النبأ : 38 ] ، وإنها الروح المذكورة في قوله : { تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } [ القدر : 4 ] .
الخامس : المسيح عيسى ابن مريم . قال تعالى : { إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ } [ النساء : 171 ] أما أرواح بني آدم فلم تقع تسميتها بالقرآن إلا بالنفس ، قال تعالى : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ } [ الفجر : 27 ] ، وقال : { وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } [ القيامة : 2 ] ، وقال : { إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } [ يوسف : 53 ] ، وقال : { أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ } [ الأنعام : 93 ] ، وقال : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمهَا فُجُورَها وَتَقْوَها } [ الشمس : 7 - 8 ] ، وقال : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت } [ آل عِمْرَان : 185 ] .
وأما في السنة فجاءت بلفظ النفس والروح . انتهى .
قال ابن كثير : رواية عبد الله في الصحيح المتقدمة ، تقتضي فيما يظهر ببادئ الرأي ، أن هذه الآية مدنية . وأنها إنما أنزلت حين سأله اليهود عن ذلك في المدينة . مع أن السورة كلها مكية . وقد يجاب عن هذا بأنه قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية . كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك . أو إنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه ، وهي هذه الآية : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } انتهى .
وقد روى ابن جرير عن قتادة : أن الروح في الآية هو جبريل عليه السلام وحكاه عن ابن عباس .
أقول : الذي أراه متعيناً في الآية ، لسابقها ولاحقها ، أن المراد بالروح الوحي بالقرآن ، وهو قريب من قول قتادة . ووجه تعينه أن هذه الآية في سياق ذكر القرآن وتنزيله والمنة بكونه شفاء ورحمة ، وقد سمى تعالى الوحي بالقرآن روحاً . قال تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] ، وقال تعالى : { يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِه } [ غافر : 15 ] فكانوا إذا سمعوا الروح ، وصدعوا بالإيمان به ، يتعنتون في السؤال عنه ؛ استبعاداً لأن يكون من لدنه سبحانه ، ولأن يكون بشر مثله مبعوثاً بأمره تعالى أن يبين لهم أنه وحي أوحاه الله ، وأنه روح من لدنه ، وإلقاء من أمره . ونظير هذه الآية قوله تعالى : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبِّي } [ يونس : 53 ] وقوله تعالى : { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عن النَّبأِ العَظيمِ الَّذي هُمْ فيهِ مُخْتَلفُونَ } [ النبأ : 1 - 3 ] أي : بعضهم ينكره وبعضهم يتردد في صحته ، وذلك لأنهم قوم جاهليون ، لا عهد لهم بالعلوم والمعارف ، فضلاً عن الوحي وخصائص النبوة ؛ للأمية والجهالة الفاشيتين فيهم ، كما أشير إليه بقوله تعالى : { وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } أي : مما تناله مشاعركم وتصل إليه فطنكم . وما هو في جنب معلومات لا تحصى ، إلا كالقطرة من البحر والذرة من الكثيب ، والقاعدة أن القرآن متجاوب الأطراف ، يفسر بعضه بعضاً .
وجميع ما ذكره المتقدمون ، غير ما ذكرناه ، جرى مع ما يحتمله نظم الآية الكريمة . وكذا رواية ابن مسعود أنه أجيب بها اليهود ؛ لأنها لما كان لها وجوه من المعاني ، ومنها ما سألوا عنه ، ألقموا بها ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
ثم أشار تعالى إلى نعمته فيما أوحاه من هذا التنزيل والهداية به ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً } [ 86 ] .
{ وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } أي : من القرآن الذي هو شفاء ورحمة للمؤمنين ، وإنما عبر عنه بالموصول ، تفخيماً لشأنه . ووصفاً له بما هو في حيز الصلة ، وإعلاماً بأنه ليس من قبيل كلام المخلوق : { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً } أي : من يتوكل علينا برده .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً } [ 87 ] .
{ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } أي : ولكن رحمة من ربك تركته غير مُشاءٍ الذهاب به بل تولت حفظه .
قال الزمخشري : وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظاً ، بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه . فعلى كل ذي علم أن لا يغفل عن هاتين المنتين والقيام بشكرهما . وهما منة الله عليه بحفظه العلم ورسوخه في صدره ، ومنته عليه في بقاء المحفوظ { إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً } أي : تفضله بالإيحاء والتعليم الرباني ، والاصطفاء للرسالة .
ثم أمره تعالى أن يخاطب أولئك المشركين الذين لم يفقهوا قدر التنزيل ، وأنه وحي رباني ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [ 88 ] .
{ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ } أي : اتفقت : { عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } أي : معيناً . وفي تقاصر قوى هؤلاء جميعهم عن ذلك ، مع طول الزمن ، دليل قاطع على أنه ليس مما اعتيد صدوره عن البشر ، بل هو كلام عالم الغيب والشهادة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً } [ 89 ] .
{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } أي : رددنا وكررنا وبينا : { لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } أي : من كل معنى ، هو كالمثل في غرابته وحسنه ، ليتقرر ويرسخ في نفوسهم ، ويزدادوا تدبراً وإذعاناً . فكان حالهم على العكس ، إذ لم يزدادوا إلا كفراً ، كما قال سبحانه : { فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً } أي : جحوداً .
ولما تبين إعجاز القرآن ، وأنه الآية الكبرى ، ولزمتهم الحجة وغلبوا ، أخذوا يتعللون باقتراح الآيات ، فعل المبهوت المحجوج المتعثر في أذيال الحيرة ، فيما حكاه تعالى عنهم بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } [ 90 - 93 ] .
{ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً } أي : تشقق لنا من أرض مكة عيوناً .
{ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ } أي : بستان منهما : { فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً } وإنما قدموا في عنتهم هذا المقترح ؛ لأنهم كانوا يَرِدُونَ بلاد الشام والعراق ، ويرون ما فيها من البساتين والأنهار .
قال ابن جرير فيما رواه ، إنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : لقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق منا بلاداً ، ولا أقل مالاً ، ولا أشد عيشاً منا . فاسأل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به ، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا ، وليبسط لنا بلادنا ، وليفجر فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق . ثم زادوا في الاقتراح فقالوا :
{ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً } أي : قطعاً بالعذاب : { أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً } أي : كفيلاً بما تقول ، شاهداً بصحته .
{ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ } أي : ذهب : { أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ } أي : وحده : { حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ } أي : كتاباً من السماء ، فيه تصديقك : { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي } أي : تنزيهاً له . والمراد به التعجب من اقتراحاتهم : { هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } أي : كسائر الرسل . وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات ، حسبما يلائم حال قومهم . ولم يمكن أمر الآيات إليهم ، ولا لهم أن يتحكموا على الله بشيء منها .
تنبيه :
لا يخفى ما في اقتراح هذه الآيات من الجهل الكبير بسنة الله في خلقه ، وبحكمته وجلاله . وبيان ذلك - كما في كتاب " لسان الصدق " - أن ما اقترحته قريش فيها ( منه ) ما أرادوا به مصلحتهم دون مصلحة العباد مما يخالف حكمة الله تعالى المقتضية لإخلاء بعض البقاع من العيون النابعة والأنهار الجارية والجنان الناضرة دون بعض . وإرساء الجبال الشم في موضع دون آخر ؛ لمصالح يعلمها هو جلت عظمته ، ولا يعلمها الخلق . فليس مقترحهم هذا من العجز في شيء . مع أن مثله لا تثبت به النبوة . فإننا نعلم أن أناساً قد استنبطوا العيون وغرسوا الجنان من النخيل والأعناب ونحتوا الجبال ولم يكونوا بذلك أنبياء . ( ومنه ) ما يناقض إرادة الله سبحانه وهو قولهم : { أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً } فإن إنزال السماء قطعاً مقتض لهلاك العالم بحذافيره . والله يريد إبقاءه إلى أجل معلوم . ( ومنه ) ما هو مستحيل في نفسه غير ممكن وقوعه أصلاً وهو قولهم : { أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً } فإن الإتيان بالله والملائكة حتى يشاهدهم المشركون أو غيرهم مما لا يمكن أن يكون . فلا يجوز طلبه ، وليس من أنواع المعجز . ( ومنه ) ما لا يصلح للأنبياء ، ولو حصل لم يكن معجزاً وهو قولهم : { أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ } فإن هذا غير صالح للأنبياء . وليس بمعجز ، لحصول مثله عند أشباه فرعون . ( ومنه ) ما وعدوا بعدم إيمانهم به لو حصل ، وأردفوه بما لا يجوز وهو قولهم : { أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ } فيه - على ما ذكر في الرواية - من الله العظيم إلى فلان وفلان وفلان ، لقوم من قريش بأسمائهم . أما بعد : فإن محمداً رسولي فآمنوا به . والصعود في السماء لا مرية فيه ، لأنهم قالوا : { وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ } فلو كان ، لكان عبثاً . وإنزال كتاب عليهم على المعنى المذكور يستلزم جعلهم أنبياء ، لأن ذلك وحي مثل التوراة والإنجيل . والوحي مختص بالأنبياء ، والكفار عنه معزولون . فلم يكن شيء مما اقترحوه في الآيات معجزاً ، وإنما هي أمور مستحيلة في نفسها ، أو لأمر آخر اقترحوها تكبراً وتعنتاً وجهلاً ، على أنهم بعد تلك الأقوال كلها ، قال قائل منهم : وأيم الله ! لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك . وقد قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا } [ الأنعام : 111 ] ، فكان الأولى في جوابهم عما اقترحوه ، هو ما أجاب به صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى : { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } أي : تنزه ربي عن فعل ما اقترحتموه من المحال وما يناقض حكمته . وما أنا إلا بشر رسول . عليَّ أن أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم . وقد أتيتكم بما يدل على صدق رسالتي مما أوحاه إلي . وذلك ما تحديتكم بالإتيان بسورة مثله في الهداية والإصلاح ، كما أمرني ربي . ولا أقترح عليه ، سبحانه ، ما لا يجوز أن يكون أو ما يكون فعله عبثاً ، لخلوه عن الفائدة . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَّسُولاً } [ 94 ] .
{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ } أي : الذين حكى تعنتهم : { أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَّسُولاً } أي : إلا تعجبهم من بعثة إنسان رسولاً . بمعنى إنكارهم أن يكون الرسول من جنس البشر . كما قال تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ } [ يونس : 2 ] والآيات في ذلك كثيرة . ثم نبه تعالى على لطفه ورحمته بعباده ، أنه يبعث إليهم الرسول من جنسهم ليفقهوا عنه ويفهموا منه ، ويمكنهم مخاطبته ومكالمته . حتى لو كانت الأرض مستقراً لملائكته ، لكانت رسلهم منهم ، جرياً على قضية الحكمة .
فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً } [ 95 ] .
{ قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ } أي : على أقدامهم كما يمشي الإنس : { مُطْمَئِنِّينَ } أي : ساكنين في الأرض قارّين : { لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً } أي : من جنسهم ، ليعلمهم الخير ويهديهم المراشد . ولما كنتم أنتم بشراً ، بعثنا فيكم رسلاً منكم ، كما قال تعالى : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 151 ] .
تنبيه :
في الآية إشارة حاجة من يستقر في الأرض إلى الرسالة ، وقد قضت رحمة الباري تعالى وعنايته بذلك ، فمنَّ على الخلق بالرسل ، وأتم حاجتهم بخاتم أنبيائه فأنقذهم من الحيرة ، وخلصهم من التخبط ، وأخرجهم من الظلمات إلى النور .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } [ 96 ] .
{ قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } أي : على أني بلغت ما أرسلت به إليكم ، وإنكم كذبتم وعاندتم . وقرر الرازي أن المعني بالشهادة هو الشهادة على رسالته عليه الصلاة والسلام بإعجاز القرآن . أي : كفى بما أكرمني به تعالى من هذا المعجز ، شاهداً على صدقي . ومن شهد تعالى على صدقه فهو صادق . فقولكم ، معشر المشركين ، بعد هذا ، يجب أن يكون الرسول ملكاً ، تحكم فاسد .
وناقشه أبو السعود بأن ما قرره لا يساعده قوله تعالى : { بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } وما بعده من التعليل . ثم قال أبو السعود : وإنما لم يقل بيننا تحقيقاً للمفارقة ، وإبانة للمباينة . وقوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } أي : عالماً بأحوالهم . فهو مجازيهم . وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيد للكفرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } [ 97 ] .
{ وَمَن يَهْدِ اللّهُ } أي : إلى الحق بما جاء من قبله إلى الهدى : { فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ } أي : يخلق فيه الضلال بسوء اختياره ، كهؤلاء المعاندين : { فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِهِ } أي : أنصاراً يهدونهم ويحفظونهم من قهره ، وإنما أوثر ضمير الجماعة في ( لهم ) حملاً على معنى ( من ) وأوثر في ما قبله الإفراد ، حملاً على اللفظ . وسر الاختلاف في المتقابلين الإشارة إلى وحدة طريق الحق ، وقلة سالكيه ، وتعدد سبل الضلال وكثرة الضُّلالِ : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ } أي : يسحبون عليها كقوله : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ } [ القمر : 48 ] .
وقال القاشاني : أي : ناكسي الرؤوس لانجذابهم إلى الجهة السفلية ! وعلى وجوداتهم وذواتهم التي كانوا عليها في الدنيا . كقوله ( كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون ) إذ ( الوجه ) يعبر به عن الذات الموجودة مع جميع عوارضها ولوازمها . أي : على الحالة الأولى من غير زيادة ونقصان . وقوله تعالى : { عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } أي : كما كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ، ويتصامّون عن استماعه ؛ فهم في الآخرة كذلك لا يبصرون ما يقر أعينهم ، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم ، ولا ينطقون بما يقبل منهم : { وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى } [ الإسراء : 72 ] . كذا في " الكشاف " .
{ مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ } أي : سكن لهيبها ، بأن أكلت جلودهم ولحومهم : { زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } أي : توقداً . بأن نبدل جلودهم ولحومهم ، فتعود ملتهبة مستعرة .
قال الزمخشري : كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء ، جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها وتفنيها ، ثم يعيدها . لا يزالون على الإفناء والإعادة ليزيد ذلك في تحسرهم على تكذيبهم البعث . ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد .
وقد دل على ذلك بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } [ 98 ] .
{ ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } أي : لمحيون خلقاً جديداً ، بإعادة الروح فينا ، إذا تلف لحمنا وبقينا عظاماً . بل رقت عظامنا فصارت رفاتاً . ثم احتج تعالى عليهم ، ونبههم على قدرته على ذلك بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُوراً } [ 99 ] .
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ } أي : يعلموا : { أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } أي : يوم القيامة . ينشئهم نشأة أخرى ويعيدهم كما بدأهم . والمعنى : قد علموا بدليل العقل أن من قدر على خلق السماوات والأرض ، فهو قادر على خلق أمثالهم من الإنس ؛ لأنهم ليسوا بأشد خلقاً منهن . كما قال : { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ } ولا الإعادة أصعب عليه من الإبداء ، بل هي أهون .
قال الشهاب : ولا حاجة إلى جعل ( مثل ) هنا كناية عنهم . كقوله : ( مثلك لا يبخل ) مع أنه صحيح . ولو جعل خلق مثلهم عبارة عن الإعادة ، كان أحسن : { وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ } أي : جعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلاً مضروباً ومدة مقدرة لا بد من انقضائها . كما قال تعالى : { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ } [ هود : 104 ] ، { فَأَبَى الظَّالِمُونَ } أي : بعد قيام الحجة عليهم ووضوح الدليل : { إَلاَّ كُفُوراً } أي : جحوداً وتمادياً في باطلهم وضلالهم .
لطيفة :
قال الشهاب : هذه الجملة - جملة وجعل الخ - معطوفة على جملة : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } لأنها وإن كانت إنشائية ، فهي مؤولة بخبرية - كما في " شرح الكشاف " إذ معناها : قد علموا بدلالة العقل أنه قادر على البعث والإعادة : { وَجَعَلَ لَهُمْ } أي : لإعادتهم : { أَجَلاً } وهو يوم القيامة ، يعني أنهم علموا إمكانها وإخبار الصادق بها وضربه لها أجلاً . فيجب التصديق به . أو جعل لهم أجلاً ، وهو الموت والانسلاخ عن الحياة . ولا يخفى على عاقل أنه لم يخلق عبثاً . فلا بد أن يجزى بما عمله في هذه الدار . فلا معنى للإنكار . فظهر ارتباط المتعاطفين ، لفظاً ومعنى ، و : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ظاهر على الثاني . وعلى الأول معناه : لا ينبغي إنكاره لمن تدبر . وقيل : إنها معطوفة على قوله : { يَخْلُقَ } .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً } [ 100 ] .
{ قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي } أي : رزقه وسائر نعمه على خلقه : { إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ } أي : لبخلتم بها مخافة نفادها بالإنفاق ، مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبداً ؛ لأن هذا من طباعكم وسجاياكم . ولهذا قال سبحانه : { وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً } أي : بخيلاً .
تنبيهات :
الأول : هذه الآية بلغت بالمشركين ، من الوصف بالشح ، الغاية التي لا يبلغها الوهم ، كما قاله الزمخشري .
الثاني : ما اقتضاه آخر الآية من بخل كل أحد ، فأما بالنسبة إلى الجواد الحقيقي سبحانه ؛ لأن المرء إما ممسك أو منفق . والثاني لا يكون إلا لغرض للعاقل ، إما دنيوي كعوض مالي ، أو معنوي كثناء جميل أو خدمة واستمتاع ، كما في النفقة على الأهل . وما كان لعوض مالي كان مبادلة لا مباذلة . أو هو بالنظر إلى الأغلب ، وتنزيل غيره منزلة العدم كما قيل :
~عدنا في زماننا عن حديث المكارم
~من كفى الناس شره فهو في جود حاتم
أفاده الشهاب .
وقال ابن كثير : إن الله تعالى يصف الإنسان من حيث هو ، إلا من وفقه الله وهداه ، فإن البخل والجزع والهلع صفة له . كما قال تعالى : { إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ } [ المعارج : 19 - 22 ] ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز .
الثالث : ذكر هذه الآية إثر ما قبلها ، لتقرير انفراده تعالى بملك خزائن الرحمة ، وسعة كرمه وجوده وإحسانه . كما انفرد بتلك القدرة الباهرة من خلق السماوات والأرض ، كي تنجلي لهم قدرته العظمى ، وسعة خزائنه الملأى ، فيصلوا بذلك إلى اليقين بصحة ما ادعاه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحقية ما يدعوهم إليه .
وذكر هذا المعنى في أسلوب بيان ما فطر عليه الإنسان ، تذكيراً له بنقصه وضعفه ، وإشفاقه وحرصه ؛ ليعلم أنه غير مخلوق سدى ، يُخلى بينه وبين ما تتقاضاه به نفسه وهواه . والمعنى : أفلا تعتبرون بسعة رحمته وعميم فضله ومما يبرهن على وحدانيته في ألوهيته ، ولا ترون ما أنتم عليه من أنكم لو ملكتم ما لا نفاد له من خزائنه ، لضننتم بها ، مما يدلكم على أنه هو مالك الملك ، وأنكم مُسخرون لأمره ؟ ! وهذه الآية كقوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً } [ النساء : 53 ] أي : لو أن لهم نصيباً في ملك الله ، لما أعطوا أحداً شيئاً ولا مقدار نقير . وقد جاء في الصحيحين : < يد الله ملأى لا يغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار . أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه > .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً } [ 101 ] .
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } واضحات الدلالة على صحة ما أرسله الله به . وقد مضى الكلام عليها في سورة الأعراف في قوله تعالى : { فَأَرسَلنَا عَلَيهِمُ الطُّوفَانَ } الآية { فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي : عنها : فإنهم يعلمونها ، مما لديهم من التوراة . فيظهر للمشركين صدقك ، ويزداد المؤمن بك طمأنينة قلب . لأن الأدلة إذا تظاهرت ، كان ذلك أقوى وأثبت : { إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً } أي : فذهب إلى فرعون وأظهر آياته ، ودعاه للإيمان به تعالى ولإرسال بني إسرائيل معه . فقال له فرعون ما قال . وقوله : { مَسْحُوراً } بمعنى سُحرْتَ فخولط عقلك . أو بمعنى ساحر ، على النسب . أو حقيقة ، وهو يناسب قلب العصا ثعباناً . وعلى الأول هو كقوله : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشعراء : 27 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً } [ 102 ] .
{ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ } أي : يا فرعون : { مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ } أي : الآيات التسع : { إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ } أي : بينات مكشوفات لا سحر ولا تخيل . ولكنك معاند مكابر ، ونحوه : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] ، و ( البصائر ) جمع بصير بمعنى مبصرة أي : بيِّنة . أو المراد الحجج ، بجعلها كأنها بصائر العقول . وتكون بمعنى عبرة : { وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً } أي : هالكاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً * وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } [ 103 - 104 ] .
{ فَأَرَادَ } أي : فرعون : { أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ } أي : يفزعهم ويزعجهم بما يحملهم على خفة الهرب فَرَقاً منه . أو ينفيهم عن ظهر الأرض بالقتل والاستئصال . والضمير لموسى وقومه . و ( الأرض ) أرض مصر . أو الأرض التي أذن لهم بالمسير إليها وسكناها وهي فلسطين ، وقوله تعالى : { فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً } أي : فحاق به مكره ، لأنه تعقبهم بجنوده بعد ما أذن لهم بالسفر من مصر إلى فلسطين ، ليرجعهم إلى عبوديته ، فدمره الله تعالى وجنوده بالإغراق .
{ وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد إغراقه : { لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ } وهي أرض كنعان ، بلد أبيهم إسرائيل التي وعدوا بها .
قال ابن كثير : في هذا بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بفتح مكة ، مع أن السورة مكية نزلت قبل الهجرة . وكذلك وقع ، فإن أهل مكة هموا بإخراج الرسول منها كما قال تعالى : { وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا } [ الإسراء : 76 ] . ولهذا أورث الله رسوله مكة فدخلها عنوة ، على أشهر القولين ، وقهر أهلها ، ثم أطلقهم حلماً وكرماً . كما أورث الله القوم ، الذين كانوا يستضعفون من بني إسرائيل ، مشارق الأرض ومغاربها ، وأورثهم بلاد فرعون وأموالهم وزروعهم وثمارهم وكنوزهم كما قال : { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ } [ الشعراء : 59 ] وقال ها هنا : { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ } وقوله تعالى : { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ } أي : قيام الساعة : { جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } أي : جمعاً مختلطين أنتم وعدوكم . ثم يحكم بينكم ويميز بين سعدائكم وأشقيائكم . ثم نزه سبحانه ساحة القرآن أن يكون مفترى . وبيَّن اشتماله على ما يلائم الفطر ويطابق الواقع ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً } [ 105 - 106 ] .
{ وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ } أي : بالحقيقة أنزلناه كتاباً من لدنا فأين تذهبون ؟ كما قال تعالى : { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ } [ النساء : 166 ] ، { وَبِالْحَقِّ نَزَلَ } أي : متلبساً بالحق الذي هو ثبات نظام العالم على أكمل الوجوه . وهو ما اشتمل عليه من العقائد والأحكام ومحاسن الأخلاق وكل ما خالف الباطل . كقوله تعالى : { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِه } [ فصلت : 42 ] ، { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ } أي : نزلناه مفرقاً منجماً . وقرئ بالتشديد . والقراءتان بمعنى : { لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ } أي : على مهل وتؤدة وتثبت ، فإنه أيسر للحفظ وأعون في الفهم : { وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً } أي : من لدنَّا على حسب الأحوال والمصالح .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } [ 107 - 109 ] .
{ قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } .
قال الزمخشري : أمر بالإعراض عنهم واحتقارهم والازدراء بشأنهم ، وأن لا يكترث بهم وبإيمانهم وبامتناعهم عنه . وإنهم إن لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدقوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك ، فإن خيراً منهم وأفضل ، وهم العلماء الذين قرأوا الكتب وعلموا ما الوحي وما الشرائع ، قد آمنوا به وصدقوه ، وثبت عندهم أنه النبي العربي الموعود في كتبهم . فإذا تلي عليهم خروا سجداً وسبحوا الله تعظيماً لأمره ، ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة ، وبشر به من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن عليه . وهو المراد بالوعد في قوله : { إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } .
فإن قلت : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } تعليل لماذا ؟ قلت : يجوز أن يكون تعليلاً لقوله : { آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ } ، وأن يكون تعليلاً لـ ( قل ) على سبيل التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتطييب نفسه . كأنه قيل : تسلَّ عن إيمان الجهلة بإيمان العلماء . وعلى الأول : إن لم تؤمنوا به لقد آمن به من هو خير منكم . فإن قلت : ما معنى الخرور للذقن ؟ قلت : السقوط على الوجه . وإنما ذكر الذقن ، وهو مجتمع اللحيين ؛ لأن الساجد أول ما يلقى به الأرض من وجهه الذقن . فإن قلت : حرف الاستعلاء ظاهر المعنى ، إذا قلت خرَّ على وجهه وعلى ذقنه ، فما معنى اللام في ( خرَّ لذقنه ولوجهه ) ؟ قال :
~فخر صريعا لليدين وللفم
قلت : معناه جعل ذقنه ووجهه للخرور . واختصه به لأن اللام للاختصاص . فإن قلت : لِمَ كرر يخرون للأذقان ؟ قلت : لاختلاف الحالين ، وهما خرورهم في حال كونهم ساجدين ، وخرورهم في حال كونهم باكين . انتهى .
تنبيه :
دلَّ نعت هؤلاء ومدحهم بخرورهم باكين ، على استحباب البكاء والتخشع . فإن كل ما حمد فيه من النعوت والصفات التي وصف الله تعالى بها من أحبه من عباده ، يلزم الاتصاف بها . كما أن ما ذم منها من مقته منهم ، يجب اجتنابه .
وقد عدَّ الإمام الغزالي في " الإحياء " من آداب ظاهر التلاوة البكاء . قال : البكاء مستحب مع القراءة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا > . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا قرأتم سجدة سبحان ، فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا ، فإن لم تبك عين أحدكم ، فليبك قلبه . وإنما طريق تكلف البكاء أن يحضر قلبه الحزن . فمن الحزن ينشأ البكاء ، ووجه إحضار الحزن ، أن يتأمل ما فيه من التهديد والوعيد والمواثيق والعهود . ثم يتأمل تقصيره في أوامره وزواجره ، فيحزن لا محالة ويبكي . فإن لم يحضره حَزْن وبكاء ، كما يحضر أرباب القلوب الصافية ، فليبك على فقد الحزن والبكاء . فإن ذلك أعظم المصائب . انتهى .
وذكر السيوطي في " الإكليل " أن الشافعي استدل بقوله تعالى : { وَيَقُولُونَ سُبحَانَ رَبَّنَا } الآية ، على استحباب هذا الذكر في سجود التلاوة . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } . [ 110 - 111 ]
{ قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ } ردٌّ لما أنكره المشركون من تسمية الرحمن ، وإذْنٌ بتسميته بذلك . أي : سموه بهذا الاسم أو بهذا . و ( أو ) للتخيير { أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } أي : أي : هذين الاسمين سميتم وذكرتم فهو حسن . وقد وضع موضعه قوله : { فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه ؛ إذ حسن جميع أسمائه يستدعي حسن ذينك الاسمين . فأقيم فيه دليل الجواب مقامه ، وهو أبلغ .
ومعنى كونها أحسن الأسماء ، أنها مستقلة بمعاني الحمد والتقديس والتعظيم . وهذه الآية كآية : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [ الأعراف : 180 ] ، { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ } أي : بقراءة صلاتك . بتقدير مضاف . أو تسمية القراءة صلاة ؛ لكونها من أهم أركانها . كما تسمى الصلاة ركعة : { وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } أي : تُسرّ وتخفي : { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً } أي : بين الجهر والمخافتة ، أمراً وسطاً . فإن خير الأمور أوساطها .
قال أبو السعود : والتعبير عن ذلك بالسبيل ، باعتبار أنه أمر يتوجه إليه المتوجهون ، ويؤمه المقتدون ، ويوصلهم إلى المطلوب .
روى الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع صوته بقراءته . فإذا سمعها المشركون لغوا وسبوا ، فأمر بأن يتوسط في صوته كيلا يسمع المشركون ، وليبلغ من خلفه قراءته .
ثم بيَّن سبحانه استحقاقه للحمد لاختصاصه بنعوت الكمال وصفات الجلال بقوله تعالى : { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً } أي : لم يكن علة لموجود من جنسه ؛ لضرورة كون المعلول محتاجاً إليه ، ممكناً بالذات ، معدوماً بالحقيقة . فكيف يكون من جنس الموجود حقاً ، الواجب بذاته من جميع الوجوه ؟ : { وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } أي : من يساويه في قوة القهر والمملكة من الشريك في الملك . وإلا لكان مشتركين في وجوب الوجود والحقيقة . فامتياز كل واحد منهما عن الآخر ، لا بد وأن يكون بأمر غير الحقيقة الواجبة . فلزم تركبهما ، فكانا كلاهما ممكنين لا واجبين . وأيضاً فإن لم يستقلا بالتأثير ، لم يكن أحدهما إلهاً . وإن استقل أحدهما دون الآخر فذلك هو الإله دونه ، فلا شريك له . وإن استقلا جميعاً ؛ لزم اجتماع المؤثرين المستقلين على معلول واحد ، إن فعلا معاً . وإلا لزم إلهية أحدهما دون الآخر ، رضي بفعله أو لم يرض . أفاده القاشاني .
{ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ } أي : ناصر من الذل ومانع له منه ، لاعتزازه به . أو لم يوال أحداً من أجل مذلة به ، ليدفعها بموالاته : { وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } أي : عظمه عن أن يلحقه شيء من هذه النقائص تعظيماً جليلاً .
تم ما علقناه على هذه السورة الكريمة ، ضحوة السبت في 26 شوال سنة 1323 في سدة جامع السنانية بدمشق الشام . يسر الله لنا بعونه الإتمام ، والحمد لله وحده .(/)
سورة الكهف
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا } [ 1 ] .
{ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب } قدّمنا أن كثيراً ما تفتح السور وتختم بالحمد ، إشارة إلى أنه المحمود على كل حال : { لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ } [ القصص : 70 ] ، وتعليماً للعباد أدب افتتاح كل أمر ذي بال واختتامه . وذلك بالثناء على الله تبارك وتعالى بنعمه العظمى ومننه الكبرى . وفي إيثار إنزال التنزيل من بين سائر نعوته العليّة ، تنبيه على أنه أعظم نعمائه . فإنه الهادي إلى ما فيه كمال العباد ، والداعي إلى ما به ينتظم صلاح المعاش والمعاد . ولا شيء في معناه يماثله . وفي ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بعنوان العبودية ، تنبيه على عظمة المنزَل والمنزَل عليه . كما تدل عليه الإضافة الاختصاصية ، كما تقدم في سورة الإسراء . وإشعار بأن شأن الرسول أن يكون عبداً للمرسِل لا كما زعمت النصارى في حق عيسى عليه السلام . وتعريف الكتاب للعهد . أي : الكتاب الكامل الغني عن الوصف بالكمال ، المعروف بذلك من بين الكتب ، الحقيق باختصاص اسم الكتاب به . وهو عبارة عن جميع القرآن . أو عن جميع المنزل حينئذ . وتأخيره عن الجار والمجرور ، مع أن حقه التقديم عليه ، ليتصل به قوله سبحانه : { وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا } [ الكهف : 1 ] أي : شيئا من العوج ، باختلال في نظمه وتناف في معانيه . أو زيغ وانحراف عن الدعوة إلى الحق . بل جعله مزيلا للعوج ؛ إذ جعله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً } [ 2 - 3 ] .
{ قيّما } أي : قيّما بمصالح العباد وما لا بد لهم منه من الشرائع . فهو وصف له بأنه مكمل لهم ، بعد وصفه بأنه كامل في نفسه . أو قيما على الكتب السالفة ، مهيمنا عليها . أو متناهياً في الاستقامة والاعتدال . فيكون تأكيداً لما دل عليه نفي العوج . مع إفادة كون ذلك من صفاته الذاتية اللازمة له ، حسبما تنبئ عنه الصيغة . وانتصابه بمضمر تقديره جعله كما ذكرنا . على أنه جملة مستأنفة . وفيه وجوه أخر .
تنبيه :
ذهب القاشاني أن الضمير في " له " وما بعده لقوله : { عَبْدِهِ } قال : أي : لم يجعل لعبده زيغاً وميلاً . وجعله قيّما ، يعني مستقيما ، كما أُمر بقوله : { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ } [ هود : 112 ] ، أو قيّما بأمر العباد وهدايتهم ، إذ التكميل يترتب على الكمال . لأنه : عليه الصلاة والسلام ، لما فُرغ من تقويم نفسه وتزكيتها ، أقيمت نفوس أمته مقام نفسه . فأُمر بتقويمها وتزكيتها . ولهذا المعنى سمي إبراهيم ، صلوات الله عليه ، أمة . وهذه القيمية أي : القيام بهداية الناس ، داخلة في الاستقامة المأمور هو بها في الحقيقة ، انتهى .
والأظهر الوجه الأول .
وقوله تعالى : { لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ } أي : لينذر من خالفه ولم يؤمن به ، عذاباً شديداً عاجلاً أو آجلاً . والبأس : القهر والعذاب ، وخصصه بقوله : { مِنْ لَدُنْهُ } إشارة إلى زيادة هوله . ولذلك عظمه بالتنكير . متعلق بأنزل أو بعامل قيما : { وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : به . وقال القاشاني : أي : الموحدين ، لكونهم في مقابلة المشركين ، الذين قالوا اتخذ الله ولداً . وقوله تعالى : { الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ } أي : من الخيرات والفضائل : { أَنَّ لَهُمْ } أي : بأن لهم ، بمقابلة إيمانهم وأعمالهم المذكورة : { أجراً حسناً } وهو الجنة : { مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً } [ 4 ] .
{ وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا } وهم مشركو العرب في قولهم الملائكة بنات الله والنصارى في دعواهم المسيح ابن الله وخصهم بالذكر , وكرر الإنذار متعلقا بهم ، استعظاماً لكفرهم . وترك إجراء الموصول على الموصوف كما فعل في قوله تعالى : { وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ } للإيذان بكفاية ما في حيز الصلة ، في الكفر على أقبح الوجوه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً } [ 5 ] .
{ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ } أي : ما لهم بالولد ، أو باتخاذه ، أو بالقول ، من علم . بل إنما يصدر عن جهل مفرط ، وتوهم كاذب ، وتقليد للآباء . لا عن علم يقين ، ويقين . ويؤيده قوله : { كَبُرَتْ كَلِمَةً } أي : ما أكبرها كلمة : { تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } وذلك لأن الولد مستحيل لا معنى له . إذ العلم اليقيني يشهد أن الوجود الواجبي أحدي الذات ، لا يماثله الوجود الممكن . والولد هو المماثل لوالده في النوع ، المكافئ له في القوة . وجملة تخرج من أفواههم صفة لكلمةً تفيد استعظام اجترائهم على إخراجها من أفواههم . قال الشهاب : لأن المعنى : كبر خروجها . أي : عظمت بشاعته وقباحته ، بمجرد التفوه . فما بالك باعتقاده : { إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً } أي : قولا كذبا لا يكاد يدخل تحت إمكان الصدق أصلا . وذلك لتطابق الدليل القطعي ، والوجدان الذوقي على إحالته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً } [ 6 ] .
{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ } أي : مهلكٌ : { نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ } يعني القرآن : { أَسَفاً } أي : لتأسف على توليهم وإعراضهم عنه . أو متأسف عليهم . والأسف فرط الحزن والغضب . وفي " العناية " : لعل للترجي . وهو الطمع في الوقوع أو الإشفاق منه . وهي هنا استعارة . أي : وصلت إلى حالة يتوقع منك الناس ذلك . لما يشاهد من تأسفك على عدم إيمانهم . وفي النظم الكريم استعارة تمثيلية بتشبيه حاله معهم ، وقد تولوا ، وهو آسف من عدم هدايتهم ، بحال من فارقته أحبته . فهمّ بقتل نفسه . أو كاد يهلك وجدا عليهم وتحسرا على آثارهم . وسر ذلك - كما قال القاشاني - أن الشفقة على خلق الله والرحمة عليهم من لوازم محبة الله ونتائجه . ولما كان صلى الله عليه وسلم حبيب الله ، ومن لوازم محبوبيته محبته لله لقوله : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] ، وكلما كانت محبته للحق أقوى ، كانت شفقته ورحمته على خلقه أكثر . لكون الشفقة عليهم ظل محبته لله ، وأشد تعطفه عليهم . فإنهم كأولاده وأقاربه . بل كأعضائه وجوارحه في الشهود الحقيقي . فلذلك بالغ في التأسف عليهم ، حتى كاد يهلك نفسه . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ 7 ] .
{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ } أي : من الحيوان والنبات والمعادن : { زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } أي : ليظهر أيهم أقهر لشهواتها ودواعيها ، وأعصى لهواها أي : رضاي ، وأقدر على مخالفتها لموافقتي .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } [ 8 ] .
{ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } أي : تراباً مستوياً لا نبات فيه . بعد ما كان يبهج النظار ، لا شيء فيه يختلف ، ربىً ووهاداً . أي : نفنيها وما عليها ولا نبالي . وفي الآية تسلية له صلوات الله عليه . كأنه قيل لا تحزن عليهم فإنه لا عليك أن يهلكوا جميعاً . لأنا نخرج جميع الأسباب من العدم إلى الوجود للابتلاء . ثم نفنيها ، ولا حيف ولا نقص . أو لا تحزن فإنا مفنون ذلك ومجازون لهم بحسب أعمالهم ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً } [ 9 ]
{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً } أي : آية ذات عجب . على حذف مضاف . أو وصفاً بالمصدر مبالغة و : { مِنْ آيَاتِنَا } حال منه و : { أَمْ } للاستفهام التقريري بمعنى الهمزة . أي : أنهم من بين آياتنا آية عجيبة . وجعلها منقطعة مقدرة ببل والهمزة والاستفهام للإنكار - أي : إنكار حسبانهم آية عجيبة بالنسبة إلى آياته الكبرى - فيه بُعدٌ . لأن سياق النظم الكريم ، أعني سوقها مفصلة منوهاً بها ، ما هو إلا لتقرير التعجب منها . و : { الْكَهْفِ } الغار الواسع في الجبل . و : { الرَّقِيم } اسم كلبهم . وقيل لوح رقيم فيه حديثهم ، وجعل على باب الكهف . وقيل الجبل أو الوادي ، أقوال .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً } [ 10 ] .
{ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ } أي : خوفاً من إيذاء الملك على ترك عبادة الأوثان والذبح لها . وإيثار الإظهار على الإضمار لتحقيق حالهم بتغليبهم جانب الله على جانب أهويتهم في حال شبابهم : { فَقَالُوا رَبَّنَا } أي : من ربانا بنعمة إيثار جانبه على جانب أنفسنا : { آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً } أي : من خزائنك وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداد : { وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا } وهو اختيار الكهف لمفارقة الكفار : { رَشَداً } وهو توحيدك وعبادتك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً } [ 11 ] .
{ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً } أي : أنمناهم نومة ثقيلة لا ينبههم صفير الخبير ، و لا دعوة الداعي الخبير ، في الكهف سنين ذوات عدد . أي : كثيرة أو معدودة . قال الشهاب : ضربنا مستعار استعارة تبعية لمعنى أنَمْنَاهم إنامة لا ينتبه منها بالصياح . لأن النائم ينتبه من جهة سمعه . و هو إمّا من ضربت القفل على الباب أو ضربت الخباء على ساكنه شُبِّه ؛ لاستغراقه في نومه حتى لا ينتبه بمنبه ، بمن كان خلف حجب مانعة من وصول الأصوات إليه ، و قيل إنه استعارة تمثيلية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أي : الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً } [ 12 ]
{ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ } أي : أيقظناهم إيقاظاً يشبه بعث الموتى : { لِنَعْلَمَ أي : الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً } أي : لنعلم واقعا ما علمنا أنه سيقع . وهو أي : الحزبين المختلفين في مدة لبثهم ، أشد إحصاء ، أي : إحاطة وضبطا لغاية مدة لبثهم فيعلموا قدر ما حفظهم الله بلا طعام ولا شراب ، وأمنهم من العدو ، فيتمّ لهم رشدهم في شكره ، وتكون لهم آية تبعثهم على عبادته . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً } [ 13 ] .
{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ } شروع في تمام بسط قصتهم وتفصيلها . والحق الأمر المطابق للواقع : { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ } أي : بوحدانيته إيمانا يقينيا علمياً على طريق الاستدلال ، مع اتفاق قومهم على الشرك : { وَزِدْنَاهُمْ هُدىً } أي : بترجيح جانب الله على جانب أنفسهم . قال ابن كثير : الفتية - وهم الشباب - أقبل للحق وأهدى للسبيل ، من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل . ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شبابا . وأما عامة شيوخ قريش فاستمروا على ضلالهم ولم يسلم منهم إلا القليل . وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابا . وقد يروى عن هؤلاء الفتية روايات مضطربة . أوثقها أن هؤلاء ، كان قدم إلى مدينتهم من يدعو إلى الإيمان بالله تعالى ، وبما جاء به عيسى عليه السلام . ممن كان على قدم الحواريين . فاستجاب لذلك الفتية المنوه بهم . وخلعوا الوثنية التي عليها قومهم وفرّوا بدينهم خشية أن يفتنهم ملكهم عن دينهم أو يقتلهم . فاستخفوا عنه في الكهف . واعتزلوا فيه يعبدون الله تعالى وحده . ثم روي أن الملك طلبهم . فقيل : دخلوا هذا الكهف . فقال قومهم : لا نريد لهم عقوبة ولا عذابا أشد من أن نردم عليهم هذا الكهف . فبنوه عليهم ثم ردموه . ثم إن الله بعث عليهم ملكا على دين عيسى . فرفع ذلك البناء الذي كان ردم عليهم . فقال بعضهم لبعض : كم لبثتم ؟ فقالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم حتى بلغ : { فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ } وكان ورق ذلك الزمان لدولة أهله . فأرسلوا أحدهم يأتيهم بطعام . فلما ذهب ليخرج رأى على باب الكهف شيئا أنكره فأراد أن يرجع . ثم مضى حتى دخل المدينة . فأنكر ما رأى . ثم أخرج درهما فنظروا إليه فأنكروه وأنكروا الدرهم . وقالوا : من أين لك هذا ؟ هذا من ورق غير هذا الزمان .
واجتمعوا عليه يسألونه . فلم يزالوا به حتى انطلقوا به إلى ملكهم . فأخبره بأمره . فاستبشروا به وبأصحابه . وقيل له : انطلق فأرنا أصحابك . فانطلق وانطلقوا معه ليريهم . فدخل قبل القوم فضرب على آذانهم فـ : { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } هذا ما أورده ابن جرير أولا ، وفيه كفاية عن غيره .
وسنذكر في آخر نبئهم ما عند أهل الكتاب النصارى من شأنهم .
وقد قيل إنهم كانوا في مدينة يقال لها طرسوس من أعمال طرابلس الشام . وفيها من الآثار القديمة العهد ، في جبل بها ، ما يزعم أهلها زعماً متوارثاً ، أنه لأصحاب الكهف . والله أعلم . ثم بين تعالى صبرهم على مخالفة قومهم ، ومدينتهم ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطا } [ 14 ] .
{ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ } أي : قويناها بالصبر على المجاهدة . وشجعناهم على محاربة الشيطان والفرار بالدين إلى بعض الغيران . ومخالفة النفس وهجر المألوفات الجسمانية واللذات والقيام بكلمة التوحيد . وقيل جسّرناهم على القيام بكلمة التوحيد , وإظهار الدين القويم ، والدعوة إلى الحق عند ملكهم الجبار . لقوله تعالى : { إِذْ قَامُوا } أي : بين يديه غير مبالين به . وإذ ظرف لربطنا . قال الشهاب : الربط على القلب مجاز عن الربط بمعنى الشد المعروف . أي : استعارة منه . كما يقال ، رابط الجأش . لأن القلق والخوف ينزعج به القلب من محله ، كما قال تعالى : { وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ } [ الأحزاب : 10 ] , فشبه القلب المطمئن لأمرٍ ، بالحيوان المربوط في محلٍّ . وعدِّى ربط بعلى وهو متعد بنفسه ، لتنزيله منزلة اللازم : { فَقَالُوا رَبُّنَا } الذي نعبده : { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } بحيث يدخل تحت ربوبيته كل معبود سواه : { لَنْ نَدْعُوَا } أي : نعبد : { مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } أي : ذا بعد عن الحق ، مفرط في الظلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } [ 15 ] .
{ هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةٍ } عملوا أو نحتوا لهم آلهة ، فيفيد أنهم عبدوها . وفي الإشارة تحقير لهم : { لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ } أي : على عبادتهم أو آلهيتهم أو تأثيرهم : { بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ } أي : حجة بينة وبرهان ظاهر . فإن الدين لا يؤخذ إلا به . قال القاشاني : دليل على فساد التقليد ، وتبكيت بأن إقامة الحجة على إلهية غير الله ، وتأثيره ووجوده ، محال . كما قال : { إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } [ النجم : 23 ] ، أي : أسماء بلا مسميات ، لكونها ليست بشيء : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } أي : لا مساوي له في الظلم والكفر . إشارة إلى أنهم لا يأتون ببرهان . فهم ظالمون في حق الله ، لافترائهم عليه بأن في رتبته العليا شركاء يساوونه فيها . ثم خاطب بعضهم بعضا بقولهم :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً } [ 16 ] .
{ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ } أي : وإذ اعتزلتم القوم ، بترك متابعتهم ، من إفراط ظلمهم ، وهو موجب بغضهم . واعتزلتم معبوداتهم غير الله ، فإنهم كانوا يعبدونهم صريحا أو في ضمن عبادتهم له ، فأووا إلى الكهف الذي لا يطلعون عليكم فيه ، فلا يؤذونكم ، ولا تخافوا من الكون فيه ، فوات الطعام والشراب ، فإنكم إذا التجأتم إلى الله بعد ما دعوتموه بنشر الرحمة وتهيئة الرشد, : { يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ } أي : ما يغني عن الطعام والشراب ، بالإمدادات الملكوتية والتأييدات القدسية : { وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ } وهو اختيار جانبه على جانبكم : { مِرْفَقاً } أي : ما تنتفعون به . قال المهايمي : يرفق بنفوسكم فيعطيها من لذات عبادته ما ينسيها سائر اللذات . على أنها لذاتها لم تخل من أذية . وهذه خالية عن الأذيات كلها . وجزمهم بذلك لنصوع يقينهم وقوة وثوقهم بفضل الله تعالى .
تنبيه :
زعم قوم أن الآية تفيد مشروعية العزلة واستحبابها مطلقا . وهو خطأ . فإنها تشير إلى التأسي بأهل الكهف في الاعتزال ، إذا اضطُهد المرء في دينه وأريد على الشرك . وممن رد الاحتجاج بهذه الآية على تفضيل العزلة ، الإمام الغزالي حيث قال في " إحيائه " : وأهل الكهف لم يعتزل بعضهم بعضا وهم مؤمنون . وإنما اعتزلوا الكفار . أي : ولا ريب في مشروعيته فراراً من الفتن .
فقول السيوطي في " الإكليل " : في الآية مشروعية العزلة والفرار من الظلمة وسكون الغيران والجبال عند فساد الزمان كلام مجمل لا بد من التفصيل فيه . وأي عصر خلا من الفساد ؟ . وسياق الآية في الاضطهاد فحسب ، فافهم ولا تغلُ . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً } [ 17 ] .
{ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ } أي : صعدت عند طلوعها : { تَزَاوَرُ } أي : تميل : { عَنْ كَهْفِهِمْ } أي : بابه : { ذَاتَ الْيَمِينِ } أي : يمين الكهف : { وَإِذَا غَرَبَتْ } أي : هبطت للغروب : { تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ } أي : تقطعهم وتعدل عن سمت رؤوسهم إلى جهة الشمال : { وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ } أي : سعة من الكهف يصل إليهم الهواء من كل جانب دون أذى الشمس . وقد دلت الآية على أن باب ذلك الكهف كان مفتوحا إلى جانب الشمال . فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف . و إذا غربت كانت على شماله . فيقع شعاعها على جانبيه . يحلل عفونته ويعدل هواءه . و لا يقع عليهم فيؤذيهم . قال الشهاب : تقرضهم من القرض بمعنى القطع . أي : قطع الاتصال بهم لئلا تغبر أبدانهم . قول الفارسي إنه من قرض الدراهم ، و المعنى أنها تعطيهم من تسخينها شيئا ثم يزول بسرعة كالقرض المسترد - مردود ، بأنه لم يسمع له ثلاثي .
و في " الروض الآنف " تقرضهم كناية عن تعدل بهم . و قيل : تتجاوزهم شيئا . من القرض وهو القطع أي : تقطع ما هنالك من الأرض . و قوله تعالى : { ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } أي : إرشادهم إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء ، و شعاع الشمس والريح تدخل عليهم فيه ، لتبقى أبدانهم ، آية من آياته الدالة على عنايته وتوفيقه للمخلصين : { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ } أي : إلى الحق بالتوفيق له : { فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ } أي : يخلق فيه الضلال لصرف اختياره إليه : { فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً } أي : ناصرا يلي أمره فيحفظه من الضلال : { مُرْشِداً } أي : يهديه إلى ما ذكر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } [ 18 ] .
{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ } خطاب لكل أحد . أي : تظنهم ، يا مخاطب ، أيقاظا لانفتاح أعينهم ، وهم رقود مستغرقون في النوم ، بحيث لا ينبههم الصوت . قال ابن كثير : ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم لم تنطبق أعينهم لئلا يسرع إليها البلى . فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها . و قد ذكر عن الذئب أنه ينام فيطبق عينا و يفتح عينا . ثم يفتح هذه و يطبق هذه وهو راقد . كما قال الشاعر :
~ينامُ بإِحدى مُقلتيهِ وَيَتَّقِي بأخْرى الرَّزايا فَهُو يقظانُ نائمُ
و : { أَيْقَاظَاً } جمع يقظ و يقظان . و : { رُقُودٌ } جمع راقد . وما قيل أنه مصدر أطلق على الفاعل واستوى فيه القليل والكثير كركوع وقعود ، لأن فاعلاً لا يجمع على فعول - مردود بما نص عليه النحاة كما صرّح به في " المفضل " و " التسهيل " .
{ وَنُقَلِّبُهُمْ } أي : في رقدتهم : { ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ } أي : لئلا تتلف الأرض أجسادهم : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ } أي : بفناء الكهف أو الباب . وقد شملت بركتهم كلبهم . فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال ، قال ابن كثير : وهذا فائدة صحبة الأخيار . فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن . وقد قيل أنه كان كلب صيد لهم وهو الأشبه . واختلفوا في لونه على أقوال لا حاصل لها ولا طائل تحتها ولا دليل عليها ولا حاجة إليها . بل هي مما نهي عنه . فإن مستندها رجم بالغيب . ووجود الكلب على هذه الحالة من العناية بهم . فكما حفظهم بالتقليب عن إهلاك الأرض ، حفظهم عن الأعداء بكلب ، ليهابوهم مع هيبةٍ ذاتيةٍ لهم . كما قال تعالى : { لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ } أي : فنظرت إليهم ، مع غاية قوتك في مكافحة الحروب : { لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } أي : خوفا يملأ صدرك ، لما ألبسوا من الهيبة . فلا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم وخافهم . وذلك - كما قال ابن كثير : لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد لامس ، حتى يبلغ الكتاب أجله و تنقضي رقدتهم التي شاءها تبارك وتعالى فيهم . لما له في ذلك من الحكمة البالغة والرحمة الواسعة . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً } [ 19 ] .
{ وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ } أي : وكما أنمناهم تلك النومة ، بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبشارهم ، لم يفقدوا من هيئاتهم وأحوالهم شيئا ، ادّكارا بقدرته على الإنامة والبعث جميعا . قال ابن كثير : وذلك بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين . وقوله تعالى : { لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ } أي : ليسأل بعضهم بعضا ويعرفوا حالهم وما صنع الله بهم ، فيعتبروا ، ويستدلوا على عظم قدرة الله تعالى ، ويزدادوا يقينا ، ويشكروا ما أنعم الله به عليهم وكرِّموا به . أفاده الزمخشري .
وبه يتبين أن البعث علة للتساؤل . ومن جعل اللام للعاقبة ، لَحَظَ أن الغرض من فعله تعالى إظهار كمال قدرته : { قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ } أي : رقدتم . اعترافاً بجهل نفسه أو طلبا للعلم من غيره ، وإن لم يظهر كونه على اليقين : { قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } قال ابن كثير : كأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول نهار ، واستيقاظهم كان في آخر نهار . ولهذا قالوا : أو بعض يوم . وقال المهايمي : فمن نظر إلى أنهم دخلوا غدوة وانتبهوا عشية ، ظن أنهم لبثوا يوما ، ومن نظر إلى أنه قد بقيت من النهار بقية ، ظن أنهم لبثوا بعض يوم . فهم مع ما أعطوا من الكرامات يتكلمون بالظن . فالوليّ يجوز أن يتكلم بالظن فيما ليس من الأصول ، ويجوز أن يخطئ . وقال الزمخشري : جواب مبني على غالب الظن . وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب . وأنه لا يكون كذبا . وأن جاز أن يكون خطأ .
{ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } إنكار عليهم من بعضهم ، وأن الله أعلم بمدة لبثهم . كأن هؤلاء قد علموا بالأدلة ، أو بإلهام من الله ، أن المدة متطاولة ، وأن مقدارها مبهم . فأحالوا تعيينها على ربهم : { فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ } أي : المأخوذة للتزود . والورِق الفضة : { إِلَى الْمَدِينَةِ } أي : التي فررتم عنها : { فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً } أي : أطيب { فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ } أي : في المبايعة واختيار الطعام . أو في أمره بالتخفي ، حتى لا يشعر بحالكم ودينكم : { وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً }(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً } [ 20 ] .
{ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } يطلعوا على مكانكم : { يَرْجُمُوكُمْ } أي : يقتلوكم بالحجارة : { أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ } أي : يدخلوكم فيها بالإكراه العنيف : { وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً } أي : إذا صرتم إلى ملتهم . قال القاشاني : ظهور العوام ، واستيلاء المقلدة والحشوية المحجوبين ، وأهل الباطل المطبوعين ، ورجمهم أهل الحق ، ودعوتهم إياهم إلى ملتهم - ظاهر . كما كان في أوائل البعثة النبوية .
لطائف :
الأولى : قال الزمخشري : فإن قلت : كيف وصلوا قولهم فابعثوا بتذاكر حديث المدة ؟ قلت : كأنهم قالوا ربكم أعلم بذلك . لا طريق لكم في علمه . فخذوا في شيء آخر مما يهمكم . انتهى .
ورأى المهايمي أن قولهم : { فَابْعَثُواْ } من تتمة حديث المدة . قصد به تفحصها . كأنهم لما أحالوا تعيينها على الله تعالى بقوله : { رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } قالوا هذه الإحالة لا تمنع من طلب العلم بالمدة . ولو في ضمن أمر آخر ، فاطلبوه في ضمن حاجة لنا . وهي أن تبعثوا أحدكم . بورقكم هذه لئلا نحوج إلى السؤال عن المدة . لا سيما في مكان يمنع من الإجابة إلى المسؤول به ، فيفضي إلى الهلاك .
الثانية : قال في " الإكليل " : قوله تعالى : { فَابْعَثُواْ } الآية ، أصل في الوكالة والنيابة . قال ابن العربي : وهي أقوى آية في ذلك .
قال الكيا : وفيها دليل على جواز خلط دراهم الجماعة والشراء بها والأكل من الطعام بينهم بالشركة . وإن تفاوتوا في الأكل .
الثالثة : دل قوله تعالى عنهم : { فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً } على مشروعية استجادة الطعام واستطابته بأقصى ما يمكن ، لصيغة التفضيل . فإن الغذاء الأزكى المتوفر فيه الشروط الصحية يفيد الجسم ولا يتعبه ولا يكدره . ولذلك يجب طبّاً الاعتناء بجودته وتزكيته ، كما فصّل في قوانين الصحة .
الرابعة قال الرازي : الرجم بمعنى القتل ، كثير في التنزيل كقوله : { وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ } [ هود : 91 ] وقوله : { أَنْ تَرْجُمُونِ } [ الدخان : 20 ] ، وأصله الرمي ، أي : بالرجام وهي الحجارة . ولا يبعد إرادة الحقيقة في موارده كلها ، زيادة في التهويل . فإن الرجم أخبث أنواع القتل . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } [ 21 ] .
{ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } أي : كما أنمناهم وبعثناهم لما في ذلك من الحكمة ، أطلعنا عليهم أهل المدينة حتى دخلها من بعثوه للطعام ، وأخرج ورقهم المتقادمة العهد : { لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } أي : ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم ، أن وعد الله بالبعث حق . لأن حالهم في نومتهم وانتباهتهم بعدها كحال من يموت ثم يبعث : { وَأَنَّ السَّاعَةَ } أي : الموعود فيها بالبعث : { لا رَيْبَ فِيهَا } إذ لا بد من الجزاء بمقتضى الحكمة . ثم أشار تعالى إلى ما كان من أمرهم بعد وفاتهم ، وعناية قومهم بحفظ أجداثهم ، بقوله سبحانه : { إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً } أي : على باب كهفهم بنيانا عظيما . كالخانقاهات المشاهد والمزارات المبنية على الأنبياء وأتباعهم ، و " إذ " على ما يظهر لي ، ظرف لأذكر مقدراً . والجملة مستأنفة لبيان ختم نبئهم بما جرى بعد مماتهم ، إثر ما أوجز من نبئهم بعد بعثهم والإعثار عليهم وجعله ظرفا لـ : { أَعْثَرْنَا } أو لغيره مما ذكروا ليس فيه قوة ارتباط ولا دقة معنى .
وقوله تعالى : { فَقَالُواْ } تفسير للمتنازع فيه . وقوله تعالى : { رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ } جملة معترضة . إما من الله ردا على الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين فيهم على عهده صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب ,أو هي من كلام المتنازعين في عهدهم . كأنهم تذاكروا أمرهم العجيب وتحاوروا في أحوالهم ومدة لبثهم . فلما لم يهتدوا أحالوا حقيقة نبيهم إليه تعالى : { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ } أي : من المتنازعين ، وهم أرباب الغلبة ونفوذ الكلمة : { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } أي : نصلي فيه ، تبركا بهم وبمكانهم .
تنبيه :
قال ابن كثير : حكي في القائلين ذلك قولان
أحدهما : أنهم المسلمون منهم
والثاني : أنهم المشركون . والظاهر أنهم هم أصحاب النفوذ . ولكن هل هم محمودون أم لا ؟ فيه نظر . لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < لعن الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد > يحذّر ما فعلوا . انتهى .
وعجيب من تردده في كونهم غير محمودين ، مع إيراده الحديث الصحيح بعده ، المسجل بلعن فاعل ذلك . وهو أعظم ما عنون به على الغضب الإلهي والمقت الرباني . والسبب في ذلك أن البناء على قبر النبي والولي مدعاة للإقبال عليه والتضرع إليه . ففيه فتح لباب الشرك وتوسل إليه بأقرب وسيلة . وهل أصل عبادة الأصنام إلا ذلك ؟ كما قال ابن عباس في قوله تعالى : { وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } [ نوح : 23 ] ، قال : هؤلاء كانوا قوما صالحين في قومهم . فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ، ثم صوروا تماثيلهم . فلما طال فيهم الأمد عبدوهم . فهؤلاء لما قصدوا الانتفاع بالموتى ، قادهم ذلك إلى عبادة الأصنام . قال الإمام محمد بن عبد الهادي عليه الرحمة ، في كتابه " الصارم المنكى " بعد إيراده ما تقدم : يوضحه أن الذين تكلموا في زيارة الموتى من أهل الشرك ، صرحوا بأن القصد هو انتفاع الزائر بالمزور . وقالوا : من تمام الزيارة أن يعلق همته وروحه بالميت وقبره . فإذا فاض على روح الميت من العلويات الأنوار ، فاض منها على روح الزائر بواسطة ذلك التعلق والتوجه إلى الميت . كما ينعكس النور على الجسم الشفاف ، بواسطة مقابلته .
وهذا المعنى بعينه ، ذكره عَبَّاد الأصنام في زيارة القبور . وتلقاه عنهم من تلقاه ممن لم يحط علما بالشرك وأسبابه ووسائله . ومن هاهنا يظهر سر مقصود النبي صلى الله عليه وسلم بنهيه عن تعظيم القبور واتخاذ المساجد عليها والسرج . ولعنه فاعل ذلك وإخباره بشدة غضب الله عليه . ونهيه عن الصلاة إليها ، ونهيه عن اتخاذ قبره عيدا . وسؤاله ربه تعالى أن لا يجعل قبره وثنا يعبد . فهذا نهيه عن تعظيم القبور . وذلك تعليمه وإرشادة للزائر أن يقصد نفع الميت والدعاء له والإحسان إليه ، لا الدعاء به ولا الدعاء عنده .
ثم قال عليه الرحمة : ومن ظن أن ذلك تعظيم لهم فهو غالط جاهل . فإن تعظيمهم إنما هو بطاعتهم واتباع أمرهم ومحبتهم وإجلالهم . فمن عظمهم بما هو عاص لهم به ، لم يكن ذلك تعظيما ً . بل هو ضد التعظيم . فإنه متضمن مخالفتهم و معصيتهم . فلو سجد العبد لهم أو دعاهم من دون الله أو سبحهم أو طاف بقبورهم واتخذ عليها المساجد والسرج ، وأثبت لهم خصائص الربوبية ، ونزههم عن لوازم العبودية ، وادعى أن ذلك تعظيم لهم كان من أجهل الناس وأضلهم . وهو من جنس تعظيم النصارى للمسيح حتى أخرجوه من العبودية . وكل من عظّم مخلوقاً بما يكرهه ذلك المعظَّم و يبغضه ، ويمقت فاعله ، فلم يعظمه في الحقيقة ، بل عامله بضد تعظيمه . فتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم أن تطاع أوامره وتصدق أخباره ولا يقدم على ما جاء به غيره . فالتعظيم نوعان : أحدهما ما يحبه المعظَّم و يرضاه ويأمر به ويثني على فاعله ، فهذا هو التعظيم في الحقيقة . و الثاني ما يكرهه ويبغضه ويذم فاعله ، فهذا ليس بتعظيم بل هو غلوّ مناف للتعظيم . ولهذا لم يكن الرافضة معظمين لعلي ، بدعواهم الإلهية والنبوة أو العصمة ونحو ذلك . ولم يكن النصارى معظمين للمسيح . بدعواهم فيه ما ادعوا . و النبي صلى الله عليه وسلم . قد أنكر على من عظمه بما لم يشرعه . فأنكر على معاذ سجوده له وهو محض التعظيم . وفي المسند بإسناد صحيح على شرط مسلم عن أنس بن مالك أن رجلا قال : يا محمد ! يا سيدنا ! و ابن سيدنا ! وخيرنا ! وابن خيرنا ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < عليكم بتقواكم ، ولا يستهوينكم الشيطان . أنا محمد بن عبد الله ، عبد الله ورسوله ، ما أحب أن تعرفوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عزّ وجلّ > . وقال صلى الله عليه وسلم : < لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم . فإنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله > وكان يكره من أصحابه أن يقوموا له إذا رأوه . ونهاهم أن يصلوا خلفه قياماً وهو مريض . وقال : < إن كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم . يقومون على ملوكهم > وكل هذا من التعظيم الذي يبغضه ويكرهه . ولقد غلا بعض الناس في تعظيم القبور حتى قال : إن البلاء يندفع عن أهل البلد أو الإقليم ، بمن هو مدفون عندهم من الأنبياء و الصالحين . وهو غلوّ مخالف لدين المسلمين ، مخالف للكتاب والسنة والإجماع . وللبحث تتمة مهمة فانظره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً } [ 22 ] .
{ سَيَقُولُونَ } أي : الخائضون في قصتهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب الذين لا علم لهم بالحقيقة : { ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ } أي : بعض آخر منهم : { خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ } أي : رمياً وتلفظاً بالذي غاب عنهم . يعني ظناً خالياً عن اليقين . قال ابن كثير : كالذي يرمي إلى مكان لا يعرفه ، فإنه لا يكاد يصيب ، و إن أصاب فبلا قصد : { وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } حكاية لقول فريق آخر كان يرى عدتهم هذه : { قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ } أي : ممن أطلعه الله عليه : { فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً } أي : لا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف ، إلا جدالاً ظاهراً ليناً غير متعمق فيه . وذلك على قدر ما تعرض له التنزيل الكريم من وصفهم بالرجم بالغيب وعدم العلم على الوجه الإجمالي ، وتفويض العلم إلى الله سبحانه ، من غير تجهيل لهم ، ولا تعنيف بهم ، في الرد عليهم كما قال : { وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] ، فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة . قيل : المماراة المجادلة . وقيل بالفرق . فالمجادلة المحاجّة مطلقاً . والمماراة المحاجة فيما فيه مرية أي : تردد ، لأنها من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحليب : { وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً }
أي لا تسأل أحداً منهم عن نبئهم . لأن السؤال إما للاسترشاد ، أو للتعنت والمحاورة . ولا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه رجماً بالغيب . من غير استناد إلى كلام معصوم . والتعنت للرد على الخصم وتزييف ما عنده ، ينافي مكارم الأخلاق . والمعنى : جاءك الحق الذي لا مرية فيه ، فهو المقدم الحاكم على ما تقدم من الكتب والأقوال .
تنبيهات :
الأول : ذهب أكثر المفسرين إلى أن قول الخائضين الأخير ، وهو أنهم سبعة وثامنهم كلبهم ، هو الحق . لأنه لم يوصف بكونه رجماً بالغيب كما وصف الأولان .
ولتخصيصه بالواو في قوله : { وَثَامِنُهُمْ } وهي الواو الداخلة على الجملة الواقعة صفة للنكرة ، لإفادة تأكيد لصوق الصفة بالموصوف . والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر . وأنه لا عدد وراءه . كما قال ابن عباس : حسن وقعت الواو انقطعت العدة . وأقول : لا يخفى ضعف التمسك بهذين الوجهين لتقوية القول الأخير . فإن عدم وصفه بالرجم بالغيب إنما هو لدلالة ما قبله عليه . وفي إعادته إخلال بالبلاغة . ومسألة الواو أوهى من بيت العنكبوت . فإن مثل هذا النزاع لا يكتفى بحسمه بمثل هذا الإيماء الدقيق القريب من الإلغاز . كما لا يخفى على من تتبع مواقع حسم الشبه في الكتاب والسنة وكلام البلغاء . لا سيما والواو من المحكي لا من الحكاية . فيدل على ثبوته عند القائل لا عند الله ، فلا يكون من الإيماء في شيء . وجواب بعضهم بأنه تعالى لما حكى قولهم قبل أن يقولوه هكذا ، لقنهم أن يقولوه إذا أخبروا عنه بهذه العبارة ، وبأنه لا مانع أن تكون من الحكاية - بعيد غاية البعد ، وتكلف ظاهر ، وإغراب في القول .
ثم قيل : إن هذه الجملة لا تتعين للوصفية . لجواز كونها حالاً من النكرة ، لأن اقترانها بالواو مسوغ . ويجوز أن يكون خبراً عن المبتدأ المحذوف . لأنه يجوز في مثله إيراد الواو وتركها . على أنه إنما يتم ما ذكروه لو لم يتبع قولهم بقوله تعالى : { قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ } [ الكهف : 22 ] فإن في تأثره للأقوال المتقدمة كلها ، برهاناً ظاهراً على أنهم لم يهتدوا لعدتهم ، وإرشاداً إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام ، رد العلم إليه تعالى .
وإشارة إلى أنه لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم بيّن وبرهان نيّر . وإنه إذا أوقفنا على الفيصل قلنا به ، وإلا وقفنا . وقد تأكد هذا بقوله سبحانه بعده : { مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ } فإن فيه دلالة على أنه يعلمهم البعض ممن لم يشأ الحق تعيينه . وهو إما نبي ، أو من كان في مدتهم ، أو من نقب عن نبئهم بإثارة صحيحة أو تلق عن المعصوم . وفيه إعلام بأنه لم يضرب على الناس بسدّ من جهالة شأنهم .
وبالجملة ، فالنظم الكريم ، بأسلوبه هذا ، لا يدل على أن الأخير هو الحق كما علمت . وأما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله : أنا من القليل الذي استثنى الله عز وجل . كانوا سبعة - فهو من الموقوف عليه . ولو رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصح سنده لقلنا به على أنه اختلف على ابن عباس في عدتهم . فروي عنه أنهم ثمانية ، حكاه ابن إسحاق عن مجاهد عنه . وروي عنه سبعة . وهو حكاية قتادة وعكرمة عنه . ثم رأيت الرازي نقل عن القاضي أنه قال : إن كان - ابن عباس - قد عرفه ببيان الرسول ، صح . وإن كان قد تعلق بحرف الواو فضعيف . انتهى . هذا ما ظهر لي الآن .
وبعد كتابتي لما تقدم بمدة ، وقفت على نبئهم في " طبقات الشهداء المسيحيين " وأن عدتهم سبعة عندهم كما ستراه في آخر الآيات فيهم . فسنح لي أن ابن عباس إنما جزم بما جزم به ، مما قوي عنده من إشارة الآية ، كما ذكره أولئك الأكثرون ، ومن تواتر عدتهم من قومهم وممن أثر عنهم . ثم حققه وصدقه عدم النكير فيه . وكذلك جزم بمثله الإمام تقي الدين بن تيمية رحمه الله . حيث قال في قاعدة له في التفسير : اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام - مقام حكاية الأقوال وتعليم ما ينبغي في مثل هذا . فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال ، ضعف القولين الأولين وسكت عن الثالث . فدل على صحته . إذ لو كان باطلا لرده كما ردهما . ثم أرشد إلى أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته . فيقال في مثل هذا : { قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ } فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه . فبهذا قال : { فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً } أي : لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته ، ولا تسألهم عن ذلك فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب . فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام وأن ينبه على الصحيح منها ويبطل الباطل . ويذكر فائدة الخلاف وثمرته ، لئلا يقع النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته ، فيشتغل به عن الأهم . فأما من حكى خلافا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها ، فهو ناقص . إذ قد يكون الصواب في الذي تركه . أو يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال ، فهو ناقص أيضاً . انتهى كلامه رحمه الله ، وهو الفصل في هذا المقام .
الثاني : قال الرازي : ذكروا في فائدة الواو في قوله : { وَثَامِنُهُمْ } وجوها :
الأول : ما ذكروه أنه يدل على أن هذا القول أولى من سائر الأقوال . وقد عرفت ما فيه .
وثانيها : أن السبعة عند العرب أصل في المبالغة في العدد . وإذا كان كذلك فإذا وصلوا إلى الثمانية ذكروا لفظا يدل على الاستئناف ، فقالوا : وثمانية . فجاء هذا الكلام على هذا القانون . قالوا : ويدل عليه نظيره في ثلاث آيات ، وهي قوله : { وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ } [ التوبة : 112 ] ، لأن هذا هو العدد الثامن من الأعداد المتقدمة . وقوله : { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر : 73 ] ، لأن أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة . وقوله : { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } [ التحريم : 5 ] ، لأن قوله : { وَأَبْكَاراً } هو العدد الثامن مما تقدم . والناس يسمون هذه الواو واو الثمانية ومعناه ما ذكرناه .
قال القفّال : وهذا ليس بشيء والدليل عليه قوله تعالى : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ } [ الحشر : 23 ] ، ولم يذكر الواو في النعت الثامن . انتهى .
وقال في " الانتصاف " : الصواب في الواو ما تقدم من كونها لتأكيد اللصوق . لا كمن يقول إنها واو الثمانية . فإن ذلك أمر لا يستقر لمثبته قدم . ويعدون مع هذه الواو في قوله في الجنة : { وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } قالوا لأن أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة وهب أن في اللغة واواً تصحب الثمانية فتختص بها ، فأين ذكر العدد في أبواب الجنة حتى ينتهي إلى الثامن فتصحبه الواو ؟ وربما عدوا من ذلك : { وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ } وهو الثامن من قوله : { التَّائِبُونَ } وهذا أيضاً مردود بأن الواو إنما اقترنت بهذه الصفة لتربط بينها وبين الأولى التي هي : { الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ } لما بينهما من التناسب والربط . ألا ترى اقترانهما في جميع مصادرهما ومواردهما ؟ كقوله : { يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } [ التوبة : 71 ] ، وكقوله : { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ } [ لقمان : 17 ] ، وربما عد بعضهم من ذلك ، الواو في قوله : { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } لأنه وجدها مع الثامن . وهذا غلط فاحش . فإن هذه واو التقسيم . ولو ذهبت تحذفها فتقول : { ثَيِّبَاتٍ أَبْكَاراً } لم يستدّ الكلام . فقد وضح أن الواو في جميع هذه المواضع المعدودة ، واردة لغير ما زعمه هؤلاء . والله الموفق . . . انتهى .
الثالث : حكي في " الإكليل " عن مجاهد في قوله تعالى : { فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً } إلا بما أظهرنا لك . ومثله قول السدي : إلا بما أوحي إليك . وإن فيه تحريم الجدل بغير علم وبلا حجة ظاهرة . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً } [ 23 - 24 ] .
{ وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } في هذه الآية وجوه من المعاني . منها أن المعنى لا تقولن إلا وقت أن يشاء الله بأن يأذن لك في القول ، فتكون قائلاً بمشيئته ، فالمشيئة على هذا بمعنى الإذن . لأن وقت مشيئة الله لشيء لا تعلم إلا بإذنه فيه أي : إعلامه به . ومنها لا تقولن لما عزمت عليه من فعل ، إني فاعل ذلك غداً إلا قائلاً معه إن شاء الله تبرؤاً من لزوم التحكم على الله ، ومن الفعل بإرادتك بل بإرادة الله ، فتكون فاعلاً بمشيئته . ولئلا يلزم الكذب لو لم يشأه الله تعالى . ومنها أن المعنى لا تقولن ذلك قاطعا بفعله وباتاً له . لأنه : { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً } [ لقمان : 34 ] ، فلا ينبغي الجزم والبت على فعل أمر مستقبل مجهول كونه .
وقوله تعالى : { إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } أي : أن تقول ذلك القول البات نسياناً فحينئذ ارجع إلى ربك بذكره . ولذا قال : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } وعلى هذه الوجوه كلها فـ : { لا تَقُولَنَّ } نهي معطوف على النهيين قبله . قال الجاحظ في كتاب " الحيوان " : إنما ألزم جل وعلا عبده أن يقول : إن شاء الله ، ليبقي عادة للمتألي ، ولئلا يكون كلامه ولفظه يشبه لفظ المستبد والمستغني ، وعلى أن يكون عبده ذاكراً لله . لأنه عبد مدبَّر ، ومقلَّب ميسَّر , ومصرَّف مسخَّر .
وبقي وجه آخر : وهو أن المعنى لا تقولن ذلك إلا أن يشاء الله أن تقول هذا القول . والجملة خبرية قصد بها الإخبار عن سبق مشيئته تعالى لكل ما يعزم عليه ويقوله . كقوله تعالى : { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } [ الإنسان : 30 ] وهذا المعنى هو الظاهر ببادئ الرأي كما قاله في " الانتصاف " وفي المعنى تلويح بأنه صلوات الله عليه كان همّ بأمر ما في نبأ هؤلاء الفتية ، وعزم على أمر في غد المحاورة به .
ولعله الاستفتاء عنهم . فلما نهى عنه أخبر بأن كل شيء كائن بمشيئته تعالى ، ليدخل فيه ما كان قاله دخولاً أولياً . أي : ما قتله وعزمت على فعله كان بمشيئة الله ، إذ شاء الله أن تقوله . فالآية بمثابة العناية به والتلطيف بالخطاب ، إثر ما يومئ إليه النهي إليها من رقيق ولذلك اعترضت بين سابق النهي عن استفتائهم ، ولاحق الأمر بذكره تعالى إذا نسي ، أي : نسي ما وصّي به . وبما ذكرنا يعلم أن هذا المعنى له وجه وجيه .
فدعوى الناصر في " الانتصاف " أنه ليس هو الغرض ، وأن الغرض النهي عن هذا القول إلا مقروناً بمشيئته تعالى - قصرٌ للآية على أحد معانيها ، وذهاب إلى ما هو المشهور في تأويلها ، وعدم تمعن في مثل هذا المعنى الدقيق ، بل وفي بقية المعاني الأخر التي اللفظ الكريم يحتملها . وقد ظهر قوة المعنى الأخير لموافقته لآية : { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } [ الإنسان : 30 ] ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً . والله تعالى أعلم .
وقوله تعالى : { وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً } أي : خيراً ومنفعة . والإشارة للنبأ المتحاوَر فيه .
تنبيهات :
الأول : روي أنه صلوات الله عليه سُئل عن أصحاب الكهف والروح وذي القرنين ، فقال : < أجيبكم عنها غداً > ولم يستثن . فاحتبس الوحي خمسة عشر يوماً ، ثم نزلت : { وَلاَ تَقُولَنَّ } الآية . وقد زيف هذه الرواية القاضي - كما حكاه الرازي - من أوجه . والحق له . لأنها من مرويات ابن إسحاق مجهول . كما ساقه عنه ابن كثير وغيره ، والله أعلم .
الثاني : يشير قوله تعالى : { وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي } الآية ، إلى أن هذا النبأ ليس مما تنبغي العناية بتحقيقه وتدقيق أطرافه ، وابتغاء الرشاد فيه ، حتى يتكلف لفتوى أهل الكتاب فيه . العزم على فعل شيء مما يلابسه في المستقبل ، لأنه من الأمور الغابرة التي حق الخائض فيها أن ينظر منها إلى وجه العبرة والفوائد التي حوتها ، كما أحكمته آيات التنزيل في شأنها .
الثالث : اعترضت هذه الآداب أعني من قوله تعالى : { فَلَا تُمَارِ } إلى هنا قبل تتميم نبئهم ، مبادرة إلى الاهتمام بهذه الآداب والاحتفاظ بها ، لتتمكن فضل تمكن ، وترسخ في النفس أشد رسوخ . والله أعلم .
الرابع : روي عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } : إذا نسيت الاستثناء بالمشيئة ثم ذكرت فاستثن ، وذلك كما قال القرطبي لتدارك التبرك والتخلص عن الإثم .
وقال في " الانتصاف " : أما ظاهر الآية فمقتضاه الأمر بتدارك المشيئة ، متى ذكرت ولو بعد الطول . وأما حلُّها لليمين حينئذ فلا دليل عليه منها . انتهى .
ودعوى أنه الظاهر هو أحد الوجوه فيها ، مفرعاً على أن المشيئة في الآية قبلها ، مشيئة القول ، وهو أحد معاني الآية . وقد حكي عن ابن عباس جواز الاستثناء وإن طال الزمان . ثم اختلف عنه فقيل إلى شهر وقيل إلى سنة وقيل أبداً . وفي " حصول المأمول " : ومن قال بأن هذه المقالة لم تصح عن ابن عباس ، لعله لم يعلم بأنها ثابتة في " مستدرك الحاكم " وقال : صحيح على شرط الشيخين بلفظ : < إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثني إلا سنة > ومثله عند أبي موسى المديني وسعيد بن منصور وغيرهما من طرق . وبالجملة فالرواية عنه رضي الله عنه قد صحت ، لكن الصواب خلاف ما قاله .
قال ابن القيم في " مدارج السالكين " : إن مراده أنه إذا قال شيئا ولم يستثن ، فله أن يستثني عند الذكر . وقد غلط عليه من لم يفهم كلامه . انتهى .
وهذا التأويل يدفعه ما تقدم عنه . والاستثناء بعد الفصل اليسير وعند التذكر ، قد دلت عليه الأدلة الصحيحة . منها حديث أبي داود وغيره : < والله ! لأغزون قريشا > ثم سكت ثم قال : < إن شاء الله > . ومنها حديث < ولا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها > فقال العباس : إلا الإذخر . وهو في الصحيح . ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية : < إلا سهل ابن بيضاء > انتهى . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } [ 25 - 26 ] .
{ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } حكاية لقول أهل الكتاب في عهده صلى الله عليه وسلم ، في مدة لبثهم نائمين في كهفهم الذي التجأوا إليه ، ليتفرغوا لذكر الله وعبادته . وقد رد عليهم بقوله سبحانه : { قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } وإليه ذهب قتادة ومطرف بن عبد الله . وأيده قتادة بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه " وَقَالُواْ وَلَبِثُواْ " قيل : وعليه فيكون ضمير : { وَازْدَادُواْ } لأهل الكتاب . وإنه يظهر فيه وجه العدول عن المتبادر وهو ثلاثمائة وتسع سنين . مع أنه أخصر وأظهر . وذلك لأن بعضهم قال : ثلاثمائة : وبعضهم قال أزيد بتسعة . ولا يخفى ركاكة ما ذكر ، فإن الضمير للفتية . ووجه العدول موافقة رؤوس الآي المقطوعة بالحرف المنصوب . ودعوى الأخصرية تدقيق نحوي لا تنهض بمثله البلاغة . وأما الأظهرية فيأباها ذوق الجملتين ذوقاً سليماً . فإن الوجدان العربي يجد بينهما في الطلاوة بعد المشرقين . ودعوى أن فيها إشارة إلى أنها ثلاثمائة بحساب أهل الكتاب بالأيام ، واعتبار السنة الشمسية ، وثلاثمائة وتسع بحساب العرب ، واعتبار القمرية ، بيانا للتفاوت بينهما ، إذ التفاوت بينهما في كل مائة سنة ثلاث سنين - دعوى يتوقف تصحيحها على ثبوت أن أهل الكتاب ازدادوا بالسنة الشمسية وأنه قص علينا ما أرادوه بالسنة الهلالية ، فلذلك قال : { وَازْدَادُوا تِسْعاً } لنقف على تحديد ما عنوه ، ومن أين يثبت ذلك ؟ وما الداعي لهذا التعمق المشوش ؟ والآية جلية بنفسها في دعواهم مدة لبثهم . وقد يريدون السنة الشمسية أو الهلالية ، وبأي منها قالوا : فقد رد عليهم بقوله : { قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } أي : بمقدار لبثهم . فلا تقفوا ما ليس لكم به علم ، وما هو غيب يرد إليه سبحانه ، كما قال : { لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِِ والأَرْضِ } أي : ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلهما ، أي : أنه هو وحده العالم به : { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } أي : ما أبصره لكل موجود ! وأسمعه لكل مسموع لا يخفى عليه شيء ولا يحجب بصره وسمعه شيء .
قال الزمخشري : جاء بما دل على التعجب من إدراكه المسموعات والمبصرات ، للدلالة على أن أمره في الإدراك خارج عن حد ما عليه إدراك السامعين والمبصرين ، لأنه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها ، كما يدرك أكبرها حجماً وأكثفها جرماً ، ويدرك البواطن كما يدرك الظواهر .
لطيفة :
قال في " الإكليل " : استدل بقوله تعالى : { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } المنتخب على جواز إطلاق صيغة التعجب في صفات الله تعالى ، كقولك : ما أعظم الله وما أجله . انتهى .
يعني أن يشتق من الصفات السمعية صيغة التعجب قياساً على ما في الآية وقد يقال بالوقف . ينبغي التأمل .
وقوله تعالى : { مَا لَهُم } أي : أهل السموات والأرض في خلقه : { مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ } أي : يتولى أمورهم : { وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ } أي : قضائه : { أَحَداً } أي : من مكوناته العلوية والسفلية . بل هو المنفرد بالحكم والقضاء فيهم ، وتدبيرهم وتصريفهم ، فيما شاء وأحب .
قال المهايمي : فيه إشارة إلى أن علمهم بهم إما من قبيل الغيب ، فهو مختص بالله . أو من قبيل المسموع ، فهو أسمع . أو من قبيل البصر ، فهو أبصر . انتهى . وهو لطيف جداً . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً } [ 27 ] .
{ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ } أي : بتبليغ ما فيه . ومنه ما أوحي إليك من نبأ الفتية ، فإنه الحق الذي لا يحتاج معه إلى استفتاء فيه .
قال القاشاني : يجوز أن تكون مِنْ لابتداء الغاية . والكتاب هو اللوح الأول المشتمل على كل العلوم الذي منه أوحي إلى من أوحي إليه ، وأن تكون بيانا لما أوحي : { لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } أي : لا مغيّر لها ولا محرّف ولا مزيل .
قال القاشاني : كلماته التي هي أصول التوحيد والعد وأنواعهما .
وقصده دفع ما يرد من وقوع نسخ بعض الشرائع السابقة باللاحقة وتبديلها بها . فأشار إلى أن النسخ إنما هو في الفروع لا الأصول .
والأظهر في معنى الآية ؛ أنه لا أحد سواه يبدل حكمه كقوله : { لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ } [ الرعد : 41 ] ، وأما هو سبحانه فهو فعال لما يريد : { وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً } أي : ملجأً .
وذهب ابن جرير في تفسير هذه الآية مذهبا قال : يقول تعالى لنبيه واتبع ما أنزل إليك من كتاب ربك هذا ، ولا تتركنّ تلاوته واتباع ما فيه من أمر الله ونهيه والعمل بحلاله وحرامه . فتكون من الهالكين . وذلك أن مصير من خالفه وترك اتباعه يوم القيامة ، إلى جهنم : { لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } يقول لا مغير لما أوعد بكلماته التي أنزلها عليك ، أهل معاصيه والعاملين بخلاف هذا الكتاب الذي أوحيناه إليك . وقوله : { وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً } يقول وإن أنت لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك فتتبعه وتأتمّ به ، فنالك وعيد الله الذي أوعد فيه المخالفين حدوده ، لن تجد من دون الله موئلاً تئل إليه ، ومعدلاً تعدل عنه إليه . لأن قدرة الله محيطة بك وبجميع خلقه , لا يقدر أحد منهم على الهرب من أمرٍ أراد به . انتهى .
تنبيه :
لهؤلاء الفتية أصحاب الكهف ذكر في تواريخ المسيحيين ، وعيد سنوي يقام تذكاراًَ لهم ، في اليوم السابع والعشرين من شهر تموز . لكونهم اضطهدوا من قبل الأمراء اليونانيين ، لإيمانهم بالله تعالى وحده ودخولهم في الملة المسيحية ورفضهم الوثنية التي كانت عليها اليونان . وقد رأيت في كتاب " الكنز الثمين في أخبار القديسين " ترجمة عن أحوالهم واسعة تحت عنوان " فيما يخص السبعة القديسين الشهداء الذين من أفسس " نقتطف منها ما يأتي ، دحضاً لدعوى من يفتري أن نبأهم لا يعرف أصلاً ، كما قرأته في بعض كتب الملحدين .
قال صاحب الترجمة : هؤلاء الشهداء السبعة كانوا إخوة بالجسد . وأسماؤهم : مكسيميانوس ومالخوس . ومرتينيانوس . وديونيسيوس . ويوحنا . وسارابيون . ثم قسطنطين . هؤلاء الشباب قربوا حياتهم ضحية من أجل المسيح, بالقرب من مدينة أفسس نحو سنة 252 مسيحية . في زمن الاضطهاد القاسي الذي صنعه ضد المسيحيين ، الملك داكيوس .
وقد أجلّهم المسيحيون كشهداء حقيقيين [ في المطبوع : حقيقين ] . فيقام لهم في الكنائس مدائح تنشر فيها صفاتهم الفاضلة يوم استشهادهم ثمة ، في اليوم الرابع من شهر آب ، المختص بتذكار الأعجوبة التي بواسطتها قد ظهرت أجسادهم المقدسة في المغارة الغربية من مدينة أفسس .
ثم قال : وأما نوع استشهادهم فليس بمعروف . لأن أعمالهم الجهادية في سبيل الإيمان لم توجد مدوّنة في التواريخ الكنائسية المدققة . بل إن المؤكد عنهم أن استشهادهم كان زمن الملك داكيوس ، حذاء مدينة أفسس . حيث وجدت فيما بعد أجسادهم في مغارة ليست بعيدة من أهل هذه المدينة .
ثم قال : فالبعض من الكتبة الكنائسيين يرتؤون بأنه لما اختفى هؤلاء الفتية في تلك المغارة هرباً من الاضطهاد ، عرف أمرهم فأغلق عليهم باب المغارة بصخور عظيمة . وهكذا ماتوا فيها . وغيرهم يروون أنهم قتلوا من أجل الإيمان في مدينة أفسس . وبعد موتهم نقلت أجسادهم ودفنت في المغارة المذكورة . وآخرون يظنون أنهم حبسوا أنفسهم أحياء باختبائهم في المغارة المذكورة ، ليموتوا برضاهم ، هرباً من خطر أنواع العذاب القاسية التي كان يتكبدها المسيحيون في ذاك الاضطهاد الوحشي .
ثم قال : فكيفما كان نوع استشهاد هؤلاء السبعة ، فقد تحقق أن الله أراد أن يكرمهم بإظهار أجسادهم بواسطة رؤيا سماوية . وذلك في 4 آب سنة 447 في زمن ولاية الملك ثاوضوسيوش الصغير .
ثم قال : ودرج على أفواه الشعوب ؛ أن هؤلاء الفتية ، بعد أن أغلق عليهم باب المغارة بأمر داكيوس الملك ، لم يموتوا ضمنها ، لا موتاً طبيعياً ولا قسرياً . بل رقدوا رقاد النوم مدة ، نحو مائتي سنة . ثم نهضوا من نومهم الطبيعي سنة 447 .
ثم قال : وقد ذهب بعض المؤرخين إلى تأويل ما روي من رقادهم الطويل ، بأنه لما ظهرت أجسادهم سالمة من البلَى ، بعد أن دفنوا في ذلك الغار أحياءً أو أمواتاً ، بواسطة خارقة ما ، ونقلت من مدفنهم الذي كانوا فيه ، اعتبرت تلك الأجساد كأنها صودفت مستيقظة من نوم لذيذ كانت راقدة فيه . إلا أن الذي يبطل هذا التأويل ما نقله بعد عن القنداق ، من أنهم نهضوا بعد أن رقدوا عدة من السنين وانتصروا على ضلال أولئك الوثنيين . وبظهورهم كذلك أيّدوا حقيّة إيمانهم ووطدوا المؤمنين في رجاء القيامة في الحياة الأبدية .
هذا ما اقتطفناه من كتاب " الكنز الثمين " وبه تعلم ما لدى أهل الكتاب المسيحيين من الاختلاف فيهم ، الذي أشار له القرآن الكريم . وقد جاء في " تاريخ الكنيسة " : إن أقوال وأعمال الشهداء في المسيحية لم ينقل منها إلا القليل . لأن أكثرها أحرق بالنار مدة العشر سنوات . من سنة 293 إلى 303 وإن من القرن الثامن فصاعداً ، اعتنى الروم واللاتيّون بجمع حياة الشهداء الأولين . غير أن الأكثر حذاقة ، حتى الذين في حضن الكنيسة الرومانية ، يسلّمون الآن بأن أكثر الأخبار أحاديث ملفقة ، غراماً بالبلاغة . وجداول القديسين المسماة " أقوال الشهداء " ليست بأكثر ثقة . التي ألفها أناس جهلاء غير قادرين ، أو دخلها منذئذ أكاذيب . فهذا القسم من تاريخ الكنيسة إذ ذاك مظلم خال من النور . انتهى كلامه بالحرف .
وفيه ميل إلى النصفة من عدم الثقة بما لديهم من هذا الخلاف الذي حسم مادته ، واقتلعه من جذوره ، القرآنُ الكريم .
قال الحافظ ابن كثير عند قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ } [ الكهف : 50 ] ، الآية الآتية ، معتذراً عما نقله ، ما مثاله : روي في هذا آثار كثيرة عن السلف . وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها . والله أعلم بحال كثير منها . ومنها ما قد يقطع بكذبه ، لمخالفته للحق الذي بأيدينا . وفي القرآن غنية عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة . لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان . وقد وضع فيها أشياء كثيرة . وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين ينفون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين . كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء ، والسادة والأتقياء ، والجهابذة النقاد ، والحفاظ الذي دونوا الحديث وحرروه ، وبيّنوا صحيحه من حسنه ومنكره وموضوعه ومتروكه . وعرفوا الوضّاعين والكذابين والمجهولين من أصناف الرجال . كل ذلك صيانة للجناب النبويّ والمقام المحمديّ خاتم الرسل وسيد البشر ، أن ينسب إليه كذب أو يحدث عنه بما ليس منه . فرضي الله عنهم وأرضاهم . وجعل جنات الفردوس مأواهم . وقد فعل . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } [ 28 ] .
{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ } أي : احبسها وثبّتها : { مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } أي : مع أصحابك الذين يذكرونه سبحانه طرفي النهار ، بملازمة الصلاة فيهما : { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي : ذاته طلباً لمرضاته وطاعته ، لا عرضاً من أعراض الدنيا : { وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } أي : لا تجاوز نظرك إلى غيرهم بالإعراض عنهم : { تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء تألفاً لقلوبهم : { وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا } أي : جعلناه غافلاً لبطلان استعداده للذكر بالمرة . أو وجدناه غافلاً عنه . وذلك لئلا يؤديك إلى الغفلة عنه : { وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } أي : متروكاً متهاوناً به مضيَّعاً . أو ندماً أو سرفاً . وفي التعبير عن المأمور بالصبر معهم والمنهي عن إطاعتهم ، بالموصول ، للإيذان بعلّية ما في حيز الصلة .
قال ابن جرير : إن قوماً من أشراف المشركين رأوا النبي صلى الله عليه وسلم جالساً مع خَبَّاب وصهيب وبلال . فسألوه أن يقيمهم عنه إذا حضروا . وفي رواية ابن زيد : أنهم قالوا له صلوات الله عليه : إنا نستحي أن نجالس فلاناً وفلاناً وفلاناً ، فجانبْهم وجالس أشراف العرب ، فنزلت الآية : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ } . وروى مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر . فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا . قال : وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسميهما فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع . فحدّث نفسه . فأنزل الله عز وجل : { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } الآية .
قال ابن كثير : انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً } [ 29 ] .
{ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ } أي : جاء بالحق وهو ما أوحي إليّ منه تعالى : { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } إمّا من تمام المقول المأمور به ، والفاء لترتب ما بعدها على ما قبلها ، بطريق التهديد . أي : عقيب تحقق أن ما أوحي إليّ حق لا ريب فيه ، وأن ذلك الحق من جهة ربكم . فمن شاء أن يؤمن به ، فليؤمن كسائر المؤمنين . ولا يتعلل بما لا يكاد يصلح للتعلل . ومن شاء أن يكفر به فليفعل . وفيه من التهديد وإظهار الاستغناء عن متابعتهم ، وعدم المبالاة بهم وبإيمانهم ، وجوداً وعدماً - ما لا يخفى . وإمّا تهديد من جهة الله تعالى ، والفاء لترتيب ما بعدها من التهديد على الأمر . والمعنى : قل لهم ذلك . وبعد ذلك من شاء أن يؤمن به أو أن يصدقك فيه فليؤمن . ومن شاء أن يكفر به أو يكذبك فيه فليفعل . أفاده أبو السعود . وفي " العناية " : الأمر والتخيير ليس على حقيقته . فهو مجاز عن عدم المبالاة والاعتناء به . والأمر بالكفر غير مراد . فهو استعارة للخذلان والتخلية ، بتشبيه حال من هو كذلك بحال المأمور بالمخالفة . ووجه الشبه عدم المبالاة والاعتناء به فيهما . وهذا كقوله : " أَسِيئِي بنا أو أَحْسِنِي لا مَلُومَةً " وهذا رد عليهم في دعائهم إلى طرد الفقراء المؤمنين ليجالسوه ويتبعوه . فقيل لهم : إيمانكم إنما يعود نفعه عليكم ، فلا نبالي به حتى نطردهم لذلك ، بعد ما تبين الحق وظهر . وقوله تعالى : { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً } وعيد شديد ، وتأكيد للتهديد وتعليل لما يفيده من الزجر عن الكفر . أو لما يفهم من ظاهر التخيير ، من عدم المبالاة بكفرهم وقلة الاهتمام بزجرهم عنه . فإن إعداد جزائه من دواعي الإملاء والإمهال . وعلى الوجه الأول ، هو تعليل للأمر بما ذكر من التخيير التهديديّ . أي : قل لهم ذلك : { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ } أي : هيّأنا للكافرين بالحق ، بعد ما جاء من الله سبحانه . والتعبير عنه بالظالمين للتنبيه على أن مشيئة الكفر واختياره ، تجاوز عن الحد ووضع للشيء في غير موضعه . أفاده أبو السعود . وقوله تعالى : { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } أي : فسطاطها . وهي الخيمة . شبه به ما يحيط بهم من النار . فإن انتشار لهب النار في الجهات شبيه بالسرادق . ويطلق السرادق على الحظيرة حول الفسطاط للمنع من الوصول إليه . شبه ما يحيط بهم من جهنم ، بها . يقال بيت مسردَق ، ذو سرادق : { وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا } أي : من الظمأ لاحتراق أفئدتهم : { يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ } أي : كالحديد المذاب وكعكر الزيت ، وقال القاشانيّ : من جنس الغَسَّاق والغِسْلين ، أي : المياه المتعفنة التي تسيل من أبدان أهل النار ، مسودّة يغاثون بها . أو غسالاتهم القذرة ويؤيده قوله تعالى : { وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ } [ إبراهيم : 16 - 17 ] ، { يَشْوِي الْوُجُوهَ } أي : إذا قدم إليه ليشرب ، من فرط حرارته .
{ وَسَاءَتْ } أي : النار : { مُرْتَفَقاً } أي : متكأً . وأصل الارتفاق نصب المرفق تحت الخد . وذكره لمشاكلة قوله : { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء . وقد يكون تهكماً ، كقوله :
~إِني أَرِقْتُ فبتُّ الليلَ مرتفقاً كأن عَيْني فيها الصَّابُ مَذْبُوحُ
والصاب : شجر مرّ يحرق ماؤه العين . ومذبوح : مشقوق . وفي كتاب " تنزيل الآيات " في الصحاح : بات فلان مرتفقاً ، أي : متكئاً على مرفق يده . وهو هيئة المتحزنين المتحسّرين . فعلى هذا لا يكون من المشاكلة ولا للتهكم ، بل هو على حقيقته . كما يكون للتنعّم يكون للتحزن . وتعقبه في " العناية " فقال : وأما وضع اليد تحت الخدّ للتحزن والتحسر ، فالظاهر أن العذاب يشغلهم عنه . فلا يتأتى منهم حتى يكون هذا حقيقة لا مشاكلة ، فلذا لم يعرّجوا عليه . ثم علل الحث على الإيمان المفهوم من التخيير المتقدم ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } [ 30 - 31 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ } وهو ما رقّ من الديباج : { وَإِسْتَبْرَقٍ } وهو ما كثف منه : { مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ } أي : السرر على هيئة المتنعمين : { نِعْمَ الثَّوَابُ } أي : الجنات المذكورة : { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } أي : متكأً . وقيل المرتفق المنزل والمستقر ، لآية : { إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } [ الفرقان : 66 ] وآية { حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } [ الفرقان : 76 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } [ 32 ] .
{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً } أي : للمؤمن والكافر : { رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ } وهي أعز ما يؤثره أولئك في تأزير كرومهم بالأشجار : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا } أي : بين الجنتين ، أو بين النخيل والأعناب : { زَرْعاً } أي : فحصل منهما الفواكه والأقوات ، فكانتا منشأ الثروة والجاه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً } [ 33 ] .
{ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا } أي : ثمرها كاملة : { وَلَمْ تَظْلِمْ } أي : لم تنقص : { مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا } أي : فيما بينهما : { نَهَراً } أي : يسقي الأشجار والزروع ، ويزيد في بهجة مرآهما ، تتميماً لحسنهما .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } [ 34 ] .
{ وَكَانَ لَهُ } أي : لصاحب الجنتين : { ثَمَرٌ } أي : أنواع من المال غير الجنتين . من ثَمَّرَ ماله إذا كَثَّره : { فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } أي : يراجعه الكلام ، تعييراً له بالفقر ، وفخراً عليه بالمال والجاه : { أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } أي : أنصاراً وحشماً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً } [ 35 ] .
{ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ } أي : بصاحبه يطوف به فيها ويفاخره بها . كما يدل عليه السياق ومحاورته له . وإفراد الجنة هنا مع أن له جنتين كما مر ، إما لعدم تعلق الغرض بتعددها ، وإما لاتصال إحداهما بالأخرى ، وإما لأن الدخول يكون في واحدة فواحدة . قيل : الإضافة تأتي لمعنى اللام . فالمراد بها العموم والاستغراق . أي : كل ما هو جنة له يتمتع بها . فيفيد ما أفادته التثنية مع زيادة . وهي الإشارة إلى أنه لا جنة له غير هذه : { وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } أي : بما يوجب سلب النعمة ، وهو الكفر والعجب . وفي " العناية " ظُلْمُهُ لها إِما بمعنى تنقيصها وضررها ، لتعريض نعمته للزوال ونفسه للهلاك ، أو بمعنى وضع الشيء في غير موضعه . لأن مقتضى ما شاهده التواضع المبكي ، لا العجب بها وظنها أنها لا تبيد أبداً . والكفر بإنكار البعث كما يدل عليه قوله : { قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ } أي : تهلك وتفنى : { هَذِهِ } أي : الجنة : { أَبَداً } لاعتقاده أبدية الدهر ، وأن لا كون سوى ما تقع عليه مشاعره . ولذا قال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً } [ 36 ] .
{ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً } أي : كائنةً ، وقوله : { وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً } إقسام منه على أنه ، إن رد إلى ربه ، على سبيل الفرض والتقدير ، كما يزعم صاحبه ، ليجدن في الآخرة خيراً من جنته في الدنيا ، تطمعاً وتمنياً على الله ، وادعاء لكرامته عليه ومكانته عنده . وإنه ما أولاه الجنتين إلا لاستحقاقه واستئهاله . وأن معه هذا الاستحقاق أينما توجه . كقوله : { إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى } [ فصلت : 50 ] : { لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً } [ مريم : 77 ] . و : { مُنْقَلَباً } أي : مرجعاً وعاقبة . أفاده الزمخشريّ .
قال المهايمي : فكفر بالقول بقدم العالم ونفي حشر الأجساد واعتقد عكس الجزاء إذ قال : { لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً } والقول بقدم العالم ينفي اختيار الصانع وإرادته . وبإنكار حشر الأجساد ينفي قدرته على الإعادة . وبعكس الجزاء ينفي الحكمة الإلهية . ثم بين تعالى ما أجابه صاحبه المؤمن واعظاً له ، وزاجراً عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } [ 37 ] .
{ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ } أي : الذي عيّره بالفقر ، تعييرا له على كفره : { وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } أي : يراجعه كلام التعيير على الكفر ، محاورته كلام التعيير على الفقر ، في ضمن النكر عليه : { أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } أي : يجعل التراب نباتاً ثم جعله غذاء يتولد منه النطفة : { ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } أي : عدّلك وكمّلك إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال . قال أبو السعود : والتعبير عنه تعالى بالموصول ، للإشعار بعليّة ما في حيز الصلة ، لإنكار الكفر . والتلويح بدليل البعث الذي نطق به قوله تعالى عز من قائل : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ } [ الحج : 5 ] ، وكما قال تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [ البقرة : 28 ] . قال ابن كثير : أي : كيف تجحدون ربكم ، ودلالته عليكم ظاهرة جلية ، كل أحد يعلمها من نفسه . فإنه ما من أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه كان معدوماً ثم وجد . وليس وجوده من نفسه ولا مستنداً إلى شيء . من المخلوقات ، لأنه بمثابته . فعلم إسناد إيجاده إلى خالقه ، وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء . ولهذا قال صاحبه المؤمن :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً } [ 38 ] .
{ لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً } أي : لكن أنا لا أقول بمقالتك ، بل اعترف لله بالوحدانية والربوبية . ولا أشرك به أحداً معه من العلويات والسفليات . وقد قرأ ابن عامر : { لكنَّا } بإثبات الألف وصلاً ووقفاً . الباقون بحذفها وصلاً ، وبإثباتها وقفاً ، فالوقف [ في المطبوع : قالوقف ] وفاق . وأصله لكن أنا . وقرئ كذلك فحذفت الهمزة ثم أدغمت النون في مثلها فصار لكن ثم ألحق الألف إجراء للوصل مجرى الوقف . لأن الوقف على أنا بالألف ، ولأن الألف تدل على أن الأصل لكن أنا وبغيرها يلزم الإلباس بينه وبين لكن المشددة . قال الزمخشري : ونحوه قول القائل :
~وتَرْمِيْنَني بِالطرف أي : أَنْتَ مُذْنِبٌ وتقلينني لكنَّ إِيَّاكِ لا أّقْلِي
أي لكن أنا لا أقليك . ويقرب منه قول الآخر :
~ولو كنتَ ضبِّيّاً عرفتَ قَرَابتي ولكنّ زَنجيٌّ عظيم المَشَافِرِ
أي ولكنك . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً } [ 39 - 41 ] .
{ وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ } أي : هلا قلت عند دخولها ذلك . قال الزمخشري : يجوز أن تكون ما موصولة مرفوعة المحل ، على أنها خبر مبتدأ محذوف . تقديره الأمر ما شاء الله أو شرطية منصوبة الموضع والجزاء محذوف بمعنى أي : شيء شاء الله كان ونظيرها في حذف الجواب لو في قوله : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ } [ الرعد : 31 ] ، والمعنى : هلا قلت عند دخولها ، والنظر إلى ما رزقك الله منها ، الأمر ما شاء الله ، اعترافاً بأنها وكل خير فيها ، إنما حصل بمشيئة الله وفضله . وأن أمرها بيده . إن شاء تركها عامرة ، وإن شاء خربها . وقلت : { لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ } إقراراً بأن ما قويت به على عمامتها وتدبير أمرها ، إنما هو بمعونته وتأييده . إذ لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده ، إلا بالله تعالى . والقصد من الجملتين التبرؤ من الحول والقوة ، إسناد ما أوتيه إلى مشيئة الله وقوته وحده . ثم أشار له صاحبه بأن تعييره إياه بالفقر ، لا يبعد أن ينعكس فيه الأمر ، بقوله :
{ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ } أي : في الدنيا أيضاً : { خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً } أي : مقداراً قدره الله وحسبه ، وهو الحكم بتدميرها من صواعق وآفات علوية : { مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً } أي : تراباً أملس لا تثبت فيها قدم ، لملاستها
{ أَوْ } يهلكها بآفة سفلية من جهة الأرض بأن : { يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً } أي : غائراً في الأرض : { فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً } أي : حيلة تدركه بها ، بالحفر أو بغيره .
تنبيه :
كل من قوله تعالى : { إنْ تَرَنِ } وقوله : { أَنْ يُؤْتِيَنِ } رسم بدون ياء . لأنها من ياءات الزوائد . وأما في النطق ، فبعض السبعة يثبتها وبعضهم يحذفها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً } [ 42 ] .
{ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } أي : بإهلاكه فلم يبق له فيها ثمرة . قال الزمخشري : أحيط به عبارة عن إهلاكه . وأوصله من " من أحاط به العدو " لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه . ثم استعمل في كل إهلاك ومنه قوله تعالى : { إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ } [ يوسف : 66 ] .
و مثله قولهم : أتى عليه إذا أهلكه . من أتى عليهم العدو إذا جاءهم مستعلياً عليهم . يعني أنه استعارة تمثيلية . شبه إهلاك جنتيه بما فيهما ، بإهلاك قوم بجيش عدو أحاط بهم وأوقع بهم بحيث لم ينج أحد منهم . كما أن أتى عليهم بمعنى أهلكهم ، استعارة أيضا ، من إتيان عدو غالب مستعل عليهم بالقهر : { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا } أي : فعيّر نفسه أكثر من تعييره صاحبه وتعيير صاحبه إياه . قال الزمخشري : تقليب الكفين كناية عن الندم والتحسر . لأن النادم يقلب كفيه ظهراً لبطن . كما كني عن ذلك بعضِّ الكف ، والسقوط في اليد . ولأنه في معنى الندم , عدّي تعديته بعلى كأنه قيل فأصبح يندم على ما أنفق فيها ، أي : في عمارتها . فيكون ظرفاً لغواً . ويجوز كونه ظرفاً مستقرَّاً متعلقه خاص ، وهو حال . أي : متحسراً . والتحسر الحزن . وهو أخص من الندم . لأنه - كما قال الراغب - الغم على ما فات : { وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } أي : ساقطة عليها . والعروش جمع عرش وهو ما يصنع ليوضع عليه الشيء . فإذا سقط سقط ما عليه . يعني أن كرومها المعروشة , سقطت عروشها على الأرض وسقطت فوقها الكروم ، بحيث قاربت أن تصير صعيداً زلقاً : { وَيَقُولُ } عطف على يقلب : { يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً } أي : من الأوثان . وذلك أنه تذكر موعظة أخيه فعلم أنه أتي من جهة شركه وطغيانه . فتمنى لو لم يكن مشركاً حتى لا يهلك الله بستانه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً } [ 43 ] .
{ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ } أي : منعة وقوم : { يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي : يقدرون على نصرته من دون الله ، كما افتخر بهم واستعز على صاحبه : { وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً } أي : ممتنعاً بنفسه وقوته عن انتقام الله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً } [ 44 ] .
{ هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ } أي : قي ذلك المقام وتلك الحالة التي وقع فيها الإهلاك . الولاية بفتح الواو أي : النصرة لله وحده ، لا يقدر عليها أحد غيره . فالجملة مقررة ومؤكدة لقوله : { وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ } لأنها بمعناها . أو ينصر فيها أولياءه المؤمنين على المشركين وينتقم لهم ويشفي صدورهم من أعدائهم ، كما نصر على الكافر صاحبه المؤمن ، وصدَّق قوله : { فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ } [ الكهف : 40 ] ويعضده قوله تعالى : { هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً } أي : لأوليائه . فلا ينقص لمؤمن درجة ، في الدنيا ، ولا يترك لكافر عقوبة لشرفه ، بل يعاقبه بذنبه ويظهر فضل المؤمن عليه . وقرئ الولاية بكسر الواو بمعنى السلطان والملك . أي : هنالك السلطان له والملك . لا يغلب ولا يمتنع منه . أو في مثل تلك الحال الشديدة يتولى الله ويؤمن به كل مضطر . يعني أن : { يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً } [ الكهف : 42 ] ، كلمة ألجئ إليها فقالها ، جزعاً مما دهاه من شؤم كفره . ولولا ذلك لم يقلها . كقوله تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ } [ غافر : 84 ] [ في المطبوع خطأ في كتابة الآية ] .
وكقوله إخباراً عن فرعون : { حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } [ يونس : 90 - 91 ] ، أو هنالك إشارة إلى الآخرة . أي : في تلك الدار الولاية لله . كقوله : { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } [ غافر : 16 ] ويناسبه قوله :
{ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً } . وهنالك على الأوجه المتقدمة ، خبر مقدم والولاية مبتدأ مؤخر . والوقف على منتصراً . وجوز بعضهم كون هنالك معمولاً لمنتصراً وإن الوقف عليه . أي : على هنالك وإن الولاية لله جملة من مبتدأ وخبر مستأنفة . أي : وما كان منتصراً في ذلك الوطن الذي حل به عذاب الله . فلم يكن منقذ له منه .
وأقول : هذا الثاني ركيك جدّاً ، مفكك لرؤوس الآي في السورة . فإنها قطعت كلها بالاسم المنصوب . وشبهة قائله جوازه عربيةً . وما كل جائز عربية رقيق الحواشي بلاغة . ولذلك لم يعول عليه الزمخشري ومن تابعه . والحق قرئ بالرفع صفة للولاية وبالنصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة المنصوب بعامل مقدر . وبالجر صفة للفظ الجلالة . عقباً قرئ بسكون القاف وضمها . وهما العاقبة كالعُشُر والعُشْر .
تنبيه :
يذكر كثير من المفسرين هنا وجها في هذا المثل . وهو أن الرجلين المذكورين فيه كانا موجودين ولهما قصة . ولا دليل في ذلك ولا اتجاه . فإن التمثيل بشيء لا يقتضي وجوده . وجوّز في هذا المثل أن يكون من باب الاستعارة التمثيلية والتشبيه . وأن يكون المثل مستعاراً للحال الغريبة ، بتقدير اضرب مثلاً ، مثل رجلين ، من غير تشبيه واستعارة . وقد عني بأن الرجلين في التمثيل ، مشركو مكة ، وما كانوا عليه من الفخر بأموالهم والبذخ بخولهم ، وغمط المستضعفين من المؤمنين . وما آل إليه أمر الفريقين ، مما طابق المثل الممثل ، مطابقة طبقت الآفاق . مصداقاً لوعده تعالى ، سيكون الأمر في الآخرة أعلى : { وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } [ الإسراء : 21 ] .
ثم أشار تعالى إلى سرعة فناء ما يتمتعون به من الدنيا ، ويختالون به بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً } [ 45 ] .
{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : اذكر لهم ما تشبهه في زهرتها وسرعة زوالها : { كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ } أي : فالتف بسببه وتكاثف ، حتى خالط بعضه بعضاً ، فشب وحسن وعلاه الزهر والنور والنضرة : { فَأَصْبَحَ } أي : بعد ذلك الزهو : { هَشِيماً } أي : جافاً يابساً مكسوراً : { تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ } أي : تفرقه وتنسفه ذات اليمين وذات الشمال كأن لم يكن ، وهكذا حال الدنيا وحال مجرميها ، فإن ما نالهم من شرف الحياة كالذي حصل للنبات من شرف النمو . ثم يزولون زوال النبات : { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً } أي : على كل من الإنشاء والإفناء كامل القدرة . ولما كان هذا المثل للحياة الدنيا من أبهج المُثُل وأبدعها ، ضرب كثيراً في التنزيل ، كقوله تعالى في سورة يونس : { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ } [ يونس : 24 ] . وفي الزمر : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } [ الزمر : 21 ] الآية . وفي الحديد : { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ } [ الحديد : 20 ] الآية . ثم بين تعالى شأن ما كانوا يفتخرون من محسنات الدنيا ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } [ 46 ] .
{ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وذلك لإعانتهما فيها ، ووجود الشرف بهما ثم أشار إلى أنهما ليسا من أسباب الشرف الأخروي ، إذ لا يحتاج فيها إليهما ، بقوله : { وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } أي : والأعمال التي تبقى ثمراتها الأخروية ، من الاعتقادات والأخلاق والعبادات الكاملات ، خير عند ربك من المال والبنين ، في الجزاء والفائدة وخير مما يتعلق بهما من الأمل . فإن ما ينال بهما من الآمال الدنيوية ، أمرها إلى الزوال . وما ينال بالباقيات الصالحات من منازل القرب الرباني والنعيم الأبدي ، لا يزول ولا يحول .
لطائف :
1 - تقديم المال على البنين لعراقته فيما نيط به من الزينة والإمداد . ولكون الحاجة إليه أمسّ . ولأنه زينة بدونهم ، من غير عكس .
2 - إفراد الزينة مع أنها مسندة إلى الاثنين ، لما أنها مصدر في الأصل . أطلق على المفعول مبالغة . كأنها نفس الزينة . وإضافتها إلى الحياة اختصاصية ، لأن زينتها مختصة بها .
3 - إخراج بقاء الأعمال وصلاحها ، مخرج الصفات المفروغ عنها ، مع أن حقهما أن يكونا مقصودي الإفادة ، لا سيما في مقابلة إثبات الفناء لما يقابلهما من المال والبنين على طريقة : { مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ } [ النحل : 96 ] ، للإيذان بأن بقاءها أمر محقق لا حاجة إلى بيانه . بل لفظ الباقيات اسم لها لا وصف . ولذلك لم يذكر الموصوف . وإنما الذي يحتاج إلى التعرض له خيريّتها .
4 - تكرير خير للإشعار باختلاف حيثيتي الخيرية والمبالغة . كذا يستفاد من أبي السعود ، مع زيادة .
5 - وقع في كلام السلف تفسير الباقيات الصالحات بالصلوات وأعمال الحج والصدقات والصوم والجهاد والعتق وقوله " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " والكلام الطيب ، وبغيرهما ، مما روي مرفوعا وموقوفا . والمرفوع من ذلك كله لم يخرّج في الصحيحين . وكله على طريق التمثيل . وإن اللفظ الكريم يتناولها لكونها من أفراده .
ثم أشار تعالى إلى تحذير المشركين من أهوال القيامة ، التي هي الوعد الحق والفيصل الصدق ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } [ 47 ] .
{ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ } أي : اذكر يوم نقلعها من أماكنها ونسيّرها في الجو . كما ينبئ عنه قوله تعالى : { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } [ النمل : 88 ] ، أو نسير أجزاءها بعد أن نجعلها هباءاً منبثاً : { وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً } لبروز ما تحت الجبال ، أي : ظهوره ، بنسفها وبروز ما عداه بزوال الجبال والكثب . حتى تبدو للعيان سطحاً مستوياً ، لا بناء ولا شجر ولا معلم ولا ما سوى ذلك : { وَحَشَرْنَاهُمْ } أي : جمعناهم إلى موقف الحساب : { فَلَمْ نُغَادِرْ } أي : نترك : { مِنْهُمْ أَحَداً } أي : لا صغيراً ولا كبيراً . كما قال : { قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } [ الواقعة : 49 - 50 ] ، وقال : { ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ } [ هود : 103 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً } [ 48 ] .
{ وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً } أي : مصطفين مترتبين في المواقف ، لا يحجب بعضهم بعضاً كل في رتبته ، قاله القاشاني .
وقال أبو السعود : صَفّاً أي : غير متفرقين ولا مختلطين . فلا تعرّض فيه لوحدة الصف وتعدّده .
قال الزمخشري : شبهت حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان ، مصطفين ظاهرين . يرى جماعتهم كما يرى كل واحد . لا يحجب أحدٌ أحداً : { لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : بلا مال ولا بنين . أو لقد بعثناكم كما أنشأناكم . والكلام على إضمار القول . أي : وقلنا . تقريعاً للمنكرين للمعاد ، وتوبيخاً لهم على رؤوس الأشهاد : { بَلْ زَعَمْتُمْ } أي : بإنكاركم البعث : { أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً } أي : وقتاً لإنجاز ما وعدناكم من البعث والنشور والحساب والجزاء . فلم يعملوا لذلك أصلاً ، بل عملوا ما يزدادون به افتضاحاً . وبل للخروج من قصة إلى أخرى . فالإضراب انتقالي ، لا إبطالي .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [ 49 ] .
{ وَوُضِعَ الْكِتَابُ } أي : صحائف الأعمال بين يدي الله بحضرة الخلائق : { فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ } أي : خائفين أن يفتضحوا : { مِمَّا فِيهِ } أي : من أعمالهم السيئة المسطرة : { وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا } أي : هلكتنا وحسرتنا على ما فرطنا في أعمارنا . قال القاشاني : يدعون الهلكة التي هلكوا بها ، من أثر العقيدة الفاسدة والأعمال السيئة : { مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا } أي : أي : شأن حصل له ، فلا يترك ذنباً صغيراً ولا كبيراً إلا ضبطه وحفظه . والاستفهام مجاز عن التعجب في إحصائه كل المعاصي ، وعدّه مقاديرها وأوصافها ، وعدم تسامحه في شيء منها .
قال البقاعي عليه الرحمة إن لام الجر رسمت مفصولة يعني : في الرسم العثمانيّ ، إشارة إلى أنهم لشدة الكرب يقفون على بعض الكلمة . وهذا من لطائفه رحمه الله { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً } أي : مكتوباً في الصحف تفصيلاً ، من خير وشر . كما قال تعالى : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً } [ آل عِمْرَان : 13 ] الآية . وقال : { يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ القيامة : 13 ] .
{ وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } أي : فيكتب عليه ما لم يعمله ، أو يزيد في عقابه . ثم أشار تعالى إلى أن الكفر والعصيان مصدره طاعة الشيطان ، وإيثاره على الرحمن . والشيطان أعدى الأعداء وأفسق الفساق . فلا يتولاه إلا من سفه نفسه ، وحاد عن جادة الصواب ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } [ 50 ] .
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ } أي : العتاة المردة الشياطين : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } أي : خرج عن طاعته : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } أي : فتستبدلونهم بي فتطيعونهم بدل طاعتي ، وهم لكم عدوّ يبغون بكم الغوائل ويوردونكم المهالك ؟ وهذا تقريع وتوبيخ لمن آثر اتّباعه وإطاعته . ولهذا قال تعالى : { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ } أي : الواضعين الشيء في غير موضعه , : { بَدَلاً } بئس البدل من الله إبليس ، لمن استبدله فأطاعه بدل طاعته . قال ابن كثير : وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ومصير كل من الفريقين ، السعداء والأشقياء ، في سورة يس : { وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُون } إلى قوله : { أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } [ يس : 59 - 60 ] ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً } [ 51 ] .
{ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } استئناف مسوق لبيان عدم استحقاق إبليس وذريته ، للاتخاذ المذكور في أنفسهم ، بعد بيان الصوارف عن ذلك ، من خباثة المحتد والفسق والعداوة . أي : ما أحضرت إبليس وذريته خلق السماوات والأرض ، حين خلقتهما : { وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ } أي : وما أشهدت بعضهم أيضاً خلق بعض منهم . ونفي الإشهاد كناية عن نفي الاعتضاد بهم والاستعانة على خلق ما ذكر - أبلغ . إذ من لم يشهد فأنَّى يستعان به ؟ فأنى يصح جعله شريكاً ؟ ولذلك قال سبحانه : { وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً } أي : وما كنت متخذهم أعواناً لخلق ما ذكر ، بل تفردت بخلق جميع ذلك بغير معين ولا ظهير أي : وإذا لم يكونوا عضداً في الخلق ، فما لكم تتخذونهم شركاء في العبادة ؟ واستحقاقُ العبادة من توابع الخالقية . والاشتراك فيه يستلزم الاشتراك فيها . والخالقية منفية عن غيره تعالى ، فينتفي لازمها وهو استحقاق عبادة ذلك الغير ، وهم المضلون ، فلا يكونون أرباباً . إنما وضع المضلين موضع الضمير ، ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالإضلال ، وتأكيداً لما سبق من إنكار اتخاذهم أولياء . ونحو هذه الآية قوله تعالى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 22 - 23 ] .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً } [ 52 ] .
{ وَيَوْمَ يَقُولُ } أي : الحق تعالى : { نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ } أي : في دار الدنيا ، أنهم شركاء لينقذوكم مما أنتم فيه . يقال لهم ذلك على رؤوس الأشهاد تقريعاً وتوبيخاً لهم : { فَدَعَوْهُمْ } أي : فنادوهم للإعانة ، لبقاء اعتقاد شركهم : { فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ } أي : فلم يعينوهم ، لعجزهم عن الجواب ، فضلاً عن الإعانة . وفي إيراده ، مع ظهوره ، تهكم بهم وإيذان بأنهم في الحماقة بحيث لا يفهمونه إلا بالتصريح به : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ } أي : بين الكفار وآلهتهم : { مَوْبِقاً } أي : مهلكاً يشتركون فيه ، وهو النار . أو عداوة هي في الشدة نفس الهلاك . كقول عمر رضي الله عنه : " لا يكن حبك كلفاً ، ولا بغضك تلفاً " ، ويؤيد هذا قوله تعالى : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 81 - 82 ] ، قال ابن كثير : وأما إنْ جعل الضمير في قوله : { بَيْنَهُمْ } عائدا إلى المؤمنين والكافرين كما قال عبد الله بن عَمْرو : " إنه يفرق بين أهل الهدى والضلالة به " فهو كقوله تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [ الروم : 14 ] ، وقال : { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [ الروم : 43 ] ، وقال تعالى : { وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ } [ يّس : 59 ] ، وقال تعالى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } إلى قوله : { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [ يونس : 28 - 30 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً } [ 53 ] .
{ وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ } أي : جهنم [ في المطبوع : جهنهم ] المحيطة بأنواع الهلاك ووضع المظهر مقام المضمر تصريحاً بإجرامهم ، وذماً لهم بذلك : { فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا } أي : أيقنوا بأنهم واقعون فيها : { وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً } أي : معدلاً ينصرفون إليه . إشارة إلى ما يعاجلهم من الهم والحزن ، فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه ، عذاب ناجز .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } [ 54 ] .
{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ } أي : نوّعنا في هذا القرآن الجامع للمهمات وأنواع السَّعادات ، لمصلحة الناس ومنفعتهم ، من كل مثل ، ينبه على مراقي السعادات ومهاوي الضلالات لينذروا به : { وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } أي : مجادلة ومخاصمة ومعارضة للحق بالباطل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً } [ 55 ] .
{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ } أي : أهل مكة الذين حكيت أباطيلهم وكل من شاكلهم : { أَنْ يُؤْمِنُوا } أي : من أن يؤمنوا بالله تعالى ويتركوا الشرك : { إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى } أي : القرآن والحق الواضح النيّر : { وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ } أي : عن المعاصي السالفة : { إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ } أي : طلب إتيانها ، أو انتظار إتيانها ، وهي عذاب الاستئصال : { أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً } أي : يرونه عياناً ومواجهةً ، وهو عذاب الآخرة . أو أعم . والقبل بضمتين بمعنى العيان كما في قراءة قِبلا بكسر القاف وفتح الباء . أو قُبُلاً بمعنى : أنواعاً متنوعة جمع قبيل وقرئ بفتحتين أي : مستقبلاً . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً } [ 56 ] .
{ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } أي : وما نرسلهم ، قبل إنزال العذاب ، إلا لتبشر من آمن بالزلفى والكرامة ، وإنذار من كفر بأن تأتيه سنة من مضى : { وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ } كاقتراح الآيات : { لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } أي : ليزيلوا بالجدال ، الحق الثابت عن مقره . وليس ذلك بحاصل لهم . وأصل الإدحاض : إزلاق القدم وإزالتها عن موطئها . فاستعير من زلل القدم المحسوس ، لإزالة الحق المعقول .
قال الشهاب ولك أن تقول : فيه تشبيه كلامهم بالوحل المستكره . ثم أنشد لنفسه :
~أتانا بوَحْلٍ لإِنكارِهِ لِيُزْلِقَ أقدامَ هَذي الحُجَجْ
{ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا } أي : وإنذارهم . أو والذي أنذروا به من العقاب : { هُزُواً } أي : استهزاء وسخرية وهو أشد التكذيب . وصف بالمصدر مبالغة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً } [ 57 ] .
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا } كناية عن عدم تدبرها والاتعاظ بها ، بأبلغ أسلوب : { وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } أي : ما عمله من الكفر والمعاصي ، وصرف ما أنعم به ، إلى غير ما خلقت له ، فلم يتفكر في عاقبة ذلك : { إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ } أي : جعلنا عليها حجباً وأغطيةً كثيرةً ، كراهة أن يفقهوه ، أي : يقفوا على كنه ما خلقت النعم من أجله : { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً } أي : وجعلنا فيها ثقلاً يمنعهم من استماعه . والجملة تعليل لإعراضهم ونسيانهم ، بأنهم مطبوع على قلوبهم . وذلك لإيثارهم الضلال على الهدى كما قال تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] .
{ وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً } أي : فلا يكون منهم اهتداء البتة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً } [ 58 ] .
{ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً } .
الآيات في هذا المعنى كثيرة . كقوله تعالى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } [ فاطر : 45 ] . وقوله : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ } [ الرعد : 6 ] ، و : { رَبُّكَ } مبتدأ و : { الْغَفُورُ } خبره وتقديم الوصف بالمغفرة على الرحمة ، لأنه أهم بحسب الحال . إذ المقام مقام بيان تأخير العقوبة عنهم ، بعد استيجابهم لها . كما يعرب عنه قوله عز وجل : { لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا } والموعد المذكور هو يوم بدر . أو الفتح المشار إليه في كثير من الآيات . أو يوم القيامة . والكل لا حق بهم . والموئل الملجأ والمنجى . أي : ليس لهم عنه محيص ولا مفر . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً } [ 59 ] .
{ وَتِلْكَ الْقُرَى } أي : قرى عاد وثمود وأضرابهم : { أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا } بالكفر والطغيان : { وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً } أي : وقتاً معيّناً لا محيد لهم عنه . وهذا استشهاد على ما فعل بقريش من تعيين الموعد ، ليتنبهوا لذلك ، ولا يغتروا بتأخر العذاب . ثم أشار تعالى إلى نبأ موسى من الخضر عليهما السلام ، ذلك النبأ الذي تضمن من الفوائد والحكم وأعلام النبوة ، ما لا يخفى على متبصر . كما ستقف على شذرات من ذلك . فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً } [ 60 ] .
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً } أي : اذكر وقت قول موسى لفتاه ، لا أبرح ، أي : لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين . أي : المكان الذي فيه ملتقى البحرين . فأجد فيه الخضر . أو أسير زماناً طويلاً إن لم أجده ثمة ، فأتيقن فوات المطلب .
قال المهايمي : أي : اذكر للذين إن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً ، لتكبرهم عليك ، إنكم لستم بأعلم من موسى ولا أرشد منه . ولست أقل من الخضر في الهداية بل أعظم . لأنها هداية في الظاهر والباطن . وهداية الخضر إنما هي في الباطن . ولا تحتاجون في تحصيله إلى تحمل المشاق ، واحتاج إليه موسى . والفتى الشاب . قال الشهاب : العرب تسمي الخادم فتى ، لأن الغالب استخدام من هو في سن الفتوة ، وكان يوشع خادم موسى عليه السلام ومحباً له ، وذا غيرة على كرامته . ولذلك اختصه موسى رفيقاً له وخادماً . وصار خليفة من بعده على بني إسرائيل . وفتح عليه تعالى بيت المقدس ونصره على الجبارين . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً } [ 61 ] .
{ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } أي : البحرين : { نَسِيَا حُوتَهُمَا } أي : خبر حوتهما ، وتفقد أمره ، وكانا تزوداه .
{ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ } أي : طريقه : { فِي الْبَحْرِ سَرَباً } أي : مثل السرب في الأرض ، واضح المسلك ، معجزة جعلت علامة للمطلوب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً } [ 62 ] .
{ فَلَمَّا جَاوَزَا } أي : مجمع بينهما ، وهو المكان الذي نسيا فيه الحوت : { قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا } أي : ما نتغدى به : { لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً } أي : تعباً ومشقة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً } [ 63 ] .
{ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ } أي : خبر الحوت . وإسناد النسيان إليهما ، أولاً ، إما بمعنى نسيان طلبه ، والذهول عن تفقده ، لعدم الحاجة إليه . وإما للتغليب ، بناءً على أن الناسي إنما كان يوشع وحده . فإنه نسي أن يخبر موسى بشأنه العجيب ، فيكون كقوله تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] ، وإنما يخرج من المالح : { وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } أي : لك . وأن أذكره بدل من الهاء في أنسانيه أي : وما أنساني ذكره إلا الشيطان . وقد قرأ حفص بضم الهاء من غير صلة وصلاً ، والباقون بكسرها : { وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً } أي : أمراً عجيباً ، إذ صار الماء عليه سرباً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً } [ 64 ] .
{ قَالَ } أي : موسى : { ذَلِكَ } أي : المكان الذي اتخذ فيه سبيله هرباً : { مَا كُنَّا نَبْغِ } أي : نطلب فيه الخضر . لأنه أمارة المطلوب . وقرئ في السبع بإثبات الياء بعد الغين ، وصلاً لا وقفاً . وبإثباتها في الحالين . وبحذفها كذلك : { فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا } أي : رجعا ماشيين على آثار أقدامهما يتبعانها : { قَصَصاً } أي : اتباعاً لئلا يفوتهما الموضع ثانياً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً } [ 65 ] .
{ فَوَجَدَا } أي : فأتيا الموضع المنسيّ فيه الحوت ، فوجدا : { عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا } التنكير للتفخيم ، والإضافة فيه للتشريف . والجمهور على أنه الخضر . وسنتكلم على جملة من نبئه ، بعونه تعالى ، بعد تمام القصة : { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا } أي : آتيناه رحمة لدنيّة ، اختصصناه بها : { وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً } أي : علماً جليلاً آثرناه . وهو علم لدنّي يكون بتأييد ربانيّ . وسنذكر إن شاء الله تعالى العلم اللدنيّ في آخر هذا النبأ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } [ 66 ] .
{ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ } أي : أصحبكَ : { عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ } أي : من لدن ربك : { رُشْداً } أي : علماً ذا رشد . أي : هدى وإصابة خير .
قال القاضي : وقد راعى في ذلك غاية التواضع والأدب . فاستجهل نفسه ، واستأذن أن يكون تابعاً له ، وسأل منه أن يرشده وينعم عليه ، بتعليم بعض ما أنعم الله عليه . أي : وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } [ 67 - 68 ] .
{ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } أي : بوجه من الوجوه . ثم علل معتذراً بقوله
{ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } أي : من أمور ستراها . إن صحبتني ، ظواهرها مناكير وبواطنها لم يحط بها خبرك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً } [ 69 ] .
{ قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً } أي : لا أخالفك في شيء .
قال الزمخشري : رجا موسى عليه السلام ، لحرصه على العلم وازدياده ، أن يستطيع معه صبراً ، بعد إفصاح الخضر عن حقيقة الأمر . فوعده بالصبر معلقاً بمشيئة الله . علماً منه بشدة الأمر وصعوبته ، وإن الحمية التي تأخذ المصلح عند مشاهدة الفساد شيء لا يطاق . هذا مع علمه أن النبيّ المعصوم ، الذي أمره الله بالمسافرة إليه واتباعه واقتباسه العلم منه ، بريء من أن يباشر ما فيه غميزة في الدين . وأنه لا بد ، لما يستسمج ظاهره ، من باطن حسن جميل . فكيف إذا لم يعلم ؟ انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } [ 70 ] .
{ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } أي : لا تفاتحني بالسؤال عن شيء أنكرته منِّي ، ولم تعلم وجه صحته ، حتى أبتدئك ببيانه . وهذا من آداب المتعلم مع العالم والمتبوع مع التابع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً } [ 71 ] .
{ فَانْطَلَقَا } أي : على ساحل البحر يطلبان سفينة : { حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً } أي : عظيماً من إتلاف السفينة وقتل الجماعة الكثيرة بغير ذنب ، وكفران نعمة الحمل بغير نول .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } [ 72 ] .
{ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } ذكره الخضر بما تقدم من الشرط .
يعني هذا الصنيع فعلته قصداً . وهو من الأمور التي اشترطت معك أن لا تنكر عليّ فيها . لأنك لم تحط بها خبراً إذ لها سر لا تعلمه أنت .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً } [ 73 ] .
{ قَالَ } أي : موسى : { لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ } من الشرط . فإن المؤاخذة به تفضي إلى العسر . والمراد التماس عدم المؤاخذة لقيام المانع وهو النسيان : { وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً } أي : لا تحمل عليَّ من أمري ، في تحصيل العلم منك ، عسراً ، لئلا يلجئني إلى تركه . أي : لا تعسِّر عليَّ متابعتك ، بل يسِّرها عليَّ ، بالإغضاء وترك المناقشة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً } [ 74 ] .
{ فَانْطَلَقَا } أي : بعد أن خرجا من السفينة إلى الساحل : { حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ } أي : أنها لم تَقتل نفساً فتُقتل . بل هي زكية طاهرة من موجبات القتل : { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً } أي : منكراً . أو أنكرَ من الأول . لأن ذلك كان خرقاً يمكن تداركه بالسدّ ، وهذا لا سبيل إلى تداركه بوجهٍ ما .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } [ 75 ] .
{ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } تأكيد في التذكار بالشرط الأول . ونكتة زيادة : { لَكَ } هو - كما قال الزمخشري : زيادة المكافحة بالعتاب على رفض الوصية ، والوسم بقلة الصبر عند الكرة الثانية . كما لو أتى إنسان بما نهيته عنه ، فلمته وعنفته ، ثم أتى به مرة أخرى فإنك تزيد في تعنيفه . قال في " المثل السائر " : وهذا موضع تدق عن العثور عليه مبادرة النظر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً } [ 76 ] .
{ قَالَ } أي : موسى : { إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا } أي : بعد هذه المرة : { فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً } أي وجدت من جهتي عذراً . إذ أعذرتَ إليّ مرة بعد مرة ، فخالفتك ثلاث مرات ، بمقتضى طبع الاستعجال .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } [ 77 ] .
{ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ } اختلف في تسميتها .
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : الخلاف فيها كالخلاف في مجمع البحرين . ولا يوثق بشيء منه : { اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا } أي : امتنعوا من أن يطعموهما الطعام الذي هو حق ضيافتهما عليهم . وقرئ : { يُضِيفُوهُمَا } من الإضافة . يقال : ضافه إذا نزل به ، وأضافه وضيّفه : أنزله ليطعمه في منزله ، على وجه الإكرام : { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ } أي : ينهدم بقرب . من انقض الطائر إذا أسرع سقوطه . والإرادة مستعارة للمداناة والمشارفة . لما فيهما من الميل . استعارة تصريحية أو مكنية وتخييلية ، أو هي مجاز لغويّ مرسل بعلاقة سبب الإرادة ، لقرب الوقوع .
وقد أوسع الزمخشريّ ، عليه الرحمة من الشواهد على مثل هذا المجاز . فانظره : { فَأَقَامَهُ } أي : عمَّره وأصلحه { قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } أي : لو طلبت على عملك جعلاً حتى تنتعش به . ففيه لوم على ترك الأجرة ، مع مسيس الحاجة إليها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً } [ 78 ] .
{ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } الإشارة إلى الفراق الموعود بقوله : { فَلا تُصَاحِبْنِي } أو إلى الاعتراض الثالث . أو إلى الوقت الحاضر { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً } أي : بمآل ما لم تصبر على ظاهره ، وبعاقبته . وهو خلاص السفينة من اليد العادية ، وخلاص أبوي الغلام من شرّه ، مع الفوز بالبدل الأحسن ، واستخراج اليتيمين للكنز . قال أبو السعود : وفي جعل صلة الموصول . عدم استطاعة موسى عليه الصلاة والسلام للصبر ، دون أن يقال بتأويل ما فعلتُ أو بتأويل ما رأيتَ ونحوهما ، نوع تعريض به عليه السلام وعتاب . ثم أخذ الخضر في تفسير ما أشكل أمره على موسى ، وما كان أنكر ظاهره . وقد أظهر الله الخضر ، عليه السلام ، على باطنه . فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } [ 79 ] .
{ أَمَّا السَّفِينَةُ } أي : التي خرقتها : { فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ } أي : لفقراء يحترفون العمل في البحر ، لنقل الناس من ساحل إلى آخر : { فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } أي : إنما خرقتها لأعيبها . لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلَمة ، يأخذ كل سفينة سليمة جيدة ، غصباً . فأردت أن أعيبها لأرده عنها ، لعيبها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً } [ 80 - 81 ] .
{ وَأَمَّا الْغُلامُ } أي : الذي قتلته : { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا } أي : لو تركناه : { أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً } أي : ينزل بهما طغيانه وكفره ويلحقه بهما . لكونه طبع على ذلك . فيخشى أن يعديهما بدائه .
{ فَأَرَدْنَا } أي : بقتله : { أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً } أي : طهارة عن الكفر والطغيان : { وَأَقْرَبَ رُحْماً } أي : رحمة بأبويه ، وبرّاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً } [ 82 ] .
{ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا } أي : قوتهما بالعقل وكمال الرأي : { وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا } ليتصرفا فيه : { رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } أي : تفضل بها عليهما .
ورحمة مفعول له . أو مصدر مؤكد لأراد فإن إرادة الخير رحمة : { وَمَا فَعَلْتُهُ } أي ما رأيت مني : { عَنْ أَمْرِي } أي : عن اجتهادي ورأيي ، وإنما فعلته بأمر الله تعالى : { ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً } أي : من الأمور التي رأيتها . أي : مآله وعاقبته . قال أبو السعود : ذَلِكَ إشارة إلى العواقب المنظومة في سلك البيان . وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجتها في الفخامة . و : { تَسْطِع } مخفف تستطع بحذف التاء .
تنبيهات :
في بضع ما اشتمل عليه هذا النبأ من الأحكام واللطائف والفوائد الساميات :
الأول : قال السيوطيّ في " الإكليل " : في هذه الآيات أنه لا بأس بالاستخدام واتخاذ الرفيق والخادم في السفر . واستحباب الرحلة في طلب العلم . واستزادة العالم من العلم واتخاذ الزاد للسفر ، وأنه لا ينافي التوكل . ونسبة النسيان ، ونحوه من الأمور المكروهة ، إلى الشيطان ، مجازاً وتأدباً عن نسبتهما إلى الله تعالى . وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة . واعتذار العالم إلى من يريد الأخذ عنه في عدم تعليمه مما لا يحتمله طبعه . وتقديم المشيئة في الأمر ، واشتراط المتبوع على التابع . وأنه يلزم الوفاء بالشروط . وأن النسيان غير مؤاخذ به . وأن للثلاث اعتباراً في التكرار ونحوه . وأنه لا بأس بطلب الغريب الطعام والضيافة . وأن صنع الجميل لا يترك ولو مع اللئام . وجواز أخذ الأجر على الأعمال . وأن المسكين لا يخرج عن المسكنة بكونه له سفينة أو آلة يكتسب بها ، أو شيء لا يكفيه . وأن الغصب حرام . وأنه يجوز إتلاف بعض مال الغير ، أو تعييبه ، لوقاية باقيه ، كمال المودع واليتيم . وإذا تعارض مفسدتان ارتكب الأخف . وأن الولد يحفظ بصلاح أبيه . وأنه تجب عُمارة ما يخاف منه ، ويحرم إهمالها إلى أن تخرب . وأنه يجوز دفن المال في الأرض . انتهى .
وقال البيضاويّ : ومن فوائد هذه القصة أن لا يعجب المرء بعلمه . ولا يبادر إنكار ما لم يستحسنه ، فلعل فيه سرّاً لا يعرفه . وأن يداوم على التعلم ، ويتذلل للمعلم ، ويراعي الأدب في المقال . وأن ينبه المجرم على جرمه ، ويعفو عنه حتى يتحقق إصراره ، ثم يهاجر عنه . انتهى .
ومن فوائد الآية - كما في " فتح الباري " - استحباب الحرص على لقاء العلماء وتجشم المشاق في ذلك . وإطلاق الفتى على التابع واستخدام الحرّ . وطواعية الخادم لمخدومه . وعذر الناسي . وجواز الإخبار بالتعب ، ويلحق به الألم من مرض ونحوه . ومحل ذلك إذا كان على غير سخط من المقدور . ومنها أن المتوجه إلى ربه يعان فلا يسرع إليه النصب . وفيها جواز طلب القوت . وطلب الضيافة . وقيام العذر بالمرة الواحدة ، وقيام الحجة بالثانية .
وفيها حسن الأدب مع الله وأن لا يضاف إليه ما يستهجن لفظه ، وإن كان الكل بتقديره وخلقه ، لقول الخضر عن السفينة : { فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا } وعن الجدار : { فَأَرَادَ رَبُّكَ } ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم : < والخير بيديك والشر ليس إليك > . انتهى .
ومن فوائدها إطلاق القرية على المدينة لقوله : { أَهْلَ قَرْيَةٍ } ثم قوله : { لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ } .
الثاني : ذكر الناصر في " الانتصاف " : شذرات من لطائف بعض الآي المذكورة فنأثرها عنه .
قال عليه الرحمة : ورد في الحديث أن موسى عليه السلام لم ينصب ، ولم يقل : لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ، إلا منذ جاوز الموضع الذي حدّه الله تعالى له . فلعل الحكمة في إنساء يوشع أن يتيقظ موسى عليه السلام ، لمنة الله تعالى على المسافر في طاعةٍ وطلب علمٍ ، بالتيسير عليه وحمل الأعباء عنه . وتلك سنة الله الجارية في حق من صحت له نية في عبادة من العبادات ، أن ييسرها ، ويحمل عنه مؤنتها ، ويتكفل به ما دام على تلك الحالة . وموضع الإيقاظ أنه وجد بين حالة سفره للموعد وحالة مجاوزته ، بوناً بيّناً ، والله أعلم وإن كان موسى عليه السلام متيقظاً لذلك ، فالمطلوب إيقاظ غيره من أمته ، بل من أمة محمد عليه الصلاة السلام ، إذا قص عليهم القصة . فما أورد الله تعالى قصص أنبيائه ليسمُر بها الناس ، ولكن ليشمّر الخلق لتدبرها واقتباس أنوارها ومنافعها ، عاجلاً وآجلاً . والله أعلم .
ثم قال عليه الرحمة : ومما يدل على أن موسى عليه السلام إنما حمله على المبادرة بالإنكار ، الالتهابُ والحميّة للحق ، أنه قال حين خرق السفينةَ : { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا } ، ولم يقل لتغرقنا فنسي نفسه واشتغل بغيره, في الحالة التي كل أحد فيها يقول : نفسي نفسي , لا يلوي على مال ولا ولد . وتلك حالة الغرق . فسبحان من جبل أنبياءه وأصفياءه على نصح الخلق والشفقة عليهم والرأفة بهم . صلوات الله عليهم أجمعين وسلامه .
ثم قال عليه الرحمة على قوله الزمخشري : فإن قلت قوله : { فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا } مسبب عن خوف الغصب عليها ، فكان حقه أن يتأخر عن السبب ، فلم قدم عليه ؟ قلت : النية به التأخير . وإنما قدم للعناية . ولأن خوف الغصب ليس هو السبب وحده ، ولكن مع كونها للمساكين . فكان بمنزلة قولك : زيد ظني مقيم .
فقال عليه الرحمة : كأنه جعل السبب في إعابتها كونها لمساكين . ثم بين مناسبة هذا السبب للمسبب ، بذكر عادة الملك في غصب السفن . وهذا هو حد الترتيب في التعليل أن يرتب الحكم على السبب ، ثم يوضح المناسبة فيما بعد . فلا يحتاج إلى جعله مقدماً ، والنية تأخيره . والله أعلم .
ثم قال : ولقد تأملت من فصاحة هذه الآي ، والمخالفة بينها في الأسلوب عجباً . ألا تراه في الأولى أسند الفعل إلى ضميره خاصة بقوله : { فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا } وأسنده في الثانية إلى ضمير الجماعة والمعظم نفسه في قوله : { فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا } { فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا } ولعل إسناد الأول إلى نفسه خاصة من باب الأدب مع الله تعالى ، لأن المراد ثم عبت فتأدب بأن نسب الإعابة إلى نفسه . وأما إسناد الثاني إلى الضمير المذكور فالظاهر أنه من باب قول خواص الملك : أمرنا بكذا أو دبرنا كذا وإنما يعنون : أَمَرَ الملكُ ودَبَّرَ ويدل على ذلك قوله في الثالثة : { فَأَرَادَ رَبَُُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا } فانظر كيف تغايرت هذه الأساليب ، ولم تأت على نمط واحد مكرر ، يمجها السمع وينبو عنها ، ثم انطوت هذه المخالفة على رعاية الأسرار المذكورة . فسبحان اللطيف الخبير .
الثالث : قال الخفاجيّ : في إعادة لفظ الأهل هنا ، يعني في قوله تعالى : { اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا } إثر قوله : { أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ } سؤال مشهور . وقد نظمه الصلاح الصفدي سائلاً عنه السبكيّ في قصيدة منها :
~رأيت كتابَ الله أعظمَ معجزٍ لأفضل مَن يُهْدَى به الثّقَلاَنِ
~ومن جملة الإعجاز كون اختصاره بإِيجاز ألفاظ وبسط معاني
~ولكنني في الكهف أبصرت آية بها الفكر ، في طول الزمان عناني
~وما هي إلا استطعما أهلها فقد نرى استطعماهم مثله ببيان
~فما الحكمة الغراء في وضع ظاهر مكان ضمير ؟ إن ذاك لِشان
يعني أنه عدل عن الظاهر بإعادة لفظ أهل ولم يقل استطعماها لأنه صفة القرية . أو استطعماهم لأنه صفة أهل فلا بد من وجه . وقد أجابوا عنه بأجوبة مطولة نظماً ونثراً . والذي تحرر فيه أنه ذكر الأهل أولاً ولم يحذف إيجازاً ، سواء قدر أو تجوز في القرية ، كقوله : { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] ، لأن الإتيان ينسب للمكان . نحو أتيت عرفات ولمن فيه نحو أتيت بغداد فلو لم يذكر كان فيه التباس مخلّ . فليس ما هنا نظير تلك الآية لامتناع سؤال نفس القرية ، فلا يستعمل استعمالها . وأما الأهل الثاني فأعيد لأنه غير الأول . وليست كل معرفة أعيدت عيناً كما بينوه . لأن المراد به بعضهم . إذ سؤالهم فرداً فرداً مستبعد . فلو لم يذكر ، فُهِمَ غير المراد . أما لو قيل : استطعماهم فظاهر . وأما لو قيل استطعماها فإن النسبة إلى المحل تفيد الاستيعاب ، كما أثبتوه في محله . وأما إتيان جميع القرية فهو حقيقة في الوصول إلى بعض منها . كما يقال : زيد في البلد أو في الدار وقيل : إن الأهل أعيد للتأكيد كقوله :
~ليت الغرابَ غداة ينعبُ بيننا كان الغرابُ مقطَّعَ الأوداجِ
أو لكراهة اجتماع ضميرين متصلين ، لبشاعته واستطالته ، وثمة أجوبة أخرى .
الرابع : أبدى بعضهم سرّاً للتعبير أولاً بتستطع ثم أخيراً بتسطع بحذف التاء قال : لما أن فسر الخضر لموسى ، وبين له تأويل ما لم يصبر معه ، ووضحه وأزال المشكل ، قال تسطع بحذف التاء . وقيل ذلك كان الإشكال قوياً ثقيلاً . فقال : { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً } فقابل الأثقل بالأثقل والأخف بالأخف . كما قال : { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ } [ الكهف : 97 ] ، وهو الصعود إلى أعلاه { وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً } وهو أشق من ذلك . فقابل كلاً بما يناسبه لفظاً ومعنى . انتهى .
وقال الشهاب : وإنما خص هذا بالتخفيف لأنه لما تكرر في القصة ناسب تخفيف الأخير منه . وأما كونه للإشارة إلى أنه خف على موسى صلى الله عليه وسلم ما لقيه ببيان سببه - فيبعد أنه في الحكاية ، لا المحكي . انتهى .
وما ألطف قول الشهاب في مثله : هذه زهرة لا تحتمل هذا الفرك .
الخامس : قال الإمام السبكي رحمه الله : ما فعله الخضر عليه الصلاة والسلام من قتل الغلام لكونه طبع كافراً ، مخصوص به . لأنه أوحي إليه أن يعمل بالباطن ، وخلاف الظاهر الموافق للحكمة . فلا إشكال فيه . وإن علم من الشريعة أنه لا يجوز قتل صغير لا سيما بين أبوين مؤمنين . ولو فرضنا أن الله أطلع بعض أوليائه ، كما أطلع الخضر عليه السلام ، لم يجز له ذلك ، وما ورد عن ابن عباس لما كتب إليه نجدة الحروريّ : كيف قتله وقد نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان ؟ فكتب إليه : إن كنت علمت من حال الولدان ، ما علمه عالم موسى ، فلك أن تقتل فإنما قصد به ابن عباس المحاجّة والإحالة على ما لم يمكن قطعاً ، لطمعه في الاحتجاج بقصة الخضر عليه الصلاة والسلام . وليس مقصوده أنه إن حصل ذلك يجوز . لأنه لا تقتضيه الشريعة . وكيف يقتل بسبب لم يحصل ؟ والمولود لا يوصف بكفر حقيقي ولا إيمان حقيقي . وقصة الخضر تحمل على أنه كان شرعاً مستقلاً به . وهو نبيّ . وليس في شريعة موسى أيضاً ، ولذا أنكره . انتهى .
وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : وأما من استدل به على جواز دفع أغلظ الضررين بأخفهما ، فصحيح . لكن فيما لا يعارض منصوص الشرع . فلا يسوغ الإقدام على قتل النفس ممن يتوقع منه أن يقتل أنفساً كثيرة ، قبل أن يتعاطى شيئاً من ذلك . وإنما فعل الخضر ذلك لإطلاع الله تعالى عليه .
وقال ابن بطال : قول الخضر : وَأَمَّا الغُلامُ فَكانَ كافراً هو باعتبار ما يؤول إليه أمره أن لو عاش حتى يبلغ . واستحباب مثل هذا القتل لا يعلمه إلا الله . ولله أن يحكم في خلقه بما يشاء قبل البلوغ وبعده .
أقول : مفاد الآية ، أن إنكار موسى لقتل الغلام لكونه جناية بغير موجب . ولذا قال : بغير نفس , لا لكونه صغيراً لم يبلغ الحنث . لأن الآية لا تفيده . وقد يكون كبيراً . فقد قال اللغويون : الغلام الطارّ الشاب ، أو من حين يولد إلى أ ن يشبّ ، والكهل أيضاً . ومن الأخير قول موسى في قصة الإسراء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : أبكي لأن غلاماً بعث بعدي . الخ نعم ربما يشعر بصغره حديث البخاريّ : وجد غلماناً يلعبون فأخذ غلاماً فذبحه قال موسى : أقتلت نفساً لم تعمل بالحنث . ولكن لا نصّ فيه ، فتأمل .
السادس : أكثر العلماء على أن موسى المذكور في الآية ، هو موسى بن عِمْرَان صاحب الآيات الشهيرة وصاحب التوراة . وذهب نوف البكاليّ - تابعي صدوق ابن امرأة كعب الأحبار أو ابن أخيه - إلى أنه ليس بموسى بن عِمْرَان كما في البخاريّ . ووقع في رواية ابن إسحاق عن سعيد بن جبير ، عند النسائي قال : كنت عند ابن عباس وعنده قوم من أهل الكتاب ، فقال بعضهم : يا أبا عباس ! إن نوفاً يزعم عن كعب الأحبار أن موسى الذي طلب العلم إنما هو موسى بن منسا . أي : ابن إفراثيم بن يوسف عليه السلام . فقال ابن عباس : أسمعت ذلك منه يا سعيد ؟ قلت : نعم . قال : كذب نوف . وفي رواية البخاريّ : كذب عدو الله . وإنما قال ذلك مبالغة في الإنكار والتنفير من تصديق مقالته .
قال الرازيّ : كان ليوسف ولدان إفراثيم . ومنسا . فولد إفراثيم نون وولد نون يوشع صاحب موسى ووليّ عهده بعد وفاته . وأما ولد منسا ، قيل إنه جاءته النبوة قبل موسى بن عِمْرَان . ويزعم أهل التوراة أنه هو الذي طلب هذا العلم ليتعلم . والخضرُ هو الذي خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار ، وموسى بن منسا معه . هذا هو قول جمهور اليهود . واحتج القفال على صحة القول بأنه موسى صاحب التوراة أنه لم يذكر في القرآن وهو المراد . فإطلاق هذا الاسم يوجب الانصراف إليه . ولو كان المراد غيره لوجب تعريفه بصفة تميّزه وتزيل الاشتباه عنه ، والله أعلم . انتهى .
وأما ابن عباس فكان سنده في ذلك ، كما في البخاري ، ما حدثه به أبيُّ بن كعب ورفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ أن موسى سئل هل في الأرض أحد أعلم منك ؟ فقال : لا . أو حدثته نفسه بذلك . فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه . وأراد تعريفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه ، لئلا يحتم على ما لا علم له به . وإذا صح أن موسى هو صاحب التوراة ، فيكون المراد بفتاه يوشع . وكان موسى اختصه برفقته لكونه صادقاً في خدمته ، والغيرة على كرامته ، والحب له . ولذا صار خليفته بعده ، وفتح عليه بيت المقدس ونصر عل الجبارين ، كما هو معروف .
السابع : قال الأكثرون : إن صاحب موسى المعبر عنه بقوله تعالى : { عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا } هو الخضر . قالوا : سمي بذلك لأنه ما جلس على الأرض إلا اخضرت . وقد صح عن ابن عباس أنه تمارى هو والحرّ بن قيس بن حصن الفزاريّ في صاحب موسى . فقال ابن عباس : هو خضر ، فمرَّ أُبيُّ بن كعب . فدعاه ابن عباس فقال : إني تماريت أنا وصاحبي هذا ، في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيّه . فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه ؟ قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < بينا موسى في ملأ من بين إسرائيل ، إذ جاءه رجل فقال : تعلم مكان أحد أعلم منك ؟ قال موسى : لا . فأوحى الله إلى موسى : بلى . عبدنا خضر . فسأل موسى السبيل إلى لقيّه ، فجعل الله له الحوت آية ، وقيل له : إذا فقدت فارجع فإنك ستلقاه . فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر . فقال موسى : { ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً } فوجدا خضراً . وكان من شأنهما ما قص الله في كتابه > .
الثامن : اختلف أهل العلم في نسب الخضر وفي كونه نبيّاً وفي طول عمره وبقاء حياته على أقوال كثيرةً . فمن قائل بأنه ابن آدم لصلبه أو ابن قابيل أو ابن اليسع ، أو غير ذلك ، وكله مما ليس فيه أثارة من علم ، وقد احتج من قال إنه نبيٌّ بقوله تعالى : { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } لأن الظاهر من هذا أنه فعله بأمر الله . والأصل عدم الواسطة . وقيل : كان وليّاً . وقيل : مقامه دون النبوة وفوق الصِّديقيَّة فهو مقام برزخيّ ، له وجه إلى النبوة ووجه إلى الولاية . وقيل : إنه ملك من الملائكة . وأما تعميره فيروى عن ابن عباس أنه أُنسئَ للخضر في أجله حتى يكذب الدجال .
قال النوويّ في " التهذيب " قال الأكثرون : هو حيّ موجود بين أظهرنا . وذلك متفق عليه بين الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة . وحكاياتهم في رؤيته ، والاجتماع به ، والأخذ عنه ، وسؤاله ، ووجوده في المواضع الشريفة ، أكثر من أن تحصى وأشهر من أن تذكر .
وقال البخاري وطائفة من أهل الحديث : إنه مات .
وقال الحافظ أبو الخطاب بن دِحْية : وأما رواية اجتماعه مع النبيّ صلى الله عليه وسلم وتعزيته لأهل البيت ، فلا يصح من طرقها شيء . ولا يثبت اجتماعه مع أحد من الأنبياء ، إلا مع موسى . وجميعُ ما ورد في حياته لا يصح منه شيء ، باتفاق أهل النقل . وأما ما جاء من المشايخ فهو مما يتعجب منه . كيف يجوز لعاقل أن يلقى شيخاً لا يعرفه فيقول له : أنا فلان فيصدقه ؟ . انتهى كلامه ملخصاً .
وتمسك من قال بتعميره بقصة عين الحياة ، واستند إلى ما وقع من ذكرها في صحيح البخاريّ وجامع الترمذي . ولكن لم يثبت ذلك مرفوعاً .
وقال أبو حيان في " تفسيره " : الجمهور على أن الخضر مات . وبه قال ابن أبي الفضل المرسيّ . لأنه لو كان حياً لزمه المجيء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم والإيمان به واتباعه .
وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : < لو كان موسى حيّاً ما وسعه إلا اتباعي > . وبذلك جزم ابن المناويّ وإبراهيم الحربيّ وأبو طاهر العباديّ . وممن جزم بأنه غير موجود الآن ، أبو يعلى الحنبليّ وأبو الفضل بن ناصر والقاضي أبو بكر بن العربي , وأبو بكر بن النقاش وابن الجوزيّ . واستدل على ذلك بأدلة . منها قوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ } [ الأنبياء : 34 ] ، قال أبو الحسين بن المناوي : بحثت عن تعمير الخضر ، وهل هو باق أم لا ! فإذا أكثر المغفلين مفترون بأنه باق من أجل ما روي في ذلك ، والأحاديث المرفوعة في ذلك واهية . والسند إلى أهل الكتاب ساقط لعدم ثقتهم . وخبر مسلمة بن مصقلة كالخرافة . وخبر رياح كالريح . وما عدا ذلك من الأخبار ، كلها واهية الصدر والأعجاز . لا يخلو حالها من أمرين : إما أن تكون أدخلت على الثقات استغفالاً ، أو يكون بعضهم تعمد ذلك . وقد قال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ } .
قال صاحب " فتح البيان " : والحق ما ذكرناه عن البخاريّ وأضرابه في ذلك . ولا حجة في قول أحد كائناً من كان إلا الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم . ولم يرد في ذلك نص مقطوع به ، ولا حديث مرفوع إليه صلى الله عليه وسلم ، حتى يعمد عليه ويصار إليه . وظاهر الكتاب والسنة نفي الخلد ، وطول التعمير لأحد من البشر . وهما قاضيان على غيرهما ولا يقضي غيرهما عليهما . ومن قال إنه نبيّ أو مرسل أو حيٌّ باق ، لم يأت بحجة نيّرة ولا سلطان مبين . وإِذا جاء نهر الله بطل نهر مَعْقِل . انتهى .
وقال تقيّ الدين بن تيمية عليه الرحمة والرضوان في بعض فتاويه ، في ترائي الجن للإِنس في بعض البلاد ، ما مثاله : وفيه كثير من الجن وهم رجال الغيب الذين يرون أحياناً في هذه البقاع قال تعالى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } [ الجن : 6 ] .
وكذلك الذين يرون الخضر أحياناً هو جنيٌّ رأوه . وقد رآه غير واحد ممن أعرفه وقال إنني وكان ذلك جنيّاً لبّس على المسلمين الذين رأوه . وإلا فالخضر الذي كان مع موسى عليه السلام مات . ولو كان حيّاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لوجب عليه أن يأتي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ويؤمن به ويجاهد معه . فإن الله فرض على كل نبيّ أدرك محمداً ، أن يؤمن به ويجاهد معه . كما قال الله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } [ آل عِمْرَان : 81 ] . قال ابن عباس رضي الله عنه : لم يبعث الله نبيّاً إلا أخذ عليه الميثاق على أمته ؛ لئن بُعِثَ محمدٌ وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه . ولم يذكر أحد من الصحابة أنه رأى الخضر ، ولا أنه أتى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم . فإن الصحابة كانوا أعلم وأجل قدراً ، من أن يلبّس الشيطان عليهم . ولكن لبّس على كثير من بعدهم . فصار يتمثل لأحدهم في صورة النبيّ ويقول : أنا الخضر . وإنما هو الشيطان . كما أن كثيراً من الناس يرى ميته خرج ، وجاء إليه ، وكلمه في أمور ، وقضاء حوائج ، فيظنه الميت نفسه . وإنما هو شيطان . تصور بصور . انتهى .
التاسع : دل قوله تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً } ، على أن من العلم علماً غيبيّاً وهو المسمى بالعلم اللدنِّي . فالآية أصل فيه . وقد ألف حجة الإسلام الغزاليّ ، عليه الرحمة ، رسالة في إثبات هذا العلم . رد على من أنكر وجوده . وذكر عليه الرحمة أولاً طرفاً من مراتب العلوم الظاهرية المعروفة . ثم جوّد الكلام في إثباته . ولا بأس بإيراد شذرة مما قرره فيه . قال قدس سره . اعلم أن العلم الإنساني يحصل من طريقين : أحدهما من التعليم الإنساني والثاني من التعليم الرباني . أما الطريق الأول ، وهو التعليم الإنساني ، فطريق معهود مسلوك محسوس . ويكون على وجهين :
أحدهما : من خارج وهو التحصيل بالتعلّم .
والآخر : من داخل وهو الاشتغال بالتفكر . والتفكر في الباطن بمنزلة التعليم في الظاهر . فإن التعلم استفادة الشخص من الشخص الجزئيّ . والتفكر استفادة النفس من النفس الكليّ . والنفس الكلي أشد تأثيراً وأقوى تعليماً من جميع العقلاء والعلماء . والعلوم مركوزة في أصل النفوس بالقوة . كالبذر في الأرض والجوهر في قعر البحر ، أو في قلب المعدن . والتعلم هو طلب خروج ذلك الشيء الذي بالقوة إلى الفعل . والتعليم هو إخراجه من القوة إلى الفعل . فنفس المتعلم تتشبّه بنفس العالم وتتقرب إليه بالنسبة . فالعالم بالإفادة كالزارع . والمتعلم بالاستفادة كالأرض . والعلم الذي هو بالقوة كالبذر . والذي هو بالفعل ، كالنبات . وإذا كملت نفس المتعلم يكون كالشجر المثمر أو كالجوهر الظاهر من قعر البحر . وإذا غلبت القوى البدنية على النفس يحتاج المتعلم إلى زيادة التعلم في طول المدة . ويحمل التعب في طلب الفائدة ، وإذا غلب نور العقل على أوصاف الحسّ يستغني الطالب بقليل التفكر عن كثير التعلم ، فإن نفس العاقل تجد من الفوائد بتفكر ساعة ، ما لا تجد نفس الجاهل بتعلم سنة . فإذن بعض الناس يحصلون العلم بالتعلم وبعضهم بالتفكر . ثم قال قدس سره : والطريق الثاني وهو التعليم الربانيّ . وذلك على وجهين : إلقاء الوحي وهو النفس إذا كملت بذاتها تزول عنها دنس الطبيعة ودرن الحرص والأمل . وينفصل نظرها عن شهوات الدنيا وينقطع نسبها عن الأماني الفانية . وتقبل بوجهها على بارئها ومنشئها . وتتمسك بجود مبدعها . وتعتمد على إفادته وفيض نوره . فالله تعالى بحسن عنايته يقبل على تلك النفس إقبالاً كليّاً ، وينظر إليها نظراً إلهياً ، ويتخذ منها لوحاً ، ومن النفس الكليّ قلماً وينقش فيها علومه . ويصير العقل الكليّ كالمعلم والنفس القدسيّ كالمتعلم . فتحصل جميع العلوم لتلك النفس وتنتقش فيها جميع الصور من غير تعلم وتفكر .
ومصداق هذا قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } [ النساء : 113 ] ، فعلم الأنبياء أشرف مرتبة من جميع علوم الخلائق . لأن محصوله عن الله تعالى بلا واسطة ووسيلة . وبيان هذه الكلمة يوجد في قصة آدم والملائكة عليهم الصلاة والسلام . فإنهم طول عمرهم حصلوا بفنون الطرق كثير العلوم . حتى صاروا أعلم المخلوقين وأعرف الموجودات . آدم لما جاء ، ما كان عالماً . لأنه ما تعلم ولا رأى معلماً . فتفاخرت الملائكة عليه وتجبروا وتكبروا وقالوا : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [ البقرة : 30 ] ، ونعلم حقائق الأشياء . فرجع آدم إلى باب خالقه وأخرج قلبه عن جملة المكونات ، وأقبل بالاستعانة على الرب تعالى ، فعلمه الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال : { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ } [ البقرة : 31 ] ، أو صغر حالهم عند آدم وقلَّ علمهم وانكسرت سفينة جبروتهم ، فغرقوا في بحر العجز : { قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا } [ البقرة : 32 ] ، فقال تعالى : { يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ } [ البقرة : 33 ] ، فأنبأهم آدم عن مكنونات العلم ومستترات الأمر . فتقرر الأمر عند العقلاء ؛ أن العلم الغيبي المتولد عن الوحي ، أقوى وأكمل من العلوم المكتسبة . صار علم الوحي إرث الأنبياء وحق الرسل ، حتى أغلق الله باب الوحي في عهد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم . فكان رسول الله خاتم النبيين ، وكان أعلم الناس وأفصح العرب والعجم ، وكان يقول : < أدبني ربي فأحسن تأديبي > وقال لقومه : < أنا أعلمكم بالله وأخشاكم لله > وإنما كان علمه أكمل وأشرف وأقوى ، لأنه حصل عن التعليم الربانيّ ، وما اشتغل قط بالتعلم والتعليم الإنسانيّ فقال تعالى : { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } [ النجم : 5 ] .
والوجه الثاني : هو الإلهام . والإلهام تنبيه النفس الكليّ للنفس الجزئيّ على قدر صفاته وقبوله وقوته واستعداده . والإلهام أثر الوحي فإن الوحي هو تصريح الأمر الغيبيّ . والإلهام هو تعريضه . والعلم الحاصل عن الوحي يسمى علماً نبويّاً . والذي عن الإلهام يسمى علماً لدنّيّاً . والعلم اللدنيّ هو الذي لا واسطة في حصوله بين النفس وبين الباري . وإنما هو كالضوء من سراج الغيب يقع على قلب صاف فارغ لطيف . وذلك أن العلوم كلها محصولة في جوهر النفس الكليّ الأوّليّ الذي هو من الجواهر المفارقة الأولية المحضة ، بالنسبة إلى العقل الأول كنسبة حواء إلى آدم عليهما السلام . وقد تبين أن العقل الكليّ أشرف وأكمل وأقوى وأقرب إلى البارئ تعالى من النفس الكليّ . والنفس الكليّ أعز وأشرف من سائر المخلوقات . فمن إفاضة العقل الكليّ يتولد الإلهام . فالوحي حلية الأنبياء ، والإلهام زينة الأولياء . فكما أن النفس دون العقل ، فالوحي دون النبيّ . وكذلك الإلهام دون الوحي . فهو ضعيف بنسبة الوحي ، قوى بإضافة الرؤيا . والإلهامُ علم الأنبياء والأولياء . فإنّ علم الوحي خاص بالرسل موقوف عليهم . كما كان لآدم وموسى وإبراهيم ومحمد وغيرهم من الرسل صلوات الله عليهم . وفرق بين الرسالة والنبوة . فالنبوة هي قبول النفس القدسيّ حقائق المعلومات والمعقولات عن جوهر العقل الأول . والرسالة تبليغ تلك المعلومات والمعقولات إلى المستفيدين والمتابعين . وربما يتفق القبول لنفس من النفوس ، ولا يتأتى لها التبليغ لعذر من الأعذار وسبب من الأسباب . والعلم اللدني يكون لأهل النبوة والولاية ، كما حصل للخضر عليه السلام حيث أخبر الله تعالى فقال : { وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً } [ الكهف : 65 ] .
ثم قال عليه الرحمة : فإذا أراد الله بعبد خيراً رفع الحجاب بين نفسه وبين النفس الكليّ الذي هو اللوح . فيظهر فيها أسرار بعض المكونات . وينتقش فيها معاني تلك المكونات . فيعبر النفس عنها كما يشاء إلى من يشاء من عباده .
وحقيقة الحكمة تنال من العلم اللدنيّ . وما لم تبلغ النفس هذه الرتبة لا يكون حكيماً . لأن الحكمة من مواهب الله تعالى : و : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ } ، من عباده : { وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } [ البقرة : 269 ] ، وهم الواصلون مرتبة العلم اللدنيّ ، المستغنون عن كثيرة التحصيل وتعب التعلم . فيتعلمون قليلاً ويعلمون كثيراً ، ويتعبون يسيراً ويستريحون طويلاً .
ثم قال عليه الرحمة : اعلم أن العلم اللدنيّ هو سريان نور الإلهام . والإلهام يكون بعد التسوية . كما قال تعالى : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } [ الشمس : 7 ] ، والتسوية تصحيح النفس والرجوع إلى فطرتها . وهذا الرجوع يكون على ثلاثة أوجه :
أحدها : تحصيل جميع العلوم وأخذ الحظ الأوفر من أكثرها .
والثاني : الرياضة الصادقة والمراقبة الصحيحة . فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذه الحقيقة فقال : < من عمل بما علم ، أورثه الله علم ما لم يعلم > .
والثالث : التفكر . فإن النفس ، إذا تعلمت وارتاضت بالعلم والعمل ، ثم أخذت تتفكر بمعلوماتها ، بشرط التفكر ، ينفتح عليه باب الغيب . كالتاجر الذي يتصرف في ماله بشرط التجارة ، ينفتح عليه أبواب الربح . وإذا سلك طريق الخطأ يقع في مهالك الخسران . فالمتفكر إذا سلك سبيل الصواب يصير من ذوي الألباب ، وتنفتح روزنة من عالم الغيب في قلبه فيصير عالماً كاملاً عاقلاً ملهماً مؤيداً . كما قال صلى الله عليه وسلم : < تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة > انتهى ملخصاً .
وفي خلال كلامه عليه الرحمة ، جمل من إشارات الصوفية وعباراتهم . ولا يأباها العقل السليم ولا قواعد العلم الظاهر . لأنها في هذه المثابة بدرجة الاعتدال والتوسط . كذلك كان مشربه قدس الله سره . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً } [ 83 ] .
{ وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ } وهو الإسكندر الكبير المقدوني وسنذكر وجه تلقيبه بذلك : { قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً } أي : نبأً مذكوراً معجزاً ، أنزله الله عليَّ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } [ 84 ] .
{ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ } أي : بالقوة والرأي والتدبير والسعة في المال والاستظهار بالعدد وعظم الصيت وكبر الشهرة { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } ، أي : طريقاً موصلاَ إليه . والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } [ 85 - 86 ] .
{ فَأَتْبَعَ سَبَباً } قرئَ بقطع الهمزة وسكون التاء . وقرئ بهمزة الوصل وتشديد التاء . فقيل هما بمعنى ويتعديان لمفعول واحد . وقيل : أَتْبَعَ بالقطع يتعدى لاثنين . والتقدير : فأتبع سبباً سبباً آخر . أو فأتبع أمره سبباً كقوله : { وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً } [ القصص : 42 ] .
وقال أبو عبيدة : اتبع بالوصل في السير وأتبع بالقطع معناه اللحاق كقوله : { فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [ الصافات : 10 ] ، وقال يونس : أتبع بالقطع للجد الحثيث في الطلب وبالوصل مجرد الانتقال . والفاء في قوله : فأتبع فاء الفصيحة . أي : فأراد بلوغ المغرب فأتبع سبباً يوصله ، لقوله : { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ } أي : أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب ، وهو مغرب الأرض : { وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } أي : ذات حمأة وهو الطين الأسود ، وقرئ حامية أي : حارّة . وقد تكون جامعة للوصفين ووَجَدَ يكون بمعنى رأى لما ذكره الراغب : { وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً } أي : أمة . ثم أشار تعالى إلى أنه مكنه منهم ، وأظهره بهم ، وحكمه فيهم وجعل له الخيرة في شأنهم ، بقوله : { قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ } أي : بالقتل وغيره : { وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } بالعفو . ثم بين تعالى عدله وإنصافه ، ليحتذى حذوه ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً } [ 87 ] .
{ قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ } أي : بالبغي والفساد في الأرض بالشرك والضلال والإضلال : { فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ } أي : في الآخرة : { فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْرا } أي : منكراً لم يعهد مثله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } [ 88 ] .
{ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ } أي : في الدارين : { جَزَاءً الْحُسْنَى } يقرأ بالرفع والإضافة . وهو مبتدأ ، أو مرفوع بالظرف أي : فله جزاء الخصلة الحسنى . يقرأ بالرفع والتنوين و : { الْحُسْنَى } بدل أو خبر مبتدأ محذوف . ويقرأ بالنصب والتنوين . أي : فله الحسنى جزاءً . فهو مصدر في موضع الحال . أي : مجزيّاً بها . أو هو مصدر على المعنى . أي : يجزي بها جزاءً أو تمييز . ويقرأ بالنصب من غير تنوين . وهو مثل المنون إلا أنه حذف التنوين لالتقاء الساكنين . أفاده أبو البقاء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً } [ 89 - 90 ] .
{ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً } أي : طريقاً راجعاً من مغرب الشمس ، موصلاً إلى مشرقها
{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً } أي : من المباني والجبال .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً } [ 91 ] .
{ كَذَلِكَ } أي : أمر ذي القرنين كما وصفناه في رفعة المكان وبسطة الملك . أو أمره فيهم ، كأمره في أهل المغرب من الحكم المتقدم . أو صفة مصدر محذوف لوجد أي : وجدها تطلع وجداناً كوجدانها تغرب في عين حمئة . أو معمول بلغ أي : بلغ مغربها كما بلغ مطلعها ، ولا يحيط بما قاساه غير الله . أو صفة قوم أي : على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم الشمس ، في الكفر والحكم : { وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً } أي : علماً . نحن مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه . لا يخفى علينا منها شيء ، وإن تفرقت أممهم وتقطّعت بهم الأرض . وفي التذييل بهذا ، إشارة إلى كثرة ما لديه من العَدَد والعُدَد ، بحيث لا يحيط بها إلا علمه تعالى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } [ 92 - 93 ] .
{ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً } أي : طريقاً ثالثاً معترضاً بين المشرق والمغرب .
{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } قرئ بفتح السين وضمها . أي : بين الجبلين اللذين سدّ ما بينهما : { وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً } أي : من ورائهما أمة من الناس : { لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } لكون لغتهم غريبة مجهولة ، ولقلة فطنتهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً } [ 94 - 95 ] .
{ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ } أي : في أرضنا بالقتل والإضرار : { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً } أي : جعلاً نخرجه من أموالنا . وقرئ خراجاً وهو بمعناه : { عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً } أي : حاجزاً يمنع خروجهم علينا .
{ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } أي ما جعلني فيه مكيناً من المال والمُلك ، أجلُّ مما تريدون بذله . فلا حاجة بي إليه : { فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ } أي : بعَمَلَةٍِ وصنَّاع وآلات : { أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً } أي : حاجزاً حصيناً . وأصل معنى الردم سد الثلمة بالحجارة ونحوها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً } [ 96 - 98 ] .
{ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ } أي : ناولوني قطعه : { حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ } أي : بين جانبي الجبلين : { قَالَ انْفُخُوا } أي : في الأكوار والحديد : { حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ } أي : المنفوخ فيه : { نَاراً } أي : كالنار بالإحماء : { قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } أي : نحاساً مذاباً ليلصق بالحديد ، ويتدعم البناء به ويشتد .
{ فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ } أي : يعلوه بالصعود لارتفاعه وملاسته : { وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً } لثخنه وصلابته .
{ قَالَ هَذَا } أي : السد : { رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } على القاطنين عنده . لأمنهم من شر من سد عليهم به ، ورحمة على غيرهم ، لسد الطريق عليهم : { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي } بدحره وخرابه : { جَعَلَهُ دَكَّاءَ } بالمد أي : أرضاً مستوية ، وقرئ دكّاً أي : مدكوكاً مسوّاً بالأرض { وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً } أي : كائناً لا محالة . وهذا آخر حكاية قول ذي القرنين .
تنبيهات :
الأول : قدمنا أنه ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار . وإنما هي الآيات والعبر والأحكام والآداب تجلت في سياق الوقائع . ولذا يجب صرف العناية إلى وجوه تلك الفوائد والثمرات ، وما يستنبط من تلك الآيات . وقد أشار نبأ ذي القرنين الإسكندر إلى فوائد شتى . نذكر ما فتح علينا منها ، ونكل ما لم نحط به علماً إلى العليم الخبير .
فَمنْ فََوائِدِهَا : الاعتبار برفع الله بعض الناس درجات على بعض . ورزقه من يشاء بغير حساب ملكاً ومالاً . لما له من خفي الحكم وباهر القدرة . فلا إله سواه .
ومنها : الإشارة إلى القيام بالأسباب ، والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل . وأن على قدر بذل الجهد يكون الفوز والظفر فإن ما قص عن الإسكندر من ضربه في الأرض إلى مغرب الشمس ، ومطلعها وشمالها وعدم فتوره ووجدانه اللذة في مواصلة الأسفار وتجشم الأخطار ، وركوب الأوعار والبحار ، ثم إحرازه ذلك الفخار ، الذي لا يشق له غبار ، أكبر عبرة لأولي الأبصار .
ومنها : تنشيط الهمم لرفع العوائق . وأنه ما تيسرت الأسباب ، فلا ينبغي أن يعد ركوب البحر ولا اجتياز القفر ، عذرا في الخمول والرضاء بالدون . بل ينبغي أن ينشط ويمثل في مرارته ، حلاوة عقباه من الراحة والهناء . كما قضى الإسكندر عمره ولم يذق إلا حلاوة الظفر ولذة الانتصار : إذ لم يكن من الذين تقعدهم المصاعب عن نيل ما يبتغون .
ومنها : وجوب المبادرة لمعالي الأمور من الحداثة . إذ من الخطأ التسويف فيه إلى الاكتهال . فإن الإسكندر لما تبوأ ملك أبيه كان في حدود العشرين من عمره .
وأتى ما أتى وهو في ريعان الشباب وقوة الفناء . فهاجم أعظم ملوك عصره وأكبر جيوشهم . كأنه القضاء المبرم . ولم يقف في وجه عدد ولا عُدد . وخاض غمرات الردى غير هياب ولا وجل . وأضاف كل العالم الشرقي إلى المملكة اليونانية وهو شاب . وقضى وهو في الثالثة والثلاثين من عمره ، كما دوّنه محققو المؤرخين .
ومنها : أن من قدر على أعدائه وتمكن منهم ، فلا ينبغي له أن تسكره لذة السلطة بسوقهم بعصا الإذلال ، وتجريعهم غصص الاستعباد والنكال . بل يعامل المحسن بإحسانه والمسيء بقدر إساءته . فإن ما حكي عن الإسكندر من قوله : { قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ } [ الكهف : 87 ] ، إلى آخره ، نهاية في العدل وغاية الإنصاف .
ومنها : أن على الملك ، إذا اشتَكى إليه جور مجاورين ، أن يبذل وسعه في الراحة والأمن ، دفاعاً عن الوطن العزيز ، وصيانة للحرية والتمدن ، من مخالب التوحش والخراب ، قياماً بفريضة دفع المعتدين وإمضاء العدل بين العالمين . كما لبّى الإسكندر دعوة الشاكين في بناء السد . وقد أطبق المؤرخون على أنه بنى عدة حصون وأسوار ، لرد غارات البرابرة ، وصد هجماتهم .
ومنها : أن على الملك التعفف عن أموال رعيته ، والزهد في أخذ أجرة ، في مقابلة عمل يأتيه ، ما أغناه الله عنه ، ففي ذلك حفظ كرامته وزيادة الشغف بمحبته . كما تأبّى الإسكندر تفضلاً وتكرماً .
ومنها : التحدث بنعمة الله تعالى إذا اقتضاه المقام . كقوله الإسكندر في مقام تعففه عن أموالهم ، والشفقة عليهم : { مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } [ الكهف : 95 ] كقول سليمان : { فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ } [ النمل : 36 ] ، [ في المطبوع آتان ] وقد قيل : أن دخل الإسكندر من البلاد التي فتحها كان نحو ستين مليون ليرة إنكليزية .
ومنها : تدعيم الأسوار والحصون في الثغور ، وتقويتها بذوب الرصاص وبوضع صفائح النحاس ، خلال الصخور الصم ، صدقاً قي العمل ونصحاً فيه . لينتفع به على تطاول الأجيال . فإن البناء غير الرصين لا ثمرة فيه .
ومنها : مشاطرة الملك العمال في الأعمال ومشارفتهم بنفسه إذا اقتضى الحال ، تنشيطاً لمهمتهم وتجرئة لهم وترويحاً لقلوبهم . وقد كان الإسكندر يقاسم العمال الأتعاب . ويدير العمل بنفسه ، كما بينه الذكر الحكيم في قوله : { آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } .
ومنها : تعريف الغير ثمرة العمل المهم ، ليعرفوا قدره فيظهروا شكره . ولذا قال : { هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } .
ومنها الإعلام بالدور الأخروي ، وانقضاء هذا الدور الأوليّ ، لتبقى النفوس طامحة إلى ذلك العالم الباقي والنعيم السرمدي . ولذا قال : { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي } .
ومنها : الاعتبار بتخليد جميل الثناء ، وجليل الآثار . فإن من أنعم النظر فيما قص عنه في هذه الآيات الكريمة ، يتضح له جلياً حسن سجاياه وسمو مزاياه . من الشجاعة وعلوّ الهمّة والعفّة والعدل . ودأبه على توطيد الأمن وإثابته المحسنين وتأديبه للظالمين . والإحسان إلى النوع البشري ، ولا سيما في زمان كان فيه أكثر عوائد وأخلاق الأمم المتمدنة وغير المتمدنة ، وحشية فاسدة .
ومنها : الاهتمام بتوحيد الكلمة لمن يملك أمماً متباينة . كما كان يرمي إليه سعى الإسكندر . فإنه دأب على توحيد الكلمة بين الشعوب ومزج تلك الأمم المختلفة ليربطها بصلات الحب والعوائد . وقد حكي أنه كان يجيّش من كل أمة استولى عليها ، جيشاً عرمرماً [ في المطبوع : عرمزما ] ، يضيفه إلى جيشه المكدوني اليوناني . ويأمر رجاله أن يتزوجوا من بناتهم ، لتوثيق عرى المحبة والارتباط ، وإزالة البغض والشحناء .
ومنها : الاعتبار بما يبلغه الإنسان ، وما فيه من بليغ الاستعداد . يقضي على المرء أن يعيش أولاً طفلاً مرضَعاً . لا يعلم ما حوله ولا يطلب غير ما تحتاج إليه طبيعته الضعيفة ، قياما بما تقتضيه أسباب الحياة ، وهو ملقى إذ ذاك لا إرادة له . وعرضة لأسقام تذيقه الآلام ، وقد تجرعه كأس الحمام قبل أن يرى ويدرك شيئاً من هذا النظام . فإذا استظهرت فيه عوامل الحياة على دواعي الممات ، وسرت بجسمه قوى الشبيبة ، وصرف ما أنعم الله عليه ، إلى ما خلق لأجله ، ترعرع إنساناً عظيماً ظافراً بمنتهى أمله .
التنبيه الثاني : في ذي القرنين . اتفق المحققون على أن اسمه الإسكندر بن فيليس ، وقال ابن القيم في " إغاثة اللهفان " في الكلام على الفلاسفة : ومن ملوكهم الإسكندر المقدوني وهو ابن فيليس وليس بالإسكندر ذي القرنين الذي قص الله تعالى نبأه في القرآن بل بينهما قرون كثيرة وبينهما في الدين أعظم تباين .
فذو القرنين كان رجلاً صالحاً موحداً لله تعالى يؤمن بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . وكان يغزو عبّاد الأصنام وبلغ مشارق الأرض ومغاربها . وبنى السد بين الناس وبين يأجوج ومأجوج . وأما هذا المقدوني ، فكان مشركاً يعبد الأصنام هو وأهل مملكته . وكان بينه وبين المسيح نحو ألف وستمائة سنة . والنصارى تؤرخ له .
وكان أرسطاطاليس وزيره . وكان مشركاً يعبد الأصنام . انتهى . كلامه .
وفيه نظر . فإن المرجع في ذلك هم أئمة التاريخ وقد أطبقوا على أنه الإسكندر الأكبر ابن فيليس باني الإسكندرية بتسعمائة وأربع وخمسين سنة قبل الهجرة ، وثلاثمائة واثنين وثلاثين سنة قبل ميلاد عيسى عليه السلام . وقد أصبح ذلك من الأوليات عند علماء الجغرافيا . وأما دعوى أنه كان مشركاً يعبد الأصنام ، فغير مسلم ، وإن كان قومه وثنيين ، لأنه كان تلميذاً لأرسطاطاليس . وقد جاء في ترجمته - كما في طبقات الأطباء وغيرها - أنه كان لا يعظم الأصنام التي كانت تعبد في ذلك الوقت وأنه بسبب ذلك نسب إلى الكفر وأريد السعاية به إلى الملك . فلما أحس بذلك شخص عن أثينا . لأنه كره أن يبتلى أهلها بمثل ما ابتلوا به سقراطيس معلم أفلاطون . فإنه كان من عبادهم ومتألهيهم . وجاهرهم بمخالفتهم في عبادة الأصنام . وقابل رؤساءهم بالأدلة والحجج على بطلان عبادتها . فثوّروا عليه العامة واضطروا الملك إلى قتله . فأودعه السجن ليكفهم عنه . ثم لم يرض المشركون إلا بقتله . فسقاه السم خوفاً من شرهم ، بعد مناظرات طويلة جرت له معهم . كما في " طبقات الأطباء وتراجم الفلاسفة " فالوثنية ، وإن كانت دين اليونانيين واعتقاد شعبهم ، إلا أنه لا ينافي أن يكون الملك وخاصته على اعتقاد آخر يجاهرون به أو يكتمونه . كالنجاشيّ ملك الحبشة . فإنه جاهر بالإيمان بالنبيّ صلى الله عليه وسلم . وشعبهُ وأهل مملكته كلهم نصارى . وهكذا كان الإسكندر وأستاذه والحكماء قبله . فإن الممعن في تراجمهم يرى أنهم على توحيد وإيمان بالمعاد . قال القاضي صاعد : كان فيثاغورس - أستاذ سقراط - يقول [ في المطبوع : بقول ] ببقاء النفس وكونها ، فيما بعد ، في ثواب أو عقاب . على رأي الحكماء الإلهيين . فتأمل قوله على رأي الحكماء الإلهيين يتحقق ما ذكرناه .
وأما قول الفخر الرازيّ : إن في كون الإسكندر ذا القرنين إشكالاً قويّاً . وهو أنه كان تلميذ أرسطاطاليس الحكيم وكان على مذهبه ، فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطاطاليس حقّ وصدق . وذلك مما لا سبيل إليه فلا يخفى دفع هذا اللزوم . فإن من كان تابعاً لمذهب فمدح لأمر ما يوجب مدحه لأجله ، فلا يلزم أن يكون المدح لأجل مذهبه ومتبوعه . إذ قد يقوم فيه من الخلال و المزايا ما لا يوجد في متبوعه . وقد يبدو له من الأنظار الصحيحة ما لا يكون في مذهبه الذي نشأ عليه مقلداً . أفلا يمكن أن يكون حرّاً في فكره ينبذ التقليد الأعمى ويعتنق الحق . ومن آتاه الله من الملك ما آتاه ، أفيمتنع أن يؤتيه من تنور الفكر وحرية الضمير ونفوذ البصيرة ما يخالف به متبوعه . هذا على فرض أن متبوعه مذموم . وقد عرفت أن متبوعه أعني : أرسطاطاليس ، كان موحداً . وهو معروف في التاريخ لا سترة فيه . على أنه لو استلزمت الآية مدح مذهب أستاذه لكان ذلك في الأصول التي هي المقصودة بالذات ، وكفى بهما كمالا . وللرازيّ فرض يغتنم بها التنويه بالحكماء والتعريف لمذهبهم ، وهذه منها . وإن صبغها - سامحه الله - في هذا الأسلوب . عرف ذلك من عرف .
التنبيه الثالث : اختلف في سبب تلقيبه بذي القرنين . فقيل لأنه طاف قرني الدنيا . يعني جانبيها شرقها وغربها . أو لأنه كان له قرنان أي : ضفيرتان . أو لأنه ملك الروم وفارس .
قال الزمخشري : ويجوز أن يلقب بذلك لشجاعته ، كما يسمى الشجاع كبشا لأنه ينطح أقرانه .
أقول : هذا اللقب من الكناية عن كل ذي قوة وبأس وسلطان . لأن ذا القرون من المواشي أقواها وأشدها . والكناية بالقرن عن القوة والسلطان معروفة عند اليهود ، الذين هم السائلون . وقد وقع في توراتهم في نبوة دانيال عليه السلام قوله عن الملك : فإذا أنا بكبش واقف عند النهر . وله قرنان , ثم قوله : وبينما كنت متأملا إذا بتيس معز قد أقبل من المغرب على وجه الأرض كلها . وللتيس قرن عجيب المنظر بين عينيه , قالوا : القرن هنا رمز إلى القوة والسلطان . والتيس رمز إلى مملكة اليونان . وقرنه رمز إلى أول ملك على هذه المملكة وهو الإسكندر الكبير . وما أشار إليه من سرعة مسير هذا التيس إيماء إلى كثرة ما دهم البلاد من الغارات المتواصلة . قوله : خرج من المغرب إشارة إلى خروجه من مكدونية التي هي إلى غرب فارس ، وذلك حين تقدم على جيوش داريوس وكسره . وتعقبه إلى داخل مملكته . والقصد أن هذا اللقب - ذو القرنين - شهير وليس من أوضاع العرب خاصة . كما زعمه بعضهم . بل هو معروف عند العبرانين أيضاً . وقد يظهر أنه من رموزهم الخاصة التي سرت إلى العرب . وأقرتهم عليها .
التنبيه الرابع : قال الرازي : اختلفوا في ذي القرنين . هل كان من الأنبياء أم لا ؟ منهم من قال : إنه كان نبياً . واحتجوا عليه بوجوه :
الأول : قوله : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ } والأولى حمله على التمكين في الدين . و التمكين الكامل في الدين هو النبوة .
الثاني : قوله : { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } ومن جملة الأشياء النبوة .
فمقتضى العموم في قوله : { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } هو أنه تعالى آتاه من النبوة سبباً .
الثالث : قوله تعالى : { قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } والذي يتكلم الله معه لابد أن يكون نبياً .
ومنهم من قال إنه عبداً صالحاً وما كان نبياً . انتهى .
ثم قال الرازي بعد : يدلُّ قوله تعالى : { قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ } على أنه تعالى تكلم معه من غير واسطة . وذلك يدل على أنه كان نبياً . وحمل هذا اللفظ على أن المراد أنه خاطبه على ألسنة بعض الأنبياء - فهو عدول عن الظاهر . انتهى .
ولا يخفى ضعف الاستدلال بهذه الأدلة على نبوته . لأن مقام إثباتها يحتاج إلى تنصيص وتخصيص . وأما تعمق الجري وراء العمومات ، لاستفادة مثل ذلك ، فغير مقنع .
وأما قوله تعالى : { قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ } فقدمنا أنه كناية عن تمكينه تعالى له منهم . لا أنه قول مشافهة . وإلا لو كان ذلك لكان مخيراً منه تعالى وملقناً ما يفعل بهم . فأنى يسوغ له نقضه باجتهاد آخر . ولا يقال إن الأصل في الإطلاق الحقيقة . لأنا نقول به ، ما لم يمنع منه مانع ، من نحو ما ذكرناه . وللتنزيل الكريم أسلوب خاص ، عرفه من أنعم النظر في بديع بيانه . نعم . لو كان مراد القائل بنبوته أنه من الملهمين ذهاباً في النبوة إلى المعنى الأعم من الإيحاء بشرع ، ومن الإلهام ، لكان قريباً . فتكون نبوته من القسم الثاني وهو الإلهام . ويطلق الصوفية على مثله الوارد . وجاء في الحديث تسمية صاحبه محدَّثاً . وإطلاق النبوة عليه ، وإن كان محظوراً في الإسلام ، إلا أنه كان معروفاً قبله في العباد الأخيار .
التنبيه الخامس : حكي في قوله تعالى : { وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ } قولان في أن السائلين هم اليهود أو غيرهم . ورجح الأول من وجهتين :
أولهما : أن للإسكندر عند اليهود شأناً وقدراً . وذلك لما حكي أنه لما فتح غزة ودنا من بيت المقدس ، خرج إليه رئيس أحبارها وقدم إليه الطاعة . فدخلها إسكندر وسمع نبوة التوراة فسرَّ وأحسن إلى اليهود . وتعقب بعض المؤرخين هذه الرواية بأنها غير مأثورة في كتب اليونان ، ولم يروها أحد من مؤرخيهم .
ثانيهما : أن عنوان ذو القرنين من رموز الإسرائيليين كما قدمناه عنهم .
التنبيه السادس : قالوا المراد بالعين الحمئة البحر المحيط . وتسميته عيناً لكونه بالنسبة لعظم قدرته تعالى ، كقطرة . وإن عظم عندنا . قالوا : رأى الشمس في منظره تغرب في البحر . وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله ، يراها كأنها تغرب فيه . وهي لا تفارق فلكها .
وللإمام ابن حزم عليه الرحمة رأي آخر في الآية . ذكره في كتاب " الملل " في بحث كروية الأرض قال : ذو القرنين هو كان في العين الحمئة الحامية كما تقول : رأيتك في البحر , تريد أنك إذا رأيته كنت أنت في البحر . وبرهان هذا أن مغرب الشمس لا يجهل مقدار عظيم مساحته إلا جاهل . ومقدار ما بين أول مغربها الشتوي إذا كانت من آخر رأس الجدي إلى آخر مغربها الصيفي إذا كانت من رأس السرطان - مرئيّ مشاهد . ومقداره ثمان وأربعون درجة من الفلك . وهو يوازي من الأرض كلها بالبرهان الهندسيّ أقل من مقدار السدس . يكون من الأميال نحو ثلاثة آلاف ميل ونيّف . وهذه المساحة لا يقع عليها في اللغة اسم عين البتة . لا سيما أن تكون عيناً حمئةً حاميةً . وباللغة العربية خوطبنا . فلما تيقنا أنها عين بإخبار الله عز وجل ، الصادق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، علمنا يقيناً أن ذا القرنين انتهى به السير في الجهة التي مشى فيها من المغارب إلى العين المذكورة . وانقطع له إمكان المشي بعدها لاعتراض البحار له هنالك . وقد علمنا بالضرورة أن ذا القرنين وغيره من الناس ، ليس يشغل من الأرض إلا مساحة جسمه فقط . قائماً ، أو قاعداً أو مضطجعاً . ومن هذه صفته ، فلا يجوز أن يحيط بصره من الأرض ، بمقدار مكان المغارب كلها ، لو كان مغيبها في عين من الأرض . كما يظن أهل الجهل . و لابد من أن يلقى خطُّ بصره من حدبة الأرض ، ومن نشر من أنشازها ، ما يمنع الخط من التمادي ، إلا أن يقول قائل : إن تلك العين عي البحر فلا يجوز أن يسمى البحر في اللغة عيناً حمئةً ولا حاميةً . وقد أخبر الله عز وجل أن الشمس تسبح في الفلك . وأنها إنما هي من الفلك سراج . وقول الله تعالى هو الصدق الذي لا يتناقض فلو غابت في عين من الأرض ، كما يظن أهل الجهل ، أو في البحر ، لكانت الشمس قد زالت عن السماء وخرجت عن الفلك ، وهذا هو الباطل . فصح يقيناً ، بلا شك ، أن ذا القرنين كان هو في العين الحمئة والحامية ، حين انتهى إلى آخر البر في المغارب . لا سيما مع ما قام البرهان عليه ، من أن جرم الشمس أكبر من جرم الأرض . وبرهان آخر قاطع وهو قوله تعالى : { وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً } فصح ضرورة أنه وجد القوم عند العين لا عند الشمس . انتهى كلام ابن حزم .
التنبيه السابع : قال الرازيّ : الأظهر أن موضع السّدين في ناحية الشمال . وقيل : جبلان بين أرمينية وأذربيجان . وقيل : هذا المكان في منقطع أرض الترك .
وحكى محمد بن جرير الطبريّ في " تاريخه " أن صاحب أذربيجان ، أيام فتحها ، وجه إنساناً إليه من ناحية الخَزَر . فشاهده ووصف أنه بنيان رفيع ، وراء خندق عميق وثيق منيع .
وذكر ابن خرداد في كتاب " المسالك والممالك " أن الواثق بالله رأى في المنام كأنه فتح هذا الردم ، فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه . فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه . فوصفوا أنه بناء من لبن من حديد ، مشدود بالنحاس المذاب ، وعليه باب مقفل . ثم إن ذلك الإنسان ، لما حاول الرجوع ، أخرجهم الدليل على البقاع المحاذية لسمرقند .
قال أبو الريحان : مقتضى هذا أن موضعه في الربع الشماليّ الغربيّ من المعمورة . والله أعلم بحقيقة الحال . انتهى كلام الرازيّ .
وقال الإمام ابن حزم في " الملل والنحل " جزء أول صحيفة 120 في تفنيد دعوى اليهود أن الجنة التي أهبط منها آدم في الأرض ، ما مثاله . فإن قيل : ذكر في القرآن سد يأجوج ومأجوج . ولا يدرى مكانه ولا مكانهم . قلنا : مكانه معروف في أقصى الشمال في آخر المعمورة منه . وقد ذكر أمر يأجوج ومأجوج في كتب اليهود التي يؤمنون بها ويؤمن بها النصارى . وقد ذكر يأجوجَ ومأجوجَ والسدَّ أرسطاطاليس في كتابه في " الحيوان " عند كلامه على الغرانيق . وقد سد يأجوج ومأجوج بطليموس في كتابه المسمى " جغرافيا " وذكر طول بلادهم وعرضها . وقد بعث إليه الواثق أمير المؤمنين سلام الترجمان في جماعة معه حتى وقفوا عليه . ذكر ذلك أحمد بن الطيّب السرخسيّ وغيره . وقد ذكره قُدَامة بن جعفر والناس . فهيهات خبر من خبر . وحتى لو خفي مكان يأجوج ومأجوج والسد . فلم يعرف في شيء من المعمور مكانه ، لما ضر ذلك خبرنا شيئاً . لأنه كان يكون مكانه حينئذ خلف خط الاستواء حيث يكون ميل الشمس ورجوعها ، وبعدها كما هو في الجهة الشمالية . بحيث تكون الآفاق كبعض آفاقنا المسكونة ، والهواء كهواء بعض البلاد التي يوجد فيها النبات والتناسل . واعلموا أن كل ما كان في عنصر الإمكان ، فأدخله مدخل في عنصر الامتناع بلا برهان فهو كاذب مبطل جاهل ، أو مجاهل . لا سيما إذا أخبر به من قد قام البرهان على صدق خبره . وإنما الشأن في المحال الممتنع الذي تكذبه الحواس والعيان أو بديهة العقل . فمن جاء بهذا فإنما جاء ببرهان قاطع على أنه كذاب مفتر . ونعوذ بالله من البلاء . انتهى كلام ابن حزم .
قال بعض المحققين : اعلم أنه كثيراً ما يحدث في الثورات البركانية أن تنخسف بعض البلاد أو ترتفع بعض الأراضي حتى تصير كالجبال . وهذا أمر مشاهد حتى في زمننا هذا . فإذا سلم أن سدّ ذي القرنين المذكور في هذه الآية غير موجود الآن ، فربما كان ذلك ناشئاً من ثورة بركانية خسفت به وأزالت آثاره . ولا يوجد في القرآن ما يدل على بقائه إلى يوم القيامة . أما قوله تعالى : { قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ } فمعناه أن هذا السد رحمة من الله بالأمم القريبة منه . لمنع غارات يأجوج ومأجوج عنهم ، ولكن يجب عليهم أن يفهموا أن مع متانته وصلابته لا يمكن أن يقاوم مشيئة الله القويّ القدير ، فإن بقاءه إنما هو بفضل الله . ولكن إذا قامت القيامة وأراد الله فناء هذا العالم ، فلا هذا السد ولا غيره من الجبال الراسيات يمكنها أن تقف عثرة ، لحظة واحدة أمام قدرة الله . بل يدكها جمعاء دكّاً في لمح البصر . فمراد ذي القرنين بهذا القول تنبيه تلك الأمم على عدم الاغترار بمناعة هذا السد ، أو الإعجاب والغرور بقوتهم . فإنها لا شيء يذكر بجانب قوة الله . فلا يصح أن يستنتج من ذلك أن هذا السدّ يبقى إلى يوم القيامة ، بل صريحه أنه إذا قامت القيامة في أي : وقت كان , وكان هذا السد موجوداً, دكّه الله دكاً, وأما إذا تأخرت فيجوز أن يدك قبلها بأسباب أخرى . كالزلازل إذا قدم عهده . وكالثورات البركانية كما قلنا . وليس في الآية ما ينافي ذلك . وأما قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ } فالمراد منه خروجهم بكثرة وانتشارهم في الأرض ، كما يخرج الشيء المحبوس أو المضغوط إذا انفجر . واستعمال لفظ الفتح مجازاً شائع في اللغة . ومنه قولك فتحوا البلاد وقوله تعالى : { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } [ الأنعام : 44 ] ، فليس للأشياء أبواب . وكذلك يأجوج ومأجُوج لا باب لهم . بل هم من كل حدب ينسلون والغالب أن المراد بخروجهم هذا ، خروج المغول التتار ، وهم من نسل يأجوج ومأجوج وهو الغَزْو الذي حصل منهم للأمم في القرن السابع الهجريّ . وناهيك بما فعلوه إذ ذاك في الأرض ، بعد أن انتشروا فيها ، من الإفساد والنهب والقتل والسبي . والراجح أن السد كان موجوداً بإقليم داغستان التابع الآن لروسيا ، بين مدينتي دربند وخوزار . فإنه يوجد بينهما مضيق شهير منذ القدم ، يسمى عند كثير من الأمم القديمة والحديثة بالسُّد وبه موضع يسمى باب الحديد وهو أثر سدّ حديدي قديم بين جبلين من جبال القوقاز الشهيرة عند العرب بجبل قاف وقد كانوا يقولون إن فيه السد كغيرهم من الأمم . ويظنون أنه في نهاية الأرض . وذلك بحسب ما عرفوه منها . ومن ورائه قبيلتا يأجوج ومأجوج . انتهى .
وجاء في " صفوة الاعتبار " أن السور الذي وصلوا إليه أيام الواثق من بني العباس ، هو سور الصين الذي هو إحدى عجائب مملكة الصين . فإن طوله نحو ألف ومائتين وخمسين ميلاً ، وسمكه من الأسفل نحو خمسة وعشرين قدماً ، ومن أعلاه نحو خمسة عشر قدماً . وارتفاعه ما بين خمسة عشر إلى عشرين قدماً . وفي أماكن منه حصون يبلغ ارتفاع بعضها إليه أربعين قدماً . بني لرد الهجمات على المملكة الصينية الأصلية ، من المغول والقبائل الشمالية . والسور الآن خراب في جهات كثيرة . فإن كان هو المراد بالسد في الآية . لزم حمل الصفات المذكورة فيه ، من كونه من زبر الحديد ، ومفرغاً عليه النحاس ، على بقاع من ذلك السور . والصدفان حينئذ طرفان من ذلك السور . كما تؤوّل صفات يأجوج ومأجوج ، إلى ما يصح إطلاقها به على التتر والمنشورية . ويكون وعد الله الذي يدك فيه السد هو قرب الساعة . ولا شك أنها قربت بإعلام الشارع . وحينئذ يكون الفساد الموعود به في النصوص من أولئك القوم ، هو ما وقع من التتر من الفساد في الممالك . كما في عهد جنكزخان ، وما عثاه هو وأصحابه في الدنيا والله أعلم . انتهى .
وجاء في الجغرافية العمومية ، في المقالة السابعة والأربعين في تخطيط آسيا ، بلاد القوقاسيين أي : أهالي كوه قاف ، أي : جبل قاف : إن في تلك الأقطار يمتد هذا الجبل كالسور العظيم ، وفيه مجازان يسميان عند القدماء الأبواب القوقازية والأبواب الألبانية . فالمجاز الأول وهو الأبواب القوقازية هو الذي كان يخشى منه هجوم المتبربرين على كل من دولة الرومانيين والعجم . ثم إن الحصن الذي كان يسد هذا المجاز يسمى بأسماء مختلفة عند القدماء . وأما الأبواب الألبانية فأشهر الآراء فيها أنهم مجاز دربند . على امتداد بحر الخزر .
ثم قال : وهناك حكاية مشهورة بين أهالي كوه قاف تقتضي أن هذا الجبل كان مسدوداً بسد عظيم يمنع غارة المتبربرين وهذا السد العظيم تارة يعزى لإسكندر ، وتارة لأنو شروان ويستدلون على ذلك بآثار موجودة إلى الآن ، ترى لمن يروم ذلك .
التنبيه الثامن : قال أبو البقاء : يأجوج ومأجوج اسمان أعجميان ، لم ينصرفا للعجمة والتعريف . ويجوز همزهما وترك همزهما . وقيل : هما عربيان فيأجوج يفعول مثل يربوع . ومأجوج مفعول مثل معقول . وكلاهما من أجّ الظليم إذا أسرع . أو من أجت النار إذا التهبت . ولم ينصرفا للتعريف والتأنيث أي : للقبيلة كمجوس . فالكلمتان من أصل واحد في الاشتقاق . وعلى العجمة ، لا يتأتى تصريفه . ولا يعتبر وزنه إلا بتقدير كونه عربيّاً ، كما في " تذكرة أبي علي " .
قال الرازيّ : واختلفوا في أنهما من أي : الأقوام ؟ فقيل : إنهما من الترك . وقيل يأجوج من الترك ومأجوج من الجيل والديلم . ثم من الناس من وصفهم بقصر القامة وصغر الجثة ، انتهى .
وقال بعض المحققين : كان يوجد من وراء جبل من جبال القوقاز ، المعروف عند العرب بجبل قاف ، في إقليم داغستان ، قبيلتان . تسمى إحداهما آقوق ، والثانية ماقوق فعربهما العرب بيأجوج ومأجوج وهما معروفان عند كثير من الأمم وورد ذكرهما في كتب أهل الكتاب . ومنهما تناسل كثير من أمم الشمال والشرق في روسيا وآسيا .
التنبيه التاسع : توسع من لم يشترط الصحة ولا الحسن في مصنفاته من الرواة ، في تخريج ما روي عن يأجوج ومأجوج . وكله إما من الإسرائيليات أو المنكرات أو الموضوعات . ومن ذلك حديث < إن يأجوج أمة ومأجوج أمة . كل أمة أربعمائة ألف أمة . لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر بين يديه من صلبه . كل قد حمل السلاح الخ > رواه ابن عديّ في الضعفاء عن حذيفة مرفوعاً . وقال : موضوع منكر ، ومحمد بن إسحاق العكاشيّ كذاب يضع ، وقد أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه .
وقال الحافظ ابن جرير ههنا ، عن وهب بن منبه ، أثراً طويلاً عجيباً ، في سير ذي القرنين وبنائه السد وكيفية ما جرى له . وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم . وصفاتهم وطولهم وقصر بعضهم وآذانهم .
وروى ابن أبي حاتم عن أبيه في ذلك ، أحاديث غريبة لا تصح أسانيدها . انتهى .
فجزى الله البخاريّ أحسن الجزاء ، على نبذه تلك الروايات ، واشتراطه الصحة في المرويات ، فقد جنت الآثار المنكرة على الأمة أنكر الآثار . ومن طالع مقدمة صحيح مسلم صدق قوله : أن راوي الضعاف غاش آثم مضلّ وبالله المستعان .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً } [ 99 ] .
{ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً } أي : نفخ فيه للبعث في النشأة الثانية . فجمعناهم للجزاء والحساب جمعاً عجيباً لا يكتنه كنهه .
قال إمام : النفخ في الصور تمثيل لبعث الله الناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق ، فإذا هم قيام ينظرون . وعلينا أن نؤمن بما ورد من النفخ في الصور ، وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور . والبحثُ وراء هذا عبث لا يسوغ للمسلم . أي : لأنه من عالم الغيب ، أي : الأمور المغيّبة عنا ، التي لم نكلف بالبحث عن حقائقها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضاً } [ 100 ] .
{ وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ } أي : أظهرناها وأبرزناها : { يَوْمَئِذٍ } أي : يوم إذْ جمعنا الخلائق كافة : { لِلْكَافِرِينَ } أي : منهم . حيث جعلناهم بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظاً وزفيراً : { عَرْضاً } أي : فظيعاً هائلاً لا يقادر قدره . قال أبو السعود : وتخصيص العرض بهم ، مع أنها بمرأى من أهل الجمع قاطبة ، لأن ذلك لأجلهم خاصة . وفي عرضها وإراءتهم ما فيها من العذاب والنكال ، قبل دخولها ، مزيد غضب عليهم ونكاية . لكونه أبلغ في تعجيل الهم والحزن . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } [ 101 ] .
{ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } تمثيل لتعاميهم عن الآيات الدالة على توحيده ، أو عن القرآن وتأمل معانيه وتبصرها . ولتصامِّهم عن الحق واتباع الهدى . وقوله تعالى : { وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } أبلغ من وكانوا صمّاً لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به . وهؤلاء كأنهم أصميت أسماعهم فلا استطاعة بهم للسمع . أفاده الزمخشريّ . وفي توصيفهم بالجملتين نكتة أخرى ، بها تعلم أنه لا يستغنى بالثانية عن الأولى ، كما زعم ، وذلك - كما حققه الشهاب - إن قوله تعالى : { لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } لما أفاد أنهم كفاقدي حاسة السمع ، ومن هو كذلك إنما يعرف الذكر بإشارة أو كتابة أو نحوهما ، مما يدرك بالنظر ، وذكر أن أعينهم محجوبة عن النظر فيما يدل عليه أيضاً . فهم لا سبيل لهم إلى معرفة ذكره أصلاً . وهذا من البلاغة بمكان .
قال أبو السعود : والموصول يعني : الذين نعت للكافرين ، أو بدل أو بيان جيءَ به لذمهم بما في حيز الصلة ، وللإشعار بعليته لإصابة ما أصابهم من عرض جهنم لهم . فإن ذلك إنما هو لعدم استعمال مشاعرهم فيما عرض لهم في الدنيا من الآيات ، وإعراضهم عنها ، مع كونها أسباباً منجية عما ابتلوا به في الآخرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً } [ 102 ] .
{ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ } هذا رجوع إلى طليعة السورة في قوله تعالى : { وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً } [ الكهف : 4 ] ، فهو من باب رد العجز على الصدر المقرر في البديع ، جيء بالاستفهام الإنكاريّ ، إنكاراً لما وقع منهم وتوبيخاً لهم . ومفعول حسب الثاني محذوف . أي : أفحسبوا اتخاذهم نافعاً لهم ؟ : { كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 82 ] ، كما قالوا : { سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ } [ سبأ : 41 ] ، { إِنَّا أَعْتَدْنَا } أي : هيأنا : { جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً } أي : شيئاً يتمتعون به عند ورودهم . والنزل ما يقام للنزيل أي : الضعيف . وفيه استعارة تهكمية . إذ جعل ما يعذبون به في جهنم كالزقوم والغسلين ، ضيافة لهم .
وقال أبو السعود : وفيه تخطئة لهم في حسبانهم ، وتهكم بهم . حيث كان اتخاذهم إياهم أولياء ، من قبيل إعتاد العتاد ، وإعداد الزاد ، ليوم المعاد . فكأنه قيل : إنا أعتدنا لهم ، مكان ما أعدوا لأنفسهم ، من العدة والذخر ، جهنم عدة . وفي إيراد النزل إيماء إلى أن لهم وراء جهنم من العذاب ما هو أنموذج له . أي : لأن الضيف لا يستقر في منزل الضيافة . وينتقل إلى ما هو إهناء له في دار إقامته . فكان تنبيهاً على أنهم سيذوقون ما هو أشد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً } [ 103 - 106 ] .
{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : ضاع وبطل : { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ } أي : التي جاءت بالعمل بها رسلهم : { وَلِقَائِهِ } أي : بالعبث والحساب والجزاء : { فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } لكفرهم المذكور : { فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً } أي : فنزدريهم ولا نجعل لهم مقداراً واعتباراً ، لأن مداره الأعمال الصالحة ، وقد حبطت بالمرة .
{ ذَلِكَ } أي : الأمر ذلك . وقوله : { جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ } جملة مبينة له ، أو ذلك مبتدأ ، والجملة خبره ، والعائد محذوف . أي : جزاؤهم به . أو جزاؤهم خبر وجهنم عطف بيان له : { بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً } أي : مهزوءاً بهما . وذلك موجب لشدة المقت والغضب والنكال . ثم بين ما لمقابلهم من الحسنى بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } [ 107 - 108 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } . أي : تحولاً ، لبلوغهم الكمال في نعيمها . فلا شوق لهم فيما وراءها . وفيه تنبيه على شدة رغبتهم فيها ، وحبهم لها . مع أنه قد يتوهم ، فيمن هم مقيم في مكان دائماً ، أنه يسأمه أو يمله . فأخبر أنهم ، مع هذا الدوام والخلود السرمديّ لا يختارون عن مقامهم متحوَّلاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } [ 109 ] .
{ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي } أي : لكتابتها : { لَنَفِدَ الْبَحْرُ } أي : مع كثرته ولم يبق منه شيء : { قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي } أي : لكونها غير متناهية ، فلا تنفد نفاد المتناهي .
قال أبو السعود : وفي إضافة الكلمات إلى اسم الرب ، المضاف إلى ضميره صلى الله عليه وسلم في الموضعين ، من تفخيم المضاف وتشريف المضاف إليه ما لا يخفى . وإظهارُ البحر والكلمات في موضع الإضمار ، لزيادة التقرير . وقوله تعالى : { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } أي : بمثل البحر عوناً وزيادة ، لنفد أيضاً .
قال أبو السعود : كلام من جهته تعالى غير داخل في الكلام الملقن ، جيء به لتحقيق مضمونه ، وتصديق مدلوله ، مع زيادة مبالغة وتأكيد ، وهذا كقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ لقمان : 27 ] .
تنبيه :
دلت الآية على أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء وكما شاء . وأن كلماته لا نهاية لها . وقد قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره من الأئمة : لم يزل الله متكلماً إذا شاء وهو يتكلم بمشيئته وقدرته يتكلم بشيء بعد شيء . وهو مذهب سلف الأمة ، وأئمة السنة ، وكثير من أهل الكلام ، كالهاشمية والكرامية وأصحاب أبي معاذ . وطوائف غير هؤلاء يقولون : إن الكلام صفة ذات وفعل ، وهو يتكلم بمشيئته وقدرته كلاماً قائماً بذاته . وهذا هو المعقول من صفة الكلام لكل متكلم . فكل حيّ وصف بالكلام كالملائكة والبشر والجن وغيرهم ، فكلامهم لا بد أن يقوم بأنفسهم ، وهم يتكلمون بمشيئتهم وقدرتهم ، والكلام صفة كمال لا صفة نقص . ومن تكلم بمشيئة أكمل ممن لا يتكلم بمشيئة . فكيف يتصف المخلوق بصفات الكمال دون الخالق ؟ وأما الجهمية والمعتزلة فيقولون : ليس له كلام قائم بذاته . بل كلامه مخلوق منفصل عنه . والكلابية يقولون : هو متكلم بكلام ليس له عليه قدرة ، ولا يكون بمشيئته . والأشعرية يقولون : إن الكلام معنى واحد لا يتبعض ولا يتعدد . وكل هذه أقوال باطلة مخالفة للكتاب والسنة ، وإجماع سلف الأمة . مبتدعة مبنية على أصل واحد . وهو قولهم إن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية . فلا يقوم به كلام ولا فعل باختياره ومشيئته . وهو أصل باطل مخالف للنقل والعقل . والقرآن الكريم يدل على بطلانه في أكثر من مائة موضع . وأما الأحاديث الصحيحة فلا يمكن ضبطها في هذا الباب . والصواب في هذا الباب وغيره ، هو مذهب سلف الأمة وأئمتها ؟ أنه سبحانه لم يزل متكلماً إذا شاء وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته . وأن كلماته لا نهاية لها . وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى . وإنما ناداه حين أتى ، لم يناده قبل ذلك . وأن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد ، كما أن علمه لا يماثل علمهم وقدرته لا تماثل قدرتهم . وأنه سبحانه بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته . ليس في مخلوقاته شيء من ذاته وصفاته القائمة بذاته . ولا في ذاته شيء من مخلوقاته . وأن أقوال أهل التعطيل والاتحاد ، الذين عطلوا الذات والصفات أو الكلام أو الأفعال ، باطلة . وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات والصفات ، باطلة . هذا ما أفاده تقي الدين ابن تيمية عليه الرحمة والرضوان .
وقال أيضاً في قوله تعالى : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي } الآية : كلمات الله لا نهاية لها . وهذا تسلسل ، جائز كالتسلسل في المستقبل . فإن نعيم الجنة دائم لا نفاد له . فما من شيء إلا وبعده شيء بلا نهاية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً } [ 110 ] .
{ قُلْ } أي : لهؤلاء المشركين والكافرين من أهل الكتاب : { إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } أي : خصصت بالوحي وتميّزت عنكم به { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ } أي : يخاف المصير إليه ، أو يأمل لقائه ورؤيته ، أو جزاءه الصالح وثوابه : { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً } أي : في نفسه ، لائقاً بذلك المرجوّ ، وهو ما كان موافقاً لشرع الله : { وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً } أي : من خلقه إشراكاً جليّاً . كما فعله الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه . ولا إشراكاً خفياً . كما يفعله أهل الرياء ، ومن يطلب به أجراً من المدح وتحصيل المال والجاه .
قال أبو السعود : وإيثار وضع المظهر موضع المضمر في الموضعين ، مع التعرض لعنوان الربوبية ، لزيادة التقرير ، وللإشعار بعلية العنوان للأمر والنهي ، ووجوب الامتثال فعلاً وتركاً .
ودلت الآية - كما قال ابن كثير - على أن للعمل المتقبَّل ركنين : كونه موافقاً شرع الله المنزل ، ومخلصاً أريد به وجهه تعالى ، لا يخلط به غيره . وتسمية الرياء شركاً أصغر ، ثبت في السنة ، وصح فيها حبوط العمل بالرياء . ودخول الرياء في الآية ، باعتبار عموم معناها ، وإن كان السياق في الشرك الجليّ ، للخطاب مع الجاحدين . والله تعالى هو الموفق والمعين .(/)
سورة مريم
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً } [ 1 - 3 ] .
{ كهيعص } سلف في أول سورة البقرة الكلام على هذه الأحرف ، المبتدأ بها . وأولى الأقوال بالصواب أنها أسماء للسورة المبتدأ بها . وكونها خبر مبتدأ محذوف . أي : هذا : { كهيعص } أي : مسمى به ، وقوله تعالى : { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا } مبتدأ خبره محذوف . أي : فيما يتلى عليك . أو خبر محذوف . أي : هذا المتلوّ ذكرها وزكريا والد يحيى عليهما السلام . بدل من عبده أو عطف بيان له . قال المهايميّ : أي : ذكر الله لنا ما رحم به زكريا عليه السلام بمقتضى كمال ربوبيته . فأعطاه ولداً كاملاً في باب النبوة . فبشره بنفسه تارة وبملائكته أخرى . وتولى تسميته ولم يشرك فيه من تقدمه . وذكرُها لنا كبير هبة لنا ، في تعريف مقام النبوة ، وقدرة الله وعنايته بصفوته .
{ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً } ظرف لرحمة أو بدل اشتمال من زكريا والنداء في الأصل رفع الصوت وظهوره . والمراد به الدعاء . وقد راعى أدب الدعاء ، وهو إخفاؤه ، لكونه أبعد عن الرياء ، وأدخل في الإخلاص . ثم فسر الدعاء بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً } [ 4 ] .
{ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي } أي : ضعف . قال الزمخشريّ : وإنما ذكر العَظْم لأنه عمود البدن . وبه قوامه ، وهو أصل بنائه . فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته . ولأنه أشد ما فيه وأصلبه . فإذا وهن كان ما وراءَه أوهن . ووحّده ، لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية ، المنبئة عن شمول الوهن بكل فرد من أفراده . وقرئ : { وَهُِنَ } بكسر الهاء وضمها : { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً } قال الزمخشريّ : شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته ، وانتشاره في الشعر وفشوه فيه ، وأخذه منه كل مأخذ - باشتعال النار . ثم أخرجه مخرج الاستعارة . ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس . وأخرج الشيب مميزاً ولم يضف الرأس اكتفاءً بعلم المخاطب أنه رأس زكريا . فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة . وظاهره أن فيه استعارتين مبنيتين على تشبيهين : أولاهما تصريحية تبعية في اشتعل بتشبيه انتشار المبيضّ في المسودّ باشتعال النار ، كما قال ابن دريد في " مقصورته " .
~إِمَّا تَرَى رَأْسِيَ حَاكى لَوْنُهُ طرّةَ صبحٍ تَحْتَ أذيال الدجا
~واشتعل المبيضُّ في مسودِّهِ مثلَ اشتعالِ النَّارِ في جَزْلِ الغضَا
والثانية مكنية . بتشبيه الشيب ، في بياضه وإنارته ، باللهب . وهذا بناء على أن المكنية قد تنفك عن التخييلية ، وعليه المحققون من أهل المعاني . وقيل : إن الاستعارة هنا تمثيلية . فشبه حال الشيب بحال النار ، في بياضه وانتشاره : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً } أي : ولم أكن بدعائي إياك خائباً في وقت لم أعوّد منك إلا الإجابة في الدعاء ، ولم تردَّني قط . وهذا توسل منه إلى الله تعالى بما سلف له معه من الاستجابة ، إثر تمهيد ما يستدعي الرحمة ويستجلب الرأفة ، من كبر السن وضعف الحال . فإنه تعالى بعدما عوَّد عبده بالإجابة دهراً طويلاً . لا يكاد يخيبه أبداً . لا سيما عند اضطراره وشدة افتقاره .
تنبيه :
استفيد من هذا الآيات آداب الدعاء [ في المطبوع : الاعاء ] وما يستحب فيه . فمنها الإسرار بالدعاء ، لقوله خَفِيّاً ومنها استحباب الخضوع في الدعاء وإظهار الذل والمسكنة والضعف لقوله : { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً } ومنها التوسل إلى الله تعالى بنعمه وعوائده الجميلة لقوله : { وَلَمْ أَكُنْ } الخ كما قدمنا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً } [ 5 - 6 ] .
{ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي } أي : الذين يلون أمر رهطي من بعد موتي ، لعدم صلاحية أحد منهم لأن يخلفني في القيام بما كنت أقوم به ، من الإرشاد ووعظ العباد ، وحفظ آداب الدين . والتمسك بهديه المتين : { وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً } أي : لا تلد من حين شبابها : { فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } أي : هب لي ولداً ، يلي من الأمر ما كنت إليه وارثاً ، لي ولآل يعقوب ، في العلم والنبوة . وفي قوله : { مِنْ لَدُنْكَ } إعلام بأنه من محض الفضل وخرق العادة . لعدم صلاحية زوجه للحمل . وتنويه به لكونه مضافاً إلى الله تعالى ، وصادراً من عنده . وآل يعقوب أولاده الأنبياء ، عليهم السلام { وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً } أي : مرضيّاً عندك قولاً وفعلاً .
ثم بيّن تعالى استجابة دعاء زكريا بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً } [ 7 ] .
{ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً } أي : مثلاً وشبيهاً . وعن ابن عباس : لم تلد العواقر قبله مثله . وروي أنه لم يعص ، ولم يهمّ بمعصية قط .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً } [ 8 ] .
{ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً } أي : حالة لا سبيل إلى إصلاحها ومداواتها . وقيل : إلى رياضته . وهي الحال المشار إليها بقول الشاعر :
~ومن العناء رياضة الهرم
قال الراغب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [ 9 ] .
{ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } أي : من إنسان ونطفة وعلقة وعناصر ، ثم وجدت .
قال الزمخشري : فإن قلت : لِمَ طلب أولاً ، وهو وامرأته على صفة العتيّ والعقر ، فلما أسعف بطلبته استبعد واستعجب ؟ قلت : ليجاب بما أجيب به ، فيزداد المؤمنون إيقاناً ، ويرتدع المبطلون . وإلا فمعتقد زكريّا أولاً وآخراً ، كان في منهاج واحد ، هو أن الله غنيٌّ عن الأسباب . انتهى .
وقال أبو السعود : إنما قال عليه السلام ، مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله لا سيما بعد مشاهدته للشواهد المذكورة في سورة آل عِمْرَان ، استعظاماً لقدرة الله تعالى ، وتعجيبا منها ، واعتداداً بنعمته تعالى عليه في ذلك ، بإظهار أنه من محض لطف الله عز وعلا وفضله . مع كونه في نفسه من الأمور المستحيلة عادة ، لا استبعاداً له . وقيل : كان ذلك منه استفهاماً عن كيفية حدوثه . أي : أيكون الولد ونحن كذلك ؟ فقيل : كذلك . أي : يكون الولد وأنتما كذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } [ 10 ] .
{ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً } أي : علامة تدلني على تحقق المسؤول ووقوع الحمل ، ليطمئن قلبي : { قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّا } أي : لا تقدر على تكليمهم ، حال كونك سوياً ، بلا مرض في بدنك ، ولا في لسانك .
لطيفة :
إنما ذكر الليالي هنا ، والأيام في آل عِمْرَان ، للدلالة على أنه استمر عليه المنع من كلام الناس ، والتجرد للذكر والشكر ثلاثة أيام بلياليها .
والعرب تتجوز أو تكتفي بأحدهما عن الآخر . والنكتة في الاكتفاء بالليالي هنا وبالأيام ثمَّ ، أن هذه السورة مكية سابقة النزول . وتلك مدنية . والليالي عندهم سابقة على الأيام . لأن شهورهم وسنيَّهم قمرية ، إنما تعرف بالأهلة . ولذلك اعتبروها ، في التاريخ ، كما ذكره النحاة , فأعطي السابق للسابق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ 11 ] .
{ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ } أي : مصلاه أو غرفته : { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ } أي : أشار إليهم رمزاً : { أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } أي : صلوا لله طرفي النهار ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً } [ 12 ] .
{ يَا يَحْيَى } استئناف ، طوى قلبه جمل كثيرة ، مسارعة إلى الإنباء بإنجاز الوعد الكريم . وهو وجود هذا الغلام المبشّر به ، وتعليمه التوراة التي كانوا يتدارسونها بينهم ، ويحكم بها النَّبيّون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار ، وقد كان سنه إذ ذاك صغيراً . فلهذا نوه بذكره ، وبما أنعم عليه وعلى والديه . أي : قلنا يا يحيى : { خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } أي : تعلم التوراة والعلم بجد وحرص واجتهاد { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً } أي : الحكمة وفهم التوراة والعلم والاجتهاد في الخير ، وهو صبيٌّ ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً } [ 13 - 14 ] .
{ وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا } أي : وآتيناه حناناً : وهو التحنن والتعطف والشفقة . وتنوينه للتفخيم . أي : رحمة عظيمة يشفق بها على الخلق . أو حناناً من الله عليه : { وَزَكَاةً } أي : طهارة من الذنوب ، وعصمة بليغة منها : { وَكَانَ تَقِيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً } أي : متكبراً عاقاً لهما ، أو عاصياً لربه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً } [ 15 ] .
{ وَسَلامٌ عَلَيْهِ } أي : من الله : { يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً } أي : ليستقبل النعيم الأبدي . والسلام بمعنى السلامة والأمان من الآفات . وفيه معنى التحية والتشريف . وفي ذكر الأحوال الثلاث ، زيادة في العناية به ، صلوات الله وسلامه عليه . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً } [ 16 ] .
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ } أي : القرآن : { مَرْيَمَ } أي : نبأها : { إِذِ انْتَبَذَتْ } أي : اعتزلت وانفردت : { مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً } أي : شرقي بيت المقدس . لئلا يشغلوها عن(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } [ 17 ] .
{ فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً } أي : لئلا تحجبها رؤية الخلق عن أنوار الحق : { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا } أي : جبريل المنسوب إلى مقام عظمتنا ، لغاية كماله ، لينفخ فيها : { فَتَمَثَّلَ لَهَا } أي : فتصور لرؤيتها : { بَشَراً سَوِيّاً } أي : سويّ الخلق ، كامل الصورة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً } [ 18 ] .
{ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ } أي : أعتصم به منك . إنما خافته لانفرادها في خلوتها ، وظنها أنه يريدها على نفسها . وفي ذلك من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه : { إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً } أي : تتقي الله تعالى ، وتبالي بالاستعاذة به . وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة السياق عليه . أي : فإني عائذة به . أو فلا تتعرض لي . وإنَّما ذكّرته بالله تعالى ، لأن المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل . فخوفته أولاً بالله عز وجل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً } [ 19 ] .
{ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ } أي : لا تخافي ولا تتوقعي ما توهمت . فإني رسول ربك الذي استعذت به ، بعثني إليك : { لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً } أي : لأكون سبباً في هبته . والزكيّ : الطاهر من الذنوب أو النامي على الخير .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } [ 20 ] .
{ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } أي : تعجبت من هذا وقالت : كيف يكون لي غلام ، أي : على أي : صفة يوجد مني ، ولست بذات زوج ولا يتصور مني الفجور ؟ .
قال الزمخشريّ : جعل المس عبارة عن النكاح الحلال ، لأنه كناية عنه . كقوله تعالى : { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } [ البقرة : 237 ] ، { أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ } [ النساء : 43 ] و [ المائدة : 6 ] ، والزنى ليس كذلك . إنما يقال فيه فَجَرَ بهَا ، وخبث بها وما أشبه ذلك . وليس بقَمنٍ أن تراعى فيه الكنايات والآداب . وإنما اقتصر في سورة آل عِمْرَان على قوله : { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } [ آل عِمْرَان : 47 ] ، لكون هذه السورة متقدمة النزول عليها . فهي محل التفصيل . بخلاف تلك . فلذا حسن الاكتفاء فيها . وقيل : جعل المس ثَمَّ ، كناية عنهما ، على سبيل التغليب . والبغيُّ الفاجرة التي تبغي الرجال . ووزنه فعول ولذا لم تلحقه التاء ، لأنه يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وإن كان بمعنى فاعل كصبور . أو فعيل بمعنى فاعل ، ولم تلحقه التاء لأنه للمبالغة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً } [ 21 ] .
{ قَالَ } أي : الملك : { كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } أي : برهاناً يستدلون به على كمال قدرة بارئهم وخالقهم الذي نوع خلقهم . فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى . وخلق حواء من ذكر بلا أنثى . وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى ، إلا عيسى فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر . فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه : { وَرَحْمَةً مِنَّا } أي : عليك بهذه الكرامة ، وعلى قومك بالهداية والدعاء إلى عبادة الله وتوحيده ، فيهتدون بهديه ويسترشدون بإرشاده . وقوله : { وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً } من تتمة كلام جبريل لمريم . يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدره ومشيئته . أو من خبره تعالى لنبيه صلوات الله عليه . وأنه كنى به عن النفخ في فرجها . كما قال تعالى : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } [ التحريم : 12 ] ، وقال : { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا } [ الأنبياء : 91 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً } [ 22 ] .
{ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً } أي : لما صارت حاملاً به ، اعتزلت بسببه مكاناً بعيداً من قومها ، فراراً من القالة . وقد روي عن السلف أن جبريل لما قال لها ، عن الله تعالى ، ما قال ، مما تقدم استسلمت لقضاء الله تعالى فاطمأنت إلى قوله .
فدنا منها فنفخ في جيب درعها . فسرت النفخة حتى ولجت في الفرج ، فحملت بإذن الله تعالى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً } [ 23 ] .
{ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ } أي : فألجأها ألم الولادة إلى الاستناد بالجذع لتعتمد عليه وتستتر به . وأجاء - قال الزمخشريّ - منقول من جاء إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء . وقرئ المخاض بكسر الميم وكلاهما مصدر مخضت المرأة إذا تحرك الولد في بطنها للخروج : { قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا } أي : الحمل : { وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً } أي : شيئاً تافهاً ، شأنه أن ينسى ولا يعتد به . منسيّاً لا يخطر على بال أحد . وهو نعت للمبالغة . وإنما قالت ذلك ، لما عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود ، الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد . فلحقها فرط الحياء وخوف اللائمة إذا بهتوها وهي عارفة ببراءة الساحة ، وبضد ما قرفت به ، من اختصاص الله إياها بغاية الإجلال والإكرام - قال الزمخشريّ - لأنه مقام دحض ، قلما تثبت عليه الأقدام ، أن تعرف اغتباطك بأمر عظيم وفضل باهر ، تستحق به المدح وتستوجب التعظيم ، ثم تراه عند الناس لجهلهم به - عيباً يعاب به ويعنف بسببه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } [ 24 ] .
{ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا } أي : من مكان أسفل منها , تحت أكمة ، وهو جبريل . وقيل : هو عيسى ، وقرئ مَنْ بفتح الميم موصولة : { أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } أي : سيداً نبيلاً رفيعاً ، وقيل : نهراً يسري .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً } [ 25 ] .
{ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً } أي : حضر أوان اجتنائه . قال الزمخشريّ : فإن قلت : ما كان حزنها لفقد الطعام والشراب حتى تسلَّى بالسريّ والرطب ! قلت : لم تقع التسلية بهما من حيث إنهما طعام وشراب ، ولكن من حيث إنهما معجزتان تُريان الناس أنها من أهل العصمة ، والبعد من الريبة ، وأمن مثلها ، مما قرفوها به ، بمعزل . وأن لها أموراً إلهية خارجة عن العادات ، خارقة لما ألفوا واعتادوا حتى يتبين لهم أن ولادها من غير فحل ليس ببدع من شأنها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً } [ 26 ] .
{ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً } أي : بالكمال والولد المبارك ، الموجود بالقدرة ، الموهوب بالعناية . قال الزمخشريّ : أي : جمعنا لك في السريّ والرطب فائدتين : إحداهما : الأكل والشرب والثانية سلوة الصدر ، لكونهما معجزتين . وهو معنى قوله : { فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً } أي : وطيبي نفساً ولا تغتمي . وارفضي عنك ما أحزنك وأهمك : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً } أي : من المحجوبين عن الحقائق بظواهر الأسباب ، الذين لا يفهمون قولك ولا يصدقون بحالك . لوقوفهم مع العادة واحتجابهم عن نور الحق . فإذا سألوك : { فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً } أي : لا تكلميهم في أمرك شيئاً . ولا تمادّيهم فيما لا يمكنهم قبوله . وإِنما أمرتْ بذلك لكراهة مجادلة السفهاء ، والاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام . فإنه نص قاطع في براءة ساحتها ، فقوله : { صَوْماً } . وقوله : { فَلَنْ أُكَلِّمَ } الخ تفسير للنذر بذكر صيغته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } [ 27 ] .
{ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } أي : عظيماً منكراً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } [ 28 ] .
{ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } استئناف لتجديد التعبير ، وتأكيد التوبيخ ، وتقرير لكون ما جاءت به فرياً . وهارون هو النبيّ الشهير ، صلوات الله عليه يعنون أنها مثله في الصلاح . لأن الأخ والأخت يستعمل بمعنى المشابه كثيراً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً } [ 29 ] .
{ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا } منكرين لجوابها : { كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً } ولم يعهد تكليم عاقل لصبيّ في المهد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً } [ 30 - 31 ] .
{ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ } أنطقه الله بذلك . أولاً تحقيقاً للحق في شأنه وتنزيهاً لله تعالى عن الولد ، ردّاً على من يزعم ربوبيته ونبوَّته : { آتَانِيَ الْكِتَابَ } أي : الإنجيل : { وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ } أي : كثير الخير حيثما وجدت . أبلغ وحي ربي لتقويم النفوس وكبح الشهوات والأخذ بما هو مناط السعادات . والتعبير بلفظ الماضي في الأفعال الثلاثة ، إما باعتبار ما سبق في القضاء المحتوم ، أو جعل الآتي ، لا محالة ، كأنه وجد : { وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً } أي : أمرني بالعبادة وإنفاق المال مدة حياتي .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } [ 32 - 36 ] .
{ وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } أي : مستكبراً عن طاعته وأمره .
{ وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ذَلِكَ } أي : الذي فصلت نعوته الجليلة وخصائصه الباهرة : { عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } أي : لا ما يصفه به النصارى . وهو تكذيب لهم ، فيما يزعمونه ، على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهانيّ . حيث جعله موصوفاً بأضداد ما يصفونه : { قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أي : ومَن هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد ؟
وهذا كقوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [ آل عِمْرَان : 59 - 60 ] ، ثم أشار إلى تتمة كلام عيسى من الأمر بعبادته تعالى وحده ، بقوله سبحانه : { وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } [ 36 ] أي : قويم . من اتبعه رشد وهدى . ومن خالفه ضلَّ وغوى .
تنبيهات في فوائد هذه القصة :
الأول : لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام ، وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ، ولداً زكيّاً طاهراً مباركاً ، عطف بذكر قصة مريم في إيجاد ولدها عيسى عليهما السلام منها من غير أب . فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة . ولهذا ذكرهما في آل عِمْرَان ، وههنا ، وفي سورة الأنبياء . يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى ، ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه . وأنه على ما يشاء قدير . ومريم هي بنت عِمْرَان . من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل . وقد ذكر تعالى ولادة أمها لها في سورة آل عِمْرَان . وأنها نذرتها محررة للعبادة . وأنه تقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً فنشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة . فكانت إحدى الناسكات المتبتلات . وكانت في كفالة زكريا ورأى لها من الكرامات ما بهره فقد كان يجد عندها كلما دخل عليها المحراب رزقاً . كما تقدم في سورة آل عِمْرَان .
الثاني : استدل بقوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا } [ 17 ] ، من قال بنبوة مريم . واستُدل بقوله تعالى عنها : { يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا } [ 23 ] ، على جواز تمني المنون لمثل تلك الحال . وبقوله تعالى : { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ } [ 25 ] على التسبب في الرزق ، وتكلف الكسب وإليه أشار القائل :
~ألم تر أنَّ اللهَ قالَ لمريمٍ وهُزِّي إليكِ الجِذْعَ يَسَّاقَط الرطَبْ
~ولو شاء أحنى الجذعَ من غير هزِّهِ إليها ، ولكن كل شيء لَهُ سَبَبْ
في الآية أصل لما يقوله الأطباء ، إن الرطب ينفع النساء . واستدل بقوله تعالى : { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } بعدَ : { فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً } على أن الحالف لا يتكلم أو لا يكلم فلاناً لا يحنث بالإشارة . وعلى أن السكوت عن السفيه واجب ، كما استنبطه الزمخشري ، قال : ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافهاً . وفي قوله تعالى : { مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ } معنى قولهم في المثل : من أشبه أباه فما ظلم . وفيه أيضاً تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش .
الثالث : نقل الرازيّ عن القاضي في قوله تعالى : { وَالسَّلامُ عَلَيَّ } [ 33 ] ، الخ أن السلام عبارة عما يحصل به الأمان . ومنه السلامة في النعم وزوال الآفات . فكأنه سأل ربه وطلب منه ما أخبر الله تعالى فعله بيحيى . ولا بد في الأنبياء من أن يكونوا مستجابي الدعوة . وأعظم أحوال الإنسان احتياجاً إلى السلامة هي هذه الأحوال الثلاثة : وهي يوم الولادة ويوم البعث . فجميع الأحوال التي يحتاج فيها إلى السلامة واجتماع السعادة من قبله تعالى ، طلبها ليكون مصوناً عن الآفات والمخالفات في كل الأحوال .
الرابع : قال القاشانيّ : وإنما تمثل لها بشراً سويّ الخلق حسن الصورة ، لتتأثر نفسها به وتستأنس . فتتحرك على مقتضى الجبلة . ويسري الأثر من الخيال في الطبيعة . فتتحرك شهوتها فتنزل كما يقع في المنام من الاحتلام وتنقذف نطفتها في الرحم فيتخلق منه الولد . وقد مرّ أن الوحي قريب من المنامات الصادقة ، لهذء [ ؟ ؟ ] القوة البدنية وتعطلها عن أفعالها عنده كما في النوم . فكل ما يرى في الخيال من الأحوال الواردة على النفس الناطقة المسماة في اصطلاحنا قلباً والاتصالات التي لها بالأرواح القدسية ، يسري في النفس الحيوانية والطبيعية وينفعل منه البدن . وإنما أمكن تولد الولد من نطفة واحدة . لأنه ثبت في العلوم الطبيعية أن منيّ الذكر في تكوّن الولد ، بمنزلة الأنفحة [ في المطبوع : الإنفحة ] في الجبن . ومني الأنثى بمنزلة اللبن ، أي : العقد من منيّ الذكر والانعقاد من منيّ الأنثى . لا على معنى أن منيّ الذكر ينفرد بالقوة العاقدة ومنيّ الأنثى بالقوة المنعقدة, بل على معنى أن القوة العاقدة في منيّ الذكر أقوى . والمنعقدة في منيّ الأنثى أقوى . وإلا لم يمكن أن يتحدا شيئاً واحداً . ولم ينعقد منيّ الذكر حتى يصير جزءاً من الولد . فعلى هذا إذا كان مزاج الأنثى قوياً ذكورياً ، كما تكون أمزجة النساء الشريفة النفس القويّة القوى ، وكان مزاج كبدها حارّاً ، كان المنيُّ المنفصل عن كليتها اليمنى أحرّ كثيراً من الذي ينفصل من كليتها اليسرى . فإذا اجتمعا في الرحم ، كان مزاج الرحم قويّاً في الإمساك والجذب ، قام المنفصل في الكلية اليمنى ، مقام الذكر في شدة قوة العقد . والمنفصل من الكلية اليسرى مقام منيّ الأنثى في قوة الانعقاد ، فيتخلق الوالد هذا . وخصوصاً إذا كانت النفس متأيدة بروح القدس ، متقوية ، يسري أثر اتصالها به إلى الطبيعة والبدن ، ويغير المزاج ويمد جميع القوى في أفعالها بالمدّ الروحانيّ ، فيصير أقدر على أفعالها بما لا ينضبط بالقياس . والله أعلم .
ثم قال في قوله تعالى : { وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً } في اللوح مقدراً في الأزل . وعن ابن عباس : فاطمأنت إليه بقوله : { إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً } فدنا منها فنفخ في جيب الدرع ، أي : البدن ، وهو سبب إنزالها على ما ذكرنا . كالغلمة مثلاً والمعانقة التي كثيراً ما تصير سبباً للإنزال . وقيل : إن الروح المتمثل لها هو روح عيسى عليه السلام عند نزوله واتصالها بها وتعلقه بنطفتها . والحق أنه روح القدس . لأنه كان السبب الفاعليّ لوجوده كما قال : { لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً } . واتصال روح عيسى بالنطفة إنما يكون بعد حصول النطفة في الرحم ، واستقرارها فيه ، ريثما تمتزج وتتحد وتقبل مزاجاً صالحاً لقبول الروح . انتهى .
الخامس : التمثّل مشتق من المثل . ومعناه التصور . وفيه دليل على أن الملَك يتشكل بشكل البشر .
قال إمام الحرمين : تمثلُ جبريل معناه أن الله أفنى الزائد من خلقه أو أزاله عنه . لم يعيده إليه بعدُ .
وجزم ابن عبد السلام : بالإزالة دون الفناء وقرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها موجباً لموته ، بل يجوز أن يبقى في الجسد حيّاً . لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلاً ، بل بعادة أجراها الله تعالى في بعض خلقه ، ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر تسرح في الجنة .
وقال البلقينيّ : ما ذكره إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه . بل يجوز أن يكون الآتي جبريل بشكله الأصليّ . إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل . وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته . ومثال ذلك القطن ، إذا جمع بعد أن كان منتفشاً . فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة ، وذاته لم تتغير . وهذا على سبيل التقريب . والحق أن تمثل الملك رجلاً ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلاً ، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيساً لمن يخاطبه . الظاهر أيضاً أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى ، بل يخفى على الرائي فقط . والله أعلم . كذا قال ابن حجر في فتح الباري .
ولا يخفى أن هذا البحث من الرجم بالغيب ، واقتفاء ما لم يحط بكنهه . فالخوض فيه عبث ينتهي خائضه إلى حيث ابتدأ . لأنه من عالم الغيب الذي لا يصل علمنا إليه ولن يصل إليه بمجرد العقل . ولم يرد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم فيه نص قاطع . وكل ما كان كذلك فليس من شاننا أن نبحث فيه . فاعرف ذلك فإنه ينفعك في مواضع عديدة .
السادس : قال بعضهم : أصل كلمة عيسى : يسوع . فحرفه اليهود إلى عيسو تهكماً فحوله العرب إلى عيسى تشبهاً باسم موسى . ولبدل الواو بالألف سبب مبنيّ على قواعد اللغة العبرانية ، بل والعربية . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ 37 ] .
{ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ } أي : اختلف قول أهل الكتاب في عيسى ، بعد بيان أمره ووضوح حاله . وأنه عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه . فأصرت اليهود منهم على بهت أمه وقرفه بالسحر . وانقسمت النصارى في أمره انقساماً يفوت الحصر . وكله ضلال وشرك وكفر . وقد هدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق بإذنه . وهذا من فضله تعالى ومنّه : { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } يعني بالذين كفروا ، المختلفين . عبّر عنهم بالموصول إيذاناً بكفرهم جميعاً وإشعاراً بعلة الحكم . وفي مَشْهَدِ ستة أوجه . لأنه مصدر ميميّ أو اسم زمان أو مكان . وعلى كل فهو إما من الشهود أي : الحضور أو الشهادة . وهذا معنى قول الزمخشريّ : أي : في شهودهم هول الحساب والجزاء إلى يوم القيامة . أو من مكان الشهود فيه وهو الموقف . أو من وقت الشهود . أو من شهادة ذلك اليوم عليهم ، وأن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر وسوء الأعمال . أو من مكان الشهادة أو وقتها .
وقيل : معناه ما شهدوا به في عيسى وأمه فعظمه لعظم ما فيه أيضاً . كقوله : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } [ الكهف : 5 ] ، وفيه وعيد لهم وتهديد شديد . وذلك لأنه لا أظلم ممن كذب بالحق لما جاءه . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [ 38 ] .
{ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } تعجب من حدة سمعهم وأبصارهم يومئذ . ومعناه أن أسماعهم وأبصارهم يوم يأتوننا للحساب والجزاء جدير بأن يتعجب منهما بعد أن كانوا في الدنيا صماً عمياً . والآية كقوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } [ السجدة : 12 ] الآية ، أي : يقولون ذلك حين لا يجدي عنهم شيئاً . ولو كان هذا قبل معاينة العذاب لأجدى : { لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ } أي : في الدنيا : { فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } لإغفالهم الاستماع والنظر . فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون . قال الزمخشريّ : أوقع الظاهر أعني الظالمين موقع الضمير ، إشعاراً بأن لا ظلم أشد من ظلمهم ، حيث أغفلوا الاستماع والنظر ، حين يجدي عليهم ويسعدهم .
تنبيه :
إنما أوِّل التعجب في الآية بما ذكر ، وأنه مصروف للعباد الذين يصدر منهم التعجب ، لأن صدوره من الله تعالى محال . إذ هو كيفية نفسانية تنشأ عن استعظام ما لا يدرى سببه . ولذا قيل : إذا ظهر السبب بطل العجب . والمعنى تعجبوا من سمعهم وأبصارهم حيث لا ينفعهم ذلك . فهي كقوله تعالى : { فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ ق : 22 ] ، أفاده الشهاب .
وهذه طريقة المتكلمين في تأويل ما يشترك في الإضافة إليه تعالى وإلى خلقه من الصفات المروية . وطريقة السلف المحققين إثبات ما ورد به السمع مع نفي التشبيه . إذ لا اتحاد بين صفات الخالق وصفات المخلوق . فما يضاف إليه تعالى هو على النحو الذي يجب أن يكون عليه جل جلاله . فما يقدر في حق المخلوقين من الصفات مستلزماً للمحال ، لا يجب أن يكون في حقه تعالى مستلزماً لذلك . كما أن العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام فينا ، يستلزم النقص والحاجة ، ما يجب تنزيه الله عنه . وكذلك الوجود والقيام بالنفس فينا ، يستلزم احتياجاً إلى خالق يجعلنا موجودين . والله منزه في وجوده عما يحتاج إليه وجودنا . فنحن وصفاتنا وأفعالنا . مقرونون بالحاجة إلى الغير . والحاجة لنا أمر ذاتيّ لا يمكن أن يخلو عنه . وهو سبحانه ، الغِنَى له أمر ذاتيّ لا يمكن أن يخلو عنه . فهو بنفسه حيّ قيوم واجب الوجود ، ونحن بأنفسنا محتاجون فقراء . فإذا كانت ذاتنا وصفاتنا وأفعالنا وما اتصفنا به من الكمال ، من العلم والقدرة وغير ذلك ، هو مقرون بالحاجة والحدوث والإمكان ، لم يجب أن لا يكون لله ذات ولا صفات ولا أفعال ، وأن لا يقدر ولا يعلم . لكون ذلك ملازماً للحاجة فينا . فكذلك كل ما جاء به السمع من الصفات ، إذا قدر أنه في حقنا ملازم لحاجة وضعف ، لم يجب أن يكون في حق الله تعالى ملازماً لذلك . هذا ما قرره الإمام تقي الدين بن تيمية في خلال بعض فتاويه . وكلامه هذا بمثابة القاعدة الكلية لأمثال هذا الموضوع . فاحفظه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [ 39 - 40 ] .
{ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ } أي : فرغ من الحساب وفصل بين أهل الجنة والنار ، وصار كلٌّ إلى ما صار إليه مخلداً فيه : { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ } أي : وهم اليوم مستغرقون في غفلة عما يفعل بهم في الآخرة : { وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } أي : لا يصدقون به اليوم وسيعاينونه . ثم أمر تعالى رسوله أن يتلو عليهم نبأ إبراهيم لكونهم ينتمون إليه فيعتبروا في توحيده الخالص ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً } [ 41 - 42 ] .
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً } بليغ التصديق بما يجب لله من الوحدانية والتنزيه : { نَبِيّاً إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ } أي : مُتَلَطِّفاً في دعوته إلى التوحيد ونهيه عن عبادة الأصنام : { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً } أي : فلا يدفع ضرّاً ولا يجلب نفعاً .
قال أبو السعود : ولقد سلك عليه السلام في دعوته أحسن منهاج ، وأقوم سبيل . واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق جميل . لئلا يركب متن المكابرة والعناد . ولا ينكب ، بالكلية ، عن محجة الرشاد . حيث طلب منه علة عبادته لما يستخف به عقل كل عاقل ، من عالم وجاهل ويأبى الركون إليه ، فضلاً عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم . مع أنها لا تحق إلا لمن له الاستغناء التام ، والإنعام العام . الخالق الرازق المحيي المميت المثيب المعاقب . ونبه على أن العاقل يجب أن يفعل كل ما يفعل ، لداعية صحيحة وغرض صحيح . والشيء لو كان حيّاً مميزاً سميعاً بصيراً ، قادراً على النفع والضر ، مطيقاً بإيصال الخير والشر ، لكن كان ممكناً ، لاستنكف العقل السليم عن عبادته . وإن كان أشرف الخلائق . لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة القاهرة الواجبة . فما ظنك بجماد مصنوع من حجر أو شجر ، ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر ؟ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً } [ 43 ] .
{ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ } أي : وحق القاصر اتباع الإنسان الكامل : { فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً } أي : معتدلاً لا إفراط فيه بعبادة من لا يستحق ، ولا تفريط بترك عبادة من يستحق ، وكذا في باب الأخلاق والأعمال . قال المهايميّ : أي : وإن كان حق الابن اتباع الأب في العرف ، لكنه باطل . لأن الحق اتباع الصواب .
قال الزمخشريّ : ثَنَّى عليه السلام بدعوته إلى الحق مترفقاً به متلطفاً . فلم يسِمْ أباه بالجهل المفرط ، ولا نفسه بالعلم الفائق . ولكنه قال : إن معي طائفة من العلم وشيئاً منه ليس معك ، وذلك علم الدلالة على الطريق السويّ . فلا تستنكف . وهب أني وإياك في مسير ، وعندي معرفة بالهداية دونك ، فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً } [ 44 ] .
{ يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً } . ثلّث عليه السلام بتثبيطه ونهيه عما كان عليه ، بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل ، ببيان أنه مع عرائه عن النفع بالمرة ، مستجلب لضرر عظيم ، فإنه في الحقيقة عبادة الشيطان . لما أنه الآمر به والمسوّل له ، وقوله : { إِنَّ الشَّيْطَانَ } الخ تعليل لموجب النهي وتأكيد له ، ببيان أنه مستعص على ربك الذي أنعم عليك بفنون النعم . ولا ريب في أن المطيع للعاصي عاص . والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير . والاقتصار على ذكر عصيانه من بين سائر جناياته ، لأنه ملاكها . والتعرض لعنوان الرحمانية ، لإظهار كمال شناعة عصيانه . أفاده أبو السعود .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً } [ 45 ] .
{ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ } لكونك عصيته وواليت عدوّه ، فيقطع رحمته عنك ، كما قطعها عن الشيطان : { فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً } أي : مقارناً له ومشاركاً معه في عذابه .
قال الزمخشريّ : ربَّعَ عليه السلام بتخويفه سوء العاقبة ، وبما يجره ما هو فيه من التبعة والوبال . ولم يخل ذلك من حسن الأدب ، حيث لم يصرّح بأن العقاب لا حق له ، وأن العذاب لاصق به ، ولكنه قال : { أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ } فذكر الخوف والمس ونكّر العذاب . وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه ، أكبر من العذاب . وصدّر كل نصيحة من النصائح الأربعة بقوله : { يَا أَبَتِ } توسلاً إليه واستعطافاً . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً } [ 46 ] .
{ قَالَ } أي : أبوه مصرّاً على عناده لفرط غلوّه في الضلال : { أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ } أي : أمعرض ومنصرف أنت عنها . وإنما قدم الخبر على المبتدأ ، لأنه كان أهم عنده . وصدّره بالهمزة لإنكار نفس الرغبة ، على ضرب من التعجب . كأن الرغبة عنها مما لا يصدر عن العاقل ، فضلاً عن ترغيب الغير عنها . وفيه تسلية للرسول صلوات الله عليه ، عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه .
وقوله : { لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ } تهديد متناه . أي : لئن لم تنته عن القول فيها ، وعن نصحك ، لأرجمنك بالحجارة : { وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً } أي : تباعد عني زماناً طويلاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } [ 47 ] .
{ قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } أي : مبالغاً في اللطف بي . وفي جوابه بقوله عليه السلام : { سَلامٌ عَلَيْكَ } مقابلة السيئة بالحسنة . كما قال تعالى : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً } [ الفرقان : 63 ] ، أي : لا أصيبك بمكروه بعدُ . ولكن سأدعو ربي أن يغفر لك . كما قال : { وَاغْفِرْ لِأَبِي } [ الشعراء : 86 ] ، قال الزمخشري : وفي الآية دليل على جواز متاركة المنصوح ، والحال هذه . ويجوز أن يكون دعا له بالسلامة ، استمالة له . ألا ترى أنه وعده بالاستغفار ؟
وفي " الإكليل " : استدل بعضهم بالآية على جواز ابتداء الكافر بالسلام .
وقال ابن كثير : قد استغفر إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه مدة طويلة ، وبعد أن هاجر إلى الشام وبنى المسجد الحرام . وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق في قوله : { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } [ إبراهيم : 41 ] . وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام . وذلك اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك . حتى أنزل الله تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } إلى قوله : { إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [ الممتحنة : 4 ] ، يعني إلا في هذا القول ، فلا تتأسّوا به . ثم بيّن تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك ورجع عنه ، فقال تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } ، إلى قوله : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } [ التوبة : 113 - 114 ] ، وقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً } [ 48 ] .
{ وَأَعْتَزِلُكُمْ } أي : أتباعد عنك وعن قومك بالهجرة : { وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي : من أصنامكم .
قال الزمخشري : المراد بالدعاء العبادة ، لأنه منها ومن وسائطها . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : < الدعاء هو العبادة > . ويدل عليه قوله تعالى : { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } [ 49 ] ، { وَأَدْعُو رَبِّي } أي : أعبده وحده : { عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً } أي : خائباً ضائع السعي . وفيه تعريض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم ، مع التواضع لله بكلمة : { عَسَى } ، وما فيه من هضم النفس ومراعاة حسن الأدب ، والتنبيه على أن الإجابة والإثابة بطريق التفضل منه تعالى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً } [ 49 ] .
{ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } وذلك بالمهاجرة إلى الشام : { وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً } أي : جعلنا له بنين وحفدة ، أنبياء قرّت عينه بهم في حياته بدل من فارقهم من أقربائه الكفرة الفجرة . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } [ 50 ] .
{ وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا } أي : ما عُرف فيهم من النبوَّة والذرية وسعة الرزق وحوزة الأرض المقدسة : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } أي : ثناءً حسناً . عبّر باللسان عما يوجد باللسان . كما عبّر باليد عما يطلق باليد وهي العطية . وإضافته إلى الصدق ووصفه بالعلوّ ، للدلالة على أنهم أحقاء بما يثني عليهم ، وأن مجاهدتهم لا تخفى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } [ 51 - 52 ] .
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً } بكسر اللام أي : أخلص العبادة عن الشرك وأسلم وجهه لله . وقرئ بفتحه . أي : أخلصه الله ، أي : اصطفاه ، كما قال : { إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ } [ الأعراف : 144 ] ، { وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ } أي : من جانبه الأيمن من موسى حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوة ، فرآها تلوح فقصدها فوجدها ثمة . فنودي عندها : { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } أي : مناجياً ، أي : كليما . إذ كلمناه بلا واسطة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً } [ 53 ] .
{ وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً } ليشد أزره في أداء الرسالة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً } [ 54 - 55 ] .
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ } وهو ابن إبراهيم عليهما السلام . وإنما فَصَل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه ، لإبراز كمال الاعتناء بأمره ، بإيراده مستقلاًّ . وقوله : { إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ } تعليل للأمر . وإيراده عليه السلام بهذا الوصف ، وإن شاركه فيه بقية الأنبياء ، تشريفاً له وإكراماً . ولأنه المشهور من خصاله . وناهيك أنه وعد من نفسه الصبر على الذبح ، فوفىّ به حيث قال : { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } [ الصافات : 102 ] ، وهذا أعظم ما يتصور فيه . وفيه تنبيه بعظم هذه الخلة . ولذا كان ضدها نفاقاً ، كما صرّحت به الأخبار { وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ } أي : كان يبدأ أهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن وراءهم . ولأنهم أولى من سائر الناس : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } [ الشعراء : 214 ] ، { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ } [ طه : 132 ] ، { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التحريم : 6 ] ، ألا ترى أنهم أحق بالتصدق عليهم ؟ فالإحسان الدينيّ أولى . أفاده الزمخشري { وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً } أي : لاتصافه بالنعوت الجليلة التي منها ما ذكر . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } [ 56 - 57 ] .
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّا } هو شرف النبوّة والزلفى عند الله تعالى . فالعلوّ معنويّ . أو رفعه بجسده حيّاً إلى السماء . قال الشهاب : قيل : والثاني أقرب لأن الرفعة المقترنة بالمكان لا تكون معنوية ، وفيه نظر لأنه ورد مثله بل ما هو أظهر منه ، كقوله :
~وكن في مَكانٍ إذَا مَا سَقَطتَ تَقُومُ وَرِجلاَكَ في عَافيَة
انتهى . ومما يؤيد الثاني ما روي في الصحيحين عن أنس في حديث المعراج ؛ أنه صلوات الله عليه رأى إدريس في السماء الرابعة . وإدريس هو إلياس الآتي ذكره في سورة الصافات . ويسمى في التوراة إيليا . ولرفعه إلى السماء فيها نبأ عجيب ، قد يكون التنزيل الكريم في هذه الآية أشار إليه والله أعلم . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً } [ 58 ] .
{ أُولَئِكَ } إشارة إلى المذكورين في السورة من لدن زكريا إلى إدريس عليه السلام . وما فيه من معنى البعد ، للإشعار بعلوّ رتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل . وقوله تعالى : { الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } أي : بفنون النعم الدينية والدنيوية : { مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا } أي : هديناهم للحق واجتبيناهم للنبوة والكرامة : { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً } أي : إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه ، سجدوا لربهم خضوعاً واستكانة . مع ما لهم من علوّ الرتبة . وسموّ الزلفى عنده تعالى . وفي الآية استحباب السجود والبكاء عند سماع التلاوة .
قال ابن كثير : أجمع العلماء على مشروعية السجود ههنا ، اقتداء بهم ، واتباعاً لمنوالهم . وروى ابن جرير وابن أبي حاتم : أن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ سورة مريم فسجد . وقال : هذا السجود فأين البُكي .
ولما ذكر تعالى حزب السعداء ، وهم الأنبياء ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره ذكر من نبذ دعوتهم ممن خلفهم ، وما سينالهم ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً } [ 59 ] .
{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ } وقرئ الصلوات بالجمع أي : المتضمنة للسجود والأذكار ، المستدعية للبكاء . وإذا أضاعوها ، فهم لما سواها من الواجبات أضيع . لأنها عماد الدين وقوامه وخير أعمال العباد : { وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } أي : فأتوا بما ينافي البكاء والأمور المرضية من الأخلاق والأعمال ، من الانهماك في المعاصي التي هي بريد الكفر : { فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً } أي : شرّاً . قال الزمخشريّ : كل شر عند العرب غيّ ، وكل خير رشاد . قال المرقش :
~فمن يلقَ خيراً يحمَدِ الناسُ أمرَهُ ومن يَغْوَ لا يَعْدَمْ على الغيّ لائمَا
أي من يفعل خيراً ، يحمد الناس أمره . ومن يفعل الشر لا يعدم اللوائم على فعله . وقيل : أراد الشاعر بالخير المال . وبالغي الفقر أي : ومن يفتقر . ومنه القائل :
~والناس من يلق خيراً قائلون له ما يشتهي . ولأمّ المخطئ الهَبَلُ
أي الثكل . ويجوز أن يكون المعنى جزاء غيّ . كقوله تعالى : { يَلْقَ أَثَاماً } [ الفرقان : 68 ] ، أي : شرّاً وعقاباً . فأطلق عليه كما أطلق الغيّ على مجازاته المسببة عنه ، مجازاً أو : { غَيّاً } ضلالاً عن طريق الجنة . فهو بمعناه المشهور .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } [ 60 - 61 ] .
{ إِلَّا مَنْ تَابَ } أي : عن ترك الصلوات واتباع الشهوات : { وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ } متعلق بمضمر العائد إلى الجنات . أو من عباده أي : وعدها إياهم ملتبسة أو ملتبسين بالغيب . أي : غائبة عنهم غير حاضرة . أو غائبين عنها لا يرونها ، وإنما آمنوا بها بمجرد الأخبار . أو بمضمر هو سبب للوعد أي : وعدها إياهم بسبب إيمانهم ، أفاده أبو السعود : { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } أي : لا يخلفه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً } [ 62 - 63 ] .
{ لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلاماً } أي : لا يسمعون فيها فضول كلام لا طائل تحته . وهو كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها . قال الزمخشري رحمه الله : فيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنب اللغو واتقائه . حيث نزه الله عنه الدار التي لا تكليف فيها . وما أحسن قوله سبحانه : { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً } [ الفرقان : 72 ] ، { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [ القصص : 55 ] ، نعوذ بالله من اللغو والجهل والخوض فيما لا يعنينا .
ومعنى : { إِلَّا سَلاماً } أي : تسليماً . تسليم الملائكة عليهم ، أو بعضهم على بعض ، على الاستثناء المنقطع كما قال : { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً } [ الواقعة : 25 - 26 ] ، { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً } وهم المتصفون بشعب الإيمان ، المسرودة في مواضع شتى من آي القرآن . ولما قص سبحانه من أنباء الأنبياء عليهم السلام ما قص ، مثبتاً له ، وعقبه بما أحدثه الخلف ، وذكر جزاءهم - عقبه بحكاية نزول جبريل عليه السلام ، ردّاً لما زعمه المشركون من أنه كان يقلوه فلا يزوره ، تسلية له صلى الله عليه وسلم ، وإعلاماً بأن الحال ليس على ما زعمه هؤلاء الخلف . فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } [ 64 ] .
{ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } أي : ينسى شيئاً ما ، بل لا يفيض علماً ولا ينزل ملكاً إلا لحكمة يستعد لها الحال ، أي : فليس عدم النزول إلا لعدم الأمر به ، ولم يكن لتركه تعالى لك وتوديعه إياك . وفي إعادة اسم الرب المعرب عن التبليغ إلى الكمال اللائق ، مضافاً إلى ضميره عليه السلام ، من تشريفه والإشعار بعلة الحكم ، ما لا يخفى . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [ 65 ] .
{ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } أي : من التوابع والنجميات والسحب وغير ذلك . قال بعض علماء الفلك : الآية تدل على أن السموات أكثر من سبع . وأن ذكر السبع ليس للحصر كما قدمناه في البقرة ، من أن السموات عني بها الكواكب ، والأرض كوكب منها . قال أبو السعود : الآية بيان لاستحالة النسيان عليه تعالى . فإن من بيده ملكوت السموات والأرض وما بينهما ، كيف يتصور أن يحوم حول ساحة سبحاته الغفلة والنسيان . وهو خبر محذوف . أو بدل من ربك { فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ } أي : اثبت لها على الدوام . وقوله : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } أي : مثلاً وكفؤاً ، فتلتفت إليه وتقبل بوجهك نحوه ، فيفيض عليك مطلوبك . والجملة تقرير لوجوب عبادته وحده . أي : إذا صح أن لا مثل له ، ولا يستحق العبادة غيره ، لم يكن بدٌّ من التسليم لأمره والقيام بعبادته ، والاصطبار على مشاقّها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً } [ 66 ] .
{ وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً } أي : يقول بطريق الإنكار والاستبعاد : أأخرج بعد ما لبثت في القبر مدة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً } [ 67 ] .
{ أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً } أي : قبل جعله تراباً ونطفة . وكان عدماً صرفاً لا وجود له في الأعيان . فلا تبعد إعادته .
قال أبو السعود : وفي الإظهار موضع الإضمار ، زيادة التقرير بأن الإنسانية من دواعي التفكر فيما جرى عليه من شؤون التكوين المنخية بالقلع عن القول المذكور . وهو السرّ في إسناده إلى الجنس أو إلى الفرد بذلك العنوان . أي : ما أعجب الإنسان في إنكاره وعدم تذكره لما ذكر ، وهو الذي أعطى العقل لينظر في العواقب ، وأنعم عليه بخلق السموات والأرض وما بينهما ، ليعرف المنعم فيشكره ، ويعبده فيجازى على فعله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً } [ 68 ] .
{ فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ } أي : لنحشرن المنكرين للبعث مع الشياطين الذين أغووهم وأضلهم عن الحق : { ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً } جمع جاث . من جثا إذا قعد على ركبتيه . وذلك لهول المطلع . فلا يستطيعون قياماً . كقوله تعالى : { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } [ الجاثية : 28 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً } [ 69 ] .
{ ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً } أي : لنخرجن إلى النار ، من كل فرقة ، الذي هو أشد على الرحمن ، الذي رحمه بإنزال الكتاب وإرسال الرسول وتعريف مضار الشهوات بالعقل والنقل { عِتيّاً } أي : جراءة بإيثار الشهوات على أمره وعدم مبالاته به .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً } [ 70 ] .
{ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً } وهم المنتزعون . فإنهم أولى الشيع . إذ ضلوا ، لأجل لذّات الدنيا وشهواتها . فصاروا أولى بالصليّ بها . فيخصّون بعذاب مضاعف .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً } [ 71 ] .
{ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا } أي : ليس أحد منكم ، من بَرّ وفاجر ، إلا وهو يَرِدُها { كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً } أي : حكماً جزماً مقطوعاً به .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } [ 72 ] .
{ ثُمَّ } أي : بعد الورود والإحضار للتعريف : { نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } أي : لا يمكنهم التجاوز عنها .
قال الزمخشريّ : فيه دليل على أن المراد بالورود ، الجثوّ حواليها . وأن المؤمنين يفارقون الكفرة إلى الجنة ، بعد تجاثيهم . وتبقى الكفرة في مكانهم جاثين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أي : الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } [ 73 ] .
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أي : الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً } أي : موضعاً ومكاناً : { وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } أي : مجتمعاً للقوم ، والمعنى أن هؤلاء الكفرة إذا تليت عليهم آياته تعالى بينة الحجة واضحة البرهان على مقاصدها ، أعرضوا وأخذوا يحتجون على فضل ما هم عليه بكونهم أوفر حظاً من ا لدنيا ، لكونهم أحسن منازل وأرفع دوراً وأعمر نادياً وأكثر طارقاً ووارداً ، أي : فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل ، وأولئك الذين هم مختفون في دار الأرقم بن أبي الأرقم على الحق ؟ كما قال تعالى مخبراً عنهم : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] ، وقال قوم نوح : { قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } [ الشعراء : 111 ] ، وقال تعالى : { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } [ الأنعام : 53 ] .
وكذلك رد عليهم شبهتهم بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً } [ 74 ] .
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً } أي : متاعاً : { وَرِئْياً } أي : منظراً وهيئة من عظم الجاه ، فما أغنى عنهم من عذاب الله شيئاً . كما قال تعالى عن قوم فرعون المغرَقين : { كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } [ الدخان : 25 - 26 ] ، و : { وَرِئْياً } فعل بمعنى مفعول كالطّحن .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً } [ 75 ] .
{ قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً } أي : من كان مغموراً بالجهل والغفلة عن عواقب الأمور . وهم المذكورون قبل ، ومن شاكلهم { فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ } أي : يمدّ له ويمهله بطول العمر وإعطاء المال . وإخراجه على صيغة الأمر للإيذان بأن ذلك مما ينبغي أن يفعل بموجب الحكمة ، لقطع المعاذير . كما ينبىء عنه قوله تعالى : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } [ فاطر : 37 ] ، أو للاستدراج كما ينطق به قوله تعالى : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً } [ آل عِمْرَان : 178 ] ، وقيل المراد به الدعاء بالمد والتنفيس والإمهال . أي : فأمهله الله فيما هو فيه حتى يلقى ربه وينقضي أجله ، إما بعذاب يصيبه ، وإما الساعة بغتة . وقد بين سبحانه غاية المد بقوله : { حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً } أي : فئة وأنصاراً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً } [ 76 ] .
{ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَات } أي : الأعمال التي تبقى فوائدها : { خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً } ُ أي : مرجعاً . وتكرير الخير لمزيد الاعتناء ببيانه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً } [ 77 ] .
{ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ } أي : في الآخرة : { مَالاً وَوَلَداً } أي : انظر إلى هذا القائل المجترىء على الغيب ما أكفره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً } [ 78 ] .
{ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً } أي : بذلك ، لأنه لا يتوصل إلى العلم به إلا بأحد هذين الطريقين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً } [ 79 - 80 ] .
{ كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ } أي : نحفظه عليه للْمُؤَاخَذَة به : { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً } بمضاعفته له ، جزاءً لاستهزائه .
{ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } أي : ننزع عنه ما آتيناه من مال وولد ، فلا يبقيان له حتى يمكنها قطع العذاب عنه : { وَيَأْتِينَا فَرْداً } أي : في الحشر ، لا يصحبه مال ولا ولد . فما يجدي عليه تمنّيه وتألّيه .
وقد روى البخاريّ : عن خَبَّاب رضي الله عنه ، قال : كنت قيناً - حدَّاداً - في الجاهلية بمكة . فعملت للعاص بن وائل سيفاً ، فجئت أتقاضاه فقال : لا أقضيك حتى تكفر بمحمد . قلت : لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث . قال . فذرني حتى أموت ، ثم أبعث فسوفَ أوتَى مالاً وولداً فأقضيك . فنزلت الآية . قال ابن عباس : فضرب الله مثله في القرآن .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً } [ 81 ] .
{ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً } أي : ليتعززوا بهم ، بأن يكونوا لهم وصلة إليه عزّ وجلّ ، وشفعاء عنده .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ 82 ] .
{ كَلَّا } أي : ليس الأمر كما زعموا ، ولا يكون ما طمعوا : { سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْْ } أي : ستجحد الآلهة استحقاقهم للعبادة : { وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } أي : يريدون إهلاكهم ، إذا أوقعوهم في هلاك دعوى الشرك ، كما قال تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 5 - 6 ] [ في المطبوع يدعوا ] . وقال تعالى : { وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ } [ النحل : 86 ] [ في المطبوع ندعوا ] ، قيل : المراد بالآلهة من عُبِدَ من ذوي العلم . لإطلاق ضمير العقلاء عليهم ونطقهم . وقيل : الأصنام . بأن يخلق الله فيهم قوة النطق ، فيطلق عليهم ما يطلق على العقلاء . وقيل : الأعم منهما ، وهو الأظهر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } [ 83 ] .
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ } أي : بأن سلّطناهم عليهم ومكّنّاهم من إضلالهم . أو قيضناهم لهم يغلبون عليهم : { تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } أي : تغريهم [ في المطبوع : تغريزهم ] وتهيجهم على المعاصي ، بالتسويلات وتحبيب الشهوات ، تهيجاً شديداً .
قال الزمخشريّ : الأز والهز والاستفزاز أخوات . ومعناها التهييج وشدة الإزعاج والمراد تعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعد الآيات التي ذكر فيها العتاة والمردة من الكفار ، وأقاويلهم وملاحاتهم ومعاندتهم للرسل ، واستهزاؤهم واجتماعهم على دفع الحق بعد وضوحه وانتفاء الشك عنه ، وانهماكهم لذلك في اتباع الشياطين وما تسوّل لهم . فهذه الآية كالتذييل لما قبلها وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً } [ 84 ] .
{ فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ } أي : بوقوع العذاب بهم لتطهر الأرض منهم . والفاء للإشعار بكون ما قبلها مظنة لوقوع المنهيّ عنه ، محوجة إلى النهي . يقال : عجلت عليه بكذا إذا استعجلته منه . وقوله تعالى : { إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً } تعليل لموجب النهي ، ببيان اقتراب هلاكهم . أي : إنما نؤخرهم لأجل معدود مضبوط ، ونحوه قوله تعالى : { وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ } [ الأحقاف : 35 ] .
قال الشهاب : العدّ كناية عن القلة . وقلته لتقضّيه وفنائه ، كما قال المأمون ما كان ذا عدد ، ليس له مدد ، فما أسرع ما نفد ولا ينافي هذا ما مرَّ أنه يمد لمن كان في الضلالة . أي : يطوّل . لأنه بالنسبة لظاهر الحال عندهم . وهو قليل باعتبار عاقبته وعند الله . ولله در القائل :
~إن الحبيبَ من الأحباب مختلَسُ لا يمنع الموتَ بوَّابٌ ولا حَرَسُ
~وكيف يفرحُ بالدنيا ولذّتِهَا فتى يُعَدُّ عليه اللفظُ والنَّفَسُ(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً } [ 85 ] .
{ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً } أي : وافدين عليه . وأصل الوفود القدوم على العظماء للعطايا والاسترفاد . ففيه إشارة إلى تبجيلهم وتعظيمهم ، المزورِ والزائرِ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً } [ 86 ] .
{ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً } أي : عطاشاً . وفي ذكرهم بالسَّوْق إشعار بإهانتهم واستخفافهم . كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء . والورد : الذهاب إلى الماء ، ويطلق على الذاهبين إليه . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً } [ 87 ] .
{ لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً } الضمير لأصناهم المتقدم ذكرها في قوله : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً } [ 81 ] ، ردٌّ على عابديهم في دعواهم أنهم شفعاؤهم عند الله . واتخاذ العهد هو الإيمان والعمل الصالح . أي : لكن من آمن وعمل صالحاً فإنه يشفع للعصاة على ما وعد الله تعالى . وجوز أن يكون العهد بمعنى الإذن والأمر . يقال : أخذت الإذن في كذا واتخذته بمعنى . من باب عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به . أي : لا يشفع إلا المأمور بالشفاعة ، المأذون له فيها . وتعضده مواضع في التنزيل : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } [ النجم : 26 ] ، { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 23 ] ، { يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } [ طه : 109 ] ، ونحوه هذه الآية قوله تعالى : { وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ الزخرف : 86 ] ، ولما قرر تعالى في هذه السورة عبودية عيسى عليه السلام ، وذكر خلقه من مريم بلا أب ، عطف عليه حكاية جنايتهم من دعوى النبوّة له ، مهولاً لأمرها . وكذا جناية أمثالهم من اليهود والعرب ممن يسمي بعض المخلوقات ابناً أو بنتاً له ، تعالى وتقدّس - عطف قصته على قصته بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } [ 88 - 89 ] .
{ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } أي : عظيماً منكراً . وفي رد مقالتهم وتهويل أمرها بطريق الالتفات ، إشعار بشدة الغضب المفصح عن غاية التشنيع ، والتسجيل عليهم بنهاية الوقاحة والجراءة والجهل . ثم وصف شدة شأن مقولهم بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً } [ 90 - 93 ] .
{ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } أي : يتشقّقن : { وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ } أي : لأن : { دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً } وذلك لغيرتها على المقام الربانيّ الأحديّ أن ينسب له ما ينزه عنه ويعر بحاجته ووجود كفء له وفنائه . وذلك لأن الولادة إنما تكون من الحيّ الذي له مزاج فهو مركب ونهايته إلى انحلال وفناء ، وهو سبحانه تنزه عن ذلك ، كما قال : { وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً } أي : مملوكاً له يأوي إليه بالعبودية والذل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً } [ 94 - 95 ] .
{ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ } أي : حصرهم وأحاط بهم إحاطة لا يخرج بها أحد عن حيطة علمه وقبضة قدرته : { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً } أي : منفرداً مجرداً من الأتباع والأنصار ، وعمن زعم أن له من الشفعاء . فإنهم منهم برآء . ولما فصل مساوئ الكفرة ، تأثره بمحاسن البررة ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً } [ 96 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً } أي : يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة ، من غير تعرض للأسباب التي تكسب الود . كذا قالوا في تأويله . وقال أبو مسلم : معناه أنه يهب لهم ما يحبون . قال : والود والمحبة سواء . آتيت فلاناً محبته . وجعل لهم ما يحبون وجعلت له وده . ومن كلامهم : وددت لو كان كذا . أي : أحببت . فمعناه سيعطيهم الرحمن ودهم أي : محبوبهم في الجنة . ثم قال أبو مسلم : وهذا القول الثاني أولى لوجوه :
أحدها : كيف يصح القول الأول مع علمنا بأن المسلم المتقي يبغضه الكفار وقد يبغضه كثير من المسلمين ؟
وثانيها : أن مثل هذه المحبة قد تحصل للكفار والفساق أكثر ، فكيف يمكن جعله إنعاماً في حق المؤمنين ؟
وثالثها : أن محبتهم في قلوبهم من فعلهم . فكان حمل الآية على إعطاء المنافع الأخروية أولى . انتهى . وقد حاول الرازيّ التمويه في اختيار الأول والجواب عن الثاني . والحق أحق . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً } [ 97 ] .
{ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ } أي : سهلنا هذا القرآن بلغتك : { لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ } أي : الذين اتقوا عقاب الله ، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه ، بالجنة : { وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً } أي تخوف بهذا القرآن عذاب الله قومك من بني قريش . فإنهم أهل لدد وجدل بالباطل ، لا يقبلون الحق واللدد شدة الخصومة . والباء في قوله : { بِلِسَانِكَ } بمعنى على . أي : على لغتك . أو ضمّن التيسير معنى الإنزال أي : يسرنا القرآن ، منزلين له بلغتك ، ليسهل تبليغه وفهمه وحفظه .
قال الزمخشريّ : هذه خاتمة السورة ومقطعها . فكأنه قال : بلّغ هذا المنزل ، أو بشر به وأنذر ، فإنما أنزلناه الخ ، أي : فالفاء لتعليل أمر ينساق إليه النظم الكريم .
وقال الرازيّ : بيّن به بهذا ، عظيم موقع هذه السورة ، لما فيها من التوحيد والنبوَّة والحشر والنشر ، والرد على فرق المضلين المبطلين . وأنه يسَّر ذلك لتبشير المتقين وإنذار من خالفهم ، وقد ذكرهم بأبلغ وصف شَيِّء وهو اللدد . لأن الألد الذي يتمسك بالباطل ويجادل فيه .
ثم إنه تعالى ختم هذه السورة بموعظة بليغة ، فقال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً } [ 98 ] .
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ } أي : قوم لُدٍّ ، مثل هؤلاء ، إهلاكاً عظيماً : { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ } أي : تشعر به وتراه : { أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً } أي : صوتاً خفيّاً .
والمعنى أنهم بادوا وهلكوا وخلت منهم دورهم وأوحشت منهم منازلهم . وكذلك هؤلاء صائرون إلى ما صار إليه أولئك ، إن لم يتداركوا بالتوبة .(/)
سورة طه
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى } [ 1 - 3 ] .
{ طه } قدمنا أن الحق في هذه الحروف التي افتتحت بها سورها ، أنها أسماء لها . وفيه إشارة إلى أنها مؤلفة منها . ومع ذلك ففي عجزهم عن محاكاتها أبلغ آية على صدقها . ونبه الإمام ابن القيم رحمه الله على نكتة أخرى في " الكافية الشافية " بقوله :
~وانظر إلى السور التي افتتحت بأحْ رفها ترى سرّاً عظيم الشان
~لم يأت قط بسورة إلا أتى في إثرها خبر عن القرآن
~إذ كان إخباراً به عنها . وفي هذا الشفاءُ لطالب الإيمان
~ويدل أن كلامه هو نفسها لا غيرها ، والحق ذو تبيان
~فانظر إلى مبدا الكتاب وبعدها الـ أعراف ثم كذا إلى لقمان
~مع تلوها أيضاً ومع حَمَ مع يسَ وافهم مقتضى الفرقان
{ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى } أي : لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم ، وتحسرك على أن يؤمنوا والشقاء في معنى التعب . ومنه المثل : أشقى من رائض مهر .
وقوله تعالى : { إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى } أي : تذكيراً له . أي : { مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ } لتتعب بتبليغه ، ولكن تذكرة لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالإنذار . والقصد أنه ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر ، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة . وقد جرت السنة الإلهية في خطاب الرسول في مواضع من التنزيل ، أن ينهاه عن الحزن عليهم وضيق الصدر بهم ، كقوله تعالى : { فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ } [ الأعراف : 2 ] ، { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ } [ الكهف : 6 ] ، { وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر } [ آل عِمْرَان : 176 ] ، وهذه الآية من هذا الباب أيضاً .
وفي ذلك كله من تكريم الرسول صلوات الله عليه ، وحسن العناية به والرأفة ، ما لا يخفى . ثم أشار إلى تضخيم شأن هذا المنزل الكريم ، لنسبته إلى المتفرد بصفاته وأفعاله ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ 4 - 5 ] .
{ تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ } قرئ بالرفع على المدح . أي : هو الرحمن . وبالجر على أنه صفة للموصول . وقوله : { عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } أي : علا وارتفع . قاله ابن جرير . وقد ذهب الخلف إلى جعل ذلك مجازاً عن الملك والسلطان . كقولهم : استوى فلان على سرير الملك , وإن لم يقعد على السرير أصلاً .
وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته أيضاً .
قال ابن كثير : والمسلك الأسلم في ذلك طريقة السلف ، من إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنة ، من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل .
وقد أسلفنا ما حققته أئمة الفلك الحديث ؛ من أن العرش جرم حقيقيّ موجود وأنه مركز العوالم كلها . أي : مركز الجذب والتدبير والتأثير والنظام .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى } [ 6 ] .
{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى } . بيان لشمول قهره وملكته للكل . أي : كلها تحت ملكته وقهره وسلطنته وتأثيره . لا توجد ولا تتحرك ولا تسكن ولا تتغير ولا تثبت إلا بأمره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } [ 7 ] .
{ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } . بيان لكمال لطفه . أي : علمه نافذ في الكل . يعلم ظواهرها وبواطنها والسر وسر السر . فكذلك إن تجهر وإن تخفت ، فيعلمه بجهر وخفت .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [ 8 ] .
{ اللَّهُ } أي : ذلك المُنْزل الموصوف بهذه الصفات هو الله : { لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } أي : الفضلى ، لدلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية والأفعال التي هي النهاية في الحسن . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً } [ 9 - 10 ] .
{ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } من عطف القصة أو استئناف . والقصد تقرير أمر التوحيد الذي انتهى إليه الآية قبله ، ببيان أنه دعوى كل نبيّ لا سيما أشهرهم نبأ ، وهو موسى عليه السلام . فقد خوطب بقوله تعالى : { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا } [ 14 ] وبه ختم تعالى نبأه في هذه السورة بقوله : { إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } [ 98 ] ، أو تقرير لسعة علمه المبين في قوله تعالى : { وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ } [ 7 ] الخ لقوله بعدُ : { وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } [ 98 ] ، أولهما معاً . أو لحمله ، صلوات الله عليه ، على التأسي بموسى في الصبر والثبات . لكونه ابتلي بأَعظم من هذا فصبر ، وكانت العاقبة له . وقد أشير في طليعة نبأ موسى عليه السلام ، إلى كيفية ابتداء الوحي إليه ، وتكليمه تعالى إياه . وذلك بعد أن قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم . وصار بأهله قاصداً بلاد مصر ، بعد ما طالت غيبته عنها ومعه زوجته . فأضلّ الطريق . وكانت ليلة شاتية ، ونزل منزلاً بين شعاب وجبال في برد وشتاء . وبينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور ناراً ، كما قصه تعالى بقوله : { إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً } أي : أبصرتها إبصاراً بيّناً لا شبهة فيه : { لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ } أي : بشعلة مقتبسة تصطلون بها : { أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً } أي : هادياً يدلني على الطريق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً } [ 11 - 12 ] .
{ فَلَمَّا أَتَاهَا } أي : النار : { نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً } أي فيجب فيه رعاية الأدب ، بتعظيمه واحترامه لتجلي الحق فيه ، كما يراعى أدب القيام عند الملوك وطُوىً : اسم للوادي .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } [ 13 - 15 ] .
{ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ } أي : اصطفيتك للنبوة : { فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } أي : للذي يوحي . أو للوحي . ثم بينه بقوله : { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } أي : خصني بالعبادة : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي } أي : لتذكرني فيها بقلبك ولسانك وسائر جوارحك ، بأن تجعل حركاتها دالة على ما في القلب واللسان . قال أبو السعود : خصت الصلاة بالذكر وأفردت بالأمر بالعبادة ، لفضلها وإنافتها على سائر العبادات ، بما نيطت به من ذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذكره . وذلك قوله تعالى : { لِذِكْرِي } أي : لتذكرني . فإن ذكري كما ينبغي لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة . أو لتذكرني فيها لاشتمالها على الأذكار . أو لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري . أو لإخلاص ذكري وابتغاء وجهي . لا ترائي بها ، ولا تقصد بها غرضاً آخر . أو لتكون ذاكراً لي غير ناس . انتهى
ثم أشار إلى وجوب إفراده بالعبادة وإقامة الصلاة لذكره . بقوله : { إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ } أي : واقعة لا محالة : { أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } أي : بسعيها عن اختيار منها . واللام متعلقة بآتية . ولما كان خفاء الساعة من اليقينيات وفي كاد معنى القرب من ذلك ، لعدم وضعها للجزم بالفعل ، تأولوا الآية على وجوه :
أحدها : أن كَادَ منه تعالى واجب . والمعنى أنا أخفيها عن الخلق . كقوله : { عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً } [ الإسراء : 51 ) ، أي : هو قريب .
ثانيها : قال أبو مسلم : أَكَادُ بمعنى أريد كقوله : { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } [ يوسف : 76 ] .
ومن أمثالهم المتداولة : لا أفعل ذلك ولا أكاد , أي : ولا أريد أن أفعله . قال الشهاب : تفسير أَكَادُ بأريد هو أحد معانيها . كما نقله ابن جني في " المحتسب " عن الأخفش . واستدلوا عليه بقوله .
~كادتْ وكدتُ وتلك خيرُ إرادةٍٍ لو عاد من لَهْوِ الصِّبابِة مَا مَضَى
بمعنى أرادت . لقوله : تلك خير إرادة .
ثالثها : أن أَكَادُ صلة في الكلام . قال زيد الخيل .
~سريعٌ إِلى الهيجاء شاكٍ سلاحُهُ فما إِنْ يَكَادُ قِرْنُهُ يَتَنَفَّسُ
رابعها : أن المعنى أكاد أخفيها فلا أذكرها إِجمالاً ولا أقول هي آتية . وذلك لفرط إرادته تعالى إخفاءها . إلا أن في إِجمال ذكرها حكمة ، وهي اللطف بالمؤمنين ، لحثهم على الأعمال الصالحة ، وقطع أعذار غيرهم حتى لا يعتذروا بعدم العلم . وثمة وجوه أخر لا تخلو من تكلف ، وإن اتسع اللفظ لها . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى } [ 16 ] .
{ فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا } أي : عن تصديق الساعة : { مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } أي : ما تهواه نفسه من الشهوات وترك النظر والاستدلال : { فَتَرْدَى } أي : فتهلك .
قال الزمخشري : يعني أن من لا يؤمن بالآخرة هم الجم الغفير . إذ لا شيء أطمّ على الكفرة ، ولا هم أشد له نكيراً من البعث . فلا يهولنّك وفور دهمائهم, ولا عظم سوادهم . ولا تجعل الكثرة مزلة قدمك . واعلم أنهم ، وإن كثروا تلك الكثرة ، فقدوتهم فيما هم فيه هو الهوى واتباعه . لا البرهان وتدابره . وفي هذا حث عظيم على العلم بالدليل ، وزجر بليغ عن التقليد ، وإنذار بأن الهلاك والردى مع التقليد وأهله . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى } [ 17 - 18 ] .
{ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى } شروع فيما سيؤتيه تعالى من البرهان الباهر . وفي الاستفهام إيقاظ له وتنبيه على ما سيبدو له من عجائب الصنع : { قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا } أي : أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفتُ على رأس القطيع وعند الطفرة : { وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي } أي : أخبط بها الورق وأسقطه عليها لتأكله : { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى } أي : حاجات أخر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى } [ 19 - 21 ] .
{ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى } أي : هيئتها الأولى فتنتفع بها كما كنت تنتفع من قبل . أي : ليس القصد تخويفك ، بل إظهار ما فيها من استعداد قبول الحياة ، ومشاهدة معجزة وبرهان لك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى } [ 22 - 23 ] .
{ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ } أي : إبطك : { تَخْرُجْ بَيْضَاءَ } أي : نيَّرة : { مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } أي : قبيح وعيب كبياض البرص مما ينفر عنه . واعتمد الزمخشري ؛ أن قوله تعالى : { مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } كناية عن البرص . كما كني عن العورة بالسوأة ، قال : والبرص أبغض شيء إلى العرب ، وبهم عنه نفرة عظيمة . وأسماعهم لاسمه مجّاجة . فكان جديراً بأن يكنى عنه . ولا ترى أحسن ولا ألطف ولا أحرّ للمفاصل من كنايات القرآن وآدابه . انتهى { آيَةً أُخْرَى } أي : معجزة أخرى غير العصا : { لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى } متعلق بمضمر ينساق إليه النظم الكريم . أي : أريناك ما أريناك الآن ، مع أن حقهما أن يظهرا بعد التحدي والمناظرة ، لنريك أولاً بعض آياتنا الكبرى ، فيقوى قلبك على مناظرة الطغاة . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } [ 24 ] .
{ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ } تخلص إلى ما هو المقصود من تمهيد المقدمات السالفة . فُصِل عما قبله من الأوامر إِيذاناً بأصالته . أي : اذهب إليه بما رأيتَه من الآيات الكبرى ، وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي . أفاده أبو السعود .
وقوله تعالى : { إِنَّهُ طَغَى } أي : جاوز الحد في التكبّر والعتوّ ، حتى تجاسر على العظيمة التي هي دعوى الربوبية . فلا بد من تنبيهه على طغيانه بالدلائل العقلية ، التي صدقتها المعجزات .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي } [ 25 - 28 ] .
{ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي } إنما سأل ذلك ، لما كان يتخوفه من آل فرعون في القتيل . ولما بعث به من صدع جبار عنيد ، أطغى الملوك وأبلغهم تمرداً وكفراً ، مما يحوج إلى عناية ربانية . وسأل أن يُمَدّ بمنطق فصيح ، لما في لسانه من عقدة كانت بمنعه من كثير من الكلام كما قال : { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً } [ القصص : 34 ] ، وقول فرعون : { وَلا يَكَادُ يُبِينُ } [ الزخرف : 52 ] ، ثم سأل عليه السلام ربه أن يعينه بأخيه هارون ، ليكون له رِدْءاً ، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي } [ 29 - 31 ] .
{ وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي } أي : قَوِّ به ظهري .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً } [ 32 - 35 ] .
{ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً } أي : كي نتعاون على تسبيحك وذكرك . لأن التعاون - لأنه مهيج الرغبات - يتزايد به الخير ويتكاثر : { إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً } أي : عالماً بأحوالنا ، وبأن المدعوّ به مما يفيدنا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى } [ 36 - 37 ] .
{ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى } أي : أجيب دعاؤك . وقوله تعالى : { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى } كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله ، وزيادة توطين نفس موسى عليه السلام بالقبول ، ببيان أنه تعالى حيث أنعم عليه بتلك النعم التامة من غير سابقة دعاء منه وطلب ، فَلأَنْ ينعم عليه بمثلها وهو طالب له وداعٍ ، أولى وأحرى . وتصديره بالقسم ، لكمال الاعتناء بذلك . أفاده أبو السعود .
وقوله تعالى : { مَرَّةً أُخْرَى } أي : في وقت آخر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } [ 38 - 39 ] .
{ إِذْ أَوْحَيْنَا } أي : ألقينا بطريق الإلهام : { إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ } أي : الصندوق : { فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ } أي : البحر ، متوكلةً على خالقه : { فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي } لدعواه الألوهية : { وَعَدُوٌّ لَهُ } لدعوته إلى نبذ ما يدعيه .
قال الزمخشريّ : لما كانت مشيئة الله تعالى وإرادته - أن لا تخطئ جرية اليم ، الوصولَ به إلى الساحل ، وإلقاءه إليه - سلك في ذلك سبيل المجاز وجعل اليم كأنه ذو تمييز أُمر بذلك ، ليطيع الأمر ويمتثل رسمه . فقيل : { فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ } أي : على سبيل الاستعارة بالكناية . بتشبيه اليم بمأمور منقاد . وإثبات الأمر تخييل ، وقوله تعالى : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي } أي : واقعة مني ، زرعتها في قلب من يراك . ولذلك أحبك فرعون : { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } أي : ولتربَّى بيد العدوّ على نظري بالحفظ والعناية . فعلى عيني استعارة تمثيلية للحفظ والصون ، لأن المصون يجعل بمرأى . قيل : وعلى بمعنى الباء لأنه بمعنى بمرأى مني ، في الأصل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } [ 40 ] .
{ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ } أي : يضمن حضانته ورضاعته .
فقبلوا قولها . وذلك لأنه لما استقر عند آل فرعون ، عرضوا عليه المراضع فأباها كما قال تعالى : { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ } [ القصص : 12 ] ، فجاءت أخته فقالت : { هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } [ القصص : 12 ] ،
فجاءت بأمه كما قال : { فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ } أي : مع كونك بيد العدوّ : { كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا } أي : برؤيتك : { وَلا تَحْزَنَ } أي : بفراقك . فهذه منن زائدة على النجاة من القتل .
ثم أشار إلى ما منّ عليه بالنجاة من القتل الذي لا يدفع بتلبيس ، بقوله : { وَقَتَلْتَ نَفْساً } أي : من آل فرعون ، وهو القبطيّ الذي استغاثه عليه الإسرائيليّ ، إذ وكزه موسى فقضى عليه . أي : فاغتممت للقصاص : { فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ } أي : غم القتل بأن صرفنا عنك ما تخشاه . وذلك أنه عليه السلام فرَّ من آل فرعون حتى ورد ماء مدين . وقال له ذلك الرجل الصالح : { لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ القصص : 25 ] ، { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } أي : ابتليناك ابتلاءً . على أن الفتون مصدر كالشكور ، أو ضروباً من الفتن على أنه جمع فتنة أي : فجعلنا لك فرَجاً ومخرَجاً منها . وهو إجمال لما سبق ذكره .
{ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ } أي : معزز الجانب مكفيّ المؤونة في عشرة أتقى رجل منهم وأصلحهم ، وهو نبيّهم عليه السلام : { ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } أي : بعد أن قضيت الأجل المضروب بينك وبين شعيب من الإجارة ,جئت بأهلك على وفق ما سبق في قضائي وقدري ؛ أن أكلمك وأستنبئك في وقت يعينه قد وقَّته لذلك . فما جئت إلا على ذلك القدر ، غير مستقدم ولا مستأخر . فالأمر له تعالى . وهو المسيّر عباده وخلقه فيما يشاء .
قال أبو السعود : وقوله تعالى : { يَا مُوسَى } تشريف له عليه الصلاة والسلام ، وتنبيه على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية أولاً . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي } [ 41 - 42 ] .
{ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } تذكير لقوله تعالى : { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ } وتمهيد لإرساله عليه السلام إلى فرعون مؤيداً بأخيه والاصطناع افتعال من الصنع بمعنى الصنيعة . يقال : اصطنع الأمير فلاناً لنفسه ، أي : جعله محلاًّ لإكرامه باختيار وتقريبه منه ، بجعله من خواص نفسه وندمائه ، فاستعير استعارة تمثيلية من ذلك المعنى المشبه به إلى المشبه . وهو جعله نبيّاً مكرماً كليماً منعماً عليه بجلائل النعم . قال أبو السعود : والعدول عن نون الواقعة في قوله تعالى : { وَفَتَنَّاكَ } ونظيريه السابقين ، تمهيد لإفراد لفظ النفس اللائق بالمقام ، فإنه أدخل في تحقيق معنى الاصطناع والاستخلاص . ثم بين ما هو المقصود بالاصطناع بقوله سبحانه : { اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي } أي : بمعجزاتي . كالعصا وبياض اليد وحل العقدة ، مع ما استظهره على يده : { وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي } أي : لا تَفْتُرَا ولا تقصّرا في ذكري بما يليق بي من النعوت الجليلة ، عند تبليغ رسالتي والدعاء إليّ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [ 43 - 44 ] .
{ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } أي : عقابي . فإن تليين القول مما يكسر سورة عناد العتاة ، ويلين عريكة الطغاة . وقد بيّن ذلك في قوله تعالى : { فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } [ النازعات : 18 - 19 ] ، وبمثل ذلك أمر نبينا صلوات الله عليه في قوله : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] ، وظاهر أن الرجاء في لعله إنَما هو منهما ، لا من الله . فإنه لا يصح منه . ولذا قال القاضي : أي : باشرا الأمر على رجائكما وطمعكما أنه يثمر ولا نخيب سعيكما . فإن الراجي ، مجتهد والآيس متكلف . والفائدة في إرسالها والمبالغة عليهما في الاجتهاد - مع علمه بأنه لا يؤمن - إلزام الحجة ، وقطع المعذرة ، وإظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من الآيات .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [ 45 - 46 ] .
{ قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا } أي : يبادرنا بالعقوبة : { أَوْ أَنْ يَطْغَى } أي : يزداد طغياناً بالعناد ، في دفع حججنا ، ثم يأمر بقتلنا ، أو بالتخطي إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي ، لجرأته وقسوة قلبه . واقتصر على الثاني الزمخشري . وأفاد أن في المجيء به هكذا على الإطلاق ، وعلى سبيل الرمز ، باباً من حسن الأدب ، وتحاشياً عن التفوه بالعظيمة : { قَالَ لا تَخَافَا } أي : من فرطه وطغيانه : { إِنَّنِي مَعَكُمَا } أي : بالحفظ والنصرة : { أَسْمَعُ وَأَرَى } أي : ما يجري بينكما وبينه . فأرعاكما بالحفظ . فالمفعول محذوف للقرينة ، أو نزل منزلة اللازم تتميماً لما يستقل به الحفظ . كأنه قيل : أنا حافظ لكما وناصر ، سامع وبصير . وإذا كان الحافظ كذلك ، تمَّ الحفظ والتأييد ، وذهبت المبالاة بالعدوّ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } [ 47 ] .
{ فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ } أي : بإطلاقهم من الأسر والعبودية . وتسريحهم معنا إلى وطننا فلسطين : { وَلا تُعَذِّبْهُمْ } أي : بإبقائهم على ما هم عليه من التسخير والتذليل في الأمور الشاقة : { قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ } أي : تحقق رسالتي إليك منه تعالى بذلك : { وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } أي : فصدق بآيات الله المبينة للحق . وفيه من ترغيبه في اتباعهما ، على ألطف وجه ، ما لا يَخْفَى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [ 48 ] .
{ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا } أي : من ربنا : { أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ } أي : بآياته تعالى : { وَتَوَلَّى } أي : أعرض عنها . وفيه من التلطيف في الوعيد ، حيث لم يصرح بحلول العذاب به ، ما لا مزيد عليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [ 49 - 50 ] .
{ قَالَ } أي : فرعون : { فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } أي : منح كل شيء من الأنفس البشرية ، صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به ، فسواه بها وعدّله ، ثم هداه بأن وهبه العقل الذي يميز بين الخير والشر . وهذه الآية في معناها كآية : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [ الشمس : 7 - 8 ] ، وآية : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } [ البلد : 10 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } [ 51 - 52 ] .
{ قَالَ } أي : فرعون : { فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } أي : ما حال القرون السالفة وما جرى عليهم ؟ وهذا السؤال إما لصرف موسى عليه السلام عما يدعوه إليه أمام ملئه ، وإشغاله بما لا يعني ما أرسل به ، وإما لتوهم أن الرسول يعلم الغيب ، فأراد أن يقف على نبأ ما مضى ، ويفتح باباً للتخطئة والتكذيب ، بالعناد واللجاج . فأجابه موسى عليه السلام بأن هذا سؤال عن الغيب وقد استأثر الله به . فلا يعلمه إلا هو . وليس من وظيفة الرسالة . وإنما علمها مكتوب في اللوح المحفوظ ، محصى غير منسي . ويجوز أن يكون : { فِي كِتَابٍ } تمثيلاً لتمكنه وتقريره في علم الله عزَّ وجلَّ ، بما استحفظه العالم وقيده بالكتبة . قال في العناية : فيشبه علمه تعالى بها علماً ثابتاً لا يتغير ، بمن علم شيئاً وكتبه في جريدته ، حتى لا يذهب أصلاً ، فيكون قوله : { لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } ترشيحاً للتمثيل ، واحتراساً أيضاً . لأن من يفعل ذلك إنما يفعله لخوف النسيان . والله تعالى منزه عنه .
فالكتاب على هذا بمعناه اللغويّ . وهو الدفتر ، لا اللوح المحفوظ . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى } [ 53 ] .
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً } أي : فراشاً : { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى } أي : أصنافاً من نبات مختلفة الأجناس ، في الطعم والرائحة والشكل والنفع .
لطيفة :
جعل الزمخشري قوله تعالى : { فَأَخْرَجْنَا } من باب الالتفات . وناقشه الناصر ؛ بأن الالتفات إنما يكون في كلام المتكلم الواحد . يصرّف كلامه على وجوه شتى . وما نحن فيه ليس كذلك . فإن الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام قوله لفرعون : { عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } ثم قوله : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً } إلى قوله : { فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى } فإما أن يجعل من قول موسى ، فيكون باب قول خواص الملك : أمرنا وعمرنا وإنما يريدون الملك ، وليس هذا بالتفات . وإما أن يكون كلام موسى قد انتهى عند قوله : { وَلا يَنْسَى } ثم ابتدأ الله تعالى وصف ذاته بصفات إنعامه على خلقه ، فليس التفاتاً أيضاً . وإنما هو انتقال من حكاية إلى إنشاء خطاب . وعلى هذا التأويل ينبغي للقارئ أن يقف وُقَيْفَة عند قوله : { وَلا يَنْسَى } ليستقر بانتهاء الحكاية . ويحتمل وجهاً آخر وهو ؛ أن موسى وصف الله تعالى بهذه الصفات على لفظ الغيبة . فقال : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى } فلما حكاه الله تعالى عنه , أسند الضمير إلى ذاته . لأن الحاكي هو المحكي في كلام موسى . فمرجع الضميرين واحد . وهذا الوجه وجه حسن رقيق الحاشية . وهذا أقرب الوجوه إلى الالتفات . لكن الزمخشري لم يعنه . والله أعلم . انتهى كلام الناصر . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } [ 54 - 55 ] .
{ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ } حال من ضمير فَأَخْرَجْنَا على إرادة القول : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى مِنْهَا } أي : من الأرض : { خَلَقْنَاكُمْ } أي : خلقنا أصلكم وهو آدم . أو خلقنا أبدانكم من النطفة المتولدة عن الأغذية ، والمتولدة من الأرض بوسائط : { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } أي : بالإماتة إعادة البذر إلى الأرض : { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } أي : بردّهم كما كانوا ، أحياء . ثم أشار تعالى إلى عتوّ فرعون وعناده ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوَىً } [ 56 - 58 ] .
{ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا } أي : من العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنين : { فَكَذَّبَ وَأَبَى قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوَىً } أي : مستوياً واضحاً يجمعنا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى } [ 59 - 60 ] .
{ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِِ } وهو يوم مشتهر عندهم باجتماع الناس فيه : { وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً } أي : ضحوة النهار ليكون الأمر مكشوفاً لا سترة فيه : { فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ } أي انصرف عن المجلس : { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } أي : ما يكيد به موسى ، من السحرة وأدواتهم : { ثُمَّ أَتَى } أي : الموعد ومعه ما جمعه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } [ 61 - 63 ] .
{ قَالَ لَهُمْ مُوسَى } أي : مقدماً لهم النصح والإنذار ، لينقطع عذرهم : { وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً } أي : لا تخيلوا للناس بأعمالكم ، إيجاد أشياء لا حقائق لها ، وأنها مخلوقة وليست مخلوقة . فتكونوا قد كذبتم على الله تعالى : { فَيُسْحِتَكُمْ } أي : يستأصلكم : { بِعَذَابٍ } أي : هائل لغضبه عليكم : { وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى قَالُوا } أي : بطريق التناجي والإسرار : { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } أي : بمذهبكم الأفضل . وهو ما كانوا عليه . يعنون أن قصد موسى وهارون هو عزل فرعون عن ملكه ، يجعله عبداً لغيره ، واستقرارهما في مكانه ، وجعل قومهما مكانكم . وإلجائكم إلى مبارحة أرضكم ، وإبطال طريقتكم بسحرهما الذي يريدان إعجازكم به . و : { الْمُثْلَى } تأنيث الأمثل ، بمعنى الأفضل . ودعواهم ذلك ، لأن كل حزب بما لديهم فرحون .
لطيفة :
في قوله تعالى : { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } قراءات :
الأولى : { إِنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ } بتشديد النون من إِنَّ وهَذَيْنِ بالياء وهي قراءة أبي عَمْرو ، وهي جارية على السَّنَنِِ المشهور في عمل إِنَّ .
الثانية : { إنِْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } بتحفيف إِنَّ وإهمالها عن العمل ، كما هو الأكثر فيها إذا خففت . وما بعدها مرفوع بالابتداء والخبر . واللام لام الابتداء فرقاً بينها وبين النافية . ويرى الكوفيون أن اللام هذه بمعنى إِلاّ وإِنْ قبلها نافية ، واستدلوا على مجيء اللام للاستثناء بقوله :
~أمس أبانُ ذليلاً بعد عِزَّتِهِ وما أبانُ لَمِنْ أعلاج سُودَانِ
والثالثة : { إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } بتشديد إِنَّ وهذان بالألف . وخرّجت على أوجه :
أحدها : موافقة لغة من يأتي في المثنى بالألف في أحواله الثلاث . وهم بنو الحارث بن كعب وخثعم وَزُبَيْد وكنانة وآخرون . قال قائلهم :
~تَزَوَّدَ مِنَّا بين أُذْنَاهُ طَعْنَةً
وقال آخر :
~إنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا قد بلَغَا فِي الْمَجْدِ غَايَتَاهَا
وثانيها : إِنَّ إِنَّ بمعنى نعم حكاه المبرد . واستدل بقول الراجز :
~يا عمر الخيرِ جُزِيتَ الجَنَّهْ اكسُ بُنَيَّانِي وَأُمَّهُنَّهْ
~وَقُلْ لَهُنَّ : إِنَّ أَنَّ إِنَّهْ أُقْسِمُ باللهِ لَتَفْعَلَنَّهْ
وقول عبد الله بن قيس الرُّقَيَّات :
~ويَقُلْنَ شيب قد علا ك وقد كَبرْتَ فقلتُ إِنَّهُ
وردَّ على المبرد أبو علي الفارسي ، بأنه لم يتقدم ما يجاب بنعم وأجاب الشمنّي ، بأن التنازع فيما بينهم ، وإسرار النجوى ، يتضمن استخبار بعضهم من بعض . فهو جواب للاستخبار الضمنيّ . ولا يخفى بعده . فإن إسرار النجوى فيما بينهم ليس في الاستخبار عن كونهما ساحرين ، بل هم جزموا بالسحر فقالوا : { أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ } [ 57 ] ، ثم أسروا النجوى فيما يغلبان به موسى . إلا أن يقال : محطّ الجواب قوله : { فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ } الخ ، وما قبله توطئة . وقد رد في " المغني " هذا التخريج ؛ بأن مجيء نعم شاذ حتى نفاه بعضهم . ومنعه الدمامينيّ ؛ بأن سيبويه والحذّاق حكوه عن الفصحاء . وعليه ، فاللام في : { لَسَاحِرانِ } لام الابتداء ، زحلقت للخبر . وأبى البصريون دخولها على الخبر . وزعموا أنها في مثله داخلة على مبتدأ محذوف ، أو زائدة ، أو دخلت مع إن التي بمعنى نعم لشبهها بالمؤكدة لفظاً .
وأقول : فيه تكلف . والشواهد على اقتران الخبر باللام كثيرة .
وثالثها : أنه لما كان الإعراب لا يظهر في الواحد ، وهو هذا جعل كذلك في التثنية ، ليكون المثنى كالمفرد . لأنه فرع عليه . واختار هذا القول الإمام العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى ، وزعم أن بناء المثنى ، إذا كان مفرده مبنيّاً ، أفصح من إعرابه . قال : وقد تفطن لذلك غير واحد من حذاق النحاة . ثم اعترض بأمرين :
أحدهما : أن السبعة أجمعوا عل الياء في قوله تعالى : { إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ } [ القصص : 27 ] ، مع أن هاتين تثنية هاتا وهو مبني .
والثاني : أن الذي مبني وقد قالوا في تثنيته اللَّذَيْنِ في الجر والنصب . وهي لغة القرآن ، كقوله تعالى : { رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا } [ فصلت : 29 ] ، وأجاب الأول ؛ بأنه إنما جاء هاتين بالياء على لغة الإعراب لمناسبة ابنتيّ قال : فالإعراب هنا أفصح من البناء ، لأجل المناسبة . كما أن البناء في : { إِنّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } أفصح من الإعراب لمناسبة الألف في هذان للألف في ساحران . وأجاب عن الثاني بالفرق بين اللذان وهذان بأن اللَّذان تثنية اسم ثلاثي ، فهو شبيه بالزيدان وهذان تثنية اسم على حرفين . فهو عريق في البناء لشبهه بالحروف . قال رحمه الله : وقد زعم قوم أن قراءة من قرأ إنّ هذان لحن وإن عثمان رضي الله عنه قال : إن في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها . وهذا خبر باطل لا يصح من وجوه .
أحدها : إن الصحابة كانوا يتسارعون إلى إنكار أدنى المنكرات ، فكيف يقرّون اللحن في القرآن ، مع أنهم لا كلفة عليهم في إزالته ؟ .
والثاني : أن العرب كانت تستقبح اللحن غاية الاستقباح في الكلام , فكيف لا يستقبحون بقاءه في المصحف ؟ .
والثالث : أن الاحتجاج بأن العرب ستقيمه بألسنتها غير مستقيم . لأن المصحف الكريم يقف عليه العربي والعجمي .
والرابع : أنه قد ثبت في الصحيح أن زيد بن ثابت أراد أن يكتب التابوت بالهاء على لغة الأنصار ، فمنعوه من ذلك ورفعوه إلى عثمان رضي الله عنهم . فأمرهم أن يكتبوه بالتاء على لغة قريش . ولما بلغ عمر رضي الله عنه أن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ : عَتَّى حين ، على لغة هذيل ، أنكر ذلك عليه وقال : أقرئ الناس بلغة قريش . فإن الله تعالى إنما أنزله بلغتهم ، ولم ينزله بلغة هذيل . انتهى كلام تقي الدين مخلصاً .
هذا حاصل ما في " المغني " و " الشذور " و " حواشيهما " وفي الآية وجوه أخرى استقصتها المطولات . وما ذكرناه أرقها . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى } [ 64 ] .
{ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ } تصريح بالمطلوب ، إثر تمهيد المقدمات . والفاء فصيحة . أي إذا كان الأمر كما ذكر ، من كونهما ساحرين ، يريدان بكم ما ذكر من الإخراج ، والإذهاب ، فأزمعوا كيدكم واجعلوه مجمعاً عليه ، بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم . أفاده أبو السعود . وقوله تعالى : { ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً } أي : مصطفين ، ليكون أهيب في صدور الرائين : { وَقَدْ أَفْلَحَ } أي : فاز بالإنعامات العظيمة من فرعون وملئه : { الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى } أي : علا وغلب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [ 65 - 66 ] .
{ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ } أي : التي ألقوها : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } أي : حيّات تسعى على بطونها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } [ 67 - 69 ] .
{ فَأَوْجَسَ } أي : أحس : { فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى } وذلك لما جُبِلَ عليه الإنسان من النفرة من الحيات . أو خاف من توهم الخلق المعارضة ، بأن لهم من حبالهم وعصيهم حيات . كما أن له من عصاه حيَّة : { قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا } أي : تلتقطه بفمها : { إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ } في مقابلة آية ربانية : { وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } أي : لا يفوز بمطلوبه ، أي : مكانٍ جَاءَ لدفع الحق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى } [ 70 - 71 ] .
{ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً } أي : فألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا فأَلْقيَ السَّحَرَةُ سُجَّدَاً ، تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر ، وإنما هي آية ربانية : { قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ } أي فرعون : { آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } أي : فاتفقتم معه ليكون لكم الملك : { فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ } أي : من جانبين متخالفين : { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } أي : التي هي أقوى الأخشاب وأخشنها : { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى } يعني أنكم إنما آمنتم برب موسى خوفاً من شدة عذابه . أو من تخليده في العذاب : { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى } فإن رب موسى لم يقطع من أحد يده ورجله من خلاف ، ولم يصلبه في جذوع النخل ، ولم يبقه مصلوباً ، قاله المهايميّ . وضعّفه الزمخشري بأن فرعون يريد نفسه وموسى عليه السلام ، بدليل قوله : { آمَنْتُمْ لَهُ } أي : لموسى . واللام مع الإيمان ، في كتاب الله لغير الله تعالى كقوله تعالى : { يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ التوبة : 61 ] وقصده إظهار اقتداره وبطشه ، وما جرى [ في المطبوع : ضرى ] به من تعذيب الناس بأنواع العذاب . وتوضيع موسى عليه السلام واستضعافه مع الهزء به ، لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } [ 72 ] .
{ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ } أي : نختارك بالإيمان والاتباع : { عَلَى مَا جَاءَنَا } أي : من الله على يد موسى : { مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا } أي : وعلى الذي خلقنا . واختيارُ هذا الوصف للإشعار بعلة الحكم . فإن خالقيته تعالى لهم ، وكون فرعون من جملة مخلوقاته ، مما يوجب عدم إيثارهم له عليه ، سبحانه و تعالى . وهذا جواب منهم لتوبيخ فرعون بقوله : { آمَنْتُمْ لَهُ } وقيل هو قسم محذوف الجواب : { فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ } أي : اصنع ما أنت صانعه . وهذا جواب عن تهديده بقوله : { لَأُقَطِّعَنَّ } الخ : { إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي : فيها وهي لا بقاء لها ، ولا سلطان لك بعدها . وإنما البغية الآخرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [ 73 ] .
{ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } أي : ثواباً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى } [ 74 ] .
{ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا } أي : فينقضي عذابه : { وَلا يَحْيَى } أي : حياة طيبة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى } [ 75 ] .
{ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى } أي : المنازل الرفيعة بسبب إيمانهم وعملهم الصالح .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى } [ 76 ] .
{ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى } أي : تطهر من دنس الكفر والمعاصي ، بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة .
لطائف :
من " الكشاف " و " حواشيه للناصر " .
الأولى : في تخيير السحرة بين إلقاء موسى وإلقائهم ، استعمال أدب حسن معه ، وتواضع له وخفض جناح . وتنبيه على إعطائهم النصفة من أنفسهم . وكأن الله عزّ وعلا ألهمهم ذلك ، وعلم موسى - صلوات الله عليه - اختيار إلقائهم ، أوّلاً ، مع ما فيه من مقابلة أدب بأدب ، حتى يبرزوا ما معهم من مكايد السحر ، ويستنفدوا أقصى طرقهم ومجهودهم . فإذا فعلوا أظهر الله سلطانه ، وقذف بالحق على الباطل فدمغه ، وسلط المعجزة على السحر فمحقته ، وكانت آية نيرة للناظرين . وعبرة بينة للمعتبرين . وقبل ذلك تأدبوا معه بقولهم : { فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ } ففوضوا ضرب الموعد إليه ، وكما ألهم الله عزَّ وجلَّ موسى ها هنا ، أن يجعلهم مبتدئين بما معهم ، ليكون إلقاؤه العصا ، بعدُ ، قذفاً بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ، كذلك ألهمه من الأول ، أن يجعل موعدهم يوم زينتهم وعيدهم ، ليكون الحق أبلج على رؤوس الأشهاد ، فيكون أفضح لكيدهم وأهتك لستر حرمهم .
الثانية : جوز في إِيثار قوله تعالى : { مَا فِي يَميِنِكِِ } على : { عَصَاكَ } وجهان :
أحدها : أن يكون تعظيماً لها . أي : لا تحتفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة . فإِن في يمينك شيئاً أعظم منها كلها . وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عنده . فألقه يتلقفها بإذن الله ويمحقها .
وثانيهما : أن يكون تصغيراً لها أي : لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم . وألق العُوَيْد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك . فإِنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها ، وصغره وعظمها . وإِنما المقصود بتحقيرها في جنب القدرة ، تحقير كيد السحرة بطريق الأوْلى . لأنها إذا كانت أعظمُ مُنَّةً وهي حقيرة في جانب قدرة الله تعالى ، فما الظن بكيدهم وقد تلقفته هذه الحقيرة الضئيلة ؟
ولأصحاب البلاغة طريق في علوّ المدح بتعظيم جيش عدوّ الممدوح ، ليلزم من ذلك تعظيم جيش الممدوح وقد قهره واستولى عليه . فصغر الله أمر العصا ، ليلزم منه كيد السحرة الداحض بها في طرفة عين .
واعلم أنه لا بد من نكتة تناسب الأمرين - التعظيم والتحقير - وتلك ، والله أعلم ، هي إرادة المذكور مبهماً ، لأن : { مَا فِي يَميِنِكِِ } أبهم مِنْ : { عَصَاكَ } وللعرب مذهب في التنكير والإبهام ، والإجمال ، تسلكه مرة لتحقير شأن ما أبهمته ، وأنه عند الناطق به أهون من أن يخصه ويوضحه . ومره لتعظيم شأنه ، وليؤذن أنه من عناية المتكلم والسامع بمكان ، يغني في الرمز والإِشارة . فهذا هو الوجه في إِسعاده بهما جميعاً .
ثم قال الناصر : وعندي في الآية وجه سوى قصد التعظيم والتحقير . والله أعلم . وهو ؛ أن موسى عليه السلام ، أول ما علم أن العصا آية من الله تعالى ، عندما سأله عنها بقوله تعالى : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى } ثم أظهر له تعالى آيتها ، فلما دخل وقت الحاجة إلى ظهور الآية منها ، قال تعالى : { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ } ليتيقظ بهذه الصيغة للوقت الذي قال الله تعالى له : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ } وقد أظهر له آيتها ، فيكون ذلك تنبيهاً له وتأنيساً ، حيث خوطب بما عهد أن يخاطب به وقت ظهور آيتها . وذلك مقام يناسب التأنيس والتثبيت . ألا ترى إلى قوله تعالى : { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى } ؟ انتهى .
ولأبي حيان نكتة أخرى . وهي ما في اليمين من الإشعار باليمن والبركة . ولا يقال جاء في سورة الأعراف : { أَلْقِ عَصَاكَ } والقصة واحدة . لأنه يجاب بأنه مانع من رعاية هذه النكتة فيما وقع هنا ، وحكاية ما جاء بالمعنى .
هذا وقال الشهاب الخفاجي : فيما ذكروه نظر لأنه إنما يتم إذا كان الخطاب بلفظ عربي أو مرادفٍ له ، يجري فيه ما يجري فيه . والأول خلاف الواقع . والثاني دونه خرط القتاد ، فتأمل .
أقول : إِنما استبعد الثاني ، لتوهم أن لا بلاغة ولا نكات إلا في اللغة العربية . مع أن الأمر ليس كذلك . وحينئذ فيتعين الثاني . وهو ظاهر . وبه تستعاد تلك اللطائف .
ثم أشار تعالى إلى عنايته بموسى وقومه ، من إِنجائهم وإِهلاك عدوهم ، وقد طوى هنا ما فصل في آيات أخر : بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى } [ 77 ] .
{ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي } أي : سر بهم من مصر ليلاً : { فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً } أي : يابساً . فضرب موسى بعصاه البحر فانفلق وجاوزه إلى ساحله : { لا تَخَافُ دَرَكاً } أي : لا تخاف من فرعون وجنوده أن يدركوك من ورائك { وَلا تَخْشَى } أي : غرقاً من بين يديك , ووحلاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى } [ 78 - 79 ] .
{ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ } لأنه ندم على الإِذن بتسريحهم من مصر ، وأنهم قهروه على قلتهم كما قال : { إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ } [ الشعراء : 54 - 55 ] ، فتبعهم ومعه جنوده حتى لحقوهم ، ونزلوا في الطريق الذي سلكوه . ففاجأهم الموج كما قال تعالى : { فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ } أي : علاهم منه وغمرهم ، ما لا يحاط بهوله : { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى } أي : أوردهم الهلاك ، بعتوّه وعناده في الدنيا والآخرة . وما هداهم سبيل الرشاد .
ثم ذكر تعالى نعمه على بني إِسرائيل ومننه الكبرى ، وما وصاهم من المحافظة على شكرها ، وحذرهم من التعرض لغضبه بكفرها ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا بَنِي إِسْرائيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } [ 80 - 81 ] .
{ يَا بَنِي إِسْرائيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ } وهو فرعون وقومه . فقد كانوا يسومونكم سوء العذاب . يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم . وذلك بأن أقر أعينكم منهم ، بإِغراقهم ، وأنتم تنظرون : { وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ } أي : بمناجاة موسى وإنزال التوراة عليه . واليهود السامرية تزعم أن هذا الجبل في نابلس ويسمونه جبل الطور ويذكر في الجغرافيا بلفظ عيبال ولهم عيد سنوي فيه يصعدون إليه ، ويقربون فيه القرابين . والله أعلم .
قال الزمخشري : وإِنما عدَّى المواعدة إليهم ، لأنها لابستهم واتصلت بهم ، حيث كانت لنبيهم ونقبائهم . وإِليهم رجعت منافعها التي قام بها دينهم وشرعهم ، وفيما أفاض عليهم من سائر نعمه وأرزاقه .
وجانب مفعول فيه ، أو مفعول به على الاتساع . أو بتقدير مضاف . أي : إِتيان جانب { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } أي : من لذائذه . فإِن المن كالعسل . والسلوى من الطيور الجيد لحمها : { وَلا تَطْغَوْا فِيهِ } أي : فيما رزقناكم ، بأن يتعدى فيه حدود الله ، ويخالف ما أمر به : { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } أي : هلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } [ 82 ] .
{ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } أي : تاب عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق ، وعمل صالحاً بجوارحه ، ثم اهتدى ، أي : استقام وثبت على الهدى المذكور . وهو التوبة والإِيمان والعمل الصالح . ونحوه قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } [ فصلت : 30 ] و [ الأحقاف : 13 ] ، وفي الآية ترغيب لمن وقع في وهدة الطغيان ، ببيان المخرج له منه ، كي لا ييأس . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى } [ 83 ] .
{ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى } أي : أي : شيء عجّل بك عنهم ، على سبيل الإنكار ، وكان قد مضى معه النقباء الذين اختارهم من قومه إلى الطور ، على الموعد المضروب ، ثم تقدمهم شوقاً إلى كلام ربه ورضاه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } [ 84 ] .
{ قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي } أي : قادمون ينزلون بالطور ، وإِنما سبقتهم بما ظننت أنه خير . ولذا قال : { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } أي : عني ، بمسارعتي إلى الامتثال بأمرك . واعتنائي بالوفاء بعهدك . وزيادة رَبِّ لمزيد الضراعة والابتهال ، رغبةً في قبول العذر . أفاده أبو السعود .
فإِن قيل : كان مقتضى جواب السؤال من موسى أن يقول : طلب زيادة رضاك أو الشوقُ إلى كلامك , فالجوابُ . أن هذا من الغفلة عن سرِّ الإنكار . وذلك لأن الإنكار بالذات إنما هو للبعد والانفصال عنهم . فهو منصبّ على القيد . كما عرف في أمثاله . فالسؤال في المعنى عن الانفصال الذي يتضمنه أعجلك المتعدي بمن . وإنكار العجلة لأنها وسيلة له . فالجواب : { هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي } . وقوله : { وَعَجِلْتُ } الخ تتميم . وقيل الجواب إنما هو قوله : { وَعَجِلْتُ } الخ ، وما قبله تمهيد له .
وقال الناصر : إنما أراد الله بسؤاله عن سبب العجلة ، وهو أعلم ، أن يعلم موسى أدب السفر . وهو أنه ينبغي تأخُّرُ رئيس القوم عنهم في المسير ، ليكون نظره محيطاً بطائفته ، ونافذاً فيهم ، ومهيمناً عليهم . وهذا المعنى لا يحصل في تقدمه عليهم ، ألا ترى الله عزّ وجلّ كيف علم هذا الأدب ، لوطا ، فقال : { وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ } [ الحجر : 65 ] ، فأمره أن يكون أخيرهم . على أن موسى عليه السلام إنما أغفل هذا الأمر مبادرة إلى رضاء الله عزَّ وجلَّ ، ومسارعة إلى الميعاد . وذلك شأن الموعود بما يسره ، يود لو ركب إليه أجنحة الطير . ولا أسَرَّ من مواعدة الله تعالى له صلى الله عليه وسلم . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } [ 85 ] .
{ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ } أي : ابتليناهم بعد ذهابك للمناجاة : { وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } يعني اليهوديّ الذي وسوس لهم أن يعبدوا عجلاً يتخذوه إلهاً ، لما طالت عليهم غيبة موسى ويئسوا من رجوعه . والسامري في لغة العرب ، بمعني اليهودي . وقد قال بالظن ، من ادعى تسميته أو حاول تعيينه . وأما الطائفة السامرية الآن فهم فئة من اليهود في نابلس قليلة العدد تخالف بقية اليهود في جلّ عاداتها .
وقد تضمنت هذه الجملة - أعني إخباره تعالى لموسى بالفتنة - الأمر - برجوعه لقومه ، وإصلاحه ما فسد من حالهم ، كما قال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي } [ 86 ] .
{ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً } أي : حزيناً : { قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً } أي : بإنزال التوراة عليَّ ، ورجوعي بها إليكم : { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ } أي : زمان الإنجاز ، أو مجيئي : { أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي } أي : وعدكم إياي بالثبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من الميقات .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } [ 87 - 88 ] .
{ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } قرئ بالحركات الثلاث على الميم .
قال الزمخشري : أي : ما أخلفنا موعدك ، بأن ملكنا أمرنا . أي : لو ملكنا أمرنا ، وخلينا وراءنا ، لما أخلفناه . ولكن غلبنا من جهة السامريّ وكيده : { وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا } بفتح الحاء مخففاً ، وبضمها وكسر الميم مشدداً : { أَوْزَاراً } أي : أثقالاً وأحمالاً : { مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ } أي : من حلي القبط ، قوم فرعون ، وهو حليُّ نسائهم : { فَقَذَفْنَاهَا } أي : في النار لسكبها : { فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ } أي : كان إلقاؤه : { فَأَخْرَجَ لَهُمْ } أي : من تلك الحليّ المذابة : { عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ } أي : صوت عجل . وقد قيل : إنه صار حيّاً ، وخار كما يخور العجل . وقيل : لم تحلّه الحياة وإنما جعل فيه منافذ ومخارق ، بحيث تدخل فيها الرياح فيخرج صوت يشبه صوت العجل . أفاده الرازي .
وقوله : { فَقَالُوا } أي : السامريُّ ومن افتتنوا به : { هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } أي : غفل عنه وذهب يطلبه في الطور . ثم أنكر تعالى على من ضل بهذا العجل وأضل . مسفهاً لهم فيما أقدموا عليه ، مما لا يشتبه بطلانه على أحد ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً } [ 89 ] .
{ أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ } أي : العجل : { إِلَيْهِمْ قَوْلاً } أي : لا يردد لهم جواباً : { وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً } أي : دفع ضرّ ولا جلب نفع ، أي : فكيف يتخذ إلهاً ؟ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي } [ 90 ] .
{ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ } أي : قبل رجوع موسى إليهم : { يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ } أي : ضللتم بعبادته : { وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي } في عبادته سبحانه ، ونبذ العجل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } [ 91 - 93 ] .
{ قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ } أي : موسى : { يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ } أي : في الغضب لله ، وشدة الزجر عن الكفر . و لا مزيدة . أو المعنى ما حملك على أن لا تتبعني ، بحمل النقيض على النقيض . فإن المنع عن الشيء مستلزم للحمل على مقابله . أو ما منعك أن تلحقني وتخبرني بضلالهم ، فتكون مفارقتك مزجرة لهم : { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } وهو ما أمره به من أن يخلفه في قومه ، ويصلح ما يراه فاسداً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } [ 94 ] .
{ قَالَ } أي : هارون : { يَا ابْنَ أُمَّ } بكسر الميم وفتحها . أراد أمي وذكرُها أعطف لقلبه : { لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي } أي : بشعره . وكان قبض عليهما يجره إليه من شدة غضبه : { إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ } أي : بتركهم لا راعي لهم : { وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } أي : لم تراعه في الاستخلاف والوجود بين ظهرانيهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ } [ 95 ] .
{ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ } أي : ثم أقبل على السامري وقال له منكراً : ما شأنك فيما صنعت ؟ وما دعاك إليه ؟ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً } [ 96 - 97 ] .
{ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ } أي : فطنت لما لم يفطنوا له : { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا } أي : في الحلي المذاب حتى حَيَّ : { وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } أي : حسّنته وزينته : { قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ } أي : لعذابك : { مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً } أي : لنطيّرنّه رماداً في البحر ، بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر .
تنبيهات :
الأول : اعلم أن هارون عليه السلام ، سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه . لأنه زجرهم عن الباطل ، أوّلاً بقوله : { إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ } ثم دعاهم لمعرفة الله تعالى ثانياً بقوله : { وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ } ثم دعاهم ثالثاً إلى معرفة النبوة بقوله تعالى : : { فَاتَّبِعُونِي } ثم دعاهم إلى الشرائع رابعاً بقوله : { وَأَطِيعُوا أَمْرِي } وهذا هو الترتيب الجيّد . لأنه لا بد قبل كل شيء في إماطة الأذى عن الطريق ، وهو إزالة الشبهات . ثم معرفة الله تعالى ، فإنها هي الأصل . ثم النبوة ثم الشريعة . فثبت أن هذا الترتيب على أحسن الوجوه . أفاده الرازي .
وقد برأ الله تعالى بهذه الآيات البينات ، هارون عليه السلام مما افتراه عليه كتبة التوراة من أنه هو السامري الذي اتخذ العجل وأمر بعبادته ، كما هو موجود عندهم . وهو من أعظم الفرى ، بلا امترا .
الثاني : عامة المفسرين قالوا : المراد بالرسول في قوله تعالى : { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ } هو جبريل عليه السلام . وأراد بأثره ، التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته . ثم اختلفوا : أن السامري متى رآه ؟ فقيل : إنما رآه يوم فلق البحر . وقيل : وقت ذهابه بموسى إلى الطور .
واختلفوا أيضاً في : أن السامري كيف اختص برؤية جبريل عليه السلام ، ومعرفته من بين سائر الناس ؟ فقيل إنما عرفه لأنه رآه في صغره ، وحفظه من قتل آل فرعون له ، وكان ممن رباه . وكل هذا ليس عليه أثارة من علم ولا يدل عليه التنزيل الكريم . ولذا قال أبو مسلم الأصفهاني : ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون . فههنا وجه آخر وهو : أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام . وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به ، فقد يقول الرجل : فلان يقفو أثر ويقبض أثره ، إذا كان يمتثل رسمه . والتقدير ، أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم ، والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في باب العجل ، فقال : { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ } أي : عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق ، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول ، أي : شيئاً من سنّتك ودينك . فقذفته ، أي : طرحته . فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة . وإنما أورد بلفظ الإخبار عن غائب ، كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له : ما يقول الأمير في كذا ؟ وبماذا يأمر الأمير ؟ .
وأما دعاؤه موسى عليه السلام رسولاً ، مع جحده وكفره ، فعلى مثل مذهب من حكى الله تعالى عنه قوله : { وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ] ، وإن لم يؤمنوا بالإنزال . انتهى .
قال الرازي : ما ذكره أبو مسلم أقرب إلى التحقيق مما ذكره المفسرون ، لوجوه :
أحدها : أن جبريل عليه السلام ليس بمشهور باسم الرسول . ولم يجر له فيما تقدم ذكر ، حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه . فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل عليه السلام ، كأنه تكليف بعلم الغيب .
وثانيها : أنه لا بد فيه من الإضمار . وهو قبضة من أثر حافر فرس الرسول , والإضمار خلاف الأصل .
وثالثها : أنه لا بد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته ؟ ثم كيف عرف أن لِتُرَابِ حافر فرسه هذا الأثر ؟ والذي ذكروه من أن جبريل عليه السلام هو الذي رباه ، فبعيد . لأن السامري ، إن عرف جبريل حال كمال عقله ، عرف قطعاً أن موسى عليه السلام نبيّ صادق . فكيف يحاول الإضلال ؟ وإن كان ما عرفه حال بلوغ ، فأي منفعة لكون جبريل عليه السلام مربياً له حال الطفولية ، في حصول تلك المعرفة ؟ انتهى .
التنبيه الثالث : في قوله : { لاَ مسَاسَ } وجوه :
أحدها : إني لا أَمَسُّ ولا أُمَسُّ .
وثانيها : المراد المنع من أن يخالط أحداً أو يخالطه أحد ، عقوبة له .
ثالثها : ما ذكره أبو مسلم من أنه يجوز في حمله : ما أريد مسي النساءَ , فيكون من تعذيب الله إياه انقطاع نسله . فلا يكون له ولد يؤنسه ، فيخليه الله تعالى من زينتي الدنيا اللتين ذكرهما بقوله : { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [ الكهف : 46 ] ، أي : لأن المسّ يكنى به عن النكاح كما في آية : { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } [ البقرة : 237 ] ، والله أعلم .
ولما فرغ موسى عليه السلام من إبطال ما دعا إليه السامري ، عاد إلى بيان الدين الحق ، فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } [ 98 ] .
{ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ } أي : المستحق للعبادة والتعظيم : { اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } أي : أحاط علمه كل شيء . ثم أشار تعالى إلى فضله ، فيما قصه على خاتم رسله صلوات الله عليه ، من أنباء الأنبياء ، تنويهاً بشأنه ، وزيادة في معجزاته ، وتكثيراً للاعتبار والاستبصار في آياته ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً } [ 99 ] .
{ كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً } أي : كتاباً عظيماً جامعاً لكل كمال ، وسمي القرآن : { ذِكْراً } لما فيه من ذكر ما يحتاج إلى الناس من أمر دينهم ودنياهم ، ومن ذكر آلاء الله ونعمائه . ففيه التذكير والمواعظ ، ولما فيه من الذكر والشرف له صلوات الله عليه ولقومه .
قال الرازي : وقد سمى تعالى كل كتبه ذكراً فقال : { فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ } [ النحل : 43 ] ، ثم ، كما بيّن تعالى نعمته بذلك ، بيّن شدة الوعيد لمن أعرض عنه ولم يؤمن به ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً } [ 100 - 101 ] .
{ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً } أي : إثماً . يعني عقوبة ثقيلة . شبهت بالحمل الثقيل لثقلها على المعاقَب وصعوبة احتمالها : { خَالِدِينَ فِيهِ } أي : في احتماله المستمر : { وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً } . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً } [ 102 - 103 ] .
{ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ } بدل من يوم القيامة أو منصوب بمحذوف . والنفخ في الصور تمثيل لبعث الله للناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق : { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } [ الزمر : 68 ] ، وعلينا أن يؤمن بما ورد من النفخ في الصور . وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور . والبحث وراء هذا ، عبث لا يسوغ للمسلم . أفاده بعض المحققين .
{ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ } أي : نسوقهم إلى جهنم : { يَوْمَئِذٍ زُرْقاً } أي : زرق الوجوه . الزرقة تقرب من السواد . فهو بمعنى آية : { وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [ آل عِمْرَان : 106 ] .
وقال أبو مسلم : المراد بهذه الزرقة شخوص أبصارهم . والأزرق شاخص ، لأنه لضعف بصره ، يكون محدقاً نحو الشيء يريد أن يتبينه . وهذه حال الخائف المتوقع لما يكره . وهو كقوله تعالى : { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ } [ إبراهيم : 42 ] ، نقله الرازي . والأول أظهر { يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ } أي : يتسارّون من الرعب والهول ، أو من الضعف ، قائلين : { إِنْ لَبِثْتُمْ } أي : في الدنيا : { إِلَّا عَشْراً } أي : عشر ليال .
قال الزمخشري : يستقصرون مدة لبثهم [ في المطبوع : لبثم ] في الدنيا ، إما لما يعاينون من الشدائد التي تذكرهم أيام النعمة والسرور ، فيتأسّفون عليها ويصفونها بالقصر . لأن أيام السرور قصار . وإما لأنها ذهبت عنهم وتَقَضَّتْ . والذاهب ، وإن طالت مدته ، قصير بالانتهاء . ومنه توقيع عبد الله بن المعتز تحت : أطال الله بقاءك كفى بالانتهاء قصراً . وإما لاستطالتهم الآخرة ، وأنها أبد سرمد ، يستقصر إليها عمر الدنيا ، ويتقالّ لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة . وقد استرجح الله قول من يكون أشد تقالاً منهم ، في قوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً } [ 104 ] .
{ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً } أي : أعدلهم رأياً : { إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً } ونحوه قوله تعالى : { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ } [ المؤمنون : 112 - 113 ] ، انتهى .
قال أبو السعود : ونسبة هذا القول إلى أمثلهم ، استرجاع منه تعالى له ، لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق ، بل لكونه أدلّ على شدة الهول . أي : ولكونه منتهى الأعداد القليلة . وكذلك لبثهم بالنسبة إلى الخلود السرمديّ ، وإلى تقضي الغائب الذي كأن لم يكن . ولا ينافي هذا ما جاء في آية : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ } [ الروم : 55 ] ، لأن المراد بالساعة الحصة من الزمان القليل ، فتصدق باليوم . كما أن المراد باليوم مطلق الوقت . ولذلك نكر ، تقليلاً له وتحقيراً .
قال الشهاب : ليس المراد بحكاية قول من قال عَشْراً أو يَوْمَاً أو سَاعَةً حقيقة اختلافهم في مدة اللبث ، ولا الشك في تعيينه . بل المراد أنه لسرعة زواله ، عبّر عن قلّته بما ذكر . فتفنن في الحكاية ، وأتى في كل مقام بما يليق به .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً } [ 105 - 107 ] .
{ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ } أي : هل تبقى يوم القيامة أو تزول : { فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } أي : يزيلها عن مقارّها . فيسيّرها مقذوفة في الفضاء . وقد تمرّ على الرؤوس مرّ السحاب . حتى تتساوى مع سطح الأرض . كما قال : { فَيَذَرُهَا } أي : فيذر مقارّها ومراكزها . أو الأرض المدلول عليها بقرينة الحال : { قَاعاً } أي : سهلاً مستوياً : { صَفْصَفاً } أي : أملس : { لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً } أي : نتوءاً يسيراً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً } [ 108 ] .
{ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ } أي : يُجيبون الداعي إلى المحشر ، فينقلبون من كل صوب إليه : { لا عِوَجَ لَهُ } أي : لا يعوج له مدعوّ ، ولا ينحرف عنه . بل يستوون إليه . متبعين لصوته ، سائرين بسيره .
في شروح " الكشاف " : هذا كما يقال : لا عصيان له , أي : لا يعصى . ولا ظلم له أي : لا يظلم . وضمير له : للداعي . وقيل : للمصدر . أي : لا عوج لذلك الاتباع : { وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ } أي : انخفضت لهيبه ولهول الفزع : { فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً } أي : صوتاً خفيّاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } [ 109 ] .
{ يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } أي : قبل قوله .
والمعنى : يومئذ لا يستطيع أحد أن يشفع لأحد ، إلا إذا أذن الله له . ولا يأذن إلا لمن علم أنه سيجاب .
قال بعض المحققين : وإنما يكون الكلام ضرباً من التكريم ، لمن يأذن الله له به ، يختص به من يشاء . ولا أثر فيما أراد الله البتة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [ 110 ] .
{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } أي : بمعلوماته ، أو بذاته العلية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } [ 111 ] .
{ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } أي : ذلت وخضعت خضوع العناة ، أي : الأسارى . لأنها في أسر مملكته وذلّ قهره وقدرته . لا تحيا ولا تقوم إلا به .
ولما كانت الوجوه يومئذ ، منها الظالمة لنفسها ومنها الصالحة ، أشار إلى ما يجزي به الكل ، بقوله سبحانه : { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } أي : خسر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً } [ 112 ]
{ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً } أي : نقص ثواب : { وَلا هَضْماً } أي : ولا كسراً منه ، بعدم توفيته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } [ 113 ] .
{ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ } أي : بعبارات شتى ، تصريحاً وتلويحاً ، وضروب أمثال ، وإقامة براهين : { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي : الكفر والمعاصي بالفعل : { أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } أي : اتعاظاً واعتباراً ، يؤول بهم إلى التقوى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً } [ 114 ] .
{ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } أي : تناهى في العلوّ والعظمة ، بحيث لا يقدر قدره ، ولا يغدر أمره في ملكه الذي يعلو كل شيء ، ويصرفه بمقتضى إرادته وقدرته . وفي عدله الذي يوفي كل أحد حقه بموجب حكمته : { وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } أي : بل أنصت . فإذا فرغ المَلَك من قراءته فاقرأه بعده . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقَّنه جبريل الوحيَ ، يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة ، لكمال اعتنائه بالتلقي والحفظ . فأرشد إلى أن لا يساوقه في قراءته ، وأن يتأنَّى عليه ريثما يسمعه ويفهمه . ثم ليقبل عليه بالحفظ بعد ذلك . ونحوه قوله تعالى : { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [ القيامة : 16 - 19 ] ، ثم أمره تعالى باستفاضة العلم واستزادته منه بقوله : { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً } أي : سله زيادة العلم . فإن مدده غير متناه .
وهذا - كما قال الزمخشري - متضمن للتواضع لله تعالى والشكر له ، عندما علم من ترتيب التعلم . أي : علمتني يا رب لطيفة في باب التعلم ، وأدباً جميلاً ما كان عندي ، فزدني علماً إلى علم . فإن لك في كل شيء حكمة وعلماً . قيل : ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم .
ثم أشار تعالى إلى أخذه العهد على بني آدم ، من اتّباعهم كل هدى يأتيهم منه سبحانه ، وترتب الفوز عليه . وإلى أن الإعراض عنه من وسوسة الشيطان ، العدوّ لهم ولأبيهم قبلهم . وترتب الشقاء عليه ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ 115 ] .
{ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ } أي : من قبل هذا الزمان ، أن لا يقرب من الشجرة : { فَنَسِيَ } أي : العهد : { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } أي : تصميماً في حفظه . إذ لو كان كذلك ، لما أزلّه الشيطان ولما استطاع أن يغرّه . كما بيّنه الله تعالى بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى } [ 116 - 117 ] .
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى } أي : بالابتلاء . وإسناد الشقاء إليه خاصة ، لأصالته في الأمور ، واستلزام شقائه بشقائها . فاختصر الكلام لذلك ,مع المحافظة على الفاصلة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى } [ 118 - 119 ] .
{ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى } أي : لا تتصوّن من حرّ الشمس .
قال أبو السعود : هذا تعليل لما يُوجبه النهي . فإن اجتماع أسباب الراحة فيها . مما يوجب المبالغة في الاهتمام بتحصيل مبادئ البقاء فيها . والجدِّ في الانتهاء عما يؤدي إلى الخروج عنها . والعدولُ عن التصريح بأن له عليه السلام فيها تنعماً بفنون النعم . من المآكل والمشارب ، وتمتعَاً بأصناف الملابس البهية والمساكن المرضية ، مع أن فيه من الترغيب في البقاء فيها ، ما لا يخفى . إلا ما ذكر من نفي نقائضها التي هي الجوع والعطش والعري والضحو ، لتذكير تلك الأمور المنكرة والتنبيه على ما فيها من أنواع الشقوة التي حذره عنها ، ليبالغ في التحامي عن السبب المؤدي إليها . انتهى .
لطيفة :
قال الناصر : في الآية سر بديع من البلاغة ، يسمى قطع النظير عن النظير . وذلك أنه قطع الظمأ عن الجوع ، والضحو عن الكسوة ، مع ما بينهما من التناسب . والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم وتصنيفها , ولو قرن كلَّاً بشكله لتوهم المعدودات نعمة واحدة . وقد رمق أهل البلاغة سماء هذا المعنى قديماً وحديثاً ، فقال الكندي الأول :
~كَأَنِّي لَم أَرْكَبْ جَوَاداً لِلذَّةٍ ولم أَتَبَطَّن كَاعِباً ذاتَ خِلخَالِ
~ولم أسبأ الزِّقَّ الرويّ ولم أقُل لخيليَ : كُرِّي كَرَّةً بعدَ إِجفَالِ
فقطع ركوب الجواد عن قوله : لخيلي كري كرة , وقطع تبطن الكاعب عن ترشف الكاس ، مع التناسب . وغرضه أن يعدّد ملاذَّه ومفاخره ويكثرها .
على أن هذه الآية سرّاً لذلك ، زائداً على ما ذكر ، وهو قصد تناسب الفواصل . ولو قرن الظمأ بالجوع فقيل : إن لك أن لا تجوع فيها ولا تظمأ, لانتثر سلك رؤوس الآي . وأحسنْ به منتظماً . انتهى . وهذا السرّ الذي سمّاه : قطع النظير عن النظير يسمى بالوصل الخفي . ومما قيل في وجه القطع : أن فيه التنبيه على أن الأوليْن ، أعني الشبع والكسوة أصلان . وأن الأخيرين متممان . فالامتنان على هذا أظهر . ولذا فرّق بين القرينتين . فقيل إنَّ لَكَ وأنَّك وأيضاً روعي مناسبة الشبع والكسوة . لأن الأول يكسو العظام لحماً . وأما الظمأ والضحى فمن وادٍ واحد . وقيل : إن الغرض تعديد هذه النعم . ولو قرن كل بما يشاكله ، لتوهم المقرونان نعمة واحدة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } [ 120 - 121 ] .
{ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ } أي : من أكل منها خلد ولم يمت : { وَمُلْكٍ لا يَبْلَى فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا } أي : يلزقان : { مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ } أي : لهما هذا الخزي ، بدل عزّ الملك المخلد . وهذه الأوراق الفانية ، بدل نفائس الملابس الخالدة : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ } أي : بارتكاب النهي ، وترك العزم في حفظ العهد : { فَغَوَى } أي : عن المأمور به . حيث اعتز بقول العدوّ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } [ 122 - 123 ] .
{ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ } أي : اصطفاه ووفقّه للإنابة : { فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى قَالَ } أي : بعد قبول توبته : { اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً } أي : انزلا من الجنة إلى الأرض : { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } أي : متعادين .
قال المهايمي : فالمرأة عدوّة الزوج ، في إلجائه إلى تحصيل الحرام . والزوج عدوّها في إنفاقه عليها . وإبليس يوقع الفتنة بينهما , ويدعوهما إلى أنواع المفاسد التي لا ترتفع إلا باتباع الأمر السماويّ { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً } أي : من كتاب ورسول { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } أي : لا في الدنيا ولا الآخرة . قال أبو السعود : ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله : هُدَايَ مع الإضافة إلى ضميره تعالى ، لتشريفه والمبالغة في إيجاب اتباعه . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } [ 124 - 127 ] .
{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } اعلم أنه لما أخبر سبحانه عن حال من اتبع هداه في معاشه ومعاده ، أخبر عن حال من أعرض عنه ولم يتبعه ، من شقائه في الدنيا والآخرة . وهذا الشقاء بقسميه ، هو نوع من أفانين العذاب اللاحقة لمن تولى عن هدى الله الذي بعث به خاتم أنبيائه ، ولم يقبله ولم يستجب له ، ولم يتعظ به فينزجر عما هو عليه مقيم من خلافه أمرَ ربه .
وفي الآية مسائل :
الأولى : قال الرازي في قوله تعالى : { عَن ذِكْرِي } : الذكر يقع على القرآن وعلى سائر كتب الله تعالى . ويحتمل أن يراد به الأدلة . وقال ابن القيّم في " مفتاح دار السعادة " : أي : عن الذكر الذي أنزلته . والذكر هنا مصدر مضاف إلى الفاعل . كقيامي وقراءتي لا إلى المفعول . وليس المعنى : ومن أعرض عن أن يذكرني . بل هذا لازم المعنى ومقتضاه من وجه آخر . وأحسن من هذا الوجه أن يقال : الذكر هنا مضاف إضافة الأسماء ، لا إضافة المصادر إلى معمولاتها . والمعنى : ومن أعرض عن كتابي ولم يتبعه ، فإن القرآن يسمى ذكراً . قال تعالى : { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ } [ الأنبياء : 50 ] ، وقال تعالى : { ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ } [ آل عِمْرَان : 58 ] . وقال تعالى : { وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } [ القلم : 52 ] . وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ } [ فصلت : 41 ] . وقال تعالى : { إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ } [ يس : 11 ] ، وعلى هذا فإضافته كإضافة الأسماء الجوامد التي لا يقصد بها إضافة العامل إلى معموله . ونظيره في إضافة اسم الفاعل : { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } [ غافر : 3 ] ، فإن هذه الإضافات لم يقصد بها قصد الفعل المتجدد ، وإنما قصد الوصف الثابت اللازم . ولذلك جرت أوصافاً على أعرف المعارف ، وهو اسم الله تعالى في قوله تعالى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ } [ غافر : 2 - 3 ] .
الثانية : قرئ ضَنكاً بالتنوين على أنه مصدر وصف به ، ولذا لم يؤنث لاستوائه في القبيلين . كما قال ابن مالك :
~وَنَعَتُوا بمصدرٍ كثيراً فالتَزَمُوا الإِفرادَ والتذكِيرَا
وفي القاموس : الضنك الضيق في كل شيء ، للذكر والأنثى . يقال : ضَنُكَ ككرم ، ضنكاً وضناكة وضنوكة ، ضاق . وقال السمين : ضنكاً صفة معيشة . وأصله المصدر فلذلك لم يؤنث . ويقع للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد . وقرأ الجمهور ضنكاً بالتنوين وصلاً وإبداله ألفاً وقفاً كسائر المعربات . وقرأت فرقة ضنكي بألف كسكري . وفي هذه الألف احتمالان : فإما أن تكون بدلاً من التنوين ، وإنما أجرى الوصل مجرى الوقف ، وإما أن تكون ألف التأنيث بني المصدر على فعلى نحو دعوى .
الثالثة : ذكروا في هذه المعيشة الضنك التي للكافر أقوالاً : إنها في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة أو في الدين . والأظهر الأول لمقابلته بالوعيد الأخروي . قال ابن كثير : أي : ضنكاً في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره . بل صدره ضيّق حرج لضلاله ، وإن تنعم ظاهره ، ولبس ما شاء ، وأكل ما شاء . وسكن حيث شاء ، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى ، فهو في قلق وحيرة وشك . فلا يزال في ريبه يتردد : فهذا من ضنك المعيشة . انتهى .
وذلك لأن الاعتقاد بالدين الحق واليقين الصحيح لراحة الضمائر والأنفس ، فوق كل الأهواء والذات والمآرب . فالضنك المعنيّ بها ، إذن هو الضنك الحيويّ والقلق الدنيوي ، من اضطراب القلب وعدم سكون النفس إلى الاعتقاد الحق والإيمان بالدين القيّم الذي هو دين الإسلام . فكل من لم يؤمن به فهو في ضيق صدر وهموم ومحابس ، لا يجد منها مخارج إلا به ولا يرتاب في ذلك من كابر حسه وناقض وجدانه . فإن دين الإسلام هو دين الفطرة . دين اليسر . دين العقل . دين النور الذي تنشرح به الصدور وتطمئن به القلوب وتشفى به الأنفس من أدوائها ، وتهتدي به من ضلالها وحيرتها ، وتستنير به من ظلماتها . ولذلك سمي هدىً ونوراً وشفاءً ورحمةً . ألق نظرك على الأديان كلها ، وقابل بينها وبينه ، لتدرك ذلك .
هذه اليهودية ، يرى في اشتراعها في الآصار والأغلال والتكاليف الشاقة في المعيشة الحيوية ما لا يطاق . قيود في المأكل والمشرب . وحجر في المنكح والمبيت والمعاشرة . وضغط على الأنفس بتقسيمها إلى طاهرين يحضرون الاحتفالات ، ونجسين مبعدين لا يَلْمسون ولا يُلْمسون . دع عنك خرافات الاعتقادات والافتراء بالأهواء في التشريعات وتشعبها في الأهواء إلى شعب تتباين في العبادات .
وهذه النصرانية ، الذي أساسها تعديل الشرعة الموسوية قام رهبانها بعد رفع المسيح ، ومضي عصر الحواريين . فأطلقوا لأتباعهم كل قيد في اليهودية . وأمروهم بنبذ أحكام التوراة نكاية لليهود . وأخذوا يشرعون للناس ما لا ينطبق على أصل التوراة ولا بعثة عيسى . فإنه عليه السلام قال : ما جئت لأهدم الناموس - التوراة - بل لأتممه .
فترى ما أحدث من طقوس الكنيسة وتعاليمها ، اعتقاداً وعبادة وسلطة وسيطرة جائرة على العقل والفكر ، وربط الأمور بأيدي الكهنة حلاَّ وإبراماً ، تبعاً لرغائب الأنفس والشهوات ، مما يتضجر منه كل مسيحيّ ذاق جوهر الدين المسيحي حقّاً . إذ جوهره مع ابتداعهم على طرفي نقيض ، فأنَّى لا يضيق ذرعه ولا تضنك معيشته ! لذلك لما استقر سلطان الإسلام بالأندلس ، واحتك النصارى بالمسلمين في الحروب الصليبية ، واستمدوا من معارف الإسلام وعلومه ما قلد جيدهم منناً لا تنكر ؛ أخذوا يقاومون الكنيسة في حظرها على المعارف والفنون ، ومعاداتها للعلوم . وجرى بإغراء الكهنة ، من الدماء المسفوكة ما اسودت به صحف التاريخ . ثم كان الفوز لدعاة الإصلاح . وتفرقوا أحزاباً . ولا يزالون يتقربون إلى الإسلام ، بنبذهم سخائف ما ورثوه . ولذا تراهم في عيشة ضنك يسعون لأرقى مما هم عليه ، علماً بأن الدخائل والبدع في دينهم ، أفسدت عليهم ما أفسدت . ولن يتسنى لهم الرقي إلا بالرجوع إلى دين الفطرة . وهم يسعون إليه ، وإن كانوا لا يشعرون ، أو يشعرون ويتجاهلون . هذه رشحات من المعيشة الضنك لأمتين عظيمتين ، وهما تنتميان إلى كتابين منزلين . . فما ظنك بالمجوس والوثنيين وفرقهم التي لا تحصى . ولا يزال عقلاؤهم يطلبون التملص منها ، لكثرة خرافاتها وضررها ، نفساً ومالاً وعرضاً . فأهلها في شقاء وعذاب لا يشاكله عذاب . ومن نجا من ويلاتها بالإسلام ، لا يعد ولا يحصى . وقس على هؤلاء ، الطائفة المسماة بالماديين . وهم الدهريون والطبيعيون . فإنهم بلا ريب أضيق صدراً وأضنك معيشةً وأشد اضطراباً وأعظم فرقة . فلا يمكن أن يوجد اثنان على رأي واحد . بل يتصور كل منهم إلهه كما يهوى وكما تخيِّلُهُ له رغائبه وشهواته . قال بعضهم : هؤلاء الذين يحصرون دينهم في أن يعرف الإنسان الله ، ويكون مستقيماً في أعماله ، إذا سئلوا : ما هو الدين الطبيعي الذي تعترفون به ؟ فيجيبون إنما هو الذي يرشد إليه العقل عريّاً عن الوحي . فيقال لهم : العقل ، من حيث هو ، ضعيف متغيّر قاصر . يرى اليوم صوباً ما يراه في الغد خطأً . ويحكم اليوم على أمر أنه حلال مباح ، ويرى غداً أنه حرام لا يجوز إتيانه . تحمله أغراضه على استحلال ما يلذّ له وتجعله مستنفراً مما يضادّ أهواءه ، فكيف يكون صاحبه مستقيماً في أعماله ؟ وما هي القاعدة المطردة الثابتة للاستقامة عند هؤلاء ؟ وكل يرى نفسه ويخيّل له أنه مستقيم ! ! فالصيني مثلاً يرى نفسه مستقيماً ولو باع أو قتل أولاده . والهندي يرى هذه الاستقامة في نفسه ، ولو أحرق المرأة على جثة رجلها . والوثني يرى نفسه مستقيماً ، ولو ارتكب الفحشاء تكرمة للزهرة .
هذا ، وإن أكبر الفلاسفة ضلّوا في موادّ ما يشرعون . ولم يهتدوا لجادّة الاستقامة الحقة . فأنَّى يمكن لعامة الناس أن يكون لكل منهم دين طبيعي يقبله كيف شاء ، ويجعله كشيء مرن ، يمده إلى ما طاب له ، ويقصره عن كل ما عافه . فيختلف هذا الدين باختلاف العقول والأهواء فيهم . وكيف نسمي شريعة ثابتة عامة ، ما كان وقفاً على إرادة كل فرد وأهوائه ؟ وإذا سلمنا ، مجاراة ، أنه يوجد من كان ميّالاً طبعاً إلى الاستقامة والعدل والعفة ، فيحمله طبعه على ذلك ، فماذا نقول فيمن كان بالطبع محبّاً للانتقام والاعتداء والشهوات . لا سيما والعقل ضعيف والنفس أمّارة بالسوء ، فأنَّى يكون العقل وحده وازعاً عن ارتكاب المعاصي والجرائم . فما قضى سبحانه بشريعته لمخلوقاته رحمة منه بهم ، إلا لضعفهم وميلهم إلى الشر . وضعف الإنسان وانحرافه يقضي بإلزامه شريعة يخضع لها . فهي ضرورية له ضرورة نظام الأجرام الفلكية لها . وملازمة له ملازمة النطق والإدراك والحرية ، ولزوم الامتداد والثقل والجذب والدفع للأجرام الجامدة . وأول بينة على ملازمة الشريعة طبعَ الإنسان ، ما يجده في نفسه ووجدانه من انغراسها فيه انغراساً نظريّاً . حتى لا يمكنه أن يجرّد نفسه . مثلاً ، كيف يمكن للإنسان ، ولو مهما تعامى في الشر ، أن يجرّد نفسه عن تصور أنه خاضع لشريعة تنهاه عن القتل واختلاس مال غيره والاعتداء عليه بأيّ نوع كان ؟ فالشريعة مكتوبة على قلوبنا في ألواح لحمية . ومن بحث عن عموم سكان البسيطة ، وجد إجماع القبائل والشعوب قاطبة على شرائع ، وإن اختلفت في بعض موادها . والحرية التي منحت للإنسان إنما قيدت محاسنها بالشرائع والخضوع لها . وإلا فهي دمار لنظام العالم ، وجائحة للأدب ، وآفة لما غرس البارئ في عقول الناس أجمعين ، من عهد آدم إلى يومنا هذا . وذلك لاستلزامها إفساد الطبع الإنساني ، والإجحاف بالشرائع الأدبية . لأن الإنسان متى علم أن ليس له إله يثيب على الخير ويعاقب على الشر ، أطلق لنفسه عنان الفاسد ، واطّرح العذار في مضمار الشهوات وإحراز الرغائب ، قضاء لما يحسبه من سعادته ، واعتقاد أن نفسه ليست خالدة . وليس لسعادته موضوع خارج عن هذه العاجلة . ولاستلزامها أيضاً هدم الاجتماع الإنسانيّ والذهاب بشأفته . إذ لا ترعى بعد الله ذمة بين الملأ, ولا حرمة للسنن والشرائع, ولا برٌّ بالملوك ، ولا عدل بالرعية ، ولا محبة ولا صدق ولا وفاء ولا نحو ذلك مما هو ضروريّ بالذات لقيام الألفة البشرية ونظام العمران .
وبالجملة ، فلا يظنن أحد أن العالم يدوم أو يبقى فيه شيء من النظام أو الهيئة الاجتماعية ، إذا لم يكن الناس مقيّدين بشريعة إلهية ، تصدّ الفاجر عن الفجور . فكما أن الهواء ضروريّ للحياة الطبيعية ، فكذا الشريعة ضرورية للحياة الأدبية . فلا حياة للموجودات الحية دون هواء ، فكذا لا انتظام ولا هيئة في العالم دون الشريعة . انتهى .
وقال إمام مدقق ، في بحث تصحيح الاعتقاد وضرورته لطمأنينة النفس وسعادتها ، ما مثاله : إنا نرى أمام أعيننا بعضاً من الناس قد رزقوا صحة عظيمة وثروة جسيمة وتهذبوا بأنواع العلوم والمعارف ، ولكنهم كثيرو الضجر شديدو الحيرة . لا يكادون يشعرون بالراحة ولا يتلذذون بملذة . كأن لهم في لذة ألماً ، وبإزاء كل فرح ترحاً ، يحسّون بكآبة قد رانت على صدورهم : فلا يعلمون سببها ولا يعرفون موجبها . كآبة لا تزايلهم إلا بزوال عقولهم عنهم ، بكأس من الرحيق . فلذلك تراهم شديدي الكلف به كثيري التحرق لفقدانه ، لأنه دواؤهم الوحيد . ما سر هذا الأرق والضجر ، مع هذه الصحة الجسمية وتلك الثروة المالية ، وهما الأمران اللذان عليهما ، كما يزعمون ، مدار السعادة الإنسانية ؟ ما هذه الحيرة الوجدانية والوحشة الضميرية ، مع تهذبهم بأنواع العلم ، وهو كما يزعمون ، الشافي للناس من نزعات الوسواس ؟ .
أما يدلنا هذا الضجر السري على أن النفس تائقة لأمر ما ، إن غاب على الإنسان علمه ، فقد دله عليه أثره . وإن ذلك الأمر ليس هو صحة البدن ولا وفرة المال ولا كثرة البنين ، ولا سكنى القصور ، ولا أكل الصنوف ، ولا سماع العيدان ، ولا مغازلة الغيد . بل هو أمر آخر لا تعد هذه الملاذ بالنسبة له إلا هباء ، ولا الأكوان بجانبه إلا فناءً . . ما هو هذا الأمر السامي الذي لو حصلت عليه النفس اطمأنت وسكنت ، وهامت به وسكرت ، ورضيت به وقنعت . هو لا شك صحة المعتقد ، وإليك الدليل :
ليست النفس من طبيعة هذه الأجسام الصماء . ولا من طينة هذه المادة العمياء ، حتى تأنس إلى شيء من أشياء هذه الأرض الحقيرة ، أو تهتم بملاذها مهما كانت كبيرة . بل هي من طبيعة نورانية محضة . فلا تأنس إلا لنور يجلي عنها ظلمات الأشياء الأرضية الكثيفة ، لتشرف على حضرة القدس المنيفة ، وتطل على حظائرها الشريفة . النفس أجلّ من أن تقنع بالمشتهيات الجسمانية ، وأكبر من أن ترضى بملاذها المموهة الفانية . فمهما غالط الإنسان نفسه ، بجمع المال ورفاهة الحال ، ليرتاح سره ويسكن اضطرابه ، فإن النفس لا تفتأ تقيم عليه الحجة بعد الحجة ، ليهتدي إلى وَضَحِ المحجة . فإن تبصر في أمره ، واكتنه حقيقة سره ، وأنال نفسه بغيتها من إبلاغها نورها المرجوّ لها ، سكن فؤاده وآب إليه رشاده . ولو كان جسمه بين القنا والقنابل . وحاله من الفقر في أخس المنازل . فما هو السبيل إلى إبلاغ هذه النفس الهائمة أمنيتها ، وإمتاعها بطلبتها ، من صحة العقيدة ؟ السبيل لذلك هو العقل السليم . العقل في النوع الإنسانيّ خصيصة من أجلّ خصائصه ، ومنحة من أفضل منح الله عليه ، لو استعمل فيما وضع له ، واعتنى بصحته واعتداله . بالعقل يسبر الإنسان غور هذا الوجود العظيم ، على ضخامة أجزائه وعظم أبعاده ، ويستكنه سير النواميس السائدة عليه ، فيستدل بها على وجود الخالق عزَّ وجلَّ ، وعلى تنزه أفعاله عن العبث ، وصنائعه عن اللهو . كما يستدل به على علمه وتدبيره ورحمته وحكمته ، استدلالاً محسوساً لا يقبل شبهة ولا يداخله ريبة . بالعقل يدرس الإنسان أحوال الجمعيات البشرية . في نواميس رقيّها وهبوطها ، وأسباب رفعتها وضعتها . ويتصبر في أحوال الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى خلقه هادين مرشدين . فيستدل بالتدقيق فيما جاؤوا به ، وفي الآثار التي تركوها ، على معنى النبوّة وضرورتها للبشر . وحكمة الله تعالى في اختلاف المدارك والإحساسات ، وفي تباين الملل والديانات . بالعقل يميز الإنسان بين أحوال الماضي والحال . فيفرق تبعاً لذلك بين الديانات الخاصة وبين الديانات العامة . ويعثر بتعضيد العلم والبدائة ، على الديانة التي يجب أن تكون خاتمة الأديان كلها ، وباقية بقاء النوع الإنسانيّ ، وهي شريعة خاتم النبيين صلوات الله عليه وسلامه .
الرابعة : رأيت للإمام ابن القيّم ، رحمه الله ، كلاماً على هذه الآية في كتابيه : " الجواب الكافي " و " مفتاح دار السعادة " فأحببت نقله هنا لفوائده وللعناية بهذه الآية ، فإنها جديرة بذلك . قال في " الجواب الكافي " في فصل أَبَان فيه العقوبات المترتبة على المعاصي : ومنها المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ والعذاب في الآخرة . قال : وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر . ولا ريب أنه من المعيشة الضنك . والآية تتناول ما هو أعمّ منه ، وإن كانت نكرة في سياق الإثبات ، فإن عمومها من حيث المعنى . فإنه سبحانه رتّب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره . فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه ، وإن تنعم في الدنيا بأوصاف النعم ، ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب ، والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه ، وإنما تواريه عنه سكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة ، إن لم ينضم إلى ذلك سكر الخمر . فسكر هذه الأمور أعظم من سكر الخمر . فإنه يفيق صاحبه ، ويصحو . وسكر الهوى وحب الدنيا لا يصحو صاحبه إلا إذا سكر في عسكر الأموات . فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والبرزخ ويوم المعاد . ولا تقرّ العين ولا يهدأ القلب ولا تطمئن النفس إلا بإلهها ومعبودها الذي هو حق ، وكل معبود سواه باطل ، فمن قرت عينه بالله ، قرت به كل عين . ومن لم تقر عينه بالله , تقطعت نفسه على الدنيا حسرات . والله تعالى إنما جعل الحياة الطيبة لمن آمن بالله وعمل صالحاً ، كما قال تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ النحل : 97 ] ، فضمن لأهل الإيمان والعمل الصالح ، الجزاء في الدنيا بالحياة الطيبة ، والحسنى يوم القيامة . فلهم أطيب الحياتين وهم أحياء في الدارين . ونظير هذا قوله تعالى : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ } [ النحل : 30 ] ، ونظيرها قوله تعالى : { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } [ هود : 3 ] ، ففاز المتقون المحسنون بنعيم الدنيا والآخرة ، وحصلوا على الحياة الطيبة في الدارين ، فإن طيب النفس وسرور القلب وفرحه ولذته وابتهاجه وطمأنينته وانشراحه ونوره وسعته وعافيته ، من ترك الشهوات المحرمة والشبهات الباطلة ، هو النعيم على الحقيقة . ولا نسبة لنعيم البدن إليه ، فقد كان بعض من ذاق هذه اللذة يقول : لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه ، لجالدونا عليه بالسيوف . وقال آخر : إنه يمر بالقلب أوقات أقول فيها : إن كان أهل الجنة في مثل هذا ، إنهم لفي عيش طيّب . وقال آخر : إن في الدنيا جنة ، هي في الدنيا كالجنة في الآخرة . من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة .
وقد أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى هذه الجنة بقوله : < إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا . قالوا : وما رياض الجنة ؟ قال : حلق الذكر > . وقال : < ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة > ولا تظن أن قوله تعالى : { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار : 13 - 14 ] ، يختص بيوم المعاد فقط ، بل هؤلاء في نعيم في دورهم الثلاثة . وهؤلاء في جحيم في دورهم الثلاثة . وأي لذة ونعيم في الدنيا أطيب من بر القلب وسلامة الصدر ومعرفة الرب تعالى ومحبته والعمل على موافقته ؟ وهل عيش في الحقيقة إلا عيش القلب السليم ؟ وقد أثنى الله تعالى على خليله عليه السلام بسلامة قلبه فقال : { وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الصافات : 83 - 84 ] ، وقال حاكياً عنه أنه قال : { يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء : 88 - 89 ] ، والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرياسة . فسلم من كل آفة تبعده من الله ، وسلم من كل شبهة تعارض خبره ، ومن كل شهوة تعارض أمره . وسلم من كل إرادة تزاحم مراده . وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله . فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا ، وفي جنة في البرزخ وفي جنة يوم المعاد انتهى ملخصاً .
وقال رحمه الله في " مفتاح دار السعادة " : فَسَّرَ غير واحد من السلف قوله تعالى : { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً } بعذاب القبر . وجعلوا هذه الآية أحد الأدلة الدالة على عذاب القبر . ولهذا قال : { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } أي : تترك في العذاب كما تركت العمل بآياتنا . فذكر عذاب البرزخ وعذاب دار البوار ، ونظيره قوله تعالى في حق آل فرعون : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [ غافر : 46 ] ، فهذا في البرزخ : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } فهذا في القيامة الكبرى . ونظيره قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } فقول الملائكة : { الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } المراد به عذاب البرزخ الذي أوله يوم القبض والموت . ونظيره قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } [ لأنفال : 50 ] ، فهذه الإذاقة في البرزخ . وأولها حين الوفاة ، فإنه معطوف على قوله : { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } وهو من القول المحذوف لدلالة الكلام عليه كنظائره . وكلاهما واقع وقت الوفاة .
وفي الصحيح ، عن البراء بن عازب في قوله : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } [ إبراهيم : 27 ] ، قال : نزلت في عذاب القبر . والأحاديث في عذاب القبر تكاد تبلغ حد التواتر . والمقصود أن الله سبحانه أخبر أن من أعرض عن ذكره هو الهدى الذي من اتبعه لا يضل ولا يشقى ، بأن له معيشة ضنكاً ، وتكفل لمن حفظ عهده أن يحيه حياة طيبة ويجزيه أجره في الآخرة فقال تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ النحل : 97 ] ، فأخبر سبحانه عن فلاح من تمسك بعده علماً وعملاً في العاجلة بالحياة الطيبة ، وفي الآخرة بأحسن الجزاء . وهذا بعكس من له المعيشة الضنك في الدنيا والبرزخ ، ونسيانه في العذاب في الآخرة . وقال سبحانه : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } [ الزخرف : 36 - 37 ] ، فأخبر سبحانه أن ابتلاءه بقرينه من الشياطين وضلاله به ، إنما كان لسبب إعراضه وعشوّه عن ذكره الذي أنزله على رسوله . فكان عقوبة هذا الإعراض ، أن قيض له شيطاناً يقارنه فيصده عن سبيل ربه وطريق فلاحه . وهو يحسب أنه مهتد . حتى إذا وافى ربه يوم القيامة من قرينه ، وعاين هلاكه وإفلاسه قال : { يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ } [ الزخرف : 38 ] ، وكل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله ، فلا بد أن يقول هذا يوم القيامة .
فإن قيل : فهل لهذا عذر في ضلاله ، إذا كان يحسب أنه على هدى كما قال تعالى : { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } [ الزخرف : 37 ] ؟ قيل : لا عذر لهذا وأمثاله في الضلال ، الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول . ولو ظن أنه مهتد ، فإنه مفرط بإعراضه عن اتباع داعي الهدى . فإذا ضل فإنما أُتَي من تفريطه وإعراضه . وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة ، وعجزه عن الوصول إليها ، فذاك له حكم آخر .
والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول . وأما الثاني فإن الله لا يعذب أحداً إلا بعد إقامة الحجة عليه كما قال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] ، وقال تعالى : { رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [ النساء : 165 ] ، وقال تعالى في أهل النار : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ } [ الزخرف : 76 ] ، وقال تعالى : { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } [ الزمر : 56 - 59 ] ، وهذا كثير في القرآن .
الخامسة : قال ابن القيم : اختلف في قوله تعالى : { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [ 124 ] : { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى } [ 125 ] هل هو من عمى البصيرة أو من عمى البصر ؟ والذين قالوا هو من عمى البصيرة ، إنما حملهم على ذلك قوله تعالى : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [ 38 ] ، وقوله : { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ قّ : 22 ] ، وقوله : { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ } [ الفرقان : 22 ] ، وقوله : { لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ } [ التكاثر : 6 - 7 ] ، ونظائر هذا مما يثبت لهم الرؤية في الآخرة لقوله : { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ } [ الشورى : 45 ] ، وقوله : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ } [ الطور : 13 - 15 ] ، وقوله : { وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا } [ الكهف : 53 ] .
والذين رجحوا أنه من عمى البصر ، قالوا : السياق يدل عليه لقوله : { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً } وهو لم يكن بصيراً في كفره قط ، بل قد تبين له حينئذ أنه كان في الدنيا في عمى عن الحق . فكيف يقول : { وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً } وكيف يجاب بقوله : { كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا } ؟ بل هذا الجواب فيه تنبيه على أنه من عمي البصر وأنه جوزي من جنس عمله . فإنه لما أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله وعميت عنه بصيرته ، أعمى الله به بصره يوم القيامة ، وتركه في العذاب ، كما ترك الذكر في الدنيا ، فجازاه على عمى بصيرته عمى بصره في الآخرة . وعلى تركه ذكره ، تركه في العذاب . وقال تعالى : { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } [ الإسراء : 97 ] ، وقد قيل في هذه الآي أيضاً : إنهم عمي وبكم وصم عن الهدى . كما قيل في هذه الآية قوله : { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [ 124 ] ، قالوا لأنهم يتكلمون يومئذٍ ويسمعون ويبصرون .
ومن نَصَرَ أنه العمى والبكم والصمم ، المضادّ للبصر والسمع والنطق ، قال : هو عمي وصمم وبكم مقيد لا مطلق . فهو عمي عن رؤية ما يسرهم وسماعه . وهذا قد روي عن ابن عباس قال : لا يرون شيئاً يسرهم . وقال آخرون : هذا الحشر حين تتوفاهم الملائكة ، يخرجون من الدنيا كذلك . فإذا قاموا من قبورهم إلى الموقف قاموا كذلك . ثم إنهم يسمعون ويبصرون فيما بعد . وهذا مروي عن الحسن .
وقال آخرون : هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها ، سلبوا الأسماع والأبصار والنطق ، حين يقول لهم الرب تبارك وتعالى : { اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] ، فحينئذ ينقطع الرجاء وتبكم عقولهم فَيُبْصَرُونَ بأجمعهم ، عمياً بكماً صمّاً ، لا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون . ولا يسمع فيها بعدها إلا الزفير والشهيق . وهذا منقول عن مقاتل .
والذين قالوا : المراد به العمي عن الحجة ، إنما مرادهم أنهم لا حجة لهم ، ولم يريدوا أن لهم حُجَّةً ، هم عُمْيٌ عنها ، بل هم عُمْيٌ عن الهدى كما كانوا في الدنيا . فإن العبد يموت على ما عاش عليه . ويبعث على ما مات عليه . وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الآخر ، وأنه عمي البصر . وأن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عياناً ، ويقرّ بما كان يجحد في الدنيا . فليس هو أعمى عن الحق يومئذ .
وفصل الخطاب ؛ أن الحشر هو الضم والجمع . ويراد به تارة الحشر إلى موقف القيامة ، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم < إنكم محشورون إليّ حفاة عُراة > وكقوله تعالى : { وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } [ التكوير : 5 ] ، وكقوله تعالى : { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } [ الكهف : 47 ] ، ويراد به الضم والجمع إلى دار المستقر . فحشر المتقين جمعهم وضمهم إلى الجنة . وحشر الكافرين جمعهم وضمهم إلى النار . لأنه قد أخبر عنهم أنهم قالوا : { يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } [ الصافات : 20 - 21 ] ، ثم قال تعالى : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } [ الصافات : 22 ] ، الآية وهذا الحشر الثاني ، وعلى هذا فهم ما بين الحشر الأول من القبور إلى الموقف والحشر الثاني . يسمعون ويبصرون ويجادلون ويتكلمون ، وعند الحشر الثاني يحشرون على وجوههم عمياً وبكماً وصماً . ولكل موقف حال يليق به ، ويقتضيه عدل الرب تعالى وحكمته . فالقرآن يصدق بعضه بعضاً : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] . انتهى .
السادسة : قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } أي : لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك ، تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها . كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك : { فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا } [ الأعراف : 51 ] ، فإن الجزاء من جنس العمل . فالنسيان مجاز عن الترك .
قال ابن كثير : فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه ، والقيام بمقتضاه ، فليس دخلاً في هذا الوعيد الخاص . وإن كان متوعداً عليه من جهة أخرى . فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك .
روى الإمام أحمد عن سعد بن عُبَاْدَة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < ما من رجل قرأ القرآن فنسيه ، إلا لقي الله يوم يلقاه ، وهو أجذم > ؛ .
السابعة : قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ } الآية ، أي : وهكذا نجزي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة . وعذاب الآخرة أشد وأبقى ، من ضنك العيش في الدنيا . لكونه دائماً . ثم أشار تعالى إلى تقرير ما تقدم من لحوق العذاب ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى } [ 128 ] .
{ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } أي : لهؤلاء المكذبين : { كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ } أي : الأمم المكذبة للرسل : { يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } يريد قريشاً ، أي : يتقلّبون في بلاد عاد وثمود ولوط ويعاينون آثار هلاكهم ، وأن ليس لهم باقية ولا عين ولا أثر : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى } أي : العقول السليمة . كما قال تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً } [ 129 ] .
{ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً } بيان لحكمة تأخير عذابهم مع إشعار قوله : { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } الآية ، بإهلاكهم مثل هلاك أولئك والكلمة السابقة ، قال القاشانيّ : هو القضاء السابق أن لا يستأصل هذه الأمة بالدمار والعذاب في الدنيا ، لكون نبيّهم نبيّ الرحمة . وقوله سبحانه : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] .
وقال الزمخشري : الكلمة السابقة هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة . يقول : لولا هذه العدة لكان مثل إهلاكنا عاداً وثموداً لازماً لهؤلاء الكفرة . واللزام إما مصدر لازم كالخصام ، وصف به مبالغة . أو اسم آلة لأنها تبنى عليه كحزام وركاب ، واسمُ الآلة يوصف به مبالغة أيضاً ، كقولهم : مِسْعَرُ حَرْبٍ ، ولِزَاز خَصْمٍ بمعنى مُلَحّ علَى خَصمه . من لَزَّ بمعنى ضيق عليه .
وجوز أبو البقاء فيه كونه جمع لازم . كقيام جمع قائم .
وقوله تعالى : { وَأَجَلٌ مُسَمّىً } عطف على كلمة , أي : ولولا أجل مسمى لأعمارهم أو لعذابهم ، وهو يوم القيامة أو يوم بدر ، لما تأخر عذابهم أصلاً .
قال أبو السعود : وفصله عما عطف عليه ، للإشعار باستقلال كل منهما ، بنفي لزوم العذاب ومراعاة فواصل الآية الكريمة .
وقد جوز عطفه على المستكن في كان العائد إلى الأخذ العاجل ، المفهوم من السياق ، تنزيلاً للفصل بالخبر منزلة التأكيد . لكان الأخذ العاجل ، وأجل مسمى لازمين لهم ، كدأب عاد وثمود وأضرابهم . ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى } [ 130 ] .
{ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى } أي : إذا كان تأخير عذابهم ليس بإهمال بل إمهاْل ، فاصبر على ما يقولون من كلمات الكفر ، فالفاء سببية . والمراد بالصبر عدم الاضطراب لما صدر منهم ، لا ترك القتال حتى تكون الآية منسوخة . وفي التسبيح المأمور به وجهان :
الأول : أنه التنزيه . والمعنى : ونزه ربك عن الشرك وسائر ما يضيفون إليه من النقائض ، حامداً على ما ميّزَك بالهدى ، معترفاً بأنه المولى للنعم كلها . ومن صيغه المأثورة : سبحان الله وبحمده . وعليه فسرُّ تخصيص هذه الأوقات الإشارة إلى الدوام ، مع أن لبعض الأوقات مزية يفضل بها غيرها .
الثاني : أنه الصلاة وهو الأقرب لآية : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } [ البقرة : 45 ] ، والآيات يفسر بعضها بعضاً . والمعنى : صلَّ وأنت حامد لربك على هدايته وتوفيقه ، قبل طلوع الشمس ، يعني صلاة الفجر . وقبل غروبها ، يعني صلاة الظهر والعصر ، لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار ، بين زوال الشمس وغروبها : { وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ } أي : من ساعاته ، يعني المغرب والعشاء . وإنما قدم الوقت فيهما ، لاختصاصهما بمزيد الفضل . وذلك لأن أفضل الذكر ما كان بالليل لاجتماع القلب وهدوءِ الرَّجْلِ والخلوِّ بالرب تعالى . ولأن الليل وقت السكون والراحة ، فإذا صرف إلى العبادة كانت على النفس أشد وأشق ، وللبدن أتعب وأنصب ، فكانت أفضل عند الله وأقرب .
قوله تعالى : { وَأَطْرَافَ النَّهَارِ } تكرير لصلاة الفجر والمغرب ، إيذاناً باختصاصهما بمزيد مزية . ومجيئه بلفظ الجمع لأمن الإلباس ، والمرجح مشاكلته لـ : { آنَاءِ اللَّيْلِ } أو أمر بصلاة الظهر . فإنه نهاية النصف الأول من النهار ، وبداية النصف الأخير . وجمعه باعتبار النصفين . أو لأن النهار جنس فيشمل كل نهار ، أو أمر بالتطوع في أجزاء النهار .
وقال الرازي : إنما أمر ، عقيب الصبر ، بالتسبيح ، لأن ذكر الله تعالى يفيد السلوة والراحة . إذ لا راحة للمؤمنين دون لقاء الله تعالى . قلت : وقد أشير إلى حكمة الأمر بالصبر والتسبيح بقوله تعالى : { لَعَلَّكَ تَرْضَى } أي : رجاء أن تنال ما به ترضى نفسك ، من رفع ذكرك . ونقهرك على عدوك وبلوغ أمنيتك من ظهور توحيد ربك وهذا كقوله تعالى : { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً } [ الإسراء : 79 ] ، وقوله تعالى : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } [ الضحى : 5 ] .
ثم أشار تعالى إلى أن ما متع به الكفار من الزخارف ، إنما هو فتنة لهم فلا ينبغي الرغبة فيه ، وإن ما أويته أجلّ وأسمى ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [ 131 ] .
{ وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ } أي : أصنافاً من الكفرة : { زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي زينتها . منصوب على البدلية من : { أَزْوَاجاً } أو بـ : { مَتّعْنَا } على تضمينه معنى : أعطينا وخولنا : { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي : لنختبرهم فيما متعناهم به من ذلك ونبتليهم . فإن ذلك فانٍ وزائل وغرور وخدع تضمحل .
قال أبو السعود : { لِنَفْتِنَهُمْ } متعلق بـ : { مَتَّعْنَا } جيء به للتنفير عنه ببيان سوء عاقبته مآلاً ، إثر إظهار بهجته حالاً . أي : لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم فيه . أو لنعذبهم في الآخرة بسببه : { وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } أي : ثوابه الأخرويّ خير في نفسه مما متعوا به وأدوم ، كقوله تعالى : { ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } [ القصص : 80 ] ، أو المعنى ما أوتيت من النبوة والهدى ، خير مما فتنوا به وأبقى ، لأنه لا مناسبة بين الهدى الذي تتبعه السعادة في الدارين ، وبين زهرة يتمتع بها مدة ثم تذبل وتفنى . وفي التعبير بالزهرة إشارة لسرعة الاضمحلال ، فإن أجلها قريب . ومن لطائف الآية ما قاله الزمخشري رحمه الله ، ونصه : مد النظر تطويله وأن لا يكاد يرده استحساناً للمنظور إليه ، وإعجاباً به وتمنياً أن يكون له . كما فعل نظارة قارون حين قالوا : { يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [ القصص : 79 ] ، حتى واجههم أولوا العلم و الإيمان بـ : { وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } [ القصص : 80 ] .
وفيه : أن النظر غير الممدود معفوّ عنه . وذلك مثل نظر من باده الشيء بالنظر ثم غض الطرف . ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع ، وإن من أبصر منها شيئاً أحب أن يمد إليه نظره ويملأ منه عينيه ، قيل : ولا تمدّن عينيك . أي : لا تفعل ما أنت معتاد له وضارٍ به . ولقد شدد العلماء من أهل التقوى في وجب غض النظر عن أبنية الظلمة ، وعدد الفسقة في اللباس و المراكب وغير ذلك ، لأنهم إنما اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة ، فالناظر إليها محصل لغرضهم ، وكالمغري لهم على اتخاذها . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } [ 132 ] .
{ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ } يعني بأهله : أهل بيته أو التابعين له . أي : مرهم بإقامتها لتجذب قلوبهم إلى خشية الله : { وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } أي : على أدائها ، لترسخ بالصبر عليها ملكة الثبات على العبادة ، والخشوع والمراقبة ، التي ينتج عنها كل خير . ثم أشار تعالى إلى أن الأمر بها ، إنما هو لفلاح المأمور ومنفعته ، ولا يعود على الآمر بها نفع ما, لتعاليه وتنزهه بقوله : { لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ } أي : لا نسألك مالاً . بل نكلفك عملاً ببدنك نؤتيك عليه أجراً عظيماً وثواباً جزيلاً . ومعنى نحن نرزقك : أي : نحن نعطيك المال ونكسبك ولا نسألكه . قاله ابن جرير .
وقال أبو مسلم : المعنى أنه تعالى إنما يريد منه ومنهم العبادة . ولا يريد منه أن يرزقه كما تريد السادة من العبيد الخراج . وهو كقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } [ الذاريات : 56 - 57 ] ، وقال بعض المفسرين : معنى الآية . أقبل مع أهلك على الصلاة واستعينوا بها على خصاصتكم . ولا تهتموا بأمر الرزق والمعيشة ، فإن رزقك مكفي من عندنا ، ونحن رازقوك . وهذا المعنى لا تدل عليه الآية منطوقاً ولا مفهوماً . وفيه حض على القعود عن الكسب ، ومستند للكسالى القانعين بسكنى المساجد عن السعي المأمور به . وقد قال تعالى في وصف المتقين : { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } [ النور : 37 ] ، إشارة إلى جمعهم بين الفضيلتين { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] .
وقوله تعالى : { وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } أي : والعاقبة الحسنة من عمل كل عامل ، لأهل التقوى والخشية من الله ، دون من لا يخاف له عقاباً ولا يرجو له ثواباً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى } [ 133 ]
{ وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ } يعنون ما تعنتوا في اقتراحه مما تقدم ، في سورة بني إسرائيل ، من قوله تعالى : { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ } [ الإسراء : 90 - 91 ] .
وقوله تعالى : { أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى } أي : أو لم يأتهم بيان ما في الكتب التي قبل هذا الكتاب ، من أنباء الأمم من قبلهم ، التي أهلكناهم لما سألوا الآيات ، فكفروا بها لما أتتهم ، كيف عجلنا لهم العذاب ، وأنزلنا بهم بأسنا بكفرهم بها . يقول : فماذا يؤمنهم إن أتتهم الآية ، أن يكون حالهم حال أولئك . هذا ما قاله ابن جرير .
وذهب غيره إلى أن المعنى : أو لم يأتهم آية هي أم الآيات وأعظمها ، وهي معجزة القرآن المبينة لما في الكتب الأولى من التوراة والإنجيل والزبور . مع أن الآتي بها أّمّيُّ لم يرها ولم يعلم ممن علمها . فنقب منها على الصحيح من أنبائها فصدقه ، وعلى الباطل المحرف فَفَنَّدَهُ . وفيه إشعار بكفاية التنزيل في الإعجاز والبرهان كما قال تعالى في سورة العنكبوت : { وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ العنكبوت : 50 - 51 ] ، ولذلك قال أحد حكماء الإسلام : إن الخارق للعادة الذي يعتمد عليه الإسلام في دعوته إلى التصديق برسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الخارق الذي تواتر خبره ولم ينقطع أثره . وهو الدليل وحده . وما عداه مما ورد في الأخبار ، سواء صح سندها أو اشتهر أو ضعف أو وهي ، فليس مما يوجب القطع عند المسلمين . فإذا أورد في مقام الاستدلال ، فهو على سبيل التقوية للعقد لمن حصل أصله ، وفضلٌ من التأكيد لمن سلمه من أهله . ذلك الخارق المتواتر المعول عليه في الاستدلال لتحصيل اليقين ، هو القرآن وحده . والدليل على أنه معجزة خارقة للعادة ، تدل على أن موحيه هو الله وحده وليس من اختراع البشر ، هو أنه جاء على لسان أميّ لم يتعلم الكتاب ولم يمارس العلوم ، وقد نزل على وتيرة واحدة هادياً للضال مقوماً للمعوج كافلاً بنظام عام لحياة من يهتدي به من الأمم ، منقذاً لهم من خسران كانوا فيه . وهلاك كانوا أشرفوا عليه . وهو مع ذلك من بلاغة الأسلوب على ما لم يرتق إليه كلام سواه ، حتى لقد دعي الفصحاء والبلغاء ، أن يعارضوه بشيء من مثل ، فعجزوا ولجأوا إلى المجالدة بالسيوف ، وسفك الدماء واضطهاد المؤمنين به ، إلى أن ألجاؤهم إلى الدفاع عن حقهم ، وكان من أمرهم ما كان من انتصار الحق على الباطل وظهور شمس الإسلام تمد عالمها بأضوائها ، وتنشر أنوارها في جوائها . وهذا الخارق قد دعا الناس إلى النظر فيه بعقولهم . وطولبوا بأن يأتوا في نظرهم على آخر ما تنتهي إليه قوتهم ، فإما وجدوا طريقاً لإبطال إعجازه أو كونه لا يصلح دليلاً على المدعي ، فعليهم أن يأتوا به ، قال تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ } [ البقرة : 23 ] ، وقال : { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] ، وقال غير ذلك ، مما هو مطالبة بمقاومة الحجة بالحجة . ولم يطالبهم بمجرد التسليم على رَغْمٍ من العقل .
معجزة القرآن جامع من القول والعلم . وكل منهما مما يتناوله العقل بالفهم . فهي معجزة عرضت على العقل وعرفته القاضي فيها ، وأطلقت له حق النظر في أنحائها [ في المطبوع : أحنائها ] . ونشر ما انطوى في أثنائها . وله منها حظه الذي لا ينتقص . فهي معجزة أعجزت كل طوق أن يأتي بمثلها . ولكنها دعت كل قدرة أن تتناول ما تشاء منها . أما معجزة موت حيّ بلا سبب معروف للموت ، أو حياة ميت أو إخراج شيطان من جسم ، أو شفاء علة من بدن ، فهي مما ينقطع عنده العقل ويجمد لديه الفهم . وإنما يأتي بها الله على يد رسله لإسكات أقوام غلبهم الوهم ولم تضئ عقولهم بنور العلم . وهكذا يقيم الله بقدرته من الآيات للأمم على حسب الاستعدادات .
وقال فاضل آخر : قضت مراحم الله جلّ شانه أن يكوّن الأكوان في الطبيعة على ترتيب محكم . ينطلق بلسان الصمت للمتبصر ، ويظهر بلباس الوضوح للمتفكر ، ويحبب إليه الانتقال منه إلى غيره بدون أن يشعر بملل ولا سآمة ، ولا يؤوب من استبصاره بندامة ، بدون هذا الاعتبار بالعقل ، لا يأتي للنفس أن تصح عقيدتها ، ولا يتأتى لها تبعاً لذلك أن تسكن من اضطرابها . هذا ، ولا ننكر أنه قد مضى على النوع الإنساني زمن كان فيه العقل في دور الطفولية . وكان يكفيه في الإيمان أن يندهش لأمر خارق للطبيعة ، يعطل من سير نواميسها وقتاً مّاً . وكان الله سبحانه وتعالى يرأف بعباده فيرسل إليهم رسلاً يمتعهم بخصائص تعجز عن اكتناه سرها عقولهم . وتندهش لها ألبابهم ، فيستدلون بهذه المعجزات على صدق الرسول وضرورة اتباعه ، وأما الآن ، حيث بلغ العقل أشده ، والنوع الإنسانيّ رشده ، فلا تجدي فيه معجزة ، ولا تنفع فيه غريبة . لأن الشكوك قد كثرت مع كثرة الموادّ العلمية . فإن حدث حادث من هذا القبيل رموا فاعله بالتدليس أوّلاً ، ثم إذا ظهر لهم براءته منه أخذوا يعللون معجزته بكل أنواع التعليلات . هذا من جهة . ومن جهة أخرى ، فإن طائفة الاسبيريت الروحيين في أوربا تعمل الآن من الأعمال المدهشة الخارقة لنواميس الطبيعة ، ما لو رآه الجهلاء لظنوا به أنه من أكبر المعجزات ، من أن القوم لا يدَّعون النبوة ، ولا يزعمون الرسالة . نعم ، لا ننكر أن أعمال هذه الطائفة ليست من نوع معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولكنه بدون شك ، يقلل من أهميتها في نظر الذين يقفون مع ظواهر الأشياء .
ومما يدل على أن هذه القرون الأخيرة لا تروج فيها مسائل المعجزات ، تكذيب علماء أوربا بكل المعجزات السابقة . وهو ، وإن كان تهوراً منهم ، إلا أنهم مصيبون في قولهم إننا في زمان لا يجدي فيه الاعتقاد إلا النور العقلي والدليل العلمي . لهذه الأسباب جاءت الشريعة الإسلامية تدعو إلى السبيل الحق ، ببدائه العقل ، وقواعد العلم . صارفة النظر عن المعجزات وإظهار المدهشات . لعلم الله سبحانه وتعالى بأنه سيأتي زمان تؤثر فيه المقررات العلمية على القوة العقلية ، ما لا تؤثر عليها الخوارق للنواميس الطبيعية . انتهى .
ثم أشار تعالى إلى منته في إرسال الرسول صلوات الله عليه ، والإعذار ببعثته ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى } [ 134 - 135 ] .
{ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ } أي : من قبل إتيان البينة ، أو محمد عليه السلام : { لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ } أي : بالعذاب الدنيويّ : { وَنَخْزَى } أي : بالعذاب الأخرويّ . أي : ولكنا لم نهلكهم قبل إتيانها . فانقطعت معذرتهم . فعند ذلك ، قالوا : بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا : ما نزل الله من شيء : { قُلْ } أي : لأولئك الكفرة المتمردين : { كُلٌّ } أي : منا ومنكم : { مُتَرَبِّصٌ } أي : منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم : { فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ } أي : عن قرب : { مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ } أي : المستقيم : { وَمَنِ اهْتَدَى } أي : من الزيغ والضلالة . أي : هل هو النبي وأتباعه ، أم هم وأتباعهم .
وقد حقّق الله وعده . ونصر عبده . وأعز جنده . وهزم الأحزاب وحده . فله الحمد في الأولى والآخرة .(/)
سورة الأنبياء
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } [ 1 ] .
{ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } أي : دنا لأهل مكة ما وعدوا به في الكتاب من الحساب الأخرويّ وهو عذابهم : { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ } أي : عما يراد بهم : { مُعْرِضُونَ } أي : مكذّبون به . وإنما كان مقترباً لأن كل آتٍ وإن طالت أوقات استقباله و ترقبه ، قريب . وقد قال تعالى : { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً } [ المعارج : 6 - 7 ] ، وقال تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } [ الحج : 47 ] ، ولا يخفى ما في عموم الناس من الترهيب البليغ . وإن حق الناس أن ينتبهوا لدنو الساعة ، ليتلافوا تفريطهم بالتوبة والندم . كما أن في تسمية يوم القيامة ، بيوم الحساب زيادة إيقاظ ، لأن الحساب هو الكاشف عن حال المرء ، ففي العنوان ما يرهب منه ، ولو قيل بأن الحساب أعم من الدنيويّ والأخروي لم يبعد ، ويكون فيه إشارة إلى قرب محاسبة مشركي مكة بالانتصاف منهم والانتصار عليهم ، كما أشير أليه في آية : { فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ } [ المائدة : 52 ] ، ووعد به النبيّ وصحبه في آيات كثيرة . إلا أن شهرة الحساب فيما بعد البعث الأخرويّ ، حمل المفسرين على قصر الآية عليه . والله أعلم . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [ 2 ] .
{ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } تقريع لهم على مكافحة الحكمة بنقيضها . وتسجيل عليهم بالجهل الفاضح . فإن من حق ما يذكر أكمل تذكير ، وينبه على الغفلة أتم تنبيه ، أن تخشع له القلوب وتستحذي [ في المطبوع : تستخذي ] له الأنفس .
قال الزمخشري : بعد أن وصفهم بالغفلة مع الإعراض ، قرر إعراضهم عن تنبيه المنبه وإيقاظ الموقظ ، فأن الله يجدد لهم الذكر وقتاً فوقتاً . ويحدث لهم الآية بعد الآية ، والسورة بعد السورة ، ليكرر على أسماعهم التنبيه والموعظة ، لعلهم يتعظون . فما يزيدهم استماع الآي والسور وما فيها من فنون المواعظ والبصائر ، التي هي أحق الحق وأجد الجد ، إلا لعباً وتلهياً واستسخاراً . والذكر هو الطائفة النازلة من القرآن . انتهى .
تنبيه :
استدل بهذه الآية من ذهب إلى حدوث كلامه تعالى المسموع . وهم المعتزلة والكرامية والأشعرية . فأما المعتزلة فقالوا إنما كان القرآن حادثاً لكونه مؤلفاً من أصوات وحروف . فهو قائم بغيره وقالوا : معنى كونه متكلماً ، أنه موجد لتلك الحروف والأصوات في الجسم . كاللوح المحفوظ أو كجبريل أو النبيّ عليه الصلاة السلام ، أو غيرهم كشجرة موسى .
وأما الكرامية ، فلما رأوا ما التزمه المعتزلة مخالفاً للعرف واللغة ، ذهبوا إلى أن كلامه صفة له مؤلفة من الحروف والأصوات الحادثة القائمة بذاته تعالى . فذهبوا إلى حدوث الدالّ والمدلول . وجوزوا كونه تعالى محلاً للحوادث .
والأشعرية قالوا : إن الكلام المتلوّ دال على الصفة القديمة النفسية ، التي هي الكلام عندهم حقيقة .
قالوا : فما نزل على الأنبياء من الحروف والأصوات ، وسمعوها وبلّغوها إلى أممهم ، هو محدث موصوف بالتغير والتكثر والنزول . لا مدلولها التي هي تلك الصفة القديمة . والمسألة شهيرٌ ما للعلماء فيها . والقصد أن الآية المذكورة رآها من ذكر ، حجة فيما ذهب إليها .
وقد عدّ الإمام ابن تيمية ، عليه الرحمة والرضوان ، هذا الاحتجاج من الأغلاط ، وعبارته في كتابه " مطابقة المنقول للمعقول " : احتج من يقول بأن القرآن أو عبارة القرآن مخلوقة ، بهذه الآية ، مع أن دلالة الآية على نقيض قولهم ، أقوى منها على قولهم . فإنها تدل على أن بعض الذكر محدث , وبعضه ليس بمحدث ، وهو ضد قولهم . والحدوث في لغة العرب العام ليس هو الحدوث في اصطلاح أهل الكلام . فإن العرب يسمون ما تجدد حادثاً ، وما تقدم على غيره قديماً . وإن كان بعد أن لم يكن كقوله تعالى : { كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } [ يّس : 39 ] ، وقوله تعالى عن إخوة يوسف : { إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ } [ يوسف : 95 ] وقوله تعالى : { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ } [ الأحقاف : 11 ] ، وقوله تعالى عن إبراهيم : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } [ الشعراء : 75 - 76 ] ، انتهى .
وقال العارف ابن عربيّ في الباب التاسع والستين والثلاثمائة من " فتوحاته " في هذه الآية : المراد أنه محدث الإتيان ، لا محدث العين . فحدث علمه عندهم حين سمعوه . وهذا كما تقول : حدث اليوم عندنا ضيف ، ومعلوم أنه كان موجوداً قبل أن يأتي . وكذلك القرآن جاء في مواد حادثة تعلق السمع بها . فلم يتعلق الفهم بما دلت عليه الكلمات . فله الحدوث من وجه والقدم من وجه .
فإن قلت : فإن الكلام لله والترجمة للمتكلم . فالجواب نعم . وهو كذلك بدليل قوله تعالى مقسماً " إنَّهُ " يعني : القرآن : { لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } [ الحاقة : 40 ] . فأضاف الكلام إلى الواسطة والمترجم ، كما أضافه تعالى إلى نفسه بقوله : { فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } [ التوبة : 6 ] ، فإذا تلي علينا القرآن فقد سمعنا كلام الله تعالى . وموسى لما كلمه ربه سمع كلام الله . ولكن بين السماعين بعد المشرقين . فإن الذي يدركه من يسمع كلام الله بلا واسطة ، لا يساويه من يسمعه بالوسائط . انتهى .
وبالحكمة فالمذهب المأثور عن أهل السنة والجماعة أئمة الحديث والسلف ، كما قاله ابن تيمية في " منهاج السنة " : أن الله تعالى لم ينزل متكلماً إذا شاء بكلام يقوم به . وهو متكلم بصوت يسمع . وأن نوع الكلام قديم ، وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديماً .
وبعبارة أخرى : أنه تعالى لم يزل متصفاً بالكلام . يقول بمشيئته وقدرته شيئاً فشياً . فكلامه حادث الآحاد ، قديم النوع .
ثم قال رحمه الله : فإن قيل لنا : فقد قلتم بقيام الحوادث بالرب . قلنا : نعم . وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل ومن لم يقل إن البارئ يتكلم ويريد ويحب ويبغض ويرضى ويأتي ويجيء - فقد ناقض كتاب الله . ومن قال : إنه لم يزل ينادي موسى في الأزل فقد خالف كلام الله مع مكابرة العقل . لأن الله تعالى يقول : { فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ } [ النمل : 8 ] ، وقال : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يّس : 82 ] ، فأتى بالحروف الدالة على الاستقبال .
ثم قال رحمه الله : قالوا - يعني أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما - وبالجملة فكل ما يحتاج به المعتزلة والشيعة مما يدل على أن كلامه متعلق بمشيئته وقدرته ، وأنه يتكلم إذا شاء ويتكلم شيئاً بعد شيء ، فنحن نقول به . وما يقول به من يقول : إن كلام الله قائم بذاته ، وأنه صفة له ، والصفة لا تقوم إلا بالموصوف ، فنحن نقول به . وقد أخذنا بما في قول كل من الطائفتين من الصواب ، وعدلنا عما يردّه الشرع والعقل من قول كل منهما . فإذا قالوا لنا : فهذا يلزم منه أن تكون الحوادث قامت به ، قلنا : ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة ؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل . وهو قول لازم لجميع الطوائف : ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته . ولفظ الحوادث مجمل فقد يراد به الأعراض والنقائض ، والله منزه عن ذلك . ولكن يقوم به ما شاءه ويقدر عليه من كلامه وأفعاله ونحو ذلك ، مما دل عليه الكتاب والسنة .
ثم قال : والقول بدوام كونه متكلماً ودوام كونه فاعلاً بمشيئته ، منقول عن السلف وأئمة المسلمين من أهل البيت وغيرهم . كابن المبارك وأحمد بن حنبل والبخاري وعثمان بن سعيد الدارميّ وغيرهم .
ثم قال : فنحن قلنا بما يوافق العقل والنقل من كمال قدرته ومشيئته : وإنه قادر على الفعل بنفسه كيف شاء . وقلنا إنه لم يزل موصوفاً بصفات الكمال متكلماً ذاتاً . فلا نقول إن كلامه مخلوق منفصل عنه ، فإن حقيقة هذا القول أنه لا يتكلم . ولا نقول إنه شيء واحد ، أمر ونهي وخبر . فإن هذا مكابرة للعقل . ولا نقول أنه أصوات منقطعة متضادة أزلية ، فإن الأصوات لا تبقى زمانين . وأيضا فلو قلنا بهذا القول والذي قبله ، لزم أن يكون تكليم الله للملائكة ولموسى ولخلقه يوم القيامة ، ليس إلا مجرد خلق الإدراك لهم ، لمَاَ كان أزلياً لم ومعلوم أن النصوص دلت على ضد ذلك . ولا نقول إنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما . فإنه وصف له بالكمال بعد النقص وإن صار محلاً للحوادث التي كمل بها بعد نقصه . ثم حدوث ذلك الكمال لا بد له من سبب . والقول في الثاني كالقول في الأول . ففيه تجدد جلاله ودوام أفعاله . انتهى ملخصاً .
ثم بين تعالى ما كانوا يتناجون به من ضلالهم ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :(/)
{ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ } [ 3 ] .
{ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } أي : أسروا هذا الحديث ليصدوا عن سبيل الله . والذين بدل من واو أسروا أو مبتدأ خبره أسروا أو منصوب على الذم : { أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ } أي : تنقادون له وتتبعونه . وقوله : { وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ } حال مؤكدة للإنكار والاستبعاد . قال الزمخشري رحمه الله : اعتقدوا أن رسول الله لا يكون إلا ملكاً ، وأن كل من ادعى الرسالة من البشر وجاء بالمعجزة هو ساحر ، ومعجزته سحره . فلذلك قالوا على سبيل الإنكار : أفتحضرون السحر وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر .
قال أبو السعود : وزلّ عنهم أن إرسال البشر إلى عامة البشر ، هو الذي تقتضيه الحكمة التشريعية . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ 4 ] .
{ قَالَ رَبِّي } حكاية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم . وقرىء : قلْ على الأمر له صلوات الله عليه : { يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ } أي : لما أسروه : { الْعَلِيمُ } أي : به فيجازيهم . ثم بين خوضهم في فنون الاضطراب وعدم اقتصارهم على ما تقدم من دعوى السحر ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ } [ 5 ] .
{ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ } أي : أخلاط يراها في النوم : { بَلِ افْتَرَاهُ } أي : اختلقه : { بَلْ هُوَ شَاعِرٌ } أي : ما أتى به شعر يخيل للناس معاني لا حقيقة لها . وهكذا شأن المبطل المحجوج ، لا يزال يتردد بين باطل وأبطل ، ويتذبذب بين فاسد وأفسد : { فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ } أي : مثل الآية التي أرسل بها الأولون . أي : حتى نؤمن له . ثم أشار تعالى إلى كذبهم في دعوى الإيمان بمجيء الآية ، كما يشير إلى طلبهم لها ، بقوله سبحانه و تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ } [ 6 ] .
{ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ } أي : لم تؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوه من الآيات . أفهؤلاء يؤمنون لو أجيبوا إلى ما سألوا ، وأعطوا ما اقترحوا ، مع كونهم أعتى منهم وأطغى . وفيه تنبيه على أن عدم الإتيان بالمقترح للإبقاء عليهم . إذ لو أتى به ولم يؤمنوا ، استوجبوا عذاب الاستئصال ، كمن قبلهم . وقدمنا أن رقيَّ النوع البشري في العهد النبويّ ، اقتضى أن تكون الآية عقلية ، لا كونية . فتذكر .
ثم أوضح جواب شبهتهم في منافاة البشرية للرسالة ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [ 7 ] .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ } أي : لا ملائكة . وقرئ بالياء وفتح الحاء : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ } أي : العلماء بالتوراة والإنجيل : { إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } أي : أن الرسل بشر ، فيعلموكم إن المرسلين لم يكونوا ملائكة . وفي الآية دليل على جواز الإستظهار بأقوال أهل الكتاب ومروياتهم ، لحجّ الخصم وإقناعه .
تنبيه :
قال الرازيّ : فأما ما تعلق كثير من الفقهاء بهذه الآية ، في أن للعاميّ أن يرجع إلى فتيا العلماء ، وفي أن للمجتهد أن يأخذ بقول مجتهد آخر - فبعيد . لأن هذه الآية خطاب مشافهة . وهي واردة في هذه الواقعة المخصوصة . ومتعلقة باليهود والنصارى على التعيين . انتهى .
ثم بيّن تعالى كون الرسل كسائر الناس ، في أحكام الطبيعة البشرية ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ } [ 8 ] .
{ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ } أي : جسداً مستغنياً عن الطعام ، بل محتاجاً إلى ذلك لجبر ما فات بالتحليل كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ } [ الفرقان : 20 ] ، وفي هذا التعريف الربانيّ عن حال المرسل ، أكبر رادع لأولئك المنزوين عن الناس المتصيدين به قلوب الرعاع والعامة والحمقى ومن لا يزن عند ربه جناح بعوضة . إذ يرون تناول الطعام في المحافل وتكثير سواد الناس في المجامع والخروج للأسواق لقضاء الحاجات ، من أعظم الهوادم لصروح الاعتقاد فيهم . فتراهم يأنفون من شراء حوائجهم بأيديهم ، وهو السنة . ومن المشي بالأسواق ، وهو المأذون فيه . ومن إجابة الدعوة ، وهي واجبة ، لأوهام في أنفسهم شيدوها . ومحافظة على السمعة حموا جانبها . فتبّاً لهم من قوم مبتدعين ، يعبدون قلوب الخلق ولا يعبدون الله . ويريدون حالة فوق عليه رسل الله . وما ذلك إلا لله . فما أجرأهم على منازعة الجبار ! وما أصبرهم على النار ! وقوله تعالى :
{ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ } أي : في الدنيا ، بل كانوا يعيشون ثم يموتون كما قال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ } [ 34 ] ، وخاصتهم أنهم يوحى إليهم من الله عزّ وجلّ . تنزل عليهم الملائكة بما يحكمه في خلقه مما يأمر به وينهى عنه . وكونهم بشراً في تمام النعمة الإلهية . وذلك ليتمكن المرسل إليهم من الأخذ عنهم والانتفاع بهم . إذ الجنس أميل إلى الجنس .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ } [ 9 ] .
{ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ } أي : في غلبتهم على أعدائهم : { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } [ المجادلة : 21 ] ، { فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ } أي : من أتباعهم ومن قضت الحكمة بإبقائه : { وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ } أي : المجاوزين الحدود في الكفر . ثم نبه تعالى على شرف القرآن محرضاً لهم على معرفة قدره ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ } [ 10 ] .
{ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } أي : شرفكم وحديثكم الذي تذكرون به فوق شرف الأشراف : { أَفَلا تَعْقِلُونَ } أي : هذه النعمة وتتلقونها بالقبول كما قال تعالى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ } [ الزخرف : 44 ] ، وقيل : معنى : { ذِكْرُكُمْ } موعظتكم فالذكر بمعنى التذكير مضاف للمفعول . قال أبو السعود : وهو الأنسب بسباق النظم الكريم وسياقه . فإن قوله تعالى : { أَفَلا تَعْقِلُونَ } إنكار توبيخيّ ، فيه بعث لهم على التدبر في أمر الكتاب ، والتأمل فيما في تضاعيفه من فنون المواعظ والزواجر ، التي من جملتها القوارع السابقة واللاحقة . ثم أشار تعالى إلى نوع تفصيل لإجمال هلاك المسرفين المتقدم له ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } [ 11 - 13 ] .
{ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا } أي : عذابنا النازل بهم : { إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ } أي : يهربون مسرعين . ثم قيل لهم استهزاءً بلسان الحال أو المقال : { لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ } أي : من التنعم والتلذذ وفي ظرفية أو سببية : { وَمَسَاكِنِكُمْ } أي : التي كثر فيها إسرافهم : { لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } أي : تقصدون للسؤال والتشاور والتدبير في المهمات والنوازل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ } [ 14 - 16 ] .
{ قَالُوا } أي : لما أيقنوا بنزول العذاب : { يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ } أي : تلك الكلمة وهي : يا ويلنا دعوتهم فلا تختص بوقت الدهشة ، بل تدوم عليهم ما أمكنهم النطق : { حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً } أي : كنبات محصود : { خَامِدِينَ } أي : هالكين بإخماد نار أرواحهم : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ } أي : بل للإنعام عليهم . وما أنعمنا عليهم بذلك إلا ليقوموا بشكرها وينصرفوا إلى ما خلقوا له . قال الزمخشري عليه الرحمة : أي : وما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من أصناف الخلائق ، مشحونة بضروب البدائع والعجائب ، كما تسوي الجبابرة سقوفهم وفرشهم وسائر زخارفهم ، للّهو واللّعب . وإنما سويناها للفوائد الدينية ، والحكم الربانية ، لتكون مطارح افتكار واعتبار واستدلال ونظر لعبادنا ، مع ما يتعلق لهم بها من المنافع التي لا تعد والمرافق التي لا تحصى . وقال أبو السعود : في هذه الآية إشارة إجمالية إلى أن تكوين العالم وإبداع بني آدم ، مؤسس على قواعد الحكم البالغة ، المستتبعة للغايات الجليلة . وتنبيه على أن ما حكي من العذاب الهائل والعقاب النازل بأهل القرى ، من مقتضيات تلك الحكم ، ومتفرعاتها . عن حسب اقتضاء أعمالهم إياه . وإن للمخاطبين المقتدين بآثارهم ذنوباً مثل ذنوبهم . أي : ما خلقناهما وما بينهما على هذا النمط البديع والأسلوب المنيع ، خالية عن الحكم والمصالح . وإما عبر عن ذلك باللعب واللهو ، حيث قيل : { لاعِبِينَ } لبيان كمال تنزهه تعالى عن الخلق الخالي عن الحكمة . بتصويره بصورة ما لا يرتاب أحد في استحالة صدوره عنه تعالى . بل إنما خلقناهما وما بينهما لتكون مبدأً لوجود الإنسان وسبباً لمعاشه . ودليلاً يقوده إلى تحصيل معرفتنا التي هي الغاية القصوى ، بواسطة طاعتنا وعبادتنا . كما ينطق به قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ هود : 7 ] ، وقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ } [ 17 ] .
{ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ } استئناف مقرر لما قبله من انتفاء اللعب واللهو . أي : لو أردنا أن نتخذ ما يتلهى به ويلعب لاتخذناه من عندنا . كديدن الجبابرة في رفع العروش وتحسينها ، وتسوية الفروش وتزيينها . لكن يستحيل إرادتنا له لمنافاته الحكمة . فيستحيل اتخاذنا له قطعاً . وقوله تعالى : { إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ } جوابه محذوف دل عليه ما قبله . أي : لاتخذناه . وقيل : إنّ إن نافية . أي : ما كنا فاعلين . أي : لاتخاذ اللهو ، لعدم إرادتنا إياه . فيكون بياناً لانتفاء التالي ، لانتفاء المقدم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } [ 18 ] .
{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ } إضراب عن اتخاذ اللهو بل عن إرادته . وتنزيه منه لذاته العلية كأنه قال : سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب أو نريده ، بل من شأننا أن ندحض الباطل بالحق : { فَيَدْمَغُهُ } أي : يمحقه بالكلية كما فعلنا بأهل القرى المحكية : { فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } أي : هالك بالكلية . وقد استعير لإرسال الحق على الباطل القذف الذي هو الرمي الشديد بالجرم الصلب كالصخرة . ولمحقه للباطل الدمغ الذي هو كسر الشيء الرخو الأجوف . وهو الدماغ بحيث يشق غشاءه المؤدي إلى زهوق الروح ، استعارة تصريحية تبعية . ويصح أن يكون تمثيلاً لغلبة الحق على الباطل حتى يذهبه ، برمي جرم صلب على رأس دماغها رخو ليشقه ، وذكر : { فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } لترشيح المجاز . لأن من رمى فدمغ تزهق روحه . فهو من لوازمه . قال أبو السعود : وفي إذا الفجائية والجملة الاسمية من الدلالة على كمال المسارعة في الذهاب والبطلان ، ما لا يخفى . فكأنه زاهق من الأصل وفي الآية إيماء إلى علوّ الحق وتسفل الباطل . وأن جانب الأول باقٍ والثاني فانٍ : { وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } أي : مما تصفونه به من اتخاذ الولد ونحوه ، مما تتنزه عظمته عنه . ثم أخبر تعالى عن عبودية الملائكة له ، ودأبهم في طاعته ليلاً ونهاراً ، وبراءتهم من البُنُوَّة المفتراة عليهم ، إثر إخباره عن ملكه للخلق كافة ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ } [ 19 ] .
{ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : ملكاً وتدبيراً : { وَمَنْ عِنْدَهُ } وهم الملائكة : { لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ } أي : لا يعْيَونَ ولا يتعبون منها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ } [ 20 ] .
{ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ } أي : من تنزيهه وعبادته ، ثم أشار تعالى إلى تقرير وحدانيته في ألوهيته ونفي الأنداد ، إثر تقريره أمر الرسالة - فإن ما سلف من أول السورة كان في تحقيق شأن النبوة بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ } [ 21 ] .
{ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ } أي : يبعثون الموتى ويخرجونهم من العدم إلى الوجود .
أي بل اتخذوا آلهة من الأرض هم مع حقارتهم وجماديتهم ينشرون الموتى . كلا فإن ما اتخذوها آلهة بمعزل من ذلك . فكيف جعلوها لله نداً ، وعبدوها معه ؟
قال الزمخشري رحمه الله : فإن قلت : كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة تنشر ، وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم ؟ كيف ، وهم أبعد شيء عن هذه الدعوى ؟ وذلك أنهم كانوا مع إقرارهم لله عزّ وجلّ بأنه خالق السموات والأرض : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ لقمان : 25 ] ، وبأنه القادر على المقدورات كلها وعلى النشأة الأولى ، منكرين للبعث . ويقولون : { مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } [ يّس : 78 ] ، وكان عندهم من قبيل المحال الخارج عن قدرة القادر كثاني القديم . فكيف يدّعونه للجماد الذي لا يوصف بالقدرة رأساً ؟ .
قلت : الأمر كما ذكرت . ولكنهم بادعائهم لها الإلهية ، يلزمهم أن يدعوا لها الإنشار . لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور . والإنشار من جملة المقدورات . انتهى .
قال في " الانتصاف " : فيكون المنكر عليهم صريح الدعوى ولازمها . وهو أبلغ في الإنكار .
ثم قال الزمخشري : وفيه باب من التهكم بهم والتوبيخ والتجهيل وإشعار بأن ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده ، لأن الإلهية لما صحت صح معها الاقتدار على الإبداء والإعادة . انتهى .
لطيفة :
سر قوله تعالى : { مِن الأَرْضِ } هو التحقير ، أي : تحقير الأصنام بأنها أرضية سفلية . وجوز إرادة التخصيص . أي : الآلهة التي من جنس الأرض . لأنها إما أن تنحت من بعض الحجارة أو تعمل من بعض جواهر الأرض . وإنما خصص الإنكار بها ، لأن ما هو أرضيّ مصنوع بأيديهم كيف يدعي ألوهيته ؟ ثم بيّن تعالى بطلان تعدد الآلهة بإقامة البرهان على انتفائه ، بل على استحالته ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ 22 ] .
{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا } أي : يتصرف في السموات والأرض : { آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ } أي : غيره : { لَفَسَدَتَا } أي : لبطلتا بما فيهما جميعاً ، واختل نظامهما المشاهد ، كما قال تعالى في سورة المؤمنون : { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } [ المؤمنون : 91 ] ، قال أبو السعود : وحيث انتفى التالي ، علم انتفاء المقدم قطعاً . بيان الملازمة ؛ أن الإلهية مستلزمة للقدرة على الاستبداد بالتصرف فيهما على الإطلاق تغييراً وتبديلاً ، وإيجاداً وإعداماًً وإحياءً وإماتة . فبقاؤهما على ما هما عليه إما بتأثير كل منها ، وهو محال لاستحالة وقوع المعلول المعين بعلل متعددة . وإما بتأثير واحد منها ، فالبواقي بمعزل من الإلهية قطعاً ، واعلم أن جعل التالي فسادهما بعد وجودهما ، لما أنه اعتبر في المقدم تعداد الآلهة فيهما . وإلا فالبرهان يقضي باستحالة التعدد على الإطلاق فإنه لو تعدد الإله ، فإن توافق الكل في المراد ، تطاردت عليه القدر ، وإن تخالفت تعاوقت . فلا يوجد موجوداً أصلاً . وحيث انتفاء التالي تعين انتفاء المقدم . انتهى .
وتفصيله كما في " المقاصد " أنه لو وجد إلهان بصفات الألوهية ، فإذا أراد أحدهما أمراً كحركة جسم مثلا ، فإما أن يتمكن الآخر من إرادة ضده أوْ لا . وكلاهما محال . أما الأول فلأنه لو فرض تعلق إرادته بذلك الضد ، فإما أن يقع مرادهما وهو محال ، لاستلزامه اجتماع الضدين . أوْ لا يقع مراد واحد منهما ، وهو محال لاستلزامه عجز الإلهين الموصوفين بكمال القدرة على ما هو المفروض ، ولاستلزامه ارتفاع الضدين المفروض امتناع خلوّ المحل عنهما ، كحركة جسم وسكونه في زمان معين ، أو يقع مراد أحدهما دون الآخر وهو محال . لاستلزامه الترجيح بلا مرجح ، وعجز من فرض قادراً حيث لم يقع مراده . وهذا البرهان يسمى برهان التمانع . وإليه الإشارة بقوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } فإن أريد بالفساد عدم التكوّن ، فتقريره أنه لو تعدد الإله لم تتكون السماء والأرض . لأن تكونهما إما بمجموع القدرتين أو بكل منهما أو بأحدهما . والكل باطل . أما الأول فلأن من شأن الإله كمال القدرة . وأما الآخران فلما مرّ . وإن أريد بالفساد الخروج عما هما عليه من النظام ، فتقريره أنه لو تعدد الإله لكان بينهما التنازع والتغالب . وتميز صنع كلٍّ عن صنع الآخر ، بحكم اللزوم العاديّ . فلم يحصل بين أجزاء العالم هذا الالتئام ، الذي باعتباره صار الكل بمنزلة شخص واحد . ويختل الانتظام الذي به بقاء الأنواع . وترتب الآثار . انتهى .
هذا وقد قيل : إن المطلب هنا برهانيّ ، والمشار إليه في الآية إقناعيّ . ولا يفيد العلم اليقينيّ فلا يصح الاستدلال بها على هذا المطلب ، وممن فصل ذلك التفتازانيّ في " شرح العقائد النسفية " قادحاً لما أشار إليه نفسه في " شرح المقاصد " من كون الآية برهاناً ، كما ذكرناه عنه . وملخص كلامه أن مجرد التعدد لا يستلزم الفساد بالفعل ، لجواز الاتفاق على هذا النظام ، أي : بالاشتراك أو بتفويض أحدهما إلى الآخر فلا يستلزم التعددُ التمانعَ بالفعل بل بالإمكان . والإمكان لا يستلزم الوقوع ، فيجوز أن لا يقع بينهما ذلك التمانع بل يتفقان على إيجادهما . ورد عليه بأن إمكان التمانع يستلزم التمانع بالفعل في كل مصنوع بطريق إرادة الإيجاد بالاستقلال . وكلما لزم التمانع لم يوجد مصنوع أصلاً . فإنه لو وجد على تقدير التمانع المذكور اللازم للتعدد فإما بمجموع القدرتين ، فيلزم عجزهما . أو بكل منهما فيلزم التوارد . أو بأحدهما فيلزم الرجحان من غير مرجح ، لاستواء نسبة كل ممكن إلى قدرة كل من الإلهين والكل محال ضرورة ، وحاصل الاستدلال أنه لو تعدد الآلهة لم يتكون مصنوع لأن التعدد مستلزم لإمكان التخالف المستلزم للتوارد أو العجز . فظهر أن الآية حجة قطعية لكون الملازمة فيها قطعية . وحقق بعضهم قطعية الملازمة بالعادة القاضية التي لم يوجد أخرمها قط في ملكين مقتدرين في مدينة واحدة ، أن يطلب كلٌّ الانفرادَ بالملك والعلو على الآخر وقهره, فكيف بالإلهين والإله يوصف بأقصى غايات التكبر, فكيف لا يطلب الانفراد بالملك كما أخبر سبحانه بقوله : { وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } ؟ وهذا إذا تؤمل لا تكاد النفس تخطر نقيضه بالبال ، فضلاً عن إخطار فرضه ، مع الجزم بأن الواقع هو الآخر . فعلى هذا التقدير ، فالملازمة علم قطعيّ . هذا ملخص ما جاء في رد مقالة السعد في الحواشي . وقد شنع عليه في مقالته المتقدمة غير واحد . وبالغ معاصره عبد اللطيف الكرمانيّ في الانتقاد .
قال العلامة المرجانيّ : وقد سبقه في هذا أبو المعين النسفيّ في كتابه " التبصرة " وتابعه صاحب " الكشف " حيث شنع على أبي هاشم الجبائيّ تشنيعاً بليغاً . حتى نسبه إلى الكفر بقدحه في دلالة الآية قطعاً على هذا المدعي ، ولا يخفى أن الأفهام لا تقف عند حد . ولا تزال تتباين وتتخالف ما اختلفت الصور والألوان ، ولا تكفير ولا تضليل ، ما دام المرء على سواء السبيل .
وقد أوضح بيان هذه الملازمة مفتي مصر في رسالة " التوحيد " إيضاحاً ما عليه من مزيد ، وعبارته : ومما يجب له تعالى صفة الوحدة ذاتاً ووصفاً ووجوداً وفعلاً . أما الوحدة الذاتية فقد أثبتناها فيما تقدم بنفي التركيب في ذاته خارجاً وعقلاً . وأما الوحدة في الصفة ، أي : أنه لا يساويه في صفاته الثابتة له موجود ، فلما بيّنا من أن الصفة تابعة لمرتبة الوجود ، وليس في الموجودات ما يساوي واجب الوجود في مرتبة الوجود . فلا يساويه فيما يتبع الوجود من الصفات . وأما الوحدة في الوجود وفي الفعل ، ونعني بها التفرد بوجوب الوجود وما يتبعه من إيجاد المكنات ، فهي ثابتة ، لأنه لو تعدد واجب الوجود لكان لكل من الواجبين تعين يخالف تعين الآخر بالضرورة . وإلا لم يتحصل معنى التعدد . وكلما اختلفت التعينات اختلفت الصفات الثابتة للذوات المتعينة ، لأن الصفة إنما تتعين وتنال تحققها الخاص بها ، بتعين ما يثبت له بالبداهة . فيختلف العلم الإرادة باختلاف الذوات الواجبة . إذ يكون لكل واحدة منها علم وإرادة يباينان علم الأخرى وإرادتها ويكون لكل واحدة علم وإرادة يلائمان ذاتها وتعينها الخاص بها . هذا التخالف ذاتيّ ، لأن علم الواجب وإرادته لا زمان لذاته من ذاته لا لأمر خارج . فلا سبيل إلى التغير والتبدل فيهما كما سبق . وقد قدمنا أن فعل الواجب إنما يصدر عنه على حسب علمه وحكم إرادته ، فيكون فعلُ كلٍّ صادراً على حكم يخالف الآخر مخالفة ذاتية . فلو تعدد الواجبون لتخالفت أفعالهم بتخالف علومهم وإرادتهم . وهو خلاف يستحيل معه الوفاق . وكل واحد بمقتضى وجوب وجوده وما يتبعه من الصفات ، له السلطة على الإيجاد في عامة الممكنات . فكل له التصرف في كل منها على حسب علمه وإرادته . ولا مرجح لنفاذ إحدى القدرتين دون الأخرى . فتتضارب أفعالهم حسب التضارب في علومهم وإرادتهم ، فيفسد نظام الكون ، بل يستحيل أن يكون له نظام ، بل يستحيل وجود ممكن من الممكنات . لأن كل ممكن لا بد أي : يتعلق به الإيجاد على حسب العلوم والإرادات المختلفة . فيلزم أن يكون للشيء الواحد وجودات متعددة وهو محال فـ : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } لكن الفساد ممتنع بالبداهة . فهو جل شأنه واحد في ذاته وصفاته لا شريك له في وجوده ولا في أفعاله . انتهى .
وأشار حجة الإسلام الغزاليّ في كتاب " الاقتصاد في الاعتقاد " في بحث الوحدة ، إلى أن هذه الآية لا أبين منها في برهان التوحيد ، وأنه لا مزيد على بيان القرآن . قال الكلنبويّ : الفساد المذكور في هذه الآية إما بمعنى خروج السماء والأرض عن هذا النظام المشاهد من بقاء الأنواع وترتيب الآثار كما هو الظاهر . وإما بمعنى عدم تكونهما في الأصل كما قالوا . ثم إن كل من يخاطب بها يعرف أن منشأ الفساد هو تعدد الإله . فهي بعبارتها تنفي آلهة متعددة غير الواجب تعالى ، وبدلالتها تنفي تعدد الآلهة . انتهى .
وقوله تعالى : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } أي : من وجود شرك له فيهما والفاء لترتب ما بعدها على ما قبلها من ثبوت الوحدانية بالدليل المتقدم . أي : فسبحوه سبحانه اللائق به ، ونزهوه عما يفترون . وفيه تعجب ممن يشرك مع المعبود الأعظم البارئ لأعظم المكونات وهو العرش ، غيره ممن لا يقدر على شيء البتة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [ 23 ] .
{ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } أي : هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه ، ولا يعترض عليه أحد لعظمته وجلاله وكبريائه وعلوه وحكمته وعدله ولطفه : { وَهُمْ يُسْأَلُونَ } الضمير للعباد . أي : يسألون عما يفعلون كقوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الحجر : 92 - 93 ] .
قال الزمخشري : إذا كانت عادة الملوك والجبابرة أن لا يسألهم من في مملكتهم عن أفعالهم وعما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم ، تهيباً وإجلالاً ، مع جواز الخطأ والزلل وأنواع الفساد عليهم ، كان ملك الملوك ورب الأرباب خالقهم ورازقهم ، أولى بأن لا يُسأَل عن أفعاله ، مع ما علم واستقر في العقول من أن ما يفعله كله مفعول بحكمة ، ولا يجوز عليه خطأ ، ثم قال : { وَهُمْ يُسْأَلُونَ } أي : هم مملوكون مستعبدون خطاءُون . فما أخلقهم بأن يقال لهم : لم فعلتم ؟ في كل شيء فعلوه . انتهى .
قال ابن كثير : وهذه الآية كقوله تعالى : { وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ } [ المؤمنون : 88 ] .
تنبيه :
قال الإمام الغزاليّ في " المضنون به على غير أهله " : وأما معنى قول الله تعالى : { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } ، وقوله تعالى : { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً } [ 125 ] ، فالسؤال قد يطلق ويراد به الإلزام . يقال : ناظر فلان فلاناً وتوجه عليه سؤاله . وقد يطلق و يراد به الاستخبار ، كما يسأل التلميذ أستاذه . والله تعالى لا يتوجه عليه السؤال بمعنى الإلزام . وهو المعني بقوله : { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } إذ لا يقال لم قول إلزام . فأما أن لا يستخبر ولا يستفهم ، فليس كذلك . وهو المراد بقوله : { لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى } . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ } [ 24 ] .
{ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً } كرره استعظاماً لكفرهم ، وإظهاراً لجهلهم ، وانتقالاً إلى إظهار بطلان اتخاذها آلهة ، ومع خلوها عن خصائص الإلهية . وتبكيتهم بإقامة البرهان على دعواهم . ولذا قال تعالى : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ } أي : دليلكم على ما تفترون . أما من جهة العقل والنقل ، فإنه لا صحة لقول لا برهان له ولا دليل عليه .
قال أبو السعود : وما في إضافة البرهان إلى ضميرهم من الإشعار بأن لهم برهاناً ، ضرب من التهكم بهم . وقوله تعالى : { هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي } إنارة لبرهانه ، وإشارة إلى أنه مما نطقت له الكتب الإلهية قاطبة ، وشهدت به ألسنة الرسل المتقدمة كافة . وزيادة تهييج لهم على إقامة البرهان لإظهار كمال عجزهم . أي : هذا الوحي الوارد في شأن التوحيد ، المتضمن للبرهان القاطع العقليّ ، ذكر أمتي أي : عظتهم ، وذكر الأمم السابقة قد أقمته فأقيموا أنتم أيضاً برهانكم . انتهى .
ثم أشار تعالى أنه لا ينجع فيهم المحاجّة بتحقيق الحق وإبطال الباطل بقوله سبحانه : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ } أي : عن النظر الموصل إلى الهدى . ثم بين تعالى أن التوحيد دعوى كل نبيّ ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ 25 ] .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ } وقرىء يوحى بالياء وفتح الحاء : { أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } . كما قال : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] ، وقال : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] ، فكل نبيّ بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له . والفطرة شاهدة بذلك أيضاً ، والمشركون لا برهان لهم وحجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد . ثم بين تعالى بطلان ما يفتريه بعض المشركين من أن الملائكة بناته ، تعالى علواً كبيراً ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ 26 - 27 ] .
{ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ } أي : مقربون : { لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ } أي : يتبعون قوله ، فلا يقولون شيئاً حتى يقوله تعالى أو يأمرهم به كما هو شأن العبيد المؤدبين : { وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } فلا يعصونه في أمر . إشارة إلى مراعاتهم في أدب العبودية في الأفعال أيضاً ، كالأقوال .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [ 28 ] .
{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أي : مما قدموا وأخروا . فهو المحيط بهم علماً : { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ } [ البقرة : 255 ] ، فكيف يخرجون عن عبوديته ؟ : { وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } أي : أن يشفع له ، مهابة منه تعالى .
قال المهايميّ : كيف يخرجون عن عبوديته ولا يقدرون على أدنى وجوه معارضته . لأنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى . إذا الشفاعة لغير المرتضى نوع معارضة معه . وكيف يعارضونه : { وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ } أي : قهره : { مُشْفِقُونَ } أي : خائفون .
قال ابن كثير : وقوله : { وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } ، كقوله : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] ، وقوله : { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 23 ] ، في آيات كثيرة بمعنى ذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } [ 29 ] .
{ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } الضمير في منهم للملائكة . لتقدم ذكرهم واقتضاء السياق ، وكونه أبلغ في الرد والتهديد .
قال الزمخشري رحمه الله : وبعد أن وصف كرامتهم عليه وقرب منزلتهم عنده ، وأثنى عليهم ، وأضاف إليهم تلك الأفعال السنية والأعمال المرضية ، فاجأ بالوعيد الشديد . وأنذر بعذاب جهنم من أشرك منهم . إن كان ذلك على سبيل الفرض [ في المطبوع : الفرص ] والتمثيل ، مع إحاطة علمه بأنه لا يكون كما قال : { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 88 ] ، قصد بذلك تفظيع أمر الشرك ، وتعظيم شأن التوحيد . انتهى .
وفي قوله : { كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } إشعار بظلم من يقول تلك العظيمة . كيف لا ؟ وقد استهان برتبة الإلهية وجاوز بها مقامها الأسمى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ } [ 30 ] .
{ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ } .
هذا شروع في آياته الكونية ، الدالة على وحدته في ألوهيته ، التي عمي عنها المشركون ، فلم يروها رؤية اعتبار وتدبر . ومعنى قوله : { كَانَتَا رَتْقاً } أي : لا تمطر ولا تنبت : { فَفَتَقْنَاهُمَا } أي : بالمطر والنباتات . فالفتق والرتق استعارة . ونظير قوله تعالى : { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ } [ الطارق : 11 - 12 ] ، والرجع لغة هو الماء والصدع هو النبات لأنه يصدع الأرض أي : يشقها . وقوله تعالى : { فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ } [ عبس : 24 ] و أي : كيف انفردنا في إحداثه وتهيئته ليقيم بنيته : { أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً } [ عبس : 25 ] ، أي : من المزن بعد أن لم يكن : { ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً } [ عبس : 26 ] ، أي : ثم بعد أن كانت الأرض رتقاً متماسكة الأجزاء ، شققناها شقّاً مرئيّاً مشهوداً ، كما تراه في الأرض بعد الريّ . أو شقّاً بالنبات .
وقال أبو مسلم الأصفهانيّ : يجوز أن يراد بالفتق الإيجاد والإظهار كقوله تعالى : { فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ الأنعام : 14 ] ، وكقوله : { قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ } [ 56 ] ، فأخبر عن الإيجاد بلفظ الفتق وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ الرتق .
قال الرازيّ : وتحقيقه أن العدم نفي محض . فليس فيه ذوات مميزة وأعيان متباينة . بل كأنه أمر واحد متصل متشابه . فإذا وجدت الحقائق ، فعند الوجود والتكوين يتميز بعضها عن بعض ، وينفصل بعضها عن بعض . فهذا الطريق حسن جعل الرتق مجازاً عن العدم والفتق عن الوجود . انتهى .
وقال بعض علماء الفلك : معنى قوله تعالى : { كَانَتَا رَتْقاً } أي : شيئاً واحداً .
ومعنى : { فَفَتَقْنَاهُمَا } فصلنا بعضهما عن بعض .
قال : فتدل الآية على أن الأرض خلقت كباقي الكواكب السيارة من كل وجه . أي أنها إحدى هذه السيارات . وهي مثلها في المادة وكيفية الخلق وكونها تسير حول الشمس وتستمد النور والحرارة منها . وكونها مسكونة بحيوانات كالكواكب الأخرى . وكونها كروية الشكل . فالسيارات أو السماوات هي متماثلة من جميع الوجوه ، كلها مخلوقة من مادة واحدة ، وهي مادة الشمس . وعلى طريقة واحدة . كلامه .
وقد يرجح الوجه الأول في تفسير الآية لقوله تعالى بعده : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } فإن ذلك مما يبين أن لسابقه تعلقاً بالماء . وعلى هذا فالرؤية في قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ } بصرية . وعلى قول أبي مسلم وما بعده ، علمية . على حد قوله تعالى لنبيّه صلوات الله عليه : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ } [ الفيل : 1 ] ، مع أنه لم يشاهد الحادثة ، بل ولد بعدها . وإنما تيقنها بالأخبار الصادقة . وكذلك ما هنا من الفتق والرتق ، بمعنييه الأخيرين ، مما أخبر به الحق تعالى على لسان من قامت الحجة على صدقه وعصمته . فكان مما يسهل عليهم تصديقه فعلمُه .
ومعنى قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } صيّرنا كل شيء حيّ بسبب من الماء ، لا يحيا دونه . فيدخل فيه النبات والشجر . لأنه من الماء صار نامياً . وصار فيه الرطوبة والخضرة والنَّور والثمر . وإسناده الحياة إلى ظهور النبات معروف في آيات شتى . كقوله تعالى : { وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [ الروم : 19 ] ، وخص بعضهم الشيء بالحيوان ، لآية : { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ } [ النور : 45 ] ، ولا ضرورة إليه . بل العموم أدل على القدرة ، وأعظم في العبرة ، وأبلغ في الخطاب ، وألطف في المعنى .
وقوله تعالى : { أَفَلا يُؤْمِنُونَ } إنكار لعدم إيمانهم بالله تعالى وحده ، مع ظهور ما يوجبه حتماً من الآيات الظاهرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } [ 31 ] .
{ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ } أي : جبالاً ثوابت : { أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ } أي : لئلا تتحرك وتضطرب بهم . فلولا الجبال لكانت الأرض دائمة الاضطراب مما في جوفها من المواد الدائمة الجيشان .
وقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } الضمير في فيها للأرض . وتكرير الفعل لاختلاف المجعولين ، ولتوفية مقام الامتنان حقه . أو للرواسي لأنها المحتاجة إلى الطرق . وعلى الثاني اقتصر ابن كثير . قال : فقد يشاهد جبل هائل بين بلدين ، وإذا فيه فجوة يسلك الناس فيها ، رحمة منه تعالى : { وَسُبُلاً } بَدَل من : { فِجَاجَاً } أشير به إلى أنه مع السعة نافذ مسلوك ، وأنه خلق ووسع لأجل السابلة ، ومعنى : { يهتدون } أي : إلى مصالحهم . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } [ 32 ] .
{ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً } أي : على الأرض كالقبة عليها : { مَحْفُوظاً } أي : عالياً محروساً أن ينال أو محفوظاً من التغير بالمؤثرات ، مهما تطاول الزمان . كقوله تعالى : { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً } [ النبأ : 12 ] ، { وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } . أي : عما وضع الله فيها من الأدلة والعبر ، بالشمس والقمر وسائر النيرات ، ومسايرها وطلوعها وغروبها ، على الحساب القويم . والترتيب العجيب ، الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة . وأي جهل أعظم من أعرض عنها ولم يذهب به وهمه إلى تدبرها والاعتبار بها والاستدلال على عظمة شأن من أوجدها عن عدم ، ودبرها ونصبها هذه النصبة ، وأودعها ما أودعها مما لا يعرف كنهه إلا هو ، عَزَّت قدرته ولطف علمه ؟ .
وقرئ : عن آيتها , على التوحيد ، اكتفاء بالواحدة في الدلالة على الجنس ، أي : هم متفطنون لما يرد عليهم من السماء من المنافع الدنيوية كالاستضاءة بقمريها والاهتداء بكواكبها ، وحياة الأرض والحيوان بأمطارها . وهم عن كونها آية بينة على الخالق ، معرضون . أفاده الزمخشري .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ 33 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ } أي : ليسكنوا فيه : { وَالنَّهَارَ } ليتحركوا لمعاشهم وينشطوا لأعمالهم : { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } أي : ضياء وحسباناً : { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } أي : كل واحد منهما يجري في الفلك ، كالسابح في الماء . والفلك في اللغة كل شيء دائر .
قال بعض علماء الفلك : تشير الآية إلى حركة هذه الكواكب كآية : { فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ } [ التكوير : 15 - 16 ] ، وهما تدلان على أن حركة الكواكب ذاتية [ في المطبوع : ذاتبة ] . لا كما يقول القدماء من أن الكواكب مركوزة في أفلاكها التي تدور بها ، وبدورانها تتحرك الكواكب . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ } [ 34 ] .
{ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ } نزلت حين قالوا : نتربص به ريب المنون , فكانوا يقدّرون أنه سيموت ، فيشمتون بموته ، لما يأملون ذهاب الدعوة النبوية ، وتبدد نظامها ، بفقد واسطة عقدها . فنفى الله تعالى عنه الشماتة بهذه الآية ، بما قضى أنه لا يخلد في الدنيا بشراً ، لكونه مخالفاً للحكمة التكوينية . وأعلم بحفظ تنزيله وحراسته من المؤثرات ما بقيت الدنيا بقوله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] .
قال ابن كثير : فقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر عليه السلام مات ، وليس بحيٍّ إلى الآن . لأنه بشر سواء كان وليّاً ، أو نبيّاً أو رسولاً . انتهى .
وتقدم بسط ذلك في سورة الكهف فتذكر . وفي معنى الآية قول عروة الصحابيّ رضي الله عنه :
~إذا ما الدهرُ جرَّ على أناسٍ كَلاَكِلهُ أَنَاخَ بآخرينَا
~فقل للشَّامتينَ بنا : أفيقُوا سيلقى الشامِتُونَ كما لقيِنَا
وقول الشافعيّ :
~تَمَنَّى أُنَاسٌ أَنْ أَمُوتَ ، وَإِنْ أَمُتْ فَتِلْكَ سَبيلٌ لَسْتُ فِيهَا بِأوْحَدِ
~فقل للَّذِي يَبْغي خلافَ الَّذِي مضى تَهَيَّأْ لأُخْرَى مِثْلِهَا ، وَكَأنْ قَدِ(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [ 35 ] .
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ } أي : نختبركم بما يجب فيه الصبر من المصائب ، وما يجب فيه الشكر من النعم : { فِتْنَةً } أي : اختباراً . وهو مصدر مؤكد لـ " لنبلوكم " من غير لفظه : { وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } أي : فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر أو الشكر .
قال الزمخشري : وإنما سمى ذلك ابتلاءً ، وهو عالم بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم ، لأنه في صورة الاختبار ، أي : فهو استعارة تمثيلية . قال القاضي : وفي الآية إيماء بأن المقصود من هذه الحياة الابتلاء والتعريض للثواب والعقاب تقريراً لما سبق . وقدم الشر لأنه اللائق بالمنكر عليهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ } [ 36 ] .
{ وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ } عنى بهذه الآية مستهزئوا قريش ، كأبي جهل وأضرابه ممن كان يسخر من رسالته صلوات الله عليه ، ويتغيظ لسبّ آلهتهم وتسفيه أحلامهم . كما قال تعالى : { وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً } [ الفرقان : 41 - 42 ] ، وإضافة ذكر للرحمن من إضافة المصدر لمفعوله أي : بتوحيده . أو للفاعل ، أي : بإرشاده الخلق ببعث الرسل وإنزال الكتب رحمة عليهم . أو بالقرآن . هم كافرون ، أي : فهم أحق أن يهزأ بهم . وتكرير الضمير للتأكيد والتخصيص .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ } [ 37 ] .
{ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ } كقوله تعالى : { وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً } [ الإسراء : 11 ] ، جعل لفرط استعجاله وقلة صبره كأنه مخلوق منه . كقولك : خلق زيد من الكرم , تنزيلاً لما طبع عليه من الأخلاق ، منزلة ما طبع هو منه من الأركان ، إيذاناً بغاية لزومه له ، وعدم انفكاكه عنه فالآية استعارة مكنية ، بتشبيه العجل لكونه مطبوعاً عليه ، بمادته . ويجوز أن تكون تصريحية . والمراد بالإنسان الجنس . ومن عجلته مبادرته إلى الكفر واستعجال الوعيد : { سَأُرِيكُمْ آيَاتِي } أي : نقماتي في الدنيا كوقعة بدر . وفي الآخرة عذاب النار : { فَلا تَسْتَعْجِلُونِ } أي : بالإتيان بها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ 38 ] .
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ } أي : الموعود من العذاب الأخرويّ ، بطريق الاستهزاء والإنكار ، لا لتعيين وقته : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } في إتيانه . قال الزمخشري : كانوا يستعجلون عذاب الله وآياته الملجئة إلى العلم والإقرار . فأراد نهيهم عن الاستعجال وزجرهم . فقدم أولاً ذم الإنسان على إفراط العجلة وأنه مطبوع عليها . ثم نهاهم وزجرهم . كأنه قال : ليس ببدع منكم أن تستعجلوا . فإنكم مجبولون على ذلك وهو طبعكم وسجيتكم . ثم بين هول ما يستعجلونه وفظاعة ما فيه ، وأن عجلتهم لجهلهم بمغبته ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ } [ 39 - 40 ] .
{ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ } أي : لا يدفعونها عن أشرف أعضائهم وأقواها . فتقديم الوجه لشرفه ، ولكون الدفع عنه أهم من غيره أيضاً : { وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } أي : بدفع أحد عنهم . وجواب لو محذوف أي : لما استعجلوا . وقيل لو للتمني . لا جواب لها : { بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ } أي : فجأة فتحيّرهم . لأنهم إن أرادوا الصبر عليها لم يقدروا عليه . وإن أرادوا ردّها : { فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا } أي : بسبب من الأسباب : { وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ } أي : يمهلون ليستريحوا طرفة عين لتمام مدة الإنظار قبله . ثم أشار إلى تسليته عليه الصلاة والسلام عن استهزائهم ، في ضمن وعيد لهم ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ 41 ] .
{ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ } أي : نزل : { بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي عذابه أو جزاؤه ، على وضع السبب موضع المسبب ، إيذاناً بكمال الملابسة بينهما ، أو عين استهزائهم ، إن أريد بذلك العذاب الأخرويّ ، بناءً على تجسم الأعمال . فإن الأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصورة عرضية ، تبرز في النشأة الأخرى بصور جوهرية ، مناسبة لها في الحسن والقبح . أفاده أبو السعود .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ مَنْ يَكْلَأُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ } [ 42 - 43 ] .
{ قُلْ مَنْ يَكْلَأُكُمْ } أي : يحفظكم : { بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ } أي : من بأسه أي : يفجأكم . وتقديم الليل لما أن الدواهي فيه أكثر وقوعاً وأشد وقعاً . وفي لفظ الرحمن تنبيه على أنه لا حفظ لهم إلا برحمته ، وتلقين للجواب . وقيل إنه إيماء إلى شدته . كغضب الحليم . وتنديم لهم حيث عذبهم من غلبت رحمته . ودلالة على شدة خبثهم . قال المهايميّ : ولا يمنع من ذلك عموم رحمته . إذ بتعذيبكم يعتبر أهل عصركم ومَن بعدهم . فيكون لإصلاح أمورهم الموجب لرحمته عليهم ، ولا يغترون في ذلك بعموم رحمته حتى يرجى منعها عن ذلك : { بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ } أي : لا يخطرونه ببالهم ، فضلاً أن يخافوا بأسه ، ويعدوا ما هم عليه من الأمن والدعة حفظاً وكلاءة ، حتى يُسْألُوا عن الكالئ : { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ } أي : لهؤلاء المستعجلي ربهم بالعذاب آلهة تمنعهم ، إن نحن أحللنا بهم عذابنا وأنزلنا بهم بأسنا ، من دوننا . ومعناه : أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم منا . ثم وصف جل ثناؤه تلك الآلهة بالضعف والمهانة وما هي به من صفتها . ومعناه : كيف تستطيع آلهتهم التي يدعونها من دوننا أن تمنعهم منا ، وهي لا تستطيع نصر أنفسها ولا هي بمصحوبة منا بالنصر والتأييد . أفاده ابن جرير . فـ " فيصحبون " بمعنى يجارون يقال : صحبك الله , أي : أجارك وسلمك ، كما في " الأساس " . قال ابن جرير : أي : لا يصحبون بالجوار لأن العرب محكي عنها : أنا لك جار من فلان وصاحب , بمعنى : أجيرك وأمنعك . وهم إذا لم يصحبوا بالجوار لم يكن لهم مانع من عذاب الله ، مع سخطه عليهم ، فلم يصحبوا بخير ولم ينصروا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ 44 ] .
{ بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ } إضراب عما توهموا ، ببيان أن الداعي إلى غيهم وعنادهم هو ما متعوا به في الحياة الدنيا ونعّموا به هم ومن قبلهم حتى طال عليهم الأمد . لا تأتيهم واعظة من عذاب ولا زاجرة من عقاب حتى حسبوا أنهم على شيء وأنهم لا يغلبون : { أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } أي : ننقص أرض الكفر فنخربها من نواحيها بقهرنا أهلها وغلبتنا لهم وإجلائهم عنها وقتلهم بالسيوف ، فيعتبروا بذلك ويتعظوا به ويحذروا منا أن ننزل من بأسنا بهم نحو الذي قد أنزلنا بمن فعلنا ذلك به من أهل الأطراف . أفاده ابن جرير . وهذا كقوله تعالى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الأحقاف : 27 ] ، وقوله تعالى : { أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ } أي : أفهؤلاء المشركون المستعجلون بالعذاب ، الغالبون لنا ، وقد رأوا قهرنا مَن أحللنا بساحته بأسنا في أطراف الأرض ؟
وفي التعريف تعريض بأنه تعالى هو الغالب المعروف بالقهر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ } [ 45 ] .
{ قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ } أي : تنزيل الله الذي يوحيه إليّ من عنده وأخوفكم به بأسه ، لا بالإتيان بما تستعجلون ، لأن ذلك ليس إليّ ، على ما فيه من الحكمة في هذه البعثة التي بنيت على البراهين العقلية ، لا الخارقات الحسية كما قدمنا . ثم أشار إلى كمال جهلهم وعنادهم ، بأن هذا الإنذار لا يجديهم ، بقوله تعالى : { وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ } أي : فهم لا يصغون بسمع قلوبهم إلى تذكر ما في وحي الله من المواعظ والذكرى ، فيتذكرون بها ويعتبرون فينزجرون إذا تلي عليهم ، بل يعرضون عن الاعتبار به والتفكير فيه ، فعل الأصم الذي لا يسمع ما يقال له فيعمل به . وتقييد تصامهم بقوله : { إِذَا مَا يُنْذَرُونَ } مع أنهم لا يسمعون نذارة ولا بشارة ، إما لأن المقام مقام إنذار ، أو لأن من لا يسمع إذا خوف ، كيف يسمع في غيره ، فهو أبلغ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } [ 46 ] .
{ وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } أي : ولئن أصابهم شيء أدنى من عقوبته تعالى ، لأذعنوا وذلوا وأقروا بأنهم ظلموا أنفسهم في التصامّ والإعراض وعبادة تلك الآلهة وتركهم عبادة من خلقهم .
لطيفة :
في صدر الآية مبالغات . ذكر المس . وما في النفحة من معنى القلة . فإن أصل النفح هبوب رائحة الشيء . والبناء الدال على المرة . والتنكير . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [ 47 ] .
{ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } بيان لما سيقع عند إتيان ما أنذروه . أي : نقيم الموازين العادلة الحقيقية التي توزن بها صحائف الأعمال . وقيل : وضع الموازين تمثيل لإرصاد الحساب السويّ والجزاء على حسب الأعمال بالعدل والنصفة ، من غير أن يظلم مثقال ذرة . وإنما وصفت الموازين بالقسط وهو مفرد ، لأنه مصدر وصف به للمبالغة ، كأنها في نفسها قسط . أو على حذف المضاف أي : ذوات القسط . وقيل إنه مفعول له . واللام في ليوم القيامة للتعليل أو بمعنى في أي : لجزاء يوم القيامة أو لأهله أو فيه : { فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } أي : من حقوقها . أي : شيئاً ما من الظلم . بل يوفى كل ذي حق حقه : { وَإِنْ كَانَ } العمل أو الظلم : { مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا } أي : أحضرنا ذلك العمل المعبر عنه بمثقال حبة الخردل . للوزن . وأنث لإضافته إلى الحبة : { وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } أي : وحسب من شهد ذلك الموقف بنا حاسبين . لأنه لا أحد أعلم بأعمالهم ، وما سلف في الدنيا من صالح أو سيء ، منا .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ } [ 48 - 49 ] .
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ } شروع في قصص الأنبياء ، تسلية له صلوات الله عليه وعليهم ، فيما يناله من أذى قومه ، وتقوية لفؤاده على أداء الرسالة ، والصبر على كل عارض دونها . قال أبو السعود : نوع تفصيل لما أجمل في قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ } إلى قوله : { الْمُسْرِفِينَ } [ 7 - 9 ] ، وإشارة إلى كيفية إنجائهم وإهلاك أعدائهم . وتصديره بالتوكيد القسميّ لإظهار كمال الاعتناء بمضمونه . والمراد بالفرقان التوراة وكذا بالضياء والذكر . أي : وبالله لقد آتيناهما وحياً ساطعاً وكتاباً جامعاً بين كونه فارقاً بين الحق والباطل . وضياءً يستضاء به في ظلمات الجهل وذكراً يتعظ به الناس . وتخصيص المتقين بالذكر لأنهم المستضيئون بأنواره . انتهى { الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ } أي : يخافون عذابه وهو غير مشاهد لهم . وفيه تعريض بالكفرة حيث لا يتأثرون في الإنذار ، ما لم يشاهدوا ما أنذروه : { وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ } أي : وجلون أن تأتي الساعة التي تقوم فيها القيامة فيردوا على ربهم ، قد فرّطوا في الواجب عليهم لله ، فيعاقبهم بما لا قبل لهم به .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } [ 50 ] .
{ وَهَذَا } أي : القرآن الكريم : { ذِكْرٌ } أي : يتذكر به من يتذكر : { مُبَارَكٌ } أي : كثير الخير والنفع : { أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } أي : مع ظهور كون إنزاله كإيتاء التوراة . وفي الاستفهام الإنكاريّ توبيخ لهم بأنه لا ينبغي لهم إنكاره وهم عارفون بمزايا إعجازه . وتقديم لَهُ للفاصلة أو للحصر . لأنهم معترفون بغيره مما في أيدي أهل الكتاب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } [ 51 ] .
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ } أي : هدايته للحق وهو التوحيد الخالص : { مِنْ قَبْلُ } أي : من قبل موسى وهارون : { وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } أي : علمنا أنه أهل لما آتيناه [ في المطبوع : آيتناه ] . أو علمنا أنه جامع لمكارم الأخلاق التي آتيناه إياها ، فأهّلناه لخلتنا و أخلصناه لاصطفائنا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } [ 52 ] .
{ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } أي : ما هذه الصور الحقيرة التي عكفتم على عبادتها . استفهام تحقير لها وتوبيخ على العكوف على عبادتها ، بأنها تماثيل صور بلا روح ، مصنوعة لا تضر ولا تنفع ، فكيف تعبد ؟ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [ 53 - 54 ] .
{ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ } أي : فقلدناهم وتأسينا بهم { قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي : لا يخفى على عاقل لعدم استناد الفريقين إلى دليل ، بل إلى هوى متََّبَع وشيطان مطاع . وفي الإتيان بفي الظرفية دلالة على تمكنهم في ضلالهم ، وأنه ضلال قديم موروث . فهو أبلغ من ضالين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } [ 55 - 56 ] .
{ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ } أي : بالجد في دعوى الرسالة ونسبتنا إلى الضلال : { أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } قال الزمخشريّ رحمه الله : الضمير في فَطَرَهُنَّ للسماوات والأرض أو للتماثيل . وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم . أي : لدلالته صراحة على كونها مخلوقة غير صالحة للألوهية ، بخلاف الأول ، وجوابه عليه السلام إما إضراب عما بنوا عليه مقالتهم في اعتقاد كونها أرباباً لهم ، كما يفصح عنه قولهم : { نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ } [ الشعراء : 71 ] ، كأنه قيل ليس الأمر كذلك بل : { رَبُّكُمْ } الآية . أو إضراب عن كونه لاعباً بإقامة البرهان على ما ادعاه . وقوله : { مِنَ الشَّاهِدِينَ } أي : المبرهنين عليه بالحجة ، لا لقولكم العاطل منها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ } [ 57 ] .
{ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } لأحتالن لفضيحتها بإظهار عجزها : { بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ } أي : عنها بفراغكم من عبادتها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } [ 58 ] .
{ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً } أي : قطعاً مكسرة ، بعد أن ولوا عنها ، ليعلموا أنها لا تتحلم إلى هذا الحدّ . فهو عجّزهم في الدفع عن أنفسهم . فتوقعُ عابدهم الدفع عن نفسه غاية السفه : { إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } أي : فيسألونه : لم فعل بآلهتهم ؟ فإذا ظهر عجزه عن النطق ، فمن دونه أعجز منه في ذلك . فضلاً عن الدفع للذي أظهر عجزهم فيه . فرجعوا فأتوا بيت الأصنام فوجدوها جذاذاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ } [ 59 ] .
{ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا } أي : هذا الفعل الفظيع : { بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ } أي : لجرأته على إهانتها وهي الجديرة عندهم بالتعظيم . أو لإفراطه في التجذيذ والحطم ، وتماديه في الاستهانة بها . أو بتعريض نفسه للهلكة . والاستفهام للإنكار والتوبيخ والتشنيع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ } [ 60 - 61 ] .
{ قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ } أي : يحضرون عقوبته .
قال ابن كثير : وكان هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم عليه السلام ، أن يبين في هذا المحفل العظيم كثيرة جهلهم وقلة عقلهم في عبادة هذه الأصنام التي لا تدفع عن نفسها ضراً ولا تملك لها نصراً . فكيف يطلب منها شيء من ذلك ؟ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ } [ 62 - 63 ] .
{ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } يعني الذي تركه لم يكسره . فإن ترددتم أنه فعلي أو فعله : { فَاسْأَلُوهُمْ } أي : يجيبوكم : { إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ } أي : والأظهر عجزهم الكليّ المانع من القول بإلهيتها . والقول فيه ، أن قصد إبراهيم صلوات الله عليه ، لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم . وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضيّ يبلغ فيه غرضه عن إلزامهم الحجة ، وتبكيتهم . ولقائل أن يقول : عاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مرتبة . وكان غيظ كبيرها أكبر وأشد ، لما رأى من زيادة تعظيمهم له . فأسند الفعل إليه لأنه هو الذي متسبب لاستهانته بها وحطمه لها والفعل كما يسند إلى مباشره ، يسند إلى الحامل عليه . فيكون تمثيلاً أراد به عليه السلام تنبيههم على غضب الله تعالى عليهم ، لإشراكهم بعبادته الأصنام . ويحكى أنه قال : فعله كبيرهم هذا ، غضب أن تعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها . فكأنه قيل : فعله ذلك الكبير على مقتضى مذهبكم ، والقضية ممكنة . وأظهر هذه الأوجه هو الأول . وعليه اقتصر الإمام ابن حزم في كتابه " الفصل " في الرد على من جوز على الأنبياء المعاصي ، وعبارته : وأما قوله عليه السلام : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } فإنما هو تقريع لهم وتوبيخ كما قال تعالى : { ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } [ الدخان : 49 ] ، وهو في الحقيقة مهان ذليل مهين معذب في النار . فكلا القولين توبيخ لمن قيلا له ، على ظنهم أن الأصنام تفعل الخير والشر . وعلى ظن المعذب في نفسه في الدنيا أنه عزيز كريم . ولم يقل إبراهيم هذا على أنه محقق لأن كبيرهم فعله . إذ الكذب ، إنما هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه ، وقصداً إلى تحقيق ذلك . وجليٌّ أن مراده عليه السلام ، على كلٍّ ، إنما هو توجيههم نحو التأمل في أحوال أصنامهم كما ينبئ عنه قوله : { فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ } أي : إن كانوا ممن يمكن أن ينطقوا . قال أبو السعود : وإنما لم يقل عليه السلام : إن كانوا يسمعون أو يعقلون , مع أن السؤال موقوف على السمع والعقل أيضاً ، لما أن نتيجة السؤال هو الجواب ، وأن عدم نطقهم أظهر ، وتبكيتهم بذلك أدخل . وقد حصل ذلك أولاً حسبما نطق به قوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ } [ 64 ] .
{ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ } أي : فراجعوا عقولهم ، ومراجعة العقل مجاز عن التفكير والتدبر ، والمراد بالنفس النفس الناطقة ، والرجوع إليها عبارة عما ذكر : { فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ } أي : بهذا السؤال أو بعبادة من لا ينطق ولا يضر ولا ينفع ، لا مَن كسرها ، فَلِمَ تنسبوه إلى الظلم بقولكم : { إَنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ } [ 65 ] .
{ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ } أي : حياءً من نقصهم ، وخضوعاً وانفعالاً من إبراهيم ، قائلين : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ } أي : ليس من شأنهم النطق ، فكيف تأمرنا بسؤالهم ؟ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ } [ 66 - 67 ] .
{ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ } أي : قبح صنيعكم في عبادة ما لا يضر ولا ينفع .
تنبيه :
ذكر في الكشاف في قوله تعالى : { ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ } أربعة أوجه . وحاصله كما في العناية - أن التنكيس قلب الشيء بجعل أعلاه أسفله . فإما أن يستعار للرجوع عن الفكرة المستقيمة في تظليم أنفسهم ، إلى الفكرة الفاسدة في تجويز عبادتها ، مع عجزها فضلاً عن كونها في معرض الألوهية . فقوله : { لَقَدْ عَلِمْتَ } معناه لم يخف علينا وعليك أنها كذلك وأنا اتخذناها آلهة مع العلم به . والدليل عليه قوله : { أَفَتَعْبُدُونَ } الخ ، أو أن التنكيس الرجوع عن الجدال الباطل إلى الحق في قولهم : { لَقَدْ عَلِمْتَ } لأنه نفي لقدرتها واعتراف بأنها لا تصلح للألوهية ، وسمي نكساً وإن كان حقاً ، لأنه ما أفادهم مع الإصرار . ولكنه نكس بالنسبة لما كانوا عليه من الباطل . أو النكس مبالغة في إطراقهم خجلاً وقولهم : { لَقَدْ عَلِمْتَ } لحيرتهم أتوا بما هو حجة عليهم . أو النكس مبالغة في الحيرة وانقطاع الحجة { أُفٍّ } صوت إذا صوت به علم أن صاحبه متضجر . وفيه لغات كثيرة كما في كتب اللغة . قال الزمخشري : أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم وبعد وضوح الحق وزهوق الباطل ، فتأفف بهم . ولما عجزوا عن المحاجّة أخذوا في المضارّة ، شأن المبطل إذا قرعت شبهته بالحجة لم يكن أحد أبغض إليه من المحقّ ، ولم يبق له مفزع إلا مناصبته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } [ 68 ] .
{ قَالُوا حَرِّقُوهُ } أي : لأنه استحق أشد العقاب عندهم ، والنار أهول ما يعاقب به : { وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ } أي : بالانتقام لها : { إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } أي : به شيئاً من السياسة ، فلا يليق به غيرها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ } [ 69 ] .
{ قُلْنَا } أي : تعجيزاً لهم ولأصنامهم ، وعناية بمن أرسلناه ، وتصديقاً له في إنجاء من آمن به : { يَا نَارُ كُونِي بَرْداً } أي : باردة على إبراهيم ، مع كونك محرقة للحطب : { وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ } أي : ولا تنتهي في البرد إلى حيث يهلكه ، بل كوني غير ضارة . وجوز كون سلاماً منصوباً بفعله . والأمر مجاز عن التسخير ، كما في قوله : { كُونُوا قِرَدَةً } [ البقرة : 65 ] ، ففيه استعارة بالكناية بتشبيهها بمأمور مطيع ، وتخييلها الأمر والنداء ، ولذا قال أبو مسلم : المعنى أنه سبحانه و تعالى جعل النار برداً وسلاماً ، لا أن هناك كلاماً ، كقوله : { أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يّس : 82 ] ، أي : فيكونه . فإن النار جماد ولا يجوز خطابه . وهو ظاهر .
تنبيه :
قال الرازي : لهم في كيفية برودة النار ثلاثة أقوال :
أحدها : أن الله تعالى أزال عنها ما فيها من الحرّ والاحتراق ، وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق . والله على كل شيء قدير .
وثانيها : أن الله تعالى خلق في جسم إبراهيم كيفية مانعة من وصول أذى النار إليه . كما يفعل بخزنة جهنم في الآخرة . وكما أنه ركب بنية النعامة بحيث لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة . وبدن السمندل بحيث لا يضره المكث في النار .
ثالثها : أنه سبحانه خلق بينه وبين النار حائلاً يمنع من وصول أثر النار إليه .
قال المحققون : والأول أولى لأن ظاهر قوله : { يَا نَارُ كُونِي بَرْداً } أن نفس النار صارت باردة حتى سلم إبراهيم من تأثيرها ، لا أن النار بقيت كما كانت .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } [ 70 - 71 ] .
{ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ } أي : أرادوا أن يكيدوه بالإضرار ، فما كانوا إلا مغلوبين مقهورين . قال الزمخشري : غالبوه بالجدال فغلَّبه الله ولقنه بالمبكّت . وفزعوا إلى القوة والجبروت فنصره وقوّاه : { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً } أي : لأنه هاجر معه : { إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } وهي أرض الشام . بورك فيها بكثرة الأنبياء وإنزال الشرائع التي هي طريق السعادتين . وبكثرة النعم والخصب والثمار وطيب عيش الغنيّ والفقير . وقد نزل إبراهيم عليه السلام بفلسطين ، ولوط عليه السلام بسدوم . ثم بين بركته تعالى على إبراهيم بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ } [ 72 ] .
{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ } أي : بدعوته : { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ } [ الصافات : 100 ] ، { وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } أي : زيادة وفضلاً من غير سؤال . ثم أشار إلى أن منشأ البركة فيهما الصلاح بقوله : { وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ } بالاستقامة والتمكين في الهداية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ } [ 73 ] .
{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً } أي : قدوة يقتدى بهم في أمور الدين ، إجابة لدعائه عليه السلام بقوله : { وَمِنْ ذُرِّيَّتِي } [ البقرة : 124 ] ، { يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } أي : يهدون الناس إلى الحق بأمرنا لهم بذلك وإذننا . قال الزمخشريّ : فيه أن من صلح ليكون قدوة في دين الله ، فالهداية محتومة عليه ، مأمور هو بها ، من جهة الله . ليس له أن يخلّ بها ويتثاقل عنها . وأول ذلك أن يهتدي بنفسه ، لأن الانتفاع بهداه أعم ، والنفوس إلى الاقتداء بالمهدي أميل : { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ } أي : أن تفعل الخيرات ، مما يختص بالقلوب أو الجوارح : { وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ } أي : بالتوحيد الخالص والعمل الصالح .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } [ 74 - 75 ] .
{ وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً } أي : حكمة . وهو ما يجب فعله : { وَعِلْماً } أي : بما ينبغي علمه للأنبياء . وقد بعثه الله تعالى إلى سدوم فكذبه أهلُها وخالفوه فأهلكهم الله ودمر عليهم ما قص خبرهم في غير ما موضع في كتابه العزيز ، وقد أشار إلى ذلك في ضمن بيان عنايته به وكرامته له بقوله : { وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ } أي : من عذابها : { الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ } يعني اللواطة ، وكانت أشنع أفعالهم . وبها استحقوا الإهلاك . ولذا ذهب بعض الفقهاء إلى رمي اللوطي منكساً من مكان عال ، وطرح الحجارة عليه ، كما فعل بهم : { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا } أي : في أهلها : { إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } أي : العاملين بالعلم ، الثابتين على الاستقامة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } [ 76 ] .
{ وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ } أي : دعا ربه في إهلاك قومه لما كذبوه بقوله : { أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ } [ القمر : 10 ] ، { رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] ، { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } وهو الطوفان ، أو من الشدة والتكذيب والأذى . فإنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ يؤمن به إلا القليل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } [ 77 ] .
{ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ } أي : نصرناه نصراً مستتبعاً للانتصار والانتقام من قومه : { الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } أي : فلم يبق منهم أحد كما دعا نبيّهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } [ 78 ] .
{ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ } أي : الزرع : { إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ } أي : رعته ليلاً : { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } أي : لحكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما ، عالمين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ } [ 79 ] .
{ فَفَهَّمْنَاهَا } أي : الفتوى أو الحكومة المفهوميْن من السياق : { سُلَيْمَانَ } أي : فكان القضاء فيها قضاءه ، لا قضاء أبيه . روي عن ابن عباس أن غنماً أفسدت زرعاً بالليل ، فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث ، فقال سليمان : بل تؤخذ الغنم فتدفع إلى أصحاب الزرع فيكون لهم أولادها وألبانها ومنافعها . ويبذر أصحاب الغنم لأهل الزرع مثل زرعهم فيعمروه ويصلحوه ، فإذا بلغ الزرع الذي كان عليه ، ليلة نفشت فيه الغنم ، أخذه أصحاب الحرث وردوا الغنم إلى أصحابها . وكذا روي عن ابن مسعود موقوفاً لا مرفوعاً . والله أعلم بالحقيقة . وقوله تعالى : { وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } أي : وكل واحد منهما آتيناه حكمة وعلماً كثيراً ، لا سليمان وحده . ففيه دفع ما عسى يوهمه تخصيص سليمان عليه السلام بالتفهم ، من عدم كون حكم داوُد عليه السلام حكماً شرعيّاً .
تنبيهات :
الأول : استدل بالآية على أن خطأ المجتهد مغفور له ، وعكس بعضهم ، فاستدل بالآية على أن كل مجتهد مصيب .
قال : لأنها تدل بظاهرها على أنه لا حكم لله في هذه المسألة قبل الاجتهاد . وأن الحق ليس بواحد . فكذا غيرها إذ لا قائل بالفصل . إذ لو كان له فيها حكم تعين . وهذا مذهب المعتزلة ، كما بيّن في الأصول . وردّ بأن مفهوم قوله : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } لتخصيصه بالفهم دون داود عليه السلام ، يدل على أنه المصيب للحق عند الله . ولولاه لما كان لتخصيصه بالفهم معنى . والمستدلون يقولون : إن الله لما لم يخطئه ، دل على أن كلاً منهما مصيب . وتخصيصه بالفهم لا يدل على خطأ داوُد عليه السلام ، لجواز كون كلٍّ مصيباً . ولكن هذا أرفق وذاك أوفق ، بالتحريض على التحفظ من ضرر الغير . فلذلك استدل بهذه الآية كلٌّ . فكما لم يعلم حكم الله فيها ، لم يعلم تعين دلالتها . كذا في " العناية " .
وجاء في " فتح البيان " ما مثاله : لا شك أنها تدل على رفع الإثم عن المخطئ ، وأما كون كل واحد منهما مصيباً فلا تدل عليه هذه الآية ولا غيرها ، بل صرح الحديث المتفق عليه في الصحيحين وغيرهما : أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران ، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر . فسماه النبيّ صلى الله عليه وسلم مخطئاً . فكيف يقال إنه مصيب لحكم الله موافق له ؟ فإن حكم الله سبحانه واحد لا يختلف باختلاف المجتهدين . وإلا لَزم توقف حكمه عزَّ وجلَّ على اجتهادات المجتهدين ، واللازم باطل فالملزوم مثله . وأيضاً يستلزم أن يكون العين التي اختلف فيها اجتهاد المجتهدين ، بالحلّ والحرمة ، حلالاً وحراماً في حكم الله سبحانه . وهذا اللازم باطل بالإجماع ، فالملزوم مثله . وأيضاً يلزم أن حكم الله سبحانه لا يزال يتجدد عند وجود كل مجتهد ، له اجتهاد في تلك الحادثة ، ولا ينقطع ما يريده الله سبحانه وتعالى فيها إلا بانقطاع المجتهدين . واللازم باطل فالملزوم مثله . والحاصل أن المجتهدين لا يقدرون على إصابة الحق في كل حادثة . لكن لا يصرون على الخطأ . كما رجع داود هنا إلى حكم سليمان ، لما ظهر له أنه الصواب .
قال الحسن : لولا هذه الآية ، لرأيت الحكام قد هلكوا ، ولكن الله حمد هذا بصوابه ، وأثنى على هذا باجتهاد .
الثاني : دلت هذه الآية على جواز الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام . وهو مذهب الجمهور . ومنعه بعضهم . ولا مسند له . لأن قضاء داود لو كان بوحي لما أوثر قضاء ابنه سليمان عليه . ومما يدل على وقوعه دلالة ظاهرة قوله تعالى : { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] ، فعاتبه على ما وقع منه . ولو كان ذلك بالوحي لم يعاتبه . ومنه ما صح عنه صلوات الله عليه من قوله : < لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدْي > ومثل ذلك لا يكون فيما عمله بالوحي ، ونظائر ذلك كثيرة في الكتاب والسنة . وأيضاً ، فالاستنباط أرفع درجات العلماء . فوجب أن يكون للرسول فيه مدخل . وإلا لكان كل واحد من آحاد المجتهدين أفضل منه في هذا الباب .
قال الرازي : إذا غلب على ظن نبيّ أن الحكم في الأصل معلل بمعنى ، ثم علم أو ظن قيام ذلك معنى في صورة أخرى ، فلا بد وأن يغلب على ظنه أن حكم الله تعالى في هذه الصورة مثل ما في الأصل . وعنده مقدمة يقينية ، وهي أن مخالفة حكم الله تعالى سبب لاستحقاق العقاب ، فيتولد من هاتين المقدمتين ظن استحقاق العقاب لمخالفة هذا الحكم المظنون . وعند هذا ، إما أن يقدم على الفعل والترك معاً ، وهو محال ، لاستحالة الجمع بين النقيضين . أو يتركهما وهو محال ، لاستحالة الخلّو عن النقيضين . أو يرجح المرجوح على الراجح وهو باطل ببديهة العقل ، أو يرجح الراجح على المرجوح ، وذلك هو العمل بالقياس - وهذه النكتة هي التي عليها التعويل في العمل بالقياس . وهي قائمة أيضاً في حق الأنبياء عليهم السلام . انتهى .
الثالث : قال السيوطي في " الإكليل " : استدل بها على جواز الاجتهاد في الأحكام ووقوعه للأنبياء . وقد ذكرناه قبل . وأن المجتهد قد يخطئ ، وأنه مأجور مع الخطأ غير آثم ، لأنه تعالى أخبر بأن إدراك الحق مع سليمان ، ثم أثنى عليهما . وقد تقدم أولاً . واستدل بها من قال برجوع الحاكم بعد قضائه من اجتهاد إلى أرجح منه . وفيها تضمين أرباب المواشي ما أفسدت بالليل دون النهار . لأن النفش لا يكون إلا بالليل ، كما أخرجه ابن أبي حاتم عن شريح والزهري وقتادة . ومن عمم الضمان فسره بالرعي مطلقاً . وذهب قوم منهم الحسن إلى أن صاحب الزرع تدفع إليه الماشية , ينتفع بدرّها وصوفها حتى يعود الزرع كما كان . كما حكم به سليمان في هذه الواقعة . إذ لم يرد في شرعنا ناسخ مقطوع به عندهم . انتهى .
الرابع : روى ابن جرير عن عامر قال : جاء رجلان إلى شريح فقال أحدهما : إن شياه هذا قطعت غزلاً لي . فقال شريحٌ : نهاراً أم ليلاً ؟ فإن كان نهاراً فقد برئ صاحب الشياه . وإن كان ليلاً فقد ضمن ، ثم قرأ هذه الآية .
قال ابن كثير : وهذا الذي قاله شريح شبيه بما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة من حديث الليث بن سعد عن الزهري عن حرام بن محيّصة . أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطاً . فأفسدت فيه . فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الحوائط ، حفظها بالنهار . وما أفسد المواشي بالليل ضامن على أهلها . وقد عُلّل هذا الحديث . وروى ابن أبي حاتم أن إياس بن معاوية ، لما استقضى أتاه الحسن ، فبكى . فقال : ما يبكيك ؟ قال : يا أبا سعيد بلغني أن القضاة رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار . ورجل مال به الهوى فهو في النار . ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة . فقال الحسن البصريّ : إن فيما قصّ الله من نبأ داود وسليمان عليهما السلام والأنبياء ، حكماً يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم . قال الله تعالى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ } [ 78 ] الآية . فأثنى الله على سليمان ، ولم يذمّ داود .
ثم قال يعني الحسن : إن الله اتخذ على الحكماء ثلاثاً : لا يشتروا به ثمناً قليلاً . ولا يتبعوا فيه الهوى . ولا يخشوا فيه أحداً . ثم تلا : { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [ صّ : 26 ] ، وقال : { فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } [ المائدة : 44 ] ، وقال : { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } [ البقرة : 41 ] .
ثم قال ابن كثير : وقد ثبت في صحيح البخاري عن عَمْرو بن العاص أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران . وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر > فهذا الحديث يردّ نصّاً ما توهمه إياس من أن القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار .
وفي السنن : < القضاة ثلاثة : قاضٍ في الجنة وقاضيان في النار . رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة . ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار ، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار > .
ثم بيّن سبحانه ما خص كلاًّ من داود وسليمان من كراماته ، إثر بيان كرامته العامة لهما ، بقوله : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ } أي : سخرنا الجبال والطير يقدسن الله معه ، بصوت يتمثل له أو يُخْلَقُ فيها . قال ابن كثير : وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه " الزبور " وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه . وترد عليه الجبال تأويباً ، ولهذا لما مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على أبي موسى الأشعريّ وهو يتلو القرآن من الليل ، وكان له صوت طيّب جداً ، فوقف واستمع لقراءته وقال : < لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود > . قال : يا رسول الله ! لو علمت أنك تسمع لحبَّرته لك تحبيراً .
قال أبو عثمان الهنديّ : ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا مزمار مثل صوت أبي موسى رضي الله عنه . انتهى .
وتقديم الجبال على الطير ، لأن تسبيحها أعجب وأدل القدرة ، وأدخل في الإعجاز ، لأنها جماد . والتذييل بقوله : { وَكُنَّا فَاعِلِينَ } إشارة إلى أنه ليس ببدع في جانب القدرة الإلهية ، وإن كان عند المخاطبين عجيباً . وهذه الآية كقوله تعالى في سورة ص : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ } [ صّ : 17 - 19 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ } [ 80 ] .
{ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ } أي : عمل الدروع الملبوسة . قيل كانت الدروع قبله صفائح ، فحلقها وسردها . أي : جعلها حلقاً وأدخل بعضها في بعض كما قال تعالى : { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } [ سبأ : 10 - 11 ] ، أي : لا توسع الحلقة فتقلق المسمار . ولا تغلظ المسمار فتقدّ الحلقة . ولهذا قال : { لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ } أي : لتحفظكم من جراحات قتالكم : { فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ } أي : لنعم الله عليكم ، لما ألهم عبده داود فعلّمه ذلك رحمة بكم فيما يحفظ عليكم في المعامع حياتكم . وفي إيراد الأمر بالشكر على صورة الاستفهام ، مبالغة في التقريع والتوبيخ ، لما فيه من الإيماء إلى التقصير في الشكر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } [ 81 ] .
{ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً } أي : سخرناها له : { تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } وهي بيت المقدس : { وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } أي : ما تقضيه الحكمة البالغة فيه . وهذا كقوله تعالى : { فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ } [ صّ : 36 ] .
قال الزمخشري رحمه الله : فإن قلت : وصفت هذه الريح بالعصف تارة وبالرخاوة أخرى ، فما التوفيق بينهما ؟ قلت : كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم . فإذا مرت بكرسيّه أبعدت به في مدة يسيرة على ما قال : { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } [ سبأ : 12 ] ، فكان جمعها بين الأمرين ، أن تكون رخاء في نفسها ، وعاصفة في عملها ، مع طاعتها لسليمان ، وهبوبها على حسب ما يريد ويحتكم ، آية إلى آية ، ومعجزة إلى معجزة .
قال في " الانتصاف " : وهذا كما ورد في وصف عصا موسى تارة بأنها جانّ وتارة بأنها ثعبان . والجانّ الرقيق من الحيات والثعبان العظيم الجافي منها . ووجه ذلك أنها جمعت الوصفين فكانت في خفتها وفي سرعة حركتها كالجانّ ، وكانت في عظم خلقها كالثعبان ، ففي كل واحد من الريح والعصا ، على هذا التقرير ، معجزتان . والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } [ 82 ] .
{ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ } أي : في البحر لاستخراج نفائسه ، تكميلاً لخزائنه وتزييناً لقومه : { وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ } أي : غير ذلك كبناء المدن والقصور واختراع الصنائع العجيبة كما قال تعالى : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ } [ سبأ : 13 ] ، { وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } أي : مؤيدين ومعينين .
تنبيه :
الشياطين المذكورون ، إما مردة الإنس وأشداؤُهم ، وإما مردة الجن لظاهر اللفظ . وعليه قال الجبائيّ : كيف يتهيأ لهم هذه الأعمال وأجسامهم رقيقة لا يقدرون على عمل الثقيل ؟ وإنما يمكنهم الوسوسة . وأجاب بأنه تعالى كثَّف أجسامهم خاصة وقواهم ، وزاد في عظمهم ليكون ذلك معجزاً لسليمان عليه السلام . والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ } [ 83 - 84 ] .
{ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ } . أي : أذكر أيوب وما أصابه من البلاء ودعاءه ربه في كشف ما نزل به ، واستجابته تعالى دعاءه وما امتن به عليه في رفع البلاء . وما ضاعف له بعد صبره من النعماء ، لتعلم أن النصر مع الصبر ، وأن عاقبة العسر اليسر . وأن لك الأسوة بمثل هذا النبيّ الصبور ، فيما ينزل أحياناً بك من ضرّ . وأن البلاء لم ينج منه الأنبياء . بل هم أشد الناس ابتلاءً . كما في الحديث < أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل > .
وإن من أسباب الفرج دعاءه تعالى والابتهال إليه والتضرع له ، وذكره بأسمائه الحسنى وصفاته العليا . وإن البلاء لا يدل على الهوان والشقاء . فإن السعادة والشقاء في هذا العالم لا يترتبان على صالح الأعمال وسيئها . لأن الدنيا ليست دار جزاء . وإن عاقبة الصدق في الصبر ، هي توفية الأجر ومضاعفة البر . وقد روي أن أيوب عليه السلام ، لما امتحن بما فقد أرزاقه وهلك به جميع آل بيته ، وبما لبث يعاني من قروح جسده آلاماً ، وصبر وشكر ، رحمه مولاه فعادت له صحة بدنه وأوتي أضعاف ما فقده . ورزق عدة أولاد ، وعاش عمراً طويلاً أبصر أولاده إلى الجيل الرابع . ولذا قال تعالى : { وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ } أي : تذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر ، حتى يثابوا كما أثيب في الدنيا والآخرة . وبالجملة فالسر هو تثبيت قلوب المؤمنين وحملهم على الصبر في المجاهدة في سبيل الحق . وقد روى المفسرون ههنا في بلاء أيوب روايات مختلفات ، بأسانيد واهيات ، لا يقام لها عند أئمة الأثر وزن . ولا تُعَارُ من الثقة أدنى نظر . نعم يوجد في التوراة سفر لأيوب فيه من شرح ضره ، بفقد كل مقتنياته ومواشيه وآل بيته ، وبنزول مرض شديد به ، عدم معه الراحة ولذة الحياة ، غرائب . إلا أنها مما لا يوثق بها جميعها . لما داخلها من المزيج ، وتوسع بها في الدخيل ، حتى اختلط الحابل بالنابل . وإن كان يؤخذ من مجموعها بلاء فادح وضر مدهش . ولو علم الله خيراً في أكثر مما أجمله في تنزيله الحكيم ، لتفضل علينا بتفصيله . ولذا يوقف عند إجماله فيما أجمل ، وتفصيله فيما فصّل .
تنبيه :
قال بعضهم : أكثر المحققين على أن أيوب كان بعد زمن إبراهيم عليهما السلام . وأنه كان غنيّاً من أرباب العقار والماشية . وكان أميراً في قومه . وأن أملاكه ومنزله في أرض خصيبة رائعة التربة كثيرة المتسلسلة في الجنوب الشرقي من البحر الميت . ومن جبل سُعَيْر بين بلاد أدوم وصحراء العربية . والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ } [ 85 - 86 ] .
{ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ } أي : على القيام بأمر الله ، وعلى شدائد النوب ، وعلى احتمال الأذى في نصرة دينه تعالى ، ففيهم أعظم أسوة : { وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا } أي : في النبوة أو في نعمة الآخرة : { إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ } أي : الكاملين في الصلاح .
قال ابن كثير : أما إسماعيل فالمراد به ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام . وقد تقدم ذكره في سورة مريم . وكذا إدريس عليه السلام . وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبيّ .
وقال آخرون : إنما كان رجلاً صالحاً ، وكان ملكاً عادلاً وحكماً مقسطاً ، وتوقف ابن جرير في ذلك ، فالله أعلم .
وذهب بعض المحققين إلى أن ذا الكفل هو حزقيل عليه السلام .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } [ 87 - 88 ] .
{ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } أي : اذكر ذا النون يعني صاحب الحوت ، وهو يونس عليه السلام ، وصبره على ما أصابه ، ثم إنابته ونجاته ، ليثتبت في نبئه فؤادك ويقوى على الصبر على ما يقوله الطغاة جنانك . وهذه القصة مذكورة ههنا وفي سورة الصافات وفي سورة ن . وذلك أن يونس بن متى عليه السلام ، أمره الله أن ينطلق إلى أهل نينوى - من أرض الموصل ، كرسي سلطنة الأشوريين ليدعوهم إلى الإيمان به تعالى وحده ، وإلى إقامة القسط ونشر العدل وحسن السيرة . وكانوا على الضد من ذلك ، تعاظم كفرهم وتزايد شرهم . فخشي أن لا يتم له الأمر معهم ، فأبق من بيت المقدس إلى يافا . ونزل في سفينة سائرة إلى ترشيش ليقيم فيها . فأرسل الله ريحاً شديدة على البحر أشرفت السفينة معه على الغرق . فتخفف الركاب من أمتعتهم فلم يفد ، فوقع في أنفسهم أن في السفينة شخصاً سيهلكون بسببه ، فاقترعوا لينظروا من هو فخرجت القرعة على يونس ، فقذفوه في البحر وسكن جيشانه وتموجه . وهيأ الله حوتاً ليونس فابتلعه ، فمكث في جوف الحوت ثلاثة أيام . ثم دعا ربه فاستجاب له ، وألقاه الحوت على الساحل . ثم أوحى الله إلى يونس ثانية بالمسير إلى نينوى ، ودعوتها إلى الله تعالى ، فوصلها ونادى فيهم بالتوحيد والتوبة . وتوعدهم إن لم يؤمنوا أن تنقلب بهم نينوى ، فلما تحققوا ذلك آمنوا . فرفع الله عنه العذاب ، قال تعالى : { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [ يونس : 98 ] .
تنبيهات :
الأول : يونس عليه السلام يسمى في التوراة يونان وهو عبراني . ويقال إنه من جَت حافَر وهي قرية في سبط زبولون ، في شمال الأرض المقدسة . وإنه نُبِّئَ قبل المسيح بنحو ثمانمائة سنة . والله أعلم .
الثاني : أكثر المفسرين كما حكاه الرازي على أن يونس ذهب مغاضباً لربه . وأنه ظن بإباقه إلى الفلك ، وتركه المسير إلى نينوى أولاً ، أن يترك ولا يقاصّ . قال بعض المحققين : إنما خالف يونس أولاً الأمر الإلهي وترخص فيه ، مخافة أن يظن أنه نبيّ كاذب إذا تاب أهل نينوى وعفا الله عن جرمهم . وإيثار صيغة المبالغة في مغاضباً للمبالغة . لأن أصله يكون بين اثنين ، يجهد كل منهما في غلبة الآخر . فيقتضي بذل المقدور والتناهي . فاستعمل في لازمه للمبالغة ، دون قصد مفاعلة وقد استدل بظاهر هذه الآية وأمثالها ، من ذهب إلى جواز صدور الخطأ من الأنبياء ، إلا الكذب في التبليغ ، فإنه لا يجوز عليهم الخطأ فيه ، لأنه حجة الله على عباده . وإلا ما يجري مجرى بيان الوحي ، فإنه لا يجوز عليهم الخطأ في حال بيان المشروع . وهو قول الكرامية في المرجئة كما في " شرح نهج البلاغة " لابن أبي الحديد . وقول الباقلاني من الأشعرية على ما حكاه ابن حزم في " الملل " : وأما الجمهور المانعون من ذلك ، فلهم في هذه الآية وأشباهها تأويلات . ونحن نؤثر ما قاله ابن حزم في هذا المقام ، لأنه أطلق لساناً ، قال رحمه الله : بعد أن حكى مذهب الكرامية المذكور : وذهب أهل السنة والمعتزلة والنجاريّة والخوارج والشيعة إلى أنه لا يجوز البتة أن يقع من نبيّ معصية بعمد لا صغيرة ولا كبيرة .
ثم قال : وهذا القول الذي ندين الله تعالى به . ولا يحل لأحد أن يدين بسواه . ونقول : إنه يقع من الأنبياء السهو عن غير قصد . ويقع منهم أيضاً قصد الشيء يريدون به وجه الله تعالى ، والتقرب به منه . فيوافق خلاف مراد الله تعالى . إلا أنه تعالى لا يقرهم على شيء من هذين الوجهين أصلاً ، بل ينبههم على ذلك ولا بد ، إثر وقوعه منهم . وربما يبغض المكروه في الدنيا ، كالذي أصاب آدم ويونس والأنبياء عليهم السلام ، بخلافنا في هذا . فإننا غير مؤاخذين بما سهونا فيه ، ولا بما قصدنا به وجه الله عزّ وجلّ ، فلم يصادف مراده تعالى . بل نحن مأجورون على هذا الوجه أجراً واحداً .
ثم قال في الكلام على يونس عليه السلام : وأما إخبار الله تعالى أن يونس ذهب مغاضباً ، فلم يغاضب ربه قط ، ولا قال الله تعالى إنه غاضب ربه . فمن زاد هذه الزيادة كان قائلاً على الله الكذب ، وزائداً في القرآن ما ليس فيه . هذا لا يحل ولا يجوز أن يظن بمن له أدنى مسكة من عقل , أنه يغاضب ربه تعالى . فكيف أن يفعل ذلك نبيٌّ من الأنبياء ؟ فعلمنا يقيناً أنه إنما غاضب قومه ، ولم يوافق ذلك مراد الله عزّ وجلّ ، فعوقب بذلك . وإن كان يونس عليه السلام لم يقصد بذلك إلا رضاء الله عزّ وجلّ . وأما قوله تعالى : { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ } فليس على ما ظنوه من الظن السخيف الذي لا يجوز أن يظن بضعيفة من النساء أو بضعيف من الرجال . إلا أن يكون قد بلغ الغاية من الجهل . فكيف بنبيّ مفضل على الناس في العلم ؟ ومن المحال المتيقن أن يكون نبيّ يظن أن الله تعالى الذي أرسله بدينه لا يقدر عليه . وهو يرى أن آدميّاً مثله يقدر عليه . ولا شك في أن من نسب هذا للنبيّ صلى الله عليه وسلم الفاضل ، فإنه يشتد غضبه لو نسب ذلك إليه أو إلى ابنه . فكيف إلى يونس بن متى الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا تفضلوني على يونس بن متى ؟ > فقد بطل ظنهم بلا شك ، وصح أن معنى قوله : { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ } أي : لن نضيق عليه كما قال تعالى : { وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ } [ الفجر : 16 ] , أي : ضيق عليه . فظن يونس عليه السلام أن الله تعالى لا يضيق عليه في مغاضبته لقومه ، إذ ظن أنه محسن في فعله ذلك : وإنما نهى الله عزّ وجلّ ، محمداً صلى الله عليه وسلم عن أن يكون كصاحب الحوت ، فنعم ، نهاه الله عزّ وجلّ عن مغاضبة قومه ، وأمره بالصبر على أذاهم وبالمطاولة لهم . وأما قوله تعالى : أنه استحق الذم والملامة ، لولا النعمة التي تداركه بها ، للبث معاقباً في بطن الحوت ، فهذا نفس ما قلناه من أن الأنبياء عليهم السلام يؤاخذون في الدنيا على ما فعلوه ، مما يظنونه خيراً وقربة إلى الله عزّ وجلّ ، إذا لم يوافق مراد ربهم . وعلى هذا الوجه أقر على نفسه بأنه كان من الظالمين . والظلم وضع الشيء في غير موضعه . فلما وضع النبيّ صلى الله عليه وسلم المغاضبة في غير موضعها ، اعترف في ذلك بالظلم . لا على أنه قصده وهو يدري أنه ظلم . انتهى كلام ابن حزم .
وأقول : إن الذي يفتح باب الإشكالات هو التعمق في الألفاظ . والتنطع في شرحها وتوليد معاني ولوازم لها ، والتوسع في وجوهها توسعاً يميت رونق التركيب ونصاعة بلاغته . ومعلوم أن التنزيل الكريم فاق سائر أساليب الكلام المعهودة بأسلوبه البديع . ولذا كانت آية تأخذ بمجامع القلوب رقة وانسجاماً . وبلاغة وانتظاماً . فلا ترى في كلمه إلا المختارات لطفاً ، ولا في جمله إلا الفخيمات تركيباً ، ولا في إشاراته إلا الأقوى رمزاً ، ولا في كناياته إلا الأعلى مغزى . ومن ذلك سنته في الملام والوعيد من إفراغ القول في أبلغ قالب شديد ، مما يؤخذ منه شدة الخطب ، وقوة العتب وذلك لعزة الجناب الإلهي والمقام الرباني . فالعربيّ البليغ طبعاً ، الذائق جبلة ، إذا تلي عليه مجمل نبأ يونس عليه السلام في هذه الآية ، يدهش لما ترمي إليه من قوة العتب والملام ، وأنه بإباقه غاضب مولاه ، غضباً لا يماثل الغضب على العصاة . فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين . وأنه ظن أن يُنسى فلا يؤاخذ . ويفلت فلا يحصر . فأتاه ما لم يكن على بال . ووقع في شرك قدرة المتعال ، ثم تداركته النعمة ، ولحقته الرحمة . هذا مجمل ما يفهم من الآية منطوقاً ومفهوماً . فافهم ما ذكرته لك . فإنه يبلغك من التحقيق أملك .
الثالث : عدَّ بعض الملاحدة ابتلاع الحوت يونس مُحالاً . فكتب بعض المحققين مجيباً بأن هذا إنكار لقدرة الله فاطر السموات والأرض . الذي له في خلقه غرائب . ومنها الحيتان المتنوعة الهائلة الجثث ، التي لم يزل يصطاد منها في هذا العصر ، وفي بطونها أجساد الناس بملابسهم . وكتب آخر : لم يتعرض لتعيين نوع الحوت الذي ابتلع يونس . ولعله فيما قال قوم من المحققين . من النوع المعروف عند بعضهم بالزفا وهو من كبار الحيتان يكون في بحر الروم ، واسع الحلقوم ، حتى أنه ليبتلع الرجل برمته ، دون أن يشدخه أو يجرحه . حتى يبقى في الإمكان أن يخرج منه وهو حيّ : ومع ذلك فلم يكن بغير معجزة بقاؤه ثلاثة أيام في جوف هذا الحوت ، ولبث مالكاً رشده متمكناً من التسبيح والدعاء . انتهى .
الرابع : الجمع في قوله : { فِي الظُّلُمَاتِ } إما على حقيقته ، وهي ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل . وقد روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما . أو مجاز ، يجعل الظلمة لشدتها وتكاثفها في بطن الحوت كأنها ظلمات . والمراد منها أحد المذكورات ، أو بطن الحوت . وقدمه الزمخشري ونظره بآية : { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } [ البقرة : 17 ] .
الخامس : قوله تعالى : { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ } أي : دعاؤه : { وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ } يعني بأن قذفه الحوت إلى الساحل ، قيل لم يقل فنجيناه كما قال في قصة أيوب عليه السلام : { فَكَشَفْنَا } [ 84 ] ، لأنه دعا بالخلاص من الضر ، فالكشف المذكور يترتب على استجابته . ويونس عليه السلام لم يدع ، فلم يوجد وجه الترتيب في استجابته . وردّ بأن الفاء في قصة أيوب تفسيرية . والعطف هنا أيضاً تفسيري . والتفنن طريقة مسلوكة في علم البلاغة . ثم لا نسلم أن يونس لم يدع بالخلاص ولو لم يكن دعاء لم تتحقق الاستجابة . واستظهر الشهاب في سر الإتيان بالفاء ثمة . والواو هنا غير التفنن المذكور . أن يقال : إن الأول دعاء بكشف الضر وتلطف في السؤال .
فلما أجمل في الاستجابة ، وكان السؤال بطريقة الإيماء ، ناسب أن يؤتى بالفاء التفصيلية . وأما هنا ، فإنه لما هاجر من غير أمر ، على خلاف معتاد الأنبياء عليهم السلام . كان ذلك ذنباً . كما أشار إليه بقوله : { مِنَ الظَّالِمِينَ } فما أومأ إليه هو الدعاء بعدم مؤاخذته بما صدر منه من سيئات الأبرار . فالاستجابة عبارة عن قبول توبته وعدم مؤاخذته : وليس ما بعده تفسيراً له ، بل زيادة إحسان على مطلوبه . ولذا عطف بالواو . انتهى .
السادس : قوله : { وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } أي : إذا كانوا في غموم ، وأخلصوا في أدعيتهم منيبين ، لا سيما بهذا الدعاء : وقد روي في الترغيب آثار : منها عند أحمد والترمذي : دعوة ذي النون ، لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط ، إلا استجاب له . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ } [ 89 ] .
{ وَزَكَرِيَّا } أي : واذكر خبره : { إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً } أي : حين طلب أن يهبه ربه ولداً يكون من بعده نبيّاً ، ولا يتركه فرداً وحيداً بلا وارث ، وقد تقدمت القصة مبسوطة في أول سورة مريم وفي سورة آل عِمْرَان أيضاً . وقوله : { وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ } ثناء مناسب للمسألة . قال الغزالي في " شرح الأسماء الحسنى " : الوارث هو الذي ترجع إليه الأملاك بعد فناء الملاك . وذلك هو الله سبحانه ، إذ هو الباقي بعد فناء خلقه ، وإليه مرجع كل شيء ومصيره . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } [ 90 ] .
{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ } أي : دعاءَهُ : { وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } أي : أصلحناها للولادة بعد عقرها ، معجزة وكرامة له . وقوله تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } تعليل لما فصّل من فنون إحسانه تعالى ، المتعلقة بالأنبياء المذكورين ، أي : كانوا يبادرون في كل باب من الخير . وإيثارُ في على إلى للإشارة إلى ثباتهم واستقرارهم في أصل الخير . لأن إلى تدل على الخروج عن الشيء والتوجه إليه : { وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً } أي : ذوي رغب ورهب ، أو راغبين في الثواب راجين للإجابة : { وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } أي : مخبتين متضرعين . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } [ 91 ] .
{ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } أي : اذكر نبأ التي أحصنته إحصاناً كلياً ، عن الحلال والحرام جميعاً . كما قالت : { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } [ آل عِمْرَان : 47 ] و [ مريم : 20 ] . والتعبير عنها بالموصول ، لتفخيم شأنها ، وتنزيهها عما زعموه في حقها ، بادئ بدء : { فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا } أي : نفخنا الروح في عيسى فيها . أي : أحييناه في جوفها . فنزّل نفخ الروح في عيسى ، لكونه في جوف مريم ، منزلة نفخ الروح فيها . ونفخ الروح في الجسد عبارة عن إحيائه . وقيل المعنى : فعلنا النفخ فيها من جهة روحنا جبريل عليه السلام ، أي : أمرناه فنفخ . أو فنفخنا فيها بعض روحنا ، أي : بعض الأرواح المخلوقة لنا . وذلك البعض هو روح عيسى ، لأنها وصلت في الهواء الذي نفخه في رحمها : { وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا } أي : نبأهما : { آيَةً لِلْعَالَمِينَ } أي : في كمال قدرته واختصاصه من شاء بما شاء . وقد كان من آيتهما إتيان الرزق لمريم في غير أوانه . وتثمير النخل اليابس . وإجراء العين ، ونطق ابنها في المهد . وإحياء الموتى . وإبراء الأكمه والأبرص .
قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : { ءَايَتَيْنِ } كما قال : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ } [ الإسراء : 12 ] ؟ قلت : لأن حالهما بمجموعها آية واحدة . وهي ولادتها إياه من غير فحل . انتهى . وقيل : المعنى وَجَعَلْنَاهَا ءَايَةً وَابْنَهَا آيَةً . فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها . ولما أنهى ما ذكر تعالى من شأن جماعة من الأنبياء صلوات الله عليهم ، أشار إلى أن عقائدهم وأصول دينهم واحدة ، بقوله سبحانه و تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [ 92 ] .
{ إِنَّ هَذِهِ } أي : علة التوحيد والاستسلام لمعبود واحد لا شريك له : { أُمَّتُكُمْ } أي : ملتكم التي يجب أن تحافظوا على حدودها وتراعوا حقوقها . والخطاب للناس كافة : { أُمَّةً وَاحِدَةً } أي : غير مختلفة . بل هي ملة واحدة . أي : أن جميع الأنبياء ورسل الله على ملة واحدة ودين واحد . كما قال تعالى : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام } [ آل عِمْرَان : 19 ] ، { وَأَنَا رَبُّكُمْ } أي : لا إله لكم غيري : { فَاعْبُدُونِ } أي : ولا تشركوا بي شيئاً .
تنبيه :
قلنا : إن الأمة هنا بمعنى الملة ، وهو الدين المجتمع عليه ، كما في قوله : { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } [ الزخرف : 23 ] ، أي : على دين يجتمع عليه . والأمة بهذا المعنى هو ما رجحه كثير من المفسرين في هذه الآية ، وفي آية : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } [ المؤمنون : 51 - 52 ] ، وتطلق الأمة بمعنى الجماعة . كما هي في قوله تعالى : { وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } أي : جماعة [ الأعراف : 181 ] . وكما في قوله : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } [ آل عِمْرَان : 104 ] ، ولا تكون بمعنى الجماعة مطلقاً ، وإنما هي بمعنى الجماعة الذين تربطهم رابطة اجتماع ، يعتبرون بها واحداً ، وتسوغ أن يطلق عليهم اسم واحد كاسم الأمة . وتطلق الأمة بمعنى السنين كما في قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ } [ هود : 8 ] ، وفي قوله : { وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } [ يوسف : 45 ] ,وبمعنى الإمام الذي يقتدى به ,كما في قوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ } [ النحل : 120 ] ، وبمعنى إحدى الأمم المعروفة كما في قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عِمْرَان : 110 ] ، وهذا المعنى الأخير لا يخرج عن معنى الجماعة ، على ما ذكرنا . وإنما خصصه العرف تخصيصاً . كذا حققه العلامة محمد عبده رحمه الله في تفسير آية : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } [ البقرة : 213 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } [ 93 ] .
{ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } أي : تفرق الناس في دينهم الذي أمرهم الله به ، ودعاهم إليه ، فصاروا فيه أحزاباً ومللاً .
قال الزمخشري رحمه الله : والأصل وتقطعتم إلا أن الكلام صرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات . كأنه ينعي عليهم ما أفسدوه ، إلى آخرين ، ويقبح عندهم فعلهم ، ويقول لهم : ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله ؟ والمعنى جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعاً ، كما يتورع الجماعة الشيء ويقتسمونه . فيطير لهذا نصيب ولذاك نصيب ، تمثيلاً لاختلافهم فيه ، وصيرورتهم فرقاً وأحزاباً شتى . ثم توعدهم بأن هؤلاء الفرق المختلفة ، إليه يرجعون . فهو محاسبهم ومجازيهم ، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ } [ 94 ] .
{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ } أي : فمن عمل من هؤلاء ، الذين تفرقوا في دينهم ، بما أمر الله به من العمل الصالح ، وأطاعه في أمره ونهيه ، وهو مقر بوحدانية الله ، مصدق وعده ووعيده ، متبرئ من الأنداد والآلهة ، فلا كفران لسعيه ، بل يشكر الله عمله هذا ، ويثيبه ثواب أهل طاعته . وقوله تعالى : { وَإِنَّا لَهُ } أي : لسعيه المشكور : { كَاتِبُونَ } أي : مثبتوه في صحيفة أعماله ، ولا نضيعه .
تنبيه :
الكفران مصدر من : كفر فلان النعمة كُفراً وكفراناً وأوثر لا كفران على لا نكفر للمبالغة . لأن نفي الجنس مستلزم له وأبلغ في التنزيه بعمومه . وعبر عن العمل بالسعي لإظهار الاعتداد به . والآية كقوله تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً } [ الإسراء : 19 ] .
ثم أشار إلى مقابل هؤلاء ، وهم من أعرض عن ذكره تعالى ، بلحوق الوعيد لهم ، لما جرت به سنته تعالى ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ } [ 95 ] .
{ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ } أي : وحرام على أهل قرية فسقوا عن أمر ربهم ، فأهلكهم بذنوبهم ، أن يرجعوا إلى أهلهم ، كقوله تعالى : { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ } [ يّس : 31 ] ، وقوله : { فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } [ يّس : 50 ] ، وزيادة لا هنا لتأكيد معنى النفي من حرام وهذا من أساليب التنزيل البديعة البالغة النهاية في الدقة . وسر الإخبار بعدم الرجوع مع وضوحه ، هو الصدع بما يزعجهم ويؤسفهم ويلوّعهم من الهلاك المؤبد ، وفوات أمنيتهم الكبرى ، وهي حياتهم الدنيا . وجعل أبو مسلم هذه الآية من تتمة ما قبلها ، ولا فيها على بابها . وهي مع حرام من قبيل نفي النفي . فيدل على الإثبات . والمعنى : وحرام على القرية المهلكة ، عدم رجوعها إلى الآخرة . بل واجب رجوعها للجزاء . فيكون الغرض إبطال قول من ينكر البعث . وتحقيق ما تقدم أنه لا كفران لسعي أحدٍ . وأنه سبحانه سيحييه ، وبعمله يجزيه . واللفظ الكريم يحتمله ويتضح فيه . إلا أن الأول لرعاية النظائر من الآي أولى . وأما ذكر سواهما ، فلا يدل عليه السياق ولا النظير . وفيه ما يخل بالبلاغة من التعقيد وفوات سلاسة التعبير .
ثم أشار إلى تحقق نصر الرسل وغلبتهم ، وكثرة أتباعهم حتى يحيطوا بأعدائهم من كل جانب ، وينزلوا بهم ما تشخص لهم أبصارهم ، يورثهم طول الندامة ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ } [ 96 ] .
{ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ } علم لكل أمة كثيرة العدد مختلطة مِنْ أَجْنَاسٍ شتى : { وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ } أي : من كل نشز من الأرض يسرعون , متجندين لقهر أعدائهم ، تحت راية نبيهم أو أميره أو خليفته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ } [ 97 ] .
{ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ } أي : طلعت طلائع النصر والقهر ، ودحر الباطل والكفر : { فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : لهول ما حل بساحتهم والدهشة منه ، قائلين : { يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا } أي : لم نعلم أنه حق : { بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ } أي لأنفسنا ، بالإخلال بالنظر والإباء والعناد . ثم أشار إلى شأنهم في الآخرة بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ } [ 98 - 100 ] .
{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي : من الأوثان والأصنام : { حَصَبُ جَهَنَّمَ } أي : ما يرمى به إليها : { أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ } أي : فلا منجى لهم منها .
قال الزمخشري : فإن قلت : لِمَ قرنوا بآلهتهم ؟ قلت : لأنهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غم وحسرة . حيث أصابهم ما أصابهم بسببهم والنظر إلى وجه العدوّ باب من العذاب . ولأنهم قدروا أنهم يستشفعون بهم في الآخرة ، ويستنفعون بشفاعتهم . فإذا صادفوا الأمر على عكس ما قدروا ، لم يكن شيء أبغض إليهم منهم : { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ } أي : ترديد نفس تنتفخ منه الضلوع : { وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ } أي : من الهول وشدة العذاب . ثم بيّن تعالى حال المؤمنين إثر حال الكافرين ، حسبما جرت به سنة التنزيل ، من شفع الوعد بالوعيد ، وإيراد الترغيب مع الترهيب ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [ 101 - 103 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى } أي : الخصلة الحسنى ، وهي السعادة أو التوفيق : { أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } لأنهم في غرفات الجنان آمنون . إذ وقاهم ربهم عذاب السعير : { لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } أي : صوتاً يحس به منها ، لبعدهم عنها وعما يفزعهم : { وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ } أي : للحشر كما قال تعالى : { وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ } [ النمل : 87 ] ، { وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ } أي : تستقبلهم مهنئين لهم قائلين : { هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } أي في الدنيا ، وتبشرون بنيل المثوبة الحسنى فيه . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [ 104 - 107 ] .
{ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ } أي : اذكره . أو ظرف لـ : { لا يحزنهم } أو لـ : { تتلقاهم } . والطيّ ضد النشر . وقوله : { كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } أي : كما يطوى السجل وهو الكتاب . واللام في للكتب لام التبيين . ولذلك قرئ : الكتاب بالإفراد . أو بمعنى من وفيه قرب من الأول . أو الكتب بمعنى المكتوب . أي : كطي الصحيفة على مكتوبها . فاللام بمعنى على وهو ما اختاره ابن جرير .
تنبيه :
ما نقل عن ابن عباس أن السجل اسم رجل كان يكتب للنبيّ صلوات الله عليه ، كما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما ، فأثر منكر لا يصح .
قال ابن كثير : وقد صرح بوضعه جماعة من الحفاظ ، وإن كان في سنن أبي داود . منهم شيخنا الحافظ أبو الحجاج المِزِيّ .
وكذلك تقدم في رده الإمام ابن جرير وقال : لا يعرف في الصحابة أحد اسمه السجل . وكُتَّابُ النبيّ صلوات الله عليه ، معروفون ، وليس فيهم أحد اسمه السجل .
وصدق رحمه الله في ذلك . وهو من أقوى الأدلة على نكارة هذا الحديث .
وأما من ذكره في أسماء الصحابة ، فإنما اعتمد على هذا الحديث . والصحيح عن ابن عباس أن السجل هي الصحيفة . انتهى .
هذه الآية كآية : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ الزمر : 67 ] ، وطي السماء كناية عن انكدار نجومها ، ومحو رسومها ، بفساد تركيبها واختلال نظامها . فلا يبقى أمر ما فيها من الكواكب على ما نراه اليوم . فيخرب العالم بأسره : { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } أي : منجزين إياه . ثم أشار إلى تحقيق مصداقه ، بإعزاز المنبئ عنه ، وإيراثه ملك جاحده بقوله تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } أي : العاملون بطاعته . المنتهون إلى أمره ونهيه . دون العاملين منهم بمعصيته ، المؤثرين طاعة الشيطان على طاعته . والزبور علم على كتاب داود عليه السلام ، ويقال : المراد به كل كتاب منزل . والذكر - قالوا - التوراة أو أم الكتاب . يعني اللوح الذي كتب فيه كل شيء قبل الخلق ، والله أعلم . وقوله تعالى : { إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ } إشارة إلى المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة . أو إلى العبرة في إيراث الأرض الصالحين ودحر المجرمين . والبلاغ الكفاية . وقوله : { لِقَوْمٍ عَابِدِينَ } أي : يعبدون الله ، بما شرعه وأحبه ورضيه . ويؤثرون طاعته على طاعة الشياطين وشهوات النفس : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } أي : وما أرسلناك بهذه الحنيفية والدين الفطريّ ، إلا حال كونك رحمة للخلق ، فإن ما بعثت به سبب لسعادة الدارين . وفي جعله نفس الرحمة مبالغة جلية . وجوز كون رحمة مفعولاً له . أي : للرحمة ، فهو نبيّ الرحمة .
تنبيه :
قال الرازي : إنه عليه السلام كان رحمة في الدين وفي الدنيا . أما في الدين فلأنه بعث والناس في جاهلية وضلالة وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم لطول مكثهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم . فبعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم حين لم يكن يطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب . فدعاهم إلى الحق وبين لهم سبيل الثواب ، وشرع لهم الأحكام وميز الحلال من الحرام . ثم إنما ينتفع بهذه الرحمة من كانت همته طلب الحق ، فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار ، وكان التوفيق قريناً له . قال الله تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ } [ فصلت : 44 ] إلى قوله تعالى : { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً } [ فصلت : 44 ] ، وأما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من كثير من الذل والقتال والحروب ، ونصروا ببركة دينه . انتهى .
وقد أشرت إلى وجه الرحمة في بعثته صلوات الله عليه ، في " الشذرة " التي جمعتها في سيرته الزكية ، في بيان افتقار الناس جميعاً إلى رسالته ، فقلت : كل من لحظ بعين الحكمة والاعتبار ، ونفذت بصيرته إلى مكنون الأسرار ، علم حاجة البشر كافة إلى رسالة خاتم النبيين ، وأكبر منة الله به على العالمين ، فقد بعث صلوات الله عليه وسلامه على حين فترة من الرسل ، وإخافة للسبل ، وانتشار من الأهواء ، وتفرق من الملل ، ما بين مشبه لله بخلقه ، وملحد في اسمه ، ومشير إلى غيره ، كفر بواح ، وشرك صراح ، وفساد عام ، وانتهاب للأموال والأرواح واغتصاب للحقوق ، وشن للغارات ، ووأد للبنات وأكل للدماء والميتات ، وقطع للأرحام ، وإعلان بالسفاح ، وتحريف للكتب المنزلة ، واعتقاد لأضاليل المتكهنة . وتأليه للأحبار والرهبان ، وسيطرة من جبابرة الجور وزعماء الفتن وقادة الغرور ، ظلمات بعضها فوق بعض ، وطامات طبقت أكناف الأرض ، استمرت الأمم على هذه الحال ، الأجيال الطوال ، حتى دعا داعي الفلاح ، وأذن الله تعالى بالإصلاح . فأحدث بعد ذلك أمراً ، وجعل بعد عسر يسراً . فإن النوائب إذا تناهت انتهت ، وإذا توالت تولّت . وذلك أن الله تعالى أرسل إلى البشر رسولاً ليعتقهم من أسر الأوثان ، ويخرجهم من ظلمة الكفر وعمى التقليد إلى نور الإيمان ، وينقذهم من النار والعار ، ويرفع عنه الآصار ، ويطهرهم من مساوئ الأخلاق والأعمال ، ويرشدهم إلى صراط الحق . قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } وقال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [ آل عِمْرَان : 164 ] . انتهى . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [ 108 - 112 ] .
{ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } أي : ما يوحى إليَّ ، إلاّ استئثاره تعالى بالوحدانية في الألوهية . ومعنى القصر على ذلك ، أنه الأصل الأصيل ، وما عداه راجع إليه في جنبه . فهو قصر دعائي : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } أي : منقادون لما يوحى من التوحيد ، مستسلمون له : { فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي : عن التوحيد : { فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ } أي : أعلمتكُمْ وهديتكم على كلمة سواء بيننا وبينكم ، نؤمن بها ونجني ثمرات سعادتها في الدارين . أو المعنى دللتكم على صراط مستقيم ، وبلغتكم الأمر به . فإن آمنتم به فقد سعدتم ، وإلا فإن وعد الجاحدين آتيكم ، وليس بمصروف عنكم . وإن كنت لا أدري متى يكون ذلك ، لأن الله تعالى لم يعلمني علمه ، ولم يطلعني عليه كما قال : { وَإِنْ أَدْرِي } أي : وما أدري : { أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ } أي : من الفتح عليكم ، وإيراث أرضكم غيركم ، ولحوق الذل والصغار بعصيانكم : { إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } أي : فسيجزيكم على ذلك : { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ } أي : وما أدري لعل [ في المطبوع : لعلل ] تأخير جزائكم استدراج لكم ، وزيادة في افتتانكم ، أو ابتلاء لينظر كيف تعملون . فالفتنة إما مجاز عن الاستدراج بذكر السبب وإرادة المسبب ، أو هو بمعناه الأصليّ . فهو استعارة مصرحة . وقول تعالى : { وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } أي : تمتيع لكم إلى أجل مقدور . والتمتيع بمعنى الإبقاء والتأخير : { قَالَ } وقرئ : قُل : { رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ } أي : افصل بيننا وبينهم بالحق . وذلك بنصر من آمن بما أنزلت ، على من كفر به ، كقوله تعالى : { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } [ الأعراف : 89 ] ، { وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } أي : من الكذب والافتراء على الله ورسوله . بنصر أوليائه ، وقهر أعدائه . وقد أجاب سبحانه دعوته ، وأظهر كلمته ، فله الحمد في الأولى والآخرة ، إنه حميد مجيد .
قال الرازي : قال القاضي : إنما ختم الله هذه السورة بقوله : { قُلْ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ } لأنه عليه السلام كان قد بلغ في البيان لهم الغاية ، وبلغوا النهاية في أذيته وتكذيبه . فكان قصارى أمره تعالى بذلك تسليةً له وتعريفاً أن المقصود مصلحتهم . فإذا أبوا إلا التمادي في كفرهم ، فعليك بالانقطاع إلى ربك ، ليحكم بينك وبينهم بالحق . إما بتعجيل العقاب بالجهاد أو بغيره . وإما بتأخير ذلك . فإن أمرهم ، وإن تأخر فما هو كائن قريب . وما روي أنه عليه السلام كان يقول ذلك في حروبه ، كالدلالة على أنه تعالى أمره أن يقول هذا القول ، كالاستعجال للأمر بمجاهدتهم . وبالله التوفيق .(/)
سورة الحج
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } [ 1 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } يأمر تعالى عباده بِتَقْوَاهُ التي هي من جوامع الكلم ، في فعل المأمورات واجتناب المنهيات .
قال المهايمي : أي : احفظوا تربيته عليكم ، بصرف نعمه إلى ما خلقها لأجله ، لئلا تقعوا في الكفران الموجب لانقلاب التربية عليكم ، بالانتقام منكم . انتهى .
أي فالتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية والتربية ، مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين ، لتأييد الأمر وتأكيد إيجاب الامتثال به ترغيباً وترهيباً . أي : احذروا عقوبة مالك أموركم ومربيكم ، وقوله تعالى : { إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } تعليل لموجب الأمر ، بذكر بعض عقوباته الهائلة . فإن ملاحظة عظمها وهولها ، وفظاعة ما هي من مبادئه ومقدماته ، من الأحوال والأهوال ، التي لا ملجأ منها سوى التدرع بلباس التقوى ، مما يوجب مزيد الاعتناء بملابسته وملازمته لا محالة . والزلزلة التحريك الشديد والإزعاج العنيف ، بطريق التكرير بحيث يزيل الأشياء من مقارّها ويخرجها عن مراكزها . وإضافتُها للساعة ، من إضافة المصدر إلى فاعله مجازاً ، كأنها هي التي تزلزل . أو إلى ظرفه ، وهي الزلزلة المذكورة في قوله تعالى : { إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا } [ الزلزلة : 1 ] ، وفي التعبير عنها بالشيء ، إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها ، والعبارة لا تحيط بها إلا على وجه الإبهام . أفاده أبو السعود .
وقد وصف عظمها في كثير من السور والآيات . كسورة التكوير وسورة الانفطار وسورة الانشقاق وسورة الزلزال وغيرها . وقد أشير إلى شيء من بليغ هولها بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } [ 2 ] .
{ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ } أي : عن إرضاعها . أو عن الذي أرضعته وهو الطفل : { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا } أي : ما في بطنها لغير تمام : { وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى } أي : كأنهم سكارى : { وَمَا هُمْ بِسُكَارَى } أي : على التحقيق : { وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } أي : ولكن ما رهقهم من خوف عذاب الله ، هو الذي أذهب عقولهم ، وطيّر تمييزهم ، وردهم في نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه . قاله الزمخشريّ .
لطيفة :
قال الناصر في " الانتصاف " : العلماءُ يقولون : إن من أدلة المجاز صدق نقيضه ، كقولك : زيد حمار , إذا وصفته بالبلادة . ثم يصدق أن تقول : ومَا هُو بحمار , فتنفي عنه الحقيقة . فكذلك الآية . بعد أن أثبت السكر المجازيّ نفي الحقيقيّ أبلغ نفي مؤكّد بالباء . والسر في تأييده التنبيه على أن هذا السكر الذي هو بهم في تلك الحالة ، ليس من المعهود في شيء ، وإنما هو أمر لهم يعهدوا قبله مثله . والاستدراك بقوله : { وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } راجع إلى قوله : { وَمَا هُمْ بِسُكَارَى } كأنه تعليل لإثبات السكر المجازيّ . كأنه قيل إذا لم يكونوا سكارى من الخمر ، وهو السكر المعهود ، فما هذا السكر الغريب وما سببه ؟ فقال : سببه شدة عذاب الله تعالى . انتهى .
ثم أشير لحال المنكرين للساعة ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ } [ 3 ] .
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي : يخاصم في شأنه تعالى بغير علم . فيزعم أنه غير قادر على إحياء من قد بلي وصار تراباً ، ونحو ذلك من الأباطيل : { وَيَتَّبِعُ } أي : في جداله : { كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ } أي : عات متمرد . كرؤساء الكفر الصادّين عن الحق . ثم أشار لوصف آخر لهذا الشيطان المتبع ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } [ 4 ] .
{ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } أي : قضى على الشيطان أنه يضل من تولاه بأن اتخذه ولياً ، وتبعه ، ولا يهديه إلى الحق ، بل يسوقه إلى عذاب جهنم الموقدة . وسوقُه إياه إليه ، بدعائه إلى طاعته ومعصية الرحمن .
تنبيه :
قيل : نزلت الآية في النضر بن الحارث ، وكان جدِلاً .
قال الزمخشريّ : وهي عامة في كل من تعاطى الجدال فيما يجوز على الله وما لا يجوز ، من الصفات والأفعال . ولا يرجع إلى علم ، ولا يعض فيه بضرس قاطع . وليس فيه اتباع للبرهان ولا نزول على النصفة فهو يخبط خبط عشواء ، غير فارق بين الحق والباطل . انتهى . ثم بين تعالى الحجة القاطعة لما يجادلون فيه ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ 5 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ } أي : من إمكانه وكونه مقدوراً له تعالى . أو من وقوعه : { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ } أي : خلقنا أول آبائكم ، أو أول موادّكم ، وهو المنيّ , من تراب . إذ خلق من أغذية متولدة منه . وغاية أمر البعث أنه خلق من التراب : { ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } أي : تولدت من الأغذية الترابية : { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } أي : قطعة من الدم جامدة : { ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ } أي : قطعة من اللحم بقدر ما يمضغ : { مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } أي مصورة وغير مصورة والمراد تفصيل حال المضغة وكونها أولاً قطعة لم يظهر فيها شيء من الأعضاء . ثم ظهرت بعد ذلك شيئاً فشيئاً : { لِنُبَيِّنَ لَكُمْ } أي : بهذا التدريج ، قدرتنا وحكمتنا ، وأن ما قَبِلَ التغير والفساد والتكوّن مرة ، قَبِلَهَا أخرى . وأن من قدر على تغييره وتصويره أولاً ، قدر على ذلك ثانياً { وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً } وهو وقت الوضع .
قال أبو السعود : استئناف مسوق لبيان حالهم ، بعد تمام خلقهم . وعدم نظم هذا وما عطف عليه في سلك الخلق المعلل بالتبيين ، مع كونهما من متمماته ، ومن مبادئ التبيين أيضاً . لما أن دلالة الأول على كمال قدرته تعالى على جميع المقدورات ، التي من جملتها البعث المبحوث عنه ، أجلى وأظهر . أي : ونحن نقر في الأرحام بعد ذلك ما نشاء أن نقره فيها إلى أجل مسمى .
{ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ } أي : كمال قوتكم وعقلكم . قال أبو السعود علة لـ : { نُخْرِجُكُمْ } معطوفة على علة أخرى مناصبة لها . كأنه قيل : ثم نخرجكم لتكبروا شيئاً فشيئاً . ثم لتبلغوا كمالكم في القوة والتمييز : { وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى } أي : بعد بلوغ الأشد أو قبله : { وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ } وهو الهرم والخرف . والأرذل الأردأ : { لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً } أي : من بعد علم كثير ، شيئاً من الأشياء ، أو شيئاً من العلم ، مبالغة في انتقاص علمه وانتكاس حاله واللام لام العاقبة .
قال البيضاويّ : والآية - يعني : { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ } الخ - استدلال ثان على إمكان البعث ، بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة . فإن من قدر على ذلك قدر على نظائره .
ثم أشار تعالى إلى حجة أخرى على صحة البعث ، بقوله : { وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً } أي : ميتة يابسة : { فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ } أي : المطر : { اهْتَزَّتْ } أي : تحركت بالنبات : { وَرَبَتْ } أي : انتفخت وعلت ، لما يتداخلها من الماء ويعلو من نباتها : { وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ } أي : صنف : { بَهِيجٍ } أي : حسن رائق يسر ناظره وهذه الحجة الثالثة ، لظهورها وكونها مشاهدة معاينة ، يكررها الله تعالى في كتابه الكريم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ } [ 6 - 7 ] .
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ } أي : ذلك الذي ذكر من خلق الإنسان على أطوار مختلفة ، وتصريفه في أحوال متباينة ، وإحياء الأرض بعد موتها ، حاصل بسبب أن الله هو الحق وحده في ذاته وصفاته وأفعاله . المحقق لما سواه من الأشياء ، فهي من آثار ألوهيته وشؤونه الذاتية وحده ؛ وما سواه مما يبعد باطل ، لا يقدر على شيء من ذلك : { وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى } أي : يقدر على إحيائها ، إذ أحيى النطفة والأرض الميتة : { وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فإن القدرة التي جعل بها هذه الأشياء العجيبة ، لا يمتنع عليها شيء : { وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا } أي : لاقتضاء الحكمة إياها . فهي في وضوح دلائلها التكوينية ، بحيث ليس فيها مظنة أن يرتاب في إتيانها : { وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ } أي : من الأموات ، أحياء إلى موقف الحساب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } [ 8 - 10 ] .
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ } أي : يجادل في شأنه تعالى من غير تمسك بعلم ضروريّ ولا باستدلال ونظر صحيح ، يهدي إلى المعرفة . ولا بوحي مظهر للحق . أي : بل بمجرد الرأي والهوى ، وهذه الآية في حال الدعاة إلى الضلال من رؤوس الكفر المقلدين - بفتح اللام - كما أن ما قبلها في حال الضُّلّال الجهال المقلدين - بكسر اللام - فلا تكرار أو أنهما في الدعاة المضلين واعتبر تغاير أوصافهم فيها ، فلا تكرار أيضاً .
قال في " الكشف " : والأول أظهر وأوفق بالمقام . وكذا اختاره أبو مسلم فيما نقله عنه الرازيّ ، ثم قال : فإن قيل كيف يصح ما قلتم ، والمقلد لا يكون مجادلاً ؟ قلنا : قد يجادل تصويباً لتقليده وقد يورد الشبهة الظاهرة إذا تمكن منها ، وإن كان معتمده الأصليّ هو التقليد .
وقوله : { ثَانِيَ عِطْفِهِ } حال من فاعل يجادل أي : عاطفاً لجانبه إعراضاً واستكباراً عن الحق ، إذا دعي إليه .
قال الزمخشريّ : ثنى العطف عبارة عن الكبر والخيلاء . كتصعير الخدّ وليّ الجيد . وقوله : { لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي : ليصد عن دينه وشَرعه ، متعلق بيجادل علة له : { لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } أي : إهانة ومذلة ، كما أصابه يوم بدر من الصغار والفشل : { وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ } أي : النار المحرقة : { ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } على الالتفات ، أو إرادة القول . أي : يقال له يوم القيامة : ذلك الخزي والتعذيب بسبب ما اقترفته من الكفر والضلال والإضلال . وإسنادُه إلى يديه ، لما أن الاكتساب عادة يكون بالأيدي { وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } أي : بل هو العدل في معاقبة الفجار ، وإثابة الصالحين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } [ 11 ] .
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } شروع في حال المذبذبين ، إثر بيان حال المهاجرين . أي : ومنهم من يعبده تعالى على طرف من الدين ، لا في وسطه وقلبه . وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم ، لا على سكون وطمأنينة . كالذي ينحرف إلى طرف الجيش . فإن أحسّ بظفر وغنيمة قرّ وإِلّا فَرَّ : { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ } أي : دنيويّ من صحة وسعة : { اطْمَأَنَّ بِهِ } أي : ثبت على ما كان عليه ظاهراً : { وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ } أي : ما يفتتن به من مكروه ينزل به : { انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ } أي : رجع إلى ما كان عليه من الكفر : { خَسِرَ } أي : بهذا الانقلاب : { الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ } أي : ضيّعهما بذهاب عصمته ، وحبوط عمله ، بالارتداد : { ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } أي : الواضح الذي لا يخفى على ذي بصيرة .
تنبيه :
قال ابن جرير : يعني جل ذكره بقوله : { وَمِنَ النَّاسِ } الخ أعراباً كانوا يقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مهاجرين من باديتهم . فإن نالوا رخاء ، من عيش بعد الهجرة ، والدخول في الإسلام ، أقاموا على الإسلام . وإلا ارتدوا على أعقابهم . وبنحو الذي قلنا قال أهل التأويل . ثم أسنده من طرق .
وهذا مما يؤيد أن السورة مدنية كما قاله جمع . وتقدم ذلك . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ } [ 12 ] .
{ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ } أي : حال ثابتة من فاعل انقلب والأولى خسر ولذلك قرئ خاسر أي : ارتد عن دين الله يدعو من دونه آلهة لا تضره ، إن لم يعبدها في الدنيا ، ولا تنفعه في الآخرة إن عبدها - وقال أبو السعود : يدعو استئناف مبين لعظيم الخسران : { ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ } أي : عن الحق والهدى . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } [ 13 ] .
{ يَدْعُو } أي : هذا المنقلب على وجهه ، إذا أصابته فتنة : { لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ } أي : وثناً أو صنماً ، ضره في الدنيا بالذل والخزي وفي الآخرة بالعذاب ، أسرع إليه من نفعه الذي يتوقعه بعبادته ، وهو الشفاعة والتوسل به إلى الله تعالى . فاللام زائدة في المفعول به ، وهو مَنْ كما زيدت في قوله تعالى : { رَدِفَ لَكُمْ } [ النمل : 72 ] ، في وجه . وذكر أن ابن مسعود كان يقرؤه : { يَدْعُو مَنْ ضَرُّهُ } بغير لام . وهي مؤيدة للزيادة . وضره مبتدأ ، وأقرب خبر . وفي الآية وجوه كثيرة هذا أظهرها . وإثبات الضرر له هنا ، باعتبار معبوديته . ونفيُه قبلُ باعتبار نفسه . والآية بمثابة الاستدراك أو الإضراب عما قبلها ، بإثبات ضر محقق لاحق لعابده ، تسفيهاً وتجهيلاً لاعتقاده فيه أنه يستنفع به حين يستشفع به وإيراد صيغة التفضيل ، مع خلوه عن النفع بالمرة ، للمبالغة في تقبيح حاله ، والإمعان في ذمه : { لَبِئْسَ الْمَوْلَى } أي : الناصر له : { وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } أي : المصاحب له .
ولما بين سوء حال الكفرة من المجاهرين والمذبذبين ، أعقبه بكمال حسن حال المؤمنين ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } [ 14 ] .
{ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } أي : من الأفعال المبنيّة على الحكمة ، التي من جملتها إثابة من أطاعه وتعذيب من عصاه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } [ 15 ] .
{ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ } أي : بحبل إلى ما يعلوه : { ثُمَّ لْيَقْطَعْ } أي : ليختنق : { فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } أي : غيظه . والمعنى من استبطأ نصر الله وطلبه عاجلاً ، فليقتل نفسه . لأن له وقتاً لا يقع إلا فيه . فالآية في قوم من المسلمين استبطؤوا نصر الله ، لاستعجالهم وشدة غيظهم ، وحنقهم على المشركين . وجوز أن تكون في قوم من المشركين , والضمير في ينصره للنبيّ صلّى الله عليه وسلم . والمعنى : من كان منهم يظن أن لن ينصر الله نبيه ، فليختنق وليهلك نفسه ، ثم لينظر في نفسه ، هل يذهبن احتياله هذا في المضارّة والمضادّة ، ما يغيظه من النصرة ؟ كلا . فإن الله ناصر رسوله لا محالة . قال تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [ غافر : 51 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ 16 - 17 ] .
{ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ } أي : القرآن الكريم : { آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } يخبر تعالى عن أهل هذه الأديان المختلفة ، أنه يقضي بينهم في الآخرة بالعدل . فيدخل من آمن منهم به وعمل صالحاً ، الجنة . ومن كفر به ، النار . فإنه تعالى شهيد على أفعالهم ، حفيظ لأقوالهم ، عليم بسرائرهم وما تكنه ضمائرهم . وتقدم في سورة البقرة التعريف بالصابئين والمراد بالذين أشركوا كفار العرب خاصة . لأن المشركين في إطلاق التنزيل ، بمثابة العلَم لهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } [ 18 ] .
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ } بيان لعظمته تعالى وانفراده بألوهيته وربوبيته . بانقياد هذه العوالم العظمى له ، وجريها على وفق أمره وتدبيره . فالسجود فيها مستعار من معناه المتعارف ، لمطاوعة الأشياء له تعالى ، فيما يحدث فيها من أفعاله ، يجريها عليه من تدبيره وتسخيره لها . ووجه الشبه الحصول على وفق الإرادة من غير امتناع منها فيهما . وقوله : { وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ } إما معطوف على ما قبله ، إن جوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه جميعاً ، فيكون السجود في الجمادات الانقياد ، وفي العقلاء العبادة . أو مبتدأ خبره محذوف . أو فاعل لمضمر ، إن لم يجوز ذلك . وقوله تعالى :
{ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ } أي : من الناس . أي : بكفره واستعصائه : { وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ } أي : بأن كتب عليه الشقاوة حسبما علمه من صرف اختياره إلى الشر : { فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ } أي : يكرمه بالسعادة : { إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ } [ 19 ] .
{ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } يعني فريق المؤمنين وفريق الكافرين المنقسم إلى الفرق الخمس المبينة في الآية قبل . والخصم في الأصل مصدر . ولذا يوحّد وينكر غالباً . ويستوي فيه الواحد المذكر وغيره ومعنى اختصموا في ربهم أي : في دينه وعبادته . والاختصام يشمل ما وقع أحياناً من التحاور الحقيقي بين أهل الأديان المذكورة ، والمعنويّ . فإن اعتقاد كل من الفريقين بحقيّة ما هو عليه ، وبطلان ما عليه صاحبه ، وبناء أقواله وأفعاله عليه ، خصومة للفريقين الآخر . وإن لم يجز بينهما التحاور والخصام . ثم أشار إلى فصل خصومتهم المذكور في قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } بقوله سبحانه : : { فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ } أي : قدرت : { لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ } أي : الماء الحارّ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } [ 20 - 24 ] .
{ يُصْهَرُ } أي : يذاب : { بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ } أي : من الأمعاء والأحشاء : { وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ } أي : سياط يضربون بها : { مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ } كما قال تعالى : { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ } [ يونس : 10 ] و [ إبراهيم : 23 ] ، وقولهم : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ } [ الزمر : 74 ] ، { وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } أي : المحمود ، وهو الجنة . أو الحق تعالى ، المستحق لغاية الحمد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ 25 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أي : مكة : { الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ } أي : المقيم : { فِيهِ وَالْبَادِ } أي : الطارئ : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ } أي : بميل عن القصد : { بِظُلْمٍ } أي : بغير حق : { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } أي : جزاء على هتكه حرمته . ويشمل الإلحاد الإشراك ومنع الناس من عمارته ، واقتراف الآثام . وتدل الآية على أن الواجب على من كان فيه ، أن يضبط نفسه ، ويسلك طريق السداد والعدل في جميع ما يهمّ به ويقصده . وقد ذهب بعض السلف إلى أن السيئة في الحرم أعظم منها في غيره ، وأنها تضاعف فيه ، وإن همّ بها فيه أخذ بها . ومفعول يرد إما محذوف ، أي : يرد شيئاً أو مراداً ما ، والباء للملابسة . أو هي زائدة وإلحاداً مفعوله . أو للتعدية لتضمينه معنى يلتبس . وبظلم حال مرادفة . أو بدل مما قبله ، بإعادة الجار . أو صلة له . أي : ملحداً بسبب الظلم . وعلى كلّ , فهو مؤكد لما قبله . ومن قوله : { نُذِقْهُ } الخ يؤخذ خبر إنَّ ويكون مقدراً بعد قوله : { وَالْبَادِ } مدلولاً عليه بآخر الآية ، كما ارتضى ذلك أبو حيان في " البحر " . ثم أشار تعالى إلى تقريع وتوبيخ من عبد غيره وأشرك به في البقعة المباركة ، التي أسست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [ 26 ] .
{ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ } أي : واذكر إذ عيّناه وجعلناه له مباءة ، أي : منزلاً ومرجعاً لعبادته تعالى وحده فأنْ في قوله تعالى : { أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً } مفسرة لـ : { بَوَّأْنَا } من حيث إنه متضمن لمعنى تعبدنا لأن التبوئة للعبادة . أي : فعلنا ذلك لئلا تشرك بي شيئاً : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } أي : من الأصنام والأوثان والأقذار : { لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } أي : لمن يطوف به ويقيم ويصلّي . أو المراد بالقائمين وما بعده : المصلين ، ويكون عبّر عن الصلاة بأركانها ، للدلالة على أن كل واحد منها مستقل باقتضاء ذلك ، فكيف وقد اجتمعت ؟ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } [ 27 - 28 ] .
{ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ } أي : نَادِ فيهم به ، قال الزمخشريّ : والنداء بالحج أن يقول : حجّوا ، أو عليكم بالحج : { يَأْتُوكَ رِجَالاً } أي : مشاة ، جمع راجل : { وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ } أي : ركباناً على كل بعير مهزول ، أتعبه بُعد الشقة فهزله . والعدول عن ركباناً الأخصر ، للدلالة على كثرة الآتين من الأماكن البعيدة ، وقوله تعالى : { يَأْتِينَ } صفة لكل ضامر ، لأنه في معنى الجمع . وقرئ يأتون صفة للرجال والركبان . أو استئناف ، فيكون الضمير للناس : { مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } أي : طريق واسع بعيد : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } أي : ليحصروا منافع لهم دينية ودنيوية : { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } أي : على ما ملكهم منها ، وذلّلها لهم ، ليجعلوها هدياً وضحايا . قال الزمخشريّ : كنى عن النحر [ في المطبوع : البحر ] والذبح ، بذكر اسم الله . لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا أو ذبحوا . وفيه تنبيه على أن الغرض الأصليّ فيما يتقرب به إلى الله أن يذكر اسمه - زاد الرازيّ - وأن يخالَف المشركون في ذلك . فإنهم كانوا يذبحونها للنصُب والأوثان ، قال القفال : وكأن المتقرب بها وبإراقة دمائها متصوّر بصورة من يفدي نفسه بما يعادلها . فكأنه يبذل تلك الشاة بدل مهجته ، طلباً لمرضاة الله تعالى ، واعترافاً بأن تقصيره كاد يستحق مهجته . والأيام المعلومات أيام العشر . أو يوم النحر وثلاثة أيام أو يومان بعده . أو يوم عرفة والنحر ويوم بعده . أقوال للأئمة .
قال ابن كثير : ويعضد الثاني والثالث قوله تعالى : { عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } يعني به ذكر الله عند ذبحها . انتهى .
أقول : لا يبعد أن تكون على تعليلية ، والمعنى : ليذكروا اسم الله وحده في تلك الأيام بحمده وشكره وتسبيحه ، لأجل ما رزقهم من تلك البهم . فإنه هو الرزاق لها وحده والمتفضل عليهم بها : ولو شاء لحظرها عليهم ولجعلها أوابد متوحشة . وقد امتن عليهم بها في غير موضع من تنزيله الكريم . كقوله سبحانه : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [ يّس : 71 - 72 ] .
والسر في إفراده هذه النعمة ، والتذكير بها دون غيرها من نعمه وأياديه ، أن بها حياة العرب وقوام معاشهم . إذ منها طعامهم وشرابهم ولباسهم وأثاثهم وخباؤهم وركوبهم وجَمالهم . فلولا تفضله تعالى عليهم بتذليلها لهم ، لما قامت لهم قائمة . لأن أرضهم ليست بذات زرع وما هم بأهل صناعة مشهورة ، ولا جزيرتهم متحضرة متمدنة . ومن كانوا كذلك ، فيجدر بهم أن يذكروا المتفضل عليهم بما يبقيهم ، ويشكروه ويعرفوا له حقه . من عبادته وحده وتعظيم حرماته وشعائره . فالاعتبار بها من ذلك ، موجب للاستكانة لرازقها ، والخضوع له والخشية منه . نظير الآية - على ما ظهر لنا - قوله تعالى : { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } [ قريش : 3 - 4 ] ، هذا أولاً . وثانياً : قد يقال : إنما أفردت لتتبع بما هو البر الأعظم والخير الأجزل . وهو مواساة البؤساء منها . فإن ذلك من أجلّ ما يرضيه تعالى ، ويثيب عليه . والله أعلم .
{ فَكُلُوا مِنْهَا } أي : من لحومها . والأمر للندب . وإزاحة ما كان عليه أهل الجاهلية من التحرج فيه . وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نحر هديه ، أمر من كل بدنة ببضعة فتطبخ ، فأكل من لحمها ، وحسا من مرقها .
وعن إبراهيم قال : كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم . فرخص للمسلمين فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل .
قال في " الإكليل " : والأمر للاستحباب حيث لم يكن الدم واجباً بإطعام الفقراء . وأباح مالك الأكل من الهدى الواجب ، إلا جزاء الصيد والأذى والنذر ، وأباحه أحمد ، إلا من جزاء الصيد والنذر . وأباح الحسن الأكل من الجميع تمسكاً بعموم الآية . وذهب قوم إلى أن الأكل من الأضحية واجب ، لظاهر الأمر . وقومٌ إلى أن التصدق منها ندب ، وحملوا الأمر عليه . ولا تحديد فيما يؤكل أو يتصدق به ، لإطلاق الآية . انتهى .
{ وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ } أي : الذي أصابه بؤس : أي : شدة : { الْفَقِيرَ } أي : الذي أضعفه الإعسار ، والأمر هنا للوجوب . وقد قيل به في الأول أيضاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [ 29 - 31 ] .
{ ثُمَّ } أي : بعد الذبح : { لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } أي : ليؤدوا إزالة وسخهم من الإحرام ، بالحلق [ في المطبوع : بالحق ] والتقصير وقصّ الأظفار ولبس الثياب : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } أي : ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } أي : طواف الإفاضة . وهو طواف الزيارة الذي هو من أركان الحج . ويقع به تمام التحلل . والعتيق : القديم . لأنه أول بيت وضع للناس . أو المعتق من تسلط الجبابرة : { ذَلِكَ } خبر محذوف . أي : الأمر ذلك . وهو وأمثاله من أسماء الإشارة ، تطلق للفصل بين الكلامين ، أو بين وجهي كلام واحد .
قال الشهاب : والمشهور في الفصل هَذَا كقوله : { هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ } [ صّ : 55 ] ، واختيار ذلك هنا لدلالته على تعظيم الأمر وبعد منزلته . وهو من الاقتضاب القريب من التخلص ، لملائمة ما بعده لما قبله ، كما هنا : { وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ } أي : أحكامه . أو الحرم وما يتعلق بالحج من المناسك . والحرمات جمع حرمة وهو ما لا يحل هتكه ، بل يحترم شرعاً : { فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ } أي : ثواباً . وخير اسم تفضيل حذف متعلقه . أي : من غيره ، أو ليس المراد به التفضيل فلا يحتاج لتقديره ، قاله الشهاب . والثاني هو الأظهر ، لأنه أسلوب التنزيل في موضع لا يظهر التفاضل فيها . وإيثاره ، مع ذلك ، لرقة لفظه ، وجمعه بين الحسن والروعة : { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } أي : آية تحريمه . وذلك قوله في سورة المائدة : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ } [ المائدة : 3 ] ، والمعنى : أن الله قد أحل لكم الأنعام كلها ، إلا ما استثناه في كتابه . فحافظوا على حدوده . وإياكم أن تحرموا مما أحل لكم شيئاً . كتحريم عَبْدة الأوثان البحيرة والسائبة وغير ذلك . وأن تحلوا مما حرم الله . كإحلالهم أكل الموقوذة والميتة وغير ذلك . أفاده الزمخشري .
{ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ } تفريع على ما سبق من تعظيم حرماته تعالى . فإن ترك الشرك واجتناب الأوثان من أعظم المحافظة على حدوده تعالى . ومن بيانية . أي : فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان ، كما تجتنب الأنجاس . وهو غاية المبالغة في النهي عن تعظيمها والتنفير عن عبادتها . قال الزمخشري : سمى الأوثان رجساً وكذلك الخمر والميسر والأزلام ، على طريق التشبيه . يعني أنكم ، كما تنفرون بطباعكم عن الرجس وتجتنبونه ، فعليكم أن تنفروا عن هذه الأشياء مثل تلك النفرة . ونبه على هذا المعنى بقوله : { رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ } [ المائدة : 90 ] ، جعل العلة في اجتنابه أنه رجس ، والرجس مجتنب . وقوله تعالى : { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } تعميم بعد تخصيص . فإن عبادة الأوثان رأس الزور . كأنه لما حث على تعظيم الحرمات ، أتبعه ذلك ، ردّاً لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب . وتعظيم الأوثان والافتراء على الله تعالى بأنه حكم بذلك ، وإعلاماً بأن توحيد الله ونفي الشركاء عنه ، وصدق القول ، أعظم الحرمات وأسبقها خطواً : { حُنَفَاءَ لِلَّهِ } مخلصين له الدين ، منحرفين عن الباطل إلى الحق : { غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } أي : شيئاً من الأشياء . ثم ضرب للمشرك مثلاً في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى ، فقال تعالى : { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ } أي : سقط منها فقطعته الطيور في الهواء : { أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ } أي : تقدمه : { فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } أي : بعيد مهلك لمن هوى فيه . وأو للتخيير أو التنويع . قال الزمخشري : يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق . فإن كان تشبيهاً مركباً ، فكأنه قال : من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكاً ليس بعده نهاية . بأن صور حاله بصورة حال مَنْ خَرَّ من السماء فاختطفته الطير ، فتفرق مزعاً في حواصلها . أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة . وإن كان مفرقاً ، فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء ، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله ، بالساقط من السماء . والأهواء التي تتوزع أفكاره ، بالطير المختطفة . والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة ، بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة . فكتب الناصر عليه : أما على تقدير أن يكون مفرّقاً فيحتاج تأويل [ في المطبوع : تأيل ] تشبيه المشرك بالهاوي من السماء ، إلى التنبيه على أحد أمرين : إما أن يكون الإشراك المراد رِِدَّتَه ، فإنه حينئذ كمن علا إلى السماء بإيمانه ثم هبط بارتداده وإما أن يكون الإشراك أصلياً ، فيكون قد عدّ تمكن المشرك من الإيمان ومن العلوّ به ثم عدوله عنه اختياراً ، بمنزلة من علا إلى السماء ثم هبط كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } [ البقرة : 257 ] ، فعدهم مخرجين من النور وما دخلوه قط ، ولكن كانوا متمكنين منه . وفي تقريره تشبيه الأفكار المتوزعة للكافر ، بالطير المختطفة ، وفي تشبيه تطويح الشيطان بالهوي مع الريح في مكان سحيق - نظر . لأن الأمرين ذكرا في سياق تقسيم حال الكافر إلى قسمين . فإذا جعل الأول مثلاً لاختلاف الأهواء والأفكار ، والثاني مثلاً لنزغ الشيطان فقد جعلهما شيئاً واحداً . لأن توزع الأفكار واختلاف الأهواء ، مضاف إلى نزغ الشيطان ، فلا يتحقق التقسيم المقصود . والذي يظهر في تقرير التشبيهين غير ذلك . فنقول : لما انقسمت حال الكفر إلى قسمين لا مزيد عليهما ، الأول منهما : المتذبذب والمتمادي على الشك وعدم التصميم على ضلالة واحدة . فهذا القسم من المشركين مشبه بمن اختطفته الطير وتوزعته ، فلا يستولي طائر على مزعة منه إلا انتهبها منه آخر ، وذلك حال المذبذب . لا يلوح له خيال إلا اتّبعه ونزل عما كان عليه . والثاني : مشرك مصمم على معتقد باطل . لو نشر بالمنشار لم يكع ولم يرجع . لا سبيل إلى تشكيكه ، ولا مطمع في نقله عما هو عليه ، فهو فرح مبتهج بضلالته .
فهذا مشبه في إقراره على كفره ، باستقرار من هوت به الريح إلى واد سافل فاستقرّ فيه . ويظهر تشبيه بالاستقرار في الوادي السحيق ، الذي هو أبعد الأحباء عن السماء ، وصف ضلاله بالبعد في قوله تعالى : { أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ } [ إبراهيم : 3 ] ، و : { ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً } [ النساء : 167 ] ، أي : صمموا على ضلالهم فبَعُد رجوعهم إلى الحق فهذا تحقيق القسمين والله أعلم . انتهى كلامه .
ولا يخفى أن في النظم الكريم مساغاً له . إلا أنه لا قاطع به . نعم ، هو من بديع الاستنباط ، ورقيق الاستخراج . فرحم الله ناسخه [ في المطبوع : ناسجه ] .
قال ابن كثير : وقد ضرب تعالى للمشركين مثلاً آخر في سورة الأنعام . وهو قوله تعالى : { قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى } [ الأنعام : 71 ] الآية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } [ 32 ] .
{ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ } أي : علائم هدايته ، وهو الدين . أو معالم الحج ومناسكه . أو الهدايا خاصة ، لأنها من معالم الحج وشعائره تعالى . كما تنبئ عنه آية : { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } [ 36 ] ، وهو الأوفق لما بعده . وتعظيمُها أن يختارها عظام الأجرام حساناً سماناً ، غالية الأثمان . ويترك المكاس في شرائها . فقد كانوا يغالون في ثلاث ويكرهون المكاس فيهن : الهدي والأضحية والرقبة .
وعن سهل : كنا نسمن الأضحية في المدينة وكان المسلمون يسمنون . رواه البخاريّ .
وعن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين . رواه البخاريّ
وعن البراء مرفوعاً : < أربع لا تجوز في الأضاحي ، العوراء البيّن عورها ، والمريضة البيّن مرضها ، والعرجاء البيّن ظلعها ، والكسيرة التي لا تُنْقِي > رواه أحمد وأهل السنن { فَإِنَّهَا } أي : فإن تعظيمها : { مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } أي : من أفعال ذوي التقوى . والإضافة إلى القلوب ، لأن التقوى وضدها تنشأ منها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [ 33 ] .
{ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } أي : لكم في الهدايا منافع دَرّها ونسلها وصوفها وظهرها إلى وقت نحرها . وقد روي في الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة قال : < اركبها > . قال : إنها بدنة قال : < اركبها ويحك . في الثانية أو الثالثة > . وقوله : { ثُمَّ مَحلُّهَا } أي : محل الهدايا وانتهاؤها إلى البيت العتيق وهو الكعبة كما قال تعالى : { هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ } [ المائدة : 95 ] ، وقال : { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } [ الفتح : 25 ] .
قال في " الإكليل " : فيه أن الهدي لا يذبح إلا بالحرم . وقيل : المعنى : محل هذه الشعائر كلها الطواف بالبيت العتيق . فيقتضي أن الحاج بعد طواف الإفاضة . يحل له كل شيء . وكذا روي عن ابن عباس : ما طاف أحد بالبيت إلا حل ، لهذه الآية . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ } [ 34 ] .
{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } . أي : شرعنا لكل أمة أن ينسكوا . أي : يذبحوا لوجهه تعالى ، على وجه التقرب . وجعل العلة ، أن يذكر اسمه . تقدست أسماؤه . على النسائك . فمنسكاً مصدر ميميّ على أصله . أو بمعنى المفعول . وفي الآية تنبيه على أن القربان يجب أن يكون نعماً .
{ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا } أي : أخلصوا له الذكر خاصة ، لا تشوبوه بإشراك { وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ 35 - 36 ] .
{ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } أي : خافت لتأثرهم عند ذكره مزيد تأثر : { وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا } أي : في ذبحها تضحية : { خَيْرٌ } من المنافع الدينية والدنيوية : { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ } أي : قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن . وعن ابن عباس : قياماً على ثلاث قوائم ، معقولة يدها اليسرة . يقول : بسم الله ، والله أكبر ، لا إله إلا الله : اللهم منك ولك . وفي الصحيحين عن ابن عمر ؛ أنه أتى على رجل قد أناخ بدنة وهو ينحرها . فقال : ابعثها قياماً مقيدة سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم . وفي صحيح مسلم عن جابر في صفة حجة الوداع ، قال فيه : فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثاً وستين بدنة . جعل يطعنها بحربة في يده : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } أي : سقطت على الأرض ، وهو كناية عن الموت : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ } أي : السائل : { وَالْمُعْتَرَّ } أي : المتعرض بغير سؤال . أو القانع الراضي بما عنده وبما يعطي من غير سؤال ، والمعتر المتعرض بسؤال وقد استنبط أن الأضحية تجزأ ثلاثة أجزاء : فيأكل ثلثاً ويهدي ثلثاً ويتصدق بثلث .
{ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : ذللناها لكم ، لتشكروا إنعامنا ، والشكر صرف العبد ما أنعم عليه ، إلى ما خلق لأجله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ } [ 37 ] .
{ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } أي : لن يصيب رضاءه لحومها المتصدق بها ، ولا دماؤها المهراقة ، من حيث أنها لحوم ودماء . ولكن بمراعاة النية والإخلاص ، ابتغاء وجهه الأعلى ، ويقرب من هذه الآية قوله تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } [ البقرة : 177 ] ، إلى آخرها : { كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } [ في المطبوع سخرناها ] أي : لتعرفوا عظمته فتوحدوه بالعبادة على ما أرشدكم إلى طريق تسخيرها ، وكيفية التقرب بها على لسان أكرم رسله المبعوث بسعادة الدارين . وإنما كرره تذكيراً للنعمة وتعليلاً بما بعده . وفي التعليل المذكور شاهد لما قدمناه أولاً في معنى قوله تعالى : { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } [ 28 ] ، فتذكر . وقوله تعالى : { وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ } أي : المخلصين في أعمالهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } [ 38 ] .
{ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا } كلام مستأنف ، مسوق لتوطين قلوب المؤمنين ، ببيان أن الله تعالى ناصرهم على أعدائهم ، بحيث لا يقدرون على صدهم عن الحج ، ليتفرغوا إلى أداء مناسكه . كذا قاله أبو السعود . وسبقه الرازي إليه . والأوْلى أن يقال : إنه طليعة لما بعده من الإذن بالقتال ، مبشرة بغاية النصرة والحفظ والكلاءة والعاقبة للمؤمنين . تشجيعاً لهم على قتال من ظلمهم ، وتشويقاً إلى استخلاص بيته الحرام ، ليتسنى لهم إقامة شعائره وأداء مناسكه . وقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } أي : في أمانة الله : { كَفُورٍ } أي : لنعمته بعبادته غيره ، فلا يرتضي فعلهم ولا ينصرهم . وصيغة المبالغة فيهما ، لأنه في حق المشركين ، وهم كذلك ولأن خيانة أمانة الله وكفران نعمته لا يكون حقيراً ، بل هو أمر عظيم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ 39 - 40 ] .
{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ } أي : يقاتلهم المشركون . والمأذون فيه محذوف ، لدلالة المذكور عليه . وقرئ بكسر التاء { بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } أي : بغير حق سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين ، لا موجب الإخراج والتسيير . ومثله : { هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ } [ المائدة : 59 ] ، وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم .
{ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً } أي : لولا كفه تعالى المشركين بالمسلمين ، وإذنه بمجاهدة المسلمين للكافرين ، لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم ، وعلى متعبداتهم فهدموها .
قال ابن جرير : ومنه كفه تعالى ببعضهم التظالم . كالسلطان الذي كف به رعيته عن التظالم بينهم ومنه كفه تعالى لمن أجاز شهادته بينهم ببعضهم عن الذهاب بحق من له قبله حق . ونحو ذلك . وكل ذلك دفع منه الناس بعضهم عن بعض . لولا ذلك لتظالموا . فهدم القاهرون صوامع المقهورين وبيعهم ، وما سمى جل ثناؤه . والصوامع : مباني الرهبانية لخلوتهم . والبيع : معابد النصارى . والصلوات : روي عن ابن عباس أنه عنى بها كنائس اليهود . سميت بها لأنها محلها . وقيل هي بمعناها الحقيقي . وهدمت : بمعنى عطلت . أو فيه مضاف مقدر : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ } أي : ينصر دينه وأولياءه .
قال القاضي : وقد أنجز الله وعده ، بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم ، وأورثهم أرضهم وديارهم { إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } [ 41 ] .
{ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } أي : مرجعها إلى حكمه وتقديره . وفيه تأكيد لما وعده من إظهار أوليائه وإعلاء كلمتهم . ثم أشار تعالى إلى تسلية نبيّه صلى الله عليه وسلم ، عما يناله من أذى المشركين ، وحاضَّاً له على الصبر على ما يلحقه منهم من التكذيب ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [ 42 - 44 ] .
{ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ } وهم قوم هود : { وَثَمُودُ } وهم قوم صالح : { وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ } وهم قوم شعيب : { وَكُذِّبَ مُوسَى } وإنما لم يقل وقوم موسى كسابقه ، لأن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل ، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط . وفيه شيء آخر كأنه قيل ، بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم : { وَكُذِّبَ مُوسَى } مع وضوح آياته وعظم معجزاته ، فما ظنك بغيره ؟ أفاده الزمخشري .
قال الناصر : ويحتمل عندي ، والله أعلم ، أنه لما صدّر الكلام بحكاية تكذيبهم ، ثم عدّد أصناف المكذبين وطوائفهم ، ولم ينته إلى موسى إلا بعد طول الكلام ، حسن تكريره لِيَلِي قوله : { فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ } فيتصل المسبب بالسبب ، كما قال في آية ق بعد تعديدهم : { كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ } [ قّ : 14 ] ، فربط العقاب والوعيد ، ووصلهما بالتعذيب ، بعد أن جدد ذكره ، والله أعلم .
وإيراد من زعم بأن موسى كذبه قومه بعبادة العجل ، إيراد من لم يفهم معنى التكذيب الذي هو ردّ دعوة النبيّ وعدم الإيمان به والإصرار على الكفر بوحيه ، والقيام في وجهه وصد الناس عن اتباعه . وما وقع من قوم موسى هو تخليط ، وخطأ اجتهاد ، وتعنت ولجاج مع الاستظلال بظل دعوته ، والانتظام في سلك إجابته . وقوله تعالى : { فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ } أي : أمهلتهم : { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } أي : بالعقوبة : { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي : إنكاري عليهم بالإهلاك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ } [ 45 ] .
{ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ } أي : فكم من أهالي قرية : { أَهْلَكْنَاهَا } أي : بالعذاب : { وَهِيَ ظَالِمَةٌ } أي : مشركة كافرة : { فَهِيَ خَاوِيَةٌ } أي : ساقطة : { عَلَى عُرُوشِهَا } أي : سقوفها : { وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ } أي : وكم من بئر متروكة لا يستقى منها ، لهلاك أهلها : { وَقَصْرٍ مَشِيدٍ } أي : مرفوع . من شاد البناء : رفعه . أو معناه مطليٌّ ومعمول بالشيد ، بالكسر ، وهو الجص ، أي : مجصص ، أخليناه عن ساكنيه ، ومن شواهد الأول قول عديّ بن زيد :
~شَادَهُ مَرْمَراً وَجَلَّلَهُ كِلْ ساً ، فللطير في ذُرَاهُ وُكُورُ(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [ 46 ] .
{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا } أي : أهل مكة في تجارتهم : { فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ } أي : بما يشاهدونه من مواد الاعتبار : { قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } أي : ما يجب أن يعقل من التوحيد : { أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } أي : ما يجب أن يسمع من الوحي والتخويف : { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } الضمير في فإنها للقصة . أو مبهم يفسره الأبصار . والمعنى : ليس الخلل في مشاعرهم ، وإنما هو في عقولهم باتباع الهوى والانهماك في الغفلة . وفائدة ذكر الصدور هو التأكيد مثل : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ } [ آل عِمْرَان : 167 ] ، و : { طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] ، إلا أنه لتقرير معنى الحقيقة ، وهنا لتقرير معنى المجاز .
وقال الزمخشري : الفائدة زيادة التصوير والتعريف وعبارته : الذي قد تعورف واعتقد ؛ أن العمى على الحقيقة مكانه البصر ، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها . واستعماله في القلب استعارة ومثل . فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ، ونفيه عن الأبصار ، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف ، ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار . كما تقول : ليس المضاء للسيف ، ولكنه للسانك الذي بين فكيك ، فقولك : الذي بين فكيك تقرير لما ادعيته للسانه ، وتثبيت . لأن محل المضاء هو هو لا غير . وكأنك قلت : ما نفيت المضاء عن السيف . وأثبته للسانك ، فلتة ولا سهواً مني ، ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمداً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } [ 47 ] .
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ } أي : المبيّن في آية : { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] : { وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ } أي : فيصيبهم ما أوعدهم به ، ولو بعد حين : { وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } أي : هو تعالى حليم لا يعجل ، فإن مقدار ألف سنة عند خلقه ، كيوم واحد عنده ، بالنسبة إلى حلمه . لعلمه بأنه على الانتقام قادر ، وأنه لا يفوته شيء . وإن أنظر وأملى . ولهذا قال بعده :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ 48 ] .
{ وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا } أي : أمهلتها : { وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ } إلى حكمي مرجع الكل فأجزيهم بأعمالهم . فتأثُر هذه الآية ما قبلها صريح في بيان خطئهم في الاستعجال المذكور ، ببيان كمال سعة حلمه تعالى ، وإظهار غاية ضيق عطنهم ، المستتبع لكون المدة القصيرة عنه تعالى ، مُدداً طوالاً عندهم ، حسبما ينطق به قوله تعالى : { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً } [ المعارج : 6 - 7 ] ، ولذلك يرون مجيئه بعيداً ، ويتخذونه ذريعة إلى إنكاره ، ويجترؤون على الاستعجال به ، ولا يدرون أن معيار تقدير الأمور كلها ، وقوعاً وإخباراً ، ما عنده تعالى من المقدار . أفاده ابن كثير وأبو السعود .
وفي " العناية " : لما ذكر استعجالهم ، وبيّن أنه لا يتخلف ما استعجلوه ، وإنما أخر حلماً ، لأن اليوم ألف سنة عنده . فما استطالوه ليس بطويل بالنسبة إليه ، بل هو أقصر من يوم . فلا يقال : إن المناسب حينئذ أن ألف سنة كيوم ، والقلب لا وجه له .
وقال الرازي : لما حكى تعالى من عظم ما هم عليه من التكذيب ، أنهم يستهزؤون باستعجال العذاب ، بيّن أن العاقل لا ينبغي أن يستعجل عذاب الآخرة فقال : { وإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ } يعني فيما ينالهم من العذاب وشدته : { كَأَلْفِ سَنَةٍ } لو عُدّ في كثرة الآلام وشدتها . فبيّن سبحانه أنهم لو عرفوا حال عذاب الآخرة ، وأنه بهذا الوصف لما استعجلوه .
قال الرازي : وهذا قول أبي مسلم ، وهو أولى الوجوه . انتهى .
وقد حكاه الزمخشريّ بقوله : وقيل معناه : كيف يستعجلون بعذاب مَنْ يَومٌ واحد من أيام عذابه ، في طول ألف سنة من سنيكم . لأن أيام الشدائد مستطالة ، أي : تعدّ طويلة كما قيل :
~تمتعْ بأيام السرورِ فَإِنَّهَا قِصَارٌ . وَأيامُ الهُمُومِ طِوَالُ
أو كان ذلك اليوم الواحد ، لشدة عذابه ، كألف سنة من سني العذاب . انتهى .
واعتمد الوجه الأول أبو السعود . وناقش فيما بعده ؛ بأنه لا يساعده سياق النظم الجليل ولا سياقه . فإن كلاً منهما ناطق بأن المراد هو العذاب الدنيوي . وأن الزمان الممتد هو الذي مرّ عليهم قبل حلوله بطريق الإملاء والإمهال . لا الزمان المقارن له . ألا يرى إلى قوله تعالى : { وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ } الخ ، فإنه صريح في أن المراد هو الأخذ العاجل الشديد ، بعد الإملاء المديد . انتهى . وفيه قوة . فالله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [ 49 - 51 ] .
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } وهي الجنة : { وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } أي : والذين سعوا في ردّ آياتنا ، وصدّ الناس عنها مشاقّين . فالمعاجزة مستعارة للمشاقة مع المؤمنين ومعارضتهم . فكلما طلبوا إظهار الحق طلب هؤلاء إبطاله . كما يقال : جاراه في كذا . قال تعالى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا } [ العنكبوت : 4 ] ، وقرئ : معجّزين بتشديد الجيم . بمعنى أنهم عجّزوا الناس وثبطوهم عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والإيمان بالقرآن . وكلتا القراءتين متقاربة المعنى . وذلك أن من عجّز عن آيات الله ، فقد عاجز الله . ومن معاجزة الله التعجيز عن آيات الله ، والعمل بمعاصيه ، وخلاف أمره . وكان من صفة القوم الذين نزلت فيهم الآيات أنهم كانوا يبطّئون الناس عن الإيمان بالله واتباع رسوله . ويغالبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحسبون أنهم يعجزونه ويغلبونه . وقد ضمن الله له نصره عليهم . فكان ذلك معاجزتهم الله . كذا في الشهاب وابن جرير . ثم أشار تعالى إلى تسلية رسوله صلوات الله عليه ، عما كان يلاقيه من صدّ شياطين قومه عن سبيل الله ، بأن تلك سنة كل رسول وأن العاقبة له ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 52 ] .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى } أي : رغب في انتشار دعوته ، وسرعة علوّ شرعته : { أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } أي : بما يصدّ عنها ، ويصرف المدعوّين عن إجابتها : { فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ } أي : يبطله ويمحقه : { ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ } أي : يثبتها : { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ } [ الرعد : 17 ] ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ } يعلم الإلقاءات الشيطانية ، وطريق نسخها من وجه وحيه { حَكِيمٌ } يحكم آياته بحكمته . ثم أشار إلى أن من مقتضيات حكمته أنه يجعل الإلقاء الشيطانيّ فتنة للشاكّين المنافقين والقاسية قلوبهم عن قبول الحق ، ابتلاء لهم ليزدادوا إثماً . ورحمة للمؤمنين ليزدادوا ثباتاً واستقامة ، فقال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } [ 53 ] .
{ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي : شك وارتياب : { وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } وهم العتاة المتمردون : { وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ } أي : خلاف للحق : { بَعِيدٍ } عن موافقته جداً ، بسبب ظلمهم وشركهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ 54 ] .
{ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ } أي : بالانقياد ، والخشية . والضمير للقرآن أو لله تعالى : { وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي : إلى طريق الحق والاستقامة ، فلا تزلّ أقدامهم بقبول ما يلقي الشيطان ، ولا تقبل قلوبهم إلا ما يلقي الرحمن ، لصفائها . هذا هو الصواب في تفسير الآية . ولها نظائر تظهر المراد منها كما أشرنا إليه ، لو احتاجت إلى نظير . ولكنها بيّنة بنفسها ، غنية عن التطويل في التأويل ، لولا ما أحوج المحققين إلى ردّ ما دسه بعض الرواة هنا من الأباطيل . ونحن نسوق ما قيل فيها من ذلك ، ثم نتبعه بنقد المحققين ، لئلا يبقى في نفس الواقف حاجة .
قال ابن جرير الطبري : قيل : إن السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن الشيطان كان ألقى على لسانه ، في بعض ما يتلوه مما أنزل الله عليه من القرآن ، ما لم ينزل الله عليه . فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم واغتم به ، فسلاّه الله مما به من ذلك ، بهذه الآيات . ثم ذكر من قال ذلك . فأسند عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس وغيرهما ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس في ناد من أندية قريش ، كثير أهله ، فتمنى يومئذ ألا يَأتيه من الله شيء فينفروا عنه . فأنزل الله عليه : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } [ النجم : 1 - 2 ] ، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغ : { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى } [ النجم : 19 - 20 ] ، ألقى عليه الشيطان كلمتين : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى . فتكلم بها ، ثم مضى فقرأ السورة كلها . فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعاً معه ورضوا بما تكلم به .
قالا : فلما أمسى أتاه جبريل عليه السلام فعرض عليه السورة . فلما بلغ الكلمتين المذكورتين قال : ما جئتك بهاتين . فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأنزل الله تبارك وتعالى عليه يعزيه : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ } الآية .
وقال القاضي عياض في " الشفا " : اعلم أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين : أحدهما في توهين أصله ، والثاني على تسليمه .
أما المأخذ الأول ، فيكفيك أن هذا لم يخرّجه أحد من أهل الصحة ، ولا رواه ثقة بسند سُلَيم متصل . وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب ، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم . وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال : لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفاسير . وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف بعض نقلته ، واضطراب رواياته ، وانقطاع إسناده ، واختلاف كلماته . ومن حكيت عنه هذه الحكاية من المفسرين والتابعين ، لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب . وأكثر الطرق عنهم فيها ، واهية ضعيفة ، والمرفوع فيه حديث شعبة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس فيما أحسب الشك في الحديث : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان بمكة ، وذكر القصة .
قال أبو بكر البزّار : هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل ، يجوز ذكره إلا هذا ، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد . وغيره يرسله عن سعيد بن جبير . وإنما يعرف عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس . فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا . وفيه من الضعف ما نبه عليه ، مع وقوع الشك فيما ذكرناه ، الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه . وأما حديث الكلبي فما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره ، لقوة ضعفه وكذبه ، كما أشار أليه البزار رحمه الله : والذي منه في الصحيح ؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم وهو بمكة . فسجد معه المسلمون والمشركون والإنس والجن .
هذا توهينه من طريق النقل .
وأما من جهة المعنى فقد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته عليه السلام ، ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة . إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح غير الله وهو كفر ، أو أن يتسوّر عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه ، حتى ينبهه عليه جبريل عليهما السلام . وذلك كله ممتنع في حقه عليه السلام . أو يقول ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمداً ، وذلك كفر . أو سهواً وهو معصوم من هذا كله . ووجه ثان - وهو استحالة هذه القصة نظراً وعرفاً . وذلك أن الكلام ، لو كان كما رُويَ ، بعيد الالتئام ، متناقض الأقسام ممتزج المدح بالذم ، متخاذل التأليف . ولَمَا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ، ممن يخفى عليه ذلك ، وهذا لا يخفى على أدنى متأمل . فكيف بمن رجح حلمه ، واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه ؟ ووجه ثالث - أنه قد علم من عادة المنافقين ومعاندي المشركين وضعفة القلوب والجهلة من المسلمين ، نفورهم من أول وهلة ، وتخليط العدوّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة ، وتعييرهم المسلمين والشمَّات بهم الفينة بعد الفينة . وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة . ولم يحك أحد في هذه القصة شيئاً سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل . ولو كان ذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصولة . ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة . كما فعلوه مكابرة في قصة الإسراء حتى كانت في ذلك لبعض الضعفاء ردّة . وكذلك ما روي في قصة القضية . ولا فتنة أعظم من هذه البلية لو وجدت . ولا تشغيب للمعادي حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت . فما روي عن معاند فيها كلمة . ولا عن مسلم بسببها بنت شفة . فدل على بطلانها [ في المطبوع : بظلها ] ، واجتثاث أصلها . ولا شك في إدخال بعض شياطين الإنس والجن ، على بعض مغفلي المحدثين ، ليلبس به على ضعفاء المسلمين .
ووجه رابع - ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت : { وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } [ الإسراء : 73 ] الآيتين . وهاتان الآيتان تردّان الخبر الذي رووه . لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري ، وأنه لولا أن ثبّته لكاد يركن إليهم . فمضمون هدا ومفهومه ، أن الله تعالى عصمه من أن يفتري ، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلاً ، فكيف كثيراً ؟ وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم . وهذا ضد مفهوم الآية ، ويضعّف الحديث ، لو صح ، فكيف ولا صحة له ؟ وأما المأخذ الثاني فهو مبنيّ على تسليم الحديث ، لو صح . وقد أعاذنا الله من صحته . ولكن على كل حال فقد أجاب عن ذلك أئمة المسلمين بأجوبةٍ منها الغث والسمين . فمنها ما رواه قتادة ومقاتل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أصابته سنة عند قراءة هذه السورة . فجرى هذا الكلام على لسانه بحكم النوم . وهذا لا يصح . إذ لا يجوز على النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله في حالة من أحواله . ولا يخلقه الله على لسانه ولا يستولي الشيطان عليه في نوم ولا يقظة ، لعصمته في هذا الباب من جميع العمد والسهو . وقد قال عليه السلام : < إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي > . وفي حديث الكلبي ؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حدّث نفسه ، فقال ذلك الشيطان على لسانه . وفي رواية ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال : ومنها لما أخبر بذلك قال : إنما ذلك من الشيطان . وكل هذا لا يصح أن يقوله عليه السلام لا سهواً ولا قصداً . ولا يتقوّله الشيطان على لسانه . وقيل : لعلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قاله أثناء تلاوته ، على تقدير التقرير والتوبيخ للكفار . كقول إبراهيم : { هَذَا رَبِّي } [ الأنعام : 77 ] ، على أحد التأويلات . وكقوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } [ 63 ] ، بعد السكت وبيان الفصل بين الكلامين . ثم رجع إلى تلاوته . وهذا ممكن مع بيان الفصل وقرينةٍ تدل على المراد ، وأنه ليس من المتلوّ . وهو أحد ما ذكره القاضي أبو بكر .
ومما يظهر في تأويله ، إن سلمنا القصة ، أن يراد بالغرانيق الملائكة . ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح . فلما تأوّله المشركون على أن المراد بها آلهتهم . ولبّس عليهم الشيطان ذلك وزيّنه في قلوبهم ، وألقاه إليهم ، نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته ورفع تلاوة تلك اللفظتين . انتهى كلام القاضي ملخصاً .
وقال أبو بكر الباقلاني : وقيل كان صلى الله عليه وسلم يرتل القرآن ، فارتصده الشيطان في سكتة من السكتات . ونطق بتلك الكلمات ، محاكياً نغمته . بحيث سمعه من دنا إليه ، فظنها من قوله تعالى وأشاعها .
قال : وهذا أحسن الوجوه . ويؤيده ما روي عن ابن عباس من تفسير تمنى بتلا وكذا استحسن ابن العربي هذا التأويل . وقال قبله : إن هذه الآية نص في براءة النبيّ صلى الله عليه وسلم ما نسب إليه ، وأن الشيطان زاده في قوله صلوات الله عليه ، لا أنه عليه السلام قاله .
قال : وقد سبق إلى ذلك الطبري فصوب هذا المعنى وحوّم عليه . واستحسان ابن العربي ذلك ، على فرض صحة القصة ، وإلا فقد قال : ذكر الطبري في ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها . وقال تقي الدين بن تيمية : في الآية قولان والمأثور عن السلف يوافق القرآن بذلك . والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة في سورة النجم بقوله : تِلْكَ الغَرَانِيق العُلَى وَإِنَّ شَفَاْعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى . وقالوا : إن هذا لم يثبت . ومن علم أنه ثبت قال : هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم ، ولم يلفظ به الرسول صلى الله عليه وسلم . ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أيضاً .
وقالوا في قوله : { إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } : هو حديث النفس وأما الذين قرروا ما نقل عن السلف ، فقالوا : هذا منقول نقلاً ثابتاً لا يمكن القدح فيه وقالوا : الآثار في تفسير هذه الآية معروفة ثابتة في كتب التفسير والحديث . والقرآن يوافق ذلك . فإن نسخ الله لما يلقي الشيطان ، وإحكامه آياته ، إنما يكون لرفع ما وقع في آياته ، وتمييز الحق عن الباطل حتى لا تختلط آياته بغيرها . وجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم ، إنما يكون ذلك ظاهراً يسمعه الناس ، لا باطناً في النفس . والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ ، من جنس الفتنة التي تحصل بالنوع الآخر من النسخ . وهذا النوع أدلّ على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبعده عن الهوى ، من ذلك النوع . فإنه إذا كان يأمر بأمر ثم يأمر بخلافه وكلاهما من عند الله ، وهو مصدق في ذلك ، فإذا قال عن نفسه أن الثاني هو الذي من عند الله وهو الناسخ ، وإن ذلك المرفوع الذي نسخه الله ليس كذلك ، كان أدل على اعتماده للصدق وقول الحق . وهذا كما قالت عائشة رضي الله عنها : لو كان محمد كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } [ الأحزاب : 37 ] ألا ترى أن الذي يعظم نفسه بالباطل يريد أن ينصر كل ما قاله ولو كان خطأ . فبيان الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أحكم آياته ونسخ ما ألقاه الشيطان ، هو أدل على تحريه للصدق وبراءته من الكذب . وهذا هو المقصود بالرسالة . فإنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم تسليماً . انتهى .
وفي كلامه رحمه الله نظر من وجوه :
أولاً : دعواه أن المأثور يوافق القرآن . فإنه ذهاب إلى أن الإلقاء إلقاء في الآيات . ولا تدل الآية عليه ، لا مطابقة ولا التزاماً . بل القول بذلك ينافي التنزيل والوحي منافاة النار للماء ، كما ستراه .
وثانياً : دعواه أن تلك الرواية نقلها ثابت لا يمكن القدح فيه . فقد قدح فيها من لا يحصى من المتقدمين والمتأخرين . ويكفي أن تلميذه الحافظ ابن كثير قال : قد ذكر كثير من المفسرين ها هنا قصة الغرانيق . وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ، ظناً منهم أن مشركي قريش أسلموا . ولكنها من طرق كلها مرسلة . ولم أرها مسندة من وجه صحيح . وتعداد طرقها ، بعد ضعف أصلها ، لا يفيد . وهذه شبهة يعتمدها كثير من الواقفين مع الروايات . يظنون أن الضعيف بكثرة طرقه يقوى . والحال أن الضعيف ضعيف كيفما جاء . وقد سرت هذه الشبهة للحافظ ابن حجر . فأخذ يقوي بعض طرقها ويصححها من جهة الإسناد . كما ستمر بك مناقشته . ولو كان لها أدنى رائحة من الصحة لأخرجها البخاري معلقة أو موقوفة ، أو أرباب السنن .
وثالثاً : اعترافه بأن السؤال وارد على تقدير ثبوتها ، وإلقاء الشيطان ذلك في مسامعهم ، مما يبرهن أن فيها مغامز تنبذها العقول ، كما نبذتها صحة النقول .
فصل
وقال الفخر الرازي في " تفسيره " : هذه الرواية باطلة موضوعة ، عند أهل التحقيق . واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول . أما القرآن فوجوه :
أحدها : قوله تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } [ الحاقة : 44 - 46 ] .
وثانيها : قوله : { قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ } [ يونس : 15 ] .
وثالثها : قوله : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [ النجم : 3 - 4 ] .
ورابعها : قوله تعالى : { وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } [ الإسراء : 73 ] ، وكلمة كاد عند بعضهم معناها أنه لم يحصل .
وخامسها : قوله : { وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً } [ الإسراء : 74 ] ، وكلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره . فدل على أن ذلك الركون القليل لم يحصل .
وسادسها : إلى قوله : { كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } [ الفرقان : 32 ] .
وسابعها : قوله : { سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى } [ الأعلى : 6 ] .
وأما السنة فهي ما روي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة ، أنه سئل عن هذه القصة فقال : هذا وضع من الزنادقة . وصنف فيه كتاباً .
وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل . ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم . وأيضاً فقد روى البخاري في صحيحه أن النبيّ عليه السلام قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن . وليس فيه حديث الغرانيق . وروي هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها البتة حديث الغرانيق .
وأما المعقول فمن وجوه :
أحدها : أن من جوّز على الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيم الأوثان ، فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان .
وثانيها : أنه عليه السلام ما كان يمكنه في أول الأمر أن يصلي ويقرأ القرآن عند الكعبة آمناً أذى المشركين له طول دعوته . حتى كانوا ربما مدّوا أيديهم إليه . وإنما كان يصلي ، إذا لم يحضروها ، ليلاً ، أو في أوقات خلوة . وذلك يبطل قولهم .
وثالثها : أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة ، دون أن يقفوا على حقيقة الأمر . فكيف أجمعوا على أنه عظّم آلهتهم حتى خروا سجداً ؟ مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم .
ورابعها : قوله : { فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ } وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول ، أقوى من نسخه [ في المطبوع : نسخة ] بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها . فإذا أراد الله إحكام الآيات ، لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآناً ، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلاً ، أولى .
وخامسها : وهو أقوى الوجوه ، أنا لو جوّزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه . وجوّزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك ، ويبطل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [ المائدة : 67 ] فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي ، وبين الزيادة فيه . فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال ، أن هذه القصة موضوعة .
أكثر ما في الباب أن جمعاً من المفسرين ذكرها . لكنهم ما بلغوا حد التواتر . وخبر الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة .
ثم أطال الرازي في تفصيل المباحث . ونقل عن أبي مسلم الأصفهاني ما توسع به البحث فانظره إن شئت .
فصل
وكتب الأستاذ الإمام مفتي مصر ، الشيخ محمد عبده رحمه الله في هذه الآية مقالة بديعية ، نقتبس منها شذرات .
قال : يعلم كل ناظر في كتابنا الإلهيّ " القرآن " ما رفع الإسلام من شأن الأنبياء والمرسلين ، والمنزلة التي أحلهم من حيث هم حملة الوحي وقدوة البشر ، في الفضائل وصالح الأعمال . وتنزيهه إياهم عما رماهم به أعداؤهم وما نسبه إليهم المعتقدون بأديانهم . ولا يخفى على أحد من أهل النظر ، في هذا الدين القويم ، أنه قد قرر عصمة الرسل كافة من الزلل في التبليغ ، والزيغ عن الوجهة التي وجه الله وجوههم نحوها من قول أو عمل . وخص خاتمهم محمداً صلى الله عليه وسلم فوق ذلك بمزايا فصلت في ثنايا الكتاب العزيز . وعصمة الرسل في التبليغ عن الله ، أصل من أصول الإسلام . شهد به الكتاب وأيدته السنة ، وأجمعت عليه الأمة . وما خالف فيه بعض الفرق ، فإنما هو في غير الإخبار عن الله وإبلاغ وحيه إلى خلقه . ذلك الأصل الذي اعتمدت عليه الأديان ، حق لا يرتاب فيه مِلِّيٌّ يفهم ما معنى الدين . ومع ذلك لم يعدم الباطل فيه أعواناً يعملون على هدمه وتوهين ركنه . أولئك عشاق الرواة وعبدة النقل . نظروا نظرة في قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ } وفيما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من أن تمنى بمعنى قرأ والأمنية القراءة ) فعمي عليهم وجه التأويل ، على فرض صحة الرواية عن ابن عباس ، فذهبوا يطلبون ما به يصح التأويل في زعمهم . فقيض لهم من يروي في ذلك أحاديث تختلف طرقها وتتباين ألفاظها وتتفق في أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عندما بلغ منه أذى المشركين ما بلغ ، وأعرضوا عنه ، وجفاه قومه وعشيرته ، لعيبه أصنامهم وزرايته على آلهتهم ، أخذه الضجر من إعراضهم . ولحرصه على إسلامهم تمنى ألا ينزل عليه ما ينفرهم ، لعله يتخذ ذلك طريقاً إلى استمالتهم . فاستمر به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة النجم إلى آخر ما رواه ابن جرير أولاً . وقد شايعه عليه كثير من المفسرين ، وفي طباع الناس إلْف الغريب ، والتهافت على العجيب . فولعوا بهذه التفاسير ، ونسوا ما رآه جمهور المحققين في تأويلها . وذهب إليه الأئمة في بيانها .
جاء في صحيح البخاريّ : وقال ابن عباس في : { إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } إذا حدث ألقي الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته . ويقال : أمنيته قراءته : { إِلاَّ أِمانيَّ } يقرؤون ولا يكتبون . انتهى .
فتراه حكى تفسر الأمنية بالقراءة بلفظ يقال بعدما فسرها بالحديث رواية عن ابن عباس . وهذا يدل على المغايرة بين التفسيرين . فما يدعيه الشراح أن الحديث في رأي ابن عباس بمعنى التلاوة يخالف ظاهر العبارة . ثم حكاية تفسير الأمنية بمعنى القراءة بلفظ يقال يفيد أنه غير معتبر عنده . وسيأتي أن المراد بالحديث حديث النفس .
وقال صاحب الإبريز : إن تفسير تمنى بمعنى : قرأ , والأمنية بمعنى : القراءة مروي عن ابن عباس في نسخة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . ورواها عليّ بن صالح كاتب الليث عن معاوية بن صالح عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس . وقد علم ما للناس في ابن أبي صالح كاتب الليث ، وأن المحققين على تضعيفه . انتهى .
وهذا ما في الرواية عن ابن عباس وهي أصل هذه الفتنة وقد رأيت أن المحققين يضعفون راويها . وأما قصة الغرانيق ، فمع ما فيها من الاختلاف ، فقد طعن فيها غير واحد من الأئمة ، حتى قال ابن إسحاق : إنها من وضع الزنادقة . كما تقدم عن الرازيّ ، ونحوه عن القاضي عياض رحمه الله ، من وهنها وسقوطها من عدة أوجه .
وأما ما ذكره ابن حجر من أن القصة رويت مرسلة من طرق على شرط الصحيح ، وأنه يحتج بها من يرى الاحتجاج بالمرسل ، فقد ذهب عليه كما قال في الإبريز ؛ أن العصمة من العقائد التي يطلب فيها اليقين . فالحديث الذي يريد خرمها ونقضها ، لا يقبل على أي : وجه جاء . وقد عدّ الأصوليون الخبر الذي يكون على تلك الصفة ، من الأخبار التي يجب القطع بكذبها . هذا لو فرض اتصال الحديث ، فما ظنك بالمراسيل ؟ وإنما الخلاف في الاحتجاج بالمرسل وعدم الاحتجاج به ، فيما هو من قبيل الأعمال وفروع الأحكام ، لا في أصول العقائد ومعاقد الإيمان بالمرسل وما جاءوا به . فهي هفوة من ابن حجر يغفرها الله له .
هذا ما قاله الأئمة ، جزاهم الله خيراً ، في بيان فساد هذه القصة ، وأنها لا أصل لها . ولا عبرة برأي من خالفهم . فلا يعتد بذكرها في بعض كتب التفسير ، وإن بلغ أربابها من الشهرة ما بلغوا . وشهرة المبطل في بطله ، لا تنفخ القوة في قوله . ولا تحمل على الأخذ برأيه .
ثم قال الأستاذ رحمه الله : والآن أرجع إلى تفسير الآيات على الوجه الذي تحتملها ألفاظها وتدل عليه عباراتها . والله أعلم :
لا يخفى على كل من يفهم اللغة العربية ، وقرأ شيئاً من القرآن ، أن قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ } الآيات ، يحكي قَدَراً قُدِّر للمرسلين كافة ، لا يَعْدُونَه ولا يقفون دونه . ويصف شنشنة عرفت فيهم ، وفي أممهم . فلو صح ما قال أولئك المفسرون لكان المعنى : أن جميع الأنبياء والمرسلين قد سلط الشيطان عليهم فخلط في الوحي المنزل إليهم . ولكنه بعد هذا الخلط ينسخ الله كلام الشيطان ويحكم الله آياته الخ ، وهذا من أقبح ما يتصور متصور في اختصاص الله تعالى لأنبيائه ، واختيارهم من خاصة أوليائه ! فلندع هذا الهذيان ، ولنعد إلى ما نحن بصدده .
ذكر الله لنبيه حالاً من أحوال الأنبياء والمرسلين قبله ، ليبين له سنته فيهم . وذلك بعد أن قال : { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ } [ 42 ] ، إلى آخر الآيات ثم قال : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ } [ 49 - 52 ] ، الخ ، فالقصص السابق كان في تكذيب الأمم لأنبيائهم . ثم تبعه الأمر الإلهيّ بأن يقول النبي صلى الله عليه وسلم لقومه : إنني لم أرسل إليكم إلا لأنذركم بعاقبة ما أنتم عليه ، ولأبشر المؤمنين بالنعيم . وأما الذين يسعون في الآيات والأدلة التي أقيمها على الهدى وطرق السعادة ، ليحوّلوا عنها الأنظار ويحجبوها عن الأبصار ، ويفسدوا أثرها الذي أقيمت لأجله ، ويعاجزوا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، أي : يسابقوهم ليعجزوهم ويسكتوهم عن القول بذلك . وذلك بلعبهم بالألفاظ وتحويلها عن مقصد قائلها ، كما يقع عادة من أهل الجدل والمماحكة - هؤلاء الضالون المضلون هم أصحاب الجحيم . وأعقب ذلك بما يفيد أن ما ابتُلي به النبيّ صلى الله عليه وسلم من المعاجزة في الآيات ، قد ابتلي به الأنبياء السابقون . فلم يبعث نبي في أمة إلا كان له خصوم يؤذونه بالتأويل والتحريف ، ويضادّون أمانيه ، ويحولون بينه وبين ما يبتغي ، بما يلقون في سبيله من العثرات . فعلى هذا المعنى الذي يتفق مع ما لقيه الأنبياء جميعاً ، يجب أن تفسر الآية . وذلك يكون على وجهين :
الأول : أن يكون تمنَّى بمعنى : قرأ والأمنية بمعنى : القراءة وهو معنى قد يصح . وقد ورد استعمال اللفظ فيه ؛ قال حسان بن ثابت في عثمان رضي الله عنهما :
~تَمَنَّى كتَابَ اللهِ أَوَّلَ لَيلِهِ وَآخِرَه لاقَى حِمَامَ المَقَادِرِ
وقال آخر :
~تَمَنَّى كتابَ اللهِ أَوَّلَ ليلِهِ تَمنِّيَ دَاودَ الزَّبُورَ على رِسْلِ
غير أن الإلقاء لا يكون على المعنى الذي ذكروه ، بل على المعنى المفهوم من قولك : ألقيتُ في حديث فلان , إذا أدخلت فيه ما ربما يحتمله لفظه ، ولا يكون قد أراده . أو نسبت إليه ما لم يقله تعللاً بأن ذلك الحديث يؤدي إليه . وذلك من عمل المعاجزين الذين ينصبون أنفسهم لمحاربة الحق ، يتبعون الشبهة ، ويسعون وراء الريبة ، فالإلقاء بهذا المعنى دأبهم ، ونسبة الإلقاء إلى الشيطان لأنه مثير الشبهات بوساوسه ، مفسد القلوب بدسائسه ، وكل ما يصدر من أهل الضلال يصح أن ينسب إليه . ويكون المعنى : وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبيّ إلا إذا حدّث قومه عن ربّه ، أو تلا وحياً أنزل إليه في هدى لهم ، قام في وجهه مشاغبون ، يحوّلون ما يتلوه عليهم عن المراد منه . ويتقوّلون عليه ما لم يقله ، وينشرون ذلك بين الناس ، ليبعدوهم عنه ، ويعدلوا بهم عن سبيله ، ثم يحق الله الحق ويبطل الباطل . وما زال الأنبياء يصبرون على ما كذّبوا وأوذوا ، ويجاهدون في الحق ، ولا يعتدّون بتعجيز المعجّزين ، ولا بهزء المستهزئين إلى أن يظهر الحق بالمجاهدة ، وينتصر على الباطل بالمجالدة . فينسخ الله تلك الشبه ويجتثها من أصولها ، ويثبت آياته ويقررها . وقد وضع الله هذه السنّة في الناس ليتميز الخبيث من الطيب ، فيفتتن الذين في قلوبهم مرض ، وهم ضعفاء العقول ، بتلك الشبه والوساوس ، فينطلقون وراءها . ويفتتن بها القاسية قلوبهم من أهل العناد والمجاحدة ، فيتخذونها سنداً يعتمدون عليها في جدلهم . ثم يتمحص الحق عند الذين أوتوا العلم ، ويخلص لهم بعد ورود كل شبهة عليه ، فيعلمون أنه الحق من ربك فيصدقون به ، فتخبت وتطمئن له قلوبهم . والذين أوتوا العلم هم الذين رزقوا قوة التمييز بين البرهان القاطع الذي يستقرّ بالعقل في قرارة اليقين . وبين المغالطات وضروب السفسطة التي تطيش بالفهم ، وتطير به مع الوهم ، وتأخذ بالعقل تارة ذات الشمال وأخرى ذات اليمين . وسواء أرجعت الضمير في أنه " الحق إلى " ما جاءت به الآيات المحكمات من الهدى الإلهيّ أو إلى القرآن ، وهو أجلّها ، فالمعنى من الصحة على ما يراه أهل التمكين . هؤلاء الذين أوتوا العلم هم الذين آمنوا . وهم الذين هداهم الله إلى الصراط المستقيم . ولم يجعل للوهم عليها سلطاناً ، فيحيد بهم عن ذلك النهج القويم . وأما الذين كفروا وهم ضعفاء العقول ومرضى القلوب ، أو أهل العناد وزعماء الباطل وقساة الطباع ، الذين لا تلين أفئدتهم ولا تبش للحق قلوبهم فأولئك لا يزالون في ريب في الحق أو الكتاب . لا تستقر عقولهم عليه ، ولا يرجعون في متصرفات شؤونهم إليه . حتى تأتي ساعة هلاكهم بغتة ، فيلاقوا حسابهم عند ربهم . أو إن امتد بهم الزمن ، ومادّهم الأجل ، فسيصيبهم عذاب يوم عقيم . يوم حرب يسامون فيه سوء العذاب ، القتل أو الأسر . ويقذفون إلى مطارح الذل وقرارات الشر . فلا ينتج لهم من ذلك اليوم خير ولا بركة ، بل يسلبون ما كان لديهم ويساقون إلى مصارع الهلكة . وهذا هو العقم في أتم معانيه وأشأم درجاته . ما أقرب هذه الآيات في مغازيها ، إلى قوله تعالى في سورة آل عِمْرَان : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } [ آل عِمْرَان : 7 ] ، وقد قال بعد ذلك : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } [ آل عِمْرَان : 10 [ في المطبوع : 116 ] ] ، ثم قال : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } [ آل عِمْرَان : 12 ] ، الخ الآيات . وكأن إحدى الطائفتين من القرآن شرح للأخرى . فالذين في قلوبهم زيغ هم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم . والراسخون في العلم هم الذين أوتوا العلم ، وهؤلاء هم الذين يعلمون أنه الحق من ربهم . فيقولون آمنا به كلٌّ من عند ربنا ، فتخبت له قلوبهم ، وإن الله لهاديهم إلى صراط مستقيم . وأولئك هم الذين يفتتنون بالتأويل ، ويشتغلون بقال وقيل بما يلقي الشيطان ، ويصرفهم عن مرامي البيان ، ويميل بهم عن محجة الفرقان . وما يتكئون عليه من الأموال والأولاد ، لن يغني عنهم من الله شيئاً . فستوافيهم آجالهم ، وتستقبلهم أعمالهم . فإن لم يوافهم الأجل على فراشهم . فسيغلبون في هراشهم . وهذه سنة جميع الأنبياء مع أممهم ، وسبيل الحق مع الباطل من يوم أن رفع الله الإنسان إلى منزلة يميز فيها بين سعادته وشقائه ، وبين ما يحفظه وما يذهب ببقائه . وكما لا مدخل لقصة الغرانيق في آيات آل عِمْرَان ، لا مدخل لها في آيات سورة الحج ، هذا هو الوجه الأول في تفسير الآيات : { وَمَا أَرْسَلْنَا } إلى آخرها ، على تقدير أن تمنَّى بمعنى : قرأ وأن الأمنية بمعنى : القراءة والله أعلم .
الوجه الثاني في تفسير الآيات : أن التمني على معناه المعروف . وكذلك الأمنية . وهي أفعولة بمعنى المُنْية . وجمعها : أمانيّ كما هو مشهور . قال أبو العباس أحمد بن يحيي : التمني حديث النفس بما يكون وبما لا يكون . قال : والتمني سؤال الرب . وفي الحديث : < إذا تمنى أحدكم فليتكثر فإنما يسأل ربه > وفي رواية : فليكثر . قال ابن الأثير : التمني تشهِّي حصول الأمر المرغوب فيه ، وحديث النفس بما يكون وبما لا يكون . وقال أبو بكر : تمنيت الشيء إذا قدرته وأحببت أن يصير إليّ . وكل ما قيل في معنى التمني على هذا الوجه ، فهو يرجع إلى ما ذكرناه ويتبعه معنى الأمنية . ما أرسل الله من رسول ولا نبيّ ليدعو قوماً إلى هَدْي جديد ، أو شرع سابق شرعه لهم ، ويحملهم على التصديق بكتاب جاء به نفسه إن كان رسولاً ؛ أو جاء به غيره إن كان نبياً بُعث ليحمل الناس على اتباع من سبقه ، إلا وله أمنية في قومه . وهي أن يتبعوه وينحازوا إلى ما يدعوهم إليه ، ويستشفوا من دائهم بداوئه ، ويعصوا أهواءهم بإجابة ندائه . وما من رسول أرسل إلا وقد كان أحرص على إيمان أمته . وتصديقهم برسالته ، منه على طعامه الذي يطعم ، وشرابه الذي يشرب ، وسكنه الذي يسكن إليه . ويغدو عنه ويروح علينا . وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك في المقام الأعلى ، والمكان الأسمى . قال الله تعالى : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً } [ الكهف : 6 ] ، وقال : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] ، وقال : { أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [ يونس : 99 ] ، وفي الآيات ما يطول سرده ، مما يدل على أمانيه صلى الله عليه وسلم المتعلقة بهداية قومه ، وإخراجهم من ظلمات ما كانوا فيه ، إلى نور ما جاء به . وما من رسول ولا نبيّ إلا إذا تمنى هذه الأمنية السامية ، ألقى الشيطان في سبيله العثرات ، وأقام بينه وبين مقصده العقبات . ووسوس في صدور الناس . وسلبهم الانتفاع بما وهبوا من قوة العقل والإحساس ، فثاروا في وجهه ، وصدوه عن قصده ، وعاجزوه حتى لقد يعجزونه ، وجادلوه بالسلاح والقول حتى لقد يقهرونه . فإذا ظهروا عليه ، والدعوة في بدايتها ، وسهل عليهم إيذاؤه وهو قليل الأتباع ضعيف الأنصار ، ظنوا الحق من جانبهم ، وكان فيما ألقوه من العوائق بينه وبين ما عمد إليه ، فتنة لهم .
غلبت سنة الله في أن يكون الرسل من أواسط قومهم ، أو من المستضعفين فيهم ، ليكون العامل في الإذعان بالحق محض الدليل وقوة البرهان . وليكون الاختيار المطلق هو الحامل لمن يدعى إليه على قبوله . ولكيلا يشارك الحق الباطل في وسائله ، أو يشاركه في نصب شراكه وحبائله . أنصار الباطل في كل زمان ، هم أهل الأنفة والقوة والجاه والاعتزاز بالأموال والأولاد والعشيرة والأعوان والغرور بالزخارف . والزهو بكثرة المعارف . وتلك الخصال إنما تجتمع كلها أو بعضها في الرؤساء وذوي المكانة من الناس فتذهلهم عن أنفسهم ، وتصرف نظرهم عن سبيل رشدهم . فإذا دعا إلى الحق داع ، عرفته القلوب النقية من أوضار هذه الفواتن ، وفزعت إليه النفوس الصافية والعقول المستعدة لقبوله ، بخلوصها من هذا الشواغل . وقلما توجد إلا عند الضعفاء وأهل المسكنة فإذا التف هؤلاء حول الداعي وظافروه على دعوته ، قام أولئك المغرورون يقولون : { مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } [ هود : 27 ] ، فإذا استدرجهم الله على سنته ، وجعل الجدال بينهم وبين المؤمنين سجالاً ، افتتن الذين في قلوبهم مرض من أشياعهم ، وافتتنوا هم بما أصابوا من الظفر في دفاعهم . ولكن الله غالب على أمره . فيمحق ما ألقاه الشيطان من هذه الشبهات ، ويرفع هذه الموانع وتلك العقبات ، ويهب السلطان لآياته فيحكمها ويثبت دعائمها ، وينشئ من ضعف أنصارها قوة ، ويخلف لهم من ذلتهم عزة ، وتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى : { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ } [ الرعد : 17 ] ، وفي حكاية هذه السنة الإلهية التي أقام عليها الأنبياء والمرسلين ، تسلية لنبينا صلى الله عليه وسلم عما كان يلاقي من قومه ، ووعد له بأنه سيكمل له دينه ، ويتم عليه وعلى المؤمنين نعمته ، مع استلفاتهم إلى سيرة من سبقهم : { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت : 2 - 3 ] ، { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] .
هذا هو التأويل الثاني في معنى الآية . يدل عليه ما سبق من الآيات ، ويرشد إلى سياق القصص السابق في قوله : { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } [ 42 ] الخ . وأنت ترى أن قصة الغرانيق لا تتفق مع هذا المعنى الصحيح .
وهناك تأويل ثالث ذكره صاحب الإبريز وإني أنقله بحروفه وما هو بالبعيد عن هذا بكثير قال : ذكر أمانيّ الأنبياء في أممهم ، وطمعهم في إيمانهم ، وشأن نبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك ، على نحو يقرب مما ذكرناه في الوجه الثاني :
ثم إن الأمة تختلف كما قال تعالى : { وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ } [ البقرة : 253 ] ، فأما من كفر فقد ألقى إليه الشيطان الوساوس القادحة له في الرسالة ، الموجبة لكفره . وكذا المؤمن أيضاً لا يخلو أيضاً من وساوس ، لأنها لازمة للإيمان بالغيب في الغالب ، وإن كانت تختلف في الناس بالقلة والكثرة ، وبحسب المتعلقات إذا تقرر هذا فمعنى تمنى : أنه يتمنى لهم الإيمان ويحب لهم الخير والرشد والصلاح والنجاح ، فهذه أمنية كل رسول ونبيّ . وإلقاء الشيطان فيها ، يكون بما يلقيه في قلوب أمة الدعوة من الوساوس الموجبة لكفر بعضهم ، ويرحم الله المؤمنين فينسخ ذلك من قلوبهم ، ويحكم فيها الآيات الدالة على الوحدانية والرسالة ، ويبقي ذلك عزّ وجل في قلوب المنافقين والكافرين ليفتتنوا به . فخرج من هذا أن الوساوس تلقى أولاً في قلوب الفريقين معاً ، غير أنها لا تدوم على المؤمنين وتدوم على الكافرين . انتهى .
وأنت إذا نظرت بين هذا التفسير وبين ما سبقه ، تتبين الأحق بالترجيح . ولو صح ما قاله نقلة قصة الغرانيق لارتفعت الثقة بالوحي وانتقض الاعتماد عليه ، كما قاله القاضي البيضاويّ وغيره . ولكان الكلام في الناسخ كالكلام في المنسوخ . يجوز أن يلقي فيه الشيطان ما يشاء ، ولا نهدم أعظم ركن للشرائع الإلهية وهو العصمة . وما يقال في المخرج عن ذلك ، ينفر منه الذوق ولا ينظر إليه العقل على أن وصف العرب لآلهتهم بأنها الغرانيق العلى لم يرد لا في نظمهم ولا في خطبهم . ولم ينقل عن أحد أن ذلك الوصف كان جارياً على ألسنتهم . إلا ما جاء في معجم ياقوت غير مسند ولا معروف بطريق صحيح . وهذا يدل على أن القصة من اختراع الزنادقة ، كما قال ابن إسحاق . وربما كانت منشأ ما أورده ياقوت . ولا يخفى أن الغرنوق والغرنيق لم يعرف في اللغة إلا اسماً لطائر مائي أسود أو أبيض . أو هو اسم الكركيّ أو طائر يشبهه والغرنيق بالضم وكزنبور وقنديل وسَمَوْأَل وفردوس وقرطاس وعُلاَبط معناه : الشاب الأبيض الجميل . وتسمى الخصلة من الشعر المفتلة : الغرنوق , كما يسمى به ضرب من الشجر . ويطلق الغرنوق والغرانيق على ما يكون في أصل العوسج اللين النبات . ويقال : لمة غرانقة وغرانقية : أي : ناعمة تفيئها الريح . أو الغرنوق الناعم المستتر من النبات الخ . ولا شيء في هذه المعاني يلائم الآلهة والأصنام ، حتى يطلق عليها في فصيح القول الذي يعرض على ملوك البلاغة وأمراء الكلام . فلا أظنك تعتقد إلا أنها من مفتريات الأعاجم ومختلفات الملبسين ، ممن لا يميز بين حر الكلام ، وما استعبد منه لضعفاء الأحلام . فراج ذلك على من يذهله الولوع بالرواية ، عما تقتضيه الدراية : { رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [ آل عِمْرَان : 8 ] . انتهى كلام الأستاذ رحمه الله .
وممن جزم بوضع هذه القصة جزماً باتاً ، الإمام ابن حزم رحمه الله ، حيث قال في كتابه " الملل " في الرد على من لم يوجب العصمة على الأنبياء ما مثاله : استدلوا بالحديث الكاذب الذي لم يصح قط في قراءته عليه السلام في : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } وذكروا تلك الزيادة المفتراة التي تشبه مَنْ وَضَعَهَا من قولهم : وإنها لهي الغرانيق العلى وإن شفاعتها لترتجى , ثم قال بعد : وأما الحديث الذي فيه الغرانيق فكذب بحت موضوع . لأنه لم يصح قط من طريق النقل ، ولا معنى للاشتغال به ، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد . وأما قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِه } الآية ، فلا حجة لهم فيها . لأن الأمانيّ الواقعة في النفس لا معنى لها . وقد تمنى النبيّ صلى الله عليه وسلم إسلام عمه أبي طالب ، ولم يرد الله عزّ وجلّ كون ذلك . فهذه الأمانيّ التي ذكرها الله عزّ وجلّ لا سواها ، وحاشا لله أن يتمنى نبيّ معصية . وبالله تعالى التوفيق .
وهذا الذي قلنا هو ظاهر الآية دون مزيد تكلف ، ولا يحل خلاف الظاهر إلا بظاهر آخر وبالله تعالى التوفيق . انتهى ، وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :(/)
{ وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } [ 55 ] .
{ وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ } أي : في شك وجدال من التنزيل الكريم ، لما طبع على قلوبهم : { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ } أي : القيامة : { بَغْتَةً } أي : فجأة : { أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } أي : يوم لا يوم بعده . كأن كل يوم يلد ما بعده من الأيام ، فما لا يوم بعده يكون عقيماً . والمراد به الساعة أيضاً . كأنه قيل : أو يأتيهم عذابها , فوضع ذلك موضع ضميرها لمزيد التهويل . أفاده أبو السعود . أي : لأنه بمعنى : شديد لا مثل له في شدته . وتقدم فيما نقلنا وجه آخر وهو أن المعنى : لا يزال الذين كفروا في ريب من الحق أو الكتاب ، لا تستقر عقولهم عليه حتى تأتي ساعة هلاكهم بغتة ، فيلاقون حسابهم عند ربهم . أو إن امتد بهم الزمن ، ومادّهم الأجل ، فسيصيبهم عذاب يوم عقيم . يوم حرب يسامون فيه سوء عذاب القتل أو الأسر . فلا ينتج لهم من ذلك اليوم خير ولا بركة . بل يسلبون ما كان لديهم ، ويساقون إلى مصارع الهلكة ، وهذا هو العقم في أتم معانيه وأشأم درجاته . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } [ 56 ] .
{ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ } أي : يوم تزول مريتهم : { لِلَّهِ } أي : وحده ، بحيث لا يكون لأحد تصرف لا حقيقة ولا صورة : { يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } أي : بالمجازاة ، ثم فسر الحكم بقوله تعالى : { فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ } [ 57 - 59 ] .
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا } أي : في الجهاد : { أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً } أي : من الجنة ونعيمها : { وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ } .
قال في الإكليل : استدل بقوله تعالى : { ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا } فَضَالةُ بن عبيد الأنصاري الصحابيّ على أن المقتول الميت في سبيل الله سواء في الفضل . أخرجه ابن أبي حاتم وهو رأي قاله جماعة . وخالفه آخرون ففضلوا المقتول وأخرجه ابن أبي حاتم عن سليمان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < فمن مات مرابطاً أجرى الله عليه مثل ذلك الأمر ، وأجرى عليه الرزق ، وأمن من الفتانين . وأقرؤوا ما شئتم : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } إلى : { حَلِيمٌ } > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } [ 60 ] .
{ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ } أي : ومن جازى ظالماً بمقدار ظلمه ، ولم يزد في الاقتصاص منه ، ثم تعدى عليه الظالم ثانياً ، لينصرن الله ذلك المظلوم . وإنما سمي الابتداء بالعقاب ، الذي هو الجزاء ، للازدواج والمشاكلة . أو لأنه سبب الجزاء وفي قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } تعريض بالحث على العفو والمغفرة . فإنه تعالى مع كمال قدرته ، لمّا كان يعفو ويغفر ، فغيره أولى بذلك . وتنبيه على قدرته على النصر . إذا لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده . فظهر سر مطابقة العفوّ الغفور لهذا الموضع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [ 61 - 62 ] .
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } أي : ذلك النصر بسبب أنه قادر . ومن آيات قدرته البالغة ، إيلاج أحد الملوين في الآخر ، بزيادته في أحدهما ما ينقص من ساعات الآخر : { وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } أي : ذلك الصنع الباهر بأنه المعبود الحق الذي لا مثل له ولا ندّ ، وأن الذي يدعوه المشركون هو الباطل الذي لا يقدر على صنعة شيء . بل هو المصنوع . أي : فتتركون عبادة من منه النفع وبيده الضر ، وتعبدون الباطل الذي لا تنفعكم عبادته . وأن الله هو ذو العلوّ على كل شيء ، والعظيم الذي كل شيء دون عظمته ، فلا أعلى منه ولا أكبر . ثم أشار إلى آية من آيات صنعه الباهر ، تقريراً لألوهيته ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ } [ 63 - 65 ] .
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ } أي : جعلها معدّة لمنافعكم : { وَالْفُلْكَ } أي : وسخر لكم البحر ، حتى أن الفلك : { تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ } أي : بتيسيره لمنافعكم : { وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ } أي : بمشيئته وقدرته . أي : ما يمسكها ويحفظها إلا ذلك ، رحمة بكم ، فاشكروا آلاءه وحده : { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ } أي : في آلائه وآياته المذكورة ، ما أَبَان فيها من طرق الاستدلال على وحدانيته ، لا إله إلا هو . وكذلك من آيات ألوهيته ما تضمن قوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ } [ 66 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ } أي : جحود للنعم ، بعبادة غير بارئها . أو إشراكه معه ، مع أنه هو الخالق لكل ذلك ، و القادر عليه ، وغيره لا يملك شيئا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ } [ 67 ] .
{ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا } أي : وضعنا : { مَنْسَكاً } أي : شريعة ومتعبداً : { هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ } أي : في ذلك الجعل والوضع والحوار في تنوعه في كل أمة ، وعدم وحدته ، أو في أمر ما جئتهم به ، زعما بأنه يستغني عنه بما شرع قبله . لأنه جهل بحكمته تعالى في تكوين الأمم وتربيتها بالشرائع المناسبة لزمنها ومكانها ، وحياتها ومنشئها . ولذلك كانت هذه الشريعة أهدى الشرائع للامتنان بها ، حينما بلغ الإنسان أعلى طور الرشد ولذلك وجبت الدعوة إليها خاصة كما قال سبحانه : { وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ } أي : اثبت على دينك ثباتاً لا يطمعون أن يخدعوك عنه . أو معناه : ثابر على الدعوة إلى ما أمرت به . فلا تضرك منازعتهم . وعلى الكل اتباعك وعدم مخالفتك ، لاستقرار الأمر على شرعتك . لأنها الطريق القويم .
هذا ، وقال ابن جرير : أصل المنسك في كلام العرب ، الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه ، لخير أو شر . يقال : إن لفلان منسكاً يعتاده , يراد مكاناً يغشاه ويألفه لخير أو شر . وقد اختلف أهل التأويل في معنى النسك هنا ، فقيل : عيداً . وقيل : إراقة الدم ثم استظهر أن المعنى إراقة الدم أيام النحر بمنى . لأن المناسك التي كان المشركون جادلوا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانت إراقة الدم في هذه الأيام ، أي : فلا ينازعك هؤلاء المشركون في ذبحك ومنسكك بقولهم : أتأكلون ما قتلتم ، ولا تأكلون الميتة التي قتلها الله ) ؟ انتهى .
وعليه ، فيكون المراد بالجعل في قوله تعالى : { جَعَلْنْا } الجعل القدريّ لا التشريعيّ . كما قال : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } [ البقرة : 148 [ في المطبوع : 48 ] ] ، أي : هؤلاء إنما يفعلون هذا عن قدر الله وإرادته . فلا تتأثر بمنازعتهم لك ، ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق . وهذا كقوله تعالى : { وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ } [ القصص : 87 ] ، أشار له ابن كثير . ونقل الرازيّ عن ابن عباس ، في رواية عطاء ، أن المراد بالمنسك : الشريعة المنهاج . قال : وهو اختيار القفال ، لقوله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } [ المائدة : 48 ] ، وهو الذي آثرناه أولاً لظهوره فيه . والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } [ 68 - 71 ] .
{ وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } أي : من أمر الدين : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } أي : حجة : { وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ } أي : من ضرورة العقل أو استدلاله : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } أي : يدفع عنهم ما يراد بهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ 72 - 74 ] .
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } أي : حال كونها واضحة الدلالة على حقيقتها وما تضمنته : { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ } أي : الإنكار أو الفظيع من التهجم والبسور . أو الشر الذي يقصدونه بظهور مخايله : { يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } أي : يبطشون بهم من فرط الغيظ والغضب . قال في " فتح البيان " : وكذلك أهل البدع المضلة ، إذا سمع الواحد منهم ما يتلوه العالم عليه ، من آيات الكتاب العزيز أو من السنة الصحيحة ، مخالفاً لما اعتقده من الباطل ، رأيت في وجهه من المنكر ، ما لو تمكن من أن يسطو بذلك لفعل به ما لا يفعله به ما لا يفعله بالمشركين والله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق : { قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ } أي : بُيِّنَ : { مَثَلٌ } أي : حال مستغرب : { فَاسْتَمِعُوا لَهُ } أي : تدبروه حق تدبره . فإن الاستماع بلا تدبر وتعقل لا ينفع : { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } يعني : الأصنام : { لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ } أي : لخلقه متعاونين . وتخصيصه الذباب ، لمهانته وضفعه واستقذاره . وهذا من أبلغ ما أنزل في تجهيل المشركين . حيث وصفوا بالإلهية التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها ، والإحاطة بالمعلومات عن آخرها ، صوراً وتماثيل ، يستحيل منها أن تقدر على أقل ما خلقه الله تعالى وأذله ، ولو اجتمعوا لذلك : { وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ } أي : هذا الخلق الأقل الأذل ، لو اختطف منهم شيئاً فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه ، لم يقدروا : { ضَعُفَ الطَّالِبُ } أي : الصنم يطلب ما سلب منه : { وَالْمَطْلُوبُ } أي : الذباب بما سلب . وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف . ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف . فإن الذباب حيوان وهو جماد . وهو غالب وذلك مغلوب . وجوز أن يراد بالطالب عابد الصنم ، وبالمطلوب معبوده . قيل : وهو أنسب بالسياق لأنه لتجهيلهم وتحقير معبوداتهم . فناسب إرادتهم والأصنام من هذا التذييل . واختار الوجه الأول الزمخشري . لما فيه من التهكم ، بجعل الصنم طالباً على الفرض تهكماً وأنه أضعف من الذباب لأنه مسلوب وجماد ، وذلك حيوان بخلافه .
وهذه الجملة التذييلية إخبار أو تعجب . وقوله تعالى : { مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } أي : ما عرفوه حق معرفته ، حيث أشركوا به ما لا يمتنع من الذباب ولا ينتصف منه : { إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } أي : قادر وغالب . فكيف يتخذ العاجز المغلوب شبيهاً به . أو لقويّ بنصر أوليائه ، عزيز ينتقم من أعدائه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ } [ 75 - 76 ] .
{ اللَّهُ يَصْطَفِي } أي : يختار : { مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ } أي : فلا نكران لاصطفائه من البشر من شاء لرسالته . ولا وجه لقولهم : { أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا } [ صّ : 8 ] ، قال أبو السعود : كأنه تعالى . لما قرر وحدانيته ، في الألوهية ، ونفى أن يشاركه فيها شيء من الأشياء بيّن أن له عباداً مصطفيْن للرسالة ، يتوسل بإجابتهم والاقتداء بهم ، إلى عبادته عزّ وجلّ . وتقدمه بنحوه البيضاوي : { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أي : ما عملوه وما سيعملونه : { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ } أي : لأنه مالكها . فلا يُسأل عما يفعل ، من الاصطفاء وغيره ، وهم يسألون .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ 77 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } أي : صلوا . وعبر عن الصلاة بهما ، لأنهما أعظم أركانها . أو اخضعوا له تعالى ، وخروا له سجداً ، لا لغيره : { وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ } أي : تحروه . كصلة الأرحام ومواساة الأيتام والحض على الإطعام والاتصاف بمكارم الأخلاق : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : لكي تسعدوا وتفوزوا بالجنة .
تنبيهات :
الأول : لم يختلف العلماء في السجدة الأولى من هذه السورة . واختلفوا في السجدة الثانية - هذه - فروي عن عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء وأبي موسى ؛ أنهم قالوا : في الحج سجدتان . وبه قال ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق ، يدل عليه ما روي عن عقبة بن عامر قال : قلت : يا رسول الله أفي الحج سجدتان ؟ قال : < نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما > . أخرجه الترمذي وأبو داود . وعن عُمَر بن الخطاب أنه قرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين وقال : إن هذه السورة فضلت بسجدتين . أخرجه مالك في " الموطأ " وذهب قوم إلى أن الحج سجدة واحدة ، وهي الأولى ، وليست هذه بسجدة وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وسفيان الثوريّ وأبي حنيفة ومالك . بدليل أنه قرن السجود بالركوع . فدل ذلك أنه سجدة صلاة ، لا سجدة تلاوة - كذا في " لباب التأويل " أي : لأن المعهود في مثله من كل آية ، قرن الأمر بالسجود فيها بالركوع ، كونه أمراً بما هو ركن للصلاة ، بالاستقراء نحو : { وَاسْجُدِي وَارْكَعِي } [ آل عِمْرَان : 43 ] ، وإذا جاء الاحتمال سقط الاستدلال .
وما روي من الحديث المذكور ، قال الترمذيّ رحمه الله : إسناده ليس بالقويّ . وكذا قال غيره كما في " شرح الهداية " لابن الهمام .
قال الخفاجيّ : لكن يرد عليه ما في " الكشف " أن الحق أن السجود حيث ثبت ، ليس من مقتضى خصوص في تلك الآية ، لأن دلالة الآية غير مقيدة بحال التلاوة البتة . بل إنما ذلك بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قوله . فلا مانع من كون الآية دالة على فرضية سجود الصلاة . ومع ذلك يشرع السجود عند تلاوتها ، لما ثبت من الرواية فيه .
الثاني : قال في " اللباب " اختلف العلماء في عدّة سجود التلاوة . فذهب الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم إلى أنها أربع عشرة سجدة . لكن الشافعي قال : في الحج سجدتان . وأسقط سجدة ص . وقال أبو حنيفة في الحج سجدة . وأثبت سجدة ص وبه قال أحمد ، في إحدى الروايتين عنه . فعنده أن السجدات خمس عشرة سجدة . وذهب قوم إلى أن المفصل ليس فيه سجود . يروى ذلك عن أبيّ بن كعب وابن عباس . وبه قال مالك .
فعلى هذا يكون سجود القرآن إحدى عشرة سجدة . يدل عليه ما روي عن أبي الدرداء ؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < في القرآن إحدى عشرة سجدة > . أخرجه أبو داود وقال : إسناده واه . ودليل من قال : في القرآن خمس عشرة سجدة ما روي عن عَمْرو بن العاص قال : أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن خمس عشرة سجدة . منها ثلاث في المفصل . وفي سورة الحج سجدتان أخرجه أبو داود . وصح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في : { اقرأ } و : { إذا السماء انشقت } أخرجه مسلم . انتهى .
والخمس عشرة : في الأعراف ، والرعد ، والنحل ، والإسراء ، ومريم ، والحج ، والفرقان ، والنمل ، والم تنزيل ، وص ، وحم ، والسجدة ، والنجم , والانشقاق ، واقرأ .
والمفصل من سورة الحجرات إلى آخر القرآن ، في أصح الأقوال . سمي مفصلاً لكثرة الفصل بين سوره .
الثالث : سجود التلاوة سنة للقارئ والمستمع . وبه قال مالك والشافعي وأحمد . لقول ابن عمر : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة ، فيسجد ونسجد معه ، حتى ما يجد أحدنا موضعاً لجبهته . رواه الشيخان .
وقال عمر : إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء . رواه البخاري وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } [ 78 ] .
{ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } عامٌّ في جهاد الكفار والظلمة والنفس . وحق منصوب على المصدرية . والأصل جهاداً فيه حقاً فعكس ، وأضيف الحق إلى الجهاد مبالغة ، ليدل على أن المطلوب القيام بمواجبه وشرائطه على وجه التمام والكمال بقدر الطاقة . وعن الرضيّ : إن كلّ وجدّ وحقّ إذا وقعت تابعة لاسم جنس ، مضافة لمثل متبوعها لفظاً ومعنى ، نحو : أنت عالم كلّ عالم أو جدّ عالم أو حق عالم أفادت أنه تجمع فيه من الخلال ما تفرّق في الكل . وأن ما سواه باطل أو هزل . وقوله تعالى : { هُوَ اجْتَبَاكُمْ } أي : اختاركم لدينه ولنصرته . وفيه تنبيه على المقتضى للجهاد والداعي إليه . لأن المختار إنما يختار من يقوم بخدمته . وهي بما ذكر . ولأن من قرّ به العظيمُ ، يلزمه دفع أعدائه ومجاهدة نفسه ، بترك ما لا يرضاه : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } أي : في جميع أمور الدين من ضيق ، بتكليف ما يشق القيام به . كما كان على من قبلنا ، فالتعريف في الدين للاستغراق . قال في " الإكليل " : هذا أصل القاعدة " المشقة تجلب التيسير " : { مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } منصوب على المصدرية ، بفعل دل عليه ما قبله من نفي الحرج . بعد حذف مضاف أي : وسع دينكم توسيع ملة أبيكم إبراهيم . أو على الإغراء بتقدير : اتبعوا أو الزموا , أو الاختصاص بتقدير : أعني ونحوه . أو هو بدل أو عطف بيان مما قبله . فيكون مجروراً بالفتح ، أفاده الشهاب . قال القاضي ؛ وإنما جعله أباهم لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو كالأب لأمته ، من حيث إنه سبب لحياتهم الأبدية . أو لأن أكثر العرب كانوا من ذريته . فغلبوا على غيرهم .
وقال القاشاني : معنى أبوّته كونه مقدماً في التوحيد ، مفيضاً على كل موحد ، فكلهم من أولاده . وقوله تعالى : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } أي : من قبل نزول القرآن في الكتب المتقدمة . والجملة مستأنفة . وقيل : إنها كالبدل من قوله : { هُوَ اجْتَبَاكُمْ } ولذا لم يعطف : { وَفِي هَذَا } أي : القرآن . أي : فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم وقيل : الضمير لإبراهيم عليه السلام .
قال القاضي : وتسميتهم بمسلمين في القرآن ، وإن لم يكن منه ، كان بسبب تسميته من قبل ، في قوله : { وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } [ البقرة : 128 ] ، أي : لدخول أكثرهم في الذرية . فجعل مسمياً لهم مجازاً { لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ } أي : بأنه قد بلغكم رسالات ربكم : { وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } أي : بتبليغ الرسل رسالات الله إليهم : { فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } أي : وإذ خصكم بهذه الكرامة والأثرة ، فاعبدوه وأنفقوا مما آتاكم بالإحسان إلى الفقراء والمساكين ، وثقوا به ، ولا تطلبوا النصرة والولاية إلا منه ، فهو خير مولى وناصر .(/)
سورة المؤمنون
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } [ 1 - 7 ] .
{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } أي : دخلوا في الفوز الأعظم { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } أي : متذللون مع خوف وسكون للجوارح ، لاستيلاء الخشية والهيبة على قلوبهم { وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } . أي : عن الفضول وما لا يعني من الأقوال والأفعال ، معرضون في عامة أوقاتهم ، لاستغراقهم بالجد .
{ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } أي : للتجرد عن رذيلة البخل . قيل : السورة مكية ، والزكاة إنما فرضت بالمدينة ؟ وجوابه : إن الذي فرض بالمدينة إنما هو النصب والمقادير الخاصة . وإلا فأصل التفضل بالعفو مشروع في أوائل البعثة ، فلا حاجة إلى دعوى إرادة زكاة النفوس من الشرك والعصيان ، لعدم التبادر إليه .
{ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } لأنه الحق المأذون فيه { فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } أي : الكاملون في العدوان المرتكبونه على أنفسهم .
تنبيهات :
الأول : دلت الآية على تعليق فلاح العبد على حفظ فرجه ، وأنه لا سبيل له إلى الفلاح بدونه ، وتضمنت هذه الآية ثلاثة أمور : من لم يحفظ فرجه لم يكن من المفلحين . وأنه من الملومين . ومن العادين . ففاته الفلاح واستحق اسم العدوان ووقع في اللوم . فمقاساة ألم الشهوة ومعاناتها ، أيسر من بعض ذلك . وقد أمر الله تعالى نبيه أن يأمر المؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم . وأن يعلمهم أنه مشاهد لأعمالهم ، مطلع عليها ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . ولما كان مبدأ ذلك من قبل البصر ، جعل الأمر بغضّه مقدماً على حفظ الفرج . فإن الحوادث مبدؤها من النظر . كما أن معظم النار مبدؤها من مستصغر الشرر . ثم تكون نظرة ، ثم تكون خطرة ، ثم خطوة ، ثم خطيئة . ولهذا قيل : من حفظ هذه الأربعة أحرز دينه : اللحظات ، والخطرات ، واللفظات . والخطوات . فينبغي للعبد أن يكون بوّاب نفسه على هذه الأبواب الأربعة . ويلازم الرباط على ثغورها . فمنها يدخل عليه العدوّ ، فيجوس خلال الديار ويتبروا ما علوا تتبيراً .
الثاني : روي عن الإمام أحمد أنه قال : لا أعلم بعد القتل ذنباً أعظم من الزنى .
واحتج بحديث عبد الله بن مسعود أنه قال : يا رسول الله أي : الذنب أعظم ؟ قال : < أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك قال قلت : ثم أي : ؟ قال : أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك . قال قلت : ثم أي : ؟ قال : أن تزاني حليلة جارك > . والنبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر من كل نوع أعلاه ليطابق جوابه سؤال السائل . فإنه سئل عن أعظم الذنب فأجابه بما تضمن ذكر أعظم أنواعه وما هو أعظم كل نوع ، فأعظم أنواع الشرك أن يجعل العبد لله ندّاً . وأعظم أنواع القتل أن يقتل ولده خشية أن يشاركه في طعامه وشرابه . وأعظم أنواع الزنى أن يزني بحليلة جاره . فإن مفسدة الزنى تتضاعف بتضاعف ما انتهكه من الحق . فالزنى بالمرأة التي لها زوج ، أعظم إثماً وعقوبة من الزنى بالتي لا زوج لها إذ فيه انتهاك حرمة الزوج وإفساد فراشه ، وتعليق نسب عليه ، لم يكن منه , وغير ذلك من أنواع أذاه . فهو أعظم إثماً وجرماً من الزنى بغير ذات الزوج فإذا كان زوجها جاراً له ، انضاف إلى ذلك سوء الجوار ، وأذى جاره بأعلى أنواع الأذى . وذلك من أعظم البوائق . وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : < لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه > . ولا بائقة أعظم من الزنى بامرأته . فالزنى بمائة امرأة لازوج لها أيسر عند الله من الزنى بامرأة الجار . فإن كان أخاً له ، أو قريباً من أقاربه ، انضم إلى ذلك قطيعة الرحم ، فيتضاعف الإثم . فإن كان الجار غائباً في طاعة الله ، كالصلاة وطلب العلم والجهاد ، تضاعف الإثم ، فإن اتفق أن تكون المرأة رحماً منه ، انضاف إلى ذلك قطيعة رحمها .
فإن اتفق أن يكون الزاني محصناً ، كان الإثم أعظم . فإن كان شيخاً كان أعظم إثماً وهو أحد الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم فإن اقترن بذلك أن يكون في شهر حرام أو بلد حرام أو وقت معظم عند الله ، كأوقات الصلاة وأوقات الإجابة ، تضاعف الإثم .
وعلى هذا ، فاعتبر مفاسد الذنوب وتضاعف درجاتها في الإثم والعقوبة والله المستعان .
الثالث : أجمع المسلمون على أن حكم التلوّط مع المملوك كحكمه مع غيره ، ومن ظن أن تلوط الإنسان مع مملوكه جائز ، واحتجّ على ذلك بقوله تعالى : { إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } وقاس ذلك على أمته المملوكة ، فهو كافر يستتاب كما يستتاب المرتد . فإن تاب وإلا قتل وضربت عنقه . وتلوط الإنسان بمملوكه كتلوطه بمملوك غيره . في الإثم والحكم . أفاد هذا وما قبله بتمامه الإمام ابن القيم في " الجواب الكافي " . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ 8 - 11 ] .
{ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } أي : قائمون عليها بحفظها وإصلاحها . والآية تحتمل العموم في كل ما اؤتمنوا عليه وعوهدوا ، من جهة الله تعالى ومن جهة الخلق والخصوص فيما حملوه من أمانات الناس وعهودهم . ولذا عدت الخيانة في الأمانة من آيات النفاق في الحديث المشهور .
{ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } أي : يحافظون عليها . وذلك أن لا يسهوا عنها ويؤدّوها في أوقاتها ، ويقيموا أركانها ، ويوكلوا نفوسهم بالاهتمام بها وبما ينبغي أن تتم به أوصافها . وليس هذا تكريراً لما وصفهم به أولاً . فإن الخشوع في الصلاة ، غير المحافظة عليها . وتقديم الخشوع اهتماماً به . حتى كأن الصلاة ، لا يعتد به بدونه ، أو لعموم هذا له . وفي تصدير الأوصاف وختمها بأمر الصلاة ، تعظيم لشأنها .
{ أُولَئِكَ } أي : الجامعون لهذه الأوصاف : { هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ } أي : الجنة : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي : لا يخرجون منها أبداً .
ثم أشار تعالى إلى مبدأ خلقه الإنسان وتقليبه في أطوار شتى ، حتى نما كاملاً ، وإلى ما خلقه من عالم السماء والأرض ، وسخره لمنافعه ، ليشكر مولاه ويعبده ، كما أمره وهداه ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ } [ 12 - 13 ] .
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ } أي : ابتدأنا خلقه : { مِنْ سُلالَةٍ } أي : خلاصة : { مِنْ طِينٍ } أي : تراب خلط بماء فصار نباتاً فأكله إنسان فصار دماً { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً } أي : بأن خلقناه منها ، أو ثم جعلنا السلالة نطفة بالتصفية : { فِي قَرَارٍ } أي : مستقر ، وهو رحم المرأة الذي نقل إليه : { مَكِينٍ } أي : متمكن لا يمجّ ما فيه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } [ 14 ] .
{ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً } أي : بالاستحالة من بياض إلى حمرة كالدم الجامد : { فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً } أي : قطعة لحم بقدر ما يمضغ : { فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً } أي : بأن صلبناها وجعلناها عموداً للبدن ، على هيئات وأوضاع مخصوصة ، تقتضيها الحكمة : { فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً } أي : جعلناه محيطاً بها ساتراً لها كاللباس : { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } أي : بتمييز أعضائه وتصويره ، وجعله في أحسن تقويم : { فَتَبَارَكَ اللَّهُ } أي : تعاظم قدرة وحكمة وتصرفاً : { أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } أي : المقدرّين . فالخلق بمعنى التقدير كقوله :
~وَلأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلقتَ وَبَعْ ضُ القوم يَخْلُقُ ثم لا يَفْرِي
لا بمعنى الإيجاد . إذ لا خالق غيره ، إلا أن يكون على الفرض .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ } [ 15 - 17 ] .
{ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ } أي : بعد ما ذكر من الأمور العجيبة وتحصيل هذه الكمالات : { لَمَيِّتُونَ } أي : لصائرون إلى الموت .
قال المهايميّ : والحكيم لا يتلف ما استكمله بأنواع التكميل ، ولذلك سيبعثه كما قال : { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } أي : من قبوركم للحساب والمجازاة : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ } أي : سبع سموات هي طرق للملائكة والكواكب فيها مسيرها .
قال بعض علماء الفلك في تفسير هذه الآية : أي : سبعة أفلاك ، للسبع سموات ، لكل سماء طريق تجري بما معها من الأقمار . قال : فلذلك دلنا الله سبحانه بأن العالم الشمسيّ ينقسم إلى سبع طرائق ، خلاف طريق الأرض الذي يعيّنه قوله تعالى : { فَوْقَكُمْ } فالمسافة ابتداء من منتصف البعد بين الشمس وعطارد تقريباً ، إلى منتهى فلك نبتون ، تنقسم إلى سبعة أقسام بحسب بعد كل سيار . كل قسم تجري فيه سماء بما معها . ويسمى هذا الطريق فلكاً { وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ } أي : عن ذلك المخلوق ، الذي هو السموات ، أو جميع المخلوقات . فالتعريف على الأول ، عهديّ ، وعلى الثاني استغراقيّ . أي : ما كنا مهملين أمر الخلق ، بل نحفظه وندبر أمره حتى يبلغ منتهى ما قدر له من الكمال ، حسبما اقتضته الحكمة ، وتعلقت به المشيئة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } [ 18 ] .
{ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ } أي : بتقدير يصلون معه إلى منفعتهم . أو بمقدار ما علمناه من حاجاتهم : { فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ } أي : جعلناه قارّاً فيها ، يتفجر من الأماكن التي أراد سبحانه إحياءها كقوله : { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ } [ الزمر : 21 ] ، { وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } أي : إزالته بالتغوير وبغيره ، كما قدرنا على إنزاله . ففي تنكير ذهاب إيماء إلى كثرة طرقه ، ومبالغة في الإبعاد به .
قال الزمخشري : فعلى العباد أن يستعظموا النعمة في الماء ، ويقيّدوها بالشكر الدائم ، ويخافوا نفارها ، إذا لم تشكر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ } [ 19 - 20 ] .
{ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا } أي : في الجنات : { فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَشَجَرَةً } بالنصب عطف على جنات وقرئت مرفوعة على الابتداء . أي : ومما أنشئ لكم شجرة : { تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ } وهو جبل بفلسطين ، أو بين مصر وأيلة بفتح الهمزة محل معروف يسمى اليوم العقبة وهو على مراحل من مصر . قاله الشهاب والشجرة : شجرة الزيتون ، نسبت إلى الطور لأنه مبدؤها . أو لكثرتها فيه : { تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ } أي : ملتبسة بالدهن المستصبح به : { وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ } أي : وبإدام يغمس فيه الخبز فالصبغ كالصباغ ما يصطبغ به من الإدام . ويختص بكل إدام مائع . يقال صبغ اللقمة : دهنها وغمسها وكل ما غمس فقد صبغ . كذا في " المصباح " و " التاج " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ } [ 21 - 22 ] .
{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً } أي : تعتبرون بحالها وتستدلون بها : { نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا } أي : من الألبان : { وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ } أي : في ظهورها وأصوافها وشعورها ونتاجها : { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ } أي : بخلقه وتسخيره وإلهامه . فله الحمد .
قال الزمخشري : والقصد بالأنعام أي : الإبل ، لأنها هي المحمول عليها في العادة . وقرنها بالفلك التي هي السفائن ، لأنها سفائن البر .
قال ذو الرمة :
~*سفينةُ بَرٍّ تحت خَدِّي زِمَامُهَا*
قال الشهاب : وجعلُ الإبل سفائن البر معروف مشهور . وهي استعارة لطيفة وقد تصرفوا فيها تصرفات بديعة . كقول بعض المتأخرين :
~لِمَنْ شحرٌ أثقلَتْهَا ثمارُها سفائنُ بَرٍّ والسَّرَابُ بحارُها
ولما بيّن تعالى دلائل التوحيد ، تأثره بقصص بعثة الرسل لعلوّ كلمته ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ } [ 23 - 25 ] .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا } أي : الداعي إلى عبادة الله وحده . بدعوى الرسالة منه : { إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ } أي : أن يطلب الفضل عليكم ويرأسكم ، كقوله تعالى : { وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ } [ يونس : 78 ] ، { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ } أي : إرسال رسول : { لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً } أي : من السماء : { مَا سَمِعْنَا بِهَذَا } أي : بمثل ما يدعو إليه : { فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ } أي : لعله يرجع أو يفيق من جنته أو يتمادى فنكيد له . قال الرازيّ : واعلم أنه سبحانه ما ذكر الجواب عن شبههم هذه الخمسة ، لركاكتها ووضوح فسادها . وذلك لأن كل عاقل يعلم أن الرسول لا يصير رسولاً إلا لأنه من جنس الملك . وإنما يصير كذلك بأن يتميز من غيره بالمعجزات . فسواء كان من جنس الملك أو جنس البشر ، فعند ظهور المعجز عليه يجب أن يكون رسولاً . بل جعلُ الرسول من جملة البشر أولى . لما مرّ بيانه في السورة المتقدمة . وهو أن الجنسية مظنة الألفة والمؤانسة . وأما قولهم : { يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ } فإن أرادوا به إرادته لإظهار فضله ، حتى يلزمهم الانقياد لطاعته ، فهذا واجب على الرسول . وإن أرادوا به أن يرتفع عليهم على سبيل التجبر والتكبر والانقياد ، فالأنبياء منزّهون عن ذلك . وأما قولهم : { مَا سَمِعْنَا بِهَذَا } فهو استدلال بعدم التقليد ، على عدم وجود الشيء . وهو في غاية السقوط . لأن وجود التقليد لا يدل على وجود الشيء . فعدمه من أن يدل على عدمه ؟ وأما قولهم : { بِهِ جِنَّةٌ } فقد كذبوا . لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة كمال عقله . وأما قولهم : { فَتَرَبَّصُوا بِهِ } فضعيف . لأنه إن ظهرت الدلالة على نبوّته وهي المعجزة ، وجب عليهم قبول قوله في الحال ، ولا يجوز توقيف ذلك إلى ظهور دولته . لأن الدولة لا تدل على الحقيقة . وإن لم يظهر المعجز لم يجز قبول قوله ، سواء ظهرت الدولة أو لم تظهر . ولما كانت هذه الأجوبة في نهاية الظهور ، لا جرم تركها الله سبحانه ، انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيات وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } [ 26 - 30 ]
{ قَالَ } أي : بعد ما أيس من إيمانهم : { رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا } أي : ملتبساً بحفظنا وكلاءتنا ، لا تلحقها آفة ولا يعترضها نقص عبر بكثرة آلة الحس التي بها يحفظ الشيء ، ويراعى من الاختلال والزيغ ، عن المبالغة في الحفظ والرعاية ، على طريق التمثيل ، وقيل : المعنى بمرأى منا ومشهد في حفظنا وكلاءتنا . بناء على أن المراد بالعين البصر ، وأنه يسمى البصر عيناً لأجل أنه مما يتعلق به ويقوم به . من باب تسمية الشيء باسم محله . وباسم ما هو قائم به .
قال الإمام ابن فورك في " متشابه الحديث " - بعد حكاية نحو ما تقدم - : وقد اختلف أصحابنا فيما يثبت لله عزّ وجلّ من الوصف له بالعين . فمنهم من قال : إن المراد به البصر والرؤية . ومنهم من قال : إن طريق إثباتها صفة لله تعالى بالسمع . وسبيل القول فيها كسبيل القول في اليد والوجه . انتهى .
ومذهب السلف ؛ أن الصفات يحتذى فيها حذو الذات ، فكما أنها منزهة عن التشبيه والتمثيل والتكييف ، فكذلك الصفات إثباتها منزه عن ذلك وعن التحريف والتأويل . وقوله تعالى : { وَوَحْيِنَا } أي : أمرنا وتعليمنا كيف تصنع : { فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا } أي : عذابنا : { وَفَارَ التَّنُّورُ } كناية عن الشدة . كقولهم : حمي الوطيس . والتنور : كانون الخبز حقيقة . وأطلقه بعضهم على وجه الأرض ومنبع الماء ، للآية مجازاً : { فَاسْلُكْ فِيهَا } أي : فأدخل في الفلك : { مِنْ كُلٍّ } أي : من كل أمة : { زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا } أي : في الدعاء لهم بالنجاة ، عند مشاهدة هلاكهم : { إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ } أي : في بحر الهلاك ، كما غرقوا في بحر الضلال وظلمهم أنفسهم ، بعد أن أملى لهم الدهر المتطاول : { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي } أي : في السفينة أو منها : { مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ } أي : لمن أنزلته منزل قربك : { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي فيما فعل بنوح وقومه : { لَآيات } أي : يَستدل بها ويعتبر أولو الأبصار : { وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } أي : مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد . أو مختبرين بهذه الآيات عبادنا ، لننظر من يعتبر ويدّكر . كقوله تعالى : { وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } [ القمر : 15 ] ، وإن مخففة على الأصح - وقيل نافية . واللام بمعنى إلا والجملة حالية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } [ 31 ] .
{ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } هم عاد أو ثمود . قال الشهاب : ليس في الآية تعيين لهؤلاء . لكن الأول مأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما . وأيده في " الكشف " بمجيء قصتهم بعد قصة نوح في سورة الأعراف وهود وغيرهما . وعليه أكثر المفسرين . ون ذهب إلى أنهم ثمود قوم صالح عليه السلام ، استدل بذكر الصيحة لأنهم المهلكون بها . كما صرح به في هذه السورة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ 32 - 41 ] .
{ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ } أي : نعّمناهم : { فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ } أي : لعزة أنفسكم ، بالتذلل لمثلكم : { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ } أي من الأجداث أحياء كما كنتم : { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ } تكرير لتأكيد البعد . أي : بَعُدَ الوقوعُ أو الصحةُ لما توعدون من البعث : { إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا } أي : يموت بعض ويولد بعض . لينقرض قرن ويأتي قرن آخر { وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ } أي : العقوبة الهائلة ، أو صيحة ملك : { بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً } أي : كغثاء السيل : { فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي : هلاكاً لهم . إخبار أو دعاء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِين مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ } [ 42 - 45 ] .
{ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِين مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا } أي : وقتها الذي عين لهلاكها : { وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا } أي : متواترين ، واحداً بعد واحد : { كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً } أي : في الإهلاك : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } أي : أخباراً يُسمر بها ويُتعجب منها . يعني أنهم فنوا ولم يبق إلا خبرهم ، إن خيراً وإن شرّاً .
~وإنما المرء حديث بعده فكن حديثاً حسناً لمن وعى
{ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ } أي : حجة واضحة ملزمة للخصم . والمراد به الآيات نفسها . عبر عنها بذلك على طريقة العطف ، على جمعها لعنوانين جليلين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ } [ 46 - 48 ] .
{ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَاسْتَكْبَرُوا } أي : عن الانقياد وإرسال بني إسرائيل مع موسى لأرض كنعان ، وتحريرهم من تلك العبودية لهم : { وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ } أي : متمردين : { فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ } أي : المغرقين في البحر .
فائدة :
قال الزمخشري : البشر يكون واحداً وجمعاً : { بَشَراً سَوِيّاً } [ 17 ] ، { لِبَشَرَيْنِ } [ 47 ] ، { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ } [ 26 ] ، ومثل وغير يوصف بهما الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث : { إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ } [ النساء : 140 ] ، { وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } [ الطلاق : 12 ] ، ويقال أيضاً : هما مثلاه وهم أمثاله : { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } [ الأعراف : 194 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } [ 49 - 50 ] .
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } أي : التوراة : { لَعَلَّهُمْ } أي : قومه : { يَهْتَدُونَ } أي : إلى طريق الحق ، بما فيها من الشرائع والأحكام : { وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } أي : دلالة على قدرتنا الباهرة . لأنها ولدته من دون مسيس . فالآية أمر واحد نسب إليهما . أو المعنى : وجعلنا ابن مريم آية بما ظهر منه من الخوارق ، وأمه آية بأنها ولدته من غير مسيس فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها : { وَآوَيْنَاهُمَا } أي : جعلنا مأواهما أي : منزلهما : { إِلَى رَبْوَةٍ } أي : أرض مرتفعة { ذَاتِ قَرَارٍ } أي : مستقر من أرض منبسطة مستوية . وعن قتادة : ذات ثمار وماء . يعني أنه لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها : { وَمَعِينٍ } أي : وماء معين ظاهر جارٍ . من معن الماء إذا جرى أو مدرك بالعين من عانه إذا أدركه [ في المطبوع : إدركه ] بعينه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ 51 ] .
{ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } نداء وخطاب لجميع الأنبياء باعتبار زمان كلٍّ وعهده . فدخل فيه عيسى دخولاً أوليّاً . أو يكون ابتداء كلام ذكر تنبيهاً على أن تهيئة أسباب التنعم لم تكن له خاصة . وأن إباحة الطيبات للأنبياء شرع قديم . واحتجاجاً على الرهابنة في رفض الطيبات . وقوله : : { وَاعْمَلُوا صَالِحاً } أي : عملاً صالحاً . فإنه الذي به سعادة الدارين . وقوله : { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } أي : ذو علم لا يخفى عليّ منها شيء . فأنا مجازيكم بجميعها ، وموفيكم أجوركم وثوابكم عليها ، فخذوا في صالحات الأعمال واجتهدوا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } [ 52 ] .
{ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ } أي : واعلموا أن هذه ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها : { أُمَّةً وَاحِدَةً } أي : ملة واحدة ، وهي شريعة الإسلام . إسلام الوجه لله تعالى بعبادته وحده . كقوله : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } [ آل عِمْرَان : 19 ] ، فالأمة هنا بمعنى : الملة والدين : { وَأَنَا رَبُّكُمْ } أي : من غير شريك : { فَاتَّقُونِ } أي : فخافوا عقابي ، في مفارقة الدين والجماعة . قيل إنه اختير على قوله : { فَاعْبُدُونِ } الواقع في سورة الأنبياء ، لأنه أبلغ في التخويف ، لذكره بعد إهلاك الأمم ، بخلاف ما ثمة وهذا بناء على أنه تذييل للقصص السابقة ، أو لقصة عيسى عليه الصلاة والسلام ، لا ابتداء كلام . فإنه حينئذ لا يفيده . إلا أن يراد أنه وقع في حكاية لهذه المناسبة . كذا في " العناية " .
ثم قص ما وقع من أمم الرسل بعدهم من مخالفة الأمر ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ } [ 53 - 54 ]
{ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً } أي : جعلوا دينهم بينهم قطعاً وفرقاً منوعة : { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } أي : كل فرقة من فرق هؤلاء المختلفين المتقطعين دينهم ، فرح بباطله ، مطمئن النفس ، معتقد أنه على الحق : { فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ } أي : في جهالتهم ، ومشيهم مع هواهم ، ونبذهم كتاب الله : { حَتَّى حِينٍ } أي : إلى وقت يستفيقون فيه من سباتهم ، بظهور دين الله وعلو كلمته وهزم عدوه . وشبه جهالتهم بالماء الذي يغمر القامة ، لأنهم مغمورون فيها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ } [ 55 - 56 ] .
{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ } أي : نعطيهم إياه ، ونجعله مدداً لهم : { مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ } أي كلاّ . لا نفعل ذلك . بل هم لا يشعرون أصلاً . كالبهائم لا فطنة لهم ولا شعور ، ليتأمَّلوا ويعرفوا أن ذلك الإمداد استدراج لهم واستجرار إلى زيادة الإثم . وهم يحسبونه معاجلة فيما لهم فيه إكرام . ثم بين سبحانه من له المسارعة في الخيرات من أوليائه وعباده ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } [ 57 - 61 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ } أي : من خوف عذابه حذرون : { وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ } أي : شركاً جليّاً ، ولا خفيّاً : { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا } أي : يعطون ما أعطوه من الصدقات : { وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } أي : خائفة : { أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } أي : من رجوعهم إليه تعالى ، فتخشى أن تحاسب على ما قصرت من الحقوق ، أو غفلت عنه من الآداب : { أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } أي : في نيل الخيرات التي من جملتها الخيرات العاجلة الموعودة على الأعمال الصالحة . كما في قوله تعالى : { فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ } [ آل عِمْرَان : 148 ] ، وقوله تعالى : { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } [ العنكبوت : 27 ] ، فقد أثبت لهم ما نفى عن اضدادهم ، خلا أنه غيّر الأسلوب ، حيث لم يقل : { أَولَئِكَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ } بل أسند المسارعة إليهم ، إيماء إلى كمال استحقاقهم لنيل الخيرات بمحاسن أعمالهم . وإيثار كلمة في على كلمة إلى للإيذان بأنهم متقلبون في فنون الخيرات . لا أنهم خارجون عنها ، متوجهون إليها ، بطريق المسارعة كما في قوله تعالى : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ } [ آل عِمْرَان : 133 ] أفاده أبو السعود .
{ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } أي : إياها سابقون . أي : ينالونها قبل الآخرة ، حيث عجلت لهم في الدنيا ، فتكون اللام لتقوية العمل . كما في قوله تعالى : { هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } [ 63 ] ، وقيل : المراد : { بالْخَيْرَاتِ } الطاعات . والمعنى : يرغبون في الطاعات والعبادات أشد الرغبة . وهم لأجلها فاعلون السبق ، أو لأجلها سابقون الناس ، والله أعلم ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } [ 62 - 63 ] .
{ وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا } جملة مستأنفة ، سيقت للتحريض على ما وصف به السابقون من فعل الطاعات المؤدي إلى نيل الخيرات ، ببيان سهولته ، وكونه غير خارج عن حد الوسع والطاقة . أي : سنتنا جارية على ألا نكلف نفساً من النفوس إلا ما في وسعها . أو للترخيص فيما هو قاصر عن درجة أعمال أولئك الصالحين ، ببيان أنه تعالى لا يكلف عباده إلا ما في وسعهم . فإن لم يبلغوا في فعل الطاعات مراتب السابقين ، فلا عليهم ، بعد أن يبذلوا طاقاتهم ويستفرغوا وسعهم ، أفاده أبو السعود .
{ وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ } وهو كتاب الأعمال . كقوله تعالى : { هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الجاثية : 29 ] ، { وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا } أي : مما عليه هؤلاء الموصوفون من المؤمنين : { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ } أي : سيئة كثيرة : { مِنْ دُونِ ذَلِكَ } أي : الذي ذكر من كون قلوبهم في غفلة ، وهي فنون كفرهم ومعاصيهم : { هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } أي : معتادون لا يزايلونها .
تنبيه :
أغرب الإمام أبو مسلم الأصفهاني فيما نقله عنه الرازي ، فذهب إلى أن قوله تعالى : { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا } إلى آخر الآية ، من تتمة صفات المؤمنين المشفقين . كأنه سبحانه قال بعد وصفهم : { وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا } ونهايته ما أتى به هؤلاء المشفقون ، ولدينا كتاب يحفظ أعمالهم ينطق بالحق وهم لا يظلمون . بل نوفر عليهم ثواب كل أعمالهم { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا } هو أيضاً وصف لهم بالحيرة كأنه قال : وهم مع ذلك الوجل والخوف كالمتحيرين في جعل أعمالهم مقبولة أو مردودة { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ } . أي : لهم أيضاً من النوافل ووجوه البر سوى ما هم عليه . إما أعمالاً قد عملوها في الماضي أو سيعملونها في المستقبل . ثم إنه تعالى رجع .
قال الرازيّ : وقول أبي مسلم أولى لأنه إذا أمكن ردّ الكلام إلى ما يتصل به من ذكر المشفقين ، كان أولى من ردّه إلى ما بعد منه ، وقد يوصف المرء لشدة فكره في أمر آخرته ، بأن قلبه في غمرة ، ويراد أنه قد استولى عليه الفكر في قبول عمله أو ردّه ، وفي أنه هل أداه كما يجب أو قصر . انتهى .
وبعدُ فإن نظم الآية الكريمة يحتمل لذلك . ولكن لم يرد وصف الغمرة في حق المؤمنين أصلاً بل لم يوصف بها إلا قلوب المجرمين ، كما تراه في الآيات أولاً . فالذوق الصحيح ورعاية نظائر الآيات ، يأبى ما أغرب به أبو مسلم أشد الإباء . والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ } [ 64 ] .
{ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ } أي : متنعميهم : { بِالْعَذَابِ } أي : بالانتقام ، مثل أخذهم يوم بدر : { إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ } أي : يصرخون باستغاثة أو الآية . كقوله تعالى : { وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً } [ المزمل : 11 - 13 ] . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ } [ 65 - 67 ] .
{ لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ } أي : يقال لهم تبكيتاً لهم : لا تجأروا ، فإن الجؤار غير نافع لكم : { إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ } أي : تعرضون عن سماعها أشد الإعراض : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ } أي : بالبيت الحرام والذي سوغ الإضمار ، شهرتهم بالاستكبار به ، وأن لا مفخر لهم إلا أنهم قوّامه . وجوز تضمين مستكبرين معنى مكذبين والضمير للتنزيل الكريم . أي : مكذبين تكذيب استكبار . ولم يذكروا احتمال إرجاع الضمير للنكوص إشارة إلى زيادة عتوهم ، وأنهم يفتخرون بهذا الإعراض ولا يرهبون مما ينذرون به ، كقوله : { وَلَّى مُسْتَكْبِراً } [ لقمان : 7 ] ، وليس ببعيد . فتأمل { سَامِراً تَهْجُرُونَ } يعني أنهم يسمرون ليلاً بذكر القرآن وبالطعن فيه ، وتسميته سحراً وشعراً ونحو ذلك . وهو معنى تهجرون من الهجر بالضم ، وهو الفحش في القول . أو معناه تعرضون . من الهجر بالفتح .
تنبيه :
قال أبو البقاء : سامراً حال أيضاً وهو مصدر . كقولهم قم قائماً وقد جاء من المصادر على لفظ اسم الفاعل نحو العاقبة والعافية . وقيل : هو واحد في موضع الجميع . انتهى .
فيكون واحداً أقيم مقام الجمع . وقيل هو اسم جمع كحاج وحاضر وراكب وغائب . قال الشهاب : وعلى كونه مصدراً فيشمل القليل والكثير أيضاً ، باعتبار أصله . ولكن مجيء المصدر على وزن فاعل نادر . وقرئ سُمَّراً بضم وتشديد . سُمَّار بزيادة ألف .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ } [ 68 ] .
{ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ } أي : القرآن ، ليعلموا أنه الحق المبين ، فيصدقوا به وبمن جاء به : { أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ } أي : من الهدى والحق ، فاستبدعوه واستبعدوه ، فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال . مع أن المجيء بما لم يعهد ، لا يوجب النفرة . لأن المألوف قد يكون باطلاً ، فتقتضي به الحكمة التحذير منه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } [ 69 - 70 ] .
{ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } أي : جاحدون بما أرسل به . وهذا توبيخ آخر يشير إلى عظيم جهالتهم ، بأنهم ما عرفوا شأنه ولا دروا سر ما بعث به مما يؤسف له . كما قال : { يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ يّس : 30 ] ، { أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ } أي : جنون ، أو جن يخبلونه . وهذا توبيخ آخر ، فيه تعجيب من تلونهم في الجحود ، وتفننهم في العناد ، ثم أشار إلى أنه لم يحملهم على ذلك إلا أنفتهم للحق كبراً وعتوّاً بقوله : { بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } أي : لما فيهم من الزيغ والانحراف .
قال القاشانيّ : ولما أبطلوا استعداداتهم وأطفأُوا نورها بالرين والطبع ، على مقتضى قوى النفس والطبع ، واشتد احتجابهم بالغواشي الظلمانية عن نور الهدى والعقل ، لم يمكنهم تدبر القول ولم يفهموا حقائق التوحيد ، والعدل فنسبوه إلى الجنة ولم يعرفوه ، للتقابل بين النور والظلمة ، والتضادّ بين الباطل والحق ، وأنكروه وكرهوا الحق الذي جاء به .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ } [ 71 - 74 ] .
{ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ } أي : ولو كان ما كرهوه من الحق الذي هو التوحيد والعدل المبعوث بهما الرسول صلوات الله عليه ، موافقاً لأهوائهم المتفرقة في الباطل ، الناشئة من نفوسهم الظالمة المظلمة ، لفسد نظام الكون لانعدام العدل الذي قامت به السماوات والأرض ، والتوحيد الذي به قوامهما فلزم فساد الكون لأن مناط النظام ليس إلا ذلك ، وفيه من تنويه شأن الحق ، والتنبيه على سموّ مكانه ، ما لا يخفى : { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ } إضراب عن توبيخهم بكراهته ، وانتقال إلى لومهم بالنفور عما ترغب فيه كل نفس من خيرها . أي : ليس هو مكروهاً بل هو عظة لهم لو اتعظوا . أو فخرهم أو متمناهم لأنهم كانوا يقولون : { لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } [ الصافات : 168 - 169 ] ، { فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ } أي : بالنكوص عنه . وأعاد الذكر تفخيماً . وأضافه لهم لسبقه . وفي سورة الأنبياء : { ذِكْرِ رَبِّهِمْ } [ 42 ] ، لاقتضاء ما قبله له : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً } أي : جعلا على أداء الرسالة ، فلأجل ذلك لا يؤمنون : { فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ } أي : عطاؤه : { وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ } أي : منحرفون . قال القاشانيّ : الصراط المستقيم الذي يدعوهم إليه ، هو طريق التوحيد المستلزم لحصول العدالة في النفس ، ووجود المحبة في القلب . وشهود الوحدة . والذين يحتجبون عن عالم النور بالظلمات ، وعن القدس بالرجس ، إنما هم منهمكون في الظلم والبغضاء والعداوة ، والركون إلى الكثرة . فلا جرم أنهم عن الصراط ناكبون منحرفون إلى ضده . فهو في واد وهم في واد . وقال الزمخشري : قد ألزمهم الحجة في هذه الآيات ، وقطع معاذيرهم وعللهم ، بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله ، مخبور سره وعلنه ، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم ، وأنه لم يعرض له حتى يدعي بمثل هذه الدعوى العظيمة بباطل ، ولم يجعل ذلك سلماً إلى النيل من دنياهم ، واستعطاء أموالهم ، ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام ، الذي هو الصراط المستقيم . مع إبراز المكنون من أدوائهم ، وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل ، واستهتارهم بدين الآباء الضلال من غير برهان ، وتعللهم بأنه مجنون ، بعد ظهور الحق ، وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة ، وكراهتهم للحق وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ 75 ]
{ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } .
قال ابن جرير : أي : ولو رحمنا هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة ، ورفعنا عنهم ما بهم من القحط والجدب ، وضر الجوع والهزال : { لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ } يعني في عتوهم وجرأتهم على ربهم : { يَعْمَهُونَ } يعني يترددون . وأشار ابن كثير إلى معنى آخر فقال : يخبر تعالى عن غلظهم في كفرهم ، بأنه لو أزاح عنهم الضر ، وأفهمهم القرآن ، لما انقادوا له ، ولاستمروا على كفرهم وعنادهم وطغيانهم ، كما قال تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] ، وقال : { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ } [ الأنعام : 27 - 28 ] . فهذا من باب علمه تعالى بما لا يكون ، لو كان كيف يكون . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } [ 76 ] .
{ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } .
قال ابن جرير : أي : ولقد أخذنا هؤلاء المشركين بعذابنا ، وأنزلنا بهم بأسنا وسخطنا ، وضيقنا عليهم معايشهم ، وأجدبنا بلادهم ، وقتلنا سراتهم بالسيف فما استكانوا لربهم . أي : فما خضعوا لربهم ؛ فينقادوا لأمره ونهيه ، وينيبوا إلى طاعته . وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ الله قريشاً بسني الجدب ، إذ دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن الحسن قال : إذا أصاب الناسَ من قبل الشيطان بلاء ، فإنما هي نقمة . فلا تستقبلوا نقمة الله بالحمية . ولكن استقبلوها بالاستغفار وتضرعوا إلى الله . وقرأ هذه الآية : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } [ 77 ] .
{ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ } يعني ما نزل بهم من القتال والقتل يوم بدر ، أو باب المجاعة والضر ، وهو ما روي عن مجاهد واختاره ابن جرير : { إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } أي : حزنى نادمون على ما سلف منهم ، في تكذيبهم بآيات الله ، في حين لا ينفعهم الندم والحزن . ثم أشار تعالى إلى قدرته على البعث بآياته المبصرة في الأنفس والآفاق ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ } [ 78 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَة } أي : لتسمعوا وتبصروا وتفقهوا : { قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ } أي : نعمة الله في ذلك ، بصرفها لما خلقت له . وهو أن يدرك .
~وفِي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيةٌ تدلُّ على أنَّه الوَاحِدُ
والقلة في الآية هذه ونظائرها ، بمعنى النفي ، في أسلوب التنزيل الكريم . لأن الخطاب للمشركين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ } [ 79 - 81 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ } أي : خلقكم وبثكم بالتناسل فيها : { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي : تجمعون يوم القيامة ، بعد تفرقكم إلى موقف الحساب : { وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي } أي : خلقه ، أي : يجعلهم أحياء ، بعد أن كانوا نطفاً أمواتاً ، ينفخ الروح فيها ، بعد الأطوار التي تأتي عليها : { وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أي : بالطول والقصر . فهو متوليه ولا يقدر على تصريفهما غيره : { أَفَلا تَعْقِلُونَ } أي : إن من أنشأ ذلك ابتداء من غير أصل ، لا يمتنع عليه إحياء الأموات بعد فنائهم . ثم بين تعالى أنهم لم يعتبروا بآياته ، ولا تدبروا ما احتج عليهم من الحجج الدالة على قدرته على فعل كل ما يشاء ، بقوله : { بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ } أي : من الأمم المكذبة رسلها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } [ 82 - 83 ] .
{ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } أي : أحياء ، كهيئتنا قبل الممات : { لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } أي : ما سطروه في كتبهم ، مما لا حقيقة له :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [ 84 - 85 ] .
{ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } أي : فتعلمون أن من ابتدأ ذلك ، قدر على إعادته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ } [ 86 - 87 ] .
{ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ } أي : عقابه على شرككم به ، وتكذيبكم خبره وخبر رسوله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } [ 88 - 89 ] .
{ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ } أي : يغيث من أراد ، ممن قصد بسوء : { وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ } أي : ولا أحد يمتنع ممن أراده هو بسوء ، فيدفع عنه عذابه وعقابه : { إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } أي : تخدعون عن توحيده وطاعته ، مع ظهور الأمر وتظاهر الأدلة فالسحر مستعار للخديعة . وتكرير : { إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } لاستهانتهم ، وتجهيلهم ، لكمال ظهور الأمر .
قال في " الإكليل " : قال مكيّ : في هذه الآيات دلالة على جواز محاجة الكفار والمبطلين ، وإقامة الحجة وإظهار الباطل من قولهم ومذهبهم ، ووجوب النظر في الحجج على من خالف في دين الله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ 90 - 94 ] .
{ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي : في دعواهم أن له ولداً ومعه شريكاً : { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } لأنه يجب أن يتخالفا بالذات, وإلا لما تُصُوِّرَ العدد - والمتخالفان بالذات يجب أن يتخالفا في الأفعال فيذهب كل بما خلقه ، ويستبد به ، ويظهر بينهم التحارب والتغالب ، فيفسد نظام الكون ، كما تقدم بيانه في آية : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [ 22 ] ، { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ } أي : من العذاب . أي : إن كان لا بد من أن تريني . لأن ما والنون للتأكيد : { رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي : نجني من عذابهم . وفيه إيذان بكمال فظاعة ما وعدوه من العذاب ، وكونه بحيث يجب أي : يستعيذ منه من لا يمكن أن يحيق به . وردّ لإنكارهم إياه واستعجالهم به ، استهزاء . وتكريرُ النداء ، لإظهار زيادة الابتهال .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ 95 - 100 ] .
{ وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ } أي : من العذاب : { لَقَادِرُونَ } أي : وإنما نؤخره لحكمة بلوغ الكتاب أجله : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي : بالخلة التي هي أحسن الخلال . وهو العفو والصفح : { السَّيِّئَةَ } يعنى أذى المشركين : { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ } أي : فسيرون جزاءه : { وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ } أي : وساوسهم المغْرية على الباطل والشرور والفساد ، والصدّ عن الحق : { وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } أي : يحضروني في حال من الأحوال : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ } أي : حتى إذا احتضر وشاهد أمارات العذاب ، وعاين وحشة هيئات السيئات ، تمنى الرجوع ، وأظهر الندامة ، ونذر العمل الصالح في الإيمان الذي ترك . وقوله تعالى : { كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ } يعني قوله : { رَبِّ ارْجِعُونِ } الخ : { هُوَ قَائِلُهَا } أي : لا يجاب إليها ولا تسمع منه ، يعني أنه لم يحصل إلا على الحسرة والندامة ، والتلفظ بألفاظ التحسر والندم ، والدعوة دون المنفعة والفائدة والإجابة . والآية نظيرها قوله تعالى : { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ } [ المنافقون : 10 ] ، { وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي : حائل يحول بينهم وبين الرجعة ، يلبثون فيه إلى يوم القيامة .
لطيفة :
الواو في ارجعون قيل : لتعظيم المخاطب وهو الله تعالى ، وردّه ابن مالك بأنه لا يعرف أحداً يقول : رب ارحموني ، ونحوه لما فيه من إيهام التعدد . مدفوع بأنه لا يلزم من عدم صدوره عنا كذلك ، ألا يطلقه الله تعالى على نفسه . كما في ضمير المتكلم . وقيل إنه لتكرير قوله : ارجعني كما قيل في قفا وأطرقا إن أصله قف قف على التأكيد ، وبه فسر قوله تعالى : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } [ قّ : 24 ] ، قال الشهاب : فيكون من باب استعارة لفظ مكان آخر لنكتة ، بقطع النظر عن معناه ، وهو كثير في الضمائر . كاستعمال الضمير المجرور الظاهر مكان المرفوع المستتر في كفى به حتى لزم انتقاله عن صفة إلى صفة أخرى ، ومن لفظ إلى آخر . وما نحن فيه من هذا القبيل . فإنه غيِّر الضميران المستتران إلى ضمير مثنى ظاهر . فلزم الاكتفاء بأحد لفظي الفعل ، وجعل دلالة الضمير على المثنى على تكرير الفعل ، قائماً مقامه في التأكيد ، من غير تجوز فيه ولابن جني في الخصائص كلام يدل على ما ذكرناه . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } [ 101 ]
{ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ } أي : لشدة الهول من هجوم ما شغل البال حتى زال به التعاطف والتآلف ، إذ : { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس : 34 - 37 ] ، ونفيُ نفع النسب ، إذا دهم مثل ذلك معروف . كما قال :
~لاَ نَسَبَ اليومَ وَلاَ خُلَّةٌ اتَّسَعَ الخرقُ عَلَى الراقِعِ
{ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } أي : لا يسأل بعضهم بعضاً ، لعظم الفزع وشدة ما بهم من الأهوال ، وذهولهم عما كان بينهم من الأحوال ، فتنقطع العلائق والوُصَل التي كانت بينهم ، وجلّي أن نفي التساؤل إنما هو وقت النفخ ، كما دل عليه قوله : { فَإِذَا } أي : فوقت القيام من القبور وهول المطلع يشتغل كل بنفسه . وأما ما بعده فقد يقع التساؤل ، كما قال تعالى : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ } [ الصافات : 27 ] و [ الطور : 25 ] ، لأن يوم القيامة يوم ممتد . ففيه مشاهد ومواقف . فيقع في بعضها تساؤل وفي بعضها دهشة تمنع منه .
تنبيه :
روى هنا بعض المفسرين أخباراً في نفع النسب النبويّ . وحبذا لو روي شيء منها في الصحيحين ، أو في مسانيد من التزم الصحة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } [ 102 - 104 ] .
{ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } أي : رجحت حسناته : { فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } أي : بتضييع ما منحت من الاستعداد لأن تربح في تجارة الكمال ، بفطرة الإيمان وصالح الأعمال ، ولله در القائل :
~إذا كان رأسَ المال عمرُكَ ، فاحترس عليه مِنَ الإِنفاق في غَيْرِ واجِبِ
{ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ } أي : تحرقها . وتخصيص الوجوه لأنها أشرف الأعضاء . فبيان حالها أزجر عن المعاصي المؤدية إلى النار : { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } أي : مشوهون ، قبيحو المنظر . ويقال لهم تعنيفاً وتوبيخاً :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ } [ 105 - 106 ] .
{ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا } أي : ملكتنا : { شِقْوَتُنَا } أي : التي اقترفناها بسوء اختيارنا : { وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ } أي : عن الحق ، ولذلك فعلنا ما فعلنا من التكذيب ، قال أبو السعود : وهذا ، كما ترى ، اعتراف منهم ، بأن ما أصابهم قد أصابهم بسوء صنيعهم ، وأما ما قيل من أنه اعتذار منهم بغلبة ما كتب عليهم من الشقاوة الأزلية ، فمع أنه باطل في نفسه ، لما أنه لا يكتب عليهم من السعادة والشقاوة إلا ما علم الله تعالى أنهم يفعلونه باختيارهم ، ضرورة أن العلم تابع للمعلوم - يردّه قوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ } [ 107 - 110 ] .
{ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } أي : أخرجنا من النار ، وارجعنا إلى الدنيا . فإن عدنا بعد ذلك إلى ما كنا عليه من الكفر والمعاصي ، فإنا متجاوزون الحدّ في الظلم . ولو كان اعتقادهم أنهم مجبورون على ما صدر عنهم ، لما سألوا الرجعة إلى الدنيا ، ولما وعدوا الإيمان والطاعة : { قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا } أي : ذلوا فيها كخسء الكلاب : { وَلا تُكَلِّمُونِ } أي : في رفع العذاب ، فإنه لا يرفع ولا يخفف . ثم أشار إلى علة ذلك بقوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي } وهم المؤمنون : { يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ } أي : بتشاغلكم بهم على تلك الصفة : { ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ } .
ثم أشار تعالى لبيان حسن حالهم ، وأنهم انتفعوا بما آذوهم ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ 111 - 114 ] .
{ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ قَالَ } أي : الله أو الملَك المأمور بسؤالهم : { كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : شيئاً ما . أو لو كنتم من أهل العلم , والجواب محذوف ، ثقة بدلالة ما سبق عليه . أي : لعلمتم يومئذ قلة لبثكم فيها ، كما علمتم اليوم . ولعملتم بموجبه ولم تخلدوا إليها .
قال الرازيّ : الغرض من هذا السؤال التبكيت والتوبيخ ، فقد كانوا ينكرون اللبث في الآخرة أصلاً ، ولا يعدون اللبث إلا في دار الدنيا . ويظنون أن بعد الموت يدوم الفناء ، ولا إعادة . فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنها دائمة وهم فيها مخلدون ، سألهم : كم لبثتم في الأرض ؟ تنبيهاً لهم على أن ما ظنوه دائماً طويلاً ، فهو يسير ، بالإضافة إلى ما أنكروه . فحينئذ تحصل لهم الحسرة على ما كانوا يعتقدونه في الدنيا . من حيث أيقنوا خلافه . فليس الغرض مجرد السؤال ، بل ما ذكر .
قال الزمخشري : استقصروا مدة لبثهم في الدنيا ، بالإضافة إلى خلودهم ، ولما هم فيه من عذابها . لأن الممتحَن يستطيل أيام محنته ، ويستقصر ما مر عليه ما أيام الدعة إليها . أو لأنهم كانوا في سرور . وأيام السرور قصار ، أو لأن المنقضي في حكم ما لم يكن ، وصدّقهم الله في تقالِّهم لسني لبثهم في الدنيا ، ووبخهم على غفلتهم التي كانوا عليها . وقرئ : { فَسَلِ الْعَادِّينَ } والمعنى : لا نعرف من عدد تلك السنين ، إلا أنا نستقله ونحسبه يوماًَ أو بعض يوم . لما نحن فيه من العذاب ، وما فينا أن نعدها ، فسل من فيه أن يعدّ ، ويقدر أن يلقى إليه فكره . وقيل : فسل الملائكة الذين يعدون أعمار العباد ويحصون أعمالهم . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } [ 115 - 118 ] .
{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً } أي : بغير حكمة ، حتى أنكرتم البعث : { وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ } أي : للجزاء : { فَتَعَالَى اللَّهُ } أ ي تعاظم عما تصفون ، لأنه : { الْمَلِكُ الْحَقُّ } أي : المتصرف وحده ، الذي قصد بالخلق معرفته وعبادته . والذي لا يترك الجزاء بل يحق الحق : { لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } أي : العظيم المجيد . وقرئ بالرفع : { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } قال ابن جرير : ومن يدع مع المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له ، معبوداً آخر لا حجة له بما يقول ولا بينة . فإنما حساب عمله السيء عند ربه ، وهو موفيه جزائه إذا قدم عليه . فإنه لا ينجح أهل الكفر بالله ، عنده ، ولا يدركون الخلود والبقاء في النعيم ، قال الزمخشري : وقوله : { لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } كقوله : { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } [ آل عِمْرَان : 151 ] , وهي صفة لازمة , نحو قوله : { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] ، جيء بها للتوكيد ، لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان . ويجوز أن يكون اعتراضاً بين الشرط والجزاء . كقولك : من أحسن إلى زيد - لا أحق بالإحسان منه - فالله مثيبه ) .
قال في " الانتصاف " : إن كان صفة ، فالمقصود بها التهكم بمدعي إله مع الله ، كقوله : { بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } [ آل عِمْرَان : 151 ] ، فنفى إنزال السلطان به ، وإن لم يكن في نفس الأمر سلطان ، لا منزل ولا غير منزل . وقال الرازي : نبه تعالى بالآية ، على أن كل ما لا برهان فيه ، لا يجوز إثباته ، وذلك يوجب صحة النظر وفساد التقليد . انتهى .
ثم أمر تعالى نبيه بالابتهال إليه واستغفاره والثناء عليه ، بقوله : { وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } أي : خير من رحم ذا ذنب ، فقبل توبته .(/)
سورة النور
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ 1 ] .
{ سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا } خبر محذوف . أي : هذه السورة . والتنكير للتفخيم : { وَفَرَضْنَاهَا } أي : أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجاباً قطعيّاً : { وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَْ } أي : تتذكرونها فتعملون بموجبها . قال الإمام ابن تيمية رحمه الله ، في تفسير هذه الآيات : هذه السورة فرضها تعالى بالبينات والتقدير والحدود ، التي من يتعد حلالها إلى الحرام فقد ظلم نفسه . ومن قرب من حرامها فقد اعتدى وتعدى الحدود . وبيّن فيها فرض العقوبة وآية الجلد وفريضة الشهادة على الزنى وفريضة شهادة المتلاعنيْن . كل منهما يشهد أربع شهادات بالله . ونهى فيها عن تعدي حدود الله في الفروج والأعراض والعورات وطاعة ذي السلطان . سواء كان في منزله أو ولايته . ولا يخرج ولا يدخل إلا بإذنه . إذ الحقوق نوعان : نوع لله فلا يتعدى حدوده ، ونوع للعبادة فيه أمر فلا يفعل إلا بإذن المالك ، فليس لأحد أن يفعل شيئاً في حق غيره إلا بإذن الله . وإن لم يإذن المالك ، فإذن الله هو الأصل ، وإذن المالك حيث أذن الله وجعل له الإذن فيه . ولهذا ضمنها الاستئذان في المساكن والمطاعم وفي الأمور الجامعة . كالصلاة والجهاد ونحوهما . ووسطها بذكر النور الذي هو مادة كل خير وصلاح كل شيء . وهو ينشأ عن امتثال أمر الله واجتناب نهيه ، وعن الصبر على ذلك ، فإنه ضياء . فإن حفظ الحدود بتقوى الله ، يجعل لصاحبه نوراً . كما قال تعالى : { اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } [ الحديد : 28 ] الآية . فضدّ النور الظلمة ، ولهذا عقب ذكر النور وأعمال المؤمنين [ في المطبوع : لمؤمنين ] بأعمال الكفار . وأهل البدع والضلال . فقال : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ } [ 39 ] الآية ، إلى قوله : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ } [ 40 ] الآية ، وكذلك الظلم ظلمات يوم القيامة . وظلم العبد نفسه من الظلم . فإن للسيئة ظلمة في القلب ، وسواداً في الوجه ، ووهناً في البدن ، ونقصاً في الرزق ، وبغضاً في قلوب الخلق . كما روي ذلك عن ابن عباس ، يوضحه أن الله ضرب مثل إيمان المؤمنين بالنور ، وأعمال الكفار بالظلمة . والإيمان اسم جامع لكل ما يحبه الله . والكفر اسم جامع لكل ما يبغضه ، وإن كان لا يكفر العبد إذا كان معه أصل الإيمان وبعض فروع الكفر من المعاصي . كما لا يصير مؤمناً إذا كان معه بعض فروع الإيمان . ولغضّ البصر اختصاص بالنور كما في حديث أبي هريرة الذي صححه الترمذيّ : < إن العبد إذا أذنب . . . > الحديث . وفيه : فذلك الرّان الذي ذكر الله . وفي الصحيح : < إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة > . والغين حجاب رقيق أرقّ من الغيم ، فأخبر أنه يستغفر ليزيل الغين ، فلا يكون نكتة سوداء . كما أنها إذا أزيلت لا تصير ريناً . وقال حذيفة : إن الإيمان يبدو في القلب لمظة بيضاء . فكلما ازداد العبد إيماناً ، ازداد قلبه بياضاً ، وفي خطبة الإمام أحمد ، في الرد على الزنادقة : الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل ، بقايا من أهل العلم ، يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون
منهم على الأذى . يحيون بكتاب الله الموتى , ويبصّرون بنور الله أهل العمى . . . الخ . وقد قرن الله سبحانه بين الهدى والضلال بما يشبه هذا . كقوله تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ } [ فاطر : 19 - 20 ] ، وقال : { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ } [ هود : 24 ] ، وقال : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً } [ البقرة : 17 ] الآيات ، وهذا النور الذي يكون للمؤمن في الدنيا على حسن عمله واعتقاده ، يظهر في الآخرة ، كما قاله تعالى : { يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ } [ الحديد : 12 - 15 ] الآية ، فذكر النور هنا عقيب أمره بالتوبة ، كما في سورة النور عقيب أمره بغض البصر والتوبة . وذكر ذلك بعد أمره بحقوق الأهلين والأزواج وما يتعلق بالنساء . وقال في سورة الحديد : { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } إلى قوله : { وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ الحديد : 12 - 15 ] ، فأخبر سبحانه أن المنافقين يفقدون النور الذي كان المؤمنون يمشون به ، ويطلبون الاقتباس من نورهم ، فيحجبون عن ذلك بحجاب يضرب بينهم . كما أنهم في الدنيا لما فقدوا النور : { كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً } [ البقرة : 17 ] الآية . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ 2 ] .
{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } شروع في تفصيل ما ذكر من الآيات البينات وبيان أحكامها . أي : كل من زنى من الرجال والنساء ، فأقيموا عليه هذا الحد . وهو أن يجلد ، أي : يضرب على جلده مائة جلدة ، عقوبة لما صنع : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } أي : رقة ورحمة في طاعته فيما أمركم به ، من إقامة الحد عليهما ، على ما ألزمكم به : { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } أي : تصدقون بالله ربكم وباليوم الآخر ، وأنكم مبعوثون لحشر القيامة وللثواب والعقاب . فإن من كان بذلك مصدقاً ، فإنه لا يخالف الله في أمره ونهيه ، خوف عقابه على معاصيه : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : وليحضر جلدهما طائفة من أهل الإيمان بالله ورسوله ، قال ابن جرير : العرب تسمي الواحد فما زاد طائفة .
قال ابن تيمية عليه الرحمة : فأمر تعالى بعقوبتهما بحضور طائفة من المؤمنين . وذلك بشهادته على نفسه أو شهادة المؤمنين عليه . لأن المعصية إذا ظهرت كانت عقوبتها ظاهرة . كما في الأثر : من أذنب سراً فليتب سراً . ومن أذنب علانية فليتب علانية , وليس من الستر الذي يحبه الله ، كما في الحديث : < إن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها . فإذا أعلنت ولم تنكر ، ضرت العامة > فإذا أعلنت أعلنت عقوبتها بحسب العدل الممكن . ولهذا لم يكن للمعلن بالبدع والفجور غيبة . كما روي عن الحسن وغيره ، لأنه لما أعلن استحق العقوبة . وأدناها أن يذم عليها لينزجر ويكف الناس عنه وعن مخالطته . ولو لم يذكر إلا بما فيه لاغتر به الناس . فإذا ذكر انكف وانكف غيره عن ذلك وعن صحبته . قال الحسن : أترغبون عن ذكر الفاجر ؟ اذكروا بما فيه كي يحذره الناس . والفجور : اسم جامع لكل متجاهر بمعصية أو كلام قبيح ، يدل السامع له على فجور قلب قائله . ولهذا استحق الهجرة ، إذا أعلن ببدعة أو معصية ، أو فجور أو تهتك أو مخالطة لمن هذا حاله . بهذا لا يبالي بطعن الناس عليه . فإن هجره نوع تعزير له . فإذا أعلن السيئات ، أُعْلِنَ هجره ، وإذا أسر أُسرَّ هجره ، إذ الهجرة هي الهجرة على السيئات وهجرة السيئات ، كقوله : { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } [ المدثر : 5 ] ، وقوله : { وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً } [ المزمل : 10 ] ، وقوله : { فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ } [ النساء : [ في المطبوع : 40 ] 140 ] ، وقد روي عن عمر ؛ أن ابنه عبد الرحمن لما شرب الخمر بمصر وذهب به أخوه إلى أميرها عَمْرو بن العاص ليحده ، جلده سراً ، فبعث إليه عمر ينكر عليه . ولم يعتدّ بذلك حتى أرسل إلى ابنه ، فأقدمه المدينة وجلده علانية ، وعاش ابنه مدة ثم مرض ثم مات ولم يمت من الجلد ، ولا ضربه بعد الموت ، كما يزعمه الكذابون .
وقوله تعالى : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } نهى تعالى عما يأمر به الشيطان في العقوبات عموماً وفي الفواحش خصوصاً . فإن هذا الباب مبناه على المحبة والشهوة ، والرأفة التي يزينها الشيطان بانعطاف القلوب على أهل الفواحش ، حتى يدخل كثير من الناس بسبب هذه الآفة في الدياثة ، إذا رأى من يهوى بعض المتصلين به ، أو يعاشره عشرة منكرة ولو كان ولده ، رقّ به وظن أن هذا من رحمة الخلق . وإنما ذلك دياثة ومهانة وعدم دين وإعانة على الإثم والعدوان . وترك للتناهي عن المنكر . وتدخل النفس به في القيادة التي هي أعظم من الدياثة كما دخلت عجوز السوء مع قومها ، في استحسان ما كانوا يتعاطونه من إتيان الذكران والمعاونة لهم على ذلك ، وكانت في الظاهر مسلمة على دين زوجها لوط ، وفي الباطن منافقة على دين قومها . لا تقلي عملهم كما قلاه لوط . وكما فعل النسوة بيوسف . فإنهن أعنَّ امرأة العزيز على ما دعته إلى من فعل الفاحشة معها ولهذا قال : { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } [ يوسف : 33 ] ، وذلك بعد قولهن : { إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [ يوسف : 30 ] ولا ريب أن محبة الفواحش مرض في القلب . فإن الشهوة توجب السكر كما قال تعالى : { إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الحجر : 72 ] ، وفي الصحيحين ومن حديث أبي هريرة : < العينان تزنيان > الخ فكثير من الناس يكون مقصوده بعض هذه الأنواع كالنظر والاستمتاع والمخاطبة . ومنهم من يرتقي إلى المس والمباشرة . ومنهم من يقبل وينظر . وكل ذلك حرام . وقد نهانا الله سبحانه أن تأخذنا بالزناة رأفة ، بل نقيم عليهم الحد ، فكيف بما دونه من هجر ؟ ونهي وتوبيخ وغير ذلك ؟ بل ينبغي شنآن الفاسقين وقِلَاهم على ما يتمتع به الإنسان من أنواع الزنى المذكورة في الحديث . والمحب ، وإن كان يحب النظر والاستمتاع بصورة المحبوب وكلامه ، فليس دواؤه في ذلك ، لأنه مريض . والمريض إذا اشتهى ما يضره أو جزع من تناول الدواء الكريه ، فأخذتنا به رأفة ، فقد أعناه على ما يهلكه ويضره وقال تعالى : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [ العنكبوت : 45 ] ، أي : فيها الشفاء والبرء من ذلك . بل الرأفة به أن يعان على شرب الدواء وإن كان كريهاً ، مثل الصلاة وما فيها من الأذكار والدعوات وأن يحمى عما يزيد علته . ولا يظن أنه إذا استمتع بمحرم يسكن بلاؤه . بل ذلك يوجب له زيادة في البلاء . فإنه وإن سكن ما به عقيب استمتاعه ، أعقبه ذلك مرضاً عظيماً لا يتخلص منه ، بل الواجب دفع أعظم الضررين باحتمال أدناهما قبل استحكام الداء . ومن المعلوم أن ألم العلاج النافع أيسر من ألم المرض الباقي . وبهذا يتبين أن العقوبات الشرعية أدوية نافعة . وهي من رأفة الله بعباده ، الداخلة في قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [ 107 ] ، فمن ترك هذه الرحمة النافعة ، لرأفة بالمريض ، فهو الذي أعان على عذابه ، وإن كان لا يريد إلا الخير ، إذ هو في ذلك جاهل أحمق ، كما يفعله بعض النساء بمرضاهن وبمن يربينهن من أولادهن في ترك تأديبهم على ما يأتونه من الشر ويتركونه من الخير . ومن الناس من تأخذه الرأفة بهم لمشاركته لهم في ذلك المرض وبرودة القلب والدياثة . وهو في ذلك من أظلم الناس وأديثهم في حق نفسه ونظرائه . وهو بمنزلة جماعة مرضى قد وصف لهم الطبيب ما ينفعهم ، فوجد كبيرهم مرارته ، فترك شربه . ونهى عن سقيه للباقين . ومنهم من تأخذه الرأفة لكون أحد الزانين محبوباً له . إما لقرابة أو مودة أو إحسان ، أو لما يرجوه منه ، أو لما في العذاب من الألم الذي يوجب رقة القلب . ويتأوّل < إِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ > . وليس كما قال . بل ذلك وضع الشيء في غير موضعه . بل قد ورد < لا يدخل الجنة ديوث > فمن لم يكن مبغضاً للفواحش كارهاً لها ولأهلها ، ولا يغضب عند رؤيتها وسماعها ، لم يكن مريداً للعقوبة عليها . فيبقى العذاب عليها يوجب ألم قلبه ، قال تعالى : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } الآية . في دين الله هو طاعته وطاعة رسوله . المبنيّ على محبته ومحبة رسوله ، وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . فإن الرأفة والرحمة يحبهما لله ما لم تكن مضيعة لدين الله . فالرحمة مأمور بها بخلاف الرأفة في دين الله . والشيطان يريد من الإنسان الإسراف في أموره كلها . فإنه إن رآه مائلاً إلى الرحمة , زين له الرحمة حتى لا يبغض ما أبغضه الله ، ولا يغار ، وإن رآه مائلاً إلى الشدة ، زيّن له الشدة في غير ذات الله ، فيزيد في الذم والبغض والعقاب على ما يحبه . ويترك من اللين والصلة والإحسان والبر ما يأمر الله به . فالأول مذنب والثاني مسرف . فليقولا جميعاً : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا } [ آل عِمْرَان : 147 ] الآية . وقوله : { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } فالمؤمن بذلك يفعل ما يحبه الله ، وينهى عما يبغضه الله . ومن لم يؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يتبع هواه ، فتارة تغلب عليه الشدة : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ } [ القصص : 50 ] ، والنظر والمباشرة ، وإن كان بعضه من اللمم ، فإن دوام ذلك وما يتصل به ، من المعاشرة والمباشرة قد تكون أعظم بكثير من فساد زنى لا إصرار فيه . بل قد ينتهي النظر والمباشرة بالرجل إلى الشرك . كما قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } [ البقرة : 165 ] الآية . ولهذا لا يكون عشق الصور إلا من ضعف محبة الله وضعف الإيمان . والله تعالى إنما ذكره عن امرأة العزيز المشركة وعن قوم لوط . وقد جمع النبيّ صلى الله عليه وسلم الحدود فيما رواه أبو داود من حديث ابن عمر : < من حالت شفاعته دون حد من حدود الله ، فقد ضادَّ الله في أمره . ومن خاصم في باطل ، وهو يعلم ، لم يزل في سخط لله حتى ينزع ومن قال في مسلم ما ليس فيه ، حبس في ردعة الخبال حتى يخرج مما قال > . فالشافع في الحدود مضادٌّ لله في أمره . فلا يجوز أن يأخذ المؤمن رأفة بأهل البدع والفجور والمعاصي ، وجماع ذلك كله قوله : { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ المائدة : 54 ] ، وقوله : { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] ، فإن هذه الكبائر كلها من شعب الكفر كما في الصحاح : < لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن > الخ . ففيهم من نقص الإيمان ما يوجب زوال الرأفة بهم . ولا منافاة بين كون الواحد يحب من وجه ويبغض من وجه, ويثاب من وجه ويعاقب من وجه . خلافاً للخوارج والمعتزلة . ولهذا جاء في السنة أن من أقيم عليه الحد ، يرحم من وجه آخر ، فيحسن إليه ويدعى له . وهذا الجانب أغلب في الشريعة ، كما في صفة الرب سبحانه وتعالى . ففي الصحيح : < إن رحمتي تغلب غضبي > وقال : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ } [ الحجر : 49 - 50 ] ، وقال : { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ المائدة : 98 ] ، فجعل الرحمة صفة مذكورة في أسمائه . وأما العذاب والعقاب فجعلهما من مفعولاته . ومن هذا ما أمر الله تعالى به من الغلظة على الكفار والمنافقين . وقال تعالى : { وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ } [ النساء : 15 ] الآية ، وفي الحديث بيان السبيل الذي جعله الله لهن وهو جلد مائة وتغريب عام في البكر ، وفي الثيب الرجم لكن الذي في الحديث الجلد والنفي للبكر من الرجال وأما الآية ففيها ذكر الإمساك في البيوت للنساء إلى الموت ، والسبيل للنساء خاصة . ومن الفقهاء من لا يوجب مع الحد تغريباً ، ومنهم من يفرق بين الرجل والمرأة . كما أن أكثرهم لا يوجبون الجلد مع الرجم . ومنهم من يوجبها جميعاً . كما فعل بشراحة الهمدانية ، حيث جلدها ثم رجمها . وقال : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة نبيه . رواه البخاري ّ . والله سبحانه ذكر في سورة النساء ما يختص بهن من العقوبة . ثم ذكر ما يعم الصنفين فقال : { وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً } [ النساء : 16 ] ، فإن الأذى يتناول الصنفين . وأما الإمساك فيختص بالنساء ، لأن المرأة يجب أن تصان بما لا يجب مثله في الرجال ولهذا خصت بالاحتجاب وترك الزينة وترك التبرج ، لأن ظهورها يسبب الفتنة ، والرجال قوامون عليهن ، وقوله : { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } [ النساء : 15 ] ، دل على شيئين : على نصاب الشهادة وعلى أن الشهداء على نسائنا منا . وهذا لا نزاع فيه . وأما شهادة الكفار بعضهم على بعض ففيها روايتان عن أحمد . الثانية أنها تقبل . اختارها أبو الخطاب . وهو قول أبي حنيفة . وهو أشبه بالكتاب والسنة . وقوله صلى الله عليه وسلم : < لا تجوز شهادة أهل ملة على ملة ، إلا أمتي > فمفهومه جواز شهادة أهل الملة الواحدة بعضهم على بعض . ولكن فيه : أن المؤمنين تقبل شهادتهم على من سواهم ، لقوله تعالى : { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } [ البقرة : 143 ] ، وفي آخر الحج مثلها وفي البخاري من حديث أبي سعيد : يدعى نوح , الحديث وكذلك فيهما من حديث أنس ، شهادتهم على الجنازتين خيراً وشراً ، فقال : < أنتم شهداء الله في أرضه > الحديث . ولهذا لما كان أهل السنة والجماعة لم يشوبوا الإسلام بغيره ، كانت شهادتهم مقبولة على سائر فرق الأمة ، بخلاف أهل البدع والأهواء ، كالخوارج والروافض ، فإن بينهم من العداوة والظلم ما يخرجهم عن هذه الحقيقة التي جعلها الله لأهل السنة ، قال فيهم : < يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين > واستدل من جوّز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض بهذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } [ المائدة : 106 ] الآية ، قالوا : دلت على قبول شهادتهم على المسلمين . ففيه تنبيه على قبول شهادة بعضهم على بعض بطريق الأوْلى . ثم نسخُ الظاهر لا يوجب نسخ الفحوى ، والتنبيه على الأقوى . كما نص عليه أحمد وغيره من أئمة الحديث الموافقين للسلف . ولهذا يجوز في الشهادة للضرورة ما لا يجوز في غيرها . كما تقبل شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال . حتى نص أحمد على قبول شهادتين في الحدود التي تكون في مجامعهن الخاصة . فالكفار الذين لا يختلط بهم المسلمون أولى ، والله أمرنا أن نحكم بينهم ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم رجم الزانييْن من اليهود ، ومن غير سماع إقرار منهم ولا شهادة مسلم . ولولا قبول شهادة بعضهم على بعض لم يجز ذلك . وفي تولي بعضهم مال بعض ، نزاع ، فهل يتولى الكافر العدل في دينه ، مالَ ولده الكافر ؟ على قولين والصواب المقطوع به أن بعضهم أولى ببعض وقد مضت السنة بذلك وسنة خلفائه . وقوله تعالى : { فَآذُوهُمَا } أمر بالأذى مطلقاً ، ولم يذكر صفته ولا قدره . ولفظ الأذى يستعمل في الأقوال كثيراًً . كقوله : { لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً } [ آل عِمْرَان : 111 ] ، والإعراض هو الإمساك عن الإيذاء . فالمذنب لا يزال يؤذي وينهى ويوبخ إلا أن يتوب . وأدنى ذلك هجره . فلا يكلم بالكلام الطيب . وهذه محكمة فمن أتى الفاحشة وجب إيذاؤه بالكلام الزاجر إلى أن يتوب . وليس ذلك محدوداً بقدر ولا صفة . إلا ما يكون زاجراً له داعياً إلى حصول المقصود ، وهو توبته وصلاحه . وعلَّقه تعالى على التوبة والإصلاح ، فإذا لم يوجدا ، فلا يجوز أن يكون الأمر بالإعراض موجوداً . فأما من تاب بترك الفاحشة ولم يصلح ، فتنازعوا : هل من شرط التوبة صلاح العمل ؟ على قولين . وهذه تشبه قوله : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } [ التوبة : 5 ] ، فعلق تخلية سبيلهم على التوبة والعمل الصالح . مع أنهم إذا تكلموا بالشهادتين وجب الكفّ عنهم . ثم إن صلوا وزكوا ، وإلا عوقبوا على ترك الفعل . لأن الشارع في التوبة شرع الكف عن أذاه . ويكون الأمر فيه موقوفاً على التمام . وكذلك التائب من الفاحشة . وهذه الآية مما يستدل به على التعزير بالأذى . والأذى ، وإن كان كثيراً يستعمل في الكلام ، فليس مختصّاً به . كقوله لمن بصق في القبلة : < إنك قد آذيت الله ورسوله > , وكذا قوله في حق فاطمة : < ويؤذيني ما آذاها > وقوله لمن أكل البصل : < إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم > وهل يكون من توبته اعترافه بالذنب ؟ فإذا ثبت الذنب بإقراره فجحد وكذب الشهود أو ثبت بشهادة شهود . فيه نزاع . فذكر أحمد أنه لا توبة لمن جحد . واستدل بقصة عليّ بن أبي طالب : أنه أتى بجماعة ممن شهد عليهم بالزندقة ، فاعترف منهم ناس فتابوا . فقبل توبتهم . وجحد جماعة فقتلهم . وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة : < فإن العبد إذا اعترف ثم تاب ، تاب الله عليه > . فمن أذنب سراً فليتب سراً ، كما في الحديث : < ومن ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر > الخ ، وفي الصحيح < كل أمتي معافى إلا المجاهرون > الحديث . فإذا ظهر من العبد الذنب فلا بد من ظهور التوبة . ومع الجحود لا تظهر التوبة . فإن الجاحد يزعم أنه غير مذنب . ولهذا كان السلف يستعملون ذلك فيمن أظهر بدعة أو فجوراً ، فإن هذا أظهر حال الضالين ، وهذا أظهر حال المغضوب عليهم . ومن أذاه منعه ، مع القدرة ، من الإمامة والحكم والفتيا والرواية والشهادة . وأما بدون القدرة ، فليفعل المقدور عليه . ولم يعلق الأذية على استشهاد أربعة ، وليس هذا من حمل المطلق على المقيد . لأن ذلك لا بد أن يكون فيه الحكم واحداً ، مثل الإعتاق . فإذا كان متفقاً في الجنس دون النوع كإطلاق الأيدي في التيمم ، وتقييدها إلى المرافق في الوضوء ، فلا يحمل . ولم يحمل الصحابة والتابعون المطلق على المقيد في قوله تعالى : { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } [ النساء : 23 ] ، وقوله تعالى : { وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } [ النساء : 22 ] ، قالوا : الشرط في الربائب خاصة . قالوا : أبهموا ما أبهم الله . والمبهم هو المطلق . والمشروط فيه هو المقيد . لكن تنازعوا : هل الموت كالدخول ؟ على قولين . وذلك لأن الحكم مختلف ، والقيد ليس متساوياً في الأعيان . فإن تحريم جنس ، ليس مثل تحريم جنس يخالفه . كما أن تحريم الدم والميتة ولحم الخنزير ، لما كان أجناساً ، فليس تقييد الدم بالمسفوح موجباً تقييد الميتة والخنزير أن يكون مسفوحاً . وهنا القيد قيد الربيبة بدخول أمها .
والدخول بالأم لا يوجد مثله في حليلة الأب وأم المرأة . إذ بالدخول في الحليلة ، بها نفسها . وفي أم المرأة ببنتها . وكذلك المسلمون لم يحملوا المطلق على المقيد في نصاب الشهادة . بل لما ذكر الله في آية الدّين : { فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } [ البقرة : 282 ] [ في المطبوع : رجلاً وامرأتان ] ، وفي الرجعة : { رَجُلَيْنِ } [ البقرة : 282 ] [ في المطبوع : الطلاق : 2 ] ، أقروا كلاً منهما على حاله . لأن سبب الحكم مختلف وهو المال والبضع . كما أن إقامة الحد في الفاحشة والقذف بها اعتبر فيه أربعة ، فلا يقاس بذلك عقود الأثمان والأبضاع ، وذكر في حد القذف ثلاثة أحكام : جلد ثمانين ، وترك قبول شهادتهم أبداً { وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } [ التوبة : 8 ] : { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ 5 ] الآية, والتوبة لا ترفع الجلد إذا طلبه المقذوف ، وترفع الفسق بلا تردد . والأكثر قالوا : ترفع المنع من قبول الشهادة . وإذا اشتهر عن شخص الفاحشة لم يرجم ، كما في الصحيح : < إن جاءت به يشبه الزوج فقد كذب عليها وإن جاءت به يشبه الرجل الذي رماها به ، فقد صدق عليها > فجاءت به على النعت المكروه . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : < لولا الأيمان لكان لي ولها شأن > فقيل لابن عباس : هذه التي قال فيها : < لو كنت راجماً أحداً بغير بينة لرجمتها > فقال : لا . تلك امرأة كانت تلعن السوء في الإسلام , فقد أخبر أنه لا يرجم أحداً إلا ببينة ، ولو ظهر على الشخص السوء . ودل الحديث على أن الشبه له تأثير في ذلك ، ولم تكن بينة . وكذلك ثبت عنه في الجنازة لما أثنوا عليها شرّاً ، والأخرى خيراً . فقال : < أَنْتُمْ شُهَدَاءُ الله في أَرْضِهِ > وفي المسند عنه أنه قال : < يُوشِكُ أَنْ تَعْلَمُوا أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ > قالوا يا رسول الله ! وبم ذاك ؟ قال بالثناء الحسن وبالثناء السيّء فقد جعل الاستفاضة حجة وبينة في هذه الأحكام . ولم يجعلها حجة في الرجم . وكذلك تقبل شهادة أهل الكتاب على المسلمين في الوصية في السفر . وكذلك تقبل شهادة الصبيان في الجراح إذا أدّوها قبل التفرق ، في إحدى الروايتين . وإذا شهد شاهد أنه رأى الرجل والمرأة أو الصبي في لحاف ، أو بيت مرحاض ، أو محلولي السراويل ، ويوجد مع ذلك ما يدل على ذلك ، من وجود اللحاف فقد خرج عن العادة إلى مكانهما أو يكون مع أحدهما أو معهما ضوء قد أظهره ، فرآه فأطفأه فإن إطفاءه دليل على استخفائه بما يفعل . فإن لم يكن ما يستخفي به إلا ما شهد به الشاهد ، كان ذلك من أعظم البيان على ما شهد به فهذا باب عظيم النفع في الدين . وهو مما جاءت الشريعة التي أهملها كثير من القضاة والمتفقهة ، زاعمين أنه لا يعاقب أحد إلا بشهود عاينوا ، أو إقرار مسموع . وهذا خلاف ما تواترت به السنّة وسنة الخلفاء الراشدين . وما فطرت عليه القلوب التي تعرف المعروف وتنكر المنكر . ويدل عليه قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } [ الحجرات : 6 ] الآية . ففيها دلالات : إحداها أنه لم يأمر بالتبين عند مجيء كل فاسق بكل نبأ ؛ إذ من الأنباء ما ينهى فيه عن التبين . ومنه ما يباح فيه ترك التبين . ومن الأنباء ما يتضمن العقوبة لبعض الناس ، لأنه علل بخشية الإصابة ، بجهالة . فلو كان كل ما أصيب بنبأ كذلك ، لم تحصل التفرقة بين العدل والفاسق . بل هذه دلالة واحدة على أن الإصابة بنبأ كذلك لم تحصل التفرقة بين العدل والفاسق ، بل هذه دلالة واحدة على أن الإصابة بنبأ العدل الواحد لا ينهى عنه مطلقاً . وذلك يدل على قبول شهادة العدل الواحد في جنس العقوبات . فإن سبب نزول الآية يدل على ذلك . فإنها نزلت بإخبار واحد . أن قوماً قد حاربوا بالردة أو نقض العهد . وفيه أيضاً أنه متى اقترن بخبر الفاسق دليل آخر يدل على صدقه فقد استبان الأمر وزال الأمر بالتثبت . فيجوز إصابة القوم إذاً . فكيف خبر العدل مع دلالة أخرى ؟ ولهذا كان أصح القولين ، أن مثل هذا لَوْثٌ في القسامة فإذا انضاف أيمان المقسمين صار ذلك بينة تبيح دم المقسم عليه . وقوله : { بِجَهَالَةٍ } جعل المحذور هو الإصابة لقوم بلا علم . فمتى أصيبوا بعلم زال المحذور . وهذا هو المناط الذي دل عليه القرآن كما قال : { إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ الزخرف : 86 ] ، وقال : { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ الإسراء : 36 ] ، وأيضاً علل بخوف الندم وهو إنما يحصل على عقوبة البريء من الذنب كما في السنن : < ادرأوا الحدود بالشبهات . فإن الإمام ، أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة > فإذا حصل عنده علم أنه لم يعاقب إلا مذنباً ، فإنه لا يندم ولا يكون فيه خطأ . وقد ذكر الشافعيّ وأحمد أن التغريب جاء في السنة في موضعين : أحدهما الزنى ، والثاني المخنّث ، فيما روت أم سلمة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها مخنث وهو يقول لعبد الله أخيها : إن فتح الله لكم الطائف غداً ، أدلك على ابنة غيلان . فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أخرجوهم من بيوتكم > . أخرجاه ، وفي لفظ < لا يدخل هؤلاء عليكم > وفي رواية : < أرى هذا يعرف مثل هذا . لا يدخلن عليكم بعد اليوم > وقال ابن جريج : هو هيت . وقال غيره : هنب . وقيل : ماتع . وذكر بعضهم أنهم ثلاثة : نهم وهيت وماتع . ولم يكونوا يرمون بالفاحشة الكبرى . إنما كان تخنيثهم ليناً في القول ، وخضاباً في الأيدي والأرجل ، ولعباً كلعب النساء . وفي السنن : أنه أمر بمخنث فنفي إلى النقيع . فإذ كان الله أمر بإخراج هؤلاء من البيوت ، فمعلوم أن الذي يمكن الرجال من نفسه ، شر من هؤلاء : وهو أحق بالنفي . فإن المخنث فيه فساد للرجال والنساء . لأنه إذا تشبه بالنساء ، فقد يعاشرنه وهو رجل ، فيفسدهن . ولأنها إذا رأت الرجل يتخنث فقد تترجل وتعاشر الصنفين . وقد تختار مجامعة النساء كما يختار هو مجامعة الرجال . وأما إفساده للرجال فهو أن يمكنهم من الفعل به ، بمشاهدته وعشقه فإذا خرج إلى بلد ووجد هناك من يفعل به ، فهنا يكون نفيه بحسبه في مكان ليس معه غيره فيه . وإن خيف خروجه ، قيد ؛ إذ هذا هو معنى نفيه . ولهذا تنازع العلماء في نفي المحارب : هل هو طرده بحيث لا يأوي إلى بلد ، أو حبسه ، أو بحسب ما يراه الإمام من هذا وهذا ؟ فعن أحمد ثلاث روايات : الثالثة أعدل وأحسن . فإن نفيه بحيث لا يأوي إلى بلد لا يمكن ، لتفرق الرعية واختلافهم واختلاف هممهم . وحسبه قد لا يمكن لأنه يحتاج إلى مؤونة . وروي أن هنباً لما اشتكى الجوع أمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يدخل المدينة من الجمعة إلى الجمعة يسأل ما يقيته ، والذي جاءت به الشريعة من النفي هو نوع من الهجرة وليس كنفي الثلاثة الذين خلفوا ، ولا هجرهم . فإنه لم يمنعهم من مشاهد الناس وحضور مجامعهم في الصلاة وغيرها . وذلك أن الله خلق الآدميين محتاجين إلى معاونة بعضهم بعضاً . فمن كانت مخالطته تضر ، استحق الإخراج من بينهم ، لأنه مضرة بلا مصلحة . فإن الصبيّ إذا رأى صبياً يفعل شيئاً تشبه به . والاجتماع بالزناة واللوطية [ في المطبوع : اللوظية ] : فيه أعظم الفساد والضرر على الرجال والنساء والصبيان . فيجب أن يعاقب [ في المطبوع : يعقب ] اللوطيّ والزاني بما فيه تقريعه وإبعاده . وجماع الهجرة هي هجرة السيئات وأهلها . وكذلك هجران الدعاء إلى البدع وهجران الفساق وهجران من يخالط هؤلاء كلهم ويعاونهم . وكذلك من يترك الجهاد الذي لا مصلحة لهم بدونه فإنه يعاقب بهجرهم له ، لما لم يخاطبهم في البر . فمن لم يهجر هؤلاء كان تاركاً للمأمور فاعلاً للمحذور . فهذا ترك المأمور من الاجتماع . وهذا فعل المحذور منه . فعوقب كل منهما بما يناسب جرمه . وما جاءت به الشريعة من المأمورات والعقوبات والكفارات وغير ذلك ، يفعل بحسب الاستطاعة . فإن لم يقدر المسلم على جهاد جميع المشركين ، جاهد من يقدر على جهاده . وإذا لم يقدر على عقوبة جميع المعتدين ، عاقب من يقدر على عقوبته . فإذا لم يكن النفي والحبس عن جميع الناس ، كان النفي والحبس على حسب القدرة . ويكون هو المأمور به ، فالقليل من الخير ، خير من تركه . ودفع بعض الشر خير من تركه كله . وكذلك المتشبهة بالرجال تحبس . كحالها إذا زنت فإن جنس الحبس مما شرع في جنس الفاحشة . وممَّا يدخل في هذا : أن عمر نفى نصر بن حجاج من المدينة إلى البصرة ، لما شبب به النساء . وكان أولاً قد أمر بأخذ شعره ليزيل جماله الفاتن ، فلما رآه من أحسن الناس وجنتين ، غمه ذلك فنفاه إلى البصرة . فهذا لم يصدر منه ذنب يعاقب عليه ، لكن كان في النساء من يفتتن به ، فأمر بإزالة جماله الفاتن . فإن انتقاله من وطنه مما يضعف همته وبدنه ويعلم أنه معاقب . وهذا من باب التفريق بين الذين يخاف عليهم الفاحشة والعشق قبل وقوعه . وليس من باب المعاقبة . وقد كان عمر ينفي في الخمر إلى خبير ، زيادة في عقوبة شاربها . ومن أقوى ما يهيج الفاحشة . إنشاد أشعار الذين في قلوبهم مرض من العشق ومحبة الفواحش ، وإن كان القلب في عاقبة ، جعل فيه مرضاً ، كما قال بعض السلف : الغناء رقية الزنى . ورقية الحية هي التي تستخرج بها الحية من جحرها . ورقية [ في المطبوع : وقية ] العين والحمة ورقية الزنى . أي : تدعو إليه وتخرج من الرجل الأمر الخبيث . كما أن الخمر أم الخبائث . قال ابن مسعود : الغناء ينبت النفاق في القلب ، كما ينبت الماء البقل . وقال تعالى : { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } [ الإسراء : 64 ] ، واستفزازه إياهم بصوته يكون بالغناء ، كما قاله من قاله من السلف ، وبغيره من الأصوات كالنياحة وغير ذلك . فإن هذه الأصوات تْوجب انزعاج القلوب والنفوس الخبيثة إلى ذلك ، وتوجب حركتها السريعة واضطرابها . حتى يبقى الشيطان يلعب بهؤلاء أعظم من لعب الصبيان بالكرة . والنفس متحركة . فإن سكنت فبإذن الله ، وإلا فهي لا تزال متحركة . وشبهها بعضهم بكرة على مستوى أملس ، لا تزال تتحرك عليه . وفي الحديث المرفوع : < القلب أشد تقلباً من القدر إذا استجمعت غلياناً > وفي الحديث الآخر : < مثل القلب مثل ريشة بفلاة من الأرض ، تحركها الريح > وفي البخاريّ عن ابن عمر : كانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا ومقلب القلوب > ولمسلم عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < اللهم مصرف القلوب ، صرف قلوبنا إلى طاعتك > وفي الترمذيّ : كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : < يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك > قيل : يا رسول الله ! آمنا بك وبما جئت به . فهل تخاف علينا ؟ فقال : < نعم . القلوب بين إصبعين من أصابع الله عزّ وجلّ يقلبها كيف يشاء > انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله .
تنبيه :
قال السيوطيّ في " الإكليل " : في قوله تعالى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا } الآية ، وجوب الحد على الزاني والزانية ، وأنه مائة جلدة . أي : في البكر كما بينته السنة . واستدل بعمومه من أوجب المائة على العبد والذميّ وعلى المحصن ، ثم يرجم . فأخرج أحمد عن عليّ أنه أتى بمحصنة فجلدها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة ، ثم قال : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . واستدل الخوارج بالآية على أن حد المحصي الجلد دون الرجم . قالوا : لأنه ليس في كتاب الله . واستدل أبو حنيفة بها على أنه لا تغريب ، إذ لم يذكره . وفي الآية رد على من قال : إن العبد إذا زنى بحرة يرجم . وبأمة يجلد . وعلى من قال : لا تحد العاقلة إذا زنى بها مجنون ، والكبيرة إذا زنى بها صبيّ ، أو عكسه ، لا يحدّ . وعلى من قال : لا حد على الزاني بحربية أو بمسلمة في بلاد الحرب أو في عسكر أهل البغي . أو بنصرانية مطلقاً . أو بأمة امرأته . أو محرم . أو من استدخلت ذكر نائم . واستدل بعمومها من أوجبه على المكره والزاني بأمة ولده والميتة .
قال ابن الفرس : ويستدل بقوله : { فَاجْلِدُوا } على أنه يجرد عن ثيابه . لأن الجلد يقتضي مباشرة البدن . وبقوله : { مِائَةَ جَلْدَةٍ } على أنه لا يكتفي بالضرب بها مجموعة ضربة واحدة ، صحيحاً كان أو مريضاً . وفي قوله تعالى : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ } الحث على إقامة الحدود والنهي عن تعطيلها . وأنه لا يجوز العفو عنها للإمام ولا لغيره ، وفيه ردّ على من أجاز للسيد العفو . فاستدل بالآية من قال : إن ضرب الزنى أشد من ضرب القذف والشرب . وفي قوله تعالى : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا } الخ ، استحباب حضور جمع ، عند جلدها . وأقله أربعة عدد شهود الزنى . وقيل عشرة ، وقيل ثلاثة وقيل : اثنان . انتهى .
وتقدم عن ابن جرير أن العاطفة تصدق بالواحد ، لغة . فتذكر . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [ 3 ] .
{ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } . لما أمر الله بعقوبة الزانييْن ، حرم مناكحتهما على المؤمنين ، هجراً لهما ولما معهما من الذنوب كقوله : { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } [ المدثر : 5 ] ، وجعل مُجالس فاعل ذلك المنكر ، مثلَه بقوله : { إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ } [ النساء : 140 ] ، وهو زوج له قال تعالى : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } [ الصافات : 22 ] ، أي : عشراءهم وأشباههم . ولهذا يقال : المستمع شريك المغتاب , ورفع إلى عُمَر بن عبد العزيز قوم يشربون الخمر . وكان فيهم جليس لهم صائم ، فقال ابدءوا به في الجلد ألم يسمع قول الله تعالى : { فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ } [ النساء : 140 ] ، فإذا كان هذا في المجالسة والعشرة العارضة حين فعلهم المنكر ، يكون مجالسهم مثلاً لهم ، فكيف بالعشرة الدائمة : والزوج يقال له : العشير . كما في الحديث < ويكفرن العشير > وأخبر أنه لا يفعل ذلك إلا زان أو مشرك . أما المشرك فلا إيمان له يزجره عن الفواحش ومجامعة أهلها . وأما الزاني ففجوره يدعوه إلى ذلك ، وإن لم يكن مشركاً . وفيها دليل على أن الزاني ليس بمؤمن مطلق الإيمان . وإن لم يكن مشركاً كما في الصحيح < لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن > وذلك أنه أخبر أنه لا ينكح الزانية إلا زان أو مشرك . ثم قال تعالى : { وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } فعلم أن الإيمان يمنع منه . وأن فاعله إما مشرك وإما زان ، ليس من المؤمنين الذين يمنعهم إيمانهم من ذلك . وذلك أن المزاناة فيها فساد فراش الرجل وفي مناكحتها معاشرة الفاجرة دائماً . والله قد أمر بهجر السوء وأهله ما داموا عليه . وهذا موجود في الزاني . فإنه إن لم يفسد فراش امرأته كان قرين سوء لها ، كما قال الشعبيّ : من زوج كريمته من فاسق ، فقد قطع رحمها . وهذا مما يدخل المرأة ضراراً في دينها ودنياها . فنكاح الزانية أشد من جهة الفراش . ونكاح الزاني أشد من جهة أنه السيد المالك الحاكم . فتبقى المرأة الحرة العفيفة في أسر الفاجر الزاني الذي يقصّر في حقوقها ، ويعتدي عليها ، ولهذا اتفقوا على اعتبار الكفاءة في الدين ، وعلى ثبوت الفسخ بفوات هذه الكفاءة . واختلفوا في صحة النكاح بدون ذلك . فإن من نكح زانية فقد رضي لنفسه بالقيادة والدياثة . ومن نكحت زانياً فهو لا يحصن ماءه ، بل يضعه فيها وفي غيرها من البغايا . فهي بمنزلة المتخذة خدناً . فإن مقصود النكاح حفظ الماء في المرأة . وهذا لا يحفظ ماءه . والله سبحانه شرط في الرجال أن يكونوا محصنين غير مسافحين ، فقال : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } [ النساء : 24 ] ، وهذا مما لا ينبغي إغفاله . فإن القرآن قد قصّه وبينه بياناً مفروضاً . كما قال تعالى : { سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } فأما تحريم نكاح الزانية فقد تكلم فيه الفقهاء . وفيه آثار عن السلف . وليس مع من أباحه ما يعتمد عليه ، وقد ادعى بعضهم أنها منسوخة بقوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [ النساء : 24 ] ، وزعموا أن البغيّ من المحصنات . وتلك حجة عليهم ، فإن أقل ما في الإحصان العفة . وإذا اشترط فيه الحرية ، فذاك تكميل للعفة والإحصان . ومن حرم نكاح الأمة لئلا يرقّ ولده ، فكيف يبيح البغيّ الذي يلحق به من ليس بولده ؟ وأين فساد فراشه من رقّ ولده ؟ وكذلك من زعم أن النكاح هنا هو الوطء وهذا حجة عليهم . فمن وطئ زانية أو مشركة بنكاح ، فهو زان . وكذلك من وطئها زان . فإن ذم الزاني بفعله الذي هو الزنى . حتى لو استكرهها أو استدخلت ذكره وهو نائم كانت العقوبة للزاني دون قرينه . والمقصود أن الآية تدل على أن الزاني لا يتزوج إلا زانية أو مشركة . وأن ذلك حرام على المؤمنين . وليس هذا مجرد كونه فاجراً, بل لخصوصية كونه زانياً . وكذلك في المرأة . ليس بمجرد فجورها ، بل لخصوص زناها ، بدليل أنه جعل المرأة زانية إذا تزوجت زانياً كما جعله زانياً إذا تزوج زانية . وهذا إذا كانا مسلمين يعتقدان تحريم الزنى . وإلا إن كانا مشركين ، فينبغي أن يعلم ذلك . ومضمونه أن الزاني لا يجوز إنكاحه حتى يتوب . وذلك يوافق اشتراطه الإحصان ، والمرأة الزانية لا تحصن فرجها . ولهذا يجب عليه نفي الولد الذي ليس منه . فمن نكح زانية فهو زان ، أي : تزوجها . ومن نكحت زانياً فهي زانية ، أي : تزوجته . فإن كثيراً من الزناة قصروا أنفسهم على الزواني ، فتكون خدناً له لا يأتي غيرها ، فإن الرجل إذا كان زانياً لا يعف امرأته فتتشوق إلى غيره فتزني كما هو الغالب على نساء الزاني ومن يلوط بالصبيان . فإن نساءهم يزنين ليقضين أربهن وليراغمن أزواجهن . ولهذا يقال : عفوا تعف نساؤكم . وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم . فكما تدين تدان ، والجزاء من جنس العمل ، ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها . فإن الرجل إذا رضي أن ينكح زانية ، رضي بأن تزني امرأته . والله سبحانه قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة . فأحدهما يحب لنفسه ما يحب للآخر . فإذا رضيت المرأة أن تنكح زانياً فقد رضيت عمله ، وكذلك الرجل . ومن رضي بالزنى فهو بمنزلة الزاني ، فإن أصل الفعل هو الإرادة . ولهذا في الأثر : من غاب من معصية فرضيها كان كمن شهدها . وفي الحديث : < المرء على دين خليله > وأعظم الخلة خلة الزوجين . وأيضاً ، فإن الله تعالى جعل في نفوس بني آدم من الغيرة ما هو معروف فيستعظم الرجل أن يطأ الرجل امرأته ، أعظم من غيرته على نفسه أن يزني . فإذا لم يكره أن تكون زوجته بغياً وهو ديوثاً ، كيف يكره أن يكون هو زانياً ؟ ولهذا لم يوجد من هو ديوث أو قواد يعفّ عن الزنى ، فإن الزنى له شهوة في نفسه . والديوث له شهوة في زنى غيره . فإذا لم يكن معه إيمان يكره من زوجته ذلك ، كيف يكون معه إيمان يمنعه من الزنى ؟ فمن استحل أن يترك امرأته تزني ، استحل أعظم الزنى . ومن أعان على ذلك فهو كالزاني . ومن أقر عليه ، ما إمكان تغييره ، فقد رضيه . ومن تزوج غير تائبة فقد رضي أن تزني . إذ لا يمكنه منعها . فإن كيدهن عظيم . ولهذا جاز له ، إذا أتت بفاحشة مبينة ، أن يعضلها لتفتدي . لأنها بزناها طلبت الاختلاع منه وتعرضت لإفساد نكاحه . فإنه لا يمكنه المقام معها حتى تتوب . ولا يسقط المهر بمجرد زناها . كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم للملاعن لما قال مالي , قال : < لا مال لك عندها إن كنت صادقاً فهو بما استحللت من فرجها > ، وإن كنت كاذباً عليها فذاك أبعد وأبعد لك منها ؛ لأنها إذا زنت قد تتوب . لكن زناها يبيح إعضالها حتى تفتدي إن اختارت فراقه ، أو تتوب . وفي الغالب أن الرجل لا يزني بغير امرأته ، إلا إذا أعجبه ذلك الغير . فلا يزال بما يعجبه ، فتبقى امرأته بمنزلة المعلقة . لا هي أيّم ولا ذات زوج . فيدعوها ذلك إلى الزنى ، ويكون الباعث لها مقابلة زوجها على وجه القصاص . فإذا كان من العادين لم يكن قد أحصن نفسه . وأيضاً فإن داعية الزاني تشتغل بما يختاره من البغايا ، فلا تبقى داعيته إلى الحلال تامة ، ولا غيرته كافية في إحصانه المرأة ، فتكون عنده كالزانية المتخذة خدناً ، وهذه معان شريفة لا ينبغي إهمالها . وعلى هذا ، فالمساحقة زانية ، كما في الحديث : < زنى النساء سحاقهن > والذي يعمل عمل قوم لوط زان ، فلا ينكح إلا زانية أو مشركة . ولهذا يكثر في نساء اللوطي من تزني ، وربما زنت بمن يتلوط به مراغمة له وقضاء لوطرها . وكذلك المتزوجة بمخنث ينكح كما تنكح ، هي متزوجة بزان ، بل هو أسوأ الشخصين حالاً . فإنه مع الزنى صار ملعوناً على نفسه للتخنيث ، غير اللعنة التي تصيبه بعمل قوم لوط . فإن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من يعمل عمل قوم لوط . وفي الصحيح أنه لعن المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء . وكيف يجوز لها أن تتزوج بمخنث قد انتقلت شهوته إلى دبره ؟ فهو يؤتى كما تؤتى المرأة . وتضعف داعيته من أمامه كما تضعف داعية الزاني بغير امرأته عنها . فإذا لم يكن له غيرة على نفسه ، ضعفت غيرته على امرأته وغيرها . ولهذا يوجد من كان مخنثاً ليس له كبير غيرة على ولده ومملوكه ومن يكفله ، والمرأة إذا رضيت بالمخنث واللوطيّ ، كانت على دينه ، فتكون زانية ، وأبلغ . فإن تمكين المرأة من نفسها أسهل من تمكين الرجل من نفسه . فإذا رضيت ذلك من زوجها رضيته من نفسها .
ولفظ الآية : { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } يتناول هذا كله بطريق عموم اللفظ ، أو بطريق التنبيه . وفحوى الخطاب الذي هو أقوى من مدلول اللفظ . وأدنى من ذلك أن يكون بطريق القياس ، كما بيناه في حد اللوطيّ وغيره . انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله . وكله تأييد لما ذهب إليه الإمام أحمد من أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغيّ ، ما دامت كذلك ، فإن تابت صح العقد عليها ، وإلا فلا . وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح حتى يتوب توبة صحيحة . لقوله تعالى : { وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } كما فضّله تقيّ الدين .
وقد روى هنا الحافظ ابن كثير آثاراً مرفوعة وموقوفة ، كلها مؤكدة لهذا . ثم قال بعدها : فأما الحديث الذي رواه النسائي عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن عندي امرأة من أحب الناس إليّ ، وهي لا تمنع يد لامس . قال : < طلقها > قال : لا صبر لي عنها . قال : < استمتع بها > . فقال النسائي : هذا الحديث غير ثابت . وعبد الكريم أحد رواته ضعيف الحديث ليس بالقويّ . وقال الإمام أحمد : هو حديث منكر . وقال ابن قتيبة : إنما أراد أنها سخية لا تمنع سائلاً . وحكاه النسائي في سننه عن بعضهم . فقال : وقيل : سخية تعطي . وردّ هذا بأنه لو كان المراد لقال : لا ترد يد ملتمس . وقيل : المراد أن سجيتها لا ترد يد لامس ، لا أن المراد أن هذا واقع منها ، وأنها تفعل الفاحشة . فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأذن في مصاحبة من هذه صفتها ، فإن زوجها والحالة هذه يكون ديوثاً ، وقد تقدم الوعيد على ذلك . ولكن لما كانت سجيتها هكذا ليس فيها ممانعة ولا مخالفة لمن أرادها لو خلا بها أحد ، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقها . فلما ذكر أنه يحبها أباح البقاء معها . لأن محبته لها محققة . ووقوع الفاحشة منها متوهم ، فلا يصار إلى الضرر العاجل للتوهم الآجل . والله أعلم . انتهى .
لطيفة :
سر تقديم الزانية في الآية الأولى والزاني في الثانية : أن الأولى في حكم الزنى والأصل فيه المرأة لما يبدو منها من الإيماض والإطماع . والثانية في نكاح الزناة إذا وقع ذلك على الصحة . والأصل في النكاح الذكور ، وهم المبتدئون بالخطبة ، فلم يسند إلا لهم ، لهذا وإن كان الغرض من الآية تنفير الأعفّاء من الذكور والإناث ، من مناكحة الزناة ذكوراً وإناثاً ، زجراً لهم عن الفاحشة ، ولذَلك قرن الزنى والشرك . ومن ثم كره مالك رحمه الله مناكحة المشهورين بالفاحشة ، وقد نقل أصحابه الإجماع في المذهب على أن للمرأة أو لمن قام من أوليائها فسخ نكاح الفاسق . ومالكٌ أبعد الناس من اعتبار الكفاءة إلا في الدين . وأما في النسب فقد بلغه أنهم فرقوا بين عربية ومولى ، فاستعظمه وتلا : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] ، انتهى كلام الناصر في " الانتصاف " ومراد السلف بالكراهة ، ما تعرف بالكراهة التحريمية . فيقرب بذلك مذهب المالكية .
ثم بيّن تعالى حكم جَلد القاذف للمحصنة ، وهي الحرة البالغة العفيفة ، بقوله سبحانه وتعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ 4 - 5 ] .
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ } أي : يقذفون بالزنى : { الْمُحْصَنَاتِ } أي : المسلمات الحرائر العاقلات البالغات العفيفات عن الزنى : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } أي : يشهدون على ما رموهن به : { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } أي : كل واحد من الرامين . وتخصيص النساء لخصوص الواقعة ، ولأن قذفهن أغلب وأشنع . وإلا فرق فيه بين الذكر والأنثى : { وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً } أي : في أي : واقعة كانت ، لظهور كذبهم : { وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } أي : لخروجهم عما وجب عليهم من رعاية حقوق المحصنات : { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } أي : القذف : { وَأَصْلَحُوا } أي : أعمالهم : { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : بقبول توبتهم وعفوه عنهم .
تنبيهات :
الأول : قال ابن تيمية : ذكر تعالى عدد الشهداء وأطلق صفتهم ولم يقيدهم بكونهم منا ولا ممن نرضى ولا من ذوي العدل ولهذا تنازعوا : هل شهادة الأربعة التي لا توجب الحد مثل شهادة أهل الفسوق ؟ هل تدرأ الحد عن القاذف ؟ على قولين : أحدهما تدرأ كشهادة الزوج على امرأته أربعاً . فإنها تدرأ حد القذف ولا توجب الحد على المرأة . ولو لم تشهد المرأة ، فهل تحد أو تحبس حتى تقر أو تلاعن ، أو يخلى سبيلها ؟ فيه نزاع . فلا يلزم من درء الحد عن القاذف ، وجوب حد الزنى فإن كلاهما حد . والحدود تدرأ بالشبهات . وأربع شهادات للقاذف شبهة قوية ، ولو اعترف المقذوف مرة أو مرتين أو ثلاثاً درئ الحد عن القاذف ولم يجب الحد عليه عند أكثر العلماء ولو كان المقذوف غير مِحْصَن ، مثل أن يكون مشهوراً بالفاحشة ، لم يحد قاذفه حد القذف . ولم يحد هو حد الزنى بمجرد الاستفاضة . وإن كان يعاقب كل منهما دون الحد . ولا يقام حد الزنى على مسلم إلا بشهادة مسلمين . لكن يقال لم يقيّدهم بالعدالة ، وقد أمرنا الله أن نحمل الشهادة المحتاج إليها لأهل العدل والرضا وهم الممتثلون ما أمر الله به بقوله : { كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ } [ النساء : 135 ] ، وقوله : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } [ الأنعام : 152 ] ، وقوله : { وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ } [ البقرة : 283 ] ، وقوله : { وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } [ البقرة : 282 ] ، وقوله : { وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ } [ المعارج : 33 ] ، فهم يقومون بها بالقسط لله ، فيحصل مقصود الذي استشهدوه .
والوجه الثاني : كون شهادتهم مقبولة لأنهم أهل العدل والرضا . فدل على وجوب ذلك في القبول والأداء . وقد نهى الله سبحانه عن قبول شهادة الفاسق بقوله : { إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } [ الحجرات : 6 ] . لكن هذا نص في أن الفاسق الواحد يجب التبين في خبره . وأما الفاسقان فصاعداً . فالدلالة عليه تحتاج إلى مقدمة أخرى ، وما ذكره من عدد الشهود لا يتعين في الحكم باتفاق العلماء في مواضع . وعند الجمهور يحكم بلا شهود في مواضع عند النكول والرد ونحو ذلك .
ونحكم بشاهد ويمين كما مضت بذلك السنة . ويدل على هذا أن الله لم يعتبر عند الأداء هذا القيد ، لا في آية الزنى ، ولا في آية القذف . بل قال : { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } وإنما أمر بالتثبت عند خبر الفاسق الواحد ، ولم يأمر به عند خبر الفاسقيْن . فإن خبر الاثنين يوجب من الاعتقاد ما لا يوجبه خبر الواحد . ولهذا قال العلماء : إذا استراب الحاكم في الشهود ، فرّقهم وسألهم عما تبين به اتفاقهم واختلافهم . انتهى .
الثاني : قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : ذهب الجمهور إلى أن شهادة القذف بعد التوبة تقبل . ويزول عنه اسم الفسق . سواء كان بعد إقامة الحد أو قبله ، لقوله تعالى : { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا } روى البيهقيّ عن ابن عباس في هذه الآية : فمن تاب فشهادته في كتاب الله تقبل . وتأولوا قوله تعالى : { أَبَداً } على أن المراد ما دام مصرّاً على قذفه . لأن أبد كل شيء على ما يليق به . كما لو قيل : لا تقبل شهادة الكافر أبداً ، فإن المراد ما دام مصرّاً على الكفر . وبالغ الشعبيّ فقال : إن تاب القاذف قبل إقامة الحد عليه ، سقط عنه . وذهبت الحنفية إلى أن الاستثناء يتعلق بالفسق خاصة . فإذا تاب سقط عنه اسم الفسق ، وأما شهادته فلا تقبل أبداً . وقال بذلك بعض التابعين . انتهى .
قال الزمخشري : والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها ، أن تكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط . كأنه قيل : ومن قذف المحصنات فاجلودهم ، وردّوا شهادتهم وفسّقوهم . أي : فاجمعوا لهم الجلد والرد والتفسيق ، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا ، فإن الله يغفر لهم ، فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسَّقين . انتهى .
وأخرج البخاريّ في صحيحه في كتاب الشهادات في باب شهادة القاذف والسارق والزاني ، عن عمر رضي الله عنه ؛ أنه جلد أبا بكرة وشبل بن مَعْبَد ونافعاً ، بقذف المغيرة بالزنى ، لما شهدوا بأنهم رأوه متبطن المرأة . ولم يبتّ زيادٌ الشهادة . ثم استتابهم وقال : من تاب قبلتُ شهادته . وفي رواية قال لهم : من أكذب نفسه قبلتُ شهادته فيما يستقبل . ومن لم يفعل ، لم أجز شهادته . فأكذب شِبْل نفسه ونافع . وأبى أبو بكرة أن يرجع .
قال المهلب : يستنبط من هذا ؛ أن إكذاب القاذف نفسه ليس شرطاً في قبول توبته . لأن أبا بكرة لم يكذب نفسه ، ومع ذلك فقد قبل المسلمون روايته وعملوا بها .
الثالث : قال الرازيّ : اختلفوا في أن التوبة عن القذف كيف تكون ؟
قال الشافعي رحمه الله : التوبة منه إكذابه نفسه ، واختلف أصحابه في معناه . فقال الإصطخريّ : يقول كذبت فيما قلت فلا أعود لمثله . وقال أبو إسحاق : لا يقول كذبت لأنه ربما يكون صادقاً فيكون قوله : كذبت كذباً ، والكذب معصية ، والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى ، بل يقول : القذف باطل . ندمت على ما قلت ، ورجعت عنه ، ولا أعود إليه .
الرابع : قال الرازيّ في قوله تعالى : { وَأَصْلَحُوا } قال أصحابنا : إنه بعد التوبة ، لا بدّ من مضيّ مدة عليه في حسن الحل ، حتى تقبل شهادته وتعود ولايته . ثم قدَّروا تلك المدة بسَنة حتى تمر عليه الفصول الأربعة ، التي تتغير فيها الأحوال والطباع . كما يضرب للعنّين أجل سنة . وقد علق الشرع أحكاماً بالسنة من الزكاة والجزية وغيرهما . انتهى .
وقال الغزاليّ في " الوجيز " يكفيه أن يقول : تبت ولا أعود . إلا إذا أقر على نفسه بالكذب ، فهو فاسق ، يجب استبراؤه ككل فاسق يقول : تبت . فإنه لا يصدق حتى يستبرأ مدة فيعلم بقرائن الأحوال صلاح سريرته . انتهى .
وبه يعلم أن التقدير بسنة لا دليل عليه ، بل المدار على علم صلاحه وظهور استقامته ، ولو على أثر الحدّ .
قال الحافظ ابن حجر : روى سعيد بن منصور من طريق حصين بن عبد الرحمن قال : رأيت رجلاً جُلد حدّاً في قذف بالزنى . فلما فرغ من ضربه أحدث توبة . فلقيت أبا الزناد فقال لي : الأمر عندنا بالمدينة ؛ إذا رجع القاذف عن قوله ، فاستغفر ربه ، قبلت شهادته وعلّقه البخاريّ .
الخامس : ننقل هنا ما أجمله السيوطيّ في " الإكليل " مما يتعلق بأحكام الآية . قال رحمه الله : في هذه الآية تحريم القذف ، وأنه فسق ، وأن القاذف لا تقبل شهادته ، وأنه يجلد ثمانين إذا قذف محصنة أي : عفيفة . ومفهومه أنه إذا قذف من عرفت بالزنى لا يحد للقذف . ويصرح بذلك قوله : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } [ 4 ] وفيها أن الزنى لا يقبل فيه إلا أربعة رجال ، لا أقل . ولا نساء . وسواء شهدوا مجتمعين أو متفرقين . واستدل بعموم الآية من قال : يحدّ العبد أيضاً ثمانين . ومن قال : يحد قاذف الكافر والرقيق وغير البالغ والمجنون وولده . واحتج بها على أن من قذف نفسه ثم رجع لا يحدّ لنفسه . لأنه لم يرح أحداً واستدل بها من قال : إن حد القذف من حقوق الله ، فلا يجوز العفو عنه . انتهى .
ثم رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، تحقيقاً في بحث قبول الشهادة بعد التوبة ، جديراً بأن يؤثر . قال رحمه الله : وقوله تعالى : { وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً } نصُّ في أن هؤلاء القذفة لا تقبل شهادتهم أبداً . واحداً كانوا أو عدداً . بل لفظ الآية ينتظم العدد على سبيل الجمع والبدل ، لأنها نزلت في أهل الإفك باتفاق أهل العلم والحديث والفقه والتفسير . وكان الذين قذفوا عائشة عدداً ، ولم يكونوا واحداً لما رأوها قدمت صحبة صفوان بن المعطل ، بعد قفول العسكر ، وكانت قد ذهبت تطلب قلادة لها فُقدت ، فرفعوا هودجها معتقدين أنها فيه لخفتها ، ولم تكن فيه . فلما رجعت لم تجد أحداً فمكثت مكانها . وكان صفوان قد تخلف وراء الجيش . فلما رآها أعرض بوجهه عنها وأناخ راحلته حتى ركبتها . ثم ذهب إلى العسكر فكانت خلوته بها للضرورة . كما يجوز للمرأة أن تسافر بلا محرم للضرورة كسفر الهجرة مثل ما قدمت أم كلثوم بنت عقبة مهاجرة وقصة عائشة .
ودلت الآية على أن القاذفين لا تقبل شهادتهم مجتمعين ولا متفرقين . ودلت الآية على أن شهادتهم بعد التوبة مقبولة كما هو مذهب الجمهور . فإنه كان من جملتهم مسطح وحسان وحمنة . ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يردّ شهادة أحد منهم ، ولا المسلمون بعده لأنه كلهم تابوا لما نزل القرآن ببراءتها . ومن لم يتب حينئذ ، فإنه كافر مكذب بالقرآن . وهؤلاء مازالوا مسلمين وقد نهى الله عن قطع صلتهم . ولو ردت شهادتهم بعد التوبة لاستفاض ذلك كما استفاض رد عمر شهادة أبي بكرة . وقصة عائشة أعظم من قصة المغيرة . لكن من رد شهادة القاذف بعد التوبة يقول : أرد شهادة من حُدّ في القذف . وهؤلاء لم يحدوا . والأولون يجيبون بأجوبة : أحدها : أنه قد روي في السنن أنهم حدوا . الثاني : أن هذا الشرط غير معتبر في ظاهر القرآن ، وهم لا يقولون به . الثالث : أن الذين اعتبروا الحد واعتبروه وقالوا : قد يكون القاذف صادقاً وقد يكون كاذباً . فإعراض المقذوف عن طلب الحد قد يكون لصدق القاذف . فإذا طلبه ولم يأت القاذف بأربعة شهداء ظهر كذبه . ومعلوم أن الذين قذفوا عائشة ظهر كذبهم أعظم من ظهور كذب كل أحد . فإن الله عز وجل هو الذي برأها بكلامه الذي أنزله من فوق سبع سموات يتلى ، فإذا كانت شهادتهم مقبولة ، فغيرهم أولى . وقصة عمر التي حكم فيها بين المهاجرين والأنصار ، في شأن المغيرة ، دليل على الفصلين جميعاً . لما توقف الرابع فجلد الثلاثة دونه ورد شهادتهم لأن اثنين من الثلاثة تابا فقبل شهادتهما . والثالث ، هو أبو بكرة ، مع كونه من أفضلهم ، لم يتب فلم يقبل المسلمون شهادته . وقد قال عمر : تب أقبل شهادتك . لكن إذا كان القرآن قد بين أنهم إن لم يأتوا بأربعة شهداء لم تقبل شهادتهم أبداً ، ثم قال بعد ذلك : { وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا } فمعلوم أن قوله : { هُمُ الْفَاسِقُونَ } وصف ذم لهم زائد على رد الشهادة .
وأما تفسير العدالة فإنها الصلاح في الدين والمروءة . وإذا وجد هذا في شخص كان عدلاً في شهادته وكان من الصالحين ، وأما أنه لا يستشهد أحد في وصية ولا رجعة في جميع الأمكنة والأزمنة حتى يكون بهذه الصفة ، فليس في كتاب الله وسنة رسوله ما يدل على ذلك ، بل هذا صفة المؤمن الذي أكمل إيمانه بأداء الواجبات وإن كان المستحبات لم يكملها . ومن كان كذلك كان من أولياء الله المتقين .
ثم إن القائلين بهذا قد يفسرون الواجبات بالصلوات الخمس ونحوها ، بل قد يجب على الإنسان من حقوق الله وحقوق عباده ما لا يحصيه إلا الله ، مما يكون تركه أعظم إثما من شرب الخمر والزنى ومع ذلك لم يجعلوه قادحا في عدالته ، إما لعدم استشعار كثرة الواجبات ، وإما لالتفافهم إلى ترك السيئات دون فعل الواجبات ، وليس الأمر كذلك في الشريعة . وبالجملة ، فهذا معتبر في باب الثواب والعقاب والمدح والذم والموالاة والمعاداة ، وهذا أمر عظيم . وباب الشهادة مداره على أن يكون الشهيد مرضيّاً ، أو يكون ذا عدل بتحري القسط والعدل في أقواله وأفعاله . والصدق في شهادته وخبره . وكثيراً ما يوجد هذا مع الإخلال بكثير من تلك الصفات . كما أن الصفات التي اعتبروها كثيرا ما توجد بدون هذا كما قد رأينا كل واحد من الصنفين كثيراً . لكن يقال : إن ذلك مظنة الصدق والعدل والمقصود من الشهادة ودليل عليها وعلامة لها . فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المتفق على صحته : < عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة . . > الحديث . فالصدق مستلزم للبر ، كما أن الكذب مستلزم للفجور . فإذا وجد الملزوم ، وهو تحري الصدق ، وجد اللازم وهو البر . وإذا انتفى اللازم وهو البر انتفى الملزوم وهو الصدق . وإذا وجد الكذب وهو الملزوم وجد الفجور وهو اللازم . وإذا انتفى اللازم وهو الفجور انتفى الملزوم وهو الكذب ، ولهذا يستدل بعدم بر الرجل على كذبه . وبعدم فجوره على صدقه . فالعدل الذي ذكروه ؛ من انتفى فجوره . وهو إتيان الكبيرة والإصرار على الصغيرة . وإذا انتفى ذلك فيه ، انتفى كذبه الذي يدعوه إلى الفجور . والفاسق هو من عدم بره ، وإذا عدم بره عدم صدقه . ودلالة هذا الحديث مبنية على أن الداعي إلى البر يستلزم البر ، والداعي إلى الفجور يستلزم الفجور . فالخطأ كالنسيان والعمد كالكذب . انتهى . ثم بين تعالى حكم الرامين لأزواجه خاصة ، بعد بيان حكم الرامين بغيرهن ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } [ 6 - 7 ] .
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } أي : بالزنى : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } أي : فيما رماها به من الزنى : { وَالْخَامِسَةُ } أي : والشهادة الخامسة للأربع المتقدمة : { أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } أي : فيما رماها به من الزنى . فيسقط عنه حد القذف ، ويجب عليها الحد وهو الرجم . إلا إن لاعنت أيضاً . كما قال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ } [ 8 - 10 ] .
{ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ } أي : الدنيوي وهو الرجم : { أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ } أي : فيما رماها به من الزنى : { وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ } أي : الزوج : { مِنَ الصَّادِقِينَ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ } أي : لحرجتم ولشق عليكم كثير من أموركم ، ولكن لرحمته ولطفه ، شرع لكم من الفرج والمخرج ، ما أنزله وأحكمه .
تنبيهات :
الأول : قال ابن كثير : هذه الآية الكريمة فيها فرج للأزواج وزيادة مخرج ، إذا قذف أحدهم زوجته وتعسر عليه إقامة البينة ، أن يلاعنها كما أمر الله عزَّ وجلَّ . وهو أن يحضرها إلى الإمام فيدعي عليها بما رماها به . فيحلفه الحاكم أربع شهادات بالله في مقابلة أربعة شهداء إنه لمن الصادقين . أي : فيما رماها به من الزنى . والخامسة أنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . فإذا قال ذلك بانت منه بنفس هذا اللعان عند الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء . وحرمت عليه أبداً . ويعطيها مهرها . ويتوجه عليها حد الزنى . ولا يدرأ عنها العذاب إلا أن تلاعن فتشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين . أي : فيما رماها به . والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين .
الثاني : روي في الصحيح أن ذلك وقع في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم . وأن رجلاً قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أرأيت رجلاً رأى مع امرأته رجلاً ، أيقتله فتقتلونه ، أم كيف يفعل ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد قضى الله فيك وفي امرأتك . وتلا عليه ما نزل من هذه الآية . فتلاعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وصح أيضاً أنها قد وقعت لرجلين سمِّيا . وقد اختلف شراح الصحيح في معنى ما روي من أنها نزلت فيهما معاً .
وإذا راجعت ما كتبناه في المقدمة في معنى سبب النزول ، زال الإشكال فارجع إليه .
الثالث : قال السيوطي في " الإكليل " : هذه الآية أصل في اللعان ، ففيها أن شرطه سبق قذف . وأنه إنما يكون بين الزوجين لا بين الرجل وأجنبية ولا السيد وأمته . واستدل بعمومها من قال بلعان الكفار والعبيد والخصيّ والمجبوب والمحدود في القذف والأعمى والأخرس ، ومن الصغيرة التي لا تحمل والآيسة . واستدل بقوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ } من قال : لا لعان إذا أقام البينة على زناها وبقوله : { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ } من قال : إن اللعان شهادة لا يمين . وقوله : { أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ } الخ فيه أن صيغته أن يقول : أشهد بالله إني لمن الصادقين ، أربعاً والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فاستدل به من لم يجز إبدال أشهد بأحلف أو أقسم ونحوه أو اللهِ بالرحمن ونحوه أو زاد بعلم الله ونحوه ومن لم يوجب زيادة : الذي لا إله إلا هو , ومن لم يجز إسقاط : إني لمن الصادقين , ولا إبدالها بما كذبت عليها ونحوه ولا الاكتفاء بدون أربع ، خلافاً لأبي حنيفة ، في اكتفائه بثلاث شهادات . ولا تقديم اللعنة على الشهادة ، أو توسطها ، أو إبدالها بالغضب . وقوله تعالى : { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ } الآية ، فيه أن لعانه يوجب على المرأة حد الزنى وأن لها دفعه بأن تقول أربع مرات . أشهد بالله إنه لمن الكاذبين ، والخامسة أن غضب الله عليها الخ . وفيه أيضاً أنه لا يجوز لها أن تبدل أشهد بأحلف أو الغضب باللعنة إلى آخر ما تقدم . واستدل به على أنه لا يجوز تقديم لعانها على لعانه . انتهى .
الرابع : اعلم أن الحد الواجب بالزنى نوعان : جلد ورجم . فالجلد حد البكرين الحرّين إذا زنيا . فيجلد كل واحد منهما مائة جلدة . وفي تغريبهما سَنة ، وتغريب الزاني وحده كذلك ، خلاف . نعم ، إذا رآه الإمام مصلحة فلا خلاف في إمضائه . والرجم حد الزانيين المحصنين . والإحصان عبارة عن البلوغ والعقل والحرية والدخول في النكاح الصحيح . فلا يقتل بالسيف ، بل ينكل بالرجم ، لا بصخرة تدفف ، ولا بحصيات تعذب ، بل بحجارة معتدلة ، كما في " الوجيز " وقد اعترض جماعة الخوارج على تشريع الرجم في الإسلام وقالوا : إن الله لم يأمر به في كتابه العزيز . فالذي ورد في عقاب الزنى في القرآن حكمان . أحدهما قوله تعالى : { وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا } [ النساء : 15 - 16 ] ، وهذا الحكم قد نسخ - أي : بيّن - بالحكم الثاني وهو قوله تعالى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ 2 ] ، هذه حجة الخوارج . أما حجة الإجماع فهي ورود الآثار الصحيحة الدالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجم المحصن ، وفعلَه . وروي لذلك جملة أحاديث وأحكام عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، كذا في كتاب " المقابلات " وسبقه الرازيّ في " تفسيره " فطوَّل النفس في سوق شبهة الخوارج ، وأجاب عنها بما ملخصه : أن الآية المذكورة مخصوصة بالبكر ، خصصها بالخبر المتواتر بالرجم ، وتخصيص القرآن الكريم بخبر الواحد جائز . فأولى بالمتواتر . وثانياً - قال - إنه لا يستبعد تجدد الأحكام الشرعية بحسب تجدد المصالح . فلعل المصلحة التي تقتضي وجوب الرجم ، حدثت بعد نزول تلك الآيات . انتهى .
قال صاحب " المقابلات " : إن الشريعة الإسلامية متفقة مع الشرع العبري في أغلب أحكام الزنى ، ولم يرد في الديانة المسيحية نص صريح ينسخ حكم اليهودية في الزنى . ولكن يروى عن عيسى عليه السلام ، ما يؤخذ منه ضمناً ، عدم إمكان إقامة حد الرجم . لأنه اشترط براءة الراجمين من كل عيب ، وأمر الزانية ، التي اعترفت بين يديه ، بالتوبة والاستغفار . أما حكم الزنى في القوانين الحديثة فيخالف مخالفة كلية لحكم الشريعة الغراء ، وحكم التوراة والإنجيل . انتهى كلامه .
وفقنا الله لحفظ حدوده ، وجنبنا محارمه بمنه وكرمه .
التنبيه الرابع : من مباحث اللفظ في الآية أن يقال : قد وردت الفاصلة في غير هذا الموضع بتواب رحيم فعلام فصلت هنا بتواب حكيم مع أن التوبة مع الرحمة ، فيما يظهر ؟
والجواب : أن الله عزَّ وجلَّ حكم بالتلاعن على الصورة التي أمر بها . وأراد بذلك ستر هذه الفاحشة على عباده . وذلك حكمة منه . ففصلت هذه الآية بتواب حكيم إثر بيان الحكم . جمعاً بين التوبة المرجوة من صاحب المعصية ، وبين الحكمة في سترها على تلك الصورة . فافهم ذلك . أشار له ابن الأثير في " المثل السائر " .
ثم أشار تعالى إلى نبأ الإفك ، وتبرئة عائشة رضي الله عنها ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ 11 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ } أي : بأبلغ ما يكون من الكذب ، وقيل هو البهتان لا تشهر به حتى يفجأك . والمراد به ما أفك به الصديقة ، أم المؤمنين رضي الله عنها ؟ فاللام للعهد ويجوز حمله على الجنس . قيل : فيفيد القصر ، كأنه لا إفك إلا هو . وفي لفظ المجيء إشارة إلى أنهم أظهروه من عند أنفسهم من غير أن يكون له أصل : { عُصْبَةٌ مِنْكُمْ } أي : جماعة منكم ، خبر إن ومنكم نعت لها . وبه أفاد الخبر . وقوله تعالى : { لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ } مستأنف ، والهاء ضمير الإفك أو القذف . والخطاب لرسول الله صلوات الله عليه ، ولآل الصديق رضي الله عنهم ، ولمن ساءه ذلك من المؤمنين . تسلية لهم من أول الأمر . وقوله تعالى : { بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } زيادة في التسلية والتكريم . أي : لا تظنوه يلحق تهمة بكم أو يوقع نقيصة فيكم ، بل قد جرّ لكم خيراً عظيماً .
قال الزمخشريّ : ومعنى كونه خيراً لهم ، أنهم اكتسبوا فيه الثواب العظيم . لأنه كان بلاءً مبيناً ومحنة ظاهرة . وأنه نزلت فيه ثماني عشرة آية ، كل واحدة منها مستقلة ، بما هو تعظيم لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسلية له ، وتنزيهٌ لأم المؤمنين رضوان الله عليها ، وتطهير لأهل البيت, وتهويل لمن تكلم في ذلك أو سمع به فلم تمجه أذناه . وعدة ألطاف للسامعين والتالين إلى يوم القيامة . وفوائد دينية وأحكام وآداب لا تخفى على متأمليها { لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ } أي : جزاؤه ، وذلك الذم في الدنيا إلى يوم القيامة ، والجلد ثمانين . ولعذاب الآخرة أشد : { وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي : قام بعظمه وإشاعته ، بعد ابتدائه بالخوض فيه ، وهو رأس المنافقين عبد الله بن أُبَيّ ، لإمعانه في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وانتهازه الفرص ، وطلبه سبيلاً إلى الغميزة .
روى الطبري عن ابن زيد قال : أما الذي تولى كبره فعبد الله بن أُبيّ بن سلول الخبيث . هو الذي ابتدأ هذه الكلام وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ، ثم جاء يقود بها . والعذاب العظيم يعم عذابي الدارين ، كما قلنا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ } [ 12 ] .
{ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً } أي : بالذين منهم من المؤمنين والمؤمنات ، كقوله تعالى : { وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } [ الحجرات : 11 ] ، قال الشهاب : وهذا من بديع الكلام . وقد وقع في القرآن كثيراً . وهو بحسب الظاهر يقتضي أن كل واحد يظن بنفسه خيراً ، وليس بمراد . بل أن يظن بغيره ذلك . وتوجيهه أنه مجاز لجعله اتحاد الجنس كاتحاد الذات ولذا فسر قوله : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] ، بلا تقتلوا من كان من جنسكم أو يجعلهم كنفس واحدة ، فمن عاب مؤمناً فكأنما عاب نفسه ، ويجوز أن يقدر فيه مضاف . أي : ظن بعض المؤمنين والمؤمنات بأنفس بعضهم الآخر . وقال الكرماني في حديث : < أموالكم علكم حرام > إنه كقولهم : بنو فلان قتلوا أنفسهم أي : قتل بعضهم بعضاً ، مجازاً أو إضماراً للقرينة الصارفة عن ظاهره . ولولا تحضيضية بمعنى : هلا : { وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ } أي : هذا الذي سمعناه ، من رمي أم المؤمنين ، إفك مبين جليّ لمن عقل وفكر فيه . قال العلامة الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيراً وقلتم ؟ ولم عدل عن الخطاب إلى الغيبة ؟ وعن الضمير إلى الظاهر ؟ قلت : ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات . وليصرح بلفظ الإيمان دلالة على أن الاشتراك فيه مقتضٍ ألا يصدق مؤمن على أخيه ، ولا مؤمنة على أختها ، قولَ عائب ولا طاعن . وفيه تنبيه على أن حق المؤمن ، إذا سمع قالة ً في أخيه ، أن يبني الأمر فيها على الظن ، لا على الشك . وأن يقول بملء فيه - بناءً على ظنه بالمؤمن الخير - : { هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ } . هكذا باللفظ المصرح ببراءة ساحته . كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال . وهذا يدل من الأدب الحسن الذي قلّ القائم به والحافظ له . وليتك تجد من يسمع فيسكت ، ولا يشيع ما سمعه بأخواتٍ ! انتهى . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [ 13 ] .
{ لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ } أي : في حكمه وشريعته المؤسسة على الدلائل الظاهرة المستيقنة : { هُمُ الْكَاذِبُونَ } أي الكاملون في الكذب ، المشهود عليهم بذلك . قال الزمخشري : وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك فلم يجدّوا في دفعه وإنكاره . واحتجاج عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع ، من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة والتنكيل به ، إذا قذف امرأة محصنة من عُرْضِ نساء المؤمنين . فكيف بأم المؤمنين الصديقة بنت الصديق حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحبيبة حبيب الله ؟(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ 14 ] .
{ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي : لعوجلتم بالعقاب ، بسبب ما خضتم فيه من الإفك . ولكنه واسع الفضل والرحمة . يمهل المذنب للتوبة ، ويحلم عنه للأوبة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } [ 15 ] .
{ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ } أي : وقت تلقّي بعضكم من بعض : { بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً } أي : لا تبعة له ولا عقوبة على مشيعه : { وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } أي : والحال أنه عظيم في الوزر واستجرار العذاب . قال المهايمي : لأن الجراءة على رسول الله وعلى أوليائه ، تشبه الجراءة على الله تعالى . قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى قوله : { بِأَفْوَاهِكُمْ } والقول لا يكون إلا بالفم ؟ قلت : معناه أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب ، فيترجم عنه اللسان . وهذا الإفك ليس إلا قولاً يجري على ألسنتكم ، ويدور في أفواهكم ، من غير ترجمة عن علمٍ به في القلب . كقوله تعالى : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [ آل عِمْرَان : 167 ] . انتهى . فالقيد ليس تأكيداً صرفاً ، كنظر بعينه بل ليفيد نفيَه عما عداه . وقيل إنه توبيخ ، كما تقول : قاله بملء فيه , فإن القائل ربما رمز ، وربما صرّح وتشدّق . وقد قيل هذا في قوله : { بدت البغضاء } [ آل عِمْرَان : 118 ] وقيل : فائدته ألا يظن أنه كلام نفسي . فهو تأكيد لدفع المجاز . والسياق يقتضي الأول . كذا في " العناية " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [ 16 ] .
{ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ } أي : تكذيباً لمشيعيه : { مَا يَكُونُ لَنَا } أي : ما يصح لنا بوجه ما : { أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } أي : تنزيهاً لك ، وبراءة إليك مما جاء به هؤلاء . فإنه بهتان عظيم يستحيل صدقه . قال الزمخشري : كلمة سبحانك للتعجب من عظم الأمر . فإن قلت : ما معنى التعجب في كلمة التسبيح ؟ قلت : الأصل في ذلك ، أن يسبح الله عند رؤية العجيب من صنائعه . ثم كثر حتى استعمل في كل متعجَّب منه . أو لتنزيه الله تعالى من أن تكون حرمة نبيّه عليه السلام فاجرة . انتهى .
فعلى الأول ، هو من المجاز المتفرع على الكناية ، وهو كثير . وقد ذكره النووي في " الأذكار " وكذا لا إله إلا الله تستعمل للتعجب أيضاً . وأما الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم في مقام التعجب فلم ترد ولم تسمع في لسان الشرع . وقد صرح الفقهاء بالمنع . وإنما وقع من العوامّ وبعض المحدثين كقوله :
~فمن رأى حُسْنَهُ المفدّى في الحالِِ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدْ
وعلى الثاني ، هو حقيقة . كذا في " العناية " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 17 - 18 ] .
{ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فإن الاتّصاف يصدّ عن كل مقبح : { وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ } أي : الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب ، دلالة واضحة لتتعظوا وتتأدبوا بها . أي : ينزلها كذلك مبينة ، ظاهرة الدلالة على معاينها : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
ثم أشار تعالى إلى تأديب ثالث لمن سمع شيئاً من الكلام السيءّ ، فعلق بذهنه منه شيء ، ألا يتكلم به ولا يذيعه ، بقوله سبحانه متوعداً :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [ 19 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ } أي : تنتشر الخصلة المفرطة في القبح ، وهي الفرية والرمي بالزنى ونحوه ، كاللواط وما عظم فحشه : { فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا } أي : من الحدّ وغيره ، مما يتفق من البلايا الدنيوية : { وَالْآخِرَةِ } أي : من عذاب النار : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ } أي : ما في القلوب من الأسرار والضمائر : { وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } يعني أنه قد علم محبة من أحب الإشاعة ، وهو معاقِبُهُ عليها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } [ 20 ] .
{ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } تكرير للمنّة ، بترك المعاجلة بالعقاب ، للدلالة على عظم الجريمة . وحذف الجواب وهو مستغني عنه بذكره مرة . وهو لمسّكم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ 21 - 22 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي : بإشاعة الفاحشة : { وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى } أي : ما طهر من دنسها : { مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } من عباده بإلهامه التوبة والإنابة : { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
قال الزمخشري : يأتل من ائتلى إذا حلف ، افتعال من الأليّة وهو القَسَم وقيل من قولهم : ما ألوت جهداً إذا لم تدخر منه شيئاً . ويشهد للأول قراءة الحسن : وَلا يتأل والمعنى : لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المستحقين للإحسان . أو لا يقصّروا في أن يحسنوا إليهم ، وإن كانت بينهم وبينهم شحناء لجناية اقترفوها ، فليعودوا عليهم بالعفو والصفح . وليفعلوا بهم مثل ما يرجون أن يفعل بهم ربهم ، مع كثرة خطاياهم وذنوبهم وسيأتي سبب نزولها فيمن عُني بها .
ثم بيّن تعالى وعيد القاذفين للبريئات ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ 23 - 24 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ } أي : العفائف عن الفاحشة ، النقيات القلوب عنها : { الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا } بالذم والحد وردّ الشهادة إلا إذا تابوا : { وَالْآخِرَةِ } أي : حيث يلعنهم ثمة الملائكة ومن شاء الله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : يعترفون بها بإنطاق الله تعالى إياها أو بظهور آثار ما عملوه عليها . بحيث يعلم من يشاهدهم ما عملوه . وذلك بكيفية يعلمها الله . فهو استعارة . ورجع الأول لقوله : { قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } [ فصلت : 21 ] ، فظاهره الحقيقة ، وحمله على الثاني بعيد . قيل : سيأتي في " يس " : { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [ يّس : 65 ] ، والختم على الأفواه ينافي شهادة الألسنة . والجواب أن الختم على الأفواه معناه المنع عن التكلم بما يريده وينفعه ، بحسب زعمه ، اختياراً . كالإنكار والاعتذار ، أو أن هذا في حال ، وذلك في حال ، أو كل منهما في حق قوم غير الآخرين ، أو هذا في حق القَذَفَة ، وذاك في حق الكفرة - وليس بشيء - إذ لا منافاة فالسر في التصريح بالألسنة هنا ، وعدم ذكرها هناك ، أن الآية لما كانت في حق القاذف بلسانه ، وهو مطالب معه بأربعة شهداء ، ذكر هنا خمسة أيضاًَ ، وصرح باللسان الذي به عمله ليفضحه ، جزاءًَ له من جنس فعله . كذا في " العناية " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } [ 25 ] .
{ يَوْمَئِذٍ } أي : يوم إذ تشهد عليهم بما ذكر : { يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ } أي : جزاءهم : { الْحَقَّ } أي : الواجب الثابت : { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } أي : المظهر للأمور كما هي في أنفسها . ثم أشار تعالى إلى ما يؤكد التبرئة من شاهد العرف والعادة ، في أنه لا يضم الشكل إلا إلى شكله ، ولا يساق الأهل إلا إلى أهله ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ 26 ] .
{ الْخَبِيثَاتُ } أي : من النساء : { لِلْخَبِيثِينَ } أي : من الرجال : { وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ } أي : بحيث لا يكاد يتجاوز كلُّ واحد إلى غيره . والطيب : ضد الخبيث وهو الأفضل من كل شيء والأحسن والأجود . قال أبو السعود : وحيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب الأطيبين ، وخيرة الأولين والآخرين ، تبين كون الصدّيقة رضي الله عنها من أطيب الطيبات بالضرورة . واتضح [ في المطبوع : إتضح ] بطلان ما قيل في حقها من الخرافات ، حسبما نطق به قوله تعالى : { أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } وهو الجنة . وبهذه الآية تم نبأ أهل الإفك .
واعلم أن ما اشتملت عليه الآيات من الأحكام والفوائد والمطالب والآداب ، لا تفي بها مجلدات . إلا أنا نشير إلى شيء من ذلك ، نقتبسه من أهم المراجع ، تتميماً لما أجملناه في تأويلها .
فالأول : أن نبأ الإفك كان في غزوة المريسيع تصغير مرسوع ، بئر أو ماء لخزاعة وكانت في شعبان سنة خمس . وسببها أنه صلى الله عليه وسلم بلغه أن الحارث بن أبي ضرار ، سيد بني المصطلق سار في قومه ومن قدر عليه من العرب يردي حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من أصحابه . وخرج معهم جماعة من المنافقين لم يخرجوا في غزاة قبلها ، فأغار عليهم ، فسبى ذراريّهم وأموالهم . وكانت عائشة رضي الله عنها قد خرجت معه ، عليه الصلاة والسلام ، في هذه الغزوة , بقرعة أصابتها وكانت تلك عادته مع نسائه . فلما رجعوا من الغزوة ، نزلوا في بعض المنازل . فخرجت عائشة لحاجتها ففقدت عقداً لأختها كانت أعارتها إياه . فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه في وقتها . فجاء النفر الذين كانوا يرحلون هودجها ، فظنوها فيه ، فحملوا الهودج ، ولا ينكرون خفته ، لأنها رضي الله عنها كانت فتية السن لم يغشها اللحم الذي كان يثقلها . وأيضاً ، فإن النفر لم تساعدوا على حمل الهودج ، لم ينكروا خفته . ولو كان الذي حمله واحداً أو اثنين لم يخف عليهما الحال . فرجعت عائشة إلى منزلهم وقد أصابت العقد ، فإذا ليس لها داع ولا مجيب . فقعدت في المنزل ، وظنت أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها والله غالب على أمره ، يدبر الأمر فوق عرشه كما يشاء فغلبتها عيناها فنامت فلم تستيقظ إلا بقول صفوان بن المعطل بفتح الطاء المشدودة سلمى ذكواني صحابي فاضل متقدم الإسلام : إنا لله وإنا إليه راجعون . زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صفوان قد عرس في أخريات الجيش لأنه كان كثير النوم كما جاء عنه في صحيح أبي حاتم وفي السنن . فلما رآها عرفها . وكان يراها قبل نزول الحجاب . فاسترجع وأناخ راحلته ، فقربها إليها ، فركبتها . وما كلمها كلمة واحدة . ولم تسمع منه إلا استرجاعه . ثم سار بها يقودها حتى قدم بها ، وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة فلما رأى ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته وما يليق به . ووجد الخبيث عدو الله ابن أبيّ متنفساً . فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه . فجعل يستحكي الإفك ويستوشيه ويشيعه ويذيعه ويجمعه ويفرقه . وكان أصحابه يتقربون إليه . فلما قدموا المدينة أفاض أهل الإفك في الحديث ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم . ثم أستشار أصحابه في فراقها ، فأشار عليه عليّ رضي الله عنه أن يفارقها ويأخذ غيرها ، تلويحاً لا تصريحاً . وأشار عليه أسامة وغيره بإمساكها ، وألا يلتفت إلى كلام الأعداء . فعلي ، لما رأى أن ما قيل مشكوك فيه ، أشار بترك الشك والريبة إلى اليقين ، ليتخلص رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهم والغم الذي لحقه من كلام الناس فأشار بحسم الداء . وأسامة لما علم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ولأبيها ، وعلم من عفتها وبراءتها وحصانتها وديانتها ، ما هي فوق ذلك وأعظم منه ، وعرف من كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ربه ومنزلته عنده ودفاعه عنه ؛ أنه لا يجعل ربة بيته وحبيبته ، من النساء وبنت صديقه بالمنزل الذي أنزلها به أرباب الإفك . وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على ربه وأعز عليه من أن يجعل تحته امرأة بغياً . وعلم أن الصديقة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على ربها من أن يبتليها بالفاحشة وهي تحت رسوله . ومن قويت معرفة الله ومعرفة رسوله وقدره عند الله في قلبه - قال كما قال أبو أيوب وغيره من سادات الصحابة ، لما سمعوا ذلك : { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } وتأمل ما في تسبيحهم لله وتنزيههم له في ذلك المقام ، من المعرفة به وتنزيهه عما لا يليق به أن يجعل لرسوله وخليله وأكرم الخلق عليه ، امرأة خبيثة بغياً . فمن ظن به سبحانه هذا الظن ، فقد ظن به السوء . وعرف أهل المعرفة بالله ورسوله ، أن المرأة الخبيثة لا تليق إلا بمثلها . كما قال تعالى : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ } فقطعوا قطعاً لا يشكون فيه ، أن هذا بهتان عظيم وفرية ظاهرة .
فإن قيل : فما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم توقف في أمرها وسأل عنها وبحث واستشار وهو أعرف بالله وبمنزلته عنده فيما يليق به . وهلا قال : سبحانك هذا بهتان عظيم ، كما قاله فضلاء الصحابة ؟ فالجواب : أن هذا من تمام الحكم الباهرة التي جعل الله هذه القصة سبباً لها ، وامتحاناً وابتلاء لرسوله صلى الله عليه وسلم ولجميع الأمة إلى يوم القيامة . ليرفع بهذه القصة أقواماً ويضع بها آخرين . ويزيد الله الذين اهتدوا هدى وإيماناً ، ولا يزيد الظالمين إلا خساراً . واقتضى تمام الامتحان والابتلاء أن حبس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي شهراً في شأنها . لا يوحي إليه في ذلك بشيء ليتم حكمته التي قدَّرها وقضاها ، ويظهر على أكمل الوجوه ، ويزداد المؤمنون الصادقون إيماناً وثباتاً على العدل والصدق وحسن الظن بالله ورسوله وأهل بيته والصديقين من عباده . ويزداد المنافقون إفكاً ونفاقاً . ويظهر للرسول وللمؤمنين سرائرهم ، ولتم العبودية المرادة من الصدّيقة وأبيها . وتتم نعمة الله عليهم ، ولتشدد الفاقة والرغبة منها ومن أبيها ، والافتقار إلى الله ، والذل له ، وحسن الظن به ، والرجاء له . ولينقطع رجاؤها من المخلوقين ، وتيأس من حصول النصرة والفرج على يد أحد من الخلق . ولهذا وقّت لهذا المقام حقه ، لما قال لها أبوها : قومي إليه ، وقد انزل الله عليه براءتها ، قالت : والله ! لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي .
وأيضا ، فكان من حكمة حبس الوحي شهراً ، أن القضية نضجت وتمخضت واستشرفت قلوب المؤمنين أعظم استشراف ، إلى ما يوحيه الله إلى رسوله فيها .
وتطلعت إلى ذلك غاية التطلع . فوافى الوحي أحوج ما كان إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ، والصديق ، وأهله وأصحابه ، والمؤمنون . فورد عليهم ورود الغيث على الأرض ، أحوج ما كانت إليه . فوقع منهم أعظم موقع وألطفه . وسروا به أتم السرور ، وحصل لهم به غاية الهناء . فلو أطلع الله رسوله على حقيقة الحال من أول وهلة ، وأنزل الوحي على الفور بذلك ، لفاتت هذه الحكم وأضعافها ، بل أضعاف أضعافها .
وأيضا فإن الله سبحانه أحب أن يظهر منزلة رسوله وأهل بيته عندهم ، وكرامته عليه . وأن يخرج رسوله عن هذه القضية ويتولى هو بنفسه الدفاع والمنافحة عنه ، والرد على أعدائه ، وذمهم وعيبهم بأمر لا يكون له فيه عمل ولا ينسب إليه ، بل يكون هو وحده المتولي لذلك ، الثائر لرسوله وأهل بيته .
وأيضا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو المقصود بالأذى . والتي رميت زوجته فلم يكن يليق أن يشهد ببراءتها . مع علمه ، أو ظنه الظن المقارب للعلم ببراءتها ، ولم يظن بها سوءاً قط ، وحاشاه وحاشاها . ولذلك لما استعذر من أهل الإفك ، قال : < من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي ؟ والله ! ما علمت على أهلي إلا خيراً . ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً . وما كان يدخل على أهلي إلا معي > فكان عنده من القرائن التي تشهد ببراءة الصديقة أكثر مما عند المؤمنين . لكن لكمال صبره وثباته ورفقه وحسن ظنه بربه ، وثقته به ، وفَّى مقام الصبر والثبات وحسن الظن بالله حقه . حتى جاء الوحي بما أقر عينه وسر قلبه وعظم قدره وظهر لأمته احتفال ربه به واعتناؤه بشأنه .
ولما جاء الوحي ببراءتها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن صرح بالإفك ، فحدوا ثمانين ثمانين . ولم يحد الخبيث عبد الله بن أبيّ ، مع أنه رأس الإفك . فقيل : لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة . والخبيث ليس أهلاً لذلك . ولقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة ، فيكفيه ذلك عن الحد . وقيل : بل كان يستوشي الحديث ويجمعه ويحكيه ، ويخرجه في قوالب من لا ينسب إليه وقيل : الحد لا يثبت إلا بالإقرار أو بينة . وهو لم يقر بالقذف ولا شهد به عليه أحد فإنه إنما كان يذكر من أصحابه ولم يشهدوا عليه . ولم يكن يذكره بين المؤمنين . وقيل : حد القذف حق الآدميّ ، لا يستوفي إلا بمطالبته : وإن قيل إنه حق لله فلا بد من مطالبة المقذوف وعائشة لم تطالب به ابن أبيّ . وقيل : بل ترك حده لمصلحة هي أعظم من إقامته . كما ترك قتله مع ظهور نفاقه وتكلمه بما يوجب قتله مراراً . وهي تأليف قومه وعدم تنفيرهم عن الإسلام . فإنه كان مطاعاً فيهم رئيساً عليهم . فلم يؤمن إثارة فتنة في حده ، ولعله ترك لهذه الوجوه كلها . فجلد مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بيت جحش . وهؤلاء من المؤمنين الصادقين ، تطهيراً لهم وتكفيراً . وترك عدو الله ابن أبيّ إذاً فليس هو من أهل ذاك - هذا ما أفاده الإمام ابن القيم رحمه الله في " زاد المعاد " وهو خلاصة الروايات في هذا الباب .
ثم قال رحمه الله : ومن تأمل قول الصديقة ، وقد نزلت براءتها ، فقال لها أبوها : قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : والله ! لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله - علم معرفتها وقوة إيمانها وتوليتها النعمة لربها . وإفراده بالحمد في ذلك المقام ، وتجديدها التوحيد ، وقوة جأشها وإدلالها ببراءة ساحتها ، وأنها لم تفعل ما يوجب قيامها في مقام الراغب في الصلح الطالب له . ولثقتها بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ، قالت ما قالت . إدلالاً للحبيب على حبيبه ، ولا سيما في مثل هذا المقام الذي هو أحسن مقامات الإدلال ، فوضعته موضعه . ولله ! ما كان أحبها إليه حين قالت : لا أحمد إلا الله فإنه هو الذي أنزل براءتي . ولله ! ذلك الثبات والرزانة منها ، وهو أحب شيء إليها ، ولا صبر لها عنه ، وقد تنكر قلب حبيبها لها شهراً . ثم صادفت الرضاء منه والإقبال ، فلم تبادر إلى القيام إليه ، والسرور برضاه وقربه ، مع شدة محبتها له . وهذا غاية الثبات والقوة . انتهى .
وطرق حديث الإفك متعددة عن أم المؤمنين عائشة وعن ابن الزبير وأم رومان وابن عباس وأبي هريرة وأبي اليسر . ورواه من التابعين عشرة كما في " فتح الباري " وذلك في المسانيد والصحاح والسنن وغيرها . ما بين مطول وموجز . ومن الثاني ما أخرجه الإمام أحمد عن أم رومان قالت : بينا أنا عند عائشة ، إذ دخلت عليها امرأة من الأنصار فقالت : فعل الله بابنها وفعل . فقالت عائشة : ولم ؟ قالت : إنه كان فيمن حدث الحديث قالت : وأي حديث ؟ قالت كذا وكذا . قالت : وقد بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت نعم ، وبلغ أبا بكر ؟ قالت : نعم . فخرت عائشة رضي الله عنها مغشياً عليها . فما أفاقت وإلا وعليها حمى بنافض . قالت : فقمت فدثرتها . قالت : فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : فما شأن هذه ؟ فقلت : يا رسول الله أخذتها حمى بنافض . قال : فلعله في حديث تحدث به ؟ قالت : فاستوت عائشة قاعدة ، فقالت : والله لئن حلفت لكم لا تصدقوني ، ولئن اعتذرت إليكم لا تعذروني . فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وبنيه حين قال : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [ يوسف : 18 ] .
قالت : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله عذرها . فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر . فدخل فقال : يا عائشة ! إن الله تعالى قد أنزل عذرك . فقالت : بحمد الله لا بحمدك . فقال لها أبو بكر : تقولين هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم .
قالت : وكان فيمن حدث هذا الحديث رجل يعوله أبو بكر . فحلف ألاّ يصله . فأنزل الله تعالى : { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } [ 22 ] , إلى آخر الآية . فقال أبو بكر : بلى ، فوصله . تفرد به البخاري .
المطلب الثاني : قال في " الإكليل " في قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ } [ 11 ] ، نزلت في براءة عائشة مما قذفت به ، فاستدل بها الفقهاء على أن قاذفها يقتل لتكذيبه لنص القرآن قال العلماء : قذف عائشة كفر . لأن الله سبح نفسه عند ذكره . فقال : { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [ 16 ] ، كما سبح نفسه عند ذكر ما وصفه به المشركون من الزوجة والولد . وفي قوله تعالى : { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً } [ 12 ] ، تحريم ظن السوء ، وأنه لا يحكم بالظن . وأن من عرف بالصلاح لا يعدل به عنه لخبر مخبر . وأن القاذف مكذب شرعاً ، ما لم يأت بالشهداء . وفي قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ } [ 19 ] الآية ، الحث على ستر المؤمن وعدم هتكه . أخرج ابن أبي حاتم عن خالد بن معدان ، قال : من حدث بما أبصرت عيناه وسمعت أذناه فهو من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، وأخرج عن عطاء قال : من أشاع الفاحشة فعليه النكال وإن كان صادقاً .
وأخرج عن عبد الله بن أبي زكريا ، أنه سئل عن هذه الآية فقال : هو الرجل يُتكلم عنده في الرجل ، فيشتهي ذلك ولا ينكر عليه .
وفي قوله تعالى : { وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } [ 22 ] الآية . النهي عن الحلف ألا يفعل خيراً ، وأن [ على ] من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها ، يستحب له الحنث . وفيه الأمر بالعفو والصفح .
واستدل من ذهب إلى أن قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } [ 23 ] الآية ، نزلت في أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة ، يقتل قاذفهن ، إذا لم يذكر له توبة ، كما ذكرت في قاذف غيرهن في أول السورة انتهى .
وقال ابن كثير : ذهب بعضهم إلى أنها خاصة بعائشة رضي الله عنها ، والصحيح أن الآية عامة لكل المؤمنات ، ويدخل فيهن أمهات المؤمنين دخولاً أوليّاً ، لا سيما من كانت سبب نزولها ، وهي عائشة .
قال ابن كثير : وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة ، على أن من سبها بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية ، فإنه كافر لأنه معاند للقرآن . وفي بقية أمهات المؤمنين قولان : أصحهما : أنهن كهي . والله أعلم .
الثالث : قال الإمام ابن تيمية في قوله تعالى : { الخَبِيثَاتُ لِلخَبِيثِينَ } الآية أخبر تعالى أن النساء الخبيثات للرجال الخبيثين . فلا تكون خبيثة لطيّب . فإنه خلاف الحصر . وأخبر أن الطيبين للطيبات فلا يكون طيب لخبيثة ، فإنه خلاف الحصر . إذ قد ذكر أن جميع الخبيثات للخبيثين . فلا يبقى خبيثة لطيب ولا طيب لخبيثة . وأخبر أن جميع الطيبات للطيبين . فلا يبقى طيّبة لخبيث . فجاء الحصر من الجانبين ، موافقاً لقوله : { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } [ 3 ] الآية . ولهذا قال من قال من السلف : ما بغت امرأة نبيّ قط , فإن السورة نزل صدرها بسبب أهل الإفك .
ولهذا لما صارت شبهة ، استشار النبيّ صلى الله عليه وسلم في طلاقها . إذ لا يصلح له أن تكون امرأته غير طيبة ، وقد روي أنه : < لا يدخل الجنة ديوث > وهو الذي يقر السوء في أهله ، ولهذا كانت الغيرة على الزنى مما يحبها الله وأمر بها . حتى قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : < أتعجبون من غيرة سعد ؟ لأنا أغير منه ، والله أغير مني > ، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن . ولهذا أذن الله للقاذف إذا كان زوجاً ، أن يلاعن ، لأجل ما أمر به من الغيرة ، ولأنها أفسدت فراشه ، وإن حبلت من الزني ، فعليه اللعان ، لئلا يلحق به من ليس منه . ومضت السنّة بالتفريق بينهما ، سواء حصلت الفرقة بالتلاعن أو بحاكم أو عند انقضاء لعان الزوج . لأن أحدهما ملعون أو خبيث . فاقترانهما يقتضي مقارنة الخبيث للطّيب . وفي صحيح مسلم من حديث عِمْرَان في الناقة التي لعنتها المرأة ، أنه أمر فأخذ ما عليها وأُرسِلَتْ . وقال : < لا تصحبنا ناقة ملعونة > . ولما اجتاز بديار ثمود قال : < لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين . لئلا يصيبكم ما أصابهم > . فنهى عن عبور ديارهم إلا على وجه الخوف المانع من العذاب . وهكذا السنة في مقارنة الظالمين والزناة وأهل البدع والفجور وسائر المعاصي . لا ينبغي لأحد أن يقارنهم ويخالطهم إلا على وجه يسلم به من عذاب الله عزَّ وجلَّ ، وأقل ذلك أن يكون منكراً لظلمهم ، ماقتاً لهم شانئاً ما هم فيه بحسب الإمكان . كما في قوله : < من رأى منكم منكراً لظلمهم ، فليغيره بيده الخ > . وقال تعالى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ } [ التحريم : 11 ] الآية ، وكذلك ما ذكره عن يوسف وعمله لصاحب مصر لقوم كفار . وذلك أن مقارنة الكفار إنما يفعلها المؤمن في موضعين : أحدهما : أن يكون مكرهاً عليها . الثاني : أن يكون في ذلك مصلحة دينية ، راجحة على مفسدة المقارنة ، أو أن يكون في تركها مفسدة راجحة في دينه فيدفع أعظم المفسدين باحتمال أدناهما ، وتحصل المصلحة الراجحة باحتمال المفسدة المرجوحة . وفي الحقيقة : المكره هو من يدفع الفساد باحتمال أدناهما . وهو الأمر الذي أكره عليه قال تعالى : { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } [ النحل : 106 ] ، وقال تعالى : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } [ 33 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } [ النساء : 97 ] ، إلى قوله : { غَفُوراً } وقال : { وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ } [ النساء : 75 ] ، فقد دلت الآية على النهي عن مناكحة الزاني ، والمناكحة نوع خاص من المصاحبة . والمناكحة في أصل اللغة المجامعة . فقلوبهما تجتمع إذا عقد النكاح بينهما ، ويصير بينهما من التعاطف ما لم يكن قبل ذلك . حتى يثبت ذلك حرمة المصاهرة في غير الربيبة ، بمجرد ذلك في التوارث وعدة الوفاة وغير ذلك . وأوسط ذلك اجتماعهما خاليين في مكان واحد ، وهو المعاشرة المقررة للصداق ، كما أفتى به الخلفاء . وآخر ذلك اجتماع المباضعة . وهذا ، وإن اجتمع بدون عقد نكاح ، فهو اجتماع ضعيف ، بل اجتماع القلوب أعظم من مجرد اجتماع البدنين بالسفاح ودل قوله تعالى : { وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ } على ذلك من جهة المعنى ومن جهة اللفظ ودل أيضاً على النهي عن مقارنة الفجار ومزاوجتهم ، كما دل على هذا غير ذلك من النصوص . مثل قوله تعالى : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } [ الصافات : 22 ] . أي : نظراءهم وأشباههم . والزواج أعمّ من النكاح المعروف . قال تعالى : { أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً } [ الشورى : 50 ] ، وقال : { مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ 5 ] ، وقال : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } [ التكوير : 7 ] ، وقال : { وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } [ الذاريات : 49 ] ، وقال : { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً } [ النبأ : 8 ] . وقال : { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ } [ التغابن : 14 ] ، وإن كان في الآية نصّ في الزوجة التي هي الصاحبة وفي الولد منها . فمعنى ذلك : في كل مشابه ومقارن في كل نوع وتابع : { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } [ الإسراء : 111 ] { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } [ الفرقان : 1 ] ، الآيتين . فالمصاحبة والمصاهرة والمؤاخاة لا تجوز إلا مع طاعة الله على مراد الله . ويدل عليه الحديث الذي في السنن < لا تصاحب إلا مؤمناً . ولا يأكل طعامك إلا تقيٌّ > وفيها < المرء على دين خليله ، فلينظر أحدكم من يخالل > وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة < إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد > إلى قوله < ثم إن زنت فليبعها ولو بضفير > والضفير الحبل وهذا أمر ببيعها ولو بأدنى ما يقابله . قال أحمد : إن لم يبعها كان تاركاً لأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم . والإماء اللاتي يفعلن هذا ، يكون عامتهن للخدمة . فكيف بأمة التمتع ؟ وإذا وجب إخراج الأمة الزانية عن ملكه ، فكيف بالزوجة الزانية ؟ والعبد نظير الأمة ، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : < لعن الله من آوى محدثاً > فهذا يوجب لعنة كل من آوى محدثاً . سواء كان إحداثه بالزنى أو السرقة ، أو غير ذلك ، وسواء كان الإيواء بملك اليمين ، أو نكاح ، أو غير ذلك ، لأن أقل ما فيه ترك إنكار المنكر . والمؤمن يحتاج إلى امتحان من يريد أن يصاحبه ويقارنه ، بالنكاح وغيره . قال تعالى : { إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } [ الممتحنة : 10 ] ، وكذلك المرأة التي زنى بها رجل ، فإنه لا يتزوجها إلا بعد التوبة في الأصح . كما دل عليه الكتاب والسنة والآثار . لكن إذا أراد أن يمتحنها . هل هي صحيحة التوبة ؟ فقال ابن عمر : يراودها . فإن أجابته لم تصح توبتها . وإن لم تجبه فقد تابت . ونص عليه أحمد . وقيل : هذا فيه طلب الفاحشة . وقد تنقض التوبة . وقد تأمره نفسه بتحقيق ذلك . ويزين له الشيطان ، لا سيما إن كان يحبها وتحبه ، وقد ذاقته وذاقها . ومن قال بالأول قال : الأمر الذي يقصد به امتحانها ، لا يكون أمراً بما نهى الله عنه . ويمكنه أن لا يطلب الفاحشة بل يعرّض . والتعريض للحاجة جائز بل واجب في مواضع كثيرة . وأما نقضها ، فإذا جاز أن تنقض للتوبة معه ، جاز أن تنقضها مع غيره والمقصود أن تكون ممتنعة ممن يراودها . وأما تزيين الشيطان له الفعل . فهذا داخل في كل أمر يفعله الإنسان من الخير يجد فيه محنة . فإذا أراد المؤمن أن يصاحب أحداً ، وقد ذكر عنه الفجور ، وقيل إنه تاب ، أو كان ذلك مقولاً صدقاً أو كذباً ، فإنه يمتحنه بما يظهر به بره وفجوره ، وكذلك إذا أراد أن يولّيَ أحداً ولاية ، امتحنه ، كما أمر عُمَر بن عبد العزيز غلامه أن يمتحن ابن أبي موسى ، لما أعجبه سمته . فقال له : قد علمتَ مكاني عند أمير المؤمنين . فكم تعطيني إذا أشرت عليه بولايتك ؟ فبذل له مالاً عظيماً . فعلم أنه ليس ممن يصلح للولاية . وكذلك في المعاملات . وكذلك الصبيان والمماليك الذين عرفوا ، أو قيل عنهم الفجور ، وأراد الرجل أن يشتريه فإنه يمتحنه . ومعرفة أحوال الناس تارة تكون بشهادات الناس ، وتارة بالجرح والتعديل ، وتارة بالاختبار والامتحان .
ثم قال ابن تيمية رحمه الله وكما عظَّم الله الفاحشة ، عظَّم ذكرها بالباطل - وهو القذف . فقال بعد ذلك : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } [ 4 ] الآية . ثم ذكر رمي الرجل امرأته وما أمر فيه من التلاعن . ثم ذكر قصة أهل الإفك وبيّن ما في ذلك من الخير للمقذوف ، وما فيه من الإثم للقاذف ، وما يجب على المؤمنين إذا سمعوا ذلك أن يظنوا بإخوانهم من المؤمنين الخير ، ويقولون : هذا إفك مبين . لأن دليله كذب ظاهر . ثم أخبر أن قول بلا حجة فقال : { لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [ 13 ] ، ثم أخبر أنه لولا فضله عليهم ورحمته لعذبهم بما تكلموا به . وقوله : { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } [ 15 ] . فهذا بيان لسبب العذاب . وهو تلقي الباطل بالألسنة ، والقول بالأفواه . وهما نوعان محرمان : القول بالباطل والقول بلا علم . ثم قال سبحانه : { وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [ 16 ] . فالأول تحضيض على الظن الحسن ، وهذا نهي لهم عن التكلم بالقذف . ففي الأول قوله : { اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } [ الحجرات : 12 ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : < إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث > وقوله : { ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً } [ 12 ] ، دليل على حسن مثل هذا الظن الذي أمر الله به . وفي الصحيح قوله لعائشة : < ما أظن فلاناً وفلاناً يعرفان من ديننا شيئاً > ؟ فهذا يقتضي جواز بعض الظن ، كما احتج البخاري بذلك ، لكن مع العلم بما عليه المرء المسلم من الإيمان الرادع له عن فعل الفاحشة ، يجب أن يظن به الخير دون الشر . وفي الآية نهي عن تلقي مثل هذا باللسان ، ونهي عن قول الإنسان ما ليس له به علم ، لقوله تعالى : { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ الإسراء : 36 ] ، والله جعل في فعل الفاحشة والقذف من العقوبة ، ما لم يجعله في شيء من المعاصي . لأنه جعل فيه الرجم وقد رجم قوم لوط إذ كانوا هم أول من فعل فاحشة اللواط . وجعل العقوبة على القاذف بها ثمانين [ في المطبوع : ثماني ] جلدة ، والرمي بغيرها فيه الاجتهاد . ويجوز عند بعض العلماء أن يبلغ الثمانين ، كما قال عليّ : لا أوتي بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري . وكما قال عبد الرحمن بن عوف : إذا شرب هذى وإذا هذى افترى . وحد الشرب ثمانون ، وحد المفتري ثمانون . وقوله تعالى : { إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } [ 19 ] . وهذا ذم لمن يحب ذلك . وذلك يكون باللقب فقط ، ويكون مع ذلك باللسان والجوارح . وهو ذم لمن يتكلم بها أو يخبر بها . محبة لوقوعها في المؤمنين ، إما حسداً أو بغضاً ، أو محبة للفاحشة . فكل من أحب فعلها ، ذكرها . وكره العلماء الغزل من الشعر الذي يرغب فيها . وكذلك ذكرها غيبة محرم ، سواء كان بنظم أو نثر . وكذلك التشبيه بمن يفعلها ، منهي عنها مثل الأمر بها . فإن الفعل يطلب بالأمر تارة وبالإخبار تارة . فهذان الأمران للفجرة الزناة واللوطية ، مثل ذكر قصص الأنبياء والصالحين للمؤمنين . أولئك يعتبرون من الغيرة بهم ، وهؤلاء من الاغترار يعتبرون . فإن أهل الكفر والفسوق والعصيان يذكرون من فصص أشباههم ما يكون به لهم فيه قدوة . ومن ذلك قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } [ لقمان : 6 ] الآية . قيل : أراد الغناء . وقيل : أراد قصص ملوك الكفار . وبالجملة كل ما رغب النفوس في الطاعة ونهاها عن المعصية ، فهو من الطاعة . وما رغب في المعصية ونهى عن الطاعة ، فهو من المعصية ، فأما ذكر الفاحشة وأهلها بما يجب أو يستحب في الشريعة ، مثل النهي عنها وعنهم ، والذم لها ولهم وذكر أهلها مطلقاً حيث يسوغ ذلك في وجوههم ومغيبهم - فهذا حسن يجب تارة ويستحب أخرى . كما قص الله قصص المؤمنين والفجار ليعتبروا بالأمرين . وقد ذكر الله عن أنبيائه وعباده الصالحين ، من ذكر الفاحشة وعلائقها على وجه الذم ما فيه عبرة . فقال تعالى : { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ } [ النمل : 54 ] ، الخ . في مواضع ، وهذا فيه من التوبيخ ما فيه ، وليس من باب القذف واللمز . ثم توعدوه بإخراجه من القرية . وهذا حال أهل الفجور ، إذا كان بينهم من ينهاهم طلبوا إخراجه . وقد عاقب الله على الفاحشة اللوطية بما أرادوا أن يقصدوا به أهل التقوى . حيث أمر بنفي الزاني والمخنث . فمضت السنة ، بنفي هذا وهذا . وهو سبحانه وتعالى أخرج المتقين من بينهم عند نزول العذاب . وكذلك ما ذكره تعالى في قصة يوسف في قوله : { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ } [ يوسف : 23 ] ، إلى قوله : { فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ يوسف : 34 ] ، وما ذكره بعده من قول يوسف : { مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } [ يوسف : 50 ] ، وهذا من باب الاعتبار الذي يوجب النفور عن المعصية والتمسك بالتقوى . وكذلك ما بينه في آخرها بقوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } [ يوسف : 111 ] الآية ، ومع هذا ، فمن الناس من يحب سماعها لما فيه من ذكر العشق وما يتعلق به ، لمحبته لذلك ولرغبته في الفاحشة ، حتى إن منهم من يسمعها النساء لمحبتهم للسوء ، ولا يختارون أن يسمعوا ما في سورة النور من العقوبة والنهي عن ذلك . حتى قال بعض السلف : كل ما حصلته من سورة يوسف أنفقته في سورة النور . وقد قال تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً } [ الإسراء : 82 ] ، وقال : { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً } [ التوبة : 124 ] الآيات . فكل أحد يحب سماع ذلك لتحريك المحبة المذمومة ، ويبغض سماع ذلك إعراضا عن دفع هذه المحبة ، فهو مذموم ومن هذا ذكر أحوال الكفار والفجار وغير ذلك مما فيه ترغيب في المعصية وصدّ عن سبيل الله ، ومنه سماع كلام أهل البدع ، والنظر في كتبهم لمن يضره ذلك ، فهذا الباب تجتمع فيه الشبهات والشهوات . والله تعالى ذم هؤلاء في مثل قوله : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً } [ الأنعام : 112 ] ، وقوله : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } [ الشعراء : 224 ] . وقوله : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } [ الشعراء : 221 ] ، وما بعدها ، وقوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } [ لقمان : 6 ] ، وقوله : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ } [ 67 ] . وقوله : { وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } [ الأعراف : 146 ] ، وقوله : { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ } [ الأنعام : 116 ] ومثل هذا في القرآن كثير , فأهل المعاصي كثير في العالم , بل هم أكثر , كما قال تعالى : { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [ الأنعام : 116 ] [ في المطبوع : التوبة : 67 ] الآية ، وفي النفوس من الشبهات المذمومة والشهوات قولا وعملاً ما يعلمه إلا الله ، وأهلها يدعون الناس إليها ويقهرون من يعصيهم ، ويزينونها لمن يطيعهم . فهم أعداء الرسل وأندادهم . فالرسل يدعون إلى الطاعة بالرغبة والرهبة . ويجاهدونهم عليها . وينهون عن المعاصي ويحذرون منها بالرغبة والرهبة . ويجاهدون من يفعلها . قال تعالى : { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ } [ التوبة : 67 ] الآية ، ثم قال : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } [ التوبة : 71 ] الآية ، وقوله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ } [ النساء : 76 ] ، ومثل هذا في القرآن كثير والله سبحانه قد أمرنا بالأمر [ بالمعروف ] والنهي عن المنكر . والأمر بالشيء مسبوق بمعرفته ، فمن لا يعلم المعروف لا يمكنه الأمر بالمعروف . والنهي عن المنكر مسبوق بمعرفته ، فمن لا يعلمه لا يمكنه النهي عنه . وقد أوجب الله علينا فعل المعروف وترك المنكر . فإن حب الشيء وفعله ، وبغض ذلك وتركه لا يكون إلا بعد العلم بهما ، حتى يصح القصد إلى فعل المعروف وترك المنكر . فإن ذلك مسبوق بعلمه ، فمن لم يعلم الشيء لم يتصور منه حب له ولا بغض ، ولا فعل ولا ترك . لكن فعل الشيء والأمر به يقتضي أن يعلمه علماً مفصلاً يمكن معه فعله والأمر به إذا أمر به مفصلاً . ولهذا أوجب الله على الإنسان معرفة ما أمر به من الواجبات مثل صفة الصلاة والصيام والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فإذا أمر بأوصاف فلا بد من العلم بثبوتها . فكما أنّا لا نكون مطيعين إذا علمنا عدم الطاعة ، فلا نكون مطيعين إذا لم نعلم وجودها . بل الجهل بوجودها كالعلم بعدمها . وكل منهما معصية . فإن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في بيع الأموال الربوية . وأما معرفة ما يتركه وينهى عنه فقد يكتفي بمعرفته في بعض المواضع مجملاً . فإن الإنسان يحتاج إلى معرفة المنكر وإنكاره . وقد يحتاج إلى الحجج المبينة لذلك . وإلى الجواب عما يعارض به أصحابها ، و إلى دفع أهوائهم . وذلك يحتاج إلى إرادة جازمة وقدرة على ذلك . ولا يكون ذلك إلا بالصبر ، كما قال تعالى : { وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [ العصر : 1 - 3 ] ، وأول ذلك أن تذكر الأقوال والأفعال على وجه الذم لها والنهي عنها . وبيان ما فيها من الفساد . فإن الإنكار بالقلب واللسان ، قبل الإنكار باليد ، وهذه طريقة القرآن فيما يذكره تعالى عن الكفار والعصاة ، كما أن فيما يذكره أهل العلم والإيمان على وجه المدح والحب وبيان منفعته والترغيب فيه ، نحو قوله تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } [ 88 - 89 ] الآيات . وهذا كثير جداً . فالذي يحب أقوالهم وأفعالهم هو منهم . إما كافر إما فاجر . وليس منهم من هو بعكسه . ولكن لا يثاب على مجرد عدم ذلك . وإنما يثاب على قصده لترك ذلك وإرادته ، وذلك مسبوق بالعلم بقبح ذلك وبغضه لله . وهذا العلم والقصد والبغض هو من الإيمان الذي يثاب عليه ، وهو أدنى الإيمان ، كما قال صلى الله عليه وسلم : < من رأى منكم منكراً > إلى قوله : < وذلك أضعف الإيمان > وتغيير القلب يكون بالبغض لذلك وكراهته ، وذلك لا يكون إلا بعد العلم به وبقبحه . ثم بعد ذلك يكون الإنكار باللسان ثم يكون باليد . والنبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < وذلك أضعف الإيمان > فيمن رأى المنكر . فأما إذا رآه ولم يعلم أنه منكر . ولم يكرهه ، لم يكن هذا الإيمان موجوداً في القلب في حال وجوده ورؤيته ، بحيث يجب بغضه وكراهته ، والعلم بقبحه يوجب جهاد الكفار والمنافقين إذا وجدوا . وإذا لم يكن المنكر موجوداً لم يجب ذلك ويثاب من أنكره عند وجوده ، ولا يثاب من لم يوجد عنده حتى ينكره وكذلك ما يدخل في ذلك من الأقوال والأفعال والمنكرات ، قد يعرض عنها كثير من الناس ، إعراضهم عن جهاد الكفار والمنافقين . وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فهؤلاء وإن كانوا من المهاجرين الذين هجروا السيئات ، فليسوا من المجاهدين الذين يجاهدون في إزالتها . حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ، فتدبر هذا فإنه كثيراً ما يجتمع في كثير من الناس هذان الأمران : بغض الكفر وأهله ، وبغض الفجور وأهله ، وبغض نهيهم وجهادهم ، كما يحب المعروف وأهله ، ولا يحب أن يأمر به ، ولا يجاهد عليه بالنفس والمال . وقد قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] . وقال تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } [ التوبة : 24 ] الآية . قال : { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } [ المجادلة : 22 ] . وكثير من الناس ، بل أكثرهم ، كراهتهم للجهاد على المنكرات أعظم من كراهتهم للمنكرات ، ولا سيما إذا كثرت المنكرات وقويت فيها الشبهات والشهوات . فربما مالوا إليها تارة وعنها أخرى . فتكون نفس أحدهم لوامة بعد أن كانت أمارة . ثم إذا ارتقى إلى الحال الأعلى في هجر السيئات ، وصارت نفسه مطمئنة ، تاركاً للمنكرات والمكروهات ، لا تحب الجهاد ومصابرة العدوّ على ذلك ، واحتمال ما يؤذيه من الأقوال والأفعال فإن هذا شيء آخر داخل في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ } [ النساء : 77 ] , إلى قوله : { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً } [ النساء : 85 ] ، والشفاعة : الإعانة . إذ المعين قد صار شفيعاً للمعان . فكل من أعان على برّ أو تقوى كان له نصيب منه . ومن أعان على الإثم والعدوان كان له كفل منه . وهذا حال الناس فيما يفعلونه بقلوبهم وألسنتهم وأيديهم ، من الإعانة على البر والتقوى والإعانة على الإثم والعدوان ، ومن ذلك الجهاد بالنفس والمال على ذلك من الجانبين . كما قال تعالى قبل ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ } [ النساء : 71 ] ، إلى قوله : { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } [ النساء : 76 ] ، ومن هاهنا يظهر الفرق في السمع والبصر من الإيمان وآثاره والكفر وآثاره . والفرق بين المؤمن وبين الكافر الفاجر . فإن المؤمنين يسمعون إقبال أهل الإيمان فيشهدون رؤيتهم على وجه العلم والمعرفة والمحبة والتعظيم لهم ولأخبارهم وآثارهم ، كرؤية الصحابة النبيّ صلى الله عليه وسلم وسمعهم لما بلغهم عن الله . والكافر والمنافق يسمع ويرى على وجه البغض والجهل كما قال تعالى : { وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ } [ القلم : 51 ] الآية . وقال : { فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } [ محمد : 20 ] ، وقال : { مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ } [ هود : 20 ] ، وقال : { فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ } [ المائدة : 71 ] ، وقال تعالى في حق المؤمنين : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } [ الفرقان : 73 ] ، وقال في حق الكفار : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] ، والآيات في هذا كثيرة جدّاً . وكذلك النظر إلى زينة الدنيا فتنة . قال تعالى : { وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } [ 131 ] ، وفي آخر الحجر . وقوله : { فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ } [ التوبة : 55 ] ، وقال : قل للمؤمنين : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } [ 30 ] الآية ، وقال : { وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [ الكهف : 28 ] الآية ، وقال : { أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ } [ الغاشية : 17 ] الآيات ، وقال : { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ يونس : 101 ] الآية ، وقال : { أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } [ سبأ : 9 ] الآية . وكذلك قال الشيطان : { إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ } [ الأنفال : 48 ] ، وقال : { فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ } [ الشعراء : 61 ] الآيات . وقال : { إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً } [ الأنفال : 43 ] الآيات . فالنظر إلى متاع الدنيا على وجه المحبة والتعظيم لها ولأهلها ، منهي عنه . والنظر إلى المخلوقات العلوية والسفلية على وجه الاعتبار مأمور به . وأما رؤية ذلك عند الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لدفع شر أولئك ، فمأمور به . وكذلك رؤية الاعتبار شرعاً في الجملة . فالعين الواحدة ينظر إليها تارة نظراً مأموراً به . إما للاعتبار وإما لبغض ذلك . والنظر إليه لبغض الجهاد منهي عنه . وكذلك المولاة والمعاداة . وقد يحصل للعبد فتنة بنظر منهي عنه ، وهو يظن أنه نظرة عبرة . وقد يؤمر بالجهاد فيظن أن ذلك نظر فتنة ، كالذين قال الله فيهم : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي } [ التوبة : 49 ] فإنها نزلت في الجدّ بن قيس لما أمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتجهز لغزو الروم فقال : إني مغرم بالنساء وأخاف الفتنة بنساء الروم . فهذا ونحوه مما يكون باللسان من القول . وأما ما يكون من الفعل بالجوارح ، فكل عمل يتضمن محبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، داخل في هذا . بل يكون عذابه أشد . فإن الله قد توعد بالعذاب على مجرد المحبة . وهذه قد لا يقترن بها قول ولا فعل . فكيف إذا اقترن ؟ بل على الإنسان أن يبغض ما أبغضه الله تعالى من فعل الفاحشة والقذف بها وإشاعتها في الذين آمنوا . ومن رضي عمل قوم حشر معهم . كما حشرت امرأة لوط معهم . ولم تكن تفعل فاحشة اللواط . فإنه لا يقع من المرأة . ولكن لما رضيت فعلهم ، عَمَّها معهم العذاب . فمن هذا الباب قيل : من أعان على الفاحشة وإشاعتها ، مثل القواد . لما يحصل له من رياسة أو سؤدد أو سحت يأكله . وكذلك أهل الصناعات التي تنفق ، مثل المغنين وشربة [ في المطبوع : شرَبَهة ] الخمر وضمان الجهات السلطانية وغيرها ، فإنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا . فإنها إذا شاعت تمكنوا من أغراضهم من الرياسة والمال وفعل الفاحشة وتمكنوا من دفع من ينكرها ، بخلاف ما إذا كانت قليلة . ولا خلاف بين المسلمين أن ما يدعوا إلى معصية الله وينهى عن طاعته ، منهيّ عنه محرّم . كما قال تعالى : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ العنكبوت : 45 ] ، أي : ما فيها من ذكر الله وطاعته وامتثال أمره أكبر من ذلك . وقال في الخمر والميسر : { وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ } [ المائدة : 91 ] ، أي : يوقعكم ذلك في معصيته التي هي العداوة والبغضاء ، وهذا من أعظم المنكرات التي تنهى عنه الصلاة ، والخمر تدعو إلى الفحشاء والمنكر ، كما هو الواقع . فإن شارب الخمر تدعوه نفسه إلى الجماع حلالاً كان أو حراماً . فإن الله سبحانه لم يذكر الجماع ، لأن الخمر لا يدعو إلى الحرام بعينه من الجماع . والسكر يزيل العقل الذي يميز به بين الحلال والحرام . والعقل الصحيح ينهى عن مواقعة الحرام . ولهذا يكثر شارب الخمر من مواقعة الفواحش . ما لا يكثر من غيرها ، حتى ريما يقع على ابنته وابنه ومحارمه . وقد يستغني بالحلال إذا أمكنه . ويدعو شرب الخمر إلى أكل أموال الناس بالسرقة والمحاربة وغير ذلك . لأنه يحتاج إلى الخمر وما يستتبعه من مأكول وغير ذلك من فواحش وغناء . وشرب الخمر يظهر أسرار الرجال ، حتى يتكلم شاربه بما في باطنه وكثير من الناس إذا أرادوا استفهام ما في قلوب الرجال من الأسرار ، سقوهم الخمر ، وربما يشربون معهم ما لا يسكرون به . وأيضاً فالخمر تصدّ الإنسان عن علمه وتدبيره . فجميع الأمور التي تصد عنها وتوقعها من المفاسد داخل في قوله تعالى : { وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ } [ المائدة : 91 ] وكذلك إيقاع العداوة والبغضاء هو منتهى قصد الشيطان ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : < ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر > قالوا بلى يا رسول الله ؛ قال : < إصلاح ذات البين . فإن فساد ذات البين هي الحالقة . لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين > وقد ذكرنا في غير هذا أن الفواحش والظلم وغير ذلك من الذنوب يوقع العداوة والبغضاء وأن كل عداوة أو بغضاء فأصلها من المعصية والشيطان يأمر بالمعصية ليوقع فيما هو أعظم منها ولا يرضى إلا بغاية ما قدر على ذلك . وأيضاً فالعداوة والبغضاء شر محض ، لا يحبهما عاقل . بخلاف المعاصي فإن فيها لذة . والنفوس تريدها ، والشيطان يدعو إليها ، ليوقعها في شرّ لا تهواه . والله سبحانه قد بيّن ما يريد الشيطان بالخمر والميسر ، ولم يذكر ما يريده الإنسان . ثم قال في سورة النور : { لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [ 21 ] ، وكذلك في البقرة نهى عن اتباع خطواته ، وهو اتباع أمره بالاقتداء والاتباع . وأخبر أنه يأمر بالفحشاء والمنكر والسوء والقول على الله بلا [ في المطبوع : لا ] علم . وقال فيها : { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ } [ البقرة : 268 ] ، فذكر أن الشيطان يأمر بذلك وبعد هذا : { وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً } [ البقرة : 268 ] ، وقال : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحسان وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ } [ النحل : 90 ] ، وقال عن نبيّه : { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ } [ الأعراف : 157 ] الآية ، وقال عن أمته : { وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } [ آل عِمْرَان : 104 ] ، ذكر مثل ذلك في مواضع كثيرة فتارة يخص اسم المنكر بالنهي ، وتارة يقرنه بالفحشاء ، وتارة يقرن معهما البغي . وكذلك المعروف ، تارة يخصه بالأمر ، وتارة يقرن به غيره . كقوله تعالى : { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } [ النساء : 114 ] الآية ، وذلك أن الأسماء قد يكون عمومها وخصوصها بحسب الإفراد والتركيب . كلفظ الفقير والمسكين . إذا عرف هذا فاسم المنكر يعمّ كل ما كرهه الله ونهى عنه . واسم المعروف يعم كل ما يحبه الله ويرضاه . وإذا قرن المنكر بالفحشاء ، فالفحشاء مبناها على المحبة . والمنكر هو الذي تنكره القلوب . فقد يظن أن ما في الفاحشة من المحبة يخرجها عن الدخول فيه . فإن الفاحشة وإن كانت مما تنكره القلوب فإنها تشتهيها النفوس . وكذلك البغي ، قرن بها لأنه أبعد عن محبة النفوس . ولهذا كان جنس عذاب صاحبه أعظم من جنس عذاب صاحب الفحشاء . ومنشؤه من قوة الغضب . ولكل من النفوس لذة بحصول مطلوبها . فالفواحش والبغي مقرونان بالمنكر . وأما الإشراك والقول على الله بلا علم ، فإنه منكر محض . ليس في النفوس ميل إليهما . بل إنما يكونان عن عناد وظلم . فهما منكر محض بالفطرة : { وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [ 21 ] ، سواء كان الضمير عائداً إلى الشيطان أو إلى المتّبع . فإن من أتى ذلك ، فإن كان الشيطان أمره فهو متبعه عابد له . وإن كان الآتي هو الآمر . فالأمر بالفعل أبلغ من فعله . فمن أمر بها غيره رضيها لنفسه .
ومن الفحشاء والمنكر استماع العبد مزامير الشيطان . والمغني هو مؤذنه الذي يدعو إلى طاعته فإن الغناء رقية الزنى . وكذلك من اتباع خطوات الشيطان ، القول على الله بلا علم . كحال أهل البدع والفجور وكثير ممن يستحل مؤاخاة النساء والمرد وإحضارهم في سماع الغناء ودعوى محبة صورهم لله وغير ذلك ، مما فتن به كثير من الناس فصاروا ضالين مضلين . ثم إنه سبحانه نهى المظلوم بالقذف ، أن يمنع ما ينبغي فعله من الإحسان إلى القرابة والمساكين وأهل التوبة . وأمره بالعفو . فإنه كما يحب أن يغفر له فليغفر ، ولا ريب أن صلة الأرحام واجبة ، وإيتاء المساكين واجب ، ومعونة المهاجرين واجبة ، فلا يجوز ترك ما يجب من الإحسان إلى للإنسان بمجرد ظلمه : كما لا يمنع ميراثه وحقه من الصدقات والفيء ، بمجرد ذنب من الذنوب وقد يمنع من ذلك لبعض الذنوب .
وفي الآية دليل على وجوب الصلة والنفقة وغيرها لذوي الأرحام الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب .
فإنه قد ثبت في الصحيح عن عائشة في قصة الإفك ، أن أبا بكر الصديق حلف ألا ينفق على مسطح بن أثاثة ، وكان أحد الخائضين في الإفك في شأن عائشة . وكانت أم مسطح بنت خالة أبي بكر . وقد جعله الله من ذوي القربى الذين نهى عن ترك إيتائهم . والنهي يقتضي التحريم . فإذا لم يجز الحلف على ترك الفعل ، كان الفعل واجباً ، لأن الحلف على ترك الجائز جائز . انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .
الرابع : قال الزمخشري : لو فليت القرآن كله وفتشت عما أعد به العصاة ، لم تر الله تعالى قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة ، رضوان الله عليها ، ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد والعتاب البليغ والزجر العنيف واستعظام ما ركب من ذلك واستفظاع ما أقدم عليه - ما أنزل فيه ، على طرق مختلفة وأساليب مفتنّة . كل واحد منها كان في بابه ولم ينزل إلا هذه الثلاث يعني قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ } [ 23 ] ، إلى قوله تعالى : { هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } [ 25 ] لكفى بها . حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعاً . وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة . وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا . وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله ، حتى يعلموا عند ذلك ، أن الله هو الحق المبين . فأوجز في ذلك وأشبع وفصّل وأجمل وأكد وكرر ، بما لم يقع في وعيد المشركين ، عَبْدة الأوثان ، إلا ما هو دونه في الفظاعة . وما ذلك إلا لأمر . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان بالبصرة يوم عرفة . وكان يسأل عن تفسير القرآن . حتى سأل عن هذه الآيات فقال : من أذنب ذنباً ثم تاب قبلت توبته ، إلا من خاض في أمر عائشة ، وهذه منه مبالغة وتعظيم لأمر الإفك . ولقد برأ الله تعالى أربعة بأربعة : برأ يوسف بلسان الشاهد : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا } [ يوسف : 26 ] ، وبرأ موسى من قول اليهود فيه ، بالحجر الذي ذهب بثوبه . وبرأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى في حجرها : { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ } [ 30 ] ، وبرأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلوّ على وجه الدهر ، مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات . فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك ؟ وما ذاك إلا لإظهار علوّ منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتنبيه على إنافة محل سيد ولد أدم وخيرة الأولين والآخرين وحجة الله على العالمين .
ومن أراد أن يتحقق عظمة شأنه صلى الله عليه وسلم وتقدم قدمه وإحرازه لقصب السبق دون كل سابق فَلْيَتَلَقَّ ذلك من آيات الإفك . وليتأمل كيف غضب الله له في حرمته , وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه .
فإن قلت : إن كانت عائشة هي المرادة ، فكيف قيل : المحصنات ؟ قلت : فيه وجهان :
أحدهما : أن يراد بالمحصنات أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم وأن يخصصن بأن من قذفهن ، فهذا الوعيد لا حق به . وإذا أردن عائشة كبراهن منزلة وقربة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانت المرادة أولاً .
والثاني : أنها أم المؤمنين ، فَجُمِعَتْ . إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة الموصوفات بالإحصان والغفلة والإيمان انتهى .
قال الناصر : والأظهر أن المراد عموم المحصنات والمقصود بذكرهن على العموم ، وعيد من وقع في عائشة ، على أبلغ الوجوه ، لأنه إذا كان هذا وعيد قاذف آحاد المؤمنات ، فما الظن بوعيد من قذف سيدتهن وزوج سيد البشر صلى الله عليه وسلم ؟ على أن تعميم الوعيد أبلغ وأفظع من تخصيصه . هذا ومعنى قول زليخا : { مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ يوسف : 25 ] ، فعممت أرادت يوسف ، تهويلاً عليه وإرجافاً . والمعصوم من عصمه الله تعالى . انتهى .
الخامس : قال الإمام ابن تيمية في " منهاج السنة " ذهب كثير من أهل السنة إلى أن عائشة رضي الله عنها أفضل نسائه عليه الصلاة والسلام واحتجوا بما في الصحيحين عن أبي موسى وعن أنس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام > . والثريد هو أفضل الأطعمة ، لأنه خبز ولحم . كما قال الشاعر :
~إذا ما الخبز تأدِمُهُ بلحمٍ فذاكَ أمانة الله الثَّريدُ
وذلك أن البُر أفضل الأقوات . واللحم أفضل الإدام ، كما في الحديث الذي رواه ابن قتيبة وغيره . عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : < سيد إدام أهل الدنيا والآخرة اللحم > فإذا كان اللحم سيد الإدام ، والبر سيد الأقوات ، ومجموعهما الثريد ، كان الثريد أفضل الطعام .
وقد صح من غير وجه عن الصادق المصدوق أنه قال : < فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام > وفي الصحيح عن عَمْرو بن العاص قال : قلت : يا رسول الله ! أي : النساء أحب إليك ؟ قال : < عائشة > قلت : ومن الرجال ؟ قال : < أبوها > قلت : ثم من ؟ قال : < عمر , وسمى رجالاً > . وهؤلاء يقولون : قوله صلى الله عليه وسلم لخديجة : < ما أبدلني الله خيراً منها > : إن صح معناه ما أبدلني خيراً لي منها : فإن خديجة نفعته في أول الإسلام نفعاً لم يقم غيرها فيه مقامها . فكانت خيراَ له من هذا الوجه لكونها نفعته وقت الحاجة, وعائشة صحبته في آخر النبوة وكمال الدين . فحصل لها من العلم والإيمان ما لم يحصل لمن لم يدرك إلا أول النبوة . فكانت أفضل لهذه الزيادة فإن الأمة انتفعت بها أكثر مما انتفعت بغيرها ، وبلغت من العلم والسن ما لم يبلغه غيرها فخديجة كان خيرها مقصوراً على نفس النبيّ صلى الله عليه وسلم لم تبلغ عنه شيئاً ، ولم تنتفع بها الأمة كما انتفعوا بعائشة ، ولأن الدين لم يكن قد كمل حتى تعلمه ، ويحصل لها من كمالاته ما حصل لمن علم وآمن به بعد كماله ، ومعلوم أن من اجتمع همه على شيء واحد ، كان أبلغ فيه ممن تفرق همه في أعمال متنوعة . فخديجة رضي الله تعالى عنها خير له من هذا الوجه . لكن أنواع البر لم تحصر في ذلك . ألا ترى أن من كان من الصحابة أعظم إيماناً ، وأكثر جهاداً بنفسه وماله . كحمزة وعلي وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير وغيرهم ، هم أفضل من كان يخدم النبي ّ صلى الله عليه وسلم وينفعه في نفسه أكثر منهم . كأبي رافع وأنس بن مالك وغيرهما . وفي الجملة ، الكلام في تفضيل عائشة وخديجة ليس هذا موضع استقصائه . لكن المقصود هنا أن أهل السنة مجمعون على تعظيم عائشة ومحبتها ، وإن نساؤه صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين اللواتي مات عنهن ، كانت عائشة أحبهن إليه وأعظمهن حرمة عند المسلمين . وقد ثبت في الصحيح أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة ، لما يعلمون من محبته إياها . حتى أن نساؤه غرن من ذلك . وأرسلن إليه فاطمة رضي الله عنها تقول له : نساؤك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة : فقال لفاطمة : < أي : بنية أما تحبين ما أحب > ؟ قالت : بلى . قال : < فأحبي هذه > ، الحديث في الصحيحين وفي الصحيحين أيضاً أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < يا عائشة ! هذا جبريل يقرأ عليك السلام > قالت : وعليه السلام ورحمة الله . ترى ما لا نرى . ووهبت سودة بنت زَمْعَة يومها لعائشة رضي الله عنهما ، بإذنه صلى الله عليه وسلم . وكان في مرضه الذي مات فيه يقول : < أين أنا اليوم > ؟ استبطاء ليوم عائشة . ثم استأذن نساءه أن يمرّض في بيت عائشة رضي الله عنها ، فمرض فيه . وفي بيتها توفي بين سحرها ونحرها وفي حجرها . وكانت رضي الله عنها مباركة على أمته . حتى قال أسيد بن حضير ، لما أنزل الله آية التيمم بسببها : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر . ما نزل بك أمر قط تكرهينه إلا جعل الله فيه للمسلمين بركة . وقد كانت نزلت آية براءتها قبل ذلك ، لما رماها أهل الإفك . فبرأها الله من فوق سبع سموات ، وجعلها من الصيّنات . وبالله التوفيق . انتهى .
وأغرب الإمام ابن حزم ، فذهب إلى أن أفضل الناس بعد الأنبياء ، نساؤه صلى الله عليه وسلم . معلوم أن عائشة فضلاهن ، وقد أسهب في ذلك في كتابه " الملل " فارجع إليه .
السادس : قال القاشاني رحمه الله تعالى : إنما عظم تعالى أمر الإفك وغلظ في الوعيد عليه ، بما لم يغلظ في غيره من المعاصي ، وبالغ في العقاب عليه بما لم يبالغ به في باب الزنى وقتل النفس المحرمة ، لأن عظم الرذيلة وكبر المعصية ، إنما يكون على حسب القوة التي هي مصدرها . وتتفاوت حال الرذائل في حجب صاحبها عن الحضرة الإلهية والأنوار القدسية ، وتوريطه في المهالك الهيولانية ، والمهاوي الظلمانية ، على حسب تفاوت مبادئها ، فكلما كانت القوة التي هي مصدرها ومبدؤها أشرف . كانت الرذيلة الصادرة منها أردأ . وبالعكس لأن الرذيلة ما قابل الفضيلة . فلما كانت الفضيلة أشرف ، كان ما يقابلها من الرذيلة أخسّ ، والإفك رذيلة القوة الغضبية . فبحسب شرف الأولى على الباقيتين ، تزداد رداءة رذيلتها .
وذلك أن الإنسان إنما يكون بالأولى إنساناً ، وترقيه إلى العالم العلويّ ، وتوجهه إلى الجانب الإلهي وتحصيله للمعارف والكمالات ، واكتسابه للخيرات والسعادت - إنما يكون بها . فإذا فسدت بغلبة الشيطنة عليها ، واحتجبت عن النور باستيلاء الظلمة ، حصلت الشقاوة العظمى ، وحقت العقوبة بالنار . وهو الرين والحجاب الكلي .
ألا ترى أن الشيطنة المغوية للآدمي أبعد عن الحضرة الآلهية ، من السبعية والبهيمية ؟ وأبعد بما لا يقدر قدره ، فالإنسان برسوخ رذيلته النطفية يصير شيطاناً ، وبرسوخ الرذيلتين الأخريين ، يصير حيواناً كالبهيمة أو السبع ، وكل حيوان أرجى صلاحاً ، وأقرب فلاحاً من الشيطان . ولهذا قال تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [ الشعراء : 221 - 222 ] ، ونهى هاهنا عن اتباع خطوات الشيطان . فإن ارتكاب مثل هذه الفواحش لا يكون إلا بمتابعته ومطاوعته ، وصاحبه يكون من جنوده وأتباعه ، فيكون أخس منه وأذل ، محروماً من فضل الله الذي هو نور هدايته ، محجوباً من رحمته التي هي إفاضة كمال وسعادة ، ملعوناً في الدنيا والآخرة ، ممقوتاً من الله والملائكة . تشهد عليه جوارحه بتبدّل صورها وتشوّه منظرها . خبيث الذات والنفس . متورطاً في الرجس . فإن مثل هذه الخبائث لا تصدر إلا من الخبيثين . كما قال تعالى : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ } وأما الطيبون المنزهون عن الرذائل ، فإنما تصدر عنهم الطيبات والفضائل . انتهى .
السابع : في سر قَرْن الزنى بالشرك في قوله تعالى : { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } [ 3 ] ، وتحقيق القول في الآية . قال الإمام ابن القيم رحمه الله في " إغاثة اللهفان " : نجاسة الزنى واللواطة أغلظ من غيرها من النجاسات . من جهة أنها تفسد القلب وتضعف توحيده جدّاً . ولهذا أحظى الناس بهذه النجاسة ، أكثرهم شركاً . فكلما كان الشرك في العبد أغلب . كانت هذه النجاسة والخبائث فيه أكثر ، وكلما كان أعظم إخلاصاً ، كان منها أبعد ، كما قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : 24 ] ، فإن عشق الصور المحرمة نوع تعبّد لها . بل هو من أعلى أنواع التعبّد . ولا سيما إذ استولى على القلب وتمكن منه ، صار تتيّماً . والتتيّم التعبد . فيصير العاشق عابداً لمعشوقه . وكثيراً ما يغلب حبه وذكره والشوق إليه والسعي في مرضاته وإيثار محابّه ، على حب الله وذكره والسعي في مرضاته ، بل كثيراً ما يذهب ذلك من قلب العاشق بالكلية ويصير متعلقاً بمعشوقه من الصور . كما هو مشاهد فيصير المعشوق هو إلهه من دون الله عزَّ وجلَّ . يقدم رضاه وحبه على رضا الله وحبه . ويتقرب إليه ما لا يتقرب إلى الله . وينفق في مرضاته ما لا ينفقه في مرضاة الله . ويتجنب سخطه ما لا يتجنب من سخط الله تعالى . فيصير آثر عنده من ربه حبّاً وخضوعاً وذلّاً وسمعاً وطاعةً ، ولهذا كان العشق والشرك متلازمين ، وإِنما حكى الله سبحانه العشق عن المشركين من قوم لوط ، وعن امرأة العزيز ، وكانت إذ ذاك مشركة ، فكلما قوي شرك العبد بُلي بعشق الصور وكلما قوي توحيده صرف ذلك عنه . والزنى واللواطة كمال لذته ، إما يكون من العشق . ولا يخلو صاحبهما منه . وإنما لتنقله من محل إلى محل ، لا يبقى عشقه مقصوراً على محل واحد . بل ينقسم على سهام كثيرة لكل محبوب نصيب من تألهه وتعبده . فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين . ولهما خاصية في تبعيد القلب من الله ، فإنهما من أعظم الخبائث فإذا انصبغ القلب بهما بعد ممن هو طيب لا يصعد إليه إلا طيب . وكلما ازداد خبثاً ازداد من الله بعداً . ولهذا قال المسيح ، فيما رواه الإمام أحمد في " كتاب الزهد " لا يكون البطالون من الحكماء . ولا يلج الزناة ملكوت السماء . ولما كانت هذه حال الزنى كان قريباً للشرك في كتاب الله تعالى . قال الله تعالى : { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [ 3 ] . والصواب القول بأن هذه الآية محكمة . يعمل بها لم ينسخها شيء . وهي مشتملة على خبر وتحريم . ولم يأت من ادعى نسخها بحجة البتة . والذي أشكل منها على كثير من الناس ، واضحٌ بحمد الله تعالى . فإنهم أشكل عليهم قوله : { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } [ 3 ] ، هل هو خبر أو نهي أو إباحة ؟ فإن كان خبراً فقد رأينا كثيراً من الزناة ينكح عفيفة . وإن كان نهياً فيكون قد نهى الزاني أن يتزوج إلا بزانية أو مشركة , فيكون نهياً له عن نكاح المؤمنات العفائف . وإباحة له نكاح المشركات والزواني ، والله سبحانه لم يرد ذلك قطعاً . فلما أشكل عليهم ذلك وطلبوا للآية وجهاً يصح حملها عليه . فقال بعضهم : المراد من النكاح الوطء والزنى . فكأنه قال : الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة . وهذا فاسد . فإنه لا فائدة فيه . ويصان كلام الله تعالى عن حمله على مثل ذلك . فإنه من المعلوم أن الزاني لا يزني إلا بزانية . فأي فائدة في الإخبار بذلك . ولما رأى الجمهور فساد هذا التأويل أعرضوا عنه ، ثم قالت طائفة : هذا عام اللفظ خاص المعنى . والمراد به رجل واحد وامرأة واحدة . وهي عناق وصاحبها ، فإنه أسلم واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاحها فنزلت هذه الآية .
وهذا أيضاً فاسد . فإن هذه الصورة المعينة ، وإن كانت سبب النزول ، فالقرآن لا يقتصر به على محالّ أسبابه . ولو كان كذلك لبطل الاستدلال به على غيرها . وقالت طائفة : بل الآية منسوخة بقوله : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } [ 32 ] ، وهذا أفسد من الكل . فإنه لا تعارض بين هاتين الآيتين . ولا تناقض إحدى الأخرى . بل أمر سبحانه بإنكاح الأيامى ، وحرم نكاح الزانية ، كما حرم نكاح المعتدة والمحرمة وذوات المحارم . فأين الناسخ والمنسوخ في هذا ؟ فإن قيل : فما وجه الآية ؟ قيل : وجهها ، والله أعلم . أن المتزوج أمر أن يتزوج المحصنة العفيفة ، وإنما أبيح له نكاح المرأة بهذا الشرط . كما ذكر ذلك سبحانه في سورتي النساء والمائدة . والحكم المعلق على الشرط ينتفي عند انتفائه . والإباحة قد علقت على شرط الإحصان ، فإذا انتفى الإحصان انتفت الإباحة المشروطة به . فالمتزوج إما أن يلتزم حكم الله وشرعه الذي شرعه على لسان رسوله ، أو لا يلتزمه . فإن لم يلتزمه فهو مشرك لا يرضى بنكاحه إلا من هو مشرك مثله ، وإن التزمه وخالفه ، ونكح ما حرم عليه ، لم يصح إنكاح . فيكون زانياً ، فظهر معنى قوله : { لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } وتبين غاية البيان . وكذلك حكم المرأة . وكما أن هذا الحكم هو موجب القرآن وصريحه ، فهو موجب الفطرة ومقتضى العقل . فإن الله سبحانه حرم على عبده أن يكون قرناناً ديوثاً زوج بغي . فإن الله تعالى فطر الناس على استقباح ذلك واستهجانه . ولهذا إذا بالغوا في سبّ الرجل قالوا : زوج قحبة , فحرم الله على المسلم أن يكون كذلك . فظهرت حكمة التحريم وبان معنى الآية . والله الموفق .
ومما يوضح التحريم ، وأنه هو الذي يليق بهذه الشريعة الكاملة ، أن هذه الجناية من المرأة تعود بفساد فراش الزوج ، وفساد النسب الذي جعله الله تعالى بين الناس لتمام مصالحهم . وعدّوه من جملة نعمه عليهم ، فالزني يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب . فمن محاسن الشريعة تحريم نكاح الزانية حتى تتوب وتستبرأ . وأيضاً ، فإن الزانية خبيثة ، كما تقدم بيانه والله سبحانه جعل النكاح سبباً للمودة والرحمة ، والمودة خالص الحب ، فكيف تكون الخبيثة مودودة للطيب ، زوجاً له ؟ والزوج سمي زوجاً من الازدواج فالزوجان ، الاثنان المتشابهان والمنافرة ثابتة بين الطيب والخبيث شرعاً وقدراً . فلا يحصل معها الازدواج والتراحم والتوادّ . فلقد أحسن كل الإحسان من ذهب إلى هذا المذهب ، ومنع الرجل أن يكون زوج قحبة . فأين هذا من قول من جوز أن يتزوجها ويطأها الليلة ، وقد وطئها الزاني البارحة ؟ وقال : ماء الزاني لا حرمة له . فهب أن الأمر كذلك ، فماء الزوج له حرمة فكيف يجوز اجتماعه مع ماء الزاني في رحم واحد ، والمقصود أن الله سبحانه سمى الزواني والزناة خبيثين وخبيثات . وجنس هذا الفعل قد شرعت فيه الطهارة ، وإن كان حلالاً . وسمي فاعله جنباً لبعده عن قراءة القرآن وعن الصلاة وعن المساجد . فمنع من ذلك كله حتى يتطهر بالماء . فكذلك إذا كان حراماً يبعد القلب عن الله تعالى وعن الدار الآخرة . بل يحول بينه وبين الإيمان ، حتى يحدث طهراً . كاملاً بالتوبة . وطهراً لبدنه بالماء . وقولُ اللوطية : { أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } [ الأعراف : 82 ] ، من جنس قوله سبحانه في أصحاب الأخدود : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ البروج : 8 ] ، وقوله سبحانه : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ } [ المائدة : 59 ] ، وهكذا المشرك إنما ينقم على الموحد تجريده للتوحيد ، وأنه لا يشوبه بالإشراك ، وهكذا المبتدع إنما ينقم على السنّي تجريده متابعة الرسول وأنه لم يَشُبْها بآراء الرجال ولا بشيء مما خالفها ، فصبر الموحد المتبع للرسول ، على ما ينقمه عليه أهل الشرك والبدعة ، خير له وأنفع ، وأسهل عليه ، من صبره على ما ينقمه الله ورسوله ، عليه من موافقة أهل الشرك والبدعة .
~إذا لَمْ يَكُنْ بدٌّ من الصبرِ ، فاصْطَبِرْ على الحقِّ . ذاكَ الصبرُ تُحْمَدُ عُقْبَاهُ
لطيفة :
كتب ابن القاضي شرف الدين ابن المقري ، صاحب " الروض " إلى أبيه ، وقد قطع نفقته :
~لا تقطعنْ عادةَ بَرٍّ ، ولا تجعلْ عتابَ المرءِ في رزقِهِ
~فإن أمرَ الإفكِ مِنْ مِسْطح يحط قدر النَّجْم من أُفْقِه
~وقد جَرى منه الذي قد جَرى وعُوتِبَ الصدّيق في حقِّهِ
فأجابه أبوه شرف الدين بقوله :
~قَدْ يُمْنَعُ المُضْطَرُّ مِنْ مَيْتَةٍ إِذا عَصَى بالسَّيْرِ في طُرْقِهِ
~لأنه يَقْوَى عَلَى تَوْبةٍ تُوْجِبُ إِيصالاً إِلى رزقِهِ
~لَوْ لَمْ يَتُبْ مِنْ ذَنبه مِسْطَحٌ ما عُوتِبُ الصِّديقُ في حقِّهِ
ولما فضّل تعالى الزواجر عن الزنى ، وعن رمي العفائف عنه . بيّن من الزواجر ما عسى يؤدي إلى أحدهما . وذلك في مخالطة الرجال بالنساء ، ودخولهم عليهن ، وفي أوقات الخلوات ، وفي تعليم الآداب الجميلة ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ 27 - 28 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا } أي : تستعلموا وتستكشفوا الحال . هل يراد دخولكم أم لا ؟ من الاستئناس وهو الاستعلام . من آنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً . أو المعنى : حتى يؤذن لكم فتستأنسوا . من الاستئناس الذي هو خلاف الاستيحاش . لما أن المستأذن مستوحش من خفاء الحال عليه ، فيكون عبر بالشيء عما هو لازم له ، مجازاً أو استعارة . وجوّز أن يكون من الإنس والمعنى : حتى تعلموا هل فيها إنسان ؟ { وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } أي : ليؤمنهم عما يوحشهم : { ذَلِكُمْ } أي : الاستئذان والتسليم : { خَيْرٌ لَكُمْ } أي : من الدخول بغتة : { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي : فتتعظوا وتعملوا بموجبه .
{ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً } أي : من الآذنين : { فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ } أي : واصبروا حتى تجدوا من يأذن لكم . ويحتمل : فإن لم تجدوا فيها أحداً من أهلها ، ولكم فيها حاجة ، فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها .
قال الزمخشري : وذلك لأن الاستئذان لم يشرع لئلا يطلع الداخل على عورة ، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط ، وإنما شرع لئلا يوقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم ، ويتحفظون من اطلاع أحد عليها ، ولأنه تصرف في ملك غيرك . فلا بد من أن يكون برضاه ، وإلا أشبه الغصب والتغلب . انتهى .
{ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا } أي : إن أمرتم من جهة أهل البيت بالرجوع ، سواء كان الأمر ممن يملك الإذن أو لا , كالنساء والولدان ، فارجعوا ولا تلحوا بتكرير الاستئذان ، لأن هذا مما يجلب الكراهة في قلوب الناس ، ولذا قال تعالى : { هُوَ } أي : الرجوع : { أَزْكَى لَكُمْ } أي : أطهر مما لا يخلوا عنه الإلحاح والوقوف على الأبواب ، من دنس الدناءة . وأنمى لمحبتكم .
قال الزمخشري : وإذا نهى عن ذلك لأدائه إلى الكراهة ، وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إليها من قرع الباب بعنف ، والتصييح بصاحب الدار ، وغير ذلك مما يدخل في عادات من لم يتهذب من أكثر الناس .
لطيفة :
قال ابن كثير : قال قتادة : قال بعض المهاجرين : لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها : أن أستأذن على بعض إخواني ، فيقول لي : ارجع . فأرجع وأنا مغتبط . انتهى { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } أي : فيجزيكم على نيتكم الحسنة ، في الزيارة ، أو المكر والخيانة بأهل المزور أو ماله .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآية وجوب الاستئذان عند دخول بيت الغير ، ووجوب الرجوع إذا لم يؤذن له ، وتحريم الدخول إذا لم يكن فيها أحد . ويستفاد من هذا تحريم دخول ملك الغير ، والكَوْن فيه ، وشغله بغير إذن صاحبه فيدخل تحته من المسائل والفروع ما لا يحصى . واستدل بالآية الأكثر على الجمع بين الاستئذان والسلام . والأقلُّ على تقديم الاستئذان على السلام بتقديمه في الآية . وأجاب الأكثرون ، بأن الواو لا تفيد ترتيباً ، واستدل بها من قال : له الزيادة في الاستئذان على ثلاث ، حتى يؤذن له أو يصرح بالمنع ، وفهم من الآية أن الرجل لا يستأذن عند دخول بيته على امرأته . انتهى .
وقال ابن كثير : ليعلم أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل ألا يقف تلقاء الباب بوجهه ، ولكن ليكن الباب عن يمينه أو يساره ، وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : < لو أن امرأً اطلع عليك بغير إذن ، فحذقته بحصاة ، ففقأت عينه ، ما كان عليك من جناح > وأخرج الجماعة عن جابر قال : أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي . فدققت الباب ، فقال : < من ذا > فقلت : أنا قال : < أنا ، أنا > كأنه كرهه . وإنما كرهه ، لأن هذه اللفظة لا يعرف صاحبها ، حتى يفصح باسمه أو كنيته التي هو مشهور بها . وإلا فكل أحد يعبر عن نفسه بأنا فلا يحصل به المقصود الاستئذان ، الذي هو الاستئناس المأمور به في الآية . وعن ابن مسعود قال : عليكم الإذن على أمهاتكم . وعن طاوس قال : ما من امرأة أكره إليّ أن أرى عورتها من ذات محرم . وكان يشدد النكير في ذلك . وقال ابن جريج : قلت لعطاء : أيستأذن الرجل على امرأته ؟ قال : لا . قال ابن كثير : وهذا محمول على عدم الوجوب ، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ، ولا يفاجئها به ، لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها . وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة ، فانتهى إلى الباب ، تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه . ولهذا جاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقاً .
ثم بيّن تعالى ما رخص فيه عدم الاستئذان ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } [ 29 ] .
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا } أي : بغير استئذان : { بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } أي : غير معدة لسكنى طائفة مخصوصة ، بل ليتمتع بها كائناً من كان ، كالخانات والحمامات وبيوت الضيافات : { فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ } أي : منفعة وحاجة : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } وعيد لمن يدخل مدخلاً من هذه المداخل ، لفسادٍ أو اطلاع على عورات . أفاده أبو السعود .
ثم أرشد سبحانه إلى آداب عظيمة تتناول المستأذنين عند دخولهم وغيرهم ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } [ 30 ] .
{ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } أي : مقتضى إيمانكم الغض عما حرم الله تعالى النظر إليه : { وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } أي : عن الإفضاء بها إلى محرم ، أو عن الإبداء والكشف : { ذَلِكَ } أي : الغض والحفظ : { أَزْكَى لَهُمْ } أي : أطهر للنفس وأتقى للدين : { إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } أي : بأفعالهم وأحوالهم . وكيف يجيلون أبصارهم ، وكيف يصنعون بسائر حواسهم وجوارحهم . فعليهم ، إذ عرفوا ذلك ، أن يكونوا منه على تقوى وحذر ، في كل حركة وسكون . أفاده الزمخشري .
تنبيهات :
الأول : قال السيوطي في " الإكليل " : في الآية تحريم النظر إلى النساء وعورات الرجال وتحريم كشفها . أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية : كل شيء في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنى ، إلا هذه الآية والتي بعدها ، فهو أن لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ، ولا المرأة إلى عورة المرأة . انتهى .
وليس بمتعيّن . وعليه فيكون النهي عن الزنى يعلم منه بطريق الأولى . أو الحفظ عن الإبداء يستلزم الحفظ عن الإفضاء .
الثاني : إن قيل : لِمَ أتى بمن التبعيضية في غض الأبصار وقيدها به دون حفظ الفروج ؟ مع أنه غير مطلق ومقيد في قوله تعالى : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [ 5 - 6 ] ، لأن المستثنى في الحفظ هو الأزواج والسراري ، وهو قليل بالنسبة لما عداه . فجعل كالعدم ولم يقيد به . مع أنه معلوم من الآية الأخرى . بخلاف ما يطلق فيه البصر ، فإنه يباح في أكثر الأشياء ، إلا نظر ما حرم عن قصد . فقيّد الغض به ومدخول من التبعيضية ينبغي أن يكون أقل من الباقي . وقيل : إن الغض والحفظ عن الأجانب . وبعض الغض ممنوع بالنسبة إليهم ، وبعضه جائز : بخلاف الحفظ فلا وجه لدخول من فيه . كذا في " العناية " .
الثالث : سر تقديم عض الأبصار على حفظ الفروج ، هو أن النظر بريد الزنى ورائد الفجور ، كما قال الحماسي :
~وكنتَ إذا أرسلت طَرْفَكَ رَائِداً لقلبك يوماًَ ، أتْعَبَتْكَ الْمَنَاظِرُ
ولأن البلوى فيه أشد وأكثر . ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه . فبودر إلى منعه . ولأنه يتقدم الفجور في الواقع ، فجعل النظم على وفقه .
الرابع : غض البصر من أجل الأدوية لعلاج أمراض القلوب . وفيه حسم لمادتها قبل حصولها . فإن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس . ومن أطلق لحظاته ، دامت حسراته .
~كلّ الحوادث مبداها من النظرِ ومعظمُ النَّارِ من مستصغَرِ الشّرَرِ
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في " الجواب الشافي " : في غض البصر عدة منافع :
أحدها : امتثال أمر الله هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده . وليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامر ربه تبارك و تعالى . وما سعد من سعد في الدنيا والآخرة . إلا بامتثال أوامر ربه . وما شقي من شقي في الدنيا والآخرة إلا بتضييع أوامره .
الثاني : أنه يمنع من وصول أثر السهم المسموم الذي لعل فيه هلاكه ، إلى قلبه .
الثالث : أنه يورث القلب أنساً بالله وجمعيّة على الله ، فإن إطلاق البصر يفرّق القلب ويشتته ويبعده من الله ، وليس على العبد شيء أضر من إلى إطلاق البصر . فإنه يوقع الوحشة بين العبد وبين ربه .
الرابع : أنه يقوي القلب ويفرحه . كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه .
الخامس : أنه يكسب القلب نوراً . كما أن إطلاقه يكسبه ظلمة ، ولهذا ذكر سبحانه آية النور عقيب الأمر بغض البصر . فقال : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } [ 30 ] ، ثم قال إثر ذلك : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ 35 ] . أي : مثل نوره في قلب عبده المؤمن ، الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه . وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل جانب ، كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان . فما شئت من بدعة وضلالة ، واتباع هوى واجتناب هدى ، وإعراضٍ عن أسباب السعادة ، واشتغال بأسباب الشقاوة . فإن ذلك إنما يكشفه له النور الذي في القلب . فإذا فقد ذلك النور بقي صاحبه كالأعمى الذي يجوس في حناديس الظلام .
السادس : أنه يورث الفراسة الصادقة التي يميز بها بين المحق والمبطل والصادق والكاذب . وكان شاه بن شجاع الكرماني يقول : من عمر ظاهره باتّباع السنة ، وباطنه بدوام المراقبة ، وغض بصره عن المحارم ، وكف نفسه عن الشهوات ، واعتاد أكل الحلال - لم تخطئ له فراسة .
وكان شجاع هذا لا تخطئ له فراسة ، والله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله . ومن ترك شيئاً لله عوضه خيراً منه ، فإذا غض بصره عن محارم الله ، عوضه بأن يطلق بصيرته عوضاً عن حبسه بصره لله . ويفتح له باب العلم والإيمان والمعرفة ، والفراسة الصادقة المصيبة التي ، إنما تنال ببصيرة القلب . وضد هذا مما وصف الله به اللوطية من العمه الذي هو ضد البصيرة . فقال تعالى : : { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الحجر : 72 ] ، فوصفهم بالسكرة التي هي فساد العقل ، والعمه هو فساد البصيرة ، فالتعلق بالصور يوجب إفساد العقل ، وعمه البصيرة يسكر القلب ، كما قال القائل :
~سُكرانِ : سكر هوىً وسُكرُ مُدامةٍ ومتى إفَاقَةُ مَنْ بِه سُكْرَانِ ؟
وقال الآخر :
~قالوا : جُننتَ بمن تهوى فقلتُ لهم : العشق أعظمُ مما بالمجانينِ
~العشق لا يستفيقُ الدهرَ صاحبُه وإنما يُصْرعَ المجنونُ في الحينِ
السابع : أنه يورث القلب ثباتاً وشجاعة وقوة . ويجمع الله له بين سلطان البصيرة والحجة ، وسلطان القدرة والقوة ، كما في الأثر : الذي يخالف هواه يَفْرق الشيطان من ظله . وضد هذا تجده في المتبع هواه ، من ذل النفس ووضاعتها ومهانتها وخستها وحقارتها . وما جعل الله سبحانه فيمن عصاه . كما قال الحسن : إنهم وإن طقطقت بهم البغال ، وهملجت بهم البراذين ، فإن المعصية لا تفارق رقابهم ، أبى الله إلا أن يذل من عصاه . وقد جعل الله سبحانه العز قرين طاعته . والذل قرين معصيته ، فقال تعالى : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] ، وقال تعالى : { وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ آل عِمْرَان : 139 ] ، والإيمان قول وعمل ظاهر وباطن . وقال تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] ، أي : من كان يريد العزة فليطبها بطاعة الله وذكره ، من الكلم الطيب ، والعلم الصالح . وفي دعاء القنوت : إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت . ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه . وله من العز بحسب طاعته ، ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه . وله من الذل بحسب معصيته .
الثامن : أنه يسدّ على الشيطان مدخله من القلب . فإنه يدخل مع النظرة وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهوى في المكان الخالي ، فيمثل له صورة المنظور إليه ، يزينها ويجعلها صنماً يعكف عليه القلب ، ثم يعده ويمنيه . ويوقد على القلب نار الشهوة ، ويلقي عليه حطب المعاصي ، التي لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة . فيصير القلب في اللهب ، فمن ذلك اللهب تلك الأنفاس التي يجد فيها وهج النار ، وتلك الزفرات والحرقات . فإن القلب قد أحاطت به نيران بكل جانب . فهو في وسطها كالشاة في وسط التنور ، ولهذا كانت عقوبة أصحاب الشهوات بالصور المحرمة ، أن جعل لهم في البرزخ تنور من نار ، وأودعت أرواحهم فيه ، إلى حشر أجسادهم ، كما أراها الله نبيّه صلى الله عليه وسلم في المنام في الحديث المتفق على صحته .
التاسع : أنه يفرغ القلب للفكرة في مصالحه والاشتغال بها . وإطلاقُ البصر يشتت عليه ذلك ويحول عليه بينه وبينها . فتنفرط عليه أموره ويقع في اتباع هواه وفي الغفلة عن أمر ربه ، قال تعالى : { وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } [ الكهف : 28 ] ، وإطلاق النظر يوجب هذه الأمور الثلاثة بحسبه .
العاشر : أن بين العين والقلب منفذاً وطريقاً يوجب انفعال أحدهما عن الآخر . وأن يصلح بصلاحه ويفسد بفساده . فإذا فسد القلب فسد النظر . وإذا فسد النظر فسد القلب . وكذلك في جانب الصلاح . فإذا خربت العين وفسدت ، خرب القلب وفسد ، وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات والأوساخ . فلا يصلح لسكنى معرفة الله ومحبته والإنابة إليه والأنس به والسرور بقربه فيه . وإنما يسكن فيه أضداد ذلك . فهذه إشارة إلى بعض فوائد غض البصر ، تطلعك على ما وراءها . انتهى .
ثم أمر الله تعالى النساء بما أمر به الرجال . وزاد في أمرهن ، ما فرضه من رفض حالة الجاهلية المألوفة قبلُ لهن ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ 31 ] .
{ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } أي : بالتستر والتصون عن الزنى كما تقدم . قال الزمخشري : النساء مأمورات أيضاً بغض الأبصار . ولا يحل للمرأة أن تنظر إلى الأجنبي إلى ما تحت سرته إلى ركبته . وإن اشتهت غضت بصرها رأساً . ولا تنظر من المرأة إلا إلى مثل ذلك . وغض بصرها من الأجانب أصلاً ، أولى بها وأحسن . ومنه حديث ابن أم مكتوم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة . فأقبل ابن أم مكتوم . وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب . فدخل علينا . فقال : < احتجبا > . فقلنا : يا رسول الله ! أليس أعمى لا يبصرنا ! قال : < أفعميَاوان أنتما ؟ ألستما تبصرانه ؟ > وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وصححه : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } قال الزمخشري : الزينة ما تزينت به المرأة من حليّ أو كحل أو خضاب . فما كان ظاهراً منها ، كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب ، فلا بأس بإبدائه للأجانب . وما خفي منها كالسوار والخلخال ، والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط ، فلا تبديه إلا لهؤلاء المذكورين . وذكر الزينة دون مواقعها ، للمبالغة في الأمر بالتصون والتستر . لأن هذه الزِّيَنْ واقعة على مواضع من الجسد ، لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء . وهي الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن . فنهى عن إبداء الزِّيَن نفسها ليعلم أن النظر إذا لم يحل لها لملابستها تلك المواقع ، بدليل أن النظر لها غير ملابسة لها ، لا مقال في حله - كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكناً في الحظْر ثابت القدم في الحرمة ، شاهداً على أن النساء حقهنّ أن يحتطن في سترها ويتَّقين الله في الكشف عنها .
فإن قلت : لم سومح مطلقاً في الزينة الظاهرة ؟ قلت : لأن سترها فيه حرج . فإن المرأة لا تجد بداً من مزاولة الأشياء بيديها ، ومن الحاجة إلى كشف وجهها ، خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح . وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها . وخاصة الفقيرات منهن . وهذا معنى قوله تعالى : { إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } يعني : إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره ، والأصل فيه الظهور . انتهى .
وقال السيوطي في " الإكليل " : فسر ابن عباس قوله تعالى : { إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } بالوجه والكفين ، كما أخرجه ابن أبي حاتم . فاستدل به من أباح النظر إلى وجه المرأة وكفيها ، حيث لا فتنة . ومن قال : إن عورتها ما عداهما . وفسره ابن مسعود بالثياب ، وفسر الزينة بالخاتم والسوار والقرط والقلادة والخلخال . أخرجه ابن أبي حاتم أيضاً . فهو دليل لمن لم يجز النظر إلى شيء من بدنها ، وجعلها كلها عورة : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } أي : وليسترن بمقانعهن ، شعورَهن وأعناقهن وقرطهن وصدورهن ، بإلقائها على جيوبهن أي : مواضعها ، وهي النحر والصدر .
قال الزمخشري : كانت جيوبهن واسعة تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها . وكنّ يسدلن الخمر من ورائهن ، فتبقى مكشوفة فأمرن بأن يسدلنها من قدامهن حتى يغطينها . ويجوز أن يراد بالجيوب الصدور ، تسمية بما يليها ويلابسها ، ومنه قولهم : ناصح الجيب .
لطيفة :
قال أبو حيان : عدّي يضربن بعلى لتضمنه معنى الوضع . وجعله الراغب مما يتعدى بها دون تضمين . والخمر : جمع خمار يقال لغة لما يستر به . وخصصه العرف بما تغطي به المرأة رأسها . ومنه اختمرت المرأة وتخمرت . والجيب ما جيب ، أي : قطع من أعلى القميص . وهو ما يسميه العامة طوقاً . وأما إطلاقه على ما يكون في الجنب لوضع الدراهم ونحوها ، فليس من كلام العرب . كما ذكره ابن تيمية . كذا في " العناية " ثم كرر النهي عن إبداء الزينة لاستثناء بعض مواد الرخصة عنه ، باعتبار الناظر بعد ما استثنى عنه بعض مواد الضرورة باعتبار المنظور ، بقوله تعالى : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } أي : فإنهم المقصودون بالزينة . ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج . لكن بكراهة على المشهور .
وقال الإمام أبو الحسن بن القطان في كتاب " إحكام النظر " : عن أصبغ ، لا بأس به ، وليس بمكروه . وروي عن مالك لا بأس أن ينظر إلى الفرج في الجماع . ثم ذكرنا أن ما روي من أن ذلك يورث العمى ، فحديث لا يصح . لأن فيه بقية وقد قالوا بقية أحاديثه نقية ولم يؤثر عن العرب كراهة ذلك . وللنابغة والأعشى وأبي عبيدة وابن ميادة وعبد بني الحساس والفرزدق ، في ذلك ما هو معروف .
وقوله تعالى : { أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ } أي : لأن هؤلاء محارمهن الذين تؤمن الفتنة من قبلهم . فإن آباءهن أولياؤهن الذي يحفظونهن عما يسوءهن . وآباء بعولتهن يحفظون على أبناءهن ما يسوءهم . وأبناؤهن شأنهم خدمة الأمهات ، وهم منهن . وأبناء بعولتهن شأنهم خدمة الآباء وخدمة أحبابهم . وإخوانهن هم الأولياء بعد الآباء . وبنوهم أولياء بعدهم . وكذا بنو أخواتهن ، هم كبني إخوانهن في القرابة فيتعيرون بنسبة السوء إلى الخالة . تعيرهم بنسبته إلى العمة . هذا ما أشار له المهايمي .
وأجمل ذلك الزمخشري بقوله : وإنما سومح في الزينة الخفية أولئك المذكورون ، لما كانوا مختصين به من الحاجة المضطرة إلى مداخلتهم ومخالفتهم . ولقلة توقع الفتنة من جهاتهم ولما في الطباع من النفرة عن ممارسة القرائب . وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك . وقوله تعالى : { أَوْ نِسَائِهِنَّ } قيل : هن المؤمنات . أخذاً من الإضافة . فليس للمؤمنة أن تتجرد بين يدي مشركة أو كتابية . وقيل : النساء كلهن . فإنهن سواء في حل نظر بعضهن إلى بعض .
قال في " الإكليل " : فيه إباحة نظر المرأة إلى المرأة كمحرم . وروى ابن أبي حاتم عن عطاء ؛ أن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قدموا بيت المقدس ، كان قوابل نسائهن اليهوديات والنصرانيات .
وقال الرازيّ : القول الثاني هو المذهب وقول السلف الأول محمول على الاستحباب والأوْلى .
وقوله تعالى : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } أي : لاحتياجهن إليهم . فلو منع دخولهم عليهن اضطررن . قاله المهايميّ . وظاهر الآية يشمل العبيد والإماء . وإليه ذهب قوم . قالوا : لا بأس عليهن في أن يظهرن لعبيدهن من زينتهن ما يظهرن لذوي محارمهن . واحتجوا أيضاً بما رواه أبو داود عن أنس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها . قال : وعلى فاطمة ثوب ، إذا قنعت به رأسها ، لم يبلغ رجليها ، وإذا غطت به رجليها ، لم يبلغ رأسها ، فلما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال : < إنه ليس عليك بأس . إنما هو أبوك وغلامك > .
وجاء في " تاريخ ابن عساكر " أن عبد الله بن مسعدة كان أسود شديد الأدمة . وقد كان وهبه النبيّ صلوات الله عليه لابنته فاطمة . فربّته ثم أعتقته ، ثم كان ، بعدُ مع معاوية على عليّ . نقله ابن كثير ، فاحتمل أن يكون هو هو . والله أعلم .
وذهب قوم إلى أنه بذلك الإماء المشركات ، وأنه يجوز لها أن تظهر زينتها إليهن وإن كن مشركات . قالوا : وسرّ إفراد الإماء مع شموله قوله : { أَوْ نِسَائِهِنَّ } لهن الإعلام بأن المراد مَنْ في صحبتهن من الحرائر والإمام لظهور الإضافة في نسائهن بالحرائر . كقوله : { شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } [ البقرة : 282 ] ، فعطفن عليهن ليشاركنهن في إباحة النظر عليهن ، والقول الأول أقوى . لأن الأصل هو العمل بالعامّ حتى يقوم دليل على تخصيصه . لا سيما والحكمة ظاهرة فيه وهي رفع الحرج . وهذا الذي قطع به الشافعيّ وجمهور أصحابه .
قال في " الإكليل " : وعلى الأول استدل بإضافة اليمين على أنه ليس لعبد الزوج النظر . واستدل من أباحه بقراءة : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } .
وقوله : { أَوِ التَّابِعِينَ } أي : الخدام لأنهن في معنى العبيد : { غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ } أي : الحاجة إلى نساء : { مِنَ الرِّجَالِ } كالشيخ الهرم والبله واستدل بهذا من أباح نظر الخصيّ . وقوله تعالى : { أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } أي : لم يفهموا أحوالهن ، لصغرهم . فيستدل به على تحريم نظر المراهق الذي فهم ذلك كالبالغ . كما في " الإكليل " .
قال الزمخشري : يظهروا إما من ظهر على الشيء إذا اطلع عليه ، أي : لا يعرفون ما العورة ، ولا يميزون بينها وبين غيرها . وإما من ظهر على فلان إذا قوي عليه وظهر على القرآن أخذه وأطاقه أي : لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء . والطفل مفرد وضع موضع الجمع بقرينة وصفه بالجمع . ومثله الحاج بمعنى : الحجاج . وقال الراغب : إنه يقع على الجمع .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : استدل بعضهم بقولهم تعالى : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا } الخ على أنه لا يباح النظر للعم والخال ، لعدم ذكرهما في الآية . أخرج ابن المنذر عن الشعبيّ وعكرمة ، قالا : لم يذكر العم والخال لأنهما ينعتان لأبنائهما ، ولا تضع خمارها عند العم والخال .
وقال الرازيّ : القول الظاهر أنهما كسائر المحارم في جواز النظر . وهو قول الحسن البصريّ . قال : لأن الآية لم يذكر فيها الرضاع وهو كالنسب . وقال في سورة الأحزاب : { لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ } [ الأحزاب : 55 ] الآية ، ولم يذكر فيها البعولة ولا أبناءهم . وقد ذكروا هاهنا . وقد يذكر البعض لينبه على الجملة .
ثم قال : في قول الشعبيّ من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط عليهن في التستر .
ثم أشار تعالى إلى أن الزينة ، كما يجب إخفائها عن البصر ، يجب عن السمع ، إن كانت مما تؤثر فيه ميلاً ، بقوله سبحانه :
{ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ } أي : الأرض : { لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ } أي : عن الأبصار : { مِنْ زِينَتِهِنَّ } كالخلخال . وهذا نهي عن ما كان يفعله بعضهن . وذلك من ضرب أرجلهن الأرض ليتحرك خلخالهن فيعلم أنهن متحلين به . فإن ذلك مما يورث الرجال ميلاً إليهن ، ويوهم أن لهن ميلاً إليهم .
قال الزمخشري : وإذا نهين عن إظهار صوت الحلي بعد ما نهين عن إظهار الحلي ، علم بذلك أن النهي عن إظهار مواضع الحليّ أبلغ وأبلغ . قيل : وإذا نهي عن استماع صوت حليهن . فعن استماع صوتهن بالطريق الأولى . وهذا سد لباب المحرمات ، وتعليم للأحواض الأحسن ، لا سيما في مظانّ الريب وما يكون ذريعة إليها .
تنبيه :
قال ابن كثير : يدخل في هذا النهي كل شيء من زينتها كان مستوراً ، فتحركت بحركة ، لتظهر ما خفي منها . ومن ذلك ما ورد من نهيها عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها ليشم الرجال طيبها . فروى الترمذي عن أبي موسى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : < كل عين زانية . والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا > . يعني زانية .
قال : ومن الباب عن أبي هريرة . وهذا حديث حسن صحيح . ورواه أبو داود والنسائي . وروى الترمذي أيضاً عن ميمونة بنت سعد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < الرافلة في الزينة في غير أهلها ، كمثل ظلمة يوم القيامة ، لا نور لها > . ومن ذلك أيضاً ، نهيهن من المشي في وسط الطريق لما فيه من التبرج . فروى أبو داود عن أبي أسيد الأنصاري أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد ، وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء : < استأخرن ، فإنه ليس لَكُنَ أن تَحْقُقْنَ الطريق . عليكن بحافات الطريق > . فكانت المرأة تلصق بالجدار ، حتى أن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به . وقوله تعالى : { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ } أي : ارجعوا إليه بالعمل بأوامره واجتناب نواهيه ، فإن مقتضى إيمانكم ذلك : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : لكي تفوزوا بسعادة الدارين . ولما زجر تعالى عن السفاح ومباديه القريبة والبعيدة ، أمر بالنكاح . فإنه ، مع كونه مقصوداً بالذات من حيث كونه مناطاً لبقاء النوع ، خير مزجرة عن ذلك . فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ 32 ] .
{ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } أي : زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر ، ومن كان فيه صلاح غلمانكم وجواريكم ، والخطاب للأولياء والسادات , والأيامى : جمع أيّم . من لا زوجة له أو لا زوج لها . يكون للرجل والمرأة يقال : آم وآمَتْ وتَأَيَّمَا ، إذا لم يتزوجا ، بكرين كانا أو ثيبين .
قال أبو السعود : واعتبار الصلاح في الأرقاء ، لأن من لا صلاح له منهم ، بمعزل من أن يكون خليقاً بأن يعتني مولاه بشأنه ، ويشفق عليه ، ويتكلف في نظم مصالحه بما لا بد منه شرعاً وعادةً ، من بذل المال والمنافع . بل حقه ألا يستبقيه عنده . وأما عدم اعتبار الصلاح في الأحرار والحرائر ، فلأن الغالب فيهم الصلاح . على أنهم مستبدون في التصرفات المتعلقة بأنفسهم وأموالهم . فإذا عزموا النكاح ، فلا بد من مساعدة الأولياء لهم ؛ إذ ليس عليهم في ذلك غرامة ، حتى يعتبر في مقابلتها غنيمة عائدة إليهم . عاجلة أو آجلة : وقيل : المراد هو الصلاح للنكاح والقيام بحقوقه . وقوله تعالى : { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } إزاحة لما عسى يكون وازعاً من النكاح من فقر أحد الجانبين . أي : لا يمنعن فقر الخاطب أو المخطوبة من المناكحة . فإن في فضل الله عز وجل غنية عن المال . فإنه غاد ورائحٌ . يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب . أو وعد من سبحانه بالإغناء . لكنه مشروط بالمشيئة . كما في قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ } [ التوبة : 28 ] ، { وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أي : غني ذو سعة ، لا يرزؤه إغناء الخلائق ، إذ لا نفاذ لنعمته ولا غاية لقدرته { عَلِيمٌ } يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر حسبما تقتضيه الحكمة . انتهى كلام أبي مسعود .
تنبيهات :
الأول : الأمر في الآية للندب . لما علم من أن النكاح أمر مندوب إليه . وقد يكون للوجوب في حق الأولياء عند طلب المرأة ذلك .
وفي " الإكليل " : استدل الشافعيّ بالأمر على اعتبار الوليّ . لأن الخطاب له ، وعدم استقلال المرأة بالنكاح . واستدل بعموم الآية من أباح نكاح الإماء بلا شرط , ونكاح العبدة الحرة . واستدل بها من قال بإجبار السيد على نكاح عبده وأمته .
الثاني : قدمنا أن قوله تعالى : { يُغْنِهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } مشروط بالمشيئة . فلا يقال إنه تعالى لا يخلف الميعاد ، وكم من متزوج فقير . والتقيد بالمشيئة بدليل سمعي ، وهو الآية المتقدمة . أو إشارة قوله تعالى : { عَلِيمٌ حَكِيمٌ } لأن مآله إلى المشيئة . أو عقلي وهو أن الحكيم لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة .
قال الناصر في " الانتصاف " : ولقائل أن يقول : إذا كانت المشيئة هي المعتبرة في غنى المتزوج ، فهي أيضاً المعتبرة في غنى الأعزب ، فما وجه ربط وعد الغني بالنكاح ، مع أن حال الناكح منقسم في الغنى على حسب المشيئة . فمن مستغن به ، ومن فقير ، كما أن حال غير الناكح منقسم ؟ .
فالجواب ، وبالله التوفيق : إن فائدة ربط الغنى بالنكاح ، أنه قد ركز في الطباع السكون إلى الأسباب والاعتماد عليها ، والغفلة عن المسبّب ، جلَّ وعلا . حتى غلب الوهم على العقل فخيل أن كثرة العيال سبب يوجب الفقر حتماً ، وعدمها سبب يوجب توفير المال جزماً . وأن كل واحد من هذين السببين غير مؤثر فيما ربطه الوهم به . فأريد قلع هذا الخيال المتمكن من الطبع ، بالإيذان بأن الله تعالى قد يوفر المال وينميه ، مع كثرة العيال التي هي سبب من الأوهام ، لنفاد المال . وقد يقدر الإملاق مع عدمه ، الذي هو سبب في الإكثار عند الأوهام . والواقع يشهد لذلك بلا مراء . فدل ذلك قطعاً على أن الأسباب التي يتوهمها البشر ، مرتبطات بمسبباتها ، ارتباطاً لا ينفك - ليست على ما يزعمونه . وإنما يقدر الغنى والفقر مسبب الأسباب . غير موقوف تقدير ذاك إلا على مشيئة خاصة . وحينئذ لا ينفر العاقل المتيقظ من النكاح . لأنه قد استقر عنده أن لا أثر له في الإقتار . وأن الله تعالى لا يمنعه ذلك من إغنائه ، ولا يؤثر أيضاً الخلوّ عن النكاح لأجل التوفير ، لأنه قد استقر أن لا أثر له فيه ، وأن الله تعالى لا يمنعه مانع أن يقتّر عليه . وأن العبد إن تعاطى سبباً فلا يكن ناظراً إليه ، ولكن إلى مشيئة الله تعالى وتقدس . فمعنى قوله حينئذ : { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ } الآية ، أن النكاح لا يمنعهم الغنى من فضل الله . فعبر عن نفي كونه مانعاً ، من الغنى, بوجوده معه . ولا يبطل المانعية إلا وجود ما يتوهم ممنوعاً مع ما يتوهم مانعاً ولو في صورة من الصور على أثر ذلك . فمن هذا الوادي أمثال قوله تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ } [ الجمعة : 10 ] ، فإن ظاهر الأمر طلب الانتشار عند انقضاء الصلاة ، وليس ذلك بمراد حقيقة . ولكن الغرض تحقيق زوال المانع وهو الصلاة ، وبيان أن الصلاة متى قضيت ، فلا مانع . فعبّر عن نفي المانع بالانتشار ، بما يفهم تقاضي الانتشار مبالغة في تحقيق المعنى عند السامع . والله أعلم .
فتأمل هذا الفصل واتخذه عضداً حيث الحاجة إليه . انتهى .
الثالثة : " في الإكليل " : استدل بعضهم بهذه الآية على أنه لا يفسخ النكاح بالعجز عن النفقة ، لأنه قال : يغنهم الله ولم يفرق بينهم .
ثم أرشد تعالى العاجزين عن أسباب النكاح ، إلى ما هو أولى لهم ، بعد بيان جواز مناكحة الفقراء ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ 33 ] .
{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } أي : وليجتهد في العفة الذين لا يجدون نكاحاً ، أي : أسبابه ، أو استطاعة نكاح أي : تزوج . فهو على المجاز ، أو تقدير المضاف . أو المراد بالنكاح : ما ينكح به .
قال الشهاب : فإن فعالاً يكون صفة بمعنى مفعول . ككتاب بمعنى مكتوب . واسم آلة كركاب لما يركب به . وهو كثير . كما نص عليه أهل اللغة . وقوله تعالى : { حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } ترجية للمستعفين وتقدمة وعد بالتفضيل عليهم بالغنى ، ليكون انتظار ذلك وتأميله ، لطفاً لهم في استعفافهم ، وربطاً على قلوبهم . وليظهر بذلك أن فضله أولى بالأعفاء . وأدنى من الصلحاء . وما أحسن ما رتب هذه الأوامر . حيث أمر أولاً بما يعصم من الفتنة ، ويبعد من مواقعة المعصية ، وهو غض البصر ، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين ، وقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام . ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء ، وعزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح ، إلى أن يرزق القدرة عليه . أفاده الزمخشري .
تنبيه :
قال في " الإكليل " : في الآية استحباب الصبر عن النكاح لمن لا يقدر على مؤنته . واستدل بعضهم بهذه الآية على بطلان نكاح المتعة .
ولما أمر تعالى للسادة بتزويج الصالحين من عبيدهم وإمائهم ، مع الرق ، رغّبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك ، ليصيروا أحراراً ؛ فيتصرفوا في أنفسهم كالأحرار , فقال تعالى : { وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ } أي : الكتابة : { مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ } حرصاً على تحريرهم الذي هو الأصل فيهم ، وحباً بتحقيق المساواة في الأخوة الجنسية . والمكاتبة أن يقول السيد : كاتبتك . أي : جعلت عتقك مكتوباً على نفسي ، بمال كذا تؤديه في نجوم كذا . ويقبل العبد ذلك ، فيصير مالكاً لمكاسبه ولما يوهب له ، وإنما وجب معه الإمهال ، لأن الكسب لا يتصور بدونه . واشترط النجوم لئلا تخلو تلك المدة عن الخدمة وعوضها جميعاً . وقوله تعالى : { إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } أي : كالأمانة ، لئلا يؤدوا النجوم من المال المسروق . والقدرة على الكسب والصلاح ، فلا يؤذى أحداً بعد العتق . وقوله تعالى : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } أمر للموالي ببذل شيء من أموالهم . وفي حكمه ، حط شيء من مال الكتابة . ولغيرهم بإعطائهم من الزكاة إعانة لهم على تحريرهم .
تنبيه :
قال في " الإكليل " : في الآية مشروعية الكتابة . وأنها مستحبة . وقال أهل الظاهر : واجبة لظاهر الآية . وأن لندبها أو وجوبها ، شرطين : طلب العبد لها وعلم الخير فيه وفسره مجاهد وغيره بالمال والحرفة والوفاء والصدق والأمانة .
ثم نهى تعالى عن إكراه الجواري على الزنى كما اعتادوه في الجاهلية ، بقوله سبحانه : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ } أي : إماءكم ، فإنه يكنى بالفتى والفتاة ، عن العبد والأمة ، وفي الحديث : < ليقل أحدكم : فتاي وفتاتي ، ولا يقل . عبدي وأمتي > وقوله تعالى : { عَلَى الْبِغَاءِ } أي : الزنى . يقال : بغت بغياً وبغاءً ، إذا عهرت . وذلك لتجاوزها إلى ما ليس لها . وقوله تعالى : { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } ليس لتخصيص النهي بصورة إرادتهن التعفف عن الزنى ، وإخراج ما عداها من حكمه ، بل للمحافظة على عادتهم المستمرة ، حيث كانوا يكرهونهن على البغاء وهن يردن التعفف عنه ، مع وفور شهوتهن الآمرة بالفجور ، وقصورهن في معرفة الأمور ، الداعية إلى المحاسن ، الزاجرة عن تعاطي القبائح ، انتهى كلام أبي السعود . أي : وحينئذ فلا مفهوم للشرط ، وهذا كجواب بعضهم : إن غالب الحال أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن . والكلام الوارد على سبيل الغالب لا يكون له مفهوم الخطاب . كما أن الخُلع يجوز في غير حالة الشقاق . ولكن لما كان الغالب وقوع الخلع في حالة الشقاق ، لا جرم لم يكن لقوله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } [ البقرة : 229 ] ، مفهوم . ومن هذا القبيل قوله : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } [ النساء : 101 ] ، والقصر لا يختص بحال الخوف . ولكنه سبحانه أجراه على سبيل الغالب . فكذا هاهنا انتهى .
قال أبو سعود : وفيه من زيادة تقبيح حالهم وتشنيعهم على ما كانوا عليه من القبائح ، ما لا يخفى . فإن من له أدنى مروءة لا يكاد يرضى بفجور من يحويه حرمه من إمائه ، وفضلاً عن أمرهن به ، أو إكراههن عليه . لا سيما عند إرادتهن التعفف . وإيثار كلمة إِنْ على إذا مع تحقق الإرادة في مورد النص حتماً ، للإيذان بوجوب الانتهاء عن الإكراه ، عند كون إرادة التحصن في حيز التردد والشك . فكيف إذا كانت محققة الوقوع كما هو الواقع ؟ وقوله تعالى : { لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } قيد للإكراه ، لكن لا باعتبار أنه مدار للنهي عنه ، بل باعتبار أنه المعتاد فيما بينهم ، كما قبله جيء به تشنيعاً لهم فيما هم عليه من احتمال الوزر الكبير ، لأجل النزر الحقير . أي : لا تفعلوا ما أنتم عليه من إكراههن على البغاء لطلب المتاع السريع الزوال ، الوشيك الاضمحلال . يعني من كسبهن وأولادهن .
وقوله تعالى : { وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ } جملة مستأنفة سيقت لتقرير النهي وتأكيد وجوب العمل به ببيان خلاص المكرهات عن عقوبة المكره عليه عبارةً ، ورجوع غائلة الإكراه إلى المكرهين إشارةً ، أي : { وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ } على ما ذكر من البغاء { فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : لهن . كما وقع في مصحف ابن مسعود . وعليه قراءة ابن عباس رضي الله عنهم . وكما ينبئ عنه قوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ } أي كونهن مكرهات . على أن الإكراه مصدر من المبني للمفعول فإن توسيطه بين اسم إن وخبرها ، للإيذان بأن ذلك هو السبب للمغفرة والرحمة . وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى ، إذا قرأ هذه الآية يقول : لهن ، والله ! لهن ، والله ! وفي تخصيصهما بهن وتعيين مدارهما ، مع سبق ذكر المكرهين أيضاً في الشرطية ، دلالة بينة على كونهم محرومين منهما بالكلية , كأنه قيل : لا للمكره . ولظهور هذا التقدير ، اكتفى به عن العائد إلى اسم الشرط . فتجويز تعلقهما بهم بشرط التوبة استقلالاً ، أو معهن ، إخلالٌ بجزالة النظم الجليل ، وتهوين لأمر النهي في مقام التهويل . وحاجتهن إلى المفغرة المنبئة عن سابقة الإثم ، إما باعتبار أنهن وإن كن مكرهات ، لا يخلون في تضاعيف الزنى عن شائبة مطاوعة ما يحكم الجبلة البشرية . وإما باعتبار أن الإكراه قد يكون قاصراً عن حد الإلجاء المزيل للاختيار بالمرة . وإما لغاية تهويل أمر الزنى ، وحث المكرهات على التثبت في التجافي عنه ، والتشديد في تحذير المكرهين ، ببيان أنهن حيث كن عرضة للعقوبة ، لولا أن تداركهن المغفرة والرحمة ، مع قيام العذر في حقهن . فما حال من يكرهن في استحقاق العذاب ؟ انتهى كلام أبي السعود وقد أجاد في تحقيق المرام رحمه الله تعالى .
تنبيه :
قال في " الإكليل " : في الآية النهي عن إكراه الإماء على الزنى . وأن المكرَه غير مكلف ولا آثم . وأن الإكراه على الزنى يتصور . وإن مهر البغيّ حرام . وفيه رد على من أوجب الحد على المكره له .
ثم حذّر سبحانه من مخالفة ما نهى عنه ، مما بينه أشد البيان ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } [ 34 ] .
{ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ } أي : واضحات أو مفسرات لكل ما تهم حاجتكم إليه من عبادات ومعاملات وآداب . ومنه ما ذكر قبلُ ، من النهي عن الإكراه . فلا يخفى المراد منها : { وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ } أي : خبراً عظيماً عن الأمم الماضية وما حل بهم ، بظلمهم وتعدّيهم حدود الله : { وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } أي : فيتعظون به وينزجرون عما لا ينبغي لهم . كما قال تعالى : { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ } [ الزخرف : 56 ] ، أي : عبرة يعتبرون بها . وإيثار المتقين لحث المخاطبين على الانتظام في سلكهم ، فإنهم الفائزون . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ 35 ] .
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : منوّرهما بالكواكب وما يفيض عنها من الأنوار . فهو مجاز من إطلاق الأثر على مؤثره . كما يطلق السبب على مسببه . أو مدبرهما ، من قولهم للرئيس الفائق في التدبير : نور القوم لأنهم يهتدون به في الأمور فيكون مجازاً . أو استعارة استعير النور بمعنى : المنور ، للمدبر ، لعلاقة المشابهة في حصول الاهتداء . أو موجدهما فإن النور ظاهر بذاته مظهر لغيره - كما قاله الغزالي - فيكون أطلق عليه تعالى مجازاً مرسلاً باعتبار لازم معناه .
قال أبو السعود : وعبر عن المنوّر بالنور ، تنبيهاً على قوة التنوير وشدة التأثير . وإيذاناً بأنه تعالى ظاهر بذاته ، وكل ما سواه ظاهر بإظهاره . كما أن النور نيّر بذاته وما عداه مستنير به . وأضيف النور إلى : { السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } للدلالة على سعة إشراقه . أو المراد بهما العالم كله : { مَثَلُ نُورِهِ } أي : صفة نوره العجيبة الشأن . قال أبو السعود : أي : نوره الفائض منه تعالى على الأشياء المستنيرة به وهو القرآن المبين . كما يعرب عنه ما قبله من وصف آياته بالإنزال والتبيين . وقد صرح بكونه نوراً أيضاً في قوله تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً } [ النساء : 174 ] ، وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما ، والحسن ، وزيد بن أسلم رحمهم الله تعالى : { كَمِشْكَاةٍ } أي : كصفة كوّة - طاقة - غير نافذة في الجدار ، في الإنارة والتنوير : { فِيهَا مِصْبَاحٌ } أي : سراج ضخم ثاقب - شديد الإضاءة - وقيل : المشكاة الأنبوبة في وسط القنديل ، والمصباح الفتيلة المشتعلة : { الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } أي : قنديل من الزجاج الصافي الأزهر : { الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } أي : متلألئ وقَّاد شبيه بالدر في صفائه وزهرته : { يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ } أي : كثيرة المنافع ، بأن رويت فتيلته بزيتها : { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } . أي لا شرقية تقع عليها الشمس وقت الشروق فقط ، ولا غربية تقع عليها عند الغروب . ولا تصيبها في الغداة بل في مكان عليها الشمس مشرقة من أول طلوعها إلى آخر غروبها . كصحراء أو رأس جبل . فزيتها أضوأ : { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } أي : يكاد يضيء بنفسه من غير نار لصفائه ولمعانه : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } أي : ذلك النور الذي عبر به عن القرآن ، ومثلت صفته العجيبة بما فضل عن صفة المشكاة . نور عظيم كائن على نور كذلك . فنور خبر مبتدأ محذوف ، والجار متعلق بمحذوف صفة له مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة ، والجملة فذلكة للتمثيل ، وتصريح لما حصل منه ، وتمهيد لما يعقبه . وليس معنى : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } نور واحد فوق آخر مثله ، ولا مجموع نورين اثنين فقط ، بل هو عبارة عن نور متضاعف كتضاعف ما مثل به من نور المشكاة بما ذكر . فإن المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة ، كان أضوأ له وأجمع لنوره . بخلاف المكان الواسع ، فإن الضوء ينبث فيه وينتشر . والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة . وكذلك الزيت وصفاؤه . وليس وراء هذه المراتب مما يزيد نورها إشراقاً ، مرتبة أخرى عادة { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ } أي : لهذا النور الثاقب العظيم الشأن ، بأن يوفقهم للإيمان به وفهم دلائل حقيّته .
قال أبو السعود : وإظهاره في مقام الإضمار . لزيادة تقريره ، وتأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية الناشئة من إضافته إلى ضميره عزَّ وجلَّ : { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ } أي : ليدنو لهم المعقول من المحسوس ، توضيحاً وبياناً . ولذلك مثل نوره المعبر عنه بالقرآن ، بنور المشكاة : { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : فلا يخفى عليه شيء وفيه وعد ووعيد . لأن علمه تعالى ، عبارة عن مجازاته في أمثال هذه الآي .
تنبيه :
هذه الآية الكريمة - آية النور - من الآيات التي صنفت فيها مصنفات خاصة . منها " مشكاة الأنوار " للإمام الغزالي ، وقد نقل عنه الرازيّ في " تفسيره " هنا جملة سابغة الذيل . ورأيت للإمام ابن القيم في كتابه " الجيوش الإسلامية " ما يجمل إيراده ، تعزيزاًً للمقام واستظهاراً بزيادة العلم .
قال رحمه الله : سمى الله سبحانه و تعالى نفسه نوراً وجعل كتابه نوراً ورسوله صلى الله عليه وسلم نوراً ودينه نوراً . واحتجب عن خلقه بالنور وجعل دار أوليائه نوراً يتلأَلأ ، قال الله تعالى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وقد فسر بكونه منوّر السموات والأرض ، وهادي أهل السموات والأرض . فبنوره اهتدى أهل السموات والأرض . وهذا إنما هو فعله . وإلا فالنور الذي هو من أوصافه قائم به . ومنه اشتق له اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى . والنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين . إضافة صفة إلى موصوفها , وإضافة مفعول إلى فاعله . فالأول كقوله عزَّ وجلَّ : { وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } [ الزمر : 69 ] ، فهذا إشراقها يوم القيامة بنوره تعالى ، إذا جاء لفصل القضاء . ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء المشهور : < أعوذ بنور وجهك الكريم أن تضلني لا إله إلا أنت > . وفي الأثر الآخر : < أعوذ بوجهك - أو بنور وجهك - الذي أشرقت له الظلمات > . فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم . أن الظلمات أشرقت لنور وجه الله . كما أخبر تعالى أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره .
وفي " معجم الطبرانيّ " و " السنة " له و " كتاب عثمان الدارمي " وغيرها ، عن ابن مسعود رضي الله عنه . قال : ليس عند ربكم ليل ولا نهار ، نور السموات والأرض من نور وجهه . وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية ، من قول من فسرها بأنه هادي أهل السموات والأرض . وأما من فسرها بأنه منوّر السموات والأرض ، فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود . والحق أنه نور السموات والأرض بهذه الاعتبارات كلها . وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال : < إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل . حجابه النور . لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه > . وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل رأيت ربك ؟ قال : < نور ، أنَّى أراه > فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول : معناه كان ثمة نور ، وحال دون رؤيته نور ، فأنى أراه ؟ قال : ويدل عليه أن في بعض الألفاظ الصحيحة : هل رأيت ربك ؟ فقال : رأيت نوراً . وقد أعضل أمر هذا الحديث على كثير من الناس حتى صحفه بعضهم فقال : نورانيٌّ أراه . على أنها ياء النسب ، والكلمة كلمة واحدة . وهذا خطأ لفظاً ومعنى . وإنما أوجب لهم هذا الإشكال والخطأ أنهم لما اعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه وكان قوله : < أنَّى أراه > كالإنكار للرؤية ، حاروا في الحديث ، ورده بعضهم باضطراب لفظه ، وكل هذا عدول عن موجب الدليل . وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب " الرؤية " له إجماع الصحابة على أنه لم يرَ رَبّه ليلة المعراج . وبعضهم استثنى ابن عباس فيمن قال ذلك . وشيخنا يقول : ليس ذلك بخلاف في الحقيقة . فإن ابن عباس لم يقل رآه بعيني رأسه ، وعليه اعتمد أحمد في إحدى الروايتين حيث قال : إنه صلى الله عليه وسلم رآه عزَّ وجلَّ . ولم يقل بعيني رأسه . ولفظ أحمد لفظ ابن عباس رضي الله عنهما . ويدل على صحته ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه : قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر : < حجابه النور > فهذا النور ، والله أعلم . النور المذكور في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه < رأيت نوراً > .
ثم قال ابن القيم : وقوله تعالى : { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } هذا مثل لنوره في قلب عبده المؤمن . كما قال أبيّ بن كعب وغيره : وقد اختلف في الضمير في نوره فقيل : هو النبيّ صلى الله عليه وسلم . أي : مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : مفسره المؤمن . أي : مثل نور المؤمن .
والصحيح أن يعود على الله تعالى . والمعنى : مثل نور الله سبحانه في قلب عبده . وأعظم عباده نصيباً من هذا النور رسول الله صلى الله عليه وسلم . فهذا ، مع ما تضمنه عود الضمير المذكور - وهو وجه الكلام - يتضمن التقادير الثلاثة ، وهو أتم لفظاً ومعنى . وهذا النور يضاف إلى الله تعالى . إذ هو معطيه لعبده وواهبه إياه . ويضاف إلى العبد . إذ هو محله وقابله . فيضاف إلى الفاعل والقابل . ولهذا النور فاعل وقابل ، ومحل وحامل ، ومادة . وقد تضمنت الآية ذكر هذه الأمور كلها على وجه التفصيل . فالفاعل وهو الله تعالى مفيض الأنوار . الهادي لنوره من يشاء . والقابل : العبد المؤمن . والمحل : قلبه . والحامل : همته وعزيمته وإرادته . والمادة : قوله وعمله . وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية ، فيه من الأسرار والمعاني وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن ، بما أناله من نوره ، ما تقر به عيون أهله وتبتهج به قلوبهم . وفي هذا التشبيه لأهل المعاني طريقتان : إحداهما : طريقة التشبيه المركب وهي أقرب مأخذاً وأسلم من التكلف . وهي أن تشبه الجملة برمتها بنور المؤمن ، من غير تعرض لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبه ، ومقابلته بجزء من المشبه به . وعلى هذا عامة أمثال القرآن . فتأمل صفة المشكاة ، وهي كوة تنفذ لتكون أجمع للضوء ، وقد وضع فيها مصباح ، ذلك المصباح داخل زجاجة تشبه الكوكب الدريّ في صفائها وحسنها . ومادته من أصفى الأدهان وأتمها وقوداً ، من زيت شجرة في وسط القراح ، لا شرقية ولا غربية ، بحيث تصيبها الشمس في إحدى طرفي النهار ، بل هي في وسط القراح ، محميّة بأطرافه تصيبها الشمس أعدل إصابة ، والآفات إلى الأطراف دونها . فمن شدة إضاءة زيتها وصفائها وحسنها ، يكاد يضيء من غير أن تمسه نار . فهذا المجموع المركب هو مثل نور الله تعالى الذي وضعه في قلب عبده المؤمن وخصه به . والطريقة الثانية ، طريقة التشبيه المفصل . فقيل : المشكاة صدر المؤمن ، والزجاجة قلبه . شبه قلبه بالزجاجة لرقتها وصفائها وصلابتها . وكذلك قلب المؤمن . فإنه قد جمع الأوصاف الثلاثة . فهو يرحم ويحسن ويتحنن ويشفق على الخلق برقته وبصفائه . تتجلى فيه صور الحقائق والعلوم على ما هي عليه . ويتباعد الكدر والدرن والوسخ بحسب ما فيه من الصفاء . وبصلابته يشتد في أمر الله تعالى ، ويتصلب في ذات الله تعالى ، ويغلظ على أعداء الله تعالى . ويقوم بالحق لله تعالى . وقد جعل الله تعالى القلوب كالآنية ، كما قال بعض السلف : القلوب آنية الله في أرضه فأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها . والمصباح هو نور الإيمان في قلبه . والشجرة المباركة هي شجرة الوحي المتضمنة للهدى ودين الحق . وهي مادة المصباح التي يتّقد منها . والنور على النور ، نور الفطرة الصحيحة ، والإدراك الصحيح ، ونور الوحي والكتاب . فينضاف أحد النورين إلى الآخر ، فيزداد العبد نوراً على نور . ولهذا يكاد ينطق بالحق والحكمة ، قبل أن يسمع ما فيه بالأثر . ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه ونطق به . فيتفق عنده شاهد العقل والشرع والفطرة والوحي . فيريه عقله وفطرته وذوقه الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق لا يتعارض عنده العقل والنقل البتة . بل يتصادقان ويتوافقان . فهذا علامة النور على النور . انتهى . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ 36 - 38 ]
{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } أي : أمر أن تعظم عن اللغو ، أو ترفع بالبناء قدراً . ويتلى فيه اسمه ، ولا يعبد فيها غيره ، لأنه شيدت على اسمه جل شأنه . والظرف صفة لمشكاة أو لمصباح أو لزجاجة أو متعلق بتوقد أو بمحذوف . أي : سبحوه في بيوت . أو بيسبّح . ولفظ فيها تكرار للتوكيد .
قال أبو السعود : لما ذكر شأن القرآن الكريم في بيانه للشرائع والأحكام ، ومبادئها وغاياتها المترتبة عليها من الثواب والعقاب ، وأشير إلى كونه في غاية ما يكون من التوضيح ، حيث مثل بنور المشكاة - عقب ذلك بذكر الفريقين وتصوير بعض أعمالهم المعربة عن كيفية حالهم في الاعتداء وعدمه ، والمراد بالبيوت ، المساجد كلها : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ } يعني قبل طلوع الشمس : { وَالْآصَالِ } جمع أصيل وهو العشي قبل غروب الشمس : { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } أي : بالتسبيح والتحميد : { وَإِقَامِ الصَّلاةِ } أي : إقامتها لمواقيتها من غير تأخير : { وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ } أي : المال الذي يتزكى مؤتيه من دنس الشح ورذيلة البخل ، وتطهر نفسه ويصفو سره : { يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ } أي : تضطرب وتتغير من الهول والفزع . كما في قوله تعالى : { وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ } [ الأحزاب : 10 ] , : { لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } اللام متعلقة بيسبّح أو لا تلهيهم أو بمحذوف يدل عليه السوق . أي : يفعلون ما يفعلون مما ذكر ، ليجزيهم . وفي آخر الآية تقرير وتنبيه على كمال القدرة ، ونفاذ المشيئة ، وسعة الإحسان ، لأن بغير حساب كناية عن السعة . والمراد أنه لا يدخل تحت حساب الخلق وعدّهم .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآية الأمر بتعظيم المساجد وتنزيهها عن اللغو والقاذورات . وفيها استحباب ذكر الله والصلاة في المساجد . وفي قوله : { رِجَالٌ } إشارة إلى أن الأفضل للنساء الصلاة في قعر بيوتهن . كما صرح به الحديث ، إلا في نحو العيدين لحديث : < ليشهدن الخير ودعوة المسلمين > ، وقوله : { لاَ تُلْهِيهِمْ } الآية ، فيه أن التجارة لا تنافي الصلاة . لأن مقصود الآية أنهم يتعاطونها ، ومع ذلك لا تلهيهم عن الصلاة وحضور الجماعة . أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه كان في السوق ، فأقيمت الصلاة ، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد . فقال ابن عمر : فيكم نزلت : { رِجَاْلٌ لاَ تُلْهِيهِمْ } الآية . وأخرج عن الضحاك والحسن وسالم وعطاء ومطرف مثل ذلك . انتهى . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ 39 ] .
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا } عطف على ما ينساق إليه ما قبله . كأنه قيل : الذين آمنوا أعمالهم حالاً ومآلاً كما وصف ، والذين كفروا : { أَعْمَالُهُمْ } أي : التي يحسبونها تنفعهم وتأخذ بيدهم من العذاب : { كَسَرَابٍ } وهو ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس ، وقت الظهيرة ، يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري : { بِقِيعَةٍ } بمعنى القاع ، وهو المنبسط من الأرض . أو جمع قاع كجيرة في جار : { يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } أي : لا محققاً ولا متوهماً . كما كان يراه من قبل ، فضلاً عن وجدانه ماء ، وبه تم بيان أحوال الكفرة بطريق التمثيل . وقوله تعالى : { وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } أي : وجد عقاب الله وجزائه عند السراب ، أو العمل . وفي التعبير بذلك زيادة تهويل . وقيل : المعنى وجده محاسباً إياه . فالعندية بمعنى الحساب ، على طريق الكناية لذكر التوفية بعده . قيل : هذه الجملة معطوفة على : { لَمْ يَجِدْهُ } ولا حاجة إلى عطفه على ما يفيده من نحو : لم يجد ما عمله نافعاً .
قال الشهاب : ويحتمل أن يكون بيان لحال المشبه به ، الكافر فيعطف بحسب المعنى على التمثيل بتمامه . ولو قيل على الأول إنه من تتمة وصف السراب . والمعنى : وجد مقدوره تعالى من الهلاك بالظمأ عند السراب ، فوفاه ما كتب له ، من لا يؤخر الحساب - كان الكلام متناسباً . واختار الثاني أبو السعود حيث قال : هو بيان لبقية أحوالهم العارضة لهم بعد ذلك بطريق التكملة ، لئلا يتوهم أن قصارى أمرهم هو الخيبة والقنوط فقط ، كما هو شأن الظمآن . ويظهر أنه يعتريهم بعد ذلك من سوء الحال ما لا قدر عنده للخيبة أصلاً . فليست الجملة معطوفة على : { لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } بل على ما يفهم منه بطريق التمثيل ، من عدم وجدان الكفرة من أعمالهم المذكورة عيناً ولا أثراً . كما في قوله تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً } [ الفرقان : 23 ] فإن قيل : لِمَ خص الظمآن بالذكر ، مع أنه يتراءى لكل أحد كذلك ؟ فكان الظاهر الرائي بدله . وأجيب بأنه إنما قيده به ولم يطلقه لقوله : { وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ } الخ ، لأنه من تتمة أحوال المشبه به . وهو أبلغ . لأن خيبة الكافر أدخل وأعرق . ونحوه : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [ آل عِمْرَان : 117 ] ، الخ ، فإن الكافرين هم الذين يذهب حرثهم بالكلية . يعني أنه شبه أعمال الكفار التي يظنونها نافعة ، ومآلها الخيبة ، برؤية الكافر الشديد العطش في المحشر ، سراباً يحسبه شراباً ، فينتظم عطف وجد الله أحسن انتظام كما نوَّروه . كذا في " الكشف " .
الثالثة : قال الشهاب : وهذا تشبيه بليغ وقع مثله في قوله مالك بن نويرة :
~لَعَمْرِيَ إِني وابن جارود كالَّذِي أَرَاقَ شُعَيْبَ الماءِ والآلُ يَبْرُقُ
~فَلما أتاه ، خَيَّبَ اللهُ سعيَهُ فأمسى يَغُضّ الطرفَ عيمانَ يَشْهَقُ
ثم أشار تعالى إلى تمثيلهم بنوع آخر ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } [ 40 ] .
{ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ } أي : عميق كثير الماء : { يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ } أي : متراكم بعضه على بعض : { مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } أي : متكاثفة متراكمة . وهذا بيان لكمال شدة الظلمات : { إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ } أي : وجعلها بمرأى منه ، قريبة من عينه لينظر إليها : { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } أي : ومن لم يشأ الله أن يهديه لنوره الذي هو القرآن ، فما له هدايةٌ ما . وهذا في مقابلة قوله تعالى في مثل المؤمنين : { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ } والجملة تقرير للتمثيل قبلُ ، وتحقيق أن ذلك لعدم هدايته تعالى إياهم ، إذ لم يجاهدوا لنيل ذلك ، قال تعالى : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] .
لطيفة :
قال ابن كثير : هذان المثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار . كما ضرب للمنافقين في أول البقرة مثلين : ناريّاً ومائياً . وكما ضرب لما يقرّ في القلوب من الهدى والعلم ، في سورة الرعد ، مثلين مائيّاً وناريّاً .
ثم قال : أما الأول فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم أصحاب الجهل المركب الذين يحسبون أنهم على شيء . فمثلهم كالسراب . والثاني لأصحاب الجهل البسيط وهم المقلدون لأئمة الكفر الصم البكم ، الذين لا يعقلون . فلا يعرف أحدهم حال من يقوده ولا يدري أين يذهب . بل كما يقال في المثل للجاهل : أين تذهب ؟ قال : معهم . قيل : فإلى أين يذهبون ؟ قال : لا أدري انتهى .
وما ذكره مما يحتمله اللفظ الكريم ، وليس بمتعين . ومستنده في ذلك ما ذكره شيخه الإمام ابن القيم ، عليهما الرحمة والرضوان ، في الجيوش الإسلامية ولا بأس بإيرادها لما اشتملت عليه من بدائع الفوائد . قال : انظر كيف انتظمت هذه الآيات طرائق بني آدم أتم انتظام ، واشتملت عليه أكمل اشتمال . فإن الناس قسمان : أهل الهدى والبصائر الذين عرفوا أن الحق فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه وتعالى ، وأن كل ما عارضه فشبهات يشتبه على من قل نصيبه من العقل والسمع أمرها ، فيظنها شيئاً له حاصل فينتفع به . وهي كسراب بقيعة الخ ، وهؤلاء هم أهل الهدى ودين الحق ، أصحاب العلم النافع والعمل الصالح ، الذين صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم في أخباره ، ولم يعارضوها بالشبهات . وأطاعوه في أوامره ولم يضيعوها بالشهوات . فلا هم في عملهم ، من أهل الخوض الخراصين : { الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } [ الذاريات : 11 ] ولا هم في عملهم من المستمتعين بخلاقهم ، الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون . أضاء لهم نور الوحي المبين ، فرأوا في نوره أهل الظلمات في آرائهم يعمهون . وفي ضلالهم يتهوكون . وفي ريبهم يترددون . مغترين بظاهر السراب ، ممحلين مجدبين ما بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم من الحكمة وفصل الخطاب : { إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ } [ غافر : 56 ] ، أوجبه لهم اتباع الهوى ، وهم لأجله يجادلون في آيات الله بغير سلطان .
القسم الثاني : أهل الجهل والظلم الذين جمعوا بين الجهل بما جاء به والظلم باتباع أهوائهم . الذين قال الله تعالى فيهم : { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } [ النجم : 23 ] ، وهؤلاء قسمان : أحدهما ، الذين يحسبون أنهم على علم وهدى ، وهم أهل الجهل والضلال . فهؤلاء أهل الجهل المركب ، الذين يجهلون الحق ويعادونه ، ويعادون أهله ، وينصرون الباطل ويوالون أهله . وهم يحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون . فهم لاعتقادهم الشيء على خلاف ما هو عليه ، بمنزلة رائي السراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً . وهكذا هؤلاء . أعمالهم وعلومهم بمنزلة السراب الذي يخون صاحبه أحوج ما هو إليه . ولم يقتصر على مجرد الخيبة والحرمان ، كما هو حال مَنْ أَمَّ السراب فلم يجده ماء . بل انضاف إلى ذلك أنه وجد عنده أحكم الحاكمين وأعدل العادلين . سبحانه وتعالى . فحسب له ما عنده من العلم والعمل ، فوفاه إياه بمثاقيل الذر . وقدم إلى ما عمل من عمل يرجو نفعه فجعله هباءً منثوراً . إذ لم يكن خالصاً لوجهه ، ولا على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم . وصارت تلك الشبهات الباطلة التي كان يظنها علوماً نافعة ، كذلك هباءً منثوراً . فصارت أعماله وعلومه حسرات عليه . والسراب ما يرى في الفلاة المنبسطة من ضوء الشمس وقت الظهيرة يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري والقيعة والقاع هو المنبسط من الأرض الذي لا جبل فيه ولا فيه واد . فشبه علوم من لم يأخذ علومه من الوحي وأعماله ، بسراب يراه المسافر في شدة الحر ، فيؤمّه ، فيخيب ظنه ويجده ناراً تلظى . فهكذا علوم أهل الباطل وأعمالهم إذا حشر الناس واشتد بهم العطش ، بدت لهم كالسراب . فيحسبونه ماء . فإذا أتوه وجدوا الله عنده ، فأخذتهم زبانية العذاب ، فَعَتَلُوهم إلى نار الجحيم فَسُقُوا ماء حميماً ، فقطع أمعاءهم . وذلك الماء الذي سقوه هو تلك العلوم التي لا تنفع ، والأعمال التي كانت لغير الله تعالى صيرها الله تعالى حميماً سقاهم إياه . كما أن طعامهم من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع وهو تلك العلوم والأعمال الباطلة التي كانت في الدنيا كذلك لا تسمن ولا تغني من جوع وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [ الكهف : 103 - 104 ] ، وهم الذين عنى بقوله : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً } [ الفرقان : 23 ] ، وهم الذين عنى بقوله تعالى : { كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [ البقرة : 167 ] .
القسم الثاني من هذا الصنف ، أصحاب الظلمات . وهم المنغمسون في الجهل . بحيث قد أحاط بهم من كل وجه ، فهم بمنزلة الأنعام بل هم أضل سبيلاً . فهؤلاء أعمالهم التي عملوها على غير بصيرة ، بل بمجرد التقليد واتباع الآباء من غير نور من الله تعالى : { كَظُلُمَاتٍ } جمع ظلمة وهي ظلمة الجهل وظلمة الكفر وظلمة الظلم واتباع الهوى وظلمة الشك والريب وظلمة الإعراض عن الحق الذي بعث الله تعالى به رسله صلوات الله وسلامه عليهم . والنور الذي أنزله معهم ليخرجوا به الناس من الظلمات إلى النور . فإن المعرض عما بعث الله به تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق ، يتقلب في خمس ظلمات : قوله : ظلمة . وعمله ظلمة . ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة ومصيره إلى ظلمة . وقلبه مظلم ووجهه مظلم وكلامه مظلم . وحاله مظلم . وإذا قابلت بصيرته الخفاشية ما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من النور ، جدّ في الهرب منه ، وكاد نوره يخطف بصره ، فهرب إلى ظلمات الآراء التي هي به أنسب وأولى كما قيل :
~خفافيش أعشاها النهارُ بضَوْئِه ووافقها قِطْعٌ من الليل مُظْلِمُ
وقوله تعالى : { فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ } اللجيّ العميق . منسوب إلى لجة البحر وهو معظمه . وقوله تعالى : { يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ } تصوير لحال المعرض عن وحيه . فشبه تلاطم أمواج الشبه والباطل في صدره ، بتلاطم أمواج ذلك البحر ، وأنهم أمواج بعضها فوق بعض . والضمير الأول قوله : { يَغْشَاهُ } راجع إلى البحر ، والضمير الثاني في قوله : { مِنْ فَوْقِهِ } عائد إلى الموج . ثم إن تلك الأمواج مغشاة بسحاب . فها هنا ظلمات : ظلمة البحر الّلجي ، وظلمة الموج الذي فوقه ، وظلمة السحاب الذي فوق ذلك كله : { إِذَا أَخْرَجَ } من في هذا البحر : { يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } واختلف في معنى ذلك . فقال كثير من النحاة : هو نفي لمقاربة رؤيتها . وهو أبلغ من نفيه الرؤية . وإنه قد ينفي وقوع الشيء ولا تنفى مقاربته . فكأنه قال : لم يقارب رؤيتها بوجه .
قال هؤلاء : كاد من أفعال المقاربة . لها حكم سائر الأفعال في النفي والإثبات . فإذا قيل : كاد يفعل ، فهو إثبات مقاربة الفعل . وإذا قيل : لم يكد يفعل ، فهو نفي لمقاربة الفعل .
وقالت طائفة أخرى : بل هذا دالّ على أنه إنما يراها بعد جهد شديد . وفي ذلك إثبات رؤيتها بعد أعظم العسر ، لأجل تلك الظلمات : قالوا : لأن كاد لها شأن ليس لغيرها من الأفعال . فإنها إذا أثبتت نفت . وإذا نفت أثبتت . فإذا قلت : ما كدت أصل إليك فمعناه : وصلت إليك بعد الجهد والشدة . فهذا إثبات للوصول . وإذا قلت : كاد زيد يقوم فهي نفي لقيامه . كما قال تعالى : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } [ الجن : 19 ] .
ومنه قوله تعالى : { وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ } [ القلم : 51 ] ، وأنشد بعضهم في ذلك لغزاً :
~أنحويَّ هذا العصر ! ما هي لفظةٌ جرت في لسانيْ جرهم وثَمُودِ ؟
~إذا استعملت في صورة النفي أثبَتَتْ وإن أثْبَتَتْ قامت مقام جُحُودِ
وقالت فرقة ثالثة ، منهم أبو عبد الله بن مالك وغيره : إن استعمالها مثبتة ، يقتضي نفي خبرها . كقولك كاد زيد يقوم واستعمالها منفية يقتضي نفيه بطريق الأولى ، فهي عنده تنفي الخبر . سواء كانت منفية أو مثبتة . فلم يكد زيد يقوم أبلغ عند في النفي من لم يقم واحتج بأنها إذا نفيت - وهي من أفعال المقاربة - فقد نفيت مقاربة الفعل . وهو أبلغ من نفيه . وإذا استعملت مثبتة فهي تقتضي مقاربة اسمها لخبرها . وذلك يدل على عدم وقوعه . واعتذر عن مثل قوله تعالى : { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } [ البقرة : 71 ] ، وعن مثل قوله : وصلت إليك وما كدت أصل وسلمت وما كدت أسلم بأن هذا وارد على كلامين متباينين . أي : فعلت كذا بعد أن لم أكن مقارباً له ، فالأول يقتضي وجود العمل ، والثاني يقتضي أنه لم يكن مقارباً له ، بل كان آيساً منه . فهما كلامان مقصود بهما أمران متباينان .
وذهبت فرقة رابعة إلى الفرقة بين ماضيها ومستقبلها . فإذا كانت في الإثبات فهي لمقاربة الفعل . سواء كانت بصيغة الماضي أو المستقبل . وإن كانت في طرف النفي ، فإن كانت بصيغة المستقبل ، كانت لنفي الفعل ومقاربته . نحو قوله : { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } وإن كانت بصيغة الماضي فهي تقتضي الإثبات نحو قوله : { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } [ البقرة : 71 ] ، فهذه أربعة طرق للنحاة في هذه اللفظة .
والصحيح أنها فعل يقتضي المقاربة . ولها حكم سائر الأفعال . ونفي الخبر لم يستفد من لفظها ووضعها . فإنها لم توضع لنفيه . وإنما استفيد من لوازم معناها . فإنها إذا اقتضت مقاربة الفعل ، لم يكن واقعاً ، فيكون منفياً باللزوم . وأما إذا استعملت منفية ، فإن كانت في كلام واحد ، فهي لنفي المقاربة . كما إذا قلت : لا يكاد البطال يفلح ولا يكاد البخيل يسود ولا يكاد الجبان يفرح ونحو ذلك . وإن كانت في كلامين ، اقتضت وقوع الفعل ، بعد أن لم يكن مقارباً . كما قال ابن مالك : فهذا التحقيق في أمرها .
والمقصود إن قوله : { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } إما أن يدل على أنه لا يقارب رؤيتها لشدة الظلمة ، وهو الأظهر . فإذا كان لا يقارب رؤيتها ، فكيف يراها ؟ قال ذو الرمة :
~إذا غَيَّرَ النأيُ المحبينَ لم يَكَدْ رسيسُ الْهَوَى فِي حُبِّ مَيَّة يَبْرَحُ
أي لم يقارب البراح . وهو الزوال ، فكيف يزول ؟ فشبه سبحانه أعمالهم أولاً ، في فوات نفعها وحصول ضررها عليهم ، بسراب خداع يخدع رائيه من بعيد . فإذا جاءه وجده عنده عكس ما أمله ورجاه . شبهها ثانياً في ظلمتها وسوادها ، لكونها باطلة خالية عن نور الإيمان ، بظلمات متراكمة في لجج البحر المتلاطم الأمواج : الذي قد غشيه السحاب من فوقه . فيا له تشبيهاً ما أبدعه ! وأشد مطابقته بحال أهل البدع والضلال ! وحال من عبد الله سبحانه وتعالى على خلاف ما بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل به كتابه ! وهذا التشبيه هو تشبيه لأعمالهم الباطلة بالمطابقة والتصريح ، ولعلومهم وعقائدهم الفاسدة باللزوم . وكل واحد من السراب والظلمات ، مثل لمجموع علومهم وأعمالهم . فهي سراب لا حاصل لها ، وظلمات لا نور فيها . وهذا عكس مثل أعمال المؤمن وعلومه ، التي تلقاها من مشكاة النبوة . فإنها مثل الغيث الذي به حياة البلاد والعباد . ومثل النور الذي به انتفاع أهل الدنيا والآخرة . ولهذا يذكر سبحانه هذين المثلين في القرآن في غير موضع ، لأوليائه وأعدائه . انتهى . كلام ابن القيم رحمه الله تعالى .
ثم أشار تعالى إلى تعديل الدلائل على ربوبيته ووحدانيته في ألوهيته ، وظهور أمره وجلالته ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } [ 41 ] .
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : ينزهه ويقدسه وحده ، أهلوهما : { وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ } أي : يصففن أجنحتهن في الهواء : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } أي : كل واحد مما ذكر ، قد هدى وأرشد إلى طريقته ومسلكه ، في عبادة الله عزَّ وجلَّ . فالضمير في علم لكل . أو للفظ الجلالة ، كالضمير في صلاته وتسبيحه .
قال الزمخشري : ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه ، كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها .
وتقدم في سورة الإسراء كلام في تسبيح الجمادات ، فارجع إليه : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } [ 42 ] .
{ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } أي : هو الإله الحاكم المتصرف فيهما ، الذي لا تنبغي العبادة فيهما إلَّا له ، وإليه يوم القيامة ، مصير الخلائق ، فيحكم بينهم ، ويجزي الذين أساءوا بما عملوا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ } [ 43 ] .
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً } أي : يسوقها برفق . ومنه البضاعة المزجاة ، يزجيها كل أحد . أي : يدفعها لرغبته عنها ، أو لقدرته على سوقها وإيصالها : { ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ } بضم بعضه إلى بعض . فيجعل القطع المتفرقة قطعة واحدة : { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً } أي : متراكماً بعضه فوق بعض : { فَتَرَى الْوَدْقَ } أي : المطر : { يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ } وهي فرجه ومخارج القطر منه : { وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ } قال ابن كثير : يحتمل المعنى : فيصيب بما ينزل من السماء من نوعي المطر والبرد رحمة بهم ويصرفه عن آخرين حكمة وابتلاء . ويحتمل المعنى : فيصيب بالبرد من يشاء نقمة لما فيه من نثر الثمار وإتلاف الزروع . ويصرفه عمن يشاء رحمة بهم . انتهى .
وخلاصته أن الضمير إما للأقرب ، على الثاني ، أوله ولما قبله ، على الأول .
لطيفة :
قد ذكرت من الجارّة في الآية ثلاث مرات . فالأولى ابتدائية اتفاقاً . والثانية زائدة أو تبعيضية أو ابتدائية ، على جعل مدخولها بدلاً مما قبله بإعادة الجار . والثالثة فيها هذه الأقوال . وتزيد برابع ، وهو أنها لبيان الجنس . والتقدير : ينزل من السماء بعض جبال ، التي هي البرد .
{ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ } أي : لمعانه : { يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ } أي : يخطفها لشدته وقوته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } [ 44 ] .
{ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } أي : يأتي بكل منهما بدل الآخر خلفاً له . أو يأخذ من طول أحدهما فيجعله في الآخر رحمة بالعباد ، لانتظام معايشهم : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ 45 - 46 ] .
{ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ } كل حيوان يدب على الأرض من ماء ، وهو جزء مادته . أو ماء مخصوص هو النطفة ، فيكون تنزيلاً للغالب منزلة الكلّ لأن من الحيوانات ما لا يتولد من نطفة . وقيل : { مِنْ مَاءٍ } متعلق بدابة وليست صلة لخلق : { فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ } كالحيات [ في المطبوع : الحياة ] . وتسمية حركتها مشياً ، مع كونها زحفاً ، بطريق الاستعارة أو المشاكلة : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } أي : مما ذكر وغيره ، على من يشاء من الصور والأعضاء والهيئات والحركات : { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وهو صراط تلك الآيات ، صراط الحق والهدى والنور . وهم المؤمنون الصادقون الذين استجابوا لله والرسول ، وإذا دعوا إلى حكمها استكانوا .
ثم أشار إلى ما كانت يقع من المنافقين من أثر النفاق ، تحذيراً من صنيعهم ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ 47 - 50 ] .
{ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } أي : دعوى الإيمان : { وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } أي : في قلوبهم . ثم برهن عليه بقوله : { وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ } أي : كتابه : { وَرَسُولِهِ } أي : سنته وحكمه : { لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ } أي : عن المجيء إليه : { وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ } أي : الحكومة لهم ، لا عليهم : { يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } أي : مسرعين طائعين . وقوله تعالى : { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } أي في الحكم فيظلموا فيه . قال أبو السعود : إنكار واستقباح لإعراضهم المذكور . وبيان لمنشئه بعد استقصاء عدة من القبائح المحققة فيهم ، والمتوقعة منهم . وتردي المنشئية بينها . فمدار الاستفهام ليس نفس ما وليته الهمزة وأَمْ من الأمور الثلاثة ، بل هو منشئيتها له . كأنه قيل : أذلك ، أي : إعراضهم المذكور ، لأنهم مرضى القلوب لكفرهم ونفاقهم ، أم لأنهم ارتابوا في أمر نبوته عليه السلام ، مع ظهور حقيتها ؟ أم لأنهم يخافون الحيف ممن يستحيل عليه ذلك ؟ إشارة إلى استجماعهم تلك الأوصاف الذميمة ، التي كل واحد منها كفر ونفاق .
ثم بيّن اتصافهم مع ذلك بالوصف الأسوأ وهو الظلم ، بقوله تعالى : { بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } أي : الذين رسِخ فيهم خلق الظلم لأنفسهم ولغيرهم . فالإضراب انتقالي .
والمعنى : دع هذا كله ، فإنهم هم الكاملون في الظلم ، الجامعون لتلك الأوصاف .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ 51 - 52 ] .
{ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } .
قال السيوطيّ في " الإكليل " : فيها وجوب الحضور على من دعي لحكم الشرع ، وتحريم الامتناع ، واستحباب أن يقول : سمعنا وأطعنا . انتهى .
ثم أشير إلى حكاية شيء من أحوال أولئك المنافقين الممتنعين عن قبول حكمه ، وذلك إقسامهم الكاذب ، ليستدل به على إيمانهم الباطن ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ 53 ] .
{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ } أي : بالخروج من ديارهم وأموالهم وأهليهم : { لَيَخْرُجُنَّ } أي : مجاهدين . وجهد منصوب على الحالية . أو هو مصدر لأقسموا من معناه . وهو مستعار من جهد نفسه إذا بلغ وسعها . أي : أكدوا الأيمان وشدّدوها : { قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ } أي : لا تقسموا على ذلك وتشددوا لترضونا . فإن الأمر المطلوب منكم طاعة معروفة ، لا تنكرها النفس . إذ لا حرج فيها . فأطيعوا بالمعروف من غير حلف ، كما يطيع المؤمنون . وقيل : معناه طاعتكم طاعة معروفة . أي : أنها قول بلا عمل . إذ عرف كذبكم في أيمانكم . كما قال تعالى : { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ } [ التوبة : 96 ] الآية ، وقال تعالى : { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } [ المجادلة : 16 ] الآية ، فهم من سجيتهم الكذب حتى فيما يختارونه ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ } [ الحشر : 11 - 12 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي : من الأعمال الظاهرة والباطنة ، التي منها الأيمان الكاذبة ، وما تضمرونه من النفاق ومخادعة المؤمنين ، التي لا تخفى على من يعلم السر وأخفى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } [ 54 ] .
{ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي : تولوا عن الإطاعة : { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ } أي : كلفه من أداء الرسالة . فإذا أدى فقد خرج من عهدة تكليفه .
{ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } أي : ما أمرتم به من الطاعة والتلقي بالقبول والإذعان والقيام بمقتضاه : { وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } أي : لأنه يدعوكم إلى الصراط المستقيم . فإن أطعتموه فقد أحرزتم نصيبكم من الخروج عن الضلالة إلى الهدى . وإن لم تفعلوا وتوليتم فقد عرّضتم نفوسكم لسخط الله وعذابه : { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } أي : التبليغ البيّن بنفسه ، أو الموضح لما أمرتم به .
ولما تضمن قوله تعالى : { تَهْتَدُوا } إشارة إلى وعد كريم ومستقبل فخيم ، استأنف التصريح به تقريراً له ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ 55 ] .
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ } أي : يورثهم الأرض ويجعلهم فيها خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في ممالكهم . أو خلفاء من الذين لم يكونوا على حالهم من الإيمان والأعمال الصالحة : { كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي : من الأمم المؤمنة برسلها . التي أهلك الله عدوَّها ، وأورثها أرضها وديارها . كما فعل ببني إسرائيل حين أورثهم فلسطين ، بعد إهلاك الجبابرة : { وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ } أي : فليجعلن دينهم ثابتاً مقرراً ، مرفوع اللواء ، ظاهراً على غيره ، قاهراً لمن ناوأه .
قال أبو السعود : وفي إضافة الدين إليهم . وهو دين الإسلام ، ثم وصفه بارتضائه لهم ، تأليف لقلوبهم ومزيد ترغيب فيه ، وفضل تثبيت عليه : { وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ } أي : بعد هذا الوعد الكريم الموجب لتحصيل ما تضمنه من السعادتين : { فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } أي : الكاملون في فسقهم . حيث كفروا تلك النعمة العظيمة . وجسروا على غمطها .
تنبيه :
في هذه الآية من الدلالة على صحة النبوة للإخبار بالغيب على ما هو عليه قبل وقوعه - ما لا يخفى . فقد أنجز الله وعده ، وأظهرهم على جزيرة العرب ، وافتتحوا بعدُ بلادَ المشرق والمغرب . ومزقوا ملك الأكاسرة ، وملكوا خزائنهم واستولوا على الدنيا ، وصاروا إلى حال يخافهم كل من عداهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ 56 - 57 ] .
{ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } معطوف على أطيعوا الله وما اعترض بينهما كان تأكيداً ، أو على مقدر يستدعيه السوق . أي : فآمنوا واعملوا صالحاً وأقيموا . أو فلا تكفروا وأقيموا . الخ . ثم كرر طاعة الرسول ، تأكيداً لوجوبها ، بقوله : { وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ } أي : معجزين لله تعالى ، بل مدرَكُون : { وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .
ثم أشير إلى تتمة الأحكام السابقة ، إثر تمهيد ما يجب امتثاله من الأحكام ، ومن الترغيب والترهيب ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 58 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي : من العبيد والجواري : { وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ } أي : هي ثلاث عورات لكم . إشارة إلى علة وجوب الاستئذان بأنهن أوقات يختلّ فيها التستّر عادة ، ويكون النوم فيها مع الأهل غالباً . فالهجوم على أهل البيت في هذه الأحوال ، مما تأباه النفوس وتكرهه أشد الإباء والكراهة : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ } أي : ليس عليكم جناح في ترك نهيهم عن الدخول بلا إذن . ولا عليهم جناح من الدخول بدونه ، بعد هذه الأوقات ، وإن احتمل فيها الإخلال بالتستر لندرته . وذلك لأنهم طوافون عليكم ، فيعسر عليهم الاستئذان في كل مرة : { بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ } أي : بعضكم طائف على بعض طوافاً كثيراً . أو بعضكم يطوف على بعض .
قال الزمخشري : يعني أن بكم وبهم حاجة إلى المخالطة والمداخلة ، يطوفون عليكم للخدمة وتطوفون عليهم للاستخدام . فلو جزم الأمر بالاستئذان في كل وقت لأدّى إلى الحرج { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } يشرع ما فيه الحكمة وصلاح الحال وانتظام الشأن .
تنبيه :
في الآية إقرارُ ما جرت به العادة من أن النوم وقته بعد العشاء وقبل الفجر ووقت الظهيرة . وقد يستدل بها على أن كشف العورة في الخلوة جائز . كذا في " الإكليل " . وقال الرازي : الآية دالة على أن الواجب اعتبار العلل في الأحكام إذا أمكن لأنه تعالى نبه على العلة في هذه الأوقات الثلاثة من وجهين : أحدهما بقوله تعالى : { ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ } والثاني بالتنبيه على الفرق بين هذه الأوقات الثلاثة ، وبين ما عداها ، بأنه ليس ذاك إلا لعلة التكشف في هذه الأوقات الثلاثة ، وإنه لا يؤمن وقوع التكشف فيها وليس كذلك ما عدا هذه الأوقات .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 59 ] .
{ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ } أي : الذين رخص لهم في ترك الاستئذان في غير الأوقات المذكورة : { مِنْكُمُ } أي : من الأحرار ، دون المماليك ، فإنهم باقون على الرخصة : { الْحُلُمَ } أي : حدّ البلوغ بالاحتلام ، و بالسنّ الذي هو مظنة الاحتلام : { فَلْيَسْتَأْذِنُوا } أي : في سائر الأوقات أيضاً : { كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي : الذين بلغوا الحلم من قبلهم ، وهم الرجال أو الذين ذكروا من قبلهم في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا } [ 27 ] .
والمعنى أن الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن ، إلا في العورات الثلاثة . فإذا اعتاد الأطفال ذلك ، ثم خرجوا عن حدّ الطفولة ، بأن يحتلموا أو يبلغوا السنّ التي يحكم فيها عليهم بالبلوغ ، وجب أن يفطموا عن تلك العادة ، ويحملوا على أن يستأذنوا في جميع الأوقات ، كما يستأذن الرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن .
وهذا مما الناس منه في غفلة . وهو عندهم كالشريعة المنسوخة . وعن ابن عباس : آيةٌ لا يؤمن بها أكثر الناس : آية الإذن . وإني لآمر جارتي أن تستأذن عليّ .
وسأله عطاء : أستأذنُ على أختي ؟ قال : نعم ، وإن كانت في حجرك تمونها . وتلا هذه الآية .
وعنه : ثلاث آيات جحدهن الناس : الإذن كله . وقوله : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] ، فقال ناس : أعظمكم بيتاً . وقوله : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ } [ النساء : 8 ] . كذا في " الكشاف " .
تنبيه :
قال في " الإكليل " : في الآية أن التكليف إنما يكون بالبلوغ . وأن البلوغ يكون بالاحتلام . وأن الأولاد البالغين لا يدخلون على والديهم إلا بالاستئذان ، كالأجانب . انتهى .
وقال التقي السبكي في " إبراز الحكم في شرح حديث رفع القلم " : أجمع العلماء على أن الاحتلام يحصل به البلوغ في حق الرجل . ويدل لذلك قوله تعالى : { وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا } وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : < وعن الصبيّ حتى يحتلم > . وهي رواية ابن أبي السرح عن ابن عباس . قال : والآية أصرح . فإنها ناطقة بالأمر بعد الحلم . وورد أيضاً عن علي رضي الله عنه ، رفعه : < لا يُتم بعد احتلام ، ولا صمات يوم إلى الليل > رواه أبو داود . والمراد بالاحتلام خروج المني . سواء كان في اليقظة أم في المنام ، بحلم أو غير حلم . ولما كان في الغالب لا يحصل إلا في النوم بحلم ، أطلق عليه الحلم والاحتلام ، ولو وجد الاحتلام من غير خروج مني ، فلا حلم له .
ثم قال : وقوله في الحديث : < حتى يحتلم > دليل البلوغ بذلك . وهو إجماع . وهو حقيقة في خروج المني بالاحتلام ، ومجاز في خروجه بغير احتلام يقظة أو مناماً . أو منقول فيما هو أعم من ذلك ، ويخرج منه الاحتلام بغير خروج مني ، إن أطلقناه عليه منقولاً عنه . ولكونه فرداً من أفراد الاحتلام . انتهى .
وفي " القاموس " : الْحلُم بالضم والاحتلام : الجماع في النوم . والاسم الحلم كعنق . انتهى .
وقال الراغب : سمي البلوغ حلماً ، لكون صاحبه جديراً بالحِلم : أي : الأناة والعقل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 60 ] .
{ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ } أي : اللاتي قعدن عن الحيض والولد ، لكبرهن : { اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً } أي : لا يطمعن فيه ، لرغبة الأنفس عنهن : { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ } أي : الظاهرة مما لا يكشف العورة ، لدى الأجانب . أي : يتركن التحفظ في التستر بِهَا . فلا يلقين عليهن جلابيبهن ولا يحتجبن : { غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ } أي : مظهرات لزينة خفية . يعني الحليّ في مواضعه المذكورة في قوله تعالى : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } [ 31 ] أو المعنى غير قاصدات بالوضع ، التبرج . ولكن التخفف إذا احتجبن إليه : { وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ } أي : من وضع تلك الثياب : { خَيْرٌ لَهُنَّ } لأنه أبلغ في الحياء وأبعد من التهمة والمظنة . ولذا يلزمهن ، عند المظنة ، ألا يضعن ذلك . كما يلزم مثله في الشابة : { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : فيسمع مقالهن مع الأجانب ، ويعلم مقاصدهن من الاختلاط ووضع الثياب . وفيه من الترهيب ما لا يخفى . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ 61 ] .
{ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } أي : في القعود عن الغزو ، لضعفهم وعجزهم . وهذه الآية كالتي في سورة الفتح وكآية براءة : { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 91 ] ، وهذا ما ذهب إليه عطاء وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم . وزَعْمُ أنه لا يلائم ما قبله ولا ما بعده ، مردود بأن المراد أن كلّاً من الطائفتين منفيّ عنه الحرج . ومثال هذا - كما قال الزمخشريّ - أن يستفتيك مسافر عن الإفطار في رمضان . وحاجّ مفردِ عن تقديم الحلق على النحر . قلت له : ليس على المسافر حرج أن يفطر ، ولا عليك ، يا حاج أن تقدم الحلق عن النحر . يعني أنه إذا كان في العطف غرابة ، لبعد الجامع في بادئ النظر ، وكان الغرض بيان حكم حوادث تقاربت في الوقوع ، والسؤال عنها والاحتياج إلى البيان لكونها في معرض الاستفتاء ، والإفتاء كان ذلك جامعاً بينها ، محسناً للعطف ، وإن تباينت .
قال الشهاب : وبهذا يظهر الجواب عن زعم أنه لا يلائم ما قبله ولا ما بعده .
لأن ملائمته لما بعده قد عرف وجهها . وأما ملائمته لما قبله فغير لازمة ، إذا لم يعطف عليه . انتهى .
وقيل : كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي العاهات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم ، وإلى بيوت قراباتهم وأصدقائهم ، فيطعمونهم منها . فخالج قلوب المطعِمين والمطعَمين ريبة في ذلك . وخافوا أن يلحقهم فيه حرج . وكرهوا أن يكون أكلاً بغير حق ، لقوله تعالى : { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } [ البقرة : 188 ] ، فقيل لهم : ليس على الضعفاء ، ولا على أنفسكم ، يعني عليكم ، وعلى مَن في مثل حالكم من المؤمنين ، حرج في ذلك .
وقيل : كان هؤلاء يتوقون مجالسة الناس ومواكلتهم ، لما عسى يؤدي إلى الكراهة من قبلهم . ولأن الأعمى ربما سبقت يده إلى ما سبقت عين أكيله إليه وهو لا يشعر . والأعرج يتفسح في مجليه ويأخذ أكثر من موضعه ، فيضيق على جليسه . والمريض لا يخلو عن حالة تؤنف .
وقيل : كانوا يخرجون إلى الغزو ، ويخلفون الضعفاء في بيوتهم ، ويدفعون إليهم المفاتيح ، ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم . فكانوا يتحرجون . فقيل : ليس على هؤلاء الضعفاء حرج فيما تحرجوا عنه ، ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت .
هذا ما ذكروه . ولا يخفى صدق الآية على جميع ذلك ، ونفي الحرج عنه كله .
ولا يستلزم نفي الحرج عن مواكلة المريض على هذه الأوجه الأخر ، أن يشرك أكيله الصحيح في غمس يده من إنائه مما حظر منه الطب ، وغدت الأنفس تعافه . بل يراد به حضوره مع الصحيح على مائدة واختصاصه بقصعة على حدة . وما أحسن عادة الانفراد بالقصاع ، مما تطيب معه نفس المرضى والأصحاء في الاجتماع . وقوله تعالى : { وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ } أي : بيوت أزواجكم وعيالكم . أضافه إليهم ، لأن بيت المرأة كبيت الزوج وهذا قول الفرّاء .
وقال ابن قتيبة : أراد بيوت أولادهم . فنسب بيوت الأولاد إلى الآباء ، لأن الولد كسب ولده ، ماله كماله . قال صلى الله عليه وسلم : < إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه ، وأن ولده من كسبه > .
قال : والدليل على هذا ، أنه تعالى عدّد الأقارب ولم يذكر الأولاد . لأنه إذا كان سبب الرخصة هو القرابة ، كان الذي هو أقرب منهم أولى . انتهى .
وعليه ، لا يقال إنه ليس في أكل الإنسان من بيت نفسه حرج ، فما فائدة ذكره بأن المراد بالأنفس من هو بمنزلتها من العيال والأولاد ، كما في قوله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] .
وفي " الكشف " : فائدة إقحام النفس ، أن المراد به ليس على الضعفاء المطعمين ، ولا على الذاهبين إلى بيوت القرابات ، أو من هو في مثل حالهم وهم الأصدقاء - حرج .
وقيل إنه على ظاهره . والمراد إظهار التسوية بينه وبين قرنائه .
قال الشهاب : وهو حسن . ولا يراد عليه أنه حينئذ لم يذكر فيه الأكل من بيوت الأزواج والأولاد ، لأنه داخل في قوله : { مِنْ بُيُوتِكُمْ } . انتهى .
{ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } يعني أموال المرء ، إذا كان له عليها قيم ووكيل يحفظها له ، أن يأكل من ثمر بستانه ويشرب من لبن ماشيته . وملك المفتاح كونها في يده وحفظه : { أَوْ صَدِيقِكُمْ } أي : أو بيوت أصدقائكم . والصديق يكون واحداً وجمعاً . وكذلك الخليط والقطين والعدو . كذا في " الكشاف " .
قال الناصر : وقد قال الزمخشري : إن سرّ إفراده في قوله تعالى : { فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [ الشعراء : 100 - 101 ] ، دون الشافعين ، والتنبيه على قلة الأصدقاء ، ولا كذلك الشافعون فإن الإنسان قد يحمي له ، ويشفع في حقه من لا يعرفه ، فضلاً عن أن يكون صديقاً .
ويحتمل في الآيتين ، أن يكون المراد به الجمع . فلا كلام . ويحتمل أن يراد الإفراد ، فيكون سرّه ذلك . والله أعلم .
قال الزمخشري : يحكى عن الحسن أنه دخل داره . وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالاً من تحت سريره ، فيها الخبيص وأطايب الأطعمة ، وهم مكبون عليها يأكلون فتهللت أسارير وجهه سروراً ، وضحك وقال : هكذا وجدناهم ، هكذا وجدناهم . يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين رضي الله عنهم .
وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب ، فيسأل جاريته كيسه ، فيأخذ منه ما شاء . فإذا حضر مولاها فأخبرته ، أعتقها سروراً بذلك .
وعن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما : من عظم حرمة الصديق ، أن جعله الله من الأنس والثقة والانبساط وطرح الحشمة ، بمنزلة النفس والأب والأخ والابن .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الصديق أكبر من الوالدين . إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات . فقالوا : { فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [ الشعراء : 100 - 101 ] . وقالوا : إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك ، قام ذلك مقام الإذن الصريح . وربما سمج الاستئذان وثقل . كمن قدم إليه طعام ، فاستأذن صاحبه في الأكل منه . انتهى .
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } أي : مجتمعين أو متفرقين . روي أن قوماً من الأنصار إذا نزل بهم ضيف ، لا يأكلون إلا مع ضيفهم . وإن قوماً كانوا تحرجوا من الاجتماع على الطعام ، لاختلاف الناس في الأكل ، وزيادة بعضهم على بعض . فأبيح لهم ذلك .
وقال قتادة : كان هذا الحيّ من بني كنانة ، يرى أحدهم ؛ أن مخزاة عليه ، أن يأكل وحده في الجاهلية . حتى إن كان الرجل ليسوق الذود الحقل وهو جائع ، حتى يجد من يؤاكله ويشاربه . واشتهر هذا عن حاتم لقوله :
~إذا ما صَنعْتِ الزَّادَ فَالتَمِسِي لَهُ أكيلاً فإِني لستُ آكِلَهُ وَحْدِي
قال الشهاب : وفي الحديث : < شر الناس من أكل وحده ، وضرب عبده ، ومنع رفده > والنهي في الحديث لاعتياده بخلاً بالقرى ، ونفي الحرج عن وقوعه أحياناً ، بيان لأنه لا إثم فيه ، ولا يذم به شرعاً ، كما ذمّت به الجاهلية .
{ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } أي : إذا دخلتم بيتاً من هذه البيوت لتأكلوا ، فابدأوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم ، قرابة وديناً . قاله الزمخشري .
أشار رحمه الله ، إلى أن المراد بالأنفس من هم بمنزلتها ، لشدة الاتصال كقوله : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] ويحتمل أن المسلم ، إذا ردت تحيته عليه ، فكأنه سلم على نفسه . كما أن القاتل لاستحقاقه القتل بفعله ، كأنه قاتل نفسه . وأما إبقاؤه على ظاهره ؛ إذا لم يكن في البيت أحد ، يسره أن يقول : السلام علينا وعلى عَبَّاد الله الصالحين . كما روي عن ابن عباس - فبعيد غير مناسب لعموم الآية . كذا في " الشهاب " .
وقال الناصر : في التعبير عنهم ، بالأنفس ، تنبيه على السر الذي اقتضى إباحة الأكل من هذه البيوت المعدودة ، وأن ذلك إنما كان ، لأنها بالنسبة إلى الداخل كبيت نفسه ، لاتحاد القرابة . . فليطب نفساً بانبساط فيها : { تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أي : ثابتة بأمر ، مشروعة من لدنه : { مُبَارَكَةً } أي : مستتبعة لزيادة الخير والثواب ودوامها : { طَيِّبَةً } أي : تطيب بها نفس المستمع : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي : ما فيها من الأحكام أو الآداب القائدة إلى سعادة الدارين .
ولما أمر تعالى بالاستئذان عند الدخول ، أرشد إلى الاستئذان عند الانصراف من مجلسه صلوات الله عليه ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ 62 ] .
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
قال الزمخشري : أراد عزَّ وجلَّ أن يريهم عظم الجناية ذهاب الذاهب من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذنه . فجعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه ، ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله . وجعلهما كالتشبيب له والبساط لذكره . وذلك مع تصدير الجملة بإنما وإيقاع المؤمنين مبتدأ مخبراً عنه بموصول ، أحاطت صلته بذكر الإيمانيْن . ثم عقبه بما يزيده توكيداً وتشديداً ، حيث أعاده على أسلوب آخر ، وهو قوله : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } وضمنه شيئاً آخر . وهو أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانَيْنِ ، وعرّض بحال المؤمنين وتسلّلهم لواذاً . ومعنى قوله : { لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } لم يذهبوا حتى يستأذنوه ويأذن لهم ، ألا تراه كيف علق الأمر بعد وجود استئذانهم بمشيئته وإذنه لمن استوصوبأن يأذن له .
والأمر الجامع : الذي يجمع له الناس . فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز . وذلك نحو مقاتلة عدوّ ، أو تشاور في خطب مهم ، أو تضامّ لإرهاب مخالف ، أو تسامح في حلف وغير ذلك . أو الأمر الذي يعم بضرره أو بنفعه وقرئ : أمر جميع . وفي قوله : { وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ } أنه خطب جلل ، لا بد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه من ذوي رأي وقوة ، يظاهرونه عليه ويعاونونه ، ويستضيء بآرائهم ومعارفهم وتجاربهم ، في كفايته . فمفارقة أحدهم في مثل تلك الحال ، مما يشق على قلبه ، ويشعّث عليه رأيه فمن ثم غلّظ عليهم وضيق عليهم الأمر في الاستئذان ، مع العذر المبسوط ، ومساس الحاجة إليه ، واعتراض ما يهمهم ويعنيهم ، وذلك قوله : { لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ } وذكرُ الاستغفار للمستأذنين ، دليل على أن الأحسن الأفضل أن لا يحدّثوا أنفسهم بالذهاب ، ولا يستأذنوا فيه .
وقيل : نزلت في حفر الخندق . وكان قوم يتسللون بغير إذن . وقالوا : كذلك ينبغي أن يكون الناس مع أئمتهم ومقدمهم في الدين والعلم ، يظاهرونهم ولا يخذلونهم في نازلة من النوازل ، ولا يتفرقون عنهم ، والأمر في الإذن مفوض إلى الإمام . إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن . على حسب ما اقتضاه رأيه .
تنبيه :
استدل بالآية على أن بعض الأحكام مفوّضة إلى رأيه صلى الله عليه وسلم . وتسمى هذه المسألة مسألة التفويض . وهي مبسوطة في الأصول ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 63 ] .
{ لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً } أي : إذا احتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اجتماعكم عنده لأمر ، فدعاكم ، فلا تفرقوا عنه إلا بإذنه . ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضاً . ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي ، قاله [ في المطبوع : قال ] الزمخشري .
وكذا قال ابن الأثير في " المثل السائر " أي : إذا حضرتم في مجلسه ، فلا يكن حضوركم كحضوركم في مجالسكم . أي : لا تفارقوا مجلسه إلا بإذنه ، والزموا معه الأدب .
وذهب قوم إلى أن المراد بالدعاء الأمر . منهم ابن أبي الحديد حيث قال في " الفلك الدائر " : إن المعنى المتقدم ، وإن دلت عليه قرينة متقدمة ، كما قال ابن الأثير - ففي الآية قرينة أخرى متأخرة تقتضي حمله على محمل آخر غير هذا . ولعله الأصح . وهي أن يراد بالدعاء الأمر . يقال : دعا فلان قومه إلى كذا ، أي : أمرهم به وندبهم إليه وقال سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] ، أي : ندبكم . وقال سبحانه : { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ } [ نوح : 7 ] ، أي : أمرتهم وندبتهم ، والقرينة المتأخرة قوله : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } انتهى . وكذا قال المهايمي : أي : لا تجعلوا أمره بينكم كأمركم بينكم يجاب تارة دون أخرى . لأنه واجب الطاعة . لا يسقط بالانسلال عن جملة المدعوّ .
{ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً } أي : ينسلون قليلاً قليلاً . واللواذ : الملاوذة ، وهو أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا . يعني ينسلون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة ، واستتار بعضهم ببعض . ولواذاً حال . أي : ملاوذين .
هذا ، وقيل معنى الآية : لا تجعلوا نداءه وتسميته ، كنداء بعضكم باسمه ورفع الصوت به ، والنداء وراء الحجرة . ولكن بلقبه المعظم . مثل : يا نبيّ الله ! ويا رسول الله ! مع التوقير والتواضع وخفض الصوت .
وضعف بأنه لا يلائم السياق واللحاق . وتكلف بعضهم لربطه بما قبله ، بأن الاستئذان يكون بقولهم : يا رسول الله ! إنا نستأذنك . ولأن من معه في أمر جامع يخاطبه ويناديه . والأول أظهر وأولى كما في " العناية " .
نعم ، في التنزيل عدة آيات ، في إيجاب مشافهته صلوات الله عليه بالأدب ومخاطبته بالتوقير ، جعله من ضرورة الإيمان ومقتضاه . كآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا } [ البقرة : 104 ] الآية ، و : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } [ الحجرات : 2 ] ، إلى قوله : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ } [ الحجرات : 4 ] ، { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } أي : يعرضون عنه ولا يأتون به . فضمن المخالفة معنى الإعراض والصدّ . أو عن صلته . وقيل : إذا تعدى خالف بعن ضمن الخروج . وأصل معنى المخالفة أن يأخذ كل واحد طريقاً غير طريق الآخر في حاله أو فعله ، كما قاله الراغب : { أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } أي : محنة في الدنيا : { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : في الآخرة أو فيهما .
تنبيه :
استدل به على وجوب وزن الأمور بميزان شريعته وسنته ، وأصول دينه . فما وافق قبل ، وما خالف رد على قائله وفاعله ، كائناً من كان . كما ثبت في الصحيحين عنه صلوات الله عليه وسلامه : < من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد > واستدل بالآية أيضاً أن الأمر للوجوب . فإنه يدل على أن ترك مقتضى الأمر مقتض لأحد العذابين . قيل : هذا إنما يتم إذا أريد بالأمر الطلب لا الشأن كما في قوله : { عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ } وقد جوّزا فيه مع إرادتهما معاً . وتفصيل البحث في " الرازي " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ 64 ] .
{ أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ } أيها المكلفون من المخالفة والموافقة ، والنفاق والإخلاص . وإنما أكد علمه بقد لتأكيد الوعيد { وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : فلا يخفى عليه خافية . لأن الكل خلقه وملكه . فيحيط علمه به ضرورة { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [ الملك : 14 ] .(/)
سورة الفرقان
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ 1 ] .
{ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } يحمد تعالى نفسه الكريمة ويثني عليها ، لما أنزله من الفرقان ، كما قال : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ } [ الكهف : 1 - 2 ] .
قال الزمخشري : البركة : كثرة الخير وزيادته . ومنها : { تَبَارَكَ اللَّهُ } . وفيه معنيان : تَزَايَدَ خيره وتكاثر أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه ، في صفاته وأفعاله . و : { الْفُرْقَانَ } مصدر فرق بين الشيئين ، إذا فصل بينهما . وسمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل . أو لأنه لم ينزل جملة واحدة ، ولكن مفروقاً مفصلاً بعضه عن بعض في الإنزال .
ألا ترى إلى قوله : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } [ الإسراء : 106 ] ، انتهى .
قال الناصر : والأظهر هاهنا هو المعنى الثاني . لأنه في أثناء السورة بعد آيات : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } [ 32 ] ، قال الله تعالى : { كَذَلِكَ } أي : أنزلناه مفرقاً كذلك : { لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } فيكون وصفه بالفرقان في أول السورة - والله أعلم - . كالمقدمة والتوطئة لما يأتي بعد . انتهى .
قال أبو السعود : وإيراده صلى الله عليه وسلم بذلك العنوان ، لتشريفه والإيذان بكونه في أقصى مراتب العبودية ، والتنبيه على أن الرسول لا يكون إلا عبداً للمرسل ؛ ردّاً على النصارى ، والكناية في ليكون للعبد أو للفرقان . والنذير صفة بمعنى منذر ، أو مصدر بمعنى الإنذار ، كالنكر مبالغة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [ 2 ] .
{ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } أي : أحدثه إحداثاً مراعي فيه التقدير والتسوية لما أريد منه . كخلق الإنسان للإدراك والفهم والنظر والتدبير واستنباط الصنائع المتنوعة ومزاولة الأعمال المفيدة . وكذلك كل حيوان وجماد خلق على الصورة المقدرة . بأمثلة الحكمة والتدبير لأمر ما ، ومصلحته مطابقاً لما قدر له ، غير متجاف عنه .
ولما تضمن هذا إثبات التوحيد والنبوة ، تأثره بالبرهنة عليهما ، وتضليل المخالفين فيهما ، بقوله سبحانه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً } [ 3 ] .
{ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً } أي : لا يملكون دفع ضر ولا جلب نفع ولا إماتة أحد وإحياءه أوّلاً وبعثه ثانياً . ومن كان كذلك فبمعزل عن الألوهية ، لعرائه عن لوازمها واتصافه بما ينافيها . وفيه تنبيه على أن الإله يجب أن يكون قادراً على البعث والجزاء . أفاده القاضي .
قال الشهاب : قدم الموت لمناسبته للضر المتقدم وفسر الموت والحياة بالإماتة والإحياء والإنشار ، إما بياناً لحاصل المعنى ، لأن ملك الموت له القدرة على الإماتة ، أو إشارة إلى أنه بمعنى الأفعال . كما في قوله : { أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ 4 - 5 ]
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً } أي : بجعل الصدق إفكاً ، والبريء عن الإعانة معيناً : { وَزُوراً } أي : باطلاً لا مصداق له ، يعلمون من أنفسهم أنه باطل وبهتان : { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا } أي : ما سطروه , كتبها لنفسه وأخذها : { فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ } أي : تلقى عليه ليحفظها : { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي : دائماً .
قال ابن كثير : وهذا الكلام ، لسخافته وكذبه وبهته منهم ، يعلم كل أحد بطلانه . فإنه قد علم بالضرورة : أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يكن يعاني شيئاً من الكتابة ، لا في أول عمره ولا في آخره . وقد نشأ بين أظهرهم من أول مولده ، إلى أن بعثه الله نحواً من أربعين سنة ، وهم يعرفون مدخله ومخرجه وصدقه وبره ونزاهته وأمانته . وبعده عن الكذب والفجور وسائر الأخلاق الردية ، حتى إنهم كانوا يسمونه في صغره ، وإلى أن بعث بالأمين لما يعلمون من صدقه وبره . فلما أكرمه الله بما أكرمه به ، نصبوا له العداوة ، ورموه بهذه الأقوال ، التي يعلم كل عاقل براءته منها . وحاروا بما يقذفونه به ، فتارة من إفكهم يقولون : ساحر . وتارة يقولون : شاعر . وتارة يقولون : مجنون . وتارة يقولون كذاب ، قال الله تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 48 ] و [ 9 ] ، وقال تعالى في جواب ما افتروه هنا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً } [ 6 ] .
{ قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : الخفيّ فيهما . إشارة إلى علمه تعالى بحالهم بالأولى . ومن مقتضاه رحمته إياهم بإنزاله ، لزيادة حاجتهم وافتقار أمثالهم إلى إخراجهم من الظلمات بأنواره . وفي طيّه ترهيب لهم بأن ما يسرونه من الكيد للنبيّ عليه الصلاة والسلام ، مع ما يتقولونه ويفترونه ، لا يعزب عن علمه . فسيجزيهم عليه بزهوق باطلهم ومحو أثرهم ، وسموق حقه وظهور أمره : { إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً } تعليل لما هو مشاهد من تأخير عقوبتهم ، مع استيجابهم إياها . أي : فهو يمهل ولا يعاجل لمغفرته ورحمته . أو الوصفان كناية عن كمال قدرته على الانتقام منهم . لأنه لا يوصف بالمغفرة إلا القادر . هذا ما يستفاد من " الكشاف " ومن تابعه ، لبيانه مطابقة ذلك لما قبله .
وقال ابن كثير : قوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً } دعاء لهم إلى التوبة والإنابة ، وإخبار لهم بأن رحمته واسعة ، وأن حلمه عظيم ، وأن من تاب إليه تاب عليه . فهؤلاء مع كذبهم وافترائهم وفجورهم وبهتانهم وكفرهم وعنادهم ، وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا ، يدعوهم سبحانه إلى التوبة ، والإقلاع عما هم فيه ، إلى الإسلام والهدى . كما قال تعالى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ المائدة : 73 - 74 ] وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ } [ البروج : 10 ] ، قال الحسن البصريّ : انظروا إلى هذا الكرم والجود . قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة .
ثم أشار تعالى إلى تعنتهم بخصوص المنزل عليه ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } [ 7 ] .
{ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ } أي : كما نأكل : { وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ } أي : يتردد فيها لشؤونه كما نمشي . قال الزمخشري : يعنون أنه كان يجب أن يكون ملَكاً مستغنياً عن الأكل والتعيش . أي : فيخالف حالُه حالنا . قال أبو السعود : وهل هو إلا لعمههم وركاكة عقولهم ، وقصور أنظارهم على المحسوسات . فإن تميز الرسل عمن عداهم ليس بأمور جسمانية ، وإنما هو بأمور نفسانية . كما أشير إليه بقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } [ الكهف : 110 ] ، ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون مَلَكاً ، إلى اقتراح أن يكون إنساناً معه ملَك حتى يتساندا في الإنذار فقالوا : { لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } ثم نزلوا أيضاً إلى اقتراح أن يرفد بكنز ، إن لم يرفد بملك ، فقالوا :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً } [ 8 ] .
{ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ } أي : من السماء يستظهر به ، ولا يحتاج إلى طلب المعاش , ويكون دليلاً على صدقه . ثم نزلوا فاقتنعوا باقتراح ما هو أيسر منه ، فقالوا : { أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا } أي : بستان يرتزق منه : { وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً } أي : مغلوباً على عقله . وقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً } [ 9 ] .
{ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ } استعظام للأباطيل التي اجترأوا على التفوه بها . والتعجب منها . أي : انظر كيف قالوا في حقك تلك الأقوال الخارجة عن العقول : { فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً } أي : القدح في نبوّتك ، بأن يجدوا قولاً يستقرّون عليه ، أو فَضَلُّوا عن الحق فلا يجدون طريقاً إليه .
قال ابن كثير : كل من خرج عن الحق وطريق الهدى فإنه ضال ، حيثما توجه ، لأن الحق واحد ، ومنهجه متحد يصدق بعضه بعضاً .
ثم نبه تعالى على أَنَّهُ إن شاء آتاه خيراً مما يقترحون ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً } [ 10 ] .
{ تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً } أي : إن شاء جعل لك خيراً مما قالوا . وهو أن يجعل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور . ولكن قضت حكمته ذلك ليكون الرضوخ للحق لا للمال . وليصدع بأن الأمر مبنيّ على النظر والاستدلال ، لا ما يلهي المشاعر والخيال . مما يتطرق إلى الشغب فيه الجدال ، فسبحان الحكيم المتعال . وقوله تعالى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً } [ 11 ] .
{ بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ } إضراب انتقاليّ عن توبيخهم بحكاية جنايتهم السابقة ، وانتقال منه إلى توبيخهم بحكاية جنايتهم الأخرى ، للتخلص إلى بيان ما لهم في الآخرة بسببها ، من فنون العذاب ، بقوله : { وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً } أي : ناراً شديدة الاستعار ، أي : التوقد والالتهاب .
وقيل : هذا الإضراب عطف على ما حكى عنهم وهو : { وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ } على معنى : بل أتوا بأعجب من ذلك كله ، وهو تكذيبهم بالساعة . والحال أنا قد أعتدنا لكل من كذب بها سعيراً . فإن جراءتهم على التكذيب بها ، وعدم خوفهم مما أعد لمن كذب بها ، أعجب من القول السابق .
ويجوز أن يتصل بما يليه ، كأنه قيل : بل كذبوا بالساعة ، فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب ؟ وكيف يصدقون بتعجيل ما وعدك الله في الآخرة وهم لا يؤمنون بها ؟ . ثم وصف تعالى السعير بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [ 12 ] .
{ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } أي : إذا كانت بمرأى منهم : أي : قريبة منهم ) ونسبة الرؤية إليها لا إليهم ، للإيذان بأن التغيظ والزفير منها ، لهيجان غضبها عليهم عند رؤيتها إياهم ، حقيقة أو تمثيلاً . ومن في قوله : { مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } إشعار بأن بعد ما بينها وبينهم من المسافة ، حين رأتهم ، خارج عن حدود البعد المعتاد في المسافات المعهودة . فيه مزيد تهويل لأمرها . أفاده أبو السعود . والتغيّظ : إظهار الغيظ وهو أشد الغضب ، وقد يكون مع صوت كما هنا . شبه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره ، وهو صوت يسمع من جوفه ، تصريحاً أو مكنياً أو تمثيلاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً } [ 13 - 14 ] .
{ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ } أي : قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل : { دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً } أي : هلاكاً . أي : نادوه نداء المتمني الهلاك . ليسلموا مما هو أشد منه . كما قيل : أشد من الموت ما يُتمنى معه الموت . فيقال لهم : { لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً } لكثرة أنواعه المتوالية . فإن عذاب جهنم ألوان وأفانين . أو كثرته باعتبار تجدد أفراده وإن كان متحداً . أو كثرته كناية عن دوامه . لأن الكثير شأنه ذلك كما قيل في ضده : { وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ } [ الواقعة : 32 - 33 ] ، وقيل : وصف الثبور بالكثرة ، لكثرة الدعاء أو المدعوّ به .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيراً لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً } [ 15 - 16 ] .
{ قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيراً لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً } أي : حقيقاً أن يسأل ويطلب ويتنافس فيه . وما في على من معنى الوجوب ، لامتناع الخلف في وعده تعالى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً } [ 17 - 18 ] .
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ } أي : الله تعالى للمعبودين ، تقريعاً لعبدتهم : { أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ } أي : عن السبيل بأنفسهم ، لإخلالهم بالنظر الصحيح ، وإعراضهم عن المرشد : { قَالُوا سُبْحَانَكَ } تعجباً مما قيل لهم . لأنهم إما ملائكة معصومون أو جمادات لا قدرة لها على شيء . أو تنزيهاً له عن الأنداد : { مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ } أي : نعبدهم فأنى يتصور أن نحمل غيرنا على أن يتخذ وليّاً غيرك ، أو من أولياء أي : أتباعاً للعبادة : { وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ } استدراك مسوق لبيان أنهم هم الضالون ، بعد بيان تنزههم عن إضلالهم . وقد نعى عليهم سوء صنيعهم حيث جعلوا أسباب الهداية أسباباً للضلالة . أي : ما أضللناهم . ولكن متعتهم وآباءهم بأنواع النعم ، ليعرفوا حقها ويشكروها . فانهمكوا في الشهوات حتى نسوا الذكر ، أي : ذكرك . أو التذكر في آلائك ، والتدبر في آياتك ، فجعلوا أسباب الهداية ، بسوء اختيارهم ، ذريعة إلى الغواية - أفاده أبو السعود : { وَكَانُوا قَوْماً بُوراً } أي : هالكين . ثم أشار تعالى لاحتجاجه على عبدتهم وإلزامهم ما يبكتهم ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً } [ 19 ] .
{ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ } أي : المعبودون ، أيها الكفرة : { بِمَا تَقُولُونَ } أي : في قولكم إنهم آلهة . أو في قولكم هؤلاء أضلونا : { فَمَا تَسْتَطِيعُونَ } أي : ما تملكون : { صَرْفاً } أي : دفعاً للعذاب عنكم بوجه ما : { وَلا نَصْراً } أي : لأنفسكم من البوار : { وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ } أيها المكلفون ، كدأب هؤلاء : { نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً } . ثم أجاب عن شبههم السابقة ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } [ 20 ] .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ } أي : لَيحتاجون إلى التغذي بالطعام ويتجولون في الأسواق للتكسب والتجارة . وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم . فإنه تعالى جعل لهم من السمات الحسنة ، والصفات الجميلة ، والأقوال الفاضلة ، والأعمال الكاملة ، والخوارق الباهرة ، والأدلة القاهرة ، ما يستدل به كل ذي لب به كل سُلَيم وبصيرة مستقيمة ، على صدق ما جاءوا به من الله . ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [ يوسف : 109 ] ، وقوله : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ } [ 8 ] .
تنبيه :
قال السيوطيّ في " الإكليل " : في الآية إباحة دخول الأسواق للعلماء وأهل الصلاح خلافاً لمن كرهها لهم .
وقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } قال الزمخشريّ : هذا تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قالوه واستبدعوه من أكله الطعام ومشيه في الأسواق . بعدما احتج عليهم بسائر الرسل . يقول : وجرت عادتي وموجب حكمتي على ابتلاء بعضكم ، أيها الناس ، ببعض . والمعنى أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم . وبمناصبتهم لهم العداوة . وأقاويلهم الخارجة عن حد الإنصاف ، وأنواع أذاهم ، وطلب منهم الصبر الجميل . ونحوه : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [ آل عِمْرَان : 186 ] ، وفي قوله تعالى : { وكانَ رَبُّكَ بَصِيراً } زيادة تسلية وعدة جليلة . أي : هو عالم فيما يبتلي به وغيره ، فلا يضق صدرك . فإن في صبرك سعادة وفوزاً في الدارين .
ثم أشار إلى نوع آخر من أقاويلهم الباطلة ، وإبطالها ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } [ 21 ] .
{ وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا } أي : الرجوع إليه بالبعث والحشر : { لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ } أي : للرسالة ، أو لتخبرنا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم : { أَوْ نَرَى رَبَّنَا } أي : فيخبرنا بذلك : { لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ } أي : في شأنها حتى تفوّهوا بمثل هذه العظيمة : { وَعَتَوْا } أي : تجاوزوا الحد في الظلم والطغيان : { عُتُوّاً كَبِيراً } أي : بالغاً أقصى غايته حيث أملوا رتبة التكليم الربانيّ من غير توسط الرسول والملك . ولم يكتفوا بهذا الذكر الحكيم والخارق العظيم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً } [ 22 ] .
{ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ } أي : عند الموت أو في القيامة : { لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً } أي : كما كانوا يقولون عند لقاء العدوّ وشدة النازلة : { حِجْراً } أي : أسأل الله أن يمنع ذلك منعاً ويحجره حجراً و : { مَحْجُوراً } تأكيد لـ : { حِجْراً } وقيل هو من قول الملائكة ومعناه حراماً محرماً عليكم الغفران والجنة والبشرى ، أي : جعل الله ذلك حراماً عليكم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً } [ 23 ] .
{ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ } أي : مما كانوا يراءون به ابتغاء السمعة والشهرة ، ويرونه من مكارمهم : { فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً } أي : مثل الغبار المنثور في الجوّ ، في حقارته وعدم نفعه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً } [ 24 - 25 ] .
{ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ } أي : ينصدع نظامها فلا يبقى أمر ما فيها من الكواكب على ما يرى اليوم . فيخرب العالم بأسره . والباء بمعنى : مع أي : مع السحب الجوية أو بمعنى : عن أي : تنفطر عن الغمام الذي يسوّد الجو ويظلمه ، ويغم القلوبَ مرآه : { وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً } فيحيطون بالخلائق في المحشر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً } [ 26 - 29 ] .
{ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ } أي : فلا يدعيه ثَمَّ غيره . ويكون له سبحانه السلطة القاهرة الشاملة : { وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ } أي : تشتد حسراته وتتصاعد زفراته : { يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً } يعني من أضلّه عن الذكر ، وصده عن سبيل الله : { لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ } أي : القرآن ، أو موعظة الرسول : { إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً } أي : مبالغاً في إضلاله ، يعده ويمنيه في الدنيا ، ما يحسّره عليه في العقبى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً } [ 30 ] .
{ وَقَالَ الرَّسُولُ } أي : إثر ما شاهد من عتوهم وعنادهم : { يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً } أي : متروكاً ، معرضاً عنه . وجملة : { وَقَالَ الرَّسُولُ } عطف على : { وقال الذين لا يرجون } وما بينهما اعتراض ، سيقت لانتظام ما قالوه ، وطلب النصر عليهم واستنزال الفرج الإلهيّ مما أضاقوا به الصدور ، وجلبوه من الكدور ، وللإشارة إلى ما يحيق بهم من شقاء الدارين .
تنبيه :
الآية ، وإن كانت في المشركين ، وإعراضُهم هو عدم إيمانهم ، إلا أن نظمها الكريم مما يرهب عموم المعرضين عن العمل به ، والأخذ بآدابه . الذي هو حقيقة الهجر . لأن الناس إنما تعبدوا منه بذلك . إذ لا تؤثر تلاوته إلا لمن تدبرها . ولا يتدبرها إلا من يقوم بها ويتمسك بأحكامها .
ومن فوائد الإمام ابن القيم رحمه الله . قوله في هذه الآية : هجر القرآن أنواع :
أحدها : هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه .
والثاني : هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه ، وإن قرأه وآمن به .
والثالث : هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه ، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين ، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم .
والرابع : هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها . فيطلب شفاء دائه من غيره ، ويهجر التداوي به .
قال : وكل هذا داخل في هذه الآية ، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض . انتهى .
وفي " الإكليل " : إن في الآية إشارة إلى التحذير من هجر المصحف وعدم تعاهد بالقراءة فيه . وكذا قال أبو السعود : فيه تلويح بأن من حق المؤمن أن يكون كثير التعاهد للقرآن ، كيلا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم . ثم قال : وفيه من التحذير ما لا يخفى . فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم ، عجل لهم العذاب ولم يُنظروا . ثم ذكر تعالى ما يكون أسوة لنبيه ، وتسلية له ، ووعداً بالنصرة ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً } [ 31 ] .
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً } أي : إلى ما يبلغك ما تتمناه : { وَنَصِيراً } أي : لك على كل من يناوئك . ثم أشار تعالى إلى مقترح خاص بالتنزيل الكريم ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } [ 32 - 33 ] .
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } أي : دفعة واحدة في وقت واحد . وقد بين سبحانه بطلان هذه المماراة والحمقاء بقوله : { كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } أي : نقوّيه به على القيام بأعباء الرسالة ، والنهوض لنشر الحق بين قادة الجهالة . فإن ما يتواتر إنزاله لذلك ، أبعث للهمة وأثبت للعزيمة وأنهض للدعوة ، من نزوله مرة واحدة : { وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } أي : فصلناه تفصيلاً بديعاً ، لا يلحق شأوه ولا يدرك أمده .
قال القاشانيّ : الترتيل هو أن يتخلل بين كل نجم وآخر ، مدّة يمكن فيها ترسخه في قلبه ، وأن يصير ملكة لا حالاً : { وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ } أي : بصفة عجيبة من باطلهم في قدح أو مقترح : { إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ } أي : الذي يقمع تلك الصفة . كما قال : { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ } [ 18 ] ، { وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } أي : بياناً وهداية ، عناية بك وبما أرسلت من أجله ، وخذلاناً لأعداء الحق وخصوم الرشاد .
تنبيه :
يذكر المفسرون هاهنا أن الآية رد على الكفرة في طلبهم نزول القرآن جملة ، كنزول بقية الكتب جملة . ويرون أن القول بنزول بقية الكتب دفعة ، صحيح . فيأخذون لأجله في سرّ مفارقة التنزيل له . والحال أن القول بنزولها دفعة واحدة لا أصل له ، وليس عليه أثارة من علم ، ولا يصححه عقل . فإن تفريق الوحي وتمديد مدته بديهيّ الثبوت . لمقدار مكث النبيّ . إذ ما دام بين ظهراني قومه ، فالوحي يتوارد تنزله ضرورة . ومن راجع التوراة والإنجيل الموجودين ، يتجلى له ذلك واضحاً لا مرية فيه . وعذر القائل به ظنه أن الآية تعريض بنزول غيره كذلك . وما كل كلام معرّض به . وإنما الآية حكاية لاقتراح خاص ، وتعنت متفنن فيه . والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً } [ 34 - 36 ] .
{ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا } وهم فرعون وقومه . والآيات الخوارق التسع . أي : فذهبا إليهم . فأرياهموها فكذبوها : { فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً } أي : بالإغراق في البحر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً وَعَاداً وَثَمُودَا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً وَكُلّاً ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلّاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً } [ 37 - 39 ] .
{ وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ } يعني نوحاً . وجُمع تعظيماً لرسالته . أو هو ومن تقدمه عليهم السلام : { أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً وَعَاداً } يعني قوم هود : { وَثَمُودَا } بالصرف وعدمه . قراءتان . على معنى الحي أو القبيلة : { وَأَصْحَابَ الرَّسِّ } اسم بئر . ونبيهم قيل : شعيب ، وقيل غيره . ويروي هنا بعضهم آثاراً منكرة لا تصح . كما نبه عليه الحافظ ابن كثير رحمه الله . فلا يحل الجراءة على روايتها ، ولا تنزيل الآية عليها . لأنه من قَفْو ما ليس للمرء به علم . ومثله يحظر الخوض فيه { وَقُرُوناً } أي : أقوماً : { بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً وَكُلّاً ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ } أي : الأنباء التي تزجر عن الكفر والفساد : { وَكُلّاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً } أي : إهلاكاً عظيماً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً } [ 40 ] .
{ وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ } أي : أهلكت بالحجارة وهي قرى قوم لوط : { أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا } أي : في مرورهم ، ينظرون إلى آثار عذاب الله ونكاله ؟ وفيه توبيخ لهم على تركهم الذكر ، عند مشاهدة ما يوجبه : { بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً } أي : كفرة ، لا يتوقعون عاقبة وجزاءً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً } [ 41 - 42 ] .
{ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً } أي : يستهزئون قائلين ذلك . والإشارة للاستحقار . لأن كلمة هذا تستعمل له . وعائد الموصول محذوف . أي : بعثه . ورسولاً حال منه : { إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا } أي : أنه كاد لَيصرفنا عن عبادتها صرفاً كلياً ، لولا أن ثبتنا عليها .
قال الزمخشريّ : فيه دليل على فرط مجاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوتهم ، وبذل قصارى الوسع والطاعة في استعطافهم ، مع عرض الآيات والمعجزات عليهم ، حتى شارفوا بزعمهم ، أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام ، لولا فرط لجاجهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم : { وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً } جواب منه تعالى لأخر كلامهم . وفيه وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طالت مدة الإمهال . ولا بد للوعيد أن يلحقهم ، فلا يغرنهم التأخير .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً } [ 43 ] .
{ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً } تعجيب للنبيّ صلوات الله عليه من شناعة حالهم ، بعد حكاية قبائحهم من الأقوال والأفعال .
قال الزمخشريّ : من كان في طاعة الهوى في دينه ، يتبعه في كل ما يأتي ويذر ، ولا يتبصر دليلاً ، ولا يصغي إلى برهان ، فهو عابد هواه وجاعله إلهه . فيقول تعالى لرسوله : هذا الذي لا يرى معبوداً إلا هواه ، فكيف تستطيع أن تدعوه إلى الهدى ؟ أفتتوكل عليه وتجبره على الإسلام ؟ وتقول : لا بد أن تسلم ، شئت أو أبيت . ولا إكراه في الدين . وهكذا كقوله : { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } [ قّ : 45 ] ، { لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ } [ الغاشية : 22 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } [ 44 ] .
{ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } أي : منهم . لأن الأنعام تصرف قواها إلى طلب ما ينفعها ، والنفرة مما يضرها . وهؤلاء عطّلوا قواهم وهي العقول التي يهتدى بها للحق ، ويميز بها بين الخير والشر . ثم أشار تعالى إلى بعض دلائل التوحيد ، وما فيها من النعم العظمى الجديرة بأن تتلقى بالشكر لا بالكفر ، كحال هؤلاء الكفرة بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً } [ 45 ] .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ } أي : عجيب صنعه أن جعله يمتد وينبسط فينتفع به الناس : { وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً } أي : ثابتاً على حاله ، من الطول والامتداد . من السكنى أو غير متقلص من السكون بأن يجعل الشمس مقيمة على وضع واحد فلم ينتفع به أحد : { ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً } أي : علامة يستدل بأحوالها في مسيرها على أحوال الظل ، من كونه ثابتاً في مكان ، زائلاً ومتسعاً ومتقلصاً . فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه ، على حسب ذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً } [ 46 - 47 ] .
{ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا } أي : أنزلناه بعد ما أنشأناه ممتداً ، ومحوناه بمحض قدرتنا ومشيئتنا عند إيقاع شعاع الشمس موقعه : { قَبْضاً يَسِيراً } أي : على مهل ، قليلاً قليلاًَ حسب ارتفاع دليله على وتيرة معينة مطردة مستتبعة لمصالح المخلوقات ومرافقتها . وفي هذا القبض اليسير ، شيئاً بعد شيء ، من المنافع ما لا يعد ولا يحصر . ولو قبض دفعة واحدة ، لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعاً { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً } أي : ساتراً كاللباس : { وَالنَّوْمَ سُبَاتاً } أي : راحة للأبدان تستعيض به ما خسرته من قواها : { وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً } أي : زمان انتشار لطلب المعاش .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً } [ 48 - 49 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً } أي : ناشرات للسحاب وفي قراءة بشراً بضم الموحدة بدل النون وسكون الشين ، أي : مبشرات : { بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } أي : قدام المطر . وهي استعارة بديعة . استعيرت الرحمة للمطر ثم رشحت . كقوله : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ } [ التوبة : 21 ] ، وجعلها بين يديه تتمة لها . لأن البشير يتقدم المبشر به . ويجوز أن تكون تمثيلية . وبشراً من تتمة الاستعارة ، داخل في جملتها . ومن قرأ نشراً كان تجريداً لها . لأن النشر يناسب السحاب : { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً } أي : مطهراً ، لقوله : { لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } [ الأنفال : 11 ] . وهذه الآية أصل في الطهارة بالماء .
قال القاضي : وتوصيف الماء به إشعار بالنعمة فيه ، وتتميم للمنة فيما بعده . فإن الماء الطهور أهنأ وأنفع مما خالطه ما يزيل طهوريته . وتنبيه على أن ظواهرهم لما كانت مما ينبغي أن يطهروها ، فبواطنهم بذلك أولى : { لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً } أي : بإنبات النبات : { وَنُسْقِيَهُ } أي : ذلك الماء : { مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً } قال الكرخي : خص الأنعام بالذكر ، لأنها ذخيرتنا ومدار معاش أكثر أهل المدر . ولذلك قدم سقيها على سقيهم ، كما قدم عليها إحياء الأرض . فإنها سبب لحياتها وتعيشها ، فقدم ما هو سبب حياتهم ومعاشهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً } [ 50 - 52 ] .
{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ } أي : كررنا هذا القول الذي هو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر : { بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا } أي : ليتفكروا ويعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا : { فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً } أي : كفران النعمة وجحودها : { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً } أي : نبياً ينذر أهله فيخف عليك أعباء النبوة . لكن لم نشأ ذلك ، فلم نفعله . بل قصرنا الأمر عليك حسبما ينطق به قوله تعالى : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ 1 ] ، إجلالاً لك وتعظيماً ، وتفضيلاً لك على سائر الرسل .
وقال المهايمي : أي : لكن لم نشأ . لأنه يقتضي تفرق الأمم ، وتكثر الاختلافات . فجعلنا الواحد نذيراً للكل ليطيعوه أو يقاتلهم . والكفار يريدون أن يطيعهم الرسل أو يتركوهم على ما هم عليه : { فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ } أي : فقابل ذلك بالثبات والاجتهاد في الدعوة وإظهار الحق والتشدد والتصبر . ولا تطعهم فيما يريدونك عليه . وأراد بهذا النهي ، تهييجه وتهييج المؤمنين ، وتحريكهم . أي : إثارة غيرته وغيرتهم . وإلا فإطاعته لهم غير متصورة .
وقال أبو السعود : كأنه نهي له ، عليه الصلاة والسلام ، عن المداراة معهم ، والتلطف معهم . أي : لأن في ذلك إضعافاً للحق وتغشية عليه . وطول أمد في سريانه . ولذا قال : { وَجَاهِدْهُمْ بِهِ } أي : بالقرآن وما نزل إليك من الحق : { جِهَاداً كَبِيراً } أي : لا يخالطه فتور ، بأن تلزمهم بالحجج والآيات ، وتدعوهم إلى النظر في سائر الآنات ، لتتزلزل عقائدهم ، وتسمج في أعينهم عوائدهم . وهذه الآية من أصرح الأدلة في وجوب مجادلة المبطلين ، ودعوتهم إلى الحق بقوة ، والتفنن في محاجتهم بأفانين الأدلة . فإن الحق يتضح بالأدلة . كما أن الشهور تشتهر بالأهلّة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً } [ 53 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ } أرسلهما متجاورين متلاصقين ، بحيث لا يتمازجان : { هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ } أي : شديد العذوبة قامع للظمأ : { وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي : بليغ الملوحة : { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } أي : حاجزاً لا يختلط أحدهما بالآخر : { وَحِجْراً مَحْجُوراً } أي : منعاً من وصول أثر أحدهما إلى الآخر ، وامتزاجه به ، حتى بعد دخول أحدهما في الآخر مسافة .
لطيفة :
تلطف هنا المهايميّ في تأويل الآية ، بمعنى يصلها بالآية قبلها ، في أسلوب غريب . قال رحمه الله في قوله تعالى : { وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً } : يؤثر في بواطنهم فيكون : { كَبِيراً } يفوق ما يؤثر في الظواهر وإن زعموا أنه كيف يجاهد بالدلائل من يورد شبهات تجاورها ؟ قيل : غاية أمرها أن يكونا كالبحرين المختلفين المتجاورين . وقد رفع الله الالتباس بينهما بعد ما جاور بينهما وهما محسوسان ، فكيف لا يرفع الالتباس بين البحرين المعقولين إذ : { َهُوَ الَّذِي مَرَجَ } أي : جاور : { الْبَحْرَيْنِ } اللذين بينهما غاية الخلاف إذ : { هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ } أي : قاطع للعطش وهو مثل بحر الدلائل المفيدة للذوق ، القاطعة عطش الطلب : { وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي : مبالغ في الملوحة . وهو مثل بحر الشبهات الموجبة للنفرة جدّاً لأهل الذوق وأما لأهل النظر فقد : { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } أي : مانعاً من الخلط . وهو النظر في مواد المقدمات وصورها ليعلم بذلك صحة الدلائل وأما فساد الشبهات فيعلم بالاعتراضات التي لا جواب عنها ، كما أنه جعل بينهما : { حِجْراً } أي : منعاً من وصول أثر أحدهما إلى الآخر : { مَحْجُوراً } أي : ممنوعاً أن يمنع . وإن زعموا أن كل فرقة ترى ممسكاته تفيده الذوق وتقطع عنه الطلب ويتنفر عن متمسكات صاحبه أشد من التنفر عن الملح الأجاج ، قيل : ليس هذا بالنظر إلى نفس الدلائل ، بل بواسطة التعصب من جهة الآباء والمشايخ والأصحاب . وقد أوجد الله لإزالة العذر عنه مثالاً ، في قوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } [ 54 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً } أي : كما أخرج من المقدمات نتائج العلوم : { فَجَعَلَهُ } أي : البشر : { نَسَباً } أي : أصلاً أو فرعاً أو حاشية لقوم : { وَصِهْراً } أي : لآخرين يتعصب من أجل نسبه وصهره ، فيعتقد باطلهم حقّاً . كذلك أهل الشغب يتعصبون لآبائهم ومشايخهم : { وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } أي : وهو وإن صعب إزالته ، فإن ربك الذي أمرك بالجهاد الكبير , قدير على إزالته . كما قدر في النسب والصهر . فلا يبالي المؤمنون لهما . انتهى كلام المهايميّ رحمه الله .
وهو منزع في باب الإشارة غريب ، أثرناه عنه للطافته . وأما معنى الآية في عظيم اقتداره سبحانه ، حيث خلق البشر وقسمهم من نطفة واحدة قسمين ذوي نسب ، أي : ذكوراً ينسب إليهم ، فيقال : فلان بين فلان وفلانة بنت فلان . وذوات صهر أي : إناثاً يصاهر بهن ، فظاهر . ونظيره قوله تعالى : { فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى } [ القيامة : 39 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً } [ 55 ] .
{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً } أي : معيناً للشيطان على عصيان ربه . والمراد بالكافر الجنس ، فهو إظهار في مقام الإضمار ، لنفي كفرهم عليهم ، ولرعاية الفواصل الكريمة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً } [ 56 - 57 ] .
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ } أي : على تبليغ الرسالة المفهوم من : { أَرْسَلْنَاكَ } : { مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً } أي : يتقرب إليه بالإيمان والطاعة . أي : إلى رحمته أو جنابه . فاتخاذ السبيل ، مراد به لازم معناه . لأن من سلك طريق شيء ، قرب إليه ، بل وصل .
قال الزمخشريّ : مثال : { إِلَّا مَنْ شَاءَ } والمراد : إلّا فعل من شاء . واستثنائه عن . الأجر قولُ ذي شفقة عليك ، قد سعى لك في تحصيل مالٍ : ما أطلب منك ثواباً على ما سعيت ، إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه . فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب . ولكن صورّه هو بصورة الثواب وسماه باسمه ، فأفاد فائدتين : إحداهما : قلع شبهة الطمع في الثواب من أصله . كأنه يقول لك : إن كان حفظك لمالك ثواباً ، فإني أطلب الثواب .
والثانية : إظهار الشفقة البالغة ، وأنك إن حفظت مالك اعتدَّ بحفظك ثواباً ورضي به ، كما يرضى المثاب بالثواب .
ولعمري إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مع المبعوث إليهم بهذا الصدد وفوقه . انتهى .
والاستثناء على هذا متصل ادعاء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً } [ 58 ] .
{ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ } أي : في دفع شرهم ومكرهم : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً } أي : عليماً لا يعزب عنه منها شيء ، فيجزيهم عليها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [ 59 ] .
{ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أي : من أيامه تعالى ، أو أيام الخلق ، قولان للسلف : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } أي : علا فوقه علوّاً يليق بجلاله المقدس . وتقدم تفسيره : { الرَّحْمَنُ } مرفوع على المدح . أي : هو الرحمن ، وهو في الحقيقة وصف آخر للحيّ ، كما قرئ بالجرّ . وقيل : الموصول مبتدأ والرحمن خبره . وقيل : الرحمن بدل من المستكن في : { اسْتَوَى } وقوله تعالى : { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } فيه أوجه : منها الباء في به صلة اسأل ومنها أنها صلة خبيراً وخبيراً مفعول اسأل أي : فسل عنه رجلاً عارفاً يخبرك برحمته . أو فسل رجلاً خبيراً به وبرحمته . وعليه ففائدة سؤاله هو تصدقه وتأييده .
قال الشهاب : ويصح تنازعهما - أي : اسأل وخبيراً - في الباء . وفيه حينئذ نوع من البديع غريب يسمى المتجاذب . وهو كون لفظ واحد بين جملتين يصح جعله من الأولى والثانية . وقد ذكره السعد في أواخر " شرح المفتاح " وهذا مما غفل عنه أصحاب البديعيات . انتهى . ومنها أن الباء للتجريد . كقولك رأيت به أسداً . أي : برؤيته . أي : اسأل بسؤاله خبيراً والمعنى : إن سألته وجدته خبيراً .
قال في " الكشف " : وهو أوجه ، ليكون كالتتميم لقوله : { الَّذِي خَلَقَ } ، الخ فإنه لإثبات القدرة ، مدمجاً فيه العلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً } [ 60 ] .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ } أي : من المسمى به ؟ لأنهم ما كانوا يعرفونه تعالى بهذا الاسم ولا يطلقونه عليه . أو الاستفهام للتعجب والاستغراب ، تفنناً في الإباء . أي : وما هذه الأسماء والأعلام التي تصدعنا بها ، وتقرع آذاننا بالإذعان لها { أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ } أي : الأمر بالسجود ، المراد به الإذعان بالإيمان : { نُفُوراً } أي : استكباراً عن الإيمان .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً } [ 61 ] .
{ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً } أي : نجوماً أو هي البروج الاثنا عشر ، التي ترى صورها في الأشكال الحاصلة من اجتماع بعض الكواكب على نسب خاصة ، وتنتقل فيها الشمس في ظاهر الرؤية { وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً } وهي الشمس : { وَقَمَراً مُنِيراً } أي : مضيئاً بالليل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [ 62 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً } أي : ذوي عقبة يعقب كل منهما الآخر : { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ } أي : يتفكر فيستدل بذلك على عظم قدرته : { أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } أي : يشكر على النعمة فيهما ، من السكون بالليل والتصرف بالنهار . ويكون فيهما بما يقتضيه ما خلقا له .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } [ 63 - 64 ] .
{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً } أي : هينين . أو مشياً هيناً . أي : بسكينة وتواضع . لا يضربون بأقدامهم ، ولا يخفقون تبعاً لهم أشراً وبطراً { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً } أي : إذا خاطبهم السفهاء بالقول السيء لم يقابلوهم بمثله ، بل قالوا كلاماً فيه سلام من الإيذاء والإثم . سواء كان بصيغة السلام كقولهم : سلام عليكم ، أو غيرها مما فيه لطف في القول أو عفو أو صفح . وكظم للغيظ . دفعاً بالتي هي أحسن : { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } أي : يكون لهم في الليل فضل صلاة وإنابة ، كما قال تعالى : { كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الذاريات : 17 - 18 ] ، وقوله : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } [ السجدة : 16 ] الآية ، وقوله : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 9 ] ، والبيتوتة لغة : الدخول في الليل . يقال : بات يفعل كذا يبيت ويبات ، إذا فعله ليلاً . وقد تستعار البيتوتة للكينونة مطلقاً . إلا أن الحقيقة أولى ، لكثرة ما ورد في معناها مما تلونا . ولذلك قال السلف : في الآية مدح قيام الليل والثناء على أهله . وفي قوله : { لِرَبََّهمْ } إشارة إلى الإخلاص في أدائها وابتغاء وجهه الكريم . لما أن ذلك هو الذي يستتبع أثرها من العمل الصالح وفعل الخير وحفظ حدود الله : { وقياماً } جمع قائم أو مصدر أجري مجراه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } [ 65 - 66 ] .
{ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } أي : هلاكاً دائماً . والمراد من قولهم ذلك ، فزعهم منها ، ووجلهم الشديد المستتبع لتمسكهم بالتقوى ، واعتصامهم بالسبب الأقوى . لا مجرد قلقلة اللسان ، بلا تأثر من الجنان . فإنهم لم يبتهلوا إلى المولى ، ويتعوذوا به من سعيرها ، إلا لعلمهم بسوء حالها . ومقتضى العلم بالشيء إيفاؤه حقه والعمل بموجبه . ولذا قال تعالى : { إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } أي : موضع استقرار وإقامة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ 67 ] .
{ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } أي : لم يجاوزوا الحدّ في الإنفاق ، ولم يضيّقوا على أنفسهم وأهليهم وما يعروهم بخلاً ولُؤْماً . بل كانوا في ذلك متوسطين ، وخير الأمور أوسطها .
قال الزمخشريّ : وصفهم الله بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير . وبمثله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } [ الإسراء : 29 ] ، وروى الإمام أحمد عن أبي الدرداء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : < من فقه الرجل رفقه في معيشته > وأخرج أيضاً عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما عال من اقتصد > وروى البزار عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما أحسن القصد في الغنى ، وما أحسن القصد في الفقر ، وما أحسن القصد في العبادة > .
وعن الحسن : ليس في النفقة في سبيل الله سرف . وسمع رجل رجلاً يقول : لا خير في الإسراف . فقال : لا إسراف في الخير .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً } [ 68 - 70 ] .
{ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ } أي : لا يشركون بعبادة ربهم أحداً ، فالدعاء بمعنى العبادة : { وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ } أي : حرمها بمعنى حرّم قتلها . ومنه الوأد وغيره : { إِلَّا بِالْحَقِّ } أي : المزيل لحرمتها وعصمتها : { وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ } أي : ما ذكر من هذه القبائح العظام : { يَلْقَ أَثَاماً } أي : يجد في الآخرة جزاء إثمه : { يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً } أي : ذليلاً محتقراً جامعاً لعذابي الجسم والروح : { إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً } أي : لمن تاب وآمن وعمل صالحاً .
قال الحافظ ابن كثير : وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل . ولا تعارض بين هذه وآية النساء : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً } [ النساء : 93 ] الآية ، فإن هذه ، وإن كانت مدنية ، إلا أنها مطلقة . فتحمل على من لم يتب . لأن هذه مقيدة بالتوبة . ثم قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 48 و 116 ] الآية ، وقد ثبتت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة توبة القاتل . كما ذكر مقرراً من قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب فقبل الله توبته ، وغير ذلك من الأحاديث . ثم قال : وفي معنى قوله تعالى : { يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } قولان :
أحدهما : أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات . قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، في هذه الآية : هم المؤمنون . كانوا من قبل إيمانهم على السيئات ، فرغب الله بهم عن السيئات . فحولهم إلى الحسنات ، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات . وكذا قال سعيد بن جبير : أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن ، وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين . وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات . وكذا قال الحسن : أبدلهم بالعمل السيء العمل الصالح ، وأبدلهم بالشرك إخلاصاً ، وبالفجور إحصاناً ، وبالكفر [ في المطبوع : بالفكر ] إسلاماً .
القول الثاني : إن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح ، حسنات . وما ذاك إلا أنه كلما تذكر ما مضى ، ندم واسترجع واستغفر . فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار . انتهى .
ولابن القيم رحمه الله تعالى في " طريق الهجرتين " في هذا المقام بسط حسن وتناظر متقن ، لا بأس بإيراده ، لعظم فائدته .
قال رحمه الله بعد شرحه لحديث فرح الله بتوبة عبده ما مثاله : وها هنا مسألة ، هذا الموضع أخص المواقع ببيانها . وهي أن التائب إذا تاب إلى الله توبة نصوحاً ، فهل تمحى تلك السيئات وتذهب ، لا له ولا عليه ، أو إذا محيت أثبت له مكان كل سيئة حسنة ؟ هذا مما اختلف الناس فيه ، من المفسرين وغيرهم ، قديماً وحديثاً . فقال الزجاج : ليس يجعل مكان السيئة الحسنة لكن يجعل مكان السيئة التوبة ، والحسنة مع التوبة . قال ابن عطية : يجعل أعمالهم ، بدل معاصيهم الأولى طاعة . فيكون ذلك سبباً لرحمة الله إياهم ، قاله ابن عباس وابن جبير وابن زيد والحسن . ورد على من قال هو في يوم القيامة . قال : وقد ورد حديث في كتاب مسلم من طريق أبي ذر يقتضي أن الله سبحانه يوم القيامة ، يجعل لمن يريد المغفرة له من الموحدين ، بدل سيئاته حسنات . وذكره الترمذيّ والطبريّ . وهذا تأويل سعيد بن المسيب في هذه الآية .
قال ابن عطية : وهو معنى كرم العفو . انتهى .
وسيأتي ذكر الحديث والكلام عليه .
وقال الثعلبيّ : قال ابن عباس وابن جريج والضحاك وابن زيد : { يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } يبدلهم الله تقبيح أعمالهم في الشرك ، محاسن الأعمال في الإسلام . فيبدلهم بالشرك وبقتل المؤمنين ، قتل المشركين . وبالزنى ، عفة وإحصاناً .
وقال آخرون : يعني يبدل الله سيئاتهم التي عملوها في حال إسلامهم ، حسنات يوم القيامة وأصل القولين ، أن هذا التبديل هل هو في الدنيا أو يوم القيامة ؟ فمن قال إنه في الدنيا ، قال : هو تبديل الأعمال القبيحة والإرادات الفاسدة بأضدادها . وهي حسنات ، وهذا تبديل حقيقة . والذين نصروا هذا القول احتجوا بأن السيئة تنقلب حسنة ، بل غايتها أن تمحى وتكفر ويذهب أثرها ، فأما أن تنقلب حسنة فلا . فإنها لم تكن طاعة ، وإنما كانت بغيضة مكروهة للرب ، فكيف تنقلب محبوبة مرضية ؟
قالوا : وأيضاً فالذي دل عليه القرآن إنما هو تكفير السيئات ومغفرة الذنوب ، كقوله : { رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا } [ آل عِمْرَان : 193 ] ، وقوله : { وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ } [ الشورى : 25 ] ، وقوله : { إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً } [ الزمر : 53 ] ، والقرآن مملوء من ذلك وفي الصحيح من حديث قتادة عن صفوان بن مُحْرِز قال : قال رجل لابن عمر : كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى ؟ قال : سمعته يقول : < يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع عليه كنفه ، فيقرره بذنوبه فيقول : هل تعرف ؟ فيقول : رب ! أعرف قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم . فيعطى صحيفة حسناته > .
وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على الله عز وجل .
فهذا الحديث المتفق عليه ، والذي تضمن العناية بهذا العبد ، إنما فيه ستر ذنوبه عليه في الدنيا ومغفرتها له يوم القيامة . ولم يقل له : وأعطيتك بكل سيئة منها حسنة . فدل على أن غاية السيئات مغفرتها وتجاوز الله عنها .
وقد قال الله في حق الصادقين : { لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الزمر : 35 ] ، فهؤلاء خيار الخلق . وقد أخبر عنهم أنه يكفر عنهم سيئات أعمالهم ويجزيهم بأحسن ما يعملون . وأحسن ما عملوا إنما هو الحسنات لا السيئات ، فدل على أن الجزاء بالحسنى إنما يكون على الحسنات وحدها . وأما السيئات ، أن تلغى ويبطل أثرها . قالوا : وأيضاً ، فلوا انقلبت السيئات أنفسها حسنات في حق التائب ، لكان أحسن حالاً من الذي لم يرتكب منها شيئاً . وأكثر حسنات منه ، لأنه إذا أساء شاركه في حسناته التي فعلها وامتاز عنه بتلك السيئات ، ثم انقلبت له حسنات ترجح عليه . وكيف يكون صاحب السيئات أرجح من لا سيئة له ؟ قالوا : وأيضاً فكما أن العبد ، إذا فعل حسنات ثم أتى بما يحبطها ، فإنها لا تنقلب سيئات يعاقب عليها ، بل يبطل أثرها ويكون لا له ولا عليه ، وتكون عقوبته عدم ترتب ثوابه عليها . فهكذا من فعل سيئات ثم تاب منها ، فإنها لا تنقلب حسنات فإن قلتم : وهكذا التائب يكون ثوابه عدم ترتب العقوبة على سيئاته ، لم ننازعكم في هذا . وليس هذا معنى الحسنة فإن الحسنة تقتضي ثواباً وجودياً . واحتجت الطائفة الأخرى التي قالت : هو تبديل السيئة بالحسنة حقيقة يوم القيامة ، بأن قالت : حقيقة التبديل إثبات الحسنة مكان السيئة . وهذا إنما يكون في السيئة المحققة . وهي التي قد فعلت ووقعت . فإذا بدلت حسنة كان معناه أنها محيت وأثبت مكانها حسنة . قالوا : ولهذا قال تعالى : { سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } فأضاف السيئات إليهم ، لكونهم باشروها واكتسبوها . ونكر الحسنات ولم يضفها إليهم ، لأنها من غير صنعهم وكسبهم ، بل هي مجرد فضل الله وكرمه قالوا : وأيضاً ، فالتبديل في الآية إنما هو فعل الله لا فعلهم فإنه أخبر أنه هو يبدل سيئاتهم حسنات ، ولو كان المراد ما ذكرتم لأضاف التبديل إليهم . فإنهم هم الذين يبدلون سيئاتهم حسنات والأعمال إنما تضاف إلى فاعلها وكاسبها ، كما قال تعالى : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } [ البقرة : 59 ] ، وأما ما كان من غير الفاعل ، فإنه يجعله من تبديله هو ، كما قال تعالى : { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ } [ سبأ : 16 ] ، فلما أخبر سبحانه أنه هو الذي يبدل سيئاتهم حسنات ، دل على أنه شيء فعله هو سبحانه بسيئاتهم ، لا أنهم فعلوه من تلقاء أنفسهم . وإن كان سببه منهم وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح .
قالوا : ويدل عليه ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إني لأعلم آخر أهل جنة دخولاً الجنة . وآخر أهل النار خروجاً منها . رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها . فتعرض عليه صغار ذنوبه . فيقال : عملت يوم كذا وكذا ، كذا وكذا . وعملت يوم كذا وكذا ، كذا وكذا فيقول : نعم . لا يستطيع أن ينكر ، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له : فإن لك مكان كل سيئة حسنة > قالوا : وهؤلاء هم الأبدال في الحقيقة . فإنهم إنما سموا أبدالاً لأنهم بدلوا أعمالهم السيئة ، بالأعمال الحسنة ، فبدل الله سيئاتهم التي عملوا حسنات .
قالوا : وأيضاً فالجزاء من جنس العمل . فكما بدلوا هم أعمالهم السيئة بالحسنة ، بدلها الله من صحف الحفظة ، حسنات جزاء وفاقاً .
قالت الطائفة الأولى : كيف يمكنكم الاحتجاج بحديث أبي ذر ، على صحة قولكم ، وهو صريح في أن هذا الذي قد بدلت سيئاته حسنات ، قد عذب عليها في النار ، حتى كان آخر أهلها خروجاً منها فهذا قد عوقب على سيئاته . فزال أثرها بالعقوبة . فبدل مكان كل سيئة منها حسنة . وهذا حكم غير ما نحن فيه . فإن الكلام في التائب من السيئات ، لا فيمن مات مصرّاً عليها غير تائب . فأين أحدهما من الآخر ؟
قالوا : وأما ما ذكرتم من أن التبديل هو إثبات الحسنة مكان السيئة ، فحق . وكذلك نقول : إن الحسنة المفعولة صارت في مكان السيئة ، التي لولا الحسنة لحلت محلها .
قالوا : وأما احتجاجكم بإضافة السيئات إليهم ، وذلك يقتضي أن تكون هي السيئات الواقعة وتنكير الحسنات وهو يقتضي أن تكون حسنات من فضل الله ، فهو حق بلا ريب . ولكن من أين يبقى أن يكون فضل الله بها ، مقارناً لكسبهم إياها بفضله ؟ .
قالوا : وأما قولكم إن التبديل مضاف إلى الله لا إليهم ، وذلك يقتضي أنه هو الذي بدلها من الصحف ، لأنهم هم الذين بدلوا الأعمال بأضدادها ، فهذا لا دليل لكم . فإن الله خالق أفعال العباد . فهو المبدل للسيئات حسنات خلقاً وتكويناً ، وهم المبدلون لها فعلاً وكسباً .
قالوا : وأما احتجاجكم بأن الجزاء من جنس العمل ، فكما بدلوا سيئات أعمالهم بحسناتهم أبدلها الله كذلك في صحف الأعمال . فهذا حق ، وبه نقول ، وإنه بدلت السيئات التي كانت مهيأة ومعدة أن تحل في الصحف ، بحسنات جعلت موضعها . فهذا منتهى إقدام الطائفتين ، ومحط نظر الفريقين . وإليك أيها المنصف الحكم بينهما . فقد أدلى كل منهما بحجته ، وأقام بينته . والحق لا يعدوهما ولا يتجاوزهما . فأرشد الله من أعان على هدى ، فنال به درجة الداعين إلى الله ، القائمين ببيان حججه ودينه . أو عذر طالباً منفرداً في طريق مطلبه ، قد انقطع رجاؤه من رفيق في الطريق . فغاية أمنيته أن يخلي بينه وبين سيره ، وألا يقطع عليه طريقه . فمن رفع له مثل هذا العلم ولم يشمر إليه ، فقد رضي بالدون . وحصل على صفقة المغبون . ومن شمر إليه ورام ألا يعارضه معارض ، ولا يتصدى له ممانع ، فقد منى نفسه المحال ، وإن صبر على لأوائها وشدتها ، فهو والله الفوز المبين ، والحظ الجزيل وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .
فالصواب ، إن شاء الله في هذه المسألة ، أن يقال : لا ريب أن الذنب نفسه لا ينقلب حسنة . والحسنة إنما هي أمر وجوديّ يقتضي ثواباً ولهذا كان تارك المنهيات إنما يثاب على كف نفسه وحبسها عن موافقة المنهيّ . وذلك الكف والحبس أمر وجوديّ وهو متعلق الثواب . وأما من لم يخطر بباله الذنب أصلاً ، ولم يحدث به نفسه ، فهذا كيف يثاب على تركه ؟ ولو أثيب مثل هذا على ترك هذا الذنب ، لكان مثاباً على ترك ذنوب العالم التي لا تخطر بباله وذلك أضعاف حسناته بما لا يحصى فإن الترك مستصحب معه ، والمتروك لا ينحصر ولا ينضبط ، فهل يثاب على ذلك كله ؟ وهذا مما لا يتوهم . وإذا كانت الحسنة لا بد أن تكون أمراً وجودياً ، فالتائب من الذنوب التي عملها ، قد قارن كل ذنب منها ، ندماً عليه ، وكف نفسه عنه ، وعزم على ترك معاودته . وهذه حسنات بلا ريب . وقد محت التوبة أثر الذنب ، وخلفه هذا الندم والعزم ، وهو حسنة ، قد بدلت تلك السيئة حسنة . وهذا معنى قول بعض المفسرين : يجعل مكان السيئة التوبة والحسنة مع التوبة . فإذا كانت كل سيئة من سيئاته قد تاب منها ، فتوبته منها حسنة حلت مكانها . فهذا معنى التبديل . لا أن السيئة نفسها تنقلب حسنة .
وقال بعض المفسرين في هذه الآية : يعطيهم بالندم على كل سيئة أساءوها حسنة . وعلى هذا ، فقد زال بحمد الله الإشكال . واتضح الصواب . وظهر أن كل واحدة من الطائفتين ما خرجت عن موجب العلم والحجة .
وأما حديث أبي ذر ، وإن كان التبديل فيه حق المصرّ الذي عذب على سيئاته ، فهو يدل بطريق الأولى على حصول التبديل للتائب المقلع النادم على سيئاته . فإن الذنوب التي عذب عليها المصرّ ، لما أزال أثرها بالعقوبة ، بقيت كأن لم تكن ، فأعطاه الله مكان كل سيئة منها حسنة ، لأن ما حصل له يوم القيامة من الندم المفرط عليها ، مع العقوبة ، لا يقتضي زوال أثره وتبديلها حسنات . فزوال أثرها بالتوبة النصوح ، أعظم من زوال أثرها بالعقوبة . فإذا بدلت بعد زوالها بالعقوبة ، حسنات ، فلأنْ تبدل بعد زوالها بالتوبة حسنات ، أولى وأحرى . وتأثير التوبة في هذا المحو والتبديل أقوى من تأثير العقوبة . لأن التوبة فعل اختياريّ أتى به العبد طوعاً ومحبة لله وفرقاً منه ، وأما العقوبة ، فالتكفير بها من جنس التفكير بالمصائب التي تصيبه بغير اختياره ، بل يفعل الله . ولا ريب أن تأثير الأفعال الاختيارية التي يحبها الله ويرضاها في محو الذنوب ، أعظم من تأثير المصائب التي تناله بغير اختياره .
انتهى كلامه رحمه الله . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً } [ 71 ] .
{ وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً } أي : ومن يترك المعاصي ويندم عليها ويدخل في العمل الصالح ، فإنه بذلك تائب إلى الله متاباً مرضياً عنده ، مكفراً للخطايا ، محصلاً للثواب . قرره الزمخشري .
والآية صريحة في أن العمل الصالح والمثابرة عليه قولاً وفعلاً ، شرط في صحة التوبة وقبولها وأنه لا اعتداد بها بدون العمل الصالح . فليتفطن لمعنى هذا الآية من يتوهم أن التوبة استغفار بلسان ، أو تخشع بأركان ، ولا عمل صالح له يرضي الرحمن .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } [ 72 - 73 ] .
{ وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } أي : لا يحضرون الباطل . يقال : شهد كذا أي : حضره . فالزور : مفعول به بتقدير مضاف أي : محالّه . ويشهدون من الشهادة . فالزور منصوب على المصدر أو بنزع الخافض أي : شهادة الزور أو بالزور . وقد أشار الزمخشريّ للوجهين بقوله : يحتمل أنهم ينفرون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطّائين ، فلا يحضرونها ولا يقربونها ، تنزهاً عن مخالطة الشر وأهله وصيانة لدينهم عما يثلمه . لأن مشاهدة الباطل شركة فيه . ولذلك قيل في النظارة إلى كل ما لم تسوغه الشريعة هم شركاء فاعلية في الإثم لأن حضورهم ونظرهم دليل الرضا به ، وسبب وجوده ، والزيادة فيه لأن الذي سلط على فعله هو استحسان النظارة ، ورغبتهم في النظر إليه . ويحتمل أنهم لا يشهدون شهادة الزور . انتهى وهي الكذب متعمداً على غيره .
قال المبرد في " الكامل " : ويروى عن ابن عباس في هذه الآية : { وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } قال : أعياد المشركين . وقال ابن مسعود : الزور الغناء . فقيل لابن عباس : أو ما هذا في الشهادة بالزور ؟ فقال : لا ، إنما آية شهادة الزور : { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 36 ] ، { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً } أي : اتفق مرورهم بأهل اللغو ، وهو كل ما ينبغي ويطرح ، مرّوا معرضين عنهم ، مكرمين أنفسهم عن الخوض معهم كقوله تعالى : { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [ القصص : 55 ] ، ويدخل في ذلك الإغضاء عن الفواحش ، والصفح عن الذنوب ، والكناية عما يستهجن التصريح به وذلك لأن كراماً : جمع كريم بمعنى مكرم لنفسه وغيره بالصفح ونحوه : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ } أي وعظوا بها وخوِّفوا : { لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } أي : بل أكبوا عليها سامعين بآذان واعية ، مجتلين لها بعيون راعية . وإنما عبر بنفي الضد ، تعريضاً لما يفعله الكفرة والمنافقون من شدة الإعراض والإباء والنفرة ، المستعار لها الخرور على تلك الحالة استعارة بديعة . لما فيهم من إسقاطهم من الإنسانية إلى البهيمية ، بل إلى أدنى منها ، لأنها تسمع وتبصر ، وقد نفينا عنهم .
وفي التنزيل الكريم من توصيف المؤمنين بوجل قلوبهم لذكره تعالى ، وزيادة إيمانهم إذا تلي عليهم الذكر الحكيم ، آيات عديدة . ولذا قال قتادة فيهم : هم قوم عقلوا عن الله ، وانتفعوا بما سمعوا من كتابه ويرحم الله الحسن البصريّ ، فقد قال : كم من رجل يقرؤها ، ويخر عليها أصم أعمى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } [ 74 ] .
{ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } أي : أولاداً وحفدة ، تقر بهم العيون وتسر بمكانهم الأنفس ، لحيازتهم الفضائل واتصافهم بأحسن الشمائل . وقرة العين إما من القر وهو البرد . لأن دمعة السرور باردة ، لذا قيل في ضده : أسخن الله عينه أو من القرار لعدم النظر لغيره ، وجوز في من أن تكون ببيانه وعليه قول كثير من أن فيه الدعاء بصلاح الزوجات . وقوله تعالى : { واجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } أي : أئمة . اكتفى بالواحد لدلالته على الجنس ، مع رعاية الفواصل . أي : يقتدى بنا في الخير . أو هداة دعاة إلى الخير . فإن ذلك أكثر ثوابا وأحسن مآبا . قال في " الإكليل " : في الآية طلب الإمام في الخير . وفي " العجائب " للكرمانيّ : قال القفال وغيره من المفسرين : في الآية دليل على أن طلب الرياسة في الدين واجب . انتهى .
وكذا قال الزمخشريّ ، عن بعضهم : إن فيه ما يدل على أن الرياسة في الدين ، يجب أن تطلب ويرغب فيها . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } [ 75 - 77 ] .
{ أُولَئِكَ } إشارة إلى المتصفين بما ذكر . خبر لعباد الرحمن أو مبتدأ خبره : { يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا } أي : على مشاق المجاهدات في الدعوة إلى الخيرات ، والدأب على الخيرات ، واجتناب المحظورات . والغرفة الدرجة العليا من المنازل في الجنة : { وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً } أي : تحييهم الملائكة وتسلم عليهم . أو يحيّي بعضهم بعضا ويسلم عليه . والقصد أنهم يلقون فيها التوقير والاحترام ، فلهم السلام وعليهم السلام : { خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } لسلامة أهلها عن الآفات ، وخلودهم أبد الآباد .
{ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ } أي : لا يبالي بكم ولا يبقيكم إلا إذا عبدتموه وآمنتم به وحده . فالدعاء بمعنى العبادة ، كما مّر .
ثم أشار إلى أنه كيف يمكن العبء بهم ، أو يتصور ، وقد وجد منهم ما ينافيه ، بقوله تعالى : { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ } أي : بما جاءكم من الحق . أي : وقد تلي عليكم سنة من كذب وأصرّ : { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } اللزام : مصدر مؤول باسم الفاعل أتى به للمبالغة . أي : فسوف يكون هذا النبأ أو الذكر الحكيم ، أو الأمر الجليل ، أمر الرسالة ، لازماً وثابتاً . يفتح من الحق رتاجاً . وتدخل الناس في دين الله أفواجاً . ولقد صدق الله وعده . ونصر عبده وأعز جنده . هز الأحزاب وحده . نسأله تعالى خير ما عنده .(/)
سورة الشعراء
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ طسم } [ 1 ] .
{ طسم } سبق في سورة البقرة الأقوال في هذه الفواتح ، وأن الأكثر على أنها اسم للسورة ، فمحله الرفع على أنه خبر لمحذوف ، وهو أظهر من رفعه على الابتداء, أو النصب بتقدير : اقرأ ونحوه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } [ 2 ] .
{ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } الإشارة إلى السورة ، وما فيها من معنى البعد للتفخيم ، ومحله الرفع على الابتداء ، خبره ما بعده أو بدل مما قبله . والمراد بالكتاب القرآن . و بالمبين الظاهر إعجازه وآيته وبرهانه . ومن أَبَان بمعنى : بان - أو المبين للحق من الباطل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [ 3 ] .
{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ } أي : قاتل : { نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } أي : لعدم إيمانهم . ولعل للإشفاق . أي : أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على عدم إيمانهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ 4 ] .
{ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً } أي : ملجئة لهم إلى الإيمان ، قاسرة عليه : { فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } أي : منقادين ، والجملة مستأنفة لتعليل ما يفهم من الكلام من النهي عن التحسر المذكور ، ببيان أن إيمانهم ليس مما تعلقت به مشيئة الله تعالى حتماً ، فلا وجه للطمع فيه ، والتألم من فواته . قاله أبو السعود .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ } [ 5 ] .
{ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ } أي : مكذبين ، استهزاء وإصرار على ما كانوا عليه من الكفر . وتقدم نظير الآية في أول سورة الأنبياء ، وتحقيق معنى قوله تعالى : محدث فتذكر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ 6 ] .
{ فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي : أحواله الباهرة وشؤونه القاهرة ، وظهور أعلامه ، وبقاء أيامه ، وفيه وعيد لهم بحلول الذل بهم ، ونزول الصغار وقتئذ بدارهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } [ 7 ] .
{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } أي : صنف مرضيّ كثير المنافع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ } [ 8 ] .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ } لصرفهم اختيارهم إلى جانب الكفر ، في هذه الآيات .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [ 9 ] .
{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } أي : فهو القادر على الانتقام منهم بلا ممانع ، والرحيم بإمهاله وحلمه عنهم ، فلينتبهوا قبل أن يحل بهم ما حلّ بفرعون وقومه ، ولذا استأنف نبأ موسى عليه السلام معه ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ } [ 10 - 13 ] .
{ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي } أي : في أداء الرسالة ، في بسطة من المقال : { فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ } أي : ليوازرني ويشدّ به عضدي . والمفعول محذوف ، أي : ملكاً أو جبريل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ } [ 14 - 15 ] .
{ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ } وهو قتل القبطيّ ، المبسوط في غير هذه السورة : { فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قَالَ كَلَّا } أي : لا تخف إنك من الآمنين : { فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ } مزيد تسلية لهما ، بكمال الحفظ والنصرة .
قال أبو السعود : مثل حاله تعالى بحال ذي شوكة قد حضر مجادلة قوم يستمع ما يجري بينهم ، ليمد أولياءه ويظهرهم على أعدائهم ، مبالغة في الوعيد بالإعانة . انتهى .
ولو قيل هو كناية عن ذلك ، كان أولى . لجواز بقاء المعنى الحقيقيّ معها ، وهو هنا كذلك فهو تعالى مستمع لهما وحافظ وناصر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ } [ 16 - 17 ] .
{ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ } ليتحرروا من عبوديتك وعذابك المهين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } [ 18 - 19 ] .
{ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ } يعني قتل القبطي { وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } أي : بنعمتي .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ } [ 20 ] .
{ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ } أي : الجاهلين بكون الوكزة مفضية إلى القتل . أو الذاهبين عن صواب الحلم والعفو والدفع بالأحسن .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ } [ 21 ] .
{ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ } أي : تقتلوني على القتل الخطأ ، فنجاني الله منكم ، وزادني إنعاماً : { فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً } أي : حكمة أو نبوة : { وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ } أي : لإبطال دعواك الربوبية ، واستئصال شُبَه ما عليه قومك من الوثنية . وطلب إرسال قومي إلى مواطنهم الأصلية ، وقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ } [ 22 ] .
{ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ } إبطال لمنته عليه في التربية ، ببيان أنها في الحقيقة نقمة . لأنه كان اتخذ بني إسرائيل ؛ عبيداً مسخرين في شؤونه ، مذللين لأموره ، مقهورين لعسفه . وموسى عليه السلام ، وإن لم ينله من ذلك ما نالهم ، إلا أنه لما كان منهم ، فكأنه وصل إليه ، وحلَّ به ، كما قيل : وظلم الجار إذلال المجير أي : لا يفي إحسانك إلى رجل منهم بما أسأت إلى مجموعهم ، وما أنا إلا عضو منهم . وفي فحواها تقريعه بالكبرياء المتناهية ، والقسوة البالغة ، والسلطة الغالية التي من ورائها الفرج القريب ، والمخرج العجيب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ } [ 23 - 25 ] .
{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ } أي : لهذا النبأ العجيب ، وهو توحيد المعبود .
وإنما عدّه جديراً بأن يتعجبوا منه ، لنهم ، على ما حققه المؤرخون ، غلوا في عبادة الأصنام وتعديد الآلهة غلُوّاً أربوا على كل من سواهم في الضلال . فكانوا يسجدون للشمس والقمر ، والنجوم ، والأشخاص البشرية ، والحيوانات ، حتى الهوامّ ، وأدنى حشرات الأرض .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } [ 26 - 28 ] .
{ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } أي : لكونه يدعو إلى خلاف ما عقل عن الآباء .
{ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } أي : شيئاً ما ، أو إن كنتم من أهل العقل علمتم أن الأمر كما قتله . وفيه إيذان بغاية وضوح الأمر ، بحيث لا يشتبه على من له عقل في الجملة ، وتلويح بأنهم بمعزل من دائرة العقل ، وإنهم المتصفون بما رموه عليه السلام به من الجنون .
تنبيه :
ذهب بعض المفسرين إلى أن فرعون كان من المعطلة ، لا يقر بخالق ، ولا يعترف بمعبود لظاهر قوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } [ القصص : 38 ] ، وأن قومه كانوا لا يؤلهون سواه .
قال ابن كثير : ومن زعم من أهل المنطق أن هذا سؤال عن الماهية فقد غلط . فإنه لم يكن مقرّاً بالصانع ، حتى يسأل عن الماهية ، بل كان جاحداً له بالكلية فيما يظهر . انتهى .
وقدمنا أنه حقق الاكتشاف الصحيح والتاريخ والوثيق ، أنه كان من الوثنيين الغالين . وأن له ولقومه عدة معبودين علويين وسفليين .
وعليه فمعنى قوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } أي : مطاع عظيم ، وكانوا لا يتحاشون من إطلاق الإله على الجبار المسيطر . فبقي سؤاله بما يحتمل أن يكون على نهج القاعدة المنطقية ، من طلب الاكتناه ، وتعجبه من جوابه ، ثم رميه بالجنون ، ثانياً ، لعدوله عن الكنه إلى الأثر . ويحتمل أن يكون لتعرفه من جهة وحدته في ربوبيته التي ادعاها موسى ، وأن تعجبه لما شاهد من الجد في الدعوة والثبات عليها ، والصدع بما يؤلم عظمته ، ويغمز جبروته ؛ وهذا هو الذي أذهب إليه ، فإن القوم بمعزل عن أن يعجبوا لكون الجواب كان بالرسم لا بالحد ، إذ هو اصطلاح لفئة خاصة ، ومع هذا فالنظم يحتمله ولا يأباه . وقد عول عليه كثير من أهل النظر ، ولا بأس بأن نأثر شيئاً من لطائفهم فيه .
قال الرازيّ : السؤال بما طلب لتعريف حقيقة الشيء . وتعريف حقيقة الشيء إما أن يكون بنفس تلك الحقيقة ، أو بشيء من أجزائها ، أو بأمر خارج عنها ، أو بما يتركب من الداخل والخارج . أما تعريفها بنفسها فمحال ؛ لأن المعرف معلوم قبل المعرف . فلو عرف الشيء بنفسه لزم أن يكون معلوماً قبل أن يكون معلوماً ، وهو محال . وأما تعريفها بالأمور الداخلية فيها ، فهاهنا في حق واجب الوجود محال ، لأن التعريف بالأمور الداخلة ، لا يمكن إلا إذا كان المعرف مركباً ، وواجب الوجود يستحيل أن يكون مركباً ؛ لأن كل مركب ، فهو محتاج إلى كل واحد من أجزائه . وكل واحد من أجزائه فهو غيره ؛ فكل مركب محتاج إلى غيره . وكل ما احتاج إلى غيره فهو ممكن لذاته . وكل مركب فهو ممكن ، فما ليس بممكن يستحيل أن يكون مركباً . فواجب الوجود ليس بمركب ، وإذا لم يكن مركباً استحال تعريفه بأجزائه . ولما بطل هذان القسمان ، ثبت أنه لا يمكن تعريف ماهية واجب الوجود ، إلا بلوازمه وآثاره .
ثم إن اللوازم قد تكون خفية ، وقد تكون جلية . ولا يجوز تعريف الماهية باللوازم الخفية ، بل لا بد من تعريفها باللوازم الجلية . وأظهر آثار ذات واجب الوجود وهو هذا العالم المحسوس ، وهو السماوات والأرض وما بينهما .
فقد ثبت أنه لا جواب البتة لقول فرعون : { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } إلا ما قاله موسى عليه السلام ، وهو أنه رب السماوات والأرض وما بينهما . فأما قوله : { إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ } . فمعناه إن كنتم موقنين باستناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود ، فاعرفوا أنه لا يمكن تعريفه إلا بما ذكرته . لأنكم لما سلمتم انتهاء هذه المحسوسات إلى الواجب لذاته ، وثبت أن الواجب لذاته فرد مطلق ، وثبت أن الفرد المطلق لا يمكن تعريفه إلا بآثاره . وثبت أن تلك الآثار لا بد وأن تكون أظهر آثاره وأبعدها عن الخفاء ، وما ذاك إلا السموات والأرض وما بينهما . فإن أيقنتم بذلك لزمكم أن تقطعوا بأنه لا جواب عن ذلك السؤال ، إلا هذا الجواب .
ولما ذكر موسى عليه السلام هذا الجواب الحق ، قال فرعون لمن حوله : { أَلا تَسْتَمِعُونَ } وإنما ذكر ذلك على سبيل التعجب من جواب موسى ، يعني أنا أطلب منه الماهية ، وخصوصية الحقيقة ، وهو يجيبني بالفاعلية والمؤثرية .
وتمام الإشكال أن تعريف الماهية بلوازمها ، لا يفيد الوقوف على نفس تلك الماهية ، وذلك لأنا إذا قلنا في الشيء أنه الذي يلزمه اللازم الفلانيّ ، فهذا المذكور ، إما أن يكون معرّفاً لمجرد كونه أمراً ما يلزمه ذلك اللازم . أو لخصوصية تلك الماهية التي عرضت لها هذه الملزوميّة والأول محال . لأن كونه أمراً يلزمه ذلك اللازم جعلناه كاشفاً . فلو كان المشكوف هو هذا القدر لزم كون الشيء معرفاً لنفسه ، وهو محال . والثاني محال ، لأن العلم بأنه أمر ما ، يلزمه اللازم الفلانيّ ، لا يفيد العلم بخصوصية تلك الماهية الملزمة ، لأنه لا يمتنع في العقل اشتراك الماهيات المختلفة في لوازم متساوية . فثبت أن التعريف بالوصف الخارجيّ ، لا يفيد معرفة نفْس الحقيقة فلم يكن كونه ربّاً للسموات والأرض وما بينهما جواباً عن قوله : { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } فأجاب موسى عليه السلام بأن قال : { قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ } وكأنه عدل عن التعريف بخالقية السماء والأرض ، إلى التعريف بكونه تعالى خالقاً لنا ولآبائنا . وذلك لأنه لا يمتنع أن يعتقد أحد أن السموات والأرضين ، واجبة لذواتها ، فهي غنية عن الخالق والمؤثر . ولكن لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وأبيه وأجداده ، كونهم واجبين لذواتهم . لما أن المشاهدة دلت على أنهم وجودوا بعد العدم ، ثم عدموا بعد الوجود ، وما كان كذلك استحال أن يكون واجباً لذاته . وما لم يكن واجباً لذاته ، استحال وجوده إلا لمؤثر . فكان التعريف بهذا الأثر أظهر ، فلهذا عدل موسى عليه السلام من الكلام الأول ، إليه . فقال فرعون : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } يعني المقصود من سؤال ما طلب الماهية ، وخصوصية الحقيقة . والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا يفيد البتة تلك الخصوصية ، فهذا الذي يدعى الرسالة مجنون ، لا يفهم السؤال فضلاً عن أن يجيب عنه .
فقال موسى عليه السلام : { قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني ، وذلك لأنه أراد بالمشرق طلوع الشمس وظهور النهار ، وأراد بالمغرب غروب الشمس وزوال النهار ، والأمر ظاهر في أن هذا التدبير المستمر على الوجه العجيب ، لا يتم إلا بتدبير مدبر ، وأما قوله : { إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } فكأنه عليه السلام قال : إن كنت من العقلاء ، عرفت أنه لا جواب عن سؤالك ، إلا ما ذكرت ، لأنك طلبت مني تعريف حقيقته بنفس حقيقته . وقد ثبت أنه لا يمكن تعريف حقيقته بنفس حقيقته ولا بأجزاء حقيقته . فلم يبق إلا أن أعرف حقيقته بآثار حقيقته . وأنا قد عرفت حقيقته بآثار حقيقته ، فقد ثبت أن كل من كان عاقلاً ، يقطع بأنه لا جواب عن هذا السؤال إلا ما ذكرته .
ثم قال الرازيّ : وقد بينا في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى : { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [ الأنعام : 18 ] ، أن حقيقة الإله سبحانه من حيث هي ، هي غير معقولة للبشر ، انتهى .
وقال الإمام ابن حزم في " المِلَل والنِّحَل " في الكلام في المائية : ذهب طوائف من المعتزلة إلى أن الله تعالى لا مائية له . وذهب أهل السنة وضرار بن عَمْرو ، إلى أن لله تعالى مائية . قال ضرار : لا يعلمها غيره . قال ابن حزم : والذي نقول به ، وبالله تعالى التوفيق ، أن له مائية هي إنيّته نفسها ، وإنه لا جواب لمن سأل : ما هو البارئ ، إلا ما أجاب به موسى عليه السلام ؛ إذ سأله فرعون : { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } ؟ ونقول أنه لا جواب هاهنا لا في علم الله تعالى ولا عندنا ، إلا ما أجاب به موسى عليه السلام . لأن الله تعالى حمد ذلك منه وصدق فيه . ولو لم يكن جواباً صحيحاً تامّاً لا نقص فيه ، لما حمده الله تعالى .
ثم قال : ههنا نقف ولا نعلم أكثر . ولا ههنا أيضاً شيء غير هذا ، إلا ما علمنا ربنا تعالى ، من سائر أسمائه ، كالعليم والقدير والمؤمن والمهيمين وسائر أسمائه .
قال تعالى : { وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [ 110 ] ، إذ كل ما أحاط به العلم فهو متناه محدود وهذا منفيّ عن الله عزّ وجلّ ، وواجب في غيره ، لوقوع العدد المحاط به في أعراض كل ما دونه تعالى ، ولا يحاط بما لا حدود له ولا عدد له . فصح يقيناً أننا نعلم الله عزّ وجلّ حقّاً ، ولا نحيط به علماً . انتهى ملخصاً .
ولما سمع فرعون تلك المقالات المبينة على أساس الحكم البالغة ، وشاهد شدة حزم موسى عليه السلام وقوة عزمه على دعوته ، عدل عن خطة الإنصاف إلى الاعتساف ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ } [ 29 - 39 ] .
{ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } قرئ بهمز وبدونه ، وهما لغتان . يقال أرجأته وأرجيته إذا أخرته . والمعنى أخرهما ومناظرتهما لوقت اجتماع السحرة : { وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ } أي : شُرَطاً يحشرون السحرة ، أي : يجمعونهم عندك : { يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ } أي : لرؤية ما يعارض معجزة موسى . وكان خَامَرَ فؤادهم عجب منها واندهاش . والاستفهام مجاز عن الحث والاستعجال .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } [ 40 - 46 ] .
{ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } أي : تبتلع ما موّهوا به إفكاً وزوراً : { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } أي : على وجوههم منقادين له بالإيمان ، لعلمهم بأن مثله لا يتأتى بالسحر . وفيه دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق يخيل شيئاً لا حقيقة له ، التبحر في كل فن نافع وإن لم يكن من العلوم الشرعية ، فإن هؤلاء السحرة . لتبحرهم في علم السحر ، علموا حقيقة ما أتى به موسى عليه السلام ، وأنه معجزة . فانتقلوا بزيادة علمهم الذي أداهم إلى الاعتراف بالحق والإيمان ، لفرقهم بين المعجزة والسحر . قاله القاضي شهاب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ } [ 47 - 50 ]
{ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ } [ 51 ]
{ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } أي : فعلمكم شيئاً دون شيء ، ولذلك غلبكم . أو فواعدكم ذلك وتواطأتم عليه . أراد به التلبيس على قومه ؛ كي لا يعتقدوا أنهم آمنوا على بصيرة وظهور حقّ .
{ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ } أي : جانبيْن متخالفيْن : { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ } أي : لا ضرر علينا في ذلك ، بل لنا فيه أعظم النفع ، لأنا بفعلك هذا وصبرنا عليه ، شهادة على حقيّته ، إلى ثوابه ورحمته راجعون ، فننقلب خير منقلب ، شهداء سعداء : { إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ } أي : لأن : { كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : من أظهر الإيمان كفاحاً , مجاهرة بالحق بلا تقية . ثم أشار تعالى إلى خروج موسى بقومه من مصر بإيحائه إليه . وكان إذن فرعون له بذلك بعد ما أراه الآيات البينات ثم ندم عليه ، فأتاه الإذن الإلهيّ به ، كما قال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ } [ 52 ] .
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ } أي : سرْ بهم ليلاً ، فإنه إذا وصل خبر سيركم إلى فرعون ، لا بد أن يتبعكم بجنوده لإرجاعكم ، إلا أنكم تتقدمونه ولا يدرككم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ } [ 53 ] .
{ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ } أي : حين أخبر بسراهم : { فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ } أي : جامعين لعسكره ، قائلين ما يقلل به الأعداء في أَعْيَن الجنود :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } [ 54 - 58 ] .
{ إِنَّ هَؤُلاءِ } أي : بني إسرائيل الخارجين : { لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ } أي : يفعلون أفعالاً تغيظنا وتضيق صدورنا من مخالفة أمرنا والخروج بغير إذن منا : { وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ } أي : من مكرهم وسعيهم بالفساد في الأرض : { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } يعني : المنازل الحسنة والمجالس البهية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ } [ 59 ] .
{ كَذَلِكَ } إشارة إلى مصدر ، أي : مثل ذلك الإخراج أخرجناهم ، فهو في محل نصب صفة لمصدر مقدر ، أو هو خبر محذوف ، أي : كذلك .
قال الشهاب : وإذا قدر الأمر كذلك فالمراد تقريره وتحقيقه ، والجملة معترضة حينئذ كالتي بعدها { وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ } . قال الشهاب : هو استعارة ؛ أي : ملكناها لهم تمليك الإرث بعد زمان . وكأن العاقبة ، لما كانت لهم ، صاروا كأنهم ملكوها حين خروج أربابها منها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ } [ 60 ] .
{ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ } أي : لحقوهم وقت شروق الشمس .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } [ 61 - 63 ] .
{ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ } أي : تقاربا رأى واحد منهما الآخر : { قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } أي : لملحقون : { قَالَ كَلَّا } أي : لن يدركوكم فإن الله وعدكم بالخلاص منهم : { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } أي : لطريق النجاة منهم { فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ } أي : فضربه فانفلق : { فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } أي : كل جزء متفرق منه كالجبل الكبير .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [ 64 - 68 ] .
{ وَأَزْلَفْنَا } أي : قرّبنا : { ثَمَّ } أي : حيث انفلق البحر : { الْآخَرِينَ } يعني فرعون ، أي : قدمناهم إلى البحر حتى دخلوا على أثر بني إسرائيل : { وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ } أي : بحفظ البحر على تلك الهيئة إلى أن عبروا { ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ } أي : بإطباقه عليهم : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً } أي : لعبرة : { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : مع مشاهدة هذه الآية العظمى التي توجب تصديقه بعدها في كل ما جاء به . منهم من بقي على كفره كبقية القبط . ومنهم من عصاه واقترح عليه ما اقترح كبعض بني إسرائيل . وفيه تسلية للنبيّ صلوات الله عليه . ووعد له ووعيد لمن عصاه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } [ 69 - 74 ] .
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ } أي : على مشركي العرب : { نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ } أي : ما الذي تدعونه وتلجئون إليه . وكان عليه السلام يعلم أنهم عَبْدة أصنام ، ولكنه سألهم ليريهم , أن ما يعبدونه ليس من استحقاق العبادة في شيء : { قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ } أي : مقيمين على عبادتها لا نتخطاها إلى غيرها { قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } أي : مثل عبادتنا ، فقلدناهم .
قال أبو السعود : اعترفوا بأنها بمعزل مما ذكر من السمع والمنفعة والمضرّة بالمرة . واضطروا إلى إظهار أن لا سند لهم سوى التقليد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } [ 75 - 81 ] .
{ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي } أي : أفأبصرتم ، أو أتأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدونه وسلفكم . فإنهم بغضائي : { إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } أي : لكن رب العالمين ليس كذلك ، فإنه وليِّ في الدنيا والآخرة ، لا أعبد غيره ثم برهن على موجب قصر عبادته عليه تعالى بقوله : { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } أي : إلى كل ما يهمني من أمور الدين والدنيا ، فإنه تعالى وحده يهدي كلاً لم خلق له . والموصول صفة لرب وجعلُه مبتدأ وما بعده خبراً - غير حقيق بجزالة التنزيل . قاله أبو السعود .
{ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } أي : يرزقني بما سخر ويسر من الأسباب السماوية والأرضية ، فساق المزن ، وأنزل الماء وأحيى به الأرض وأخرج به من كل الثمرات رزقاً للعباد ، وأنزل الماء عذباً زلالاً يسقيه مما خلق أنعاماً وأناسيّ كثيراً .
{ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } أي : إذا وقعت في مرض فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره بما قدره من الأسباب الموصلة إليه . وإنما نسب المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله تعالى ، مع أنهما منه ، لمراعاة حسن الأدب معه تعالى . بتخصيصه بنسبة الشفاء الذي هو نعمة ظاهرة إليه تعالى كما قال الخضر : { فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا } [ الكهف : 79 ] ، وقال : { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا } [ الكهف : 82 ] ، وكقول الجن في آيةٍ : { أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } [ الجن : 10 ] ، ولأن كثيراً من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك . ومن ثم قالت الحكماء : لو قيل لأكثر الموتى : ما سبب آجالكم ؟ لقالوا : التخم .
{ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } فإنه هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ، لا يقدر على ذلك أحد سواه . فإن قيل إن الموت قد يكون بتفريط الإنسان ، وقد أضافه تعالى إلى نفسه ، فما الفرق بين نسبة الموت ونسبة المرض في مقتضى الأدب ؟ أجيب كما في " الانتصاف " : بأن الموت قد علم به بأنه قضاء محتوم من الله تعالى على سائر البشر ، وحكم عامٌّ لا يخص ، ولا كذلك المرض فكم من معافى منه قد بغته الموت ؛ فالتأسي بعموم الموت لعله يُسقط أثر كونه بلاء ، فيسوغ في الأدب نسبته إلى الله تعالى . وأما المرض ، فلما كان مما يخص به بعض البشر دون بعض ، كان بلاء محققاً . فاقتضى العلوّ في الأدب مع الله تعالى ، أن ينسبه الإنسان إلى نفسه ، باعتبار ذلك السبب الذي لا يخلو منه . ويؤيد ذلك أن كل ما ذكره مع المرض ، أخبر عن وقوعه بتاً وجزماً ، لأنه أمر لا بد منه . وأما المرض ، فلما يتفق وقد لا ، أورده مقروناً بشرط إذا فقال : { وَإِذَا مَرِضْتُ } وكان ممكناً أن يقول والذي يمرضني فيشفيني ، كما في غيره فما عدل عن المطابقة المجانسة المأثورة ، إلا لذلك . انتهى .
قال أبو السعود : وأما الإماتة ، فحيث كانت من معظم خصائصه تعالى كالإحياء ، بدءاً وإعادة ، وقد نيطت أمور الآخرة جميعاً بها وبما بعدها من البعث نظمها في سمط واحد في قوله تعالى : { وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } على أن الموت ، لكونه ذريعة إلى نيله عليه الصلاة والسلام للحياة الأبدية ، بمعزل من أن يكون غير مطموع عنده عليه الصلاة والسلام .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } [ 82 ] .
{ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } أي : الجزاء . وخطيئته ما كان يراها هو صلوات الله عليه ويعدّها بالنسبة لمقامه الكريم .
قال أبو السعود : ذكره عليه الصلاة والسلام هضماً لنفسه وتعليماً للأمة أن يجتنبوا المعاصي ويكونوا على حذر وطلب مغفرة لما يفرط منهم وتلافياً لما عسى يندر منه عليه السلام من الصغائر ، وتنبيهاً لأبيه وقومه على أن يتأملوا في أمرهم فيقفوا على أنهم من سوء الحال في درجة لا يقادر قدرها ، فإن حاله عليه السلام ، مع كونه في طاعة الله تعالى وعبادته ، في الغاية القاصية ، حيث كانت بتلك المثابة . فما ظنك بحال أولئك المغمورين في الكفر ، وفنون المعاصي والخطايا ؟ .
وتعليق مغفرة الخطيئة بيوم الدين ، مع أنها إنما تغفر في الدنيا ، لأن أثرها يومئذ يتبيّن ، ولأن في ذلك تهويلاً له وإشارة إلى وقوع الجزاء فيه ، إن لم تغفر ، وبعد أن ذكر عنايته تعالى به من مبدأ خلقه إلى بعثه ، حمله ذلك على مناجاته ، فقال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } [ 83 - 84 ] .
{ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً } أي : حكمة ، أو حكماً بين الناس بالحق ، أو نبوة ، لأن النبيّ ذو حكم وحكمة { وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } أي : وفقني لأنتظم في سلكهم ، لأكون من الذين جعلتهم سبباً لصلاح العالم وكمال الخلق { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } أي ذكراً جميلاً بعدي ، أذكر به ويُقْتدى بي في الخير كما قال تعالى : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [ الصافات : 108 - 110 ] .
قال القتيبيّ : وضع اللسان موضع القول على الاستعارة ، لأن القول يكون به ، وقد تكني العرب به عن الكلمة . وعليها حمل قول الأعشى :
~إِنِّي أَتَتْنِي لسانٌ لا أُسَرُّ بها من عُلْوَ ، لا عَجَبٌ منها ولا سَخَرُ
وجوّز أن يكون المعنى : واجعل لي صادقاً من ذريتي ، يجدّد أصل ديني ويدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم إليه من التوحيد . وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم . ولذا قال صلى الله عليه وسلم : < أنا دعوة أبي إبراهيم > ، فالكلام بتقدير مضاف . أي : صاحب لسان صدق . أو مجاز بإطلاق الجزء على الكل ، لأن الدعوة باللسان .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ } [ 85 - 86 ] .
{ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لِأَبِي } أي : بهدايته وتوفيقه للإيمان . كما يلوح به تعليله بقوله : { إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ } أي : طريق الحق .
قال الحافظ ابن كثير . قوله : { وَاغْفِرْ لِأَبِي } الخ . . كقوله : { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ } [ إبراهيم : 41 ] ، وهذا مما رجع عنه إبراهيم عليه السلام كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ } [ التوبة : 114 ] ، إلى قوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } وقد قطع تعالى الإلحاق في استغفاره لأبيه ، فقال تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ } [ الممتحنة : 4 ] [ في المطبوع : 5 ] ، إلى قوله : { وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ 87 - 89 ] .
{ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } أي : لا تلحق بي ذلّاً وهواناً يومئذ : { يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } أي لا يقي المرء من عذاب الله ماله ولو افتدى بملء الأرض ذهباً . ولا بنوه ، وإن كانوا غاية في القوة . فإن الأمر ثمة ليس كما يعهدون في الدنيا ، بل لا ينفع إلا الموافاة بقلب سُلَيم من مرض الكفر والنفاق والخصال المذمومة والملكات المشؤومة .
قال الزمخشريّ : وما أحسن ما رتب إبراهيم عليه السلام كلامه مع المشركين حين سألهم أولاً عما يعبدون سؤال مقرر لا مستفهم . ثم أنحى على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع . وعلى تقليدهم آباءهم الأقدمين ، فكسره وأخرجه من أن يكون شبهة ، فضلاً أن يكون حجة . ثم صور المسألة في نفسه دونهم حتى تخلص منها إلى ذكر الله عزَّ وعلا ، فعظم شأنه وعدد نعمته من لدن خلقه وإنشائه ، إلى حين وفاته ، مع ما يرجى في الآخرة من رحمته . ثم أتبع ذلك أن دعاه بدعوات المخلصين ، وابتهل إليه ابتهال الأوّابين . ثم وصله بذكر يوم القيامة ، وثواب الله وعقابه ، وما يدفع إليه المشركون يومئذ من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال ، وتمني الكرة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا .
ثم بين سبحانه أن الجنة تكون قريبة من موقف السعداء ، ينظرون إليها ويغتبطون بأنهم المحشورون إليها . والنار تكون بارزة مكشوفة للأشقياء بمرأى منهم ، يتحسرون على أنهم المسوقون إليها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ } [ 90 - 94 ] .
{ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } أي : الضالّين عن طريق الحق الذي هو الإيمان والتقوى . وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع وتقرره { وَقِيلَ لَهُمْ } توبيخاً على شركهم : { أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ } أي : يدفعون العذاب عنكم ، أو يدفعونه عن أنفسهم ، لأنهم وآلهتهم وقود النار . وهو قوله تعالى : { فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ } أي : الآلهة : { وَالْغَاوُونَ } أي : وعبدتهم الذين برزت لهم الجحيم .
قال الزمخشري : والكبكبة تكرير الكب - وهو الإلقاء على الوجه - جعل التكرير في اللفظ على التكرير في المعنى ، كأنه إذا ألقي في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 95 - 98 ] .
{ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ } أي : متبعوه من العصاة : { أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : في العبادة ، مع أنكم أعجز مخلوقاته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ } [ 99 ] .
{ وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ } أي : رؤساؤهم ، كما في آية : { رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا } [ الأحزاب : 67 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [ 100 - 101 ] .
{ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ } أي : من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء . لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله . وكان لهم الأصدقاء من شياطين الإنس . فما أغنوا عنهم شيئاً . كما قال تعالى : { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } [ الزخرف : 67 ] قال الزمخشري : والحميم من الاحتمام وهو الاهتمام ، وهو الذي يهمه ما يهمك . أو من الحامة : بمعنى الخاصة . وهو الصديق الخاص . وفيه معنى الحدة والسخونة . كأنه يحتدّ ويحمى ، لحماية خليله ورعايته ، والقيام بمهماته . وهذا هو الذي قيل : إنه أعز من بيض الأنوق وإنه اسم بلا مسمى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [ 102 - 104 ] .
{ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً } أي : رجعة إلى رجعة إلى الدنيا : { فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي فيما ذكر من نبأ إبراهيم : { لَآيَةً } أي : لحجة وعظة أراد أن يستبصر بها ويعتبر . وتقدم ما قاله الزمخشري في بديع سياقها : { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ } أي : أكثر قوم إبراهيم : { مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } أي : بإنزال الكتب وإرسال الرسل ، لدعوة خلقه إلى ما فيه صلاحهم وفلاحهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } [ 105 - 111 ] .
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } لأن تكذيب واحد كتكذيب الكل ، لاتفاقهم في أصول الشرائع . وهو نفي الشريك وإثبات البارئ وتوحيده . أو لأن المراد بالجمع الواحد : { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } يعنون من كان وضيع النسب قليل النصيب من الدنيا . فإن الشرف لديهم بالمال والنشب ، والحسب والنسب ، لا بالأخلاق الفاضلة . والملكات الكاملة . التي تحمل على تعرف الحق والتوجه إليه . ثم اعتناقه والمحافظة عليه . وأكثر ما تكون الأخلاق في مثل المستضعفين . إذا قام عليهم ناصح أمين . إذ لا مال يطغيهم . ولا جاه يلهيهم . وذلك من العناية الربانية فيهم .
قال الزمخشري : وهكذا كانت قريش تقول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وما زالت أتباع الأنبياء كذلك ، حتى صارت من سماتهم وأماراتهم . ألا ترى إلى هرقل حين سأل أبا سفيان عن أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قال : ضعفاء الناس , قال : ما زالت أتباع الأنبياء كذلك . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ 112 ] .
{ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } جواب عما أشير إليه من قولهم إنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة . أي : وما عليّ إلا الظاهر والله يتولى السرائر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ 113 - 118 ] .
{ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي } أي : ما حسابهم على أعمالهم ، إلا على ربي المطلع على ضمائرهم : { لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ } أي : المشتومين أو المرميين بالحجارة : { قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً } أي : احكم بيننا بما يستحقه كل واحد منا .
قال الزمخشري : الفتاحة : الحكومة . والفتاح : الحاكم . لأنه يفتح المستغلق . كما سمي فيصلاً لأنه يفصل بين الخصومات . وفي " التهذيب " : الفتح أن تحكم بين قوم يختصمون إليك . قال الأشعر الجُعْفِيّ :
~ألا مَنْ مُبْلغٌ عمراً رسولاً فَإِنِّي عن فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ
{ وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ } [ 119 - 128 ] .
{ فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً } أي : فيما فعلنا بهم لعبرة وعظة لمن بعدهم : { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ عَادٌ } وهم قوم هود عليه السلام : { الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ } أي : مكان مرتفع ، بكسر الراء وفتحها : { آيَةً } أي : علامة : { تَعْبَثُونَ } أي : ببنائها لا للحاجة إليها . بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة . ولهذا أنكر عليهم ذلك . لأنه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان في غير فائدة . واشتغال بما هم في غنى عنه . وبما في الشغف به انصراف عن الجد في العمل ، وصرف للأموال في غير ما خلقت له ، من النظر للنفس والأهل والدين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } [ 129 ] .
{ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ } أي : منازل وقصوراً : { لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } أي : راجين الخلود في الدنيا إشارة إلى أن عملهم ذلك ، لقصر نظرهم على الدنيا والإعجاب بالآثار ، والتباهي بالمشيدات والغفلة عن أعمال المجدّين البصيرين بالعواقب ، الصالحين المصلحين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } [ 130 ] .
{ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } أي : تأخذون بالعنف والشدة ، كبراً وعتوّاً . يقال : بطش به أي : أخذه بالعنف والسطوة ، وتناوله بشدة عند الصولة ، يصفهم عليه السلام بالقسوة وعدم الرحمة والشفقة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } [ 131 - 134 ] .
{ فَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : فيما آمركم به من التوبة والإيمان : { وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } أي : فاشكروا نعماءه وارعوا بتقواه آلاءه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ 135 ] .
{ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ } أي : إن لم تقوموا بواجب شكرها : { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي : في الدنيا والآخرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ } [ 136 ] .
{ قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ } أي : فإِنا لن نرعوي عما نحن عليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ } [ 137 ] .
{ إِنْ هَذَا } أي : ما هذا الذي نحن عليه : { إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ } أي : عادتهم . كانوا يدينون به ويعتقدونه . فنحن بهم مقتدون . أو ما هذا الذي جئتنا به إلا عادة الأولين . كانوا يلقفون مثله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ } [ 138 - 146 ] .
{ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } أي : على ما نحن عليه من الأعمال : { فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ } أي : بريح صرصر : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ } أي : من الموت والزوال والعذاب .
قال الزمخشري : يجوز أن يكون إنكاراً لأن يتركوا مخلدين في نعيمهم لا يُزالون عنه . وأن يكون تذكيراً بالنعمة في تخلية الله إياهم وما يتنعمون فيه من الجنات وغير ذلك ، مع الأمن والدعة . وقوله تعالى : { فِي مَا هَاهُنَا } أي : في الذي استقر في هذا المكان من النعيم . ثم فسره بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ } [ 147 - 153 ] .
{ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ } أي : لطيف لين : { وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ } أي : بطرين . وقرئ فرهين وهو أبلغ . وقيل : فاره من فَرُه بالضم ، بمعنى حذق . وفَرِه صفة من فره كفرح ، بمعنى أشر وبطر : { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ } أي : الذين سُحِروا حتى غلب على عقولهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } [ 154 - 166 ] .
{ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ } أي : نصيب من الماء : { وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } أي : فاقتنعوا بشربكم ولا تزاحموها على شربها : { وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي : لعظم ما تسيئون .
قال الزمخشري : عظم اليوم لحلول العذاب فيه ، ووصف اليوم به أبلغ من وصف العذاب . لأن الوقت إذا عظم بسببه ، كان موقعه من العظم أشد : { فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ } أي : الموعود ، وهو أن أرضهم زلزلت زلزلاً شديداً ، وجاءتهم صيحة عظيمة : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } أي : مجاوزون حدّ الحكمة في ترك محل الحرث ، الحافظ للنسل ، الذي به حفظ النوع البشريّ ، وإيثار ما لم يخلق لذلك ، شَرَهاً في الشهوة الحيوانية ، ومكافحة لتغيير الأوضاع الربانية .
ونقل السيوطيّ في " الإكليل " عن محمد بن كعب القرظيّ ، أن معنى الآية : تذرون مثله من المباح . فاستدل بذلك على إباحة وطء الزوجة من دبرها . انتهى .
وخالفه غيره . فاستدل بها على حظره . وبيانه كما في " الكشاف " و " حواشيه " أنّ مِنْ إِمَّا تبيين لما خلق ، أو للتبعيض . ويراد به العضو المباح منهن ، تعريضاً بأنهم كانوا يفعلون ذلك بنسائهم . ومن الوجه الثاني يستدل على حظر إتيان المرأة في غير المأتى . وتقريره في " الانتصاف " أن مِنْ لو كانت بياناً لكان المعنى حينئذ على ذمهم بترك الأزواج . ولا شك أن ترك الأزواج مضموم إلى إتيان الذكران . وحينئذ يكون المنكر عليهم الجمع بين ترك الأزواج وإتيان الذكران ، لا أن ترك الأزواج وحده منكر . ولا كان الأمر كذلك ، لكان النصب في الثاني متوجهاً على الجمع . وكان إما الأفصح أو المتعين . وقد اجتمعت العامة - عامة القراء - على القراءة به مرفوعاً ولا يتفقون على ترك الأفصح إلى ما لا مدخل له في الفصاحة ، أو في الجواز أصلاً . فلما وضح ذلك تبين أن هذا المعنى غير مراد . فتعين حمل مِنْ على البعضية . فيكون المنكر عليهم أمرين . كل واحد منهما مستقل بالإنكار : أحدهما إتيان الذكران . والثاني مجانبة إتيان النساء في المأتى ، رغبة في إتيانهن في غيره . وحينئذ يتوجه الرفع لفوات الجمع اللازم على الوجه الأول ، واستقلال كل واحد من هاتين العظيمتين بالنكير . انتهى .
ومثله من دَقيق الاستنباط الذي يوسع المدارك ويفتح للتفهم أبواباً ، وإن أمكن أن يقال إن سياق الآية في الملام لهم ، أعمّ مما ذكره ومن غيره . والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ } [ 167 ] .
{ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ } أي : عن تقبيح أمرنا : { لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ } أي : من قريتنا عنفاً ، إذ لا تجانسنا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ } [ 168 - 169 ] .
{ قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ } أي : المبغضين غاية البغض . أي : فأنا أرغب في الخروج عن دياركم ، والراحة من مجاورتكم ، لبغضي لعملكم ، الآيل بكم إلى الدمار وخراب الديار . ولذا أتبعه بقوله : { رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ } أي : من شؤمه وغائلته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ } [ 170 - 171 ] .
{ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً } وهي امرأته . كما بينت في آيات : { فِي الْغَابِرِينَ } أي : مقدّراً كونها من الباقين في العذاب . لأنها كانت راضية بعمل قومها .
لطيفة :
قال الناصر في " الانتصاف " : كثيراً ما ورد في القرآن ، خصوصاً في هذه السورة ، العدول عن التعبير بالفعل إلى التعبير بالصفة المشتقة . ثم جعل الموصوف بها واحداً من جمعٍ . كقول فرعون : { لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } [ 29 ] ، وقولهم : { سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ } [ 136 ] ، وقولهم : { لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ } [ 116 ] ، وقوله : { إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ } [ 168 ] ، وقوله تعالى في غيرها : { رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ } [ التوبة : 87 ] ، وكذلك : { ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ } [ التوبة : 86 ] وأمثاله كثيرة والسر في ذلك ، والله أعلم ، أن التعبير بالفعل ، إنما يفهم وقوعه خاصة . وأما التعبير بالصفة ، ثم جعل الموصوف بها واحداً من جمع ، فإنه يُفهم أمراً زائداً على وقوعه . وهو أن الصفة المذكورة ، كالسمة للموصوف ثابتة العلوق به . كأنها لقب . وكأنه من طائفة صارت كالنوع المخصوص المشهور ببعض السمات الرديئة . واعتبر ذلك لو قلت : رضوا بأن يتخلفوا , لما كان في ذلك مزيد على الإخبار بوقوع التخلف منهم لا غير . وانظر إلى المساق وهو قوله : { رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ } كيف ألحقهم لقباً رديئاً ، وصيرهم من نوع رذل مشهور بسمة التخلف ، حتى صارت لقباً لاحقاً به . وهذا الجواب عام في جميع ما يرد عليك من أمثال ذلك . فتأمله واقدره قدره : { ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ } أي : أهلكناهم أشد إهلاك وأفظعه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَ أَصْحَابُ لْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ } [ 172 - 176 ] .
{ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً } أي : عظيماً غير معهود ، هلكوا به : { فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَ أَصْحَابُ لْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ } وهم أهل مدين . ووهمَ من زعم أنهما أمتان أرسل إليهما شعيب عليه السلام : فإنهم أمة واحدة كانوا يقطنون مدين أضيفوا إليها تارة وأخرى إلى ما حوتها من الأيكة ، وهي الأشجار الكثيرة الملتفة المجتمعة في مكان واحد .
قال الحافظ ابن كثير : والصحيح أنهم أمة واحدة . وصفوا في كل مقام بشيء . ولهذا وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء المكيال والميزان ، كما في قصة مدين سواء بسواء . فدل ذلك على أنهما أمة واحدة .
تنبيه :
قال أبو عَمْرو : وكتب في جميع المصاحف ليكة في الشعراء و " ص " ، بلام من غير ألف قبلها . وفي الحجر وق : الأيكة ولذا قرأ نافع وابن كثير وابن عامر بلام مفتوحة ، من غير همز قبلها ولا بعدها . ونصب التاء غير منصرف . والباقون الأيكة بإسكان اللام وهمز وصل قبله ، وهمزة قطع مفتوحة بعده ، وجر التاء . وحمزة وصلاً ووقفاً على أصله . وقراءة الأولين استشكلها أبو علي الفارسيّ وغيره ، بأنه لا وجه للفتح . لأن نقل حركة الهمزة لا يقتضي تغيير الإعراب من الكسر إلى الفتح . أي : فإن العرب تقول في الأحمر الحمر ولحمر وإثبات الألف واللام في الأيكة في سائر القرآن يدل - كما قال الزجاج - على أن حذف الهمزة منها التي هي ألف الوصل ، بمنزلة قولهم : لحمَر وقرئ ليكة بالجر على الإضافة في غير السبع . لكن قال الزمخشري : هو الوجه . ومن قرأ بالنصب ، وزعم أن ليكة ، بوزن ليلة ، اسم بلد ، فتوهم قاد إليه خط المصحف حيث وجدت مكتوبة في هذه السورة وفي سورة ص بغير ألف . وفي المصحف أشياء كتبت على خلاف قياس الخط المصطلح عليه . وإنما كتبت في هاتين السورتين على حكم لفظ اللافظ . كما يكتب أصحاب النحو - لأن ولولي - على هذه الصورة ، لبيان لفظ المخفف . وقد كتبت في سائر القرآن على الأصل . والقصة واحدة . على أن ليكة اسم لا يعرف . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ } [ 177 - 181 ] .
{ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْفُوا الْكَيْلَ } أي : أتموه : { وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ } أي : حقوق الناس بإعطائهم ناقصاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [ 182 - 183 ]
{ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ } أي : بالميزان السويّ : { وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } أي : لا تنقصوهم حقوقهم . قال الزمخشري : وهو عام في كل حق ثبت لأحد ، أن لا يهضم . وفي كل ملك أن لا يغصب عليه مالكه ، ولا يتحيف منه ، ولا يتصرف فيه ، إلا بإذنه تصرفاً شرعياً { وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ } أي : بالقتل والغارة وقطع الطريق والجور والظلم وأكل أموال الناس بالباطل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ } [ 184 - 186 ] .
{ وَاتَّقُوا } الله : { الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ } أي : وذوي الجبلة الأولين ، وهم من تقدمهم من الخلائق : { قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ } أي : فيما تدعيه من النبوة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ 187 - 188 ] .
{ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ } قطعاً منها . قرىء كسْفاً بسكون السين وتحريكها . وكلاهما جمع كسفة : { إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي : من الكفر والمعاصي ، وبما تستوجبون عليها من العذاب ، بإسقاط كسف أو غيرها مما يشاؤه إذا جاء أجلكم ، فإليه الحكم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ 189 ] .
{ فَكَذَّبُوهُ } أي : فاستمروا على تكذيبه ولم يتوبوا : { فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي : لحلول العقاب فيهم ، من جنس ما سألوه ، من إسقاط السماء قطعاً عليهم . فقد أظلتهم سحابة أطبقت عليهم ، وأظلمت الجوّ فوقهم ، وغشيهم العذاب وأحاط بهم . والظلة بالضم لغةً ، الغاشية ، وما أطبق وستر من فوق .
قال الحافظ ابن كثير : ذكر تعالى صفة إهلاكهم في ثلاثة مواطن . كل موطن بصفة تناسب ذلك السياق . ففي الأعراف ذكر أنهم : { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [ الأعراف : 91 ] ، وذلك لأنهم قالوا : { لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } [ الأعراف : 88 ] ، فأرجفوا نبي الله ومن اتبعه : { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } وفي سورة هود قال : { وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ } [ هود : 94 ] ، ذلك لأنهم استهزؤوا بنبي الله في قولهم : { أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } [ هود : 87 ] ، قالوا ذلك على سبيل التهكم والازدراء . فناسب أن تأتيهم صيحة تسكتهم فقال : { وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ } وههنا قالوا : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ } [ 187 ] الآية ، على وجه التعنت والعناد . فناسب أن يحقق عليهم ما استعبدوا وقوعهُ : { فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ } . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [ 190 - 191 ] .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً } أي : على أخذ العصاة بمقتضى أعمالهم : { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } أي : الغالب على تعذيب من شاء بما شاء ، الرحيم ، بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، لئلا يكون للناس على الله حجة .
قال الزمخشريّ : فإن قلت : كيف كرر في هذه السورة ، في أول كل قصة وأخرها ، ما كرر ؟ قلت : كل قصة منها كتنزيل برأسه . وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها . فكانت كل واحدة منها تدلي بحق في أن تفتتح بما افتتحت به صاحبتها ، وأن تختتم بما اختتمت به . ولأن في التكرير تقريراً للمعاني في الأنفس ، وتثبيتاً لها في الصدور . ألا ترى أنه لا طريق إلى تحفيظ العلوم إلا ترديد ما يراد تحفظه منها ؟
وكلما زاد ترديده كان أمكن له في القلب ، وأرسخ في الفهم ، وأثبت للذكر ، وأبعد من النسيان . ولأن هذه القصص طرقت بها أذان وُقْرٌ عن الإنصات للحق ، وقلوب غلفٌ عن تدبره ، فكوثرت بالوعظ والتذكير ، وروجعت بالترديد والتكرير . لعل ذلك يفتح أذناً ، أو يفتق ذهناً ، أو يصقل عقلاً طال عهده بالصقل أو يجلو فهماً قد غطى عليه تراكم الصدأ . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } [ 192 - 195 ] .
{ وَإِنَّهُ } أي : ما ذكر من الآيات الناطقة بالقصص المحكية ، أو القرآن المتضمن لها : { لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : منزل منه حقاً : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } أي : جبريل عليه السلام : { عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } أي : منتظماً في سلك أولئك المشهورين بتلك المزية الجليلة ، والمنقبة الفاضلة . وهي الرسالة الإلهية بالإنذار ، إزالة للأعذار : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } أي : واضح المعنى جليّ المفهوم ، ليكون قاطعاً للعذر ، مقيماً للحجة ، دليلاً إلى المحجة . والجار متعلق بنزل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ } [ 196 - 197 ] .
{ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ } أي : في كتبهم . مع أنه صلوات الله عليه لم يصحب أهلها ولم يدرسها . فكفى بذلك شهيداً على صدقه : { أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً } أي : علامة على تنزيله الحق : { أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ } أي : فيجدون مصداقه في زبرهم التي يدرسونها ، كما قال تعالى : { وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } [ القصص : 53 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ } [ 198 - 209 ] .
{ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ } أي : ولو نزلناه بنظمه البديع على بعض الأعاجم الذي لا يحسن العربية ، فقرأه عليهم قراءة فصيحة ، انقتق لسانه بها ، خرقاً للعادة ، لكفروا به كما كفروا . ولتمحّلوا لجحودهم عذراً . ولسموه سحراً ، لفرط عنادهم : { كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ } أي : مكّنا هذا العناد والإباء عن الإيمان به ، في قلوبهم وأنفسهم . وقررناه فيها : { لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } أي : وهو ما هو ، عياذاً به منه : { أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ } أي : من طوال الأعمار وطيب المعايش : { وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ذِكْرَى } أي : رسل ينذرونهم لأجل الموعظة والتذكرة : { وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ } أي : فنبغتهم بالعذاب قبل الإنذار ، فإن ذلك محال في حكمة الحكم العدل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } [ 210 - 213 ] .
{ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } ردّ لما زعمه المشركون من أن التنزيل الكريم من قبيل ما تلقيه الشياطين على الكهنة ، بعد تحقيق الحق ببيان أنه نزل به الروح الأمين . وقوله تعالى : { إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ } أي : الاستماع عن الملائكة : { لَمَعْزُولُونَ } لانتفاء الاستعداد لقبول فيضان أنوار الحق علهم ، لخباثة نفوسهم بالذات ، فهم مرجومون مبعدون عن الأنوار القدسية والبراهين السبوحية : { فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } في الدارين ، عذاب تعديد الوجهة ، واضطراب الفكر ، وضعف الشبهة ، وتوهين العقل في الدنيا . ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } [ 214 - 219 ] .
{ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } أي : الأدنين . وإنه لا يخلص أحداً منه إلا إيمانه بربه عزّ وجلّ . وقد قال عليه الصلاة والسلام لما نزلت عليه : < يا فاطمة ابنة محمد ! يا صفية ابنة عبد المطلب ! لا أملك لكم من الله شيئاً . أنقذوا أنفسكم من النار > . وقد بسط الأحاديث الواردة في ذلك ، ابن كثير . فراجعه . وقوله تعالى : { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : ليّن جانبك لهم . مستعار من حال الطائر . فإنه إذا أراد أن ينحط خفض جناحه : { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } أي : من النوم إلى التهجد : { وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } أي : المصلين . أي : تصرفك فيما بينهم بالقيام والركوع والسجود ، إذا أممتهم . يعني : يراك وحدك ويراك في الجمع . والتوصيف بذلك للتذكير بالعناية بالصلاة ليلاً وجمعاً وفرادى . أو معنى الآية : لا يخفى عليه حالك ، كلما قمت وتقلبت مع الساجدين ، في كفاية أمور الدين . أو هي كناية عن رعايته صلوات الله عليه ، والعناية به . كقوله تعالى : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَاُ } [ الطور : 48 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [ 220 - 222 ] .
{ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } أي : لما تقوله وبما تنويه : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } أي : تتنزل وهو استئناف مسوق لبيان استحالة تنزل الشياطين على رسول الله بعد امتناع تنزلهم بالقرآن : { تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } أي : كذاب في قوله ، في الكلام من وجه إلى آخر ، ولا يبالي بذلك . لأنه أثيم كثير الإثم والفجور في فعله . وحيث كان المقام النبويّ منزهاً عن ذلك ، اتضح استحالة تنزلهم عليه .
قال القاشانيّ : لأن تنزلهم لا يكون إلا عند استعداد قبول النفوس لنزولها ، بالمناسبة في الخبث والكيد والمكر والقدر والخيانة وسائر الرذائل . فمن تجرد عن صفات النفس ، وترقى إلى جناب القدس ، وتنورت نفسه بالأنوار الروحية ومصابيح الشهب السبوحية ، وأشرق عقله بالاتصال بالعالم الأعلى ، فلا يمكن للشياطين أن يتنزلوا عليه ، ولا أن يتلقفوا المعارف والحقائق والشرائع . فإنهم معزولون عن استماع كلام الملكوت الأعلى ، مرجومون بشهب الأنوار القدسية . وقوله تعالى : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ } تقرير لقوله تعالى : { وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } لأن الإفك والإثم من لوازم النفوس الكدرة الخبيثة المظلمة السفلية ، المستمدة من الشياطين بالمناسبة ، المستدعية لإلقائهم وتنزلهم بحسب الجنسية . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ } [ 223 - 226 ] .
{ يُلْقُونَ } أي : الأفّاكون : { السَّمْعَ } أي : إلى الشياطين وأوهامهم ووساوسهم : { وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } أي : فيما يتكهنون به ، وفيما يحكونه عن الشياطين . وقوله تعالى : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } استئناف مسوق لإبطال ما قالوا في حق القرآن الكريم ، من أنه من قبيل الشعر ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشعراء ، ببيان حال الشعراء المنافية لحاله عليه الصلاة والسلام . بعد إبطال ما قالوا إنه من قبيل ما يلقي الشياطين على الكهنة من الأباطيل ، بما مرّ من بيان أحوالهم المضادّة لأحواله عليه الصلاة والسلام .
والمعنى أن الشعراء الذين يركبون المخيلات والمزخرفات من القياسات الشعرية والأكاذيب الباطلة ، سواء كانت موزونة أم لا ، فإنه يتبعهم : أي : يجاريهم ويسلك مسلكهم ، ويكون من جملتهم الغاوون الضالون عن السنن ، لا غيرهم من أهل الرشد ، المهتدين إلى طريق الحق ، الداعين إليه . قاله أبو السعود .
وقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } استشهاد على أن الشعراء إنما يتبعهم الغاوون ، وتقرير له . أي : ألم تر أنهم في كل وادٍ من أودية الخيال يهيمون على وجوههم ، لا يقفون عند حدّ معيّن ، بل يركبون للباطل والكذب وفضول القول كل مركب . ديدنهم الهجاء ، وتمزيق الأعراض ، والقدح في الأنساب ، والنسيب بالحرم والغزل والابتهار . ومدح من لا يستحق المدح ، والغلوّ في الثناء والهجاء .
لطيفة :
في ذكر الوادي والهيام ، تمثيل لذهابهم في شعب القول وفنونه وطرقه وشجونه . قال ابن الأثير : استعار الأودية للفنون والأغراض من المعاني الشعرية التي يقصدونها . وإنما خص الأودية بالاستعارة ، ولم يستعر الطرق والمسالك ، أو ما جرى مجراها - لأن معاني الشعر تستخرج بالفكرة والروية ، والفكرة والروية فيهما خفاء وغموض . فكان استعارة الأودية لها أشبه وأليق .
{ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ } أي : مما يتبجحون به من أقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم ، كناية عن أنهم يكذبون غير مبالين بما يستتبعه من اللوائم . أي : فكيف يتوهم أن يتبعهم في مسلكهم ذلك ، ويلتحق بهم وينتظم في سلكهم ، من تنزّهت ساحته عن أن يحوم حولها شائبة الاتصاف بشيء من الأمور المذكورة ، واتصف بمحاسن الصفات الجليلة ، وتخلق بمكارم الأخلاق الجميلة ، وحاز جميع الكمالات القدسية ، وفاز بجملة الملكات الأَنْسية ، مستقرّاً على المنهاج القويم ، مستمرّاً على الصراط المستقيم ، ناطقاً بكل أمر رشيد ، داعياً إلى صراط العزيز الحميد ، مؤيداً بمعجزات قاهرة ، وآيات ظاهرة ، مشحونة بفنون الحكم الباهرة ، وصنوف المعارف الزاهرة ، مستقلة بنظم رائق ، أعجز كل منطيق ماهر , وبكّت كل مفلق ساحر ! قاله أبو السعود .
تنبيه :
قال الحافظ ابن كثير : اختلف العلماء فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حدّاً . هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا ؟ لأنهم يقولون ما لا يفعلون - على قولين : وقد ذكر محمد بن إسحاق ومحمد بن سعد في " الطبقات " والزبير بن بكار في كتاب " الفكاهة " أن أمير المؤمنين عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل النعمان بن عَدِيّ بن نَضْلة على مَيْسَان ، من أرض البصرة . وكان يقول الشعر ، فقال :
~أَلَا هَلْ أَتَى الْحَسْنَاءَ أَنَّ خَليلَهَا بِمَيِسَانَ يُسْقَى فِي زُجَاجٍ وَحَنْتَمِ
~إِذَا شِئْتُ غَنّتْني دَهَاقينُ قَرْيَةٍ وَرَقَّاصَةٌ تَحْثُو عَلَى كُلٍّ مَبْسمِ
~فَإِنْ كُنْتَ نَدْمَانِي فَبِالأَكْبَرِ اسْقِنِي وَلا تَسْقِنِي بالأَصْغَرِ المُتَثلَّم
~لعلَ أَميرَ المؤمنين يَسُوؤهُ تَنَادُمُنَا بِالْجَوْسَقِ المُتَهَدِّمِ
فلما بلغ ذلك أميرَ المؤمنين عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : إِي والله ! إنه ليسوؤني بذلك . ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته ، وكتب إليه عمر : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } . أما بعد فقد بلغني قولك :
~لعلَ أَميرَ المؤمنين يَسُوؤهُ تَنَادُمُنَا بِالْجَوْسَقِ المُتَهَدِّمِ
وأيم الله ! إنه ليسوؤني ذلك . وقد عزلتك .
فلما قدم على عمر . بكّته بهذا الشعر . وقال : والله ! يا أمير المؤمنين ! ما شربتها قط وما ذاك الشعر إلا شيء طفح على لساني . فقال عمر : أظن ذلك . ولكن ، والله ! لا تعمل لي عملاً أبداً ، وقد قلتَ ما قلتَ .
فلم يذكر أنه حدّه على الشراب ، وقد ضمنه شعره . لأنهم يقولون ما لا يفعلون . ولكن ذمّه عمر ولامه على ذلك وعزله به .
وحكى الزمخشريّ عن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله :
~فَبِتْنَ بِجَانِبَيَّ مُصَرَّعَاتٍ وَبِتُّ أفُضُّ أَغْلاقَ الْخِتَامِ
فقال : وقد وجب عليك الحدّ . فقال : يا أمير المؤمنين ! قد درأ الله عني الحدّ بقوله : { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ } .
ثم استثنى تعالى الشعراء المؤمنين الصالحين ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي : مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } [ 227 ] .
{ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً } أي : في شعرهم ، بأن كان غالبه في توحيد الله والثناء عليه والحكمة والموعظة والآداب الحسنة : { وَانْتَصَرُوا } أي : بشعرهم على عدوّهم بأن هجوه : { مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا } أي : فكان هجاؤهم على سبيل الانتصار ممن يهجوهم ، جزاءً وفاقاً . قال الله : { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ } [ النساء : 148 ] ، وقال تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 194 ] .
قال ابن كثير : وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان : < اهجهم ، أو قال هاجهم ، وجبريل معك > ويروي الإمام أحمد عن كعب بن مالك أنه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إن الله عزّ وجلّ قد أنزل في الشعر ما قد علمت ، وكيف ترى فيه ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : < إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه . والذي نفسي بيده ! لكأن ما ترمونهم به نضح النبل > .
تنبيهات :
الأول : قال في " الإكليل " : في قوله تعالى : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } الآية ، ذم الشعر ، والمبالغة في المدح والهجو وغيرهما من فنونه ، وجوازه في الزهد والأدب ومكارم الأخلاق وجواز الهجو لمن ظلم ، انتصاراً . انتهى .
وحكى الزمخشريّ عن عَمْرو بن عبيد ، أن رجلاً من العلوية قال له : إن صدري ليجيش بالشعر . فقال : فما يمنعك منه فيما لا بأس به ؟ والقول فيه : أن الشعر باب من الكلام ، محسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام .
الثاني : ذكر ابن إسحاق أنه لما نزلت : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكون . قالوا : قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء . فتلا النبيّ صلى الله عليه وسلم : { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } قال : أنتم .
قال ابن كثير : لكن هذه السورة مكية ، فكيف يكون سبب نزول هذه الآيات في شعراء الأنصار ؟ وفي ذلك نظر . ولم يرو فيه إلا مرسلات لا يعتمد عليها . والله أعلم . ولكن الاستثناء دخل فيه شعراء الأنصار وغيرهم ، حتى يدخل فيه من كان متلبساً من شعراء الجاهلية بذم الإسلام وأهله ، ثم تاب وأناب ورجع وأقلع ، وعمل صالحاً ، وذكر الله كثيراً ، في مقابلة ما تقدم من الكلام السيِّء . فإن الحسنات يذهبن السيئات . وامتدح الإسلام وأهله في مقابلة ما كان يذمه . كما قال : عبد الله بن الزِّبَعْرَى ، لما أسلم :
~يا رسولَ المليكِ إنّ لساني رَاتِقٌ مَا فَتَقْتُ ، إِذْ أَنَا بُورُ
~إِذْ أُجاري الشيطانَ في سَنَنِ الغَيّ وَمَنْ مَالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ
وكذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، كان من أشد الناس عداوة للنبيّ صلى الله عليه وسلم فهو ابن عمّه وأكثرهم له هجواً . فلما أسلم لم يكن أحد أحب إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى . وقوله تعالى : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي : مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } تهديد شديد ووعيد أكيد ، لما في سيعلم من تهويل متعلقه . وفي الذين ظلموا من إطلاقه وتعميمه . وفي أي : منقلب ينقلبون من إبهامه وتهويله . كأنه لا يمكن معرفته ، وقد رأوا ما حاق بهم في الدنيا . ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .(/)
سورة النمل
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [ 1 - 3 ] .
{ طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ } الإشارة إلى نفس السورة . والقرآن عبارة عن الكل أو عن الجميع المنزل . أي : تلك السورة آيات القرآن الذي عرف بعلوّ الشأن . وآيات كتاب عظيم المقدار ، مبين لما تضمنه من الحكم والأحكام والمواعظ والاعتبار { هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } أي : هو هدى من الضلالة ، وبشرى برحمة الله ورضوانه ، لمن آمن وعمل صالحاً من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وأيقن بالآخرة ، والجزاء على الأعمال خيرها وشرها .
لطيفة :
تكرير الضمير لإفادة الحصر والاختصاص على ما في " الكشاف " .
ولصاحب " الانتصاف " وجه آخر قال : لما كان أصل الكلام , وهم يوقنون بالآخرة , ثم قدم المجرور على عامله ، عناية به ، فوقع فاصلاً بين المبتدأ والخبر ، فأريد أن يلي المبتدأ خبره ، وقد حال المجرور بينهما ، فطرّى ذكره ليليه الخبر ، ولم يفت مقصود العناية بالمجرور حيث بقي على حاله مقدماً : ولا يستنكر أن تعاد الكلمة مفصولة له وحدها ، بعد ما يوجب التطرية . فأقرب منها أن الشاعر قال :
~سَلْ ذُو وَعَجِّلْ ذَا وَأَلْحِقْنَا بِذَا الشَّحْمِ ، إِنَّا قَدْ مَلَلْنَاهُ بِخَلّ
والأصل وألحقنا بذا الشحم فوقع منتصف الرجز أو منتهاه على القول بأن مشطور الرجز بيت كامل عند اللام . وبنى الشاعر على أنه لا بد ، عند المنتصف أو المنتهى ، من وقيفة ما . فقدر بتلك الوقفة بُعْداً بين المعرّف وآلة التعريف . فطرّاها ثانية . فهذه التطرية لم تتوقف على أن يحول بين الأول وبين المكرّر ولا كلمة واحدة ، سوى تقديره وقفة لطيفة لا غير .
ثم قال : فتأمل هذا الفصل فإنه جدير بالتأمل . والله أعلم .
ثم تأثر أحوال المؤمنين بأحوال الكفرة ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 4 - 8 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ } أي : مددنا لهم في غيّهم ، فهم يتيهون في ضلالهم . وكان هذا جزاءً على ما كذّبوه به من الدار الآخرة والجزاء على الأعمال كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 110 ] ، { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ } أي : أشد الناس خسراناً للنجاة وثواب الله { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } أي : لتؤتاه وتلقنه من عند حكيم في أمره ونهيه ، عليم بالأمور جليّها وخفيها . فخبره هو الصدق المحض والحكمة البالغة ، كما قال : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } [ الأنعام : 115 ] ، والجملة مستأنفة ، سيقت [ في المطبوع : سقيت ] بعد بيان بعض شؤون القرآن الكريم ، تمهيداً لما يعقبه من الأنباء الجليلة . وقد بدأ منها بما كان من أمر موسى عليه السلام واصطفائه وإيتائه من الآيات الباهرة ما أذلّ معانديه ، وجعلهم مثل السوء . فقال سبحانه : { إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ } أي : حين قفل من مدين إلى مصر ، وأضَلَّ الطريق : { إِنِّي آنَسْتُ نَاراً } أي : رأيتها : { سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ } أي : عن الطريق : { أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ } أي : بشعلة مقتبسة : { لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } أي : تتدفئون به : { فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } أي : بورك من في مكان النار ومَن حول مكانها . ومكانها البقعة التي حصلت فيها . وتدل عليه قراءة أُبيّ : تباركت الأرض ومن حولها , وعنه : بوركت النار . والذي بوركت له البقعة ، وبورك من فيها وحواليها ، حدوث أمر دينيّ فيها ، وهو تكليم الله موسى ، واستنباؤه له ، وإظهار المعجزات عليه . ورب خير يتجدد في بعض البقاع ، فينشر الله بركة ذلك الخير في أقاصيها ويبث أثار يمنه في أباعدها . فكيف بمثل ذلك الأمر العظيم الذي جرى فـ تلك البقعة المباركة ؟ كذا في " الكشاف " .
وقال السمين : بارك يتعدى بنفسه . فلذلك بني للمفعول : باركك الله ، وبارك عليك ، وبارك فيك وبارك لك . والمراد بمن إما الباري تعالى وهو على حذف مضاف ، أي : من قدرته وسلطانه في النار . وقيل المراد به موسى والملائكة . وكذلك قوله : { وَمَنْ حَوْلَهَا } وقيل المراد بمن غير العقلاء . وهو النور والأمكنة التي حولها . انتهى .
ولذا قال الزمخشري : والظاهر أنه عامّ في كل من كان في تلك الأرض وفي ذلك الوادي وحواليهما من أرض الشام . قال : ولقد جعل الله أرض الشام بالبركات موسومة في قوله : { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } [ 71 ] ، وحقت أن تكون كذلك . فهي مبعث الأنبياء صلوات الله عليهم ، ومهبط الوحي إليهم ، وكفاتهم أحياء وأمواتاً .
ثم قال : ومعنى ابتداء خطاب الله موسى بذلك عند مجيئه ، هي بشارة له بأنه قد مضى أمر عظيم تنتشر منه في أرض الشام كلها البركة . انتهى .
وقال القرطبيّ : هذا تحية من الله تعالى لموسى ، وتكرمة له . كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا : { رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ } [ هود : 73 ] .
وعن ابن عباس : لم تكن تلك النار ناراً ، وإنما كانت نوراً يتوهج . وعنه : هي نور رب العالمين .
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي عبيدة عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام . يخفض القسط ويرفعه . يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل . حجابه النور أو النار . لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره > ثم قرأ أبو عبيدة : { أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } .
قال ابن كثير : وأصل الحديث مخرج في صحيح مسلم من حديث عَمْرو بن مرّة : { وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : الذي يفعل ما يشاء ، ولا يشبهه شيء من مخلوقاته ، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته ، وهو العليّ العظيم المباين لجميع المخلوقات ، ولا يكتنفه الأرض والسموات ، بل هو الأحد الصمد المنزه عن مماثلة المحدثات . قاله ابن كثير .
وقد أفاد أن المقام اقتضى التنزيه ، دفعاً لإيهام ما لا يليق من التشبيه . ثم إن موسى عليه السلام ، أعلمه تعالى بأنه هو الذي يكلمه ويناجيه ، لا ملك ولا خلق آخر ، بل ذاته العلية المستحقة للألوهية والنعوت القدسية ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ } [ 9 - 12 ] .
{ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وفي إيثار هذه الأسماء الجليلة سرّ بديع . وهو الإشارة الجُمْلية إلى روح إرساله عليه السلام . أي : أنا الله لا تلك المعبودات التي عكف عليها قوم فرعون ، العزيز الغالب القاهر لكل عات متمرد ، الحكيم في البعثة والإرسال ، والتفضل والإفضال . ثم أمره تعالى أن يلقي عصاه من يده ليريه دليلاً واضحاً على أنه القادر على كل شيء ، بقوله : { وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ } هو ضرب من الحيات ، أسرعه حركة وأكثره اضطراباً : { وَلَّى } أي : من الخوف : { مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ } أي : لم يرجع على عقبه من شدة خوفه : { يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ } أي : لحفظي لهم وعنايتي بهم وعصمتي إياهم مما يؤذيهم . وفيه تبشير له باصطفائه بالرسالة والنبوة . وتشجيع له بنزع الخوف . إذ لا يتمكن من أداء الرسالة ، ما لم يزل خوفه من المرسل إليه . وقوله تعالى : { إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } استثناء منقطع . استدرك به ما عسى يختلج في الخلد من نفي الخوف عن كلهم . مع أن منهم من فرطت منه صغيرة ما ، مما يجوز صدوره عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . فإنهم وإن صدر عنهم شيء من ذلك ، فقد فعلوا عقيبه ما يبطله ، ويستحقون به من الله تعالى مغفرة ورحمة . وقد قصد به التعريض بما وقع من موسى عليه الصلاة والسلام ، من وكزه القبطيّ والاستغفار . قاله أبو السعود . وسبقه الزمخشري حيث قال : يوشك أن يقصد بهذا ، التعريض بما وجد من موسى . وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها ، وسماه ظلماً كما قال موسى : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } ثم أشار تعالى إلى آية خارقة غير العصا ، آتاه إياها ، بقوله : { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } أي : آفة كبرص : { فِي تِسْعِ آيَاتٍ } أي : غيرها تؤتاها ، إذا جحد فرعون رسالتك . وهي ضرب ماء النهر بالعصا فينقلب دماً . وإصعاد الضفادع على أرض مصر . وضرب التراب فتمتلئ الأرض قملاً . وإرسال الجراد عليهم . والوباء الشديد . وإصابة أجسادهم بالقروح والدمامل والبثور . وإهلاك حصادهم بالبرد الشديد . وتغشيتهم بظلام كثيف ، على ما روي ، وفي : { تِسْعِ } أوجه : أحدها أنها حال ثالثة . أي : تخرج آية في تسع آيات . والثاني أنها متعلقة بمحذوف ، أي : اذهب في تسع . والثالث أن يتعلق بقوله : { وأَلْقَ عَصَاكَ } : { وَأَدْخِلْ يَدَكَ } أي : في جملة تسع آيات . وفي بمعنى : مع : { إِلَى فِرْعَوْنَ } أي : مرسلاً بها إلى فرعون : { وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ } أي : خارجين عن الحدود ، في الكفر والعدوان . وهذا تعليل للإرسال .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ } [ 13 - 16 ] .
{ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً } أي : ظاهرة بينة : { قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا } أي : كذبوا بها بألسنتهم : { وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ } أي : عرفت أنفسهم أنها آيات يقيناً ، لا سيما عند إلقاء السحرة ساجدين : { ظُلْماً } أي : للآيات ، بتسميتها سحراً كقوله : { بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ } [ الأعراف : 9 ] ، ولقد ظلموا بها : { وَعُلُوّاً } أي : تكبراً عن الانقياد لموسى : { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } أي : من إهلاكهم بالإغراق ، لغرقهم في بحر الفساد والإفساد : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً } أي : بالقضاء بين الناس ، وحكمة باهرة : { وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } أي : العلم والحكمة والنبوة أو الملك : { وَقَالَ } أي : تحدثاً بنعمة الله وتنويهاً بمنته : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ } أي : فهم صوته : { وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ } أي : البين الظاهر . وهو قول وارد على سبيل الشكر والمحمدة . كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أنا سيد ولد آدم ولا فخر > أي : أقول هذا القول شكراً ، ولا أقوله فخراً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } [ 17 - 25 ] .
{ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ } أي : جمع له عساكره : { مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي : يحبسهم أولهم على أخرهم ليتلاحقوا : { حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ } أي : رأتهم متوجهين إلى واديها : { يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } أي : بمكانهم : { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا } أي : تعجباً من حذرها واهتدائها إلى تدبير مصالحها ومصالح بني نوعها . وسروراً بشهرة حاله وحال جنوده في باب التقوى والشفقة ، فيما بين أصناف المخلوقات ، التي هي أبعدها من إدراك أمثال هذه الأمور ، وابتهاجاً بما خصه الله تعالى به من إدراك همسها وفهم مرادها . قاله أبو السعود : { وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ } أي ألهمني شكرها : { وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } أي : بحجة تبين عذره : { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ } أي : فلبث في الغيبة أمداً غير طويل : { فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ } وهي مدينة : { بِنَبَأٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } أي : سرير تجلس عليه ، هائل مزخرف بأنواع الجواهر : { وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا } أي : هلاّ يسجدوا . كما قرأ بذلك . وجوّز بعضهم أن يكون معمولاً لما قبله . أي : فصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا ، فحذف الجار مع أن أو تكون لا مزيدة ، والمعنى : فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا : { لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : يظهر ما هو مخبوء فيهما من نبات ومعادن وغيرهما : { وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } قرئ بالتاء والياء على صيغة الغيبة . والجملة التحضيضية إما مستأنفة من كلامه تعالى ، أو محكية عن قول الهدهد . واستظهر الزمخشري الثاني . قال : لأن في إخراج الخبء أمارة على أنه من كلام الهدهد ، لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض . وذلك بإلهام من يخرج الخبء في السماوات والأرض ، جلت قدرته ولطف علمه . ولا يكاد يخفى على ذي الفراسة النّظّار بنور الله ، مخايل كل مختص بصناعة أو فن أو من العلم ، في روائه ومنطقه وشمائله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } [ 26 ] .
{ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } أي : المحيط بالشمس وسائر الكواكب وكل شيء . فما أصغر عرشها في جنب عظمته ! وما أضعف معبودها - الشمس - في جانب قدرته ! .
تنبيه :
هذه السجدة من عزائم السجدات . قال الزمخشري : لأن مواضع السجدة إما أمر بها ، أو مدح لمن أتى بها ، أو ذم لمن تركها . وإحدى القراءتين أمر بالسجود ، والأخرى ذم للتارك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ } [ 27 - 32 ] .
{ قَالَ } أي : سليمان : { سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } أي : حسن مضمونه وما فيه : { إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } أي : لا تتكبروا عليّ ، وأتوني منقادين لأمري : { قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ } أي : لا أبتّ أمراً إلا بمحضركم ومشورتكم . ولا أستبدّ بقضاء إلا باستطلاع آرائكم والرجوع إلى استشارتكم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ } [ 33 - 35 ] .
{ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ } أي : في العَدد والعُدد : { وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي : نجدة وبلاء في الحرب : { وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ } أي : وأمر القتال أو الصلح مفوض إلى رأيك . فانظري ما هو أبقى لشرفك وملكك : { قَالَتْ } أي : مشيرة إلى اختيار خطة المسالمة وإيثارها ، بالنظر لحالتها ومركزها وضعفها أمام عدوّها ، بأن القتال إنما يؤثَر إذا لم يغلب على الظن دخول العدوّ في قرية العدوّ . وألا تعيّن الانقياد . وذلك معنى قولها : { إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً } أي : عنوة وقهراً : { أَفْسَدُوهَا } أي : أخربوها : { وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً } أي : بالقهر والغلبة والقتل والأسر ونهب الأموال : { وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } تأكيد لما وصفت من حالهم ، وتقرير له بأن ذلك عادتهم المستمرة . وقيل تصديق لها منه تعالى : { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ } أي : وإني سأرسل إلى سليمان وملئه رسلاً بهدية توجب المحبة وتشبه الانقياد . من غير اختلال لشرفنا . ثم انتظر بأي أمر يرجع المرسلون منه ، حتى أعمل على حسب ذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } [ 36 - 40 ] .
{ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ } أي : المرسلون منها : { قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ } أي : من الملك والحكمة والنبوة : { خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ } أي : فلا أبالي بجميع ما عندكم فضلاً عن الهدية : { بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } أي : إذا أهدي إليكم مثلها ، أو أهديتم مثلها ، تفرحون استكثاراً أو افتخاراً : { ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ } أي : مهانون : { قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } أي : ليختبرني أأشكر بالطاعة والعمل بالشريعة ، أم أكفر بالمعصية والمخالفة . وقوله تعالى : { وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } كقوله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا } [ فصلت : 46 ] و [ الجاثية : 15 ] ، وكقوله : { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } [ الروم : 44 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } [ 41 - 42 ] .
{ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا } أي : اجعلوه [ في المطبوع : اجعلوا ] متنكراً متغيراً عن هيئته وشكله كما يتنكر الرجل للناس : { نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ } أي : لمعرفته : { فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ } قال المهايميّ : لم تقل : هو هو خوفاً من التكذيب ، مع نوع من التغيير . ولا لا خوفاً من التجهيل .
وقال الزمخشري : لم تقل : هو هو ولا ليس به وذلك من رجاحة عقلها حيث لم تقطع في المحتم . أي : فَأتت بكأن الدالة على غلبة الظن .
قال الشهاب : وهذا إشارة إلى أن كأن ليس المراد بها هنا التشبيه بل الشك وهو مشهور فيها .
وقد أبدى صاحب " الانتصاف " فرقاً بين كأن وهكذا في التشبيه . وعبارته : وفي قولها : كأنه هو وعدولها عن مطابقة الجواب للسؤال بأن تقول : هكذا هو نكتة حسنة . ولعل قائلاً يقول : كلتا العبارتين تشبيه . إذ كان التشبيه فيهما جميعاً ، وإن كانت في إحداهما داخلة على اسم الإشارة ، وفي الأخرى داخلة على المضمر ، وكلاهما أعني : اسم الإشارة والمضمر واقع على الذات المشبهة . وحينئذ تستوي العبارتان في المعنى . ويفضل قولها : هكذا هو بمطابقته للسؤال . فلا بد في اختيار : { كَأَنَّهُ هُوَ } من حكمة . فنقول : حكمته ، والله أعلم ، أن : { كَأَنَّهُ هُوَ } عبارة من قرب عنده الشبه حتى شكك نفسه في التغاير بين الأمرين . فكاد يقول : هو هو وتلك حال بلقيس . وأما هكذا هو فعبارة جازم بتغاير الأمرين ، حاكم بوقوع الشبه بينهما لا غير . فلهذا عدلت إلى العبارة المذكورة في التلاوة ، لمطابقتها لحالها ، والله أعلم . انتهى .
وقوله تعالى : { وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } هذا من تمام كلام سليمان عليه السلام ، شكراً لله على فضلهم عليها ، وسبقهم إلى العلم بالله وبالإسلام . أي : وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته ، وبصحة ما جاء من عنده ، قبل علمها الذي أومأ إليه قولها : { كأنه هو } والجملة عطف على مقدر اقتضاه المقام المقتضى ، للإفاضة في وصفها برجاحة الرأي في الهداية للإسلام . والتقدير : أصابت في جوابها وقد رزقت الإسلام ، وعلمت قدرة الله . وأوتينا العلم الخ . وقيل إنه من كلام بلقيس ، موصولاً بقولها : { كأنه هو } ، لا من كلام سليمان ، كأنها ظنت أنه أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار معجزة لها ، فقالت : أوتينا العلم الخ . أي : لا حاجة إلى الاختبار لأني آمنت قبل . وهذا يدل على كمال عقلها .
أو المعنى : علمنا إتيانك بالعرش قبل الرؤية ، أو هذه الحالة بالقرائن أو الأخبار .
قال ابن كثير : ويؤيد الأول ، أي : أنه من كلام سليمان ، أنها إنما أظهرت الإسلام بعد دخولها إلى الصرح ، كما سيأتي ، والله أعلم . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 43 - 44 ] .
{ وَصَدَّهَا } أي : وكان صدها عن الهداية : { مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ } أي : القصر ، أو صحن الدار وكان سليمان عليه السلام اتخذ قصراً بديعاً من زجاج ، فأراد أن يريها منه عظمة ملكه وسلطانه ، ومقدار ما آثره الله به : { فَلَمَّا رَأَتْهُ } أي : صحنه : { حَسِبَتْهُ لُجَّةً } أي : ماء عظيماً : { وَكَشَفَتْ } أي : للخوض فيه : { عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ } أي : مملّس : { مِنْ قَوَارِيرَ } أي : من الزجاج : { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } أي : بكفرها السالف وعبادتها وقومها الشمس : { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : متابعة له في دينه وعبادته لله وحده لا شريك له .
تنبيهات :
الأول : روى كثير من المفسرين ههنا أقاصيص لم تصحّ سنداً ولا مخبراً . وما هذا سبيله ، فلا يسوغ نقله وروايته .
قال الحافظ ابن كثير ، بعد أن ساق ما رواه ابن أبي شيبة عن عطاء مستحسناً له ، ما مثاله : قلت : بل هو منكر غريب جداً . ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس ، والله أعلم .
ثم قال : والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب ، مما وجد في صحفهم . كروايات كعب ووهب ، سامحهما الله تعالى ، فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل ، من الأوابد والغرائب والعجائب . مما كان ومما لم يكن . ومما حرف وبدل ونسخ . وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ ، ولله الحمد والمنة .
الثاني : أشير في " التوراة " في الفصل الرابع من سفر الملوك الثالث إلى تفصيل نبأ سليمان عليه السلام وعظمة ملكه وسلطانه . ومما جاء فيه أن سليمان كان متسلطاً على جميع الممالك من نهر الفرات إلى أرض فلسطين وإلى تخم مصر . وإن ملوك الأطراف كانوا يحملون له الهدايا خاضعين له كل أيام حياته أي : أنها تؤدّي له الجزية ، وإن كان محصوراً في فلسطين . وأن الله تعالى آتاه حكمة وفهماً ذكياً جداً ، وسعة صدر . ففاقت حكمته حكمة جميع أهل المشرق وأهل مصر . وقال ثلاثة آلاف مثل . وتكلم . في الشجر ، من الأرز الذي على لبنان إلى الزوفى التي تخرج في الحائط . وتكلم في البهائم والطير والزحافات والسمك . وأما صرحه وبيته عليه السلام ، فقد جاء وصفه في الفصل الخامس من السفر المتقدم . وأنه أكمل بناءه في ثلاث عشرة سنة . وأنه بنى جازَرَ وبيت حورون السفلى وبعلت وتدمر في أرض البرية . وجاء في الفصل العاشر من هذا السفر أيضاً قصة ملكة سبأ ومقدمها من اليمن على سليمان لتخبر حكمته وعظمة ملكه ، ودهشتها مما رأته وتحققته ، وإيمانها بربه تعالى . ثم إعطاؤه إياها بغيتها . ثم انصرافها إلى أرضها .
وقد ذكرنا غير مرة أن القرآن الكريم لا يسوق أنباء ما تقدم سوق مؤرخ ، بل يقصها موجزة ليتحقق أنه مصداق ما بين يديه ، ومهيمن عليه ، ولينبه على أن القصد منها موضع العبرة والحكمة . ومثار التبصر والفطنة .
الثالث : مما استنبط من آيات هذه القصة الجليلة ، أن في قوله تعالى : { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا } أنه لا بأس بالتبسم والضحك عن التعجب وغيره . وفي قوله تعالى : { وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ } استحباب تفقد الملك أحوال رعيته . وأخذ منه بعضهم تفقد الإخوان ، فأنشد :
~تفقد الإخوان مُسْتَحْسَنُ فمَن بَدَاهُ نِعْمَ مَا قَدْ بَدَا
~سَنَّ سليمانُ لنا سُنَّةً وكَانَ فِيما سنّه مُقْتَدَى
~تفقَّدَ الطير على مُلْكِهِ فقال : مَالِي لاَ أَرَ الْهُدْهُدَا
وأن في قوله تعالى : { لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً } الآية ، دليلاً على أن العذاب على قدر الذنب ، لا على قدر الجسد . وعلى جواز تأديب الحيوانات والبهائم بالضرب عند تقصيرها في المشي وإسراعها ونحو ذلك . وأن في قوله تعالى : { قَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } أن الصغير يقول للكبير والتابع للمتبوع : عندي من العلم ما ليس عندك ، إذا تحقق ذلك . وأن في قوله تعالى : { قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } قبول الوالي عذر رعيته ، ودرءه العقوبة عنهم ، وامتحان صدقهم فيما اعتذروا به . وأن في قوله تعالى : { اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ } إرسال الطير بالكتب . وأن في قوله تعالى : { كِتَابٌ كَرِيمٌ } استحباب ختم الكتب ، لقول السّدّي : كريم بمعنى مختوم . وأن في قوله تعالى : { قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي } المشاورة والاستعانة بالآراء في الأمور المهمة . وأن في قوله تعالى : { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ } الآية ، استحباب رد هدايا المشركين . كذا في " الإكليل " بزيادة .
ثم أخبر تعالى عن ثمود وما كان من أمرها مع نبيّها صالح عليه السلام ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } [ 45 - 47 ] .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ } أي : فريق مؤمن وفريق كافر . يختصمون خصومة لا يرجع فيها المبطل إلى الحق بعد ما تبين له . كقوله تعالى : { قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [ الأعراف : 75 - 76 ] ، { قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ } أي : بالعقوبة السيئة قبل التوبة الحسنة . أي : لم تدعون بحضور العقوبة ولا تطلبون من الله رحمته بالإيمان : { لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُوا اطَّيَّرْنَا } أي : تطيرنا أي : تشاءمنا : { بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ } أي : من المؤمنين . وقد كانوا ، لشقائهم ، إذا أصيبوا بسوء قالوا : هذا من قبل صالح وصحبه : { قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ } أي : سبيلكم الذي يجيء منه خيركم وشركم عن الله . وهو قدره وقسمته ، إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم . قاله الزمخشريّ .
قال الشهاب : لما كان المسافر من العرب إذا خرج مرّ به طائر سانحاً ، وهو ما وليه بميسرته ، أو بارحاً وهو ما وليه بميمنته - تيمنوا بالأول وتشاءموا بالثاني . ونسبوا الخير والشر إلى الطائر . ثم استعير لما كان سببهما من قدر الله وقسمته . أو من عمل العبد الذي هو سبب الرحمة والنقمة . ومنه طائر الله ، لا طائرك : { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } أي : مفتونون بضلالكم وكفركم . لا ترون حسناً إلا ما يوافق هواكم ، ولا شؤماً إلا يخالفه . ثم أخبر تعالى عن طغاة ثمود ورؤسائهم الذين كانوا دعاة قومهم إلى الضلال والكفر ، وتكذيب صالح عليه السلام ، وما آل بهم الأمر ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ 48 - 52 ] .
{ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ } أي : شأنهم وعادتهم الإفساد ، كما يفيده المضارع وتأكيده بقوله : { فِي الْأَرْضِ } الدال على عموم فسادهم . وهو صفة رهط أو تسعة : { قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ } أي : ليحلف كل واحد منكم على موافقة الآخرين ، بالله الذي هو أعظم المعبودين : { لَنُبَيِّتَنَّهُ } أي : لنقتلنّه ليلاً . قرئ بالتاء على خطاب بعضهم لبعض : { وَأَهْلَهُ } أي : من آمن معه { ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ } أي : الطالب ثأره علينا : { مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ } أي : ما حضرنا مكان هلاك الأهل ، مع تفرقهم في الأماكن الكثيرة ، فضلاً عن مكانه ، فضلاً عن مباشرته : { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } أي : ونحلف إنا لصادقون . أو : والحال إنا لصادقون فيما ذكرنا : { وَمَكَرُوا مَكْراً } أي : بهذه الحيلة : { وَمَكَرْنَا مَكْراً } أي : بأن جعلناهم سبباً لإهلاكهم : { وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } أي : خالية ساقطة . لم تعمر بعدهم لأنهم استؤصلوا : { بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : بأنهم ما أخذوا إلا لظلمهم . وإن عاقبة الظلم الدمار والبوار .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } [ 53 - 59 ] .
{ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا } يعني صالحاً عليه السلام ومن معه : { وَكَانُوا يَتَّقُونَ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ } أي : قبحها ومضادّتها لحكمه تعالى وحكمته : { أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ } أي : متجاوزين النساء اللاتي هن محالّ الشهوة : { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } أي : تفعلون فعل الجاهلين سفهاً وعمى عن العاقبة : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } أي : يتنزهون عن أفعالنا ويرونها رجساً . قالوه استهزاء : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ } أي : الباقين في العذاب : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً } أي : هائلاً غير معهود : { فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } قال الزمخشريّ : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته وقدرته على كل شيء وحكمته . وأن يستفتح بتحميده ، والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده . وفيه تعليم حسن ، وتوقيف على أدب جميل ، وبعث على التيمن بالذكرين ، والتبرك بهما ، والاستظهار بمكانهما ، على قبول ما يلقى إلى السامعين ، وإصغائهم إليه وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المُسْمِع . ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابراً عن كابر هذا الأدب . فحمدوا الله عزّ وجلّ ، وصلّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمام كل علم مفاد ، وقبل كل عظة وتذكرة ، وفي مفتتح كل خطبة . وتبعهم المترسلون . فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن . وقيل : هو متصل بما قبله ، وأمر بالتحميد على الهالكين من كفار الأمم . والصلاة على الأنبياء عليهم السلام وأشياعهم الناجين .
ثم قال : معلوم أن لا خير فيما أشركوه أصلاً حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه . وإنما هو إلزام لهم وتبكيت وتهكم بحالهم . وذلك أنه آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله . ولا يؤثر عاقل شيئاً على شيء ، إلا لداع يدعوه إلى إيثاره ، من زيادة خير ومنفعة . فقيل لهم ، مع العلم بأنه لا خير فيما آثروه ، وأنهم لم يؤثروه لزيادة الخير ، ولكن هوى وعبثاً ، لينّبهوا على الخطأ المفرط ، والجهل المورّط . وإضلالهم التمييز ونبذهم المعقول . وليعلموا أن الإيثار يجب أن يكون للخير الزائد . ونحوه ما حكاه عن فرعون : { أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ } [ الزخرف : 52 ] ، مع علمه أنه ليس لموسى مثل أنهاره التي كانت تجري تحته .
ثم عدّد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله ، كما عددها في موضع آخر . ثم قال : { هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ } .
لطيفة :
قال ابن القيم في " طريق الهجرتين " في هذه الآية : كلمة السلام هنا تحتمل أن تكون داخلة في حيز القول فتكون معطوفة على الجملة الخبرية ، وهي : الحمد لله , ويكون الأمر بالقول متناولاً للجملتين معاً . وعلى هذا ، فيكون الوقف على الجملة الأخيرة ، ويكون محلها النصب محكيّة بالقول .
ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة مستقلة معطوفة على جملة الطلب . وعلى هذا فلا محل لها من الإعراب .
وهذا التقدير أرجح ، وعليه يكون السلام من الله عليهم . وهو المطابق لما تقدم من سلامه سبحانه على رسله صلّى الله عليهم وسلم .
وعلى التقدير الأول يكون أمر بالسلام عليهم .
ولكن يقال على هذا : كيف يعطف الخبر على الطلب مع تنافر ما بينهما . فلا يحسن أن يقول : قم وذهب زيد ، ولا اخرجْ وقعد عَمْرو .
ويجاب على هذا بأن جملة الطلب ، قد حكيت بجملة خبرية ، ومع هذا لا يمتنع العطف فيه بالخبر على الجملة الطلبية لعدم تنافر الكلام فيه وتباينه . وهذا نظير قوله تعالى : { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 101 ] .
فقوله : { وَمَا تُغْنِي الْآياتُ } ليس معطوفاً بالقول وهو انظروا بل معطوف على الجملة الكبرى .
على أن عطف الخبر على الطلب كثير كقوله تعالى : { قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [ 112 ] ، وقوله : { وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } [ 118 ] .
والمقصود أنه على هذا القول ، يكون الله سبحانه قد سلّم على المصطفين من عباده ، والرسلُ أفضلهم . انتهى . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ 60 - 63 ] .
{ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } إضراب وانتقال ، من التبكيت تعريضاً ، إلى التصريح به خطاباً على وجه أظهر منه لمزيد التأكيد . أي : بل من خلق السماوات والأرض ، وأودع فيهما من المنافع ما لا يحصى : { وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ } أي : بساتين ذات حسن ورونق يبهج النظار : { مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } أي : أَإِله آخر كائن مع الله ، الذي ذكر بعض أفعاله ، التي لا يكاد يقدر عليها غيره ، حتى يتوهم جعله شريكاً له تعالى في العبادة ؟ وهذا تبكيت لهم بنفي الألوهية عما يشركون به تعالى ، في ضمن النفي الكليّ على الطريقة البرهانية ، بعد تبكيتهم بنفي الخيرية عنه بما ذكر من الترديد . قال أبو السعود : { بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } أي : عن طريق الحق . أو به تعالى غيره { أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً } أي : قارة لا تنكفئ بمن عليها . أو مستقراً لمن عليها ، يتمتعون بمنافعها : { وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً } أي : برزخاً مانعاً من الممازجة : { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } أي : في الوجود ، أو في إبداع هذه البدائع : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } أي : شيئاً من الأشياء . ولذلك لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشرك ، مع كمال ظهوره : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر ، إلى اللجأ والتضرع إلى الله تعالى ، اسم مفعول من الاضطرار الذي هو افتعال من الضرورة وهي الحالة المحوجة إلى اللجأ أي : الالتجاء والاستناد .
قال ابن كثير : ينبّه تعالى أنه المدعوّ عند الشدائد ، الموجود عن النوازل ، كما قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ } [ الإسراء : 67 ] ،
وقال تعالى : { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [ النحل : 53 ] ، وهكذا قال هاهنا : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } ، أي : من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه ، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه ؟ .
وقال ابن القيم في " الجواب الكافي " : إذا اجتمع مع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب ، وصادف انكساراً بين يدي الرب وذلاًّ له وتضرعاً ورقة ، ثم توسل إليه تعالى بأسمائه وصفاته وتوحيده ، فإن هذا الدعاء لا يكاد يردّ أبداً . ولا سيما إن صادف الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظنة الإجابة ، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم . ثم ساقها ابن القيم مسندة .
ثم قال : وكثيراً ما نجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم ، فيكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله . أو حسنة تقدمت منه ، جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكراً لحسنته . أو صادف الدعاء وقت إجابة ، ونحو ذلك ، فأجيبت دعوته . فيظن الظانّ أن السر في لفظ ذلك الدعاء ، فيأخذه مجرداً عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي . وهذا كما إذا استعمل رجل دواء نافعاً ، في الوقت الذي ينبغي ، على الوجه الذي ينبغي . فانتفع به . فظن غيره أن استعمال هذا الدواء بمجرده ، كاف في حصول المطلوب ، كان غالطاً . وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس . ومن هذا قد يتفق دعاؤه باضطرار عند قبر فيجاب . فيظن الجاهل أن السر للقبر ولم يعلم أن السر للاضطرار وصدق اللجأ إلى الله . فإذا حصل ذلك في بيت من بيوت الله ، كان أفضل وأحب إلى الله . انتهى .
وقوله تعالى : { وَيَكْشِفُ السُّوءَ } أي : كل ما هو يسوء مما يضطر فيه وغيره : { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ } أي : خلفاء فيها . وذلك توارثهم سكانها ، والتصرف فيها قرناً بعد قرن أو أراد بالخلافة الملك والتسلط . قاله الزمخشري { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } أي : بالنجوم في السماء ، والعلامات في الأرض ، إذا جن الليل عليكم مسافرين في البر والبحر : { وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } وهي المطر : { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } [ 64 - 65 ] .
{ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } أي : بعد الموت بالبعث . فإن قيل : هم منكرون للإعادة ، فكيف خوطبوا بها خطاب المعترف ؟ أجيب بأنها لظهورها ووضوح براهينها ، جعلوا كأنهم معترفون بها ، لتمكنهم من معرفتها - فلم يبق لهم عذر في الإنكار . فلا حاجة إلى القول بأن منهم من اعترف بها ، فالكلام بالنسبة إليه : { وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } أي : مما ينزله من مائها وما يخرجه من نباتها : { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أمرٌ له عليه الصلاة والسلام بتبكيتهم إثر تبكيت . أي : هاتوا برهاناً عقلياً أو نقلياً ، يدل على أن معه تعالى إَلَهَاً . لا على أن غيره تعالى يقدر على شيء مما ذكر من أفعاله تعالى ، فإنهم لا يدعونه صريحاً . وفي إضافة البرهان إلى ضميرهم ، تهكم بهم . لما فيها من إيهام أن لهم برهاناً . وأَنَّى لهم ذلك ؟ قاله أبو السعود : { قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } أي : فإنه المتفرد بذلك وحده ، كما قال : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ } [ الأنعام : 59 ] ، في آيات لا تحصى . والاستثناء منقطع ، لاستحالة أن يكون تعالى ممن في السماء والأرض ، أو متصل ، على أن المراد ممن في السماوات والأرض ، من تعلق علمه بها واطلع عليها اطلاع الحاضر فيها مجازاً مرسلاً أو استعارة . فإنه يعمّ الله تعالى وأولي العلم من خلقه : { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } أي : متى ينشرون .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ } [ 66 ] .
{ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ } قال السمين : فيه وجهان : أحدهما : أن في على بابها ، وادّارك وإن كان ماضياً لفظاً ، فهو مستقبل معنى ، لأنه كائن قطعاً . كقوله : { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ } [ النحل : 1 ] .
وعلى هذا ففي متعلق بادّارك .
والثاني : أن في بمعنى الباء . أي : بالآخرة .
وعلى هذا فيتعلق بنفس علمهم . كقولك : علمي بزيد كذا , انتهى .
والوجه الثاني على الاستفهام . أي : بل هل ادّارك علمهم فيها ، أي : بلغ وانتهى ؟ كلا . وقد قرئ : بل أءدرك بهمزتين ، بل آءدرك بألف بينهما ، أم أدرك وأم تدارك .
قال الرازيّ : وهي أم التي بمعنى بل والهمزة . فالمعنى على الاستفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم بها ، وأنهم لم يبرحوا في حضيض الجهالة بحقيتها ، مع ما يتلى عليهم من أدلة ثبوتها .
وقد جنح إلى الكلام على تقدير الاستفهام ، السيوطيّ والمهايميّ . وذهب غيرهما إلى إبقاء بل على أصلها من الإضراب الانتقاليّ . وقرروه بما فيه خفاء ودقة ويبعده ما ذكرنا من القراءات الصريحة في الاستفهام . وهي مما يرجع إليها إذا اشتبه المقام . كما تقرر في قواعد التفسير : { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا } أي : مرية ، مع تقرير ما يزيله ويكشف غشاوته : { بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ } أي : في عماية وجهل كبير .
قال الزمخشريّ : فإن قلت : هذه الاضطرابات الثلاثة ما معناها ؟ قلت : ما هي إلا تنزيل لأحوالهم : وَصَفَهُمْ أَولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث . ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة . ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية ، فلا يزيلونه . والإزالة مستطاعة . ألا ترى أن من لم يسمع اختلاف المذاهب وتضليل أربابها بعضهم لبعض ، كان أمره أهون ممن سمع بها وهو جاثم ، لا يشخص به طلب التمييز بين الحق والباطل ؟ ثم بما هو أسوأ حالاً ، وهو العمى وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه ، وفرجه ، لا يُخْطِر بباله حقاً ولا باطلاً ولا يفكر في عاقبة . وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه . فلذلك عداه بمن دون عن لأن الكفر بالعاقبة والجزاء ، هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يتبصرون . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } [ 67 - 70 ] .
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : بوعد الله وآياته وعلمه وقدرته وحكمته : { أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ } أي : من القبور : { لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } أي : أحاديثهم وأكاذيبهم التي سطروها بعبارة مموّهة : { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ } أي : لتبصروا آثار القائلين هذا القول قبلكم : { فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } بإنكاره . وهي دمارهم وهلاكهم بالاستئصال : { وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي : على قولهم وتكذيبهم . فإنه سيكون لك من المصدقين من لا يبالي معهم بهؤلاء كقوله تعالى : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً } [ الكهف : 6 ] ، { وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } أي : في حرج من مكرهم وكيدهم لك . ولا تبال بذلك ، فإن الله يعصمك من الناس .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ 71 - 76 ] .
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ } أي : بالعذاب : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ } أي : لحقكم أو دنا لكم : { بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ } أي : من العذاب ، فحصل لهم القتل ببدر . ولعاب الآخرة أمرّ . قال الزمخشريّ : وعسى ولعلّ وسوف في وعد الملوك ووعيدهم ، يدل على صدق الأمر وجدّه ، وما لا مجال للشك بعده . وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم ، وأنهم لا يعجلون بالانتقام ، لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم ، ووثوقهم أن عدوّهم لا يفوتهم ، وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم . فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده . انتهى . أي : لأن حقيقة الترجّي محال في حقه تعالى . فهو على هذا استعارة تمثيلية . قاله الشهاب : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ } أي : لذو إفضال وإنعام عليهم ، بتأخير العقوبة وعدم معاجلتهم بها . ولكن أكثرهم لا يعرفون حق النعمة فيه فلا يشكرونه ، بل بجهلهم يستعجلونها : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } أي : من عداوة رسوله ونصب المكايد له . وهو معاقبهم على ذلك : { وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } أي : وما من خافية فيهما ، إلا وقد علمها الله وأحاط بها وأثبتها في اللوح البيّن ، المثبت فيه مقدوراته تعالى . أو المراد بالكتاب القضاء العدل ، على طريق الاستعارة ، بتشبيهه بالكتاب الجامع للوقائع ، كالسجل : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : فهو مصدق لما بين يديه ، ومهيمن عليه . يقص القصص الحق ، ويفصل بين ما اختلفوا فيه بالصدق . فالمعوّل من أنبائهم عليه ، ومردّ ما اختلفوا فيه إليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ } [ 77 - 81 ] .
{ وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } أي : بما فيه من إقامة الدلائل ورفع الشبه التي يعقلها المؤمنون المنصفون المصدقون بالحق ، المذعنون له : { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ } أي : بين مَنْ آمن بالقرآن ومن كفر به ، بعدله وحكمته : { وَهُوَ الْعَزِيزُ } أي : فلا يردّ قضاؤه الغالب في انتقامه من المبطلين : { الْعَلِيمُ } أي : بالفصل بينهم وبين المحقّين . ثم أمره تعالى بقلة المبالاة بأعدائه ، وبالمضيّ في دعوته وانتظار الوعد الحق ، بقوله : { فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ } أي : الأبلج الذي لا ريب فيه .
قال الزمخشريّ : وفيه بيان أن صاحب الحق حقيق بالوثوق بصنع الله وبنصرته ، وأن مثله لا يخذل . ثم أشار تعالى إلى كفاية نفع دعوته للمؤمنين ، الذين هم أولياؤه وحزبه ، وإلى أن الكل لا يرجى منهم الهداية ، كآية : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] ، تسلية عما كان يهمه من إيمانهم ، بقوله سبحانه : { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ } قال الزمخشريّ : شبِّهوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس ، لأنهم إذا سمعوا ما يتلى عليهم من آيات الله فكانوا أقماع القول ، لا تعيه آذانهم . وكان سماعهم كلا سماع . كانت حالهم ، لانتفاء جدوى السماع ، كحال الموتى الذين فقدوا مصحح السماع ، وكذلك تشبيههم بالصم الذين ينعق بهم فلا يسمعون . وشبهوا بالعمي حيث يضلون الطريق ولا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم , وأن يجعلهم هداة بصراء ، إلا الله عزّ وجلّ . فإن قلت : ما معنى قوله : { إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ } ؟ قلت : هو تأكيد لحال الأصمّ . لأنه إذا تباعد عن الداعي ، بأن يولّي عنه مدبراً ، كان أبعد عن إدراك صوته . انتهى .
وإيراد قوله : { وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ } إثر ما تقدم ، للمبالغة في نفي الهداية . وقوله تعالى : { إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا } أي : ما تسمع سماعاً يجدي السامع نفعاً ، إلّا من شأنه الإيمان بها { فَهُمْ مُسْلِمُونَ } تعليل لإيمانهم بها . كأنه قيل : فإنهم منقادون للحق . وقيل : معناه مخلصون ، من قوله : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } [ البقرة : 112 ] ، يعني جعله سالماً لله خالصاً له .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ } [ 82 ] .
{ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ } اعلم أن في هذا الوعيد وجوهاً من التأويل :
الأول : أنه دنيويّ ، عنى به نصر الرسول صلوات الله عليه ، عليهم . والمعنى أنّ أولئك الصم عن سماع الآيات ، المعمي عن النظر فيها ، الجاحدين لها ، سيأتيهم أنباء حقيقة ما كانوا يدعون إليه من نصر الداعي وهو الرسول وأتباعه ، وتكثير سوادهم حتى يظفروا بمناوئيهم . ويظهروا على عدوّهم . وذلك بأن تدبّ إليهم من المؤمنين دابة عظمى تملأ السهل والربا , تزلزل أركانهم وتهدم بنيانهم وتقوض خيامهم وتدكّ أعلامهم . فتكلمهم حينئذ بلسان الحال أو المقال ، بأنهم إنما أخذوا بالعقاب ، وحل بهم شديد العذاب لضلالهم وإضلالهم العباد . وسعيهم في الأرض الفساد . فإن الإيمان دعامة الصلاح والإصلاح . وقائد الفلاح والنجاح ، وقد سبقت كلمته لعباده المرسلين إنهم لهم المنصورون ، وإن جنده لهم الغالبون . وقد صدق الله وعده . وأعز جنده .
والوجه الثاني : أن الدابة حيوان بخلاف ما نعرفه . يختص خروجها بحين القيامة ، قال بعضهم : والمعنى إذا قامت القيامة بعث الله نوعاً مخصوصاً من دواب هذه الأرض ، كما يبعث غيره من أنواع الدواب الأخرى . وينطقه فيوبخ الإنسان على كفره ، كما ينطق أعضاءه في ذلك اليوم أيضاً . قال : فليس المراد من قوله : { دَابَّةً } الفرد ، بل النوع . كما في قولك : أرسل الله عليهم دودة أتلفت زرعهم , أي : ديدناً كثيرة ، من نوع واحد مخصوص .
وقد روي فيها أحاديث وأثار كثيرة ، لم يصحح البخاريّ منها شيئاً ، لاضطراب متونها وضعف رجالها . وأمثل مأثورها ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن عَمْرو مرفوعاً : < إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة على الناس ضحى . وأيهما ما كانت قبل صاحبتها ، فالأخرى على إثرها قريباً > .
ومعلوم أن أمور الآخرة من عالم الغيب . ولا يؤخذ فيها إلا بما كان قطعيّ الثبوت .
الوجه الثالث : نقله الراغب في مفرداته قال : وقيل عنى بالدابة الأشرار الذين هم في الجهل بمنزلة الدواب . فتكون الدابة جمعاً ، اسماً لكلّ ما يدبّ . نحو : خائنة جمع خائن . انتهى .
ولعل الآية كقوله تعالى : { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ } [ 96 - 97 ] ، فإن يأجوج ومأجوج كالدابة ، لما يغطي بدبيبه وجه الأرض - فهو مثل في الكثرة . والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ 83 - 84 ] .
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي : يحبس أولهم على آخرهم ، حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار . وهذه عبارة عن كثرة العدد وتباعد أطرافه . كما وصفت جنود سليمان بذلك . وكذلك قوله : { فَوْجاً } ، فإن الفوج الجماعة الكثيرة . أفاده الزمخشري : { حَتَّى إِذَا جَاءُوا } أي : إلى المحشر : { قَالَ } أي : ليفضحهم في هذا اليوم المشهود : { أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي } أي : الناطقة بلقاء يومكم هذا وقوله : { وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً } جملة حالية مفيدة لزيادة شناعة التكذيب وغاية قبحه . ومؤكدة للإنكار والتوبيخ . أي : أكذبتم بها بادئ الرأي ، غير ناظرين فيها نظراً يؤدي إلى العلم بكنهها ، وأنها حقيقة بالتصديق حتماً ؟ وهذا نص في أن المراد بالآيات ، فيما سلف في الموضعين ، هي الآيات القرآنية ، لأنها هي المنطوية على دلائل الصحة ، وشواهد الصدق التي لم يحيطوا بها علماً ، مع وجوب أن يتأملوا ويتدبروا فيها . لا نفس الساعة وما فيها . أفاده أبو السعود : { أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : بها . أو ماذا كان عملكم ؟ هل هو إلا الفساد والإفساد ؟ وصد السبيل عن العباد ؟ ولذا حقت كلمة العذاب عليهم . كما قال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ } [ 85 - 89 ] .
{ وَوَقَعَ الْقَوْلُ } أي : مدلوله وهو العقاب الموعودون به : { عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً } أي : ليبصروا ، بما فيه من الإضاءة طرق التقلب في أمور المعاش : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ } أي : حضروا الموقف بين يديه : { دَاخِرِينَ } أي : صاغرين : { وَتَرَى الْجِبَالَ } عطف على ينفخ داخل في حكم التذكير : { تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } أي : ثابتة في أماكنها : { وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } أي : في تخلل أجزائها وانتفاشها . كما في قوله تعالى : { وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ } [ القارعة : 5 ] ، { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } أي : فيجازيهم عليه .
تنبيه :
ما ذكرناه في تفسير هذه الآية هو ما ذهب إليه كثير . قالوا : المراد بهذه الآية تسيير الجبال الذي يحصل يوم القيامة ، حينما يبيد الله تعالى العوالم ، كما قال : { وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً } [ النبأ : 20 ] ، وكما قال : { وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ } [ المرسلات : 10 ] ، وقال : { وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ } [ القارعة : 5 ] .
وقال بعض علماء الفلك : لا يمكن أن يكون المراد بهذه الآية ما قالوه ، لعدة وجوه :
الأول : أن قوله تعالى : { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } لا يناسب مقام التهويل والتخويف إذا أريد بها بما يحصل يوم القيامة . وكذلك قوله : { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } ، لا يناسب مقام الإهلاك والإبادة ، على أن محل هذه الآية على المستقبل ، مع أنها صريحة في إرادة الحال ، شيء لا موجب له . وهو خلاف الظاهر منها .
الثاني : أن سير الجبال للفناء يوم القيامة ، يحصل عند خراب العالم وإهلاك جميع الخلائق وهذا شيء لا يراه أحد من البشر كما قال : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } [ الزمر : 68 ] ، أي : من الملائكة . فما معنى قوله إذن : { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } ؟ .
الثالث : أن تسيير الجبال الذي يحصل يوم القامة ، إذا رآه أحد شعر به . لأنه ما دام وضعها يتغير بالنسبة للإنسان ، فيحسّ بحركتها . وهذا ينافي قوله تعالى : { تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } أي : ثابتة . أما في الدنيا فلا نشعر بحركتها ، لأننا نتحرك معها ولا يتغير وضعنا بالنسبة لها . وهذا بخلاف ما يحصل يوم القيامة . فإن الجبال تنفصل عن الأرض وتنسف نسفاً . وهذا شيء يراه كل واقف عندها .
الرابع : ورود هذه الآية في سياق الكلام على يوم القيامة ، لورود آية : { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً } المذكورة قبلها في نفس هذا السياق ، والمراد بهما ذكر شيء من دلائل قدرة الله تعالى ، المشاهدة آثارها في هذا العالم الآن من حركة الأرض وحدوث الليل والنهار ، ليكون ذلك دليلاً على قدرته على البعث والنشور يوم القيامة فإن القادر على ضبط حركات هذه الأجرام العظيمة ، لا يصعب عليه أن يعيد الإنسان ، وأن يضبط حركاته وأعماله ويحصيها عليه . ولذلك ختم هذه الآية بقوله : { إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } فذكر هذه الأشياء في هذا السياق ، هو كذكر الدليل مع المدلول ، أو الحجة مع الدعوى . وهي سنة القرآن الكريم . فإنك تجد الدلائل منبثة بين دعاويه دائماً ، حتى لا يحتاج الإنسان لدليل آخر خارج عنها . وذلك شيء مشاهد في القرآن من أوله إلى آخره . كلامه .
وقال العلامة المرجانيّ في مقدمة كتابه " وفيّة الأسلاف ، وتحيّة الأخلاف " في بحث علم الهيئة ، ما مثاله :
ويدل على حركة الأرض قوله تعالى : { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } الآية . فإنه خطاب لجناب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإيذان الأمر له بالأصالة مع اشتراك غيره في هذه الرؤية . وحسبان جمود الجبال وثباتها على مكانها ، مع كونها متحركة في الواقع بحركة الأرض ، ودوام مرورها مرّ السحاب في سرعة السير والحركة . قال : وقوله : { صُنْعَ اللَّهِ } من المصادر المؤكدة لنفسها . وهو مضمون الجملة السابقة . يعني أن هذا المرور هو صنع الله . كقوله تعالى : { وَعْدَ اللَّهِ } [ النساء : 122 ] ، { صِبْغَةَ اللَّهِ } [ البقرة : 138 ] ، ثم الصنع هو عمل الإنسان ، بعد تدرّب فيه وتروًّ وتحري إجادة . ولا يسمى كل عمل صناعة ، ولا كل عامل صانعاً حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه . وقوله : { الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } كالبرهان على إتقانه ، والدليل على إحكام خلقته ، وتسويته مروره على ما ينبغي . لأن إتقان كل شيء ، يتناول إتقانه . فهو تثنية للمراد وتكرير له ، كقوله تعالى : { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } [ آل عِمْرَان : 97 ] ، قال : وقد اشتملت هذه الآية على وجوه من التأكيد ، وأنحاء من المبالغة . فمن ذلك تعبيره بالصنع الذي هو الفعل الجميل المتقن المشتمل على الحكمة . وإضافته إليه تعالى تعظيماً له وتحقيقاً لإتقانه وحسن أعماله . ثم توصيفه سبحانه بإتقان كل شيء ، ومن جملته هذه المرور . ثم إيراده بالجملة الاسمية الدالة على دوام هذه الحالة واستمرارها مدى الدهور . ثم التقييد بالحال ، لتدل على أنها لا تنفك عنها دائماً . فإن قوله تعالى : { وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } حال من المفعول به ، وهو الجبال . ومعمول لفعله الذي هو رؤيتها على تلك الحال .
فهذه الآية صريحة في دلالتها على حركة الأرض ومرور الجبال معها في هذه النشأة . وليس يمكن حملها على أن ذلك يقع في النشأة الآخرة ، أو عند قيام الساعة وفساد العالم وخروجه عن متعاهد النظام . وأن حسبانها جامدة لعدم تبين حركة كبار الأجرام [ في المطبوع : الإجرام ] إذا كانت في سمت واحد . فإن ذلك لا يلائم المقصود من التهويل على ذلك التقدير . على أن ذلك نقض وإهدام ، وليس من صنع وإحكام . قال : والعجب من حذاق العلماء المفسرين ، عدم تعرضهم لهذا المعنى ، مع ظهوره واشتمال الكتب الحكمية على قول بعض القدماء . مع أنه أولى وأحق من تنزيل محتملات كتاب الله على القصص الواهية الإسرائيلية ، على ما شحنوا بها كتبهم . وليس هذا بخارج عن قدرة الله تعالى ، ولا بعيد عن حكمته ، ولا القول به بمصادم للشريعة والعقيدة الحقة ، بعد أن تعتقد أن كل شيء حادث بقدرة الله تعالى وإرادته وخلقه بالاختيار ، كائناً ما كان ، وهو العليّ الكبير ، وعلى ما يشاء قدير .
واعلم أن هذه الآية وما قبلها من قوله تعالى : { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ } الآية . اعتراض في تضاعيف ما ساقه من الآيات الدالة على أحوال الحشر وأهوال القيامة ، كاعتراض توصية الإنسان بوالديه في تضاعيف قصة لقمان . ومثل ذلك ليس بعزيز في القرآن .
وفائدته هنا ، التنبيه على سرعة تقضّي الآجال ومضيّ الآماد . والتهويل من هجوم ساعة الموت وقرب ورود وقت المعاد . فإن انقضاء الأزمان ، وتقضي الأوان ، إنما هو بالحركة اليومية المارّة على هذه السرعة المنطبقة على أحوال الإنسان . وهذا المرور . وإن لم يكن مبصراً محسوساً ، لكن ما ينبعث منه تبدل الأحوال ، بما يطرأ من تعاقب الليل والنهار وغيره ، بمنزلة المحسوس المبصَر : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } [ الحشر : 2 ] ، فيكون هذا معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، مخصوصة به ، إذ لم يخبر به غيره من الأنبياء .
فليس بممكن حمل الآية على تسيير الجبال الواقع عند قيام الساعة ووفاء النشأة الآخرة . إذ ليس هو من الصنع في شيء . بل هو إفساد أحوال الكائنات ، وإخلال نظام العالم ، وإهلاك بني آدم . كلام المرجانيّ .
{ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ } أي : لا يعتريهم ذلك الفزع الهائل . وقرئ : { فَزَعِ يَوْمِئذٍ } بالإضافة وكسر الميم وفتحها . وفزع منوناً وفتح الميم ، على أنه ظرف لآمنون أو المحذوف هو صفة للفزع . والتنوين في يومئذ عوض عن جملة محذوفة ، أي : يوم إذا جاءوا بالحسنة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ 90 - 93 ] .
{ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : من الشرك والمعاصي : { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ } أي : مكة : { الَّذِي حَرَّمَهَا } أي : جعلها حرماً آمناً لا يسفك فيها دم ، ولا يظلم فيها أحد ولا يصاد صيدها ولا يختلى خلاها . وفيه تعريض بجحدهم نعمته تعالى في ذلك ، حيث آمنهم من خوف ، وأجلّهم في أَعْيَن القبائل ، ووقاهم من الفتن المنتشرة عند غيرهم ، إجلالاً لهذا البيت . وهم لم يرعوا هذه النعمة بالقيام بواجب شكرها ، من عبادته تعالى وحده ، وسعيهم بالإصلاح : { وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ } أي : خلقاً وملكاً . فهو خالق كل شيء ومليكه : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } أي : ممن أسلم وجهه لله ، لا لغيره .
{ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ } أي : عليكم ، تلاوة الدعوة إلى الإيمان به ، لما اشتمل عليه من سعادة الدارين : { فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ } أي : فمن اتبع ما فيه من توحيد الله ، ونفي الأنداد عنه ، والدخول في الملة الحنيفية ، واتباع ما أنزل عليّ من الوحي ، فمنفعة اهتدائه راجعة إليه ، لا إليّ : { وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ } أي : ومن ضل عن الإيمان وأخطأ بزَيْغِهِ طريق الهدى ، ولم يتبعني ، فَلَا عَلَيَّ . وما أنا إلا رسول منذر ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين : { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ } أي : على ما هدانا لهذا الدين ، ومنّ علينا بصراطه المستقيم : { سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا } كقوله تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } [ فصلت : 53 ] ، وقوله : { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ } [ صّ : 88 ] ، { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } أي : من الشرك والتكذيب ونصب المكايد . بل هو شهيد رقيب ، جل جلاله وعظم نواله ، ولا إله غيره .(/)
سورة القصص
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } [ 1 - 4 ] .
{ طسم } تقدم الكلام على هذه الحروف غير ما مرة : { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي : نقرأ عليك ، بواسطة الروح الأمين ، تلاوة ملتبسة بالحق . كما قال تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } [ يوسف : 3 ] ، ثم استأنف ما يجري مجرى التفسير للمجمل الموعود ، بقوله : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ } أي : تكبر وتجاوز الحد في الطغيان ، في أرض مصر : { وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً } أي : فرقاً وأصناماً في استخدامه وطاعته : { يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ } وهم بنو إسرائيل : { يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ } وذلك إماتة لرجالهم ، وتقليلاً لعددهم ، كيلا يكثروا فينازعوه الملك : { إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } أي : المتمكنين في الإفساد وقهر العباد .
ثم أشار تعالى إلى فرجه الذي جعله لتلك الطائفة ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ } [ 5 - 8 ] .
{ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ } أي : نتفضل : { عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً } أي : يقتدى بهم في الدين بعد أن كانوا أتباعاً مسخرين : { وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ } أي : لملك عدوّهم . كما قال تعالى : { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ } إلى قوله : { يَعْرِشُونَ } [ الأعراف : 137 ] ، { وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ } أي : بالتصرف فيها تصرف الملوك : { وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ } أي : من ألئك المستضعفين : { مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } أي : من هلاكهم وذهاب ملكهم ، جزاء إفسادهم وعدم إصلاحهم وطغيانهم : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى } أي : إثر ولادته في تلك الشدّة : { أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } أي : من أولئك الدباحين الذين بأيديهم الشفار المرهفة العاملة في تلك الأنفس الزكية : { فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ } أي : في البحر ، وهو النيل : { وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } أي : في هلاكهم على يديه .
قال أبو السعود : واللام لام العاقبة . أبرز مدخولها في معرض العلة ، لالتقاطهم . تشبيهاً له في الترتب عليه ، بالغرض الحامل عليه : { إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ } أي : مجرمين فعاقبهم الله بأن ربّى عدوّهم ، ومَنْ هو سبب هلاكهم ، على أيديهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [ 9 - 11 ] .
{ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ } أي : لفرعون ، حين أخرجته من التابوت : { قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } أي : بما سيكون : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً } أي : خالياً من العقل . لما دهمها من فرط الجزع ، وأطار عقلها من الدهش ، لما بلغها وقوعه في يد فرعون : { إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ } أي : بأمره وقصته ، وأنه ولدها : { لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : لولا أن ألهمناها الصبر . شبه بربط الشيء المنفلت ليقرّ ويطمئن . ومعنى : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : المصدقين بوعد الله . وهو قوله : { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ } [ 7 ] .
قال الزمخشري : ويجوز ، وأصبح فؤادها فارغاً من الهم ، حين سمعت أن فرعون عطف عليه وتبنّاه . إن كادت لتبدي بأنه ولدها ، لأنها لم تملك نفسها فرحاً وسروراً بما سمعت . لولا أنّا طامنا قلبها وسكنا قلقه الذي حدث به من شدة الفرح والابتهاج ، لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله ، لا بتبني فرعون وتعطفه : { وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ } أي : اتبعي أثره لتنالي خبره : { فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ } بضم النون وسكونها . أي : عن بعد : { وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } أي : أنها تتعرف حاله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ } [ 12 - 17 ] .
{ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ } أي : من قبل قصّها أثره . والمراضع جمع مرضع بضم الميم وكسر الضاد . وهي المرأة التي ترضع . وترك التاء لاختصاصه بالنساء . أو جمع مرضع بفتح الميم مصدر ميميّ ، جمع لتعدد موادّه . أو اسم موضع الرضاع ، وهو الثدي : { فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } أي : في رضاعه وتربيته : { فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا } أي : برؤيته : { وَلا تَحْزَنَ } أي : بفراقه : { وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } أي : كمال قوته { وَاسْتَوَى } أي : اعتدل مزاجه : { آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } أي : في أعمالهم . ثم بين تعالى من نبئه عليه السلام ، ما تدرج به إلى ما قدّر له من الرسالة ، بقوله سبحانه : { وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ } أي : مصر آتياً من قصر فرعون : { عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا } قيل وقت القيلولة . وقيل بين العشائين : { فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ } أي : يتنازعان : { هَذَا } أي : الواحد : { مِنْ شِيعَتِهِ } أي : ممن يشايعه على دينه وهم بنو إسرائيل : { وَهَذَا } أي : الآخر : { مِنْ عَدُوِّهِ } أي : من خالفه في دينه وهم القبط : { فَاسْتَغَاثَهُ } أي : سأله الإغاثة : { الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ } لكونه مظلوماً : { عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } لكونه ظالماً . وإغاثة المظلوم واجبة فوجبت إغاثته من جهتين : { فَوَكَزَهُ مُوسَى } أي : ضربه بجُمع كفَّه : { فَقَضَى عَلَيْهِ } أي : فقتله : { قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ } يشير إلى تأسفه على ما أفضى وكزه ، من قتله . وسماه ظلماً واستغفر منه بالنسبة إلى مقامه : { قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } أي : بقتله : { فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ } يجوز أن يكون قسماً جوابه محذوف . أي : أقسم بإنعامك عليّ بالمغفرة ، لأتوبنّ ولا أظاهر المجرمين . وأن يكن استعطافاً كأنه قال : رب ! اعصمني بحق ما أنعمت عليّ من المغفرة . فلن أكون ، إن عصمتني ، ظهيراً للمجرمين . وأراد بمظاهرتهم ، إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته وتكثير سواده ، وإما مظاهرة من أدت مظاهرته إلى الجرم والإثم ، كمظاهرة الإسرائيلي المؤدية إلى القتل الذي لم يحل له . قاله الزمخشريّ .
قال الناصر : لقد تبرأ عليه السلام من عظيم . لأن ظهير المجرمين شريكهم فيما هم بصدده . ويروى أنه ثقال يوم القيامة : أين الظلمة وأعوان الظلمة ؟ فيؤتى بهم حتى بمن لاق لهم ليقة ، أو برى لهم قلماً ، فيجعلون في تابوت من حديد ويلقى بهم في النار .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } [ 18 - 23 ] .
{ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّب ُ } أي : الاستقادة أو الأجناد : { فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ } أي استعانة فقتل من أجله منازعه القبطيّ : { يَسْتَصْرِخُهُ } أي : يستغيثه من قبطيّ آخر : { قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ } أي : بمخاصمتك الناس مع عجزك ، وجرّك إليهم ما لا تحمد عقباه : { فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا } أي : لموسى وللإسرائيليّ ، وهو القبطيّ : { قَالَ } أي : ذلك العدوّ وهو القبطيّ ، لا الإسرائيليّ كما وهم : { يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ } أي : بين الناس بالقول والفعل .
قال الزمخشري : الجبار الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم ، لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن { وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى } أي : يسرع لفرط حبه لموسى : { قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ } أي : يتشاورون بسببك : { لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ } أي : من حدّ مملكتهم : { إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ } أي : لحوق الطالبين : { قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ } أي : جعل وجهه : { تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ } أي : فلا يلحقني فيه الطالبون : { وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً } أي : جماعة كثيفة : { مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ } أي : مواشيهم : { وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ } أي : تمنعان مواشيهما عن الماء ، لوجود من هو أقوى منهما عنده ، فلا تتمكنان من السقي : { قَالَ مَا خَطْبُكُمَا } أي : ما شأنكما في الذود : { قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ } أي : عاداتنا أن لا نسقي حتى يصرف الرعاة مواشيهم عن الماء ، عجزاً عن مساجلتهم ، وحذراً من مخالطة الرجال : { وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } أي : فيعجز عن الخروج والسقي . أي : ما لنا رجل يقوم بذلك إلا هو ، وقد أضعفه الكبر ، فاضطرنا الحال إلى ما ترى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ 24 - 25 ] .
{ فَسَقَى لَهُمَا } أي : فسقى غنمهما ، لأجلهما من غير أجر : { ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ } أي : الذي كان هناك ، من شدة الحر : { فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } أي : محتاج . والخير أعم من المال أو القوة أو الطعام . وعلى الأخير حمله الأكثرون بمعونة المقام : { فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ } أي : أخبره بجميع ما جرى عليه إلى خروجه لما تآمروا بقتله : { قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي : بالخروج عند حدّ ولايتهم ، إذ لا سلطان لهم بأرضنا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [ 26 - 28 ] .
{ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ } أي : اجعله أجيرك ليرعى غنمك ، فإنه حقيق بذلك : { إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } أي : خير من أردت جعله أجيراً ، القويّ على العمل المؤتمن فيه .
قال الزمخشريّ : وقولها : { إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } كلام حكيم جامع لا يزاد عليه . لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان ، أعني الكفاية والأمانة في القائم بأمرك ، فقد فرغ بالك وتم مرادك . وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل والحكمة ، أن تقول : استأجره لقوَّته وأمانته . انتهى .
قال الناصر : وهو أيضاً أجمل في مدح النساء للرجال ، من المدح الخاص . وأبقى للحشمة . وخصوصاً إن كانت فهمت أن غرض أبيها عليه السلام أن يزوجها منه . وما أحسن ما أخذ الفاروق رضي الله عنه هذا المعنى فقال : أشكو إلى الله ضعف الأمين وخيانة القويّ . ففي مضمون الشكاية سؤال الله تعالى أن يتحفه بمن جمع الوصفين ، فكان قوياً وأميناً : يستعين به على ما كان بصدده رضي الله عنه . انتهى { قَالَ إِنِّي أُرِيدُ } أي : لقوتك وأمانتك ، ما يقوّي المودة ويجذب القلوب : { أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } أي : على أن تكون أجيري لرعي المواشي بأجرة على ابنتي ، هي مهرها عليك ، ثماني سنين : { فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ } أي : فهو من عندك بطريق التفضل : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ } أي : بإلزام أتم الأجلين وإيجابه : { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } أي : في حسن المعاملة ولين الجانب والوفاء بالعهد : { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ } أي : ذاك الذي عاهدتني عليه ، لا نخرج عنه جميعاً : { أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ } أي : أتممت : { فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ } أي : بطلب الزيادة على ثمان ، أو الخروج بالأهل قبل عشر : { وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } أي : شاهد وحفيظ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ } [ 29 - 31 ] .
{ فَلَمَّا قَضَى } أي : أتم : { مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ } أي : من الطريق ، من ضوئها ، أو ممن عندها : { أَوْ جَذْوَةٍ } مثلثة الجيم ، وقد قرئ بها كلها ، أي : عود فيه شيء : { مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } أي : تستدفئون : { فَلَمَّا أَتَاهَا } أي : قرب منها : { نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ } أي : جانب : { الْوَادِ الْأَيْمَنِ } أي : المبارك . يقال : يمن فهو ميمون وأيمن . وتفسيره بخلاف الأيسر بعيد ، لأن ألفاظ التنزيل وآية يفسر بعضها بعضاً . وقد جاء في غير آية توصيف الوادي بالمقدس ، وبقعته بالمباركة ، والمعنى واحد . وإن أدهش التفنن في التعبير عنه ببديع تلك المباني : { فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ } أي : التي بورك مكانها بالتجلي الإلهيّ : { مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ } أي : تتحرك : { كَأَنَّهَا جَانٌّ } أي : حية صغيرة ، في سرعة الحركة : { وَلَّى مُدْبِراً } أي : أعرض بوجهه عنها . جاعلاً ظهره إليها : { وَلَمْ يُعَقِّبْ } أي : لم يرجع : { يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ } أي : من المخاوف .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ } [ 32 - 35 ] .
{ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ } أي : ادخلها فيه : { تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } أي : عيب : { وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } أي : يدك : { مِنَ الرَّهْبِ } أي : الخوف . قرئ بفتحتين ، وضمتين ، وفتح وسكون ، وضم وسكون . قال ابن أسلم وابن جرير : مما حصل لك من خوفك من الحية قال ابن كثير : والظاهر أن المراد أعم من هذا . وهو أنه أمر عليه السلام ، إذا خاف من شيء ، أن يضم إليه يده ، فإذا فعل ذلك ذهب عنه ما يجده من الخوف . وربما استعمل أحد ذلك ، على سبيل الاقتداء ، فوضع يده على فؤاده ، فإنه يزول عنه ما يجد أو يخفّ إن شاء الله تعالى . وبه الثقة { فَذَانِكَ } إشارة إلى العصا واليد : { بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً } أي : فيكون أحسن بياناً . ولا يتحمل ذلك ما لم يكلف بمثل ما كلفت به : { فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً } أي : معيناً : { يُصَدِّقُنِي } أي : لنشاط قلبي : { إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ } أي : يتفقوا على تكذيبي المؤدي إلى أنواع الأذيات .
قال الزمخشري : فإن قلت : تصديق أخيه ، ما الفائدة فيه ؟ قلت : ليس الغرض بتصديقه أن يقول له : صدقت ، أو يقول للناس : صدق موسى ، وإنما هو أن يلخص بلسانه الحق ويبسط القول فيه ويجادل به الكفار ، كما يفعل الرجل المنطيق ذو العارضة . فذلك جار مجرى التصديق المفيد ، كما يصدق القول بالبرهان . ألا ترى إلى قوله : { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ } وفضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لذلك . لا لقوله صدقت . فإن سحبان وباقلاً يستويان فيه . أو يصل جناح كلامه بالبيان حتى يصدقه الذي يخاف تكذيبه . فأسند التصديق إلى هارون لأنه السبب فيه ، إسناداً مجازياً . انتهى { قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } أي : سنقويك به ونعينك .
قال الشهاب : والشد التقوية ، والعضد من اليد معروف . فهو إما كناية تلويحية عن تقويته ، لأن اليد تشد بشدة العضد ، والجملة تشتد بشدة اليد ، ولا مانع من الحقيقة كما توهم . أو استعارة تمثيلية . شبّه حال موسى في تقويته بأخيه عليهما السلام ، بحال اليد في تقويتها بيد شديدة { وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً } أي : غلبة ومهابة في قلوبهم أو حجة : { فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا } أي : بإيذاء ، فضلاً عن القتل : { بِآياتِنَا } متعلق بمحذوف أي : اذهبا بآياتنا . أو بنجعل أي : نسلطكما بها أو بمعنى : لا يصلون أي : تمتنعون منهم بها . أو قسم ، جوابه لا يصلون مقدر . أو صلة للغالبون في قوله : { أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ } وتقدمه ، إما للفاصلة أو للحصر . أي : الغالبون عليهم ، وإن غلبوكم وغلبوا العالمين قبلكم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ } [ 36 - 38 ] .
{ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً } أي : مبتدع لم يسبق له نظير . أو تفتريه على الله بنسبته له ، وأنت تعلمته من غيرك ، فالافتراء بمعنى الاختلاق أو الكذب : { وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا } أي : السحر أو ادعاء النبوة ، أو بأن للعالم إلهاً يرسل الرسل بالآيات : { فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ } أي : كائناً في أيامهم . قال الشهاب : وهذا إما تعمد للكذب وعناد بإنكار النبوات ، وإن كان عهد يوسف قريباً منهم . أو لأنهم لم يؤمنوا به أيضاً : { وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ } قال المهايميّ : معناه : كفى دليلاً على كونها آيات ، أنها خوارق ولم يسبق لها نظير . مع أن ما جئت به هدى . والساحر لا يدعو في العموم إلى هدى . فإن لم تعترفوا بكونه هدى ، فربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ، ويعلم ذلك بالعاقبة,
فإن الله يحسن عاقبة أهل الهدى لا محالة . لأنه يعلم من تكون له عاقبة الدار . وهي العاقبة المحمودة . والمراد بالدار : الدنيا . وعاقبتها وعقباها : أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان . وتلقي الملائكة بالبشرى عند الموت . وهذه لا تكون للساحر إذا ادعى النبوة ، لأنه ظالم ، فلا يفلح بالعاقبة الحميدة كما قال : { إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } أي : بالدار وإن وجدوا بعض مقاصدهم أولاً استدراجاً ، فلا يفوزون بالعقبى الحميدة . وإنما غاية أمرهم انقطاع أثرهم وسوء ذكرهم . وقد حقق الله هذا الوعد فجعل عاقبة قوم موسى رفيعة . ونهاية أعدائه وضيعة : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } هذا حكاية لتمرده وعتوّه وطغيانه في تفوهه بتلك العظيمة . كما واجه موسى عليه السلام بها في قوله : { قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } [ 29 ] ، وكما قال تعالى عنه : { فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى } [ النازعات : 23 - 26 ] ، يعني أنه جمع قومه ونادى فيهم معلناً بذلك . فانتقم منه بما جعله عبرة لمن اعتبر : { فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ } أي : ناراً ، فأتخذ منه آجرّاً .
قال الزمخشري : ولم يقل : اطبخ لي الآجرّ واتخذه , لأن هذه العبارة أحسن طباقاً لفصاحة القرآن وعلوّ طبقته ، وأشبه بكلام الجبابرة . وهامان وزيره ومدبّر رعيته : { فَاجْعَلْ لِي } أي : من الآجرّ : { صَرْحاً } أي : قصراً رفيعاً إلى السماء : { لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى } يعني العليّ الأعلى ، تبارك و تعالى : { وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ } أي : في دعواه الألوهية ، والعلوّ لباري الأرض والسموات .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [ 39 - 43 ] .
{ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ } أي : بدعوى الألوهية لنفسه ، ونفيها عن الله تعالى ، وقصد الاطلاع إلى الله سبحانه ، وادعاء العمل الكليّ لنفسه مع جهله بربه : { وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } أي : بل بالفساد وردّ الحق ، والصدّ عن سبيل الله : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ } بضم الياء وفتحها قراءتان : { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً } أي : يلعنهم كل مؤمن يسمعهم : { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ } أي : من المطرودين ، المبعدين : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ } أي : أنواراً للقلوب : { وَهُدىً } أي : إلى الاعتقادات الصحيحة ودلائلها : { وَرَحْمَةً } أي : بالإرشاد إلى العمل الصالح : { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي : فيتعظون به ويهتدون بسببه .
ثم أشار تعالى إلى كون التنزيل وحياً من علاّم الغيوب ، ببيان أنه ما فصّل من هذه الأنباء [ في المطبوع : الأنبياء ] لا يتسنى إلا بالمشاهدة أو التعلم ، وكلاهما معلوم الانتفاء ، فتحقق صدق الإيحاء . وذلك قوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [ 44 - 46 ] .
{ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ } أي : الوادي الغربي الذي كوشف فيه موسى عن المناجاة : { إِذْ قَضَيْنَا } أي : قدرنا وأنهينا : { إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ } أي : أمر الإرسال والإنباء : { وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً } أي : بين زمانك وزمان موسى : { فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ } أي : أمد انقطاع الوحي ، واندرست معالم الهدى ، وعم الضلال والبغي والردى ، فاقتضت رحمتنا إرسالك لنخرجهم من الظلمات إلى النور : { وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً } أي : مقيماً : { فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } أي : لك ، وموحين إليك تلك الآيات . أي : ما كان الإنباء بها إلا وحياً مصدره الرسالة : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا } أي : وقت ندائنا موسى : { وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } أي : ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بما ذكر وبغيره ، لرحمةٍ عظيمة كائنة منّا لك وللناس : { لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ } أي : من نذير في زمان الفترة بينك وبين عيسى : { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي : يتعظون بإنذارك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ } [ 47 - 48 ] .
{ وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ } أي : عقوبة : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي : من الكفر والفساد : { فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : بها . وجواب : { لَوْلاَ } الأولى محذوف ، ثقة بدلالة الحال عليه . أي : ما أرسلناك . لكن قولهم هذا عند عقوبتهم محقق . ولذا أرسلناك قطعاً لمعاذيرهم .
قال الزمخشري : ولما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدي ، جعل كل عمل معبراُ عنه باجتراح الأيدي ، وتقديم الأيدي ، وإن كان من أعمال القلوب . وهذا من الاتساع في الكلام ، وتصيير الأقل تابعاً للأكثر ، وتغليب الأكثر على الأقل : { فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى } أي : من قلب العصا حية ، وفلق البحر ، وغيرهما من الآيات . تعنتاً وعناداً ، كما قالوا : { لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ } [ هود : 12 ] ، وما أشبه ذلك . وقوله : { أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } رد عليهم ، وإظهار لكون ما قالوه تعنتاً محضاً ، لا طلباً لما يرشدهم إلى الحق . أي : أو لم يكفر أبناء جنسهم ، ومَنْ مذهبهم مذهبهم ، وعنادهم عنادهم وهم القبط ، بما أوتي موسى من الكتاب : { قَالُوا } أي : في موسى وهارون عليهما السلام ساحران : { تَظَاهَرَا } أي : تعاونا . وقرئ : { سِحْرَانِ } أي : ذوا سحرين ؛ أو جعلوهما سحرين مبالغة : { وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ } ثم أشار تعالى إلى أن الآية العظمى للنبيّ صلوات الله عليه ، هي الآيات النفسية العلمية ، لا الكونية الآفاقية التي كانت لغيره ، جرياً على سنة الارتقاء . فإن النوع الإنساني كان ، لما جاء الإسلام قد استعد إلى معرفة الحق من الباطل بالبرهان ، والتمييز بين الخير والشر بالدليل والحجة . وكان لا بد له في هذا الطور من معلّم ومرشد ، كما في الأطوار الأخرى ، أرسل الله إليه رسولاً يهديه إلى طرق النظر والاستدلال ، ويأمره بأن يرفض التقليد البحت والتسليم الأعمى . وأن لا يأخذ شيئاً إلا بدليل وبرهان ، يوصل إلى العلم . فكانت عمدته صلى الله عليه وسلم في الاستدلال على نبوّته ورسالته نفسه الكريمة ، ما جاء به من النور والهدى ، كالطبيب الذي يستدل على إتقانه صناعة الطب ، بما يبديه من العلم والعمل الناجح فيها . وقد بسط هذا في مواضعه . وهذا معنى قوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [ 49 - 55 ] .
{ قُلْ } أي : لهؤلاء الجاحدين : قد مضى دور الخوارق التي تقترحونها ، ونسخ تعالى من تلك الآيات بما أتى بخير منها ، وهو آية الهداية التي تصلح بها قلوب العالمين . والذكرى التي تزع النفوس عن الشر ، وتحملها على الخير . بحيث يظهر أثرها الحسن في المؤمنين ، ويحق الشقاء على الجاحدين المعاندين . فإن يك هذا سحراً ، ولديكم ما هو أهدى : { فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا } أي : من التوراة والقرآن : { أَتَّبِعْهُ } أي : ولا أعاندكم مثل ما تعاندونني : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : في أنهما سحران مختلقان . أو في أنه يمكن الإتيان بما هو أهدى منهما .
قال أبو السعود : ومثل هذا الشرط مما يأتي به من يدل بوضوح حجته وسنوح محجته . لأن الإتيان بما هو أهدى من الكتابين ، أمر بيّن الاستحالة . فيوسع دائرة الكلام للتبكيت والإفحام . انتهى . أي : لا للشك والتردد .
قال الشهاب : وهذا جواب عما يقال أن عدم إتيانهم به معلوم . وهذا كما يقول المدّل : إن كنت صديقك القديم ، فعاملني بالجهل . وكذا في إيراد كلمة إن مع امتناع صدقهم ، نوع تهكم بهم : { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ } أي : فلم يأتوا بذلك الكتاب ، ولم يتابعوا الكتابين : { فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ } أي : الزائغة من غير برهان : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ } الاستفهام إنكاري للنفي . أي : لا أحد أضل منه . كيف لا ؟ وهو أظلم الظلمة . بتقديم هواه على هدى الله . كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أي : الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى ، والإعراض عن الآيات الهادية إلى الحق المبين .
قال الرازيّ : وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد ، وأنه لا بد من الحجة والاستدلال . انتهى { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي : أنزلنا عليهم القرآن متواصلاً ، بعضه إثر بعض ، وعداً ووعيداً ، وقصصاً وعبراً ، ومواعظ ، حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة إرادة أن يتذكروا فيفلحوا . وقرئ وصّلنا بالتشديد والتخفيف : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ } أي : القرآن : { هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ } وهم مؤمنو أهل الكتاب وأولياؤهم : { وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ } أي : القرآن : { قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ } أي : من قبل نزوله : { مُسْلِمِينَ } أي : منقادين له ، لما عندنا من المبشِّرات به . أو على دين الإسلام ، وهو إخلاص الوجه له تعالى بدون شرك : { أُولَئِكَ } أي : الموصوفون بما ذكر من النعوت : { يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ } يعني مرة على إيمانهم بكتابهم ، ومرة على إيمانهم بالقرآن : { بِمَا صَبَرُوا } أي : بصبرهم وثباتهم على الإيمانيْن . أو على الإيمان بالقرآن قبل النزول وبعده . أو على أذى من نابذهم : { وَيَدْرَأُونَ } أي : يدفعون : { بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } أي : بالحكمة الطيبة ، ما يسوؤهم : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } أي : للبؤساء والفقراء ، وفي سبيل البرّ والخير ، فراراً عن وصمة الشحّ ، وتنبهاً لآفاته .
{ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ } أي : من الجهال . وهو كل ما حقه أن يلغى ويترك ، من العبث وغيره : { أَعْرَضُوا عَنْهُ } أي : تكريماً للنفس عن ملابسة الأدنياء ، وتشريفاً للسمع عن سقط باطلهم : { وَقَالُوا } أي : لهم : { لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ } أي : بطريق التوديع والمتاركة ؛ وعن الحسن رضي الله عنه : كلمة حلم المؤمنين : { لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } أي : لا نريد مخالطتهم وصحبتهم ، ولا نريد مجازاتهم بالباطل على باطلهم . فال الرازيّ : قال قوم : نسخ ذلك بالأمر بالقتال . وهو بعيد . لأن ترك المسافهة مندوب . وإن كان القتال واجباً .
تنبيه :
قال ابن كثير عن سعيد بن جبير : إنها نزلت في سبعين من القسيسين . بعثهم النجاشي . فلما قدموا النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم : { يَس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } [ يّس : 1 2 ] ، حتى ختمها . فجعلوا يبكون وأسلموا .
وقال محمد بن إسحاق في " السيرة " : ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ، عشرون رجلاً أو قريب من ذلك من النصارى ، حين بلغهم خبره من الحبشة . فوجدوه في المسجد . فجلسوا إليه وكلّموه وسألوه . ورجال من قريش في أنديتهم . حول الكعبة . فلما فرغوا من مساءلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا ، دعاهم إلى الله تعالى وتلا عليهم القرآن . فلما سمعوا القرآن . فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع . ثم استجابوا لله وآمنوا به ، وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره . فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش . فقالوا لهم : خَيّبكم الله من ركب . بعثكم مَن وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم ، لتأتوهم بخير الرجل . فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال . ما نعلم ركباً أحمق منكم . أو كما قالوا لهم . فقالوا لهم : سلام عليكم . لا نجاهلكم . لنا ما نحن عليه ، ولكم ما أنتم عليه ، لم نأل أنفسنا خيراً .
قال : ويقال إن النفر النصارى من أهل نجران . فالله أعلم أي : ذلك كان .
قال : ويقال ، والله أعلم ، إن فيهم نزلت هذه الآيات : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ } إلى قوله : { لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } .
قال : وسألت الزهري عن الآيات فيمن نزلت ؟ قال : ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه رضي الله عنهم . والآيات اللاتي في سورة المائدة : { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً } [ المائدة : 82 ] ، إلى قوله : { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } [ المائدة : 83 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } [ 56 - 58 ] .
{ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } أي : لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل فيه من قومك وغيرهم : { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } أي : أن يهديه فيدخله في الإسلام بعنايته : { وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } أي : القابلين للهداية . لاطلاعه على استعدادهم وكونهم غير مطبوع على قلوبهم .
تنبيه :
روى البخاري في " صحيحه " في تفسير هذه الآية عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة . فقال : أي : عم ! قل لا إله إلا الله ، كلمة أحاجّ لك بها عند الله . فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ، ويعيدانه بتلك المقالة ، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : على ملة عبد المطلب . وأبى أن يقول لا إله إلا الله .
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < والله ! لأستغفرنّ لك ما لم أُنْهَ عنك > . فأنزل الله : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } [ التوبة : 113 ] ، وأنزل الله في أبي طالب ، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ 56 ] .
قال ابن كثير : وهكذا رواه مسلم في صحيحه والترمذي أيضاً من حديث يزيد بن كَيْسان عن أبي حازم ، عن أبي هريرة . والإمام أحمد من حديثه أيضاً ، وهكذا قال ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبيّ وقتادة : إنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه الإسلام . انتهى .
وقال ابن حجر في " فتح الباري " : لم تختلف النقلة في أنها نزلت في أبي طالب . انتهى . وقدمنا مراراً معنى قولهم نزلت الآية في كذا . فانظر المقدمة ، وغير موضع بعدها .
ثم ذكر تعالى من تعنتهم ، شبهة استروح بها الحارث بن عامر بن نوفل ، فيما رواه النسائي ، قوله سبحانه : { وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ } أي : ونخالف العرب : { نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا } أي : مكة . فرد عليهم تعالى بقوله : { أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً } أي : ألم نعصمهم من عدوّهم ونجعل مكانهم حرماً ذا أمَنٍ ، لحرمة البيت الحرام ، الذي تتناجز العرب حوله وهم آمنون : { يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } أي : جهلة لا يتفكرون . ولو علموا أن ذلك رزق من عند الله ، لعلموا أن الخوف والأمن من عنده ، ولما خافوا التخطف إذ آمنوا به وخلعوا أنداده { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } أي : كفرت بها فلم تحفظ حق الله فيها فدمرت : { فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } أي : منهم . إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم . وموصوف قليلاً المستثنى ، إما زمان أي : إلا زماناً قليلاً ، إذ لا يسكنها إلا المارّة يوماً أو بعض يوم . وإما مكان أي : إلا مكاناً قليلاً يصح لسكنى البعض ، واندثر الباقي . أو مصدر أي : سكناً قليلاً من شؤم معاصيهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } [ 59 - 62 ] .
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } أي : الناطقة بالحق . ويدعوهم إليه بالترغيب والترهيب . وذلك لإلزام الحجة وقطع المعذرة : { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } أي : بالكفر بالآيات وتكذيب الرسل سعياً بالفساد ، وإباء عن سبيل الصلاح والرشاد : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا } أي : فهو مما يتمتع ويتزين به أياماً قلائل . وهي مدة الحياة المقتضية : { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ } أي : متاعاً وزينة في نفسه ، لخلوّه عن شوائب الألم : { وَأَبْقَى } لأنه أبدي لا يزول : { أَفَلا تَعْقِلُونَ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً } أي : بإيمانه وعمله الصالح : { فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } أي : من الذين أحضروا للحساب أو للنار أو العذاب .
قال الشهاب : وقد غلب لفظ المحضر في القرآن في المعذَّب . وإليه أشار الزمخشريّ ، وصرح به في البحر : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ 63 - 68 ] .
{ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ } أي : وجب وثبت مقتضاه . وهو لحوق الوعيد بهم . والمراد بهم ، رؤساء الضلال ، وقادة الكفر والفساد : { رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا } أي : أضللناهم . قال أبو السعود : ومرادهم بالإشارة ، بيان أنهم يقولون ما يقولون بمحضر منهم . وأنهم غير قادرين على إنكاره وردّه : { أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } أي : أضللناهم بالوسوسة والتسويل ، كما ضللنا باختيارنا ، وإيثار ما يفنى على ما يبقى : { تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ } أي : من الكفر والشرك والمعاصي . أو منهم ومما اختاروه : { مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } أي : بل كانوا يعبدون أهواءهم وشهواتهم : { وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ } ليشفعوا لكم : { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ } أي : تمنوا ذلك لينقذوا من العذاب العظيم : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } أي : الداعين إلى الهداية وإصلاح الأعمال والأخلاق : { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ } أي : فصارت الأنباء كالعُمي عليهم لا تهتدي إليهم . وأصله فعموا عن الأنباء لكنه عكس مبالغة . قال الشهاب : ففيه استعارة تصريحية تبعية . استعير العمى لعدم الاهتداء فهم لا يهتدون للأنباء . ثم قلب للمبالغة . فجعل الأنباء لا تهتدي إليهم . وضمن معنى الخفاء . فعدّى بعلى . ففيه أنواع من البلاغة . الاستعارة والقلب والتضمين . والمراد بالأنباء ما أجابوا به الرسل . أو ما يعمّها وغيرها منكل ما يمكن الجواب به : { فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ } أي : لا يسأل بعضهم بعضاً عن الجواب ، لفرط الدهشة . أو لعلمه بأنه مثله في العجز عن الجواب . أو لعجزهم عن النطق وكونهم مختوماً على أفواههم . ثم إن هذا العيد لاحقٌ للمصرّ : { فَأَمَّا مَنْ تَابَ } أي : من الشرك : { وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ } أي : أن يفلح عند الله . وعسى من الكرام تحقيق . ويجوز أن يراد ترجي التائب وطمعه . كأنه قال : فليطمع أن يفلح . قاله الزمخشري : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } أي : بمقتضى مشيئته وعنايته ، ما يريد : { مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } أي : في ذلك . بل الخيرة له في أفعاله وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها ، ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه .
قال الزمخشري : الخيرة من التخير ، كالطيرة من التطير ، تستعمل بمعنى المصدر وهو التخير ، وبمعنى المتخير . كقولهم : محمد خيرة الله من خلقه . والقصد تقرير انفراده بالألوهية وحده . ولذا قال : { سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } من الأصنام والأنداد التي لا تخلق شيئاً ولا تختار .
تنبيه :
للإمام ابن القيّم في مقدمة " زاد المعاد " مقالة في هذه الآية الكريمة ، جديرة بأن تؤثر عنه . قال رحمه الله : وبعد . فإن الله سبحانه وتعالى هو المتفرد بالخلق والاختيار من المخلوقات . قال تعالى : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } وليس المراد هاهنا بالاختيار ، الإرادة التي يشير إليها المتكلمون بأنه الفاعل المختار ، وهو سبحانه كذلك . وليس المراد بالاختيار هنا هذا المعنى . وهذا الاختيار داخل في قوله : { يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } فإنه لا يخلق إلا باختياره . وداخل في قوله تعالى : { مَا يَشَاءُ } فإن المشيئة هي الاختيار . وإنما المراد بالاختيار هنا الاجتباء والاصطفاء . فهو اختيار بعد الخلق . والاختيار العام اختيار قبل الخلق . فهو أعم وأسبق . وهذا أخص وهو متأخر . فهو اختيار من الخلق والأول اختيار للخلق . وأصح القولين أن الوقف التام على قوله : { وَيَخْتَارُ } ويكون : { ما كان لهم الخيرة } نفياً . أي : ليس هذا الاختيار إليهم ، بل هو إلى الخالق وحده . فكما أنه هو المتفرد بالخلق ، فهو المتفرد بالاختيار منه . فليس لأحد أن يخلق ولا يختار سواه . فإنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره ومحالّ رضاه ، وما يصلح للاختيار مما لا يصلح له . وغيره لا يشاركه في ذلك بوجه . وذهب بعض من لا تحقيق عنده ولا تحصيل ، إلى أن ما في قوله تعالى : { مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } موصولة وهي مفعول يختار أي : ويختار الذي لهم الخيرة . وهذا باطل من وجوه :
أحدها : أن الصلة حينئذ تخلو من العائد . لأن الخيرة مرفوع بأنه اسم كان ولهم خبره . فيصير المعنى : ويختار الذي كان الخيرة لهم . وهذا التركيب محال من القول . فإن قيل : يمكن تصحيحه بأن يكون العائد محذوفاً ، ويكون التقدير : ويختار الذي كان لهم الخيرة فيه . أي : ويختار الأمر الذي كان لهم الخيرة في اختياره . قيل : هذا يفسد من وجه آخر . وهو أن هذا ليس من المواضع التي يجوز فيها حذف العائد . فإنه إنما يحذف مجروراً إذا جر بحرف جر الموصول بمثله ، مع اتحاد المعنى نحوه قوله تعالى : { يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ } ونظائره . ولا يجوز أن يقال جاءني الذي مررت ، ورأيت الذي رغبت ، ونحوه .
الثاني : أنه لو أريد هذا المعنى لنصب الخيرة وشغل فعل الصلة بضمير يعود على الموصول . فكأنه يقول : ويختار ما كان لهم الخيرة . أي : الذي كان هو عين الخيرة لهم . وهذا لم يقرأ به أحد البتة . مع أنه كان وجه الكلام على هذا التقدير .
الثالث : أن الله سبحانه يحكي عن الكفار اقتراحهم في الاختيار وإرادتهم أن يكون الخيرة لهم . ثم ينفي هذا سبحانه عنهم ، ويبيِّن تفرده بالاختيار ، كما قال تعالى : { وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [ الزخرف : 31 - 32 ] ، فأنكر عليهم سبحانه تخيرهم عليه . وأخبر أن ذلك ليس إليهم . بل إلى الذي قسم بينهم معايشهم المتضمنة لأرزاقهم ومدد آجالهم . وكذلك هو الذي يقسم فضله بين أهل الفضل ، على حسب علمه بمواقع الاختيار ، ومن يصلح له ممن لا يصلح . وهو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات . وقسم بينهم معايشهم ودرجات التفضيل . فهو القاسم ذلك وحده لا غيره . وهكذا هذه الآية . بيّن فيها انفراده بالخلق والاختيار . فالله سبحانه أعلم بمواقع اختياره كما قال : { وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] ، أي : الله أعلم بالمحل الذي يصلح لاصطفائه وكرامته وتخصيصه بالرسالة والنبوة ، دون غيره .
الرابع : أنه نزه نفسه سبحانه عما اقتضاه شركهم من اقتراحهم واختيارهم فقال : { مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } ولم يكن شركهم مقتضياً لإثبات خالق سواه ، حتى نزه نفسه عنه . فتأمله فإنه في غاية اللطف .
الخامس : إن هذا نظير قوله في الحج : { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ 73 - 74 ] ، ثم قال : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ } [ 75 - 76 ] ، وهذا نظير قوله في القصص : { وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } [ 69 ] ، ونظير قوله في الأنعام : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] ، فأخبر في ذلك كله عن علمه المتضمن لتخصيصه محالّ اختياره ، بما خصصها به بعلمه ، بأنه يصلح له دون غيره فتقدير السياق في هذه الآيات تجده متضمناً لهذا المعنى دائراً عليه . والله أعلم .
السادس : إن هذه الآية مذكورة عقيب قوله : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } فكما خلقهم وحده سبحانه ، اختار منهم من تاب وآمن وعمل صالحاً ، فكانوا صفوته من عباده ، وخيرته من خلقه ، وكان هذا الاختيار راجعاً إلى حكمته وعلمه سبحانه ، لمن هو أهل له . لا إلى اختيار هؤلاء المشركين واقتراحهم . فسبحان الله وتعالى عما يشركون .
ثم قال ابن القيم رحمه الله تعالى : " فصل " فإذا تأملت أحوال هذا الخلق رأيت هذا الاختيار والتخصيص فيه ، دالاً على ربوبيته تعالى ووحدانيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته . وأنه الله الذي لا إله إلا هو ، فلا شريك له يخلق كخلقه ، ويختار كاختياره ، ويدبر كتدبيره . فهذا الاختيار والتدبير والتخصيص ، المشهور أثره في هذا العالم ، من أعظم آيات ربوبيته ، وأكبر شواهد وحدانيته ، وصفات كماله وصدق رسوله . فنشير منه إلى شيء يسير يكون منبهاً على ما وراءه ، دالّاً على ما سواه . فخلق الله السموات سبعاً . فاختار العليا منها فجعلها مستقرَّ المقربين من ملائكته واختصها بالقرب من كرسيّه ومن عرشه . وأسكنها من شاء من خلقه . فلها مزية وفضل على سائر السموات . ولو لم يكن إلا قربها منه تبارك و تعالى . وهذا التفضيل والتخصيص ، مع تساوي مادة السموات ، من أبين الأدلة على كمال قدرته وحكمته ، وأنه يخلق ما يشاء ويختار . ومن هذا تفضيله سبحانه جنة الفردوس على سائر الجنان ، وتخصيصها بأن جعل عرشه سقفها . وفي بعض الآثار : إن الله سبحانه غرسها بيده واختارها لخيرته من خلقه . ومن هذا اختياره من الملائكة ، المصطفين منهم على سائرهم . كجبريل وميكائيل وإسرافيل . وكذلك اختياره سبحانه للأنبياء من ولد آدم . واختيار الرسل منهم واختياره أولي العزم منهم . واختياره منهم الخليلين إبراهيم ومحمدا صلى الله عليهم وسلم . ومن هذا اختياره سبحانه ولد إسماعيل من أجناس أنواع بني آدم . ثم اختار منهم نبي كنانة بن خزيمة . ثم اختار من ولد كنانة قريشاً . ثم اختار من قريش بني هاشم . ثم اختار من بني هاشم ، سيد ولد آدم محمداً صلى الله عليه وسلم . وكذلك اختار أصحابه من جملة العالمين . واختار منهم السابقين الأولين . واختار منهم أهل بدر وأهل بيعة الرضوان . واختار لهم من الدين أكمله ، ومن الشرائع أفضلها ، ومن الأخلاق أزكاها وأطيبها وأطهرها . واختار أمته صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم . ومن هذا اختياره سبحانه و تعالى من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها . وهي البلد الحرام . فإنه سبحانه اختاره لنبيّه ، وجعله مناسك لعباده . وأوجب عليهم الإتيان إليه من القرب والبعد من كل فج عميق . فلا يدخلونه إلا متواضعين متخشعين متذللين ، كاشفي رؤوسهم ، متجردين عن لباس أهل الدنيا . وجعله حرماً آمناً لا يسفك فيه دم ، ولا تعضد به شجرة ، ولا ينفر له صيد ولا يختلى خلاه ، ولا يلتقط لُقَطته للتملك . بل للتعريف ليس إلا . ومن هذا تفضيله بعض الأيام والشهور على بعض . فخير الأيام عند الله يوم النحر . وهو يوم الحج الأكبر كما في " السنن " . وأفضل الشهور شهر رمضان . وعشره الأخير أفضل الليالي . وليلة القدر أفضل من ألف شهر . ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع . ويوم عرفة ويوم النحر أفضل أيام العام . انتهى ملخصاً .
وقد أوسع المقال وجوّد الاستدلال . فرحمه الله ورضي عنه وأرضاه . وقوله تعالى : { سُبْحَانَ اللهِ } أي : تنزيهاً لله الذي لا يزاحم اختياره اختيارٌ : { وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ } [ 69 - 71 ] .
{ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ } أي : تخفي : { صُدُورُهُمْ } أي : من الكيد المكر : { وَمَا يُعْلِنُونَ } أي : من الأقوال والأفعال : { وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } أي : وهو المستحق للألوهية والعبادة وحده : { لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ } أي : لأنه المولى للنعم كلها في الدارين : { وَلَهُ الْحُكْمُ } أي : القضاء النافذ في كل شيء . يقهر كل شيء على مقتضى مشيئته . ويحكم عليه بموجب إرادته : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي : بالبعث للجزاء : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ } أي : هذا الكلام الحق ، سماع تدبر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كَانُوا يَفْتَرُونَ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } [ 72 - 76 ] .
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ } أي : هذه المنفعة فتقوموا بشكرها : { وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ } أي : في الليل : { وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } أي : في النهار : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : نعمه الظاهرة والباطنة ، والجسمانية والروحانية ، باستعمالها فيما وجب من طاعته . وذلك فيما خلقت له .
{ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا } أي : وأخرجنا : { مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً } أي : نبيّاً يشهد عليهم بما كانوا عليه . كقوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ } [ النساء : 41 ] ، { فَقُلْنَا } أي : لكل أمة من تلك الأمم : { هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ } أي : على ما أنتم عليه . أحق هو أم لا ؟ فعجزوا عن آخرهم . وظهر برهان النبيّ ، كما قال تعالى : { فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ } أي : في الألوهية ، لا يشاركه فيها أحد : { وَضَلَّ عَنْهُمْ } أي : غاب عنهم غيبة الضائع : { ما كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي : من الباطل والمذاهب المختلفة ، والطرق المتشعبة المتفرقة .
{ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى } أي : من شاكلتهم في الكفر والطغيان . وقوم موسى ، جماعته الذين أرسل إليهم ، وهم القبط وطاغيتهم فرعون : { فَبَغَى عَلَيْهِمْ } أي : بالكبر والاستطالة عليهم لما غلب عليه الحرص ومحبة الدنيا ، لغرور وتعززه برؤية زينة نفسه : { وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ } أي : من الأموال المدخرة : { مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ } أي : مفاتيح صناديقه . على حذف مضاف . أو الإضافة لأدنى ملابسة . وقيل خزائنه : { لَتَنُوءُ } أي : تثقيل : { بِالْعُصْبَةِ } أي : الجماعة الكثيرة من الرجال أو البغال : { أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ } أي : بزخارف الدنيا فرحاً يشغلك عن الشكر فيها والقيام بحقها : { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } أي : هذا الفرح ، لما فيه من إيثارها عن الآخرة ، والرضا بها عنها ، والإخلاد إليها . وذلك أصل كل شر ومبعث كل فساد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ } [ 77 - 78 ] .
{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ } أي : اطلب من الغني الذي تفضل الله به عليك ، بعد الفاقة : { الدَّارَ الْآخِرَةَ } أي : بأن تفعل فيه أفعال الخير من أصناف الواجب والمندوب . وتجعله زادك إلى الآخرة : { وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } وهو أن تأخذ منه ما يصلحك ويرفهك : { وَأَحْسِنْ } أي : إلى الناس . أو افعل الإحسان من وجوهه المعروفة : { كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ } أي : بهذا المال الذي جعله سبب صلاحها : { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } أي : بطرق التجارة أو المكاسب : { أَوَلَمْ يَعْلَمْ } أي : مما سمع بالتواتر : { أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ } أي : الكثيرة ، بحيث صارت سنة له : { مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً } أي : بالأموال والأتباع : { وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ } أي : لا يتوقف إهلاكه إياهم على سؤال ، ليعتذروا عنها . بل متى حق عليها القول بفسقهم ، أهلكهم بغتة بلا معاتبة وطلب عذر . ثم أشار تعالى إلى أن قارون لم يعتبر بذلك ، ولا بنصيحة قومه ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [ 79 - 82 ] .
{ فَخَرَجَ } أي : قارون باغياً : { عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ } أي : مُغْتَرّاً بالنظر فيها : { قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي : جرياً على سنن الجبلة البشرية ، من الرغبة في السعة واليسار : { يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ } أي : مما تتمنونه : { لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا } أي : هذه الكلمة التي فاه بها الذين أوتوا العلم . أو الجنة . أو السيرة والطريقة ، وهي الإيمان والعمل الصالح : { إِلَّا الصَّابِرُونَ } أي : على الطاعات عن الشهوات ، وعلى زمام النفس أن تجري في أعقاب المزخرفات . وويلك في الأصل دعاء بالهلاك . والمراد به هنا الزجر عن هذا التمني ، مجازاً . وهو منصوب على المصدرية : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ } أي : المشتملة على أمواله : { الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي : بدفع العذاب عنه : { وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ } أي : بقوة نفسه وما له : { وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } أي : من شقيّ وسعيد : { وَيَقْدِرُ } أي : يقبض . فلا دلالة في البسط على السعادة . ولا في القبض على الشقاوة . بل يفعل سبحانه كل واحد من البسط والقَدْر بمحض مشيئته ، لا لكرامة توجب البسط ، ولا لهوان يقتضي القبض : { لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا } أي : بعدم إيتائه متمنانا : { لَخَسَفَ بِنَا } أي : كما خسف به : { وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } أي : لنعمة الله في صرفها في غير سبيلها . أو المكذبون برسله اغتراراً بزخارفهم .
فائدة :
في ويكأن مذاهب :
الأول : أن وي كلمة برأسها . وهي اسم فعل ، معناها أعجب . أي : أنا . والكاف للتعليل . وأن وما في حيزها مجرورة بها . أي : أعجب لأن الله يبسط الرزق الخ . وقياس هذا القول أن يوقف على وي وحدها ، وقد فعل ذلك الكسائيّ .
الثاني : أنه مركب من وي للتعجب وكأن للتشبيه . والمعنى : ما أشبه الأمر أن الله يبسط . أي : ما أشبه أمر الدنيا والناس مطلقاً إلى آخرٍ ، أمرَ قارون وما شوهد من قصته . والأمر مأخوذ من الضمير . فإنه للشأن . والمراد من تشبيه الحال بهذه الحال ، أنه لتحققه وشهرته ، يصلح أن يشبه به كل شيء . كما أشار إليه في الكشف .
الثالث : قال بعضهم : كأن هنا للتشبيه . إلا أنه ذهب منها معناه . وصارت للخبر واليقين . وهذا أيضاً يناسبه الوقف على وي .
الرابع : زعم الهمداني في " الفرائد " أن مذهب سيبويه والخليل أن وي للتندم . وكأنّ للتعجب . والمعنى : ندموا متعجبين في أن الله يبسط الخ .
قال الشهاب : وكون كأن للتعجب ، لم يعهد .
الخامس : ذهب الكوفيون إلى أنه مركب من ويك بمعنى ويلك فخفف بحذف اللام . والعامل في أن اعلم ، المقدر . والكاف على هذا ضمير في محل جرّ . وهذا يناسب الوقف على الكاف . وقد فعله أبو عَمْرو .
السادس : أن ويك كلمة برأسها . والكاف حرف خطاب . ويقرب هذا مما قبله . قال أبو البقاء : وهو ضعيف لوجهين : أحدهما أن معنى الخطاب هنا بعيد . والثاني : أن تقدير وي اعلم ، لا نظير له ، وهو غير سائغ في كل موضع . انتهى .
السابع : أن ويكأن كلها كلمة مستقلة بسيطة . ومعناها ألم تر . وربما نقل ذلك عن ابن عباس . ونقل الفرّاء والكسائيّ أنها بمعنى : أما ترى إلى صنع الله , وحكى ابن قتيبة أنها بمعنى : رحمة لك في لغة حمير . ولم يرسم في القرآن إلا ويكأن وويكأنه متصلة في الموضعين . فعامة القراء اتبعوا الرسم . والكسائيّ وقف على وي وأبو عَمْرو على ويك .
وهذا ما يستفاد من حواشي القاضي والسمين . وعندي أنها مركبة من وي للتعجب وكأن التي للتحقيق وهي أحد معانيها المعروفة . والوقف على وي . ولا يشكل على ذلك كتابتها في المصاحف متصلة ، لأن الكتابة - كما قال ابن كثير - أمر وضعيّ اصطلاحيّ ، والمرجع إلى اللفظ العربي .
وقد اتفق اللغويون على أن وي كلمة تعجب . يقال ويك ووي لزيد , وتدخل على كأن المخففة والمشددة ، ومن شواهد الأولى قول الشاعر :
~سَالَتَانِي الطلاقَ . أَنْ رَأَتَانِي قَلَّ مَالي . قد جئتماني بنُكْرِ
~ويْ كأنْ من يكُنْ لَه نَشَبٌ يُحْ بَبْ ومن يَفْتَقِرْ يَعِشْ عيشَ ضُرِّ
وهذا البيت مما يدل على ما استظهرته ، بلهَ الاستعمال إلى هذه الأجيال .
قال ابن كثير : وقد ذكر ههنا إسرائيليات ، أضربنا عنها صفحاً . ونحن تأسينا به ، بل فقناه في الإضراب عن كثير من مرويّه ، الموقوف والضعيف الذي سوّدت به الصحف .
ثم أشار تعالى إلى مقابل حال قارون ، من حال خلص عباده ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ 83 - 84 ] .
{ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ } أي : غلبة وتسلطاً بسوء وتكبّر : { وَلا فَسَاداً } أي : بظلم وعدوان وصدّ عن سبيل الله تعالى : { وَالْعَاقِبَةُ } أي : النهاية الحميدة : { لِلْمُتَّقِينَ } أي : الذين يتقون ما لا يرضاه تعالى من الأقوال والأفعال .
قال الزمخشري ، قدس الله روحه : لم يعلق الموعد بترك العلوّ والفساد . ولكن بترك إرادتهما ، وميل القلوب إليهما . كما قال : { وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } [ هود : 113 ] ، فعلق الوعيد بالركون . وعن عليّ رضي الله عنه : إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه . فيدخل تحتها .
وعن الفضيل أنه قرأها ثم قال : ذهبت الأماني هاهنا . وعن عُمَر بن عبد العزيز ، أنه كان يرددها حتى قبض . ومن الطُّمَّاع من يجعل العلوّ لفرعون ، والفساد لقارون ، متعلقاً بقوله : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ } [ 4 ] ، { وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ } [ 77 ] ، ويقول : من لم يكن مثل فرعون وقارون ، فله تلك الدار الآخرة . ولا يتدبر قوله : { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } كما تدبره عليّ والفضيل وعمر رضي الله عنهم { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } معناه : فلا يجزون إلا . . إلخ . فوضع فيه الموصول والظاهر ، موضع الضمير ، لتهجين حالهم بتكرير إسناد السيئة إليهم ، والزيادة تبغيض السيئة إلى قلوب السامعين [ في المطبوع : قولب السامين ] . ومعنى قوله : { إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : مثله . وهذا من فضله العظيم وكرمه الواسع ، أن لا يجزي السيئة إلا بمثلها . ويجزي الحسنة بعشر أمثالها وسبعمائة . وهو معنى قوله : { فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا } كذا في الكشاف .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ } [ 85 - 86 ] .
{ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ } أي : أوجب عليك تلاوته على الناس ، وتبليغه إليهم ، وصدعهم به : { لَرَادُّكَ } أي : بعد الموت : { إِلَى مَعَادٍ } أي : مرجع عظيم . وهو المقام المحمود الذي وعدك أن يبعثك فيه . فتنوينه للتعظيم ، ووجهه - كما في " العناية " - أن المعاد صار كالحقيقة في المحشر . لأنه ابتداء العود إلى الحياة ، ورده على ما كان عليه فجعل معاده عظيماً لعظمة مقامه فيه .
وقال ابن كثير : المعاد هو يوم القيامة . يسأله عما استرعاه من أعباء النبوّة . كما قال تعالى : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } [ الأعراف : 6 ] ، وقال تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } [ المائدة : 109 ] , وقال : { وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ } [ الزمر : 69 ] وعن ابن عباس روايات : إلى يوم القيامة . إلى الموت . إلى الجنة أخرجت عنه من طرق . كما أسنده ابن كثير .
والذي رواه البخاري والنسائي وابن جرير عن ابن عباس قال : لرادك إلى مكة كما أخرجك منها . وعن الضحاك قال : لما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة فبلغ الجحفة ، اشتاق إلى مكة . فنزلت الآية .
قال ابن كثير : وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية ، وإن كان مجموع السورة مكيّاً ، والله أعلم .
ثم قال : ووجه الجمع بين هذه الأقوال ، أن ابن عباس فسر ذلك تارة برجوعه إلى مكة ، وهو الفتح ، الذي هو عند ابن عباس على اقتراب أجل النبيّ صلى الله عليه وسلم . كما فسر ابن عباس سورة : إذا جاء نصر الله والفتح , أنه أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي إليه ، وكان ذلك بحضرة عُمَر بن الخطاب ووافقه عمر على ذلك ، وقال : لا أعلم منها غير الذي تعلم . ولهذا فسر ابن عباس تارة أخرى قوله تعالى : { لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } بالموت . وتارة بيوم القيامة الذي هو بعد الموت . وتارة بالجنة التي هي جزاؤه على أدائه رسالة الله وإبلاغها إلى الثقلين الجن والإنس . ولأنه أكمل خلق الله على الإطلاق . انتهى .
{ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى } يعني نفسه الكريمة . أي : بما يستحقه من المثوبة : { وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } يعني المشركين . أي : بما يستحقونه من العذاب . والجملة تقرير للوعيد السابق : { وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ } أي : ما كنت تظن ، قبل إنزال الوحي إليك ، أن الوحي ينزل عليك : { إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } أي : ولكن لرحمة من ربك ألقي إليك : { فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ } أي : معيناً لهم . ولكن نابذهم وخالفهم . وحكى الكرماني في " الغرائب " أن معناه : فلا تكن بين ظهرانيهم ، وأنه أمر بالهجرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ 87 - 88 ] .
{ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ } أي : عن تبليغها بعد إنزالها ، والأمر بالصدع بها لضيق صدرك من مكرهم . فإن الله معك ، ومُعْلٍ كلمتك ومؤيد دينك . ولذا قال : { وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ } أي : إلى عبادته وحده لا شريك له : { وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ } .
قال القاضي : هذا وما قبله للتهييج وقطع أطماع المشركين من مساعدته لهم . أي : لأنه لا يتصور منه ذلك حتى ينهى عنه . فكأنه لما نهاه عن مظاهرتهم ومداراتهم ، قال إن ذلك مبغوض لي كالشرك . فلا تكن ممن يفعله . أو المراد نهي أمته ، وإن كان الخطاب له صلى الله عليه وسلم . كذا في " العناية " .
{ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } أي : إياه والوجه يعبر به عن الذات كما قال : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام } [ الرحمن : 26 - 27 ] ، وفي قوله تعالى : { هَالِكٌ } وجوه : حمله على المستقبل ، أو هو عرضة للهلاك والعدم ، أو هالك في حد ذاته ، لأن وجوده ليس ذاتياً بل لاستناده إلى واجب الوجود ، فهو بالقوة وبالذات معدوم حالاً . والمراد بالمعدوم ما ليس له وجود ذاتي . لأن وجود غيره كلا وجود . إذ هو في كل آن قابل للعدم . وعن مجاهد والثوريّ : إلا وجهه أي : ما أريد به وجهه . حكاه البخاري في " صحيحه " .
قال ابن جرير : ويستشهد من قال ذلك بقول الشاعر :
~أستغفرُ الله ذنباً ، لست مُحْصِيَهُ رَبُّ العبادِ ، إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ
قال ابن كثير : وهذا القول لا ينافي القول الأول . فإن هذا إخبار عن كل الأعمال ، بأنها باطلة ، إلا ما أريد به وجه الله تعالى من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة . انتهى .
وفيه بُعد وتكلف يذهب رونق النظم ، وماء الفصاحة . لا سيما وآي التنزيل يفسر بعضها بعضاً . والآية الثانية التي ذكرناها بمعنى هذه . وتلك لا تحتمل ذاك المعنى ، فكذا هذه : { لَهُ الْحُكْمُ } أي : القضاء النافذ في الخلق : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي : يوم معادكم فيجزيكم بأعمالكم ، إن خيراً فخير وإن شرّاً فشر .(/)
سورة العنكبوت
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [ 1 - 3 ] .
{ الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ } أي : أحسب الذين أجروا كلمة الشهادة على ألسنتهم ، وأظهروا القول بالإيمان ، أنهم يتركون بذلك غير ممتحنين ، بل يمحنهم الله بضروب المحن ، حتى يبلو صبرهم وثبات أقدامهم وصحة عقائدهم . لتمييز المخلص من غير المخلص . كما قال : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [ آل عِمْرَان : 186 ] ، وكقوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } [ آل عِمْرَان : 142 ] ، وقوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] ، وكل هذه الآيات وأمثالها مما نزل بمكة في تثبيت قلوب المؤمنين ، وتصبيرهم على ما كان ينالهم من أذى المشركين : { وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي : من أتباع الأنبياء عليهم السلام ، بضروب من الفتن من أعدائهم ، كما دوّن التاريخ اضطهادهم . أي : فصبروا وما وهنوا لما أصابهم حتى علت كلمة الله : { فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا } أي : في قولهم : { آمَنَّا } : { وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } أي : فيه : وذلك بالامتحان .
فإن قيل : يتوهم من صيغة الفعل أن علمه حدث ، مع أنه قديم . إذ علمه بالشيء قبل وجوده وبعده ، لا يتغير . يجاب بأن الحادث هو تعلق علمه بالمعلوم بعد حدوثه .
وقال الناصر : فائدة . ذكر العلم هاهنا ، وإن كان سابقاً على وجود المعلوم هو التنبيه بالسبب على المسبب . وهو الجزاء كأنه قال تعالى : ليعلمنهم فليجازينهم بحسب علمه فيهم .
وقال المهايميّ : { فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ } أي : يظهر علمه عند خلقه بصدق إيمان : { الَّذِينَ صَدَقُوا } فيه ، بدلالة ثباتهم عليه عند المصائب : { وَلَيَعْلَمَنَّ } أي : وليظهر علمه بكذب دعوى : { الْكَاذِبِينَ } لئلا يشهدوا عنده بإيمان الكاذبين ، فينسب في تعذيبهم إلى الظلم . وليثق المؤمنون بمحبة الصادقين ، ويستظهروا بها ، ويحذروا عن مكر الكاذبين . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ 4 - 7 ] .
{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا } أي : يفوتونا ، فلا نقدر على مجازاتهم بمساوئ أعمالهم : { سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي : بئس الذي يحكمونه حكمهم : { مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ } أي : في الجنة من رؤيته ، والفوز بكرامته : { فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ } وهو الموت : { لَآتٍ } أي : فليبادر ما يصدق رجاءه ويحقق أمله من الثواب والتواصي بالحق والصبر والرغبة فيما عنده تعالى . أو المعنى : من كان يرجو لقاء الله ، من كل من صدق في إيمانه ، وأخلص في يقينه ، فاعلم أن أجل الله لآت . وهو الوقت الذي جعله الله أجلاً وغاية لظهور النصر والفتح وعلوّ الحق وزهوق الباطل . أي : فلا يستبطئنّه . فإنه آت بوعد الله الحق وقول الصدق . ولم أر من ذكره ولعله أنسب بقرينه السياق والسباق . والله أعلم : { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } أي : السميع لأقوالهم العليم بضمائرهم وأحوالهم : { وَمَنْ جَاهَدَ } أي : في الصبر على البلاء والثبات على الحق مع ضروب الإيذاء : { فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ } أي : لأنه يمهد لنفسه ، ما يجني به ثمر غرسه : { إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : أحسن جزاء أعمالهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ } [ 8 - 9 ] .
{ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } أي : أمرناه أمراً مؤكداً بإيلاء والديه فعلاً ذا حسن عظيم : { وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا } أي : في الشرك ، إذا حملاك عليه . ومعنى : { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أي : لا علم لك بإلهيته . قال القاضي : عبر عن نفيها بنفي العلم بها ، للإيذان بأن ما لم يعلم صحته ، لا يجوز اتباعه ، وإن لم يعلم بطلانه . فكيف بما علم بطلانه ؟ : { إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : إليّ مرجع من آمن منكم ومن أشرك . فأجازيكم حق جزائكم . فيه التحذير من متابعتهما على الشرك والحث على الثبات والاستقامة في الدين ، بذكر المرجع والوعيد . وقد روي أن سعد بن أبي وقاص الزهري رضي الله عنه حين أسلم ، قالت أمه : يا سعد ! بلغني أنك قد صبأت . فوالله ! لا يظلني سقف بيت من الضحّ والريح . وإن الطعام والشراب عليّ حرام ، حتى تكفر بمحمد وكان أحب ولدها إليها . فأبى سعد . وبقيت ثلاثة أيام كذلك . فجاء سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه . فنزلت هذه الآية ، والتي في لقمان ، والتي في الأحقاف . فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يداريها ويترضاها بالإحسان . وروى الترمذي عن سعد قال : قال : نزلت فيّ أربع آيات . فذكر قصته وقال : قالت أم سعد : أليس الله قد أمرك بالبر ؟ والله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أموت ، أو تكفر . فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها . فنزلت هذه الآية . قال ابن كثير : وهذا الحديث رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي أيضاً .
وقال الترمذي : حسن صحيح : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ } أي : في زمرة الراسخين في الصلاح والكمال .
قال الزمخشري : والصلاح من أبلغ صفات المؤمنين ، وهو متمنى أنبياء الله .
قال الله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام : { وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } [ 19 ] ، وقال في إبراهيم عليه السلام : { وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } أو المعنى : في مدخل الصالحين وهي الجنة . وهذا نحو قوله تعالى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } [ النساء : 69 ] ، الآية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ } [ 10 ]
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } أي : جعل ما يصيبه في الصرف عن الإيمان من ضروب الإيذاء ، بسببه ، مثل عذاب الله في الشدة والهول ، فيرتد عن الدين . مع أن مقتضى إيمانه أن يصبر ويتشجع ويتلقى ما يناله في الله بالرضا ، يرى العذاب فيه عذوبة والمحنة منحة . فإن العاقبة للتقوى وسعادة الدارين لأهلها : { وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ } أي : من التلبيس والإخلاص . وهذه الآية كقوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ } [ 11 ] ، إلى قوله : { ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ } [ 12 ] ، وكقوله سبحانه : { الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ النساء : 141 ] ، وقال تعالى : { فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } [ المائدة : 52 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [ 11 - 13 ] .
{ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا } أي : بإخلاصهم : { وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ } ثم بين تعالى حمل كفار قريش لمن آمن على الكفر بالاستمالة ، بعد بيان حملهم لهم عليهم بالأذية ، بقوله : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } أي : إن كان ذلك خطيئة يؤاخذ عليها بالبعث ، فتبعتها علينا وفي رقابنا .
قال ابن كثير : كما يقول القائل : افعل كذا وخطيئتك في رقبتي . قال الله تعالى تكذيباً لهم : { وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ } وهي أوزار أنفسهم : { وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ } أي : وأوزاراً أخر مع أوزار أنفسهم . يعني أوزار الإضلال والحمل على الكفر والصدّ عن سبيل الله . كما قال تعالى : { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ النحل : 25 ] ، و في الصحيح : < من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً . ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة ، من غير أن ينقص من آثامهم شيئاً > : { وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي : من الأكاذيب والأباطيل . ثم بين تعالى افتتان الأنبياء بأذية أممهم ، إثر بيان افتتان المؤمنين بأذية الكفار ، تأكيد [ في المطبوع : تأكيداً ] الإنكار على الذين يحسبون أن يتركوا بمجرد الإيمان بلا ابتلاء ، وحثاً لهم على الصبر تأسياً بالأنبياء ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ 14 - 19 ] .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً } أي : هذه الحادثة الهائلة موعظة : { لِلْعَالَمِينَ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } أي : كذباً ، في تسميتها آلهة وشركاء لله ، وشفعاء إليه : { إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } أي : التبليغ الذي يزيل كل لبس وما عليه أن يصدقه قومه : { أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } إرشاد إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه مع وضوح دليله ، وذلك بما يشاهدونه في أنفسهم من خلق الله إياهم بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً ، ثم وجدوا وصاروا أناساً سامعين مبصرين . فالذي بدأ هذا ، قادر على إعادته . فإنه سهل عليه ، يسير لديه . فقوله تعالى : { ثُمَّ يُعِيدُهُ } عطف على أو لم يروا لا على يبدئ لعدم وقوع الرؤية عليه . فهو إخبار بأنه تعالى يعيد الخلق قياساً على الابتداء . وقد جوز العطف على يبدئ بتأويل الإبداء بإبداء ما يشاهده ، كالنبات وأوراق الأشجار وغيرهما . والإعادة بإنشائه تعالى كل سنة ، مثل ما أنشأه في السنة السابقة من النبات والثمار وغيرهما . فإن ذلك مما يستدل به على صحة البعث وقوعه من غير ريب . فيصحّ حينئذ العطف .
قال الشهاب : لكنه غير ملاق لما وقع في غير هذه الآية .
قال : وبهذا التقرير سقط ما قيل : إن أريد بالرؤية العلم فكلاهما معلوم . وإن أريد الإبصار فهما غير مرئيين . مع أنه يجوز أن يجعل ما أخبر به الله تعالى لتحققه ، كأنه مشاهد : { إِنَّ ذَلِكَ } أي : ما ذكره ، وهو الإعادة : { عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ 20 - 24 ] .
{ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ } أي : كيف خلقهم ابتداء على أطوار مختلفة وطبائع متغايرة وأخلاق شتّى . فإن ترتيب النظر على السير في الأرض ، مؤذي يتبع أحوال أصناف الخلق القاطنين في أقطارها : { ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ } أي : الخلق الآخر : { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } أي : بعد النشأة الثانية ، وهم المنكرون لها : { وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ } وهم المؤمنون بها : { وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ } أي : بالتواري في الأرض ، ولا بالتحصن في السماء التي هي أفسح منها ، لو استطعتم الرقيّ فيها . أو القلاع الذاهبة فيها . فيكون المراد بالسماء ما ارتفع . وقيل : المعنى : ولا من في السماء , فحذف اسم الموصول وهو مبتدأ محذوف الخبر . والتقدير : ولا من في السماء بمعجزه , والجملة معطوفة على جملة أنتم بمعجزين وفيه تكلف وضعف صناعي : { وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } أي : يدافع عنكم ما يراد بكم : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ثم أشار تعالى إلى ما أجاب به قوم إبراهيم ، بعد دعوته إياهم وعظاته البالغة ، بقوله : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [ 25 - 29 ] .
{ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : لتتوادّوا بينكم وتتواصلوا ، لاجتماعكم على عبادتها : { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } أي تتجاحدون ما كان بينكم ، ويلعن الأتباعُ المتبوعين ، والمتبوعون الأتباعَ . كما قال تعالى : { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا } [ الأعراف : 38 ] ، وقال تعالى : { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } [ الزخرف : 67 ] ، { وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } .
تنبيه :
قال السمين : في ما من قوله تعالى : { إِنَّمَا اتَّخَذْتُم } ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف ، وهو المفعول الأول و : { أَوْثَاناً } مفعول ثان . والخبر مودة في قراءة من رفع . والتقدير : إن الذي اتخذتموه أوثاناً مودة ، أي : ذو مودة ، أو جعل نفس المودة مبالغة . ومحذوف على قراءة من نصب مودة أي : الذي اتخذتموه أوثاناً لأجل المودة لا ينفعكم ، أو يكون عليكم ، لدلالة قوله : { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ } .
والثاني : أن تجعل ما كافة ، وأوثاناً مفعول به . والاتخاذ هاهنا متعد لواحد . أو لاثنين ، والثاني هو " من دون الله " فمن رفع مودة كانت خبر مبتدأ مضمر ، أي : هي مودة أي : ذات مودة . أو جعلت نفس المودة مبالغة . والجملة حينئذ صفة لأوثاناً أو مستأنفة . ومن نصب كان مفعولاً له ، أو بإضمار أعني .
الثالث : أن تجعل ما مصدرية ، وحينئذ يجوز أن يقدر مضاف من الأول . أي : أن سبب اتخاذكم أوثاناً مودة , فيمن رفع مودة ويجوز أن لا يقدر ، بل يجعل نفس الاتخاذ هو المودة مبالغة . ومن القراء من رفع مودة غير منونة وجرّ بينكم ومنهم من نصب مودة منوّنة ونصب بينكم ومنهم من نصب مودة منونة وجرّ بينكم . فالرفع تقدم . و النصب تقدم أيضاً فيه وجهان . وجوّز ثالث ، وهو أن يجعل مفعولاً ثانياً عن المبالغة والإضافة ، للاتساع في الظرف .
ونقل عن عاصم أنه رفع مودة غير منونة ونصب بينكم وخرجت على إضافة مودة للظرف . وإنما بني لإضافته إلى غير متمكن .
وأشار العلامة القاشاني إلى جواز أن يكون قوله تعالى : { فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } خبراً لما إن كانت اسمية . وهو وجه لم يتعرض له المعْرِبُون هنا ، ولا مانع منه . وعبارته :
إنما اتخذتم من دون الله ، شيئاً عبدتموه مودوداً فيما بينكم في الحياة الدنيا أو : إن كل ما اتخذتم من دون الله ، شيئاً مودوداً فيما بينكم في الحياة الدنيا ، أو : إن كل ما اتخذتم أوثاناً مودود في هذه الحياة الدنيا . أو لمودة بينكم في هذه ، على القراءتين .
ثم قال : والمعنى أن المودة قسمان : مودة دنيوية ، ومودة أخروية . والدنيوية منشؤها النفس ، والأخروية منشؤها الروح . فكل ما يحب ويودّ من دون الله ، لا لله ولا بمحبة الله ، فهو محبوب بالمودة النفسية . وهو هوى زائل ، كلما انقطعت الوصلة البدينة زالت ولم تصل إلى إحدى القيامات ، فإنها نشأت من تركيب البدن واعتدال المزاج . فإذا انحلّ التركيب وانحرف المزاج ، تلاشت وبقي التضادّ والتعاند ، بمقتضى الطبائع ، لقوله تعالى : { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ } الآية . ولهذا شبهها ببيت العنكبوت في الوهن .
وأما الأخروية فمنشؤها المحبة الإلهية . وتلك المودة هي التي تكون بين الأصفياء والأولياء ، لتناسب الصفات ، وتجانس الذوات ، لا تتصفى غاية الصفاء إلا عند زوال التركيب . فيصير يوم القيامة محبة صرفة الهيئة ، بخلاف تلك . انتهى .
{ فَآمَنَ لَهُ } أي : صدق إبراهيم فيما دعاه إليه : { لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ } أي : من أرض قومي : { إِلَى رَبِّي } أي : لا إلى غيره بل إلى عبادته وإقامة شعائر دينه والقيام بدعوة الخلق إلى الحق من شرعه وتوحيده : { إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَوَهَبْنَا لَهُ } أي : لإبراهيم : { إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } أي : ولداً ونافلة ، بمباركة الذرية : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا } أي : بإيتاء الولد والذرية الطيبة واستمرار النبوة فيهم وانتماء أهل الملك إليه والثناء إلى آخر الدهر والصلاة عليه : { وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ } أي : الفعلة المتناهية في القبح : { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ } أي : لتحاشي الطباع عنها . ثم فصّلها بعد الإجمال ، لزيادة تنفير النفوس منها : { أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ } أي : سبيل النسل بإتيان ما ليس بحرث . أو بعمل قطاع الطريق من قتل الأنفس وأخذ الأموال : { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ } أي : ما لا يليق من الأقوال والأفعال : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } [ 30 - 33 ] .
{ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ } أي : الذين يفسدون كل برهان عقلي ونقلي ، وكل حكمة إلهية : { وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى } أي : بالبشارة بالولد والنافلة ، وهم الملائكة . بعثوا لنصر لوط وتبشيره بهلاك قومه : { قَالُوا } أي : لإبراهيم عليه السلام : { إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ } أي : قرية سدوم : { إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ } أي : بتنزيلهم الرجال منزلة النساء ، وقطع السبل ، وفعل المنكر وترك المعروف : { قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } أي : الباقين في العذاب أو القرية : { وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا } أي : المذكورون بعد مفارقتهم لإبراهيم عليه السلام : { لُوطاً سِيءَ بِهِمْ } أي : اعترته المساءة بسببهم مخافة أن يقصدوهم : { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً } أي : ضاق بشأن ذرعه ، أي : طاقته : { وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ } أي : مما يصيبهم من العذاب : { إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ } [ 34 - 38 ] .
{ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ } أي : عذابا عظيما من جهتها : { بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } يعني قصتها العجيبة ، أو آثارها الخربة : { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ } أي : توقعوه ، وما سيقع فيه من فنون الأهوال : { وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ } أي : بالبغي على أهلها ، كنقص المكيال والميزان ، وقطع الطريق على الناس ، فإن عاقبة ذلك الدمار : { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } أي : الصيحة التي هي منشأ الزلزلة الشديدة : { فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ } أي : بلدهم أو منازلهم : { جَاثِمِينَ } أي : هلكى ميتين : { وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ } أي : عقلاء متمكنين من النظر والافتكار بواسطة الرسل عليهم السلام ، فإنهم أوضحوا السبل ، فلم يكن لهم في ذلك عذر ، ولكنهم لم يفعلوا ، عناداً وكبراً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ 39 - 40 ] .
{ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ } أي : فائتين الله سبحانه . بل لحقهم عذابه فدمرهم تدميراً . ولذا قال : { فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً } أي : ريحاً عاصفاً ، فيها حصاء ، وهم قوم لوط : { وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ } كمدين وثمود : { وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ } كقارون : { وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا } كقوم نوح وفرعون وقومه : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي : يفعل ما يوجب ذلك ، من البغي والفساد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } [ 41 - 44 ] .
{ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً } أي : تعتمد على قوته وتظنه محيطاً بها ، دافعاً عنها الحرّ والبرد : { وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ } أي : أضعفها : { لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ } أي : لأنه لا يحتمل مسّ أدنى الحيوانات وأضعف الرياح . ولا يدفع شيئاً من الحرّ والبرد . وهذا مثلهم : { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } أي : شيئاً ما . أو إن أولياءهم أوهى [ في المطبوع : أوهي ] من ذلك ثم الغرض من التشبيه هو تقرير وهن دينهم ، وإنه بلغ الغاية فيه ، وهو إما تشبيه مركب من الهيئة المنتزعة ، فمدار قطب التمثيل على أن أولياءهم بمنزلة نسج العنكبوت في ضعف الحال وعدم الصلاحية للاعتماد . وعلى هذا فقوله : { وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ } تذييل يعرّف الغرض من التشبيه . وقوله : { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } إيغال في تجهيلهم . لأنهم لا يعلمونه مع وضوحه لدى من له أدنى مسكة . وإما أن يكون من تشبيه المفرد ، لأن المقصود بيان حال العابد والمعبود . وفي الآية لطائف بيانية ذكرت في المطولات . وقوله : { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ } بالياء والتاء في تدعون قراءتان . وما إما استفهامية منصوبة بيدعون ومن الثانية للتبيين . أو نافية ومن مزيدة . وشيء مفعول تدعون أو مصدرية بمعنى الدعوة وشيء مصدر بمعناه أيضاً . أو موصولة مفعول ليعلم ومفعول يدعون عائده المحذوف . والكلام على الأولين تجهيل لهم وتوكيد للمثل . وعلى الآخرين وعيد لهم . أفاده القاضي : { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ } يعني هذا المثل ونظائره في التنزيل : { نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ } أي : ليقرب ما بعد من أفهامهم . فإن الأمثال والتشبيهات طرق تبرز فيها المعاني المحتجبة للأفهام : { وَمَا يَعْقِلُهَا } أي : يدرك حسنها وفوائدها : { إِلَّا الْعَالِمُونَ } أي : الراسخون في العلم الكاملون فيه . وعن عَمْرو بن مرة قال : ما مررت بآية من كتاب الله لا أعرفها ، إلا أحزنني . لأني سمعت الله تعالى يقول : { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ } : { خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ } أي : محقّاً مراعياً للحكم والمصالح ، مقدساً عن أن يقصد به باطلاً . فالباء للملابسة ، والجار والمجرور حال . وهذا كقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ } [ الدخان : 38 ] ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ 45 - 46 ] .
{ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ } أي : تقرباً إلى الله تعالى بقراءته ، وتحفظاً لألفاظه ، واستكثاراً لما في تضاعيفه من المعاني . فإن القارئ المتأمل قد ينكشف له بالتكرار ما لم ينكشف له أول ما قرع سمعه . وتذكيراً للناس ، وحملاً لهم على العمل بما فيه ، من الأحكام ومحاسن الآداب ومكارم الأخلاق : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } أي : تكون سبباً للانتهاء عن ذلك . ففيه تجوز في الإسناد . فإن قلت : كم من مصلّ يرتكب ولا تنهاه صلاته ! قلت : الصلاة التي هي الصلاة عند الله ، المستحق بها الثواب ، أن يدخل فيها مقدماً للتوبة النصوح متقياً ، لقوله تعالى : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } ويصليها خاشعاً بالقلب والجوارح . ثم يحوطها بعد أن يصليها ، فلا يحبطها ، فهي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من لم تأمره صلاته بالمعروف ، وتنهه عن المنكر ، لم يزدد بصلاته من الله إلا بعداً .
عن الحسن رحمه الله : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، فليست صلاته بصلاة ، وهي وبال عليه . أفاده الزمخشري . وقوله تعالى : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } قال الزمخشري : أي : وَلَلصلاةُ أكبر من غيرها من الطاعات ، وسماها بذكر الله ، كما قال : { فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } [ الجمعة : 9 ] ، وإنما قال : ولذكر الله ليستقل بالتعليل . كأنه قال : وللصَلَاةٌ أكبر ، لأنها ذكر الله . أو : ولذكر الله عند الفحشاء والمنكر ، وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما ، أكبر . فكان أولى بأن يَنْهَى من اللطف الذي في الصلاة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، ولذكر الله إياكم برحمته ، أكبر من ذكركم إياه بطاعته . انتهى . فذكر على الأولين مصدر مضاف للمفعول . وعلى ما بعدهما مضاف للفاعل ، والمفعول محذوف . والمفضل عليه في الأولين غيره من الطاعات . وفي الأخير قوله : من ذكركم .
وقال الرازيّ : لما ذكر تعالى أمرين ، وهما تلاوة الكتاب وإقامة الصلاة ، بيّن ما يوجب أن يكون الإتيان بهما على أبلغ وجوه التعظيم ، فقال : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } وأنتم إذا ذكرتم آبائكم بما فيهم من الصفات الحسنة ، تنبشّون لذلك وتذكرونهم بملء أفواهكم وقلوبكم . لكن ذكر الله أكبر ، فينبغي أن يكون على أبلغ وجه التعظيم . أما الصلاة فكذلك . لأن الله يعلم ما تصنعون . وهذا أحسن صنعكم . فينبغي أن يكون على وجه التعظيم . وفي قوله : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } مع حذف بيان ما هو أكبر منه ، لطيفة . وهي أن الله لم يقل : أكبر من ذكر فلان ، لأن ما نسب إلى غيره بالكبر فله إليه نسبة . إذ لا يقال الجبل أكبر من خردلة وإنما يقال : هذا الجبل أكبر من هذا الجبل . فأسقط المنسوب كأنه قال : ولذكر الله له الكبر لا لغيره , وهذا كما يقال في الصلاة : الله أكبر أي : له الكبر لا لغيره . انتهى .
ولما بيّن تعالى طريقة إرشاد المشركين ، ونفع من انتفع ، وحصول اليأس ممن امتنع ، بيّن طريقة إرشاد أهل الكتاب بقوله : { وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي : بالخصلة التي هي أحسن . وهي اللين والأناة : { إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } أي : بالاعتداء ، بأن أفحشوا في المقال وأقذعوا في الجدال ، فلا حرج في مقابلتهم بالعنف ، لتنكبهم عن جادة اللطف . وهذا كما قال تعالى : { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ } [ النساء : 148 ] ، وهذه الآية أصل في آداب المناظرة والجدل : { وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي : مطيعون له خاصة . وفيه تعريض باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله .
قال ابن كثير : يعني إذا أخبروا بما لا يعلم صدقه ولا كذبه , فهذا لا يقدم على تكذيبه ، لأنه قد يكون حقاً . ولا على تصديقه ، فلعله أن يكون باطلاً . ولكن يؤمن به إيماناً مجملاً معلقاً على شرط . وهو أن يكون منزلاً ، لا مبدلاً مؤوّلاً . وروى البخاري عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم . وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون > . وهذا الحديث تفرد به البخاري .
وروى الإمام أحمد عن أبي نملة الأنصاري مرفوعاً : < إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم . وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله . فإن كان حقّاً لم تكذبوهم , وإن كان باطلاً لم تصدقوهم > . ثم ليعلم أن أكثر ما يتحدثون به غالبه كذب وبهتان . لأنه قد دخله تحريف وتبديل وتغيير وتأويل . وما أقل الصدق فيه . ثم ما أقل فائدة كثير منه ، لو كان صحيحاً .
روى البخاري عن ابن عباس قال : كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء ، وكتابكم الذي أنزل إليكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث . تقرؤونه محضاً لم يُشَبْ . وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا وغيّروا ، وكتبوا بأيدهم الكتاب ، وقالوا : هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً . ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم ؟ لا ، والله ! ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل عليكم .
وقال البخاري : وقال أبو اليمان : أخبرنا شعيب عن الزهري . أخبرني حميد ابن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث رهطاً من قريش بالمدينة . وذكر كعب الأحبار فقال : إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب . وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب . معناه أنه يقع منه الكذب من غير قصد . لأنه يحدث عن صحف هو يحسن بها الظن ، وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة . لأنهم لم يكن في ملتهم حفاظ متقنون كهذه الأمة العظيمة . ومع ذلك . وقرب العهد , وضعت أحاديث كثيرة في هذه الأمة ، لا يعلمها إلا الله عز وجل . ومن منحه الله علماً علم بذلك كل بحسبه . ولله الحمد والمنة . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } [ 47 - 48 ] .
{ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ } أي : مثل ذلك الإنزال ، أنزلنا إليك الكتاب . أي : أنزلناه مصدقاً لسائر الكتب السماوية : { فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ } أي : العرب : { مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } أي : فإن ظهور هذا الكتاب الجامع لما يكفل سعادة الدارين في شرائعه وقضاياه ، على أميّ لم يعرف بالقراءة والتعلم ، خارق للعادة . وذكر اليمين زيادة تصوير للمنفي ، ونفي للتجوز في الإسناد : { إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } أي : لو كنت ممن يخط ويقرأ ، لقالوا : لعله تعلمه أو كتبه بيده ، من كتبٍ مأثورة عن الأنبياء .
تنبيه :
قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب . وفيها ردّ على من زعم أنه كتب . انتهى .
وقال ابن كثير : وهذه صفته في الكتب المتقدمة . كما قال تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ } [ الأعراف : 157 ] ، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائماً لا يحسن الكتابة ولا يخط سطراً ولا حرفاً بيده . بل كان له كتَّابٌ يكتبون بين يديه الوحي والرسائل إلى الأقاليم . ومن زعم ، من متأخري الفقهاء ، كالقاضي ابن الوليد الباجي ومن تابعه ، أنه عليه السلام كتب يوم الحديبية : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله . فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري : ثم أخذ فكتب وهذه محمولة على الرواية الأخرى : ثم أمر فكتب ولهذا اشتد النكير من فقهاء المشرق والمغرب على من قال بقول الباجي ، وتبرأوا منه وأنشدوا في ذلك أقوالاً وخطبوا به في محافلهم . وإنما أراد الرجل أعني الباجي فيما يظهر عنه . أنه كتب ذلك على وجه المعجزة . لا أنه كان يحسن الكتابة . وما أورده بعضهم من الحديث ؛ أنه لم يمت صلى الله عليه وسلم حتى تعلم الكتابة ، فضعيف لا أصل له . انتهى .
وقال الشهاب : وممن ذهب إلى أنه كان يحسن الكتابة ، أبو ذرّ الهروي وأبو الفتح النيسابوري وأبو الوليد الباجي من المغاربة . وصنف فيه كتاباً ، سبقه إليه ابن منبه . ولما قال أبو الوليد ذلك ، طعن فيه ورمي بالزندقة وسب على المنابر ، ثم عقد له مجلس فأقام الحجة على مدعاه وكتب به إلى علماء الأطراف . فأجابوا بما يوافقه . وأن معرفة الكتابة بعد أميّتِهِ لا تنافي المعجزة . بل هي معجزة أخرى . لكونها من غير تعليم . ورد الإمام محمد بن مفوز كتاب الباجي لما في الحديث الصحيح : < إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب > وقال : كل ما ورد في الحديث من قوله : كتب فمعناه أمر بالكتابة . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ } [ 49 - 50 ] .
{ بَلْ هُوَ } أي : القرآن : { آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } أي : العلماء به وحفاظه . وهما من خصائص القرآن كون آياته بينات الإعجاز ، وكونه محفوظاً في الصدور ، يتلوه أكثر الأمة ظاهراً . بخلاف سائر الكتب . فإنها لم تكن معجزات ، وما كانت تقرأ إلا من المصاحف . ومنه ما جاء في صفة هذه الأمة < صدورهم أناجيلهم > . كذا في الكشاف { وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ } يعنون ما كانوا يقترحونه في تعنتهم : { قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ } أي : هو يملك إنزالها ، ولو شاء لفعل : { وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ } أي : ليس من شأني إلا الإنذار وإبانته ، لا الإتيان بما تقترحونه . ثم أشار إلى أن في آية تنزيل الكتاب ، غنية عن كل آية مقترحة . لما أن الدور انقلب من الآيات الآفاقية ، إلى الآيات العلمية ، وفاقاً لسنة الترقي ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ } [ 51 - 56 ] .
{ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ } أي : آية مغنية عما اقترحوه : { أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } أي : وفيه نفسه من الآيات والمعجزات ما لا يرتاب معه إلا من سفه نفسه ، وكابر حسه : { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : الكتاب الذي هو آية مستمرة وحجة بالغة ظاهرة : { لَرَحْمَةً } أي : لنعمة عظيمة في هدايته إلى الحق و إلى صراط مستقيم : { وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي : تذكرة لقوم ، همهم الإيمان دون التعنت : { قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً } أي : إني قد بلغتكم ما أرسلت به إليكم وأنذرتكم ، وإنكم قابلتموني بالجحد والتكذيب . يعني . كفى علمه بذلك . وجوز أن يكون المعنى شهيداً بصدقي بالتأييد والحفظ ، أي : هو شاهد على ما جئت به ، مصدق له تصديق الشاهد لدعوى المدعي .
قال ابن كثير : أي : فلو كنت غير محقّ ، لانتقم مني ، كما قال تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 44 - 47 ] ، وإنما أنا صادق عليه فيما أخبرتكم به . ولهذا أيدني بالمعجزات الواضحات والدلائل القاطعات . انتهى { يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : فلا يخفى عليه حالي وحالكم : { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ } أي : استهزاء : { وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً } أي : لكل عذاب أو قوم ، وهو وقته المعين له فيهما : { لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ } أي : عاجلاً : { وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً } أي : فجأة في الدنيا . كوقعة بدر . فقد كانوا لغرورهم لا يتوقعون غلبة المسلمين . أو في الآخرة عند نزول الموت بهم : { يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } أي : ستحيط بهم . أي : يستعجلونك بالعذاب وهو واقع بهم لا محالة . أو هي كالمحيطة بهم . لأن كل آت قريب .
{ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : جزاءه : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ } وهذا خطاب لمن لم تمكنه عبادته تعالى وحده في أرضه ، لإِيذائه في الله واضطهاده في جانبه ، أن يهاجر عنها إلى بلد ما ، يقدّر أنه فيه أسلم قلباً ، وأصح ديناً ، وآمن نفساً . وأن يتجنب المقام في بلده على تلك الحالة ، كيلا يفتنه الكافرون . أو يعرض نفسه للتهلكة ، وقد جعل له منها مخرج . وكون أرض الله واسعة ، مذكور للدلالة على المقدر . وهو كالتوطئة لما بعده . لأنها مع سعتها ، وإمكان التفسح فيها ، لا ينبغي بأرض لا يتيسر بها للمرء ما يريده . كما قيل :
~وكل مكان ينبت العز طيب
وقال آخر :
~إذا كان أصلي من ترابٍ فكلُّها بلادي ، وكلُّ العالمين أقاربِي
وقد روى الإمام أحمد عن الزبير : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < البلاد بلاد الله والعباد عَبَّاد الله . فحيثما أصبت خيراً فأقم > . ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم ، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك فوجدوا خير نزل بها ، عند ملكها النجاشيّ رحمه الله . ثم بعد ذلك هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الباقون إلى المدينة المنورة ، عملاً بالآية الكريمة . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } [ 57 - 61 ] .
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } تحريض على العبادة وإخلاص الدين بتذكير الموت والرجعى . أو تسلية للمهاجر إلى الله ، وتشجيع له ، بأن لا يثبطه عن هجرته خوف الموت بسببها . فلا المقام بأرضه يدفعه ، ولا هجرته عنه تمنعه . وفيه استعارة بديعة لتشبيه الموت بأمر كريه الطعم ، مُرِّه : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا } أي : على مفارقة الأوطان والهجرة لأجل الدين . وعلى أذى المشركين وعلى المحن والمصائب : { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } ثم أشار تعالى إلى كفالته لمن هاجر إليه ، من الفقر والضيعة ، بقوله سبحانه : { وَكَأَيِّنْ } أي : وكم : { مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا } أي : لا تطيق أن تحمله لضعفها عن حمله : { اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } أي : يقيّض لها رزقها على ضعفها ، ويرزقكم مع قوتكم واجتهادكم . فهو الميسّر والمسهّل لكل مخلوق من رزقه ما يصلحه . فلا يختص رزقه ببقعة دون أخرى ، بل خيره عامّ وفضله شامل لخلقه ، حيث كانوا وأنَّى وجدوا . وقد ظهر مصداق كفالته تعالى لأولئك المهاجرين ، بما وسع عليهم وبسط لهم من طيب الرزق ورغد العيش وسيادة البلاد في سائر الأمصار . وهذا معنى ما ورد مرفوعاً : < سافروا تصحوا وتغنموا > رواه البيهقيّ : { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ } يعني هؤلاء المشركين الذين يعبدون معه غيره : { مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } أي : اعترافاً بأنه المنفرد بخلقها : { فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي : فكيف مع هذا الاعتراف يصرفون عن عبادته وحدَه ، ويشركون به [ في المطبوع : بها ] ما لا يضر ولا ينفع . وكثيراً ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية . وقد كان المشركون يعرفون بذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [ 62 - 64 ] .
{ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : فيفعل بعلمه ، ما تقتضيه حكمته { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ } أي : على أن جعل الحق بحيث لا يجترئ المبطلون على جحوده . وأنه أظهر حجتك عليهم . والمعنى : احمد الله عن جوابهم المذكور على إلزامهم وظهور نِعَمٍ لا تحصى : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُون } أي : فلذلك يتناقضون حيث ينسبون النعمة إليهم ، ويعبدون غيره . وقوله : { وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ } إشارة إلى ازدراء الدنيا وتحقير شأنها ، وكونها في سرعة زوالها ، وتقضّي أمرها ، كما يلهّى ويلعب به الصبيان ، ثم يتفرقون عنه . ولا ثمرة إلا التعب . ففي الحصر تشبيه بليغ : { وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ } أي : دار الحياة الخالدة . ففيه مضاف مقدر . والحيوان مصدر سميّ به ذو الحياة ، في غير هذا المحل . وإيثاره على الحياة لما فيه من البالغة . لأن فعلان بالفتح في المصادر الدالة على الحركة : { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } أي : لم يؤثروا عليها الدنيا التي حياتها عارضة . وهذا جواب الشرط المقدر . لعلمه من السياق . وكونُها للتمني بعيد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ } [ 65 - 67 ] .
{ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } أي : الدعاء . لعلمهم أنه لا ينجيهم من الغرق سواه : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ } أي : من نعمة النجاة وربح التجارة : { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } أي : عاقبة ذلك حين يعاقبون : { أَوَلَمْ يَرَوْا } أي أهل مكة : { أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً } أي : لا يُغْزى أهله ، ولا يغار عليهم ، مع قلتهم وكثرة العرب : { وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } أي : يختلسون قتلاً ونهباً وسبياً : { أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ } أي : أفبعد هذه النعمة الظاهرة وغيرها من النعم ، التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى ، يكفرون خيره ، ويشركون معه غيره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [ 68 - 69 ] .
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } بأن زعم أن له شريكاً : { أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ } يعني الرسول أو الكتاب : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ } أي : موضع إقامة ، جزاء افترائهم وكفرهم . بلى : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا } أي : جاهدوا النفس والشيطان والهوى وأعداء الدين ، من أجلنا ولوجهنا : { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } أي : سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا . وذلك بالطاعات والمجاهدات : { وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } أي : أعمالهم بالنصر والمعونة .(/)
سورة الروم
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الم غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } . [ 1 - 6 ]
{ غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِين }
اتفق المؤرخون من المسلمين وأهل الكتاب على أن ملك فارس كان غزا بلاد الشام ، وفتح دمشق ، وبيت المقدس ، الأولى سنة 613 ، والثانية سنة 614 ؛ أي : قبل الهجرة النبوية بسبع سنين - فحدث أن بلغ الخبر مكة ، ففرح المشركون ، وشمتوا بالمسلمين ، وقالوا : أنتم والنصارى أهل كتاب ، ونحن وفارس وثنيون ، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم ، ولنظهرنّ عليكم ، فنزلت الآية ، فتليت على المشركين ، فأحال وقوع ذلك بعضهم ، وتراهن مع الصديق رضي الله عنه على مائة قلوص ، إن وقع مصداقها ، فلم يمضِ من البضع - وهو ما بين الثلاث إلى التسع - سبع سنين إلا وقد نظم هرقل جنود الروم وغزا بهم بلاد فارس سنة 621 ؛ أي : قبل الهجرة بسنة ، فدوّخها ، واضطر ملكها للهرب ، وعاد هرقل بالغنائم الوافرة .
ولا ريب أن ذلك أعظم معجزات القرآن ؛ أعني إخباره عن غيب وقع مصداقه ، واستبان للجاحدين من نوره إشراقه ، وفي ضمنه أن سائر غيوبه كذلك من ظهور الإسلام على الدين كله ، وزهوق الباطل ، وعلوّ الحق ، وجعل المستضعفين أئمة ، وإيراثهم أرض عدوّهم ، إلى غير ذلك .
وما ألطف ما قال الزبير الكلائيّ : رأيت غلبة فارس الرومَ ، ثم رأيت غلبة الروم فارسَ ، ثم رأيت غلبة المسلمين فارسَ والرومَ ، كل ذلك في خمس عشرة سنة - من أواخر غلبة فارس إلى أوائل غلبة المسلمين - والأرض ، كما قال الزمخشري : أرض العرب ؛ لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم . والمعنى : غلبوا في أدنى أرض العرب أي : أقربها منهم ، وهي أطراف الشام : { لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْل } أي : من قبل غلبة فارس على الروم : { وَمِن بَعْدُ } أي : من بعد غلبة الروم على فارس . ويقال : لله العلم والقدرة والمشيئة من قبل إبداء الخلق ، ومن بعد إفناء الخلق ، والمعنى : أن كلاً من كونهم مغلوبين أولاً ، وغالبين آخراً ، ليس إلا بأمره وقضائه ، وعلمه ومشيئته ، كما قال تعالى : { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } [ آل عِمْرَان : 140 ] .
{ وَيَوْمَئِذٍ } أي : يوم إذ يغلب الروم على فارس ، ويحل ما وعده الله تعالى من غلبتهم { يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ } أي : تغليبه من له كتاب على من لا كتاب له ، وغيظ من شمت بهم من كفار مكة . ويقال : نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين : { يَنصُرُ مَن يَشَاء } أي : من عباده على عدوه : { وَهُوَ الْعَزِيزُ } أي : القاهر الغالب على أمره ، لا يعجزه من شاء نصره : { الرَّحِيمُ } أي : من نصره وتغليبه من يشاء : { وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } أي : بحكمته تعالى ، في كونه وأفعاله المحكمة ، الجارية على وفق العدل ، لجهلهم وعدم تفكرهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ * أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ } . [ 7 - 8 ]
{ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وهو ما يوافق شهواتهم وأهواءهم : { وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ } أي : التي هي المطلب الأعلى : { هُمْ غَافِلُونَ } أي : لا يُخطرونها ببالهم ، فهم جاهلون بها تاركون لعملها .
لطائف :
قال الزمخشري : قوله تعالى : { يَعْلَمُوْنَ } بدل من قوله : { لَاْ يَعْلَمُوْنَ } وفي هذا الإبدال من النكتة ، أنه أبدل منه وجعله بحيث يقوم مقامه ، ويسدّ مسدّه ، ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل ، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا . وقوله : { ظَاهِراً } يفيد أن للدنيا ظاهراً وباطناً ، فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها ، وباطنها وحقيقتها أنها مجازٌ إلى الآخرة ، يتزود منها إليها بالطاعة ، والأعمال الصالحة . انتهى .
وناقش الكرخي في إبدال : { يَعْلَمُوْنَ } قال : إن الصناعة لا تساعد عليه ؛ لأن بدل فعل مثبت من فعل منفيٍّ لايصح . واستظهر قول الحرفيّ ؛ أن : { يَعْلَمُوْنَ } استئناف في المعنى . وأشار الناصر إلى جوابه بأن في تنكير : { ظَاهِراً } تقليلا لمعلومهم . وتقليلُه يقربه من النفي ، فيطابق المبدل منه .
أقول : التقليل هو الوحدة المشار لها بقول الزمخشري : وفي تنكير الظاهر أنهم لا يعلمون إلا ظاهراً واحداً ، من جملة الظواهر .
أما قول أبي السعود : وتنكير : { ظَاهِراً } للتحقير والتخسيس دون الوحدة كما توهم . فغفلة عن مشاركتها للتعليل الذي به يطابق البدل المبدل منه . فافهم .
ثم أنكر عليهم قصر نظرهم على ما ذكر من ظاهر الحياة الدنيا ، مع الغفلة عن الآخرة بقوله : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ } أي : يحدثوا التفكر في أنفسهم ، الفارغة من الفكر والتفكر . فالمجرور ظرف للتفكر ، ذكره لزيادة التصوير ؛ إذ الفكر لا يكون إلا في النفس ، والتفكر لا متعلق له ؛ لتنزيله منزلة اللازم . وجوز كون المجرور مفعول : { يَتَفَكَّرُوْا } لأنه يتعدى بـ " في " أي : أو لم يتفكروا في أمر أنفسهم . فالمعنى حثهم على النظر في ذواتهم وما اشتملت عليه من بديع الصنع ، وقوله تعالى : { مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ } متعلق بقولٍ أو علمٍ ، يدل عليه السياق ؛ أي : ألم يتفكروا فيقولوا أو فيعلموا .
وقال السمين : { مَاْ } نافية ، وفي هذه الجملة وجهان : أحدهما - أنها مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها . والثاني - أنها معلقة للتفكر . فيكون في محل نصب على إسقاط الخافض . انتهى . والباء في قوله : { بِالْحَقِّ } للملابسة ؛ أي : ما خلقها باطلاً ولا عبثاً بغير حكمةٍ بالغةٍ ، ولا لتبقى خالدة ، وإنما خلقها مقرونة بالحق ، مصحوبة بالحق : { وَأَجَلٍ مُّسَمًّى } أي : وبتقدير أجلٍ مسمى ، لا بدّ لها من أن تنتهي إليه ، وهو قيام الساعة ، ووقت الحساب ، والثواب ، والعقاب . ولذا عطف عليه قوله : { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُو ن *اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ } . [ 9 - 12 ]
{ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ } أي قلبوها للزراعة ، واستخراج المعادن ، وغيرهما ، مما كانوا أرقى فيه من أهل مكة : { وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا } أي : بالأبنية المشيدة ، والصناعات الفريدة ، ووفرة العَدد والعُدد ، وتنظيم الجيوش , والتزيّن بزخارف أُعجبوا بها ، واستطالوا بأبهتها ، ففسدت ملكاتهم ، وطغت شهواتهم ، حتى اقتضت حكمته تعالى إنذارهم بأنبيائهم ، كما قال : { وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ } أي : الآيات الواضحات على حقيقة ما يدعونهم إليه : { فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ } أي : فكذبوهم فأهلكهم ، فما كان الله ليهلكهم من غير جرم منهم : { وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا } أي : عملوا السيئات : { السُّوأَى } أي : العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة ، وهي جهنم ، و : { السُّوأَى } تأنيث الأسوأ ، وهو الأقبح ، كما أن الحسنى تأنيث الأحسن ثم علل سوء عاقبتهم بقوله تعالى : { أَنْ } أي : لأن : { كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُو ن *اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْق } أي : ينشئهم : { ثُمَّ يُعِيدُهُ } أي : بعد الموت بالبعث : { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي : إلى موقف الحساب والجزاء : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ } أي : يسكتون متحيرين يائسين . يقال أبلس ، إذا سكت وانقطعت حجته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ * وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ * فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ } [ 13 - 18 ]
{ وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء } أي : يجيرونهم من عذاب الله ، كما كانوا يزعمون : { وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ } أي : بإلهيتهم وشركتهم لله تعالى ، حيث وقفوا على كنه أمرهم : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } أي : يتميز المؤمنون والكافرون في المحال والأحوال : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ } أي : يسرّون : { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } أي : لا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ } لما ذكر الوعد والوعيد ، تأثره بما هو وسيلة للفوز والنجاة ، من تنزيهه تعالى عما لا يليق به ، والثناء عليه بصفاته الجميلة ، وأداء حق العبودية ، والفاء للتفريع فكأنه قيل : إذا صح واتضح عاقبة المطيعين والعاصين ، فقولوا : نسبح سبحان الخ . والمعنى فسبحوه تسبيحاً دائماً . وسبحان : خبر في معنى الأمر بتنزيه الله تعالى وحمده ؛ أي : الثناء عليه في هذه الأوقات التي تظهر فيها قدرته ، وتتجدد فيها نعمته .
وقوله تعالى : { وَعَشِيّاً } معطوف على : { حِينَ } وتقديمه على : { حِينَ تُظْهِرُونَ } لمراعاة الفواصل ، وقوله : { وَلَهُ الْحَمْدُ } معترض بينهما . والمراد بثبوت حمده فيهما ، استحقاقه الحمد ممن له تمييز من أهلها . قال أبو السعود : والإخبار بثبوت الحمد له ، ووجوبه على المميزين من أهل السموات والأرض ، في معنى الأمر به على أبلغ وجه وآكده ، وتوسيطه بين أوقات التسبيح ، للاعتناء بشأنه ، والإشعار بأن حقهما أن يجمع بينهما ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } [ البقرة : 30 ] ، وقوله تعالى : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } [ الحجر : 98 ] ، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الآية جامعة للصلوات الخمس :
{ تُمْسُوْنَ } : صلاة المغرب والعشاء . و : { تُصْبِحُوْنَ } : صلاة الفجر . و : { عَشِيّاً } صلاة العصر . و : { تُظْهِرُوْنَ } : صلاة الظهر . فإن قيل : لم غيّر الأسلوب في : { عَشِيّاً } ؟ أجيب ، كما قال أبو السعود : بأن تغير الأسلوب لما أنه لا يجيء منه الفعل بمعنى الدخول في العشي ، كالمساء والصباح والظهيرة ، ولعل السرّ في ذلك أنه ليس من الأوقات التي تختلف فيها أحوال الناس ، وتتغير تغيراً ظاهراً مصححاً ؛ لوصفهم بالخروج عما قبلها ، والدخول فيها ، كالأوقات المذكورة . فإن كلاً منها وقت تتغير فيه الأحوال تغيراً ظاهراً , أما في المساء والصباح فظاهر ، وأما في الظهيرة فلأنها وقت يعتاد فيه التجرد عن الثياب للقيلولة ، كما مر في سورة النور . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } . [ 19 - 21 ]
{ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } أي : كالْإِنْسَاْن من النطفة ، والطائر من البيضة : { وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ } كالنطفة والبيضة من الحيوان : { وَيُحْيِي الْأَرْض } أي : بالنبات : { بَعْدَ مَوْتِهَا } أي : يبسها : { وَكَذَلِك } أي : ومثل ذلك الإخراج : { تُخْرَجُونَ } أي : من قبوركم .
وقال المهايمي : أي : بالصلاة عن موت القلب إلى حياته ، ومن حياة النفس إلى موتها . ويحيي أرضها بنبات الهيئات الفاضلة ، بعد موتها بالهيئات الرديئة . وبالعكس بتركها . وآثر هذا المعنى ، على بعده ، مراعاة لسياق الآية ، ومن طريق الإشارة : { وَمِنْ آيَاتِهِ } أي : الباهرة الدالة على قدرته على البعث : { أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ } أي : يعني أصلكم آدم عليه السلام , أو النطفة والمادة , أو على تقدير مضاف ؛ أي : ولا مناسبة بين التراب وبين ما أنتم عليه في ذاتكم , وصفاتكم : { ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } أي : في الأرض انتشاراً ملأ البسيطة وشمل الكرة ، فأخذتم في بناء المدائن والحصون ، والسفر في أقطار الأقاليم ، وركوب متن البحار ، والدوران حول كرة الأرض ، وكسب الأموال وجمعها ، مع فكرة ودهاء ، ومكر وعلم ، واتساع في أمور الدنيا والآخرة ، كلٌّ بحسبه .
فسبحان من خلقهم وسيرهم ، وصرفهم في فنون المعايش وفاوت بينهم في العلوم والمعارف ، والحسن والقبح ، والغنى والفقر ، والسعادة والشقاوة .
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ } أي : جنسكم : { أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا } أي : تأنسوا بها . فإن المجانسة من دواعي التضام والتعارف : { وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } أي : تواداً وتراحماً بعصمة الزواج ، بعد أن لم يكن لقاء ولا سبب يوجب التعاطف من قرابة أو رحم : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي : في بدائع هذه الأفاعيل المتينة المبنية على الحكم البالغة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } . [ 22 - 25 ]
{ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ } أي : أُولي العلم كما قال : { وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ } [ العنكبوت : 43 ] , : { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أي : لاستراحة القوى , ورد ما فقدته : { وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ } أي : بالسعي في الأسباب ، والأخذ في فضل الاكتساب : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أي : سماع تفهم واستبصار : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً } أي : من الصاعقة : { وَطَمَعاً } أي : في الغيث والرحمة ، أو لتخافوا من قهر سلطانه وتطمعوا في عظيم إحسانه : { وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ } أي : بالنبات : { بَعْدَ مَوْتِهَا } أي : يبسها : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ } أي : إرادته لقيامهما . قال أبو السعود : والتعبير عنها بالأمر ، للدلالة على كمال القدرة ، والغنى عن المبادئ والأسباب ، وليس المراد بإقامتهما إنشائهما ؛ لأنه قد بين حاله بقوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ الروم : 22 ] ، ولا إقامتهما بغير مقيم محسوس ، كما قيل ؛ فإن ذلك من تتمات إنشائهما ، وإن لم يصرح به ، تعويلاً على ما ذكر في غير موضع من قوله تعالى : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } [ لقمان : 10 ] الآية , بل قيامهما واستمرارهما على ما هما عليه ، إلى أجلهما الذي نطق به قوله تعالى فيما قبل : { مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً } [ الروم : 8 ] ، وحيث كانت هذه الآية متأخرة عن سائر الآيات المعدودة ، متصلة بالبعث في الوجود ، أخرت عنهن وجعلت متصلة به في الذكر أيضاً ، فقيل : { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } فإنه كلام مسوق للإخبار بوقوع البعث ووجوده ، بعد انقضاء أجل قيامهما ، مترتب على تعداد آياته الدالة عليه ، غير منتظم في سلكها كما قيل . كأنه قيل : ومن آياته قيام السماوات والأرض على هيآتهما بأمره تعالى ، إلى أجل مسمى قدره الله تعالى لقيامهما ، ثم إذا دعاكم ؛ أي : بعد انقضاء الأجل من الأرض ، وأنتم في قبوركم ، دعوة واحدة ، بأن قال : أيها الموتى ! اخرجوا ، فاجأتم الخروج منها [ ؟ ؟ ] ، وذلك قوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ } [ طه : 108 ] ، انتهى .
لطائف :
الأولى - الدعاء : إما على حقيقته ، أو الكلام تمثيل ، شبه سرعة ترقب حصول ذلك ، على تعلق إرادته بلا توقف ، واحتياج إلى تجشم عمل ، بسرعة ترقب إجابة الداعي المطاع على دعائه ، أو هو مكنية وتخييلية ، بتشبيه الموتى بقوم يريدون الذهاب إلى محل ملك عظيم يتهيؤون لذلك ، وإثبات الدعوة لهم قرينتها .
الثانية - قوله تعالى : { مِنَ الأَرْضِ } متعلق بـ : { دَعَا } كقوله : دعوته من أسفل الوادي فطلع إلي ، لا بـ : { تَخْرُجُوْنَ } ؛ لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبله .
الثالثة - قال الكرخي : قال هنا : { إٍذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ } وقال في خلق الْإِنْسَاْن : { ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ } [ الروم : 20 ] ، لأنه هناك يكون خلق وتقدير وتدريج ، حتى يصير التراب قابلاً للحياة ، فنفخ فيه الروح ، فإذا هو بشر ، وأما في الإعادة فلا يكون تدريج بل يكون بدء وخروج ، فلم يقل هنا : ثم . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ * وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 26 - 27 ].
{ وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : خلقاً وملكاً وتصرفاً : { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } أي : منقادون لتصرفه ، لا يتأبون عليه : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } أي : بعد موتهم . قال أبو السعود : وتكريره لزيادة التقرير ، والتمهيد لما بعده من قوله تعالى : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } أي : من البدء ؛ أي : بالقياس إلى من يقتضيه معقول المخاطبين ؛ لأن من أعاد منهم صنعة شيء ، كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها ، وإلا فهما عليه سبحانه سواء في السهولة .
لطائف :
الأولى - تذكير الضمير ، مع رجوعه إلى الإعادة ، لما أنها مؤولة بـ " أن يعيد " .
الثانية - قال الزمخشري : فإن قلت : لم أخرت الصلة في قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } وقدمت في قوله : { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [ مريم : 9 و 21 ] ؟ قلت : هناك قصد الاختصاص ، وهو محزّه . فقيل : { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [ مريم : 9 و 21 ] ، وإن كان مستصعباً عندكم أن يولد بين هم وعاقر ، وأما ههنا ، فلا معنى للاختصاص كيف ؟ والأمر مبني على ما يعقلون ، من أن الإعادة أسهل من الابتداء . فلو قدمت الصلة ، لتغيّر المعنى .
قال الناصر : كلام نفيس يستحق أن يكتب بذوب التبر ، لا بالحبر ، وإنما يلقى الاختصاص من تقديم ما حقه أن يؤخر .
الثالثة - قال الزمخشري : فإن قلت ما بال الإعادة استعظمت في قوله : { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ } [ الروم : 25 ] ، حتى كأنها فضلت على قيام السماوات والأرض بأمره ، ثم هونت بعد ذلك ؟ قلت : الإعادة في نفسها عظيمة ، لكنها هونت بالقياس إلى الإنشاء . انتهى .
قال الناصر : إنما يلقي في السؤال تعظيم الإعادة من عطفها بـ " ثم " إيذاناً بتغاير مرتبتها وعلوّ شأنها . وقوله - في الجواب - : إنها هونت بالنسبة إلى الإنشاء ، لا يخلص فن الإعادة ذكرت ههنا عقيب قيام السماوات والأرض بأمره ، وقيامهما ابتداء وإنشاء أعظم من الإعادة ، فيلزم تعظيم الإعادة بالنسبة إلى ما عطف عليه من الإنشاء ، ويعود الإشكال ، والمخلص ، والله أعلم ، جعْل : { ثُمَّ } على بابها لتراخي الزمان لا لتراخي المراتب ، وإن سلم أنها لتراخي المراتب ، فعلى أن تكون مرتبة المعطوف عليه العليا ، ومرتبة المعطوف هي الدنيا ، وذلك نادر في مجيئها لتراخي المراتب ، فإن المعطوف حينئذ في أكثر المواضع ، أرفع درجة من المعطوف عليه ، والله أعلم . انتهى .
وفي حواشي القاضي : إن : ثم ، إما لتراخي زمان المعطوف فتكون على حقيقتها ، أو لعظم ما في المعطوف من إحياء الموتى ، فتكون للتفاوت في الرتبة لا للتراخي الزماني ، والمراد عظمه في نفسه ، وبالنسبة إلى المعطوف عليه ، فلا ينافي قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } وكونه أعظم من قيام السماء والأرض ؛ لأنه المقصود من الإيجاد والإنشاء ، وبه استقرار السعداء والأشقياء في الدرجات والدركات ، وهو المقصود من خلق الأرض والسماوات . فاندفع اعتراض الناصر بأنه ، على تسليمه ، مرتبةُ المعطوف عليه هنا هي العليا ، مع أن كون المعطوف في مثله أرفع درجة ، أكثريٌّ لا كلي ، كما صرح به الطيبي هنا . فلا امتناع فيما منعه ، وهي فائدة نفيسة ، ويجوز حمله على مطلق البعد الشامل للزماني والرتبي كما في " شرح الكشاف " .
وقوله تعالى : { وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : الوصف الأعلى الذي ليس لغيره ما يدانيه فيهما ، كالقدرة العامة والحكمة التامة ، وذلك لأنه لما جعل ما ذكر أهون عليه على طريق التمثيل ، عقبه بهذا ، فكأنه قيل هذا ، لتفهم العقول القاصرة أن صفاته عجيبة وقدرته عامة وحكمته تامة ، فكل شيء بدءاً وإعادةً وإيجاداً وإعداماً ، عنده على حد سواء ، ولا مثل له ولا ند .
وقال الزجاج : المراد بالمثل قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } فاللام فيه للعهد ، فحمل المثل على ظاهره ، وعلى ما ذكر أولاً ، وهو مجاز عن الوصف العجيب ، فيشمل القول وغيره مما هو جار على ألسنة الدلائل ولسان كل قائل { وَهُوَ الْعَزِيزُ } أي : الغالب على أمره ، الذي لا يعجزه بدء ممكن وإعادته : { الْحَكِيمُ } الذي يجري أفعاله على سنن الحكمة والمصلحة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ } . [ 28 - 29 ]
{ ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً } أي : يتبين به بطلان الشرك : { مِنْ أَنفُسِكُمْ } أي : منتزعاً من أحوالها ، وهي أقرب الأمور إليكم وأظهر كشفا : { هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم } أي : من العبيد والإماء : { مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ } أي : من الأموال وغيرها : { فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء } أي : متساوون في التصرف فيما ذكر من غير مزية : { تَخَافُونَهُمْ } أي : تهابون أن تستبدوا بالتصرف فيه بدون رأيهم ، وهو خبر آخر لـ : { أَنْتُمْ } : { كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } أي : كما يخاف بعضكم بعضاً من الأحرار المساهمين لكم فيما ذكر , والمعنى نفي مضمون ما فصّل من الجملة الاستفهامية ؛ أي : لا ترضون بأن يشارككم فيما هو معار لكم ، مماليككم ، وهم أمثالكم في البشرية ، غير مخلوقين لكم ، بل لله تعالى ، فكيف تشركون به سبحانه في المعبودية ، التي هي من خصائصه الذاتية ، مخلوقه بل مصنوع مخلوقه ، حيث تصنعونه بأيديكم ثم تعبدونه ؟ أفاده أبو السعود : { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ } أي : مثل ذلك التفصيل الواضح ، توضح الآيات : { لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي : يقين وبرهان : { فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ } أي : سبب صرف اختياره إلى كسبه ؛ أي : لا يقدر على هدايته أحد : { وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ } أي : ينصرونهم من الله ، إذا أراد بهم عذاباً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } . [ 30 - 32 ]
{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ } أي : فقوّمه له ، واجعله مستقيماً متوجهاً له . وفي النظم الكريم استعارة تمثيلية ، بتشبيه المأمور بالتمسك بالدين ، ورعاية حقوقه ، وعدم مجاوزة حدوده والاهتمام بأموره ، بمن أمر بالنظر إلى أمر ، وعقد طرفه به ، وتسديد نظره وتوجيه وجهه له ، لمراعاته والاهتمام بحفظه : { حَنِيفاً } أي : مائلاً عن كل ما سواه إليه . قال المهايمي : ولا يعسر الرجوع إليه لكونه : { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } أي : لأن عقل كل واحد يدل على أنه حادث يفتقر إلى محدث ، ولا دلالة على الافتقار إلى متعدد أبداً . فالقول بتعدده تغيير للفطرة , لكن : { لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } أي : لا تغيير لأمر العقل الذي خلقه الله للاستدلال : { ذَلِكَ } أي : الدين المأمور بإقامة الوجه له ، أو الفطرة : { الدِّينُ الْقَيِّمُ } أي : المستقيم الذي لا عوج فيه . قال المهايمي : وإن لم يقم عند المبدلين دليل على استحالة التعدد ، فهذا هو مقتضى الفطرة : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } أي : أنه مقتضى الفطرة ، وهي أقطع قاطع وأحسم حاسم لشغب المشاغب ؛ لأنها من الأمور التي لا تدخل تحت الكسب والاختيار .
وقوله تعالى : { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ } أي : راجعين إليه بالتوبة والإنابة : { وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ } [ آل عِمْرَان : 135 ] ، وهو حال من فاعل الزموا ، المقدر ناصباً لـ : { فِطْرَةَ } أو من فاعل : { أَقِمْ } على المعنى ؛ إذ لم يرد به واحد بعينه , أو لأن الخطاب له صلّى الله عليه وسلم ، ولأمته ، أو على أنه على حذف المعطوف عليه ؛ أي : أقم أنت وأمتك ، والحال من الجميع : { وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ } أي : جعلوه أدياناً مختلفة ، لاختلاف أهوائهم : { وَكَانُوا شِيَعاً } أي : فرقاً : { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } أي : كل حزب منهم فرح بمذهبه ، مسرور ، يحسب باطله حقاً .
قال القاشاني : يعني المفارقين الدينَ الحقيقي ، المتفرقين شيعاً مختلفة ، كل حزب عند تكدّر الفطرة ، وتكاثف الحجاب ، يفرح بما يقتضيه استعداده من الحجاب ، لكونه مقتضى طبيعة حجابه ، فيناسب حاله من الاستعداد العارضي ، وإن لم يلائم الحقيقة بحسب الاستعداد ، ولهذا يجب به التعذيب عند زوال العارض .
ثم احتج عليهم برجوعهم إليه عند الشدائد ، ممايحمل أن يرجع إليه بعبادته دائما ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ * وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } . [ 33 - 36 ]
{ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ } أي : شدة : { دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ } أي : راجعين إليه وحده دون شركائهم : { ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً } أي : خلاصاً من تلك الشدة : { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ } أي : بالسبب الذي آتيناهم الرحمة من أجله ، وهو الإنابة ، واللام للعاقبة . وقيل : للأمر التهديدي ، كقوله تعالى : { فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أي : عاقبة تمتعكم ووباله .
{ أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً } أي : حجة واضحة قاهرة : { فَهُوَ يَتَكَلَّمُ } أي : تكلم دلالة ، كما في قوله تعالى : { هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ } [ الجاثية : 29 ] ، { بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ } أي : بإشراكهم ، وهذا استفهام إنكار ، أي : لم يكن شيء من ذلك : { وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً } أي : نعمة من صحة وسعة : { فَرِحُوا بِهَا } أي : بطراً وفخراً ، لا حمداً وشكراً : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أي : شدة : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي : من المعاصي والآثام : { إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } أي : ييأسون من روح الله قال : هذا إنكار على الْإِنْسَاْن من حيث هو ، إلا من عصمه الله تعالى ووفقه ، فإن الْإِنْسَاْن إذا أصابته نعمة بطر ، وقال : { ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } [ هود : 10 ] ، أي : يفرح في نفسه ، يفخر على غيره ، وإذا أصابته شدة قنط ، وأيس أن يحصّل بعد ذلك خير بالكلية قال الله تعالى : { إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ هود : 11 ] ، أي : صبروا في الضراء وعملوا الصالحات في الرخاء ، كما ثبت في " الصحيح " : < عجبا للمؤمن ، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيراً له ، إن أصابته سراء شكر ، فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر ، فكان خيراً له > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } . [ 37 ]
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } قال الزمخشري : أنكر عليهم بأنهم قد عملوا أنه هو الباسط القابض ، فما لهم يقنطون من رحمته ، وما لهم لا يرجعون إليه تائبين من المعاصي التي عوقبوا بالشدة من أجلها ، حتى يعيد إليهم رحمته ؟
ولما بين تعالى أن السيئة أصابتهم بما قدمت أيديهم ، أتبعه ذكرَ ما يجب أن يفعل ، وما يجب أن يترك ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } . [ 38 - 39 ]
{ فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } أي : من البر والصلة ، واستدل به أبو حنيفة رحمه الله على وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب ؛ لأن آتِ : أمر للوجوب . والظاهر من : الحق ، بقرينة ما قبله أنه ماليّ ، وهو استدلال متين : { وَالْمِسْكِينَ } وهو الذي لا شيء له ينفق عليه ، أو له شيء لا يقوم بكفايته : { وَابْنَ السَّبِيلِ } أي : السائل فيه ، والذي انقطع به ، وحقهما هو نصيبهما من الصدقة والمواساة : { ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ } أي : النظر إليه يوم القيامة ، وهو الغاية المقصوى ، أو يريدون ذاته بمعروفهم لا رياء ولا سمعة ، ولا مكافأة يد ، كما قال تعالى : { الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } [ الليل : 18 - 20 ] ، { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : في الدنيا والآخرة
{ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً } أي : مال ترابون فيه : { لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ } أي : ليزيد في أموالهم ؛ إذ تأخذون فيه أكثر منه : { فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ } أي : لا يزكو ولا ينمو ولا يبارك فيه ، بل يمحقه محق ما لا عاقبة له عنده إلا الوبال والنكال ، وذكر في تفسيرها معنى آخر ، وهو أن يهب الرجل للرجل ، أو يهدي له ليعوّضه أكثر مما وهب أو أهدى . فليست تلك الزيادة بحرام ، وتسميتها ربا مجاز ؛ لأنها سبب الزيادة .
قال ابن كثير : وهذا الصنيع مباح وإن كان لا ثواب فيه ، إلا أنه نهى عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم خاصة ، قاله [ في المطبوع : قال ] الضحاك ، واستدل بقوله تعالى : { وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } [ المدثر : 6 ] ، أي : لا تعط العطاء ، تريد أكثر منه . وقال ابن عباس : الربا رباءان ، فربا لا يصح ، يعني ربا البيع ، وربا لا بأس به ، وهو هدية الرجل ، يريد فضلها وإضعافها . انتهى .
وأقول : في ذلك كله نظر من وجوه :
الأول - أن هذه الآية شبيهة بآية : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } [ البقرة : 276 ] ، وهي في ربا البيع الذي كان فاشياً في أهل مكة حتى صار ملكة راسخة فيهم ، امتصوا بها ثروة كثير من البؤساء ، مما خرج عن طور الرحمة والشفقة والكمال البشري . فنعى عليهم حالهم ، طلبا لتزكيتهم بتوبتهم منه ، ثم أكد ذلك في مثل هذه الآية ؛ مبالغةً في الزجر .
الثاني - أن الربا ، على ما ذكر ، مجاز ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، إلا لصارف يرشد إليه دليل الشرع ، أو العقل ، ولا واحد منهما هنا ؛ إذ لا موجب له .
الثالث - دعوى أن الهبة المذكورة مباحة ، لا بأس بها بعد كونها هي المرادة من الآية بعيدة غاية البعد ؛ لأن في أسلوبها من الترهيب والتحذير ما يجعلها في مصاف المحرمات ، ودلالة الأسلوب من أدلة التنزيل القوية ، كما تقرر في موضعه .
الرابع - زعمُ أن المنهي عنه هو الحضرة النبوية خاصة ، لا دليل عليه إلا ظاهر الخطاب ، وليس قاطعاً ؛ لأن اختصاص الخطاب لا يوجب اختصاص الحكم على التحقيق ، لا يقال الأصل وجوب حمل اللفظ على حقيقته ، وحملُه على المجاز لا يكون إلا بدليل ، وكذا ما يقال إن ثبوت الحكم في غير محل الخطاب يفتقر إلى دليل - لأنا نقول : الأصل في التشريعات العموم ، إلا ما قام الدليل القاطع على التخصيص بالتنصيص ، وليس منه شيء هنا . وقد عهد في التنزيل تخصيص مراد به التعميم إجماعاً ، كآية : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ } [ الأحزاب : 1 ] ، وأمثالها .
الخامس - أن في هذا المنهي عنه من إصعاد المرء إلى ذروة المحسنين الأعفّاء ، الذين لا يتبعون قلوبهم نفقتهم ، ما يبيّن أنه شامل لسائرهم ، لما فيه من تربية إرادتهم وتهذيب أخلاقهم . بل لو قيل إن الخطاب له صلوات الله عليه ، والمراد غيره ، كما قالوه في كثير من الآي - لم يبعد ؛ لما تقرر من عصمته ونزاهته عن هذا الخلق ، في سيرته الزكية ، وحينئذ فالوجه في الآية هو الأول ، وعليه المعول . والله أعلم : { وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ } أي : مال تتزكون به من رجس الشح , ودنس البخل : { تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } أي : ذوو الأضعاف من الثواب ، جمع مُضْعِف ، اسم فاعل من أضعف ، إذا صار ذا ضعف - بكسرٍ فسكون - بأن يضاف له ثواب ما أعطاه ، كأقوى وأيسر ، إذا صار ذا قوة ويسار . فهو لصيرورة الفاعل ذا أصله ، أو الذين ضعفوا ثوابهم وأموالهم ببركة ما أنفقوا ، على أنه من أضعف والهمزة للتعدية ، ومفعوله محذوف ، وهو ما ذكر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } . [ 40 ]
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } قال القاضي : أثبت له تعالى لوازم الألوهية ، ونفاها رأسا عما اتخذوه شركاء له من الأصنام وغيرها ، مؤكداً بالإنكار على ما دل عليه البرهان والعيان ، ووقع عليه الوفاق ، ثم استنتج من ذلك تقدسه عن أن يكون له شركاء . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ * فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } . [ 41 - 43 ]
{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } أي : كثرة المضار والمعاصي على وجه الأرض , وعلى ظهر السفن في لجج البحر : { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } أي : من الآثام والموبقات ، ففشا الفساد ، وانتشرت عدواه وتوارثه جيل عن جيل أينما حلوا وحيثما ساروا : { لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } اللام للعاقبة ، أي : ظهور الشرور بسببهم ، مما استوجبوا به أن يذيقهم الله وبال أعمالهم ، إرادة الرجوع . وقيل اللام للعلة ، على معنى أن ظهور الجدب والقحط والغرق بسبب شؤم معاصيهم ، ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا ، وقبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة ، لعلهم يرجعون عما هم عليه ، كقوله تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] .
{ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ } أي : فأذاقهم سبحانه سوء العاقبة ، لشركهم المستتبع لكل إثم وعصيان : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ } أي : لا يقدر أحد على رده ، وقوله : { مِنَ اللَّهِ } متعلق بـ : { يَأْتِيْ } أو بـ : { مَرَدَّ } ؛ لأنه مصدر على معنى لا يرده تعالى ، لتعلق إرادته بمجيئه ، وفيه انتقاء رد غيره بطريق برهاني . وقيل عليه ، لو كان كذلك لزم تنوينه لمشابهته للمضاف . وأجيب بأن الشبيه بالمضاف قد يحمل في ترك تنوينه ، كما في الحديث < لا مانع لما أعطيت > : { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } أي : يتفرقون كالفراش المبثوث ، أو فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، كقوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [ الروم : 14 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } . [ 44 - 45 ]
{ مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } أي : وبال كفره . قال الزمخشري : كلمة جامعة ، لما لا غاية وراءه من المضار ؛ لأن من كان ضارّه كفره ، فقد أحاطت به كل مضرة : { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } أي : يسوّون منزلاً في الجنة ، أي : يوطئونه توطئة الفراش لمن يريد الراحة عليه : { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } . [ 46 - 47 ]
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ } أي : بالمطر : { وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ } أي : في البحر عند هبوبها : { وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } أي : بتجارة البحر : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : ولتشكروا نعمة الله فيما ذكر
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين } هذه تسلية له صلّى الله عليه وسلم بمن قبله على وجه يتضمن الوعد له , والوعيد لمن عصاه .
قال الزمخشري : في قوله تعالى : { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين } تعظيم للمؤمنين ، ورفع من شأنهم ، وتأهيل لكرامة سنية ، وإظهار لفضل سابقة ومزية ، حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم ، مستوجبين عليه أن يظهرهم ويظفرهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . [ 48 - 50 ] : { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء } إما سائراً وواقفاً ، مطبقاً وغير مطبق ، من جانب دون جانب ، إلى غير ذلك : { وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً } أي : قطعاً تارة أخرى : { فَتَرَى الْوَدْقَ } أي : المطر : { يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم } أي : المطر : { مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ } أي : لآيسين . قال الزمخشري : من قبله ، من باب التكرير والتوكيد ، كقوله تعالى : { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا } [ الحشر : 17 ] ، ومعنى التوكيد فيه ، الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد ، فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم ، فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك . انتهى .
وعكسه ابن عطية رحمه الله فقال : إنه يدل على سرعة تقلب القلوب البشرية ، من الإبلاس إلى الاستبشار .
قال الشهاب : وما ذكره ابن عطية أقرب ؛ لأن المتبادر من القبلية الاتصال ، وتأكيده دال على شدة اتصاله : { فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ } أي : أثر الغيث من النبات والأشجار والحبوب والثمار : { كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ } أي : العظيم الشأن الذي ذكر بعض شؤونه : { لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ * فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ } . [ 51 - 53 ]
{ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً } على الزرع : { فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً } أي : من تاثيرها فيه : { لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ } أي : من بعد اصفراره يجحدون ماتقدم إليهم من النعم ، أو يقنطون ولا يصبرون على بلائه ، وفيه من ذمهم ، وعدم تدبرهم ، وسرعة تزلزلهم لعدم تفكرهم ، وسوء رأيهم - ما لا يخفى .
ثم أشار تعالى إلى أن من أنكر قدرته على إحياء الزرع بعد اصفراره ، وقد رأى قدرته على إحياء الأرض بعد موتها ، فهو ميت لا يمكن إسماعه خبر إحياء الموتى ، بقوله سبحانه : { فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } أي : لما أن هؤلاء مثلهم ، لانسداد مشاعرهم عن الحق : { وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ } قال أبو السعود : تقييد الحكم بما ذكر ، لبيان كمال سوء حال الكفرة ، والتنبيه على أنهم جامعون لخصلتي السوء ، نبوّ أسماعهم عن الحق ، وإعراضهم عن الإصغاء إليه ، ولو كان فيهم إحداهما ، لكفاهم ذلك ، فكيف وقد جمعوهما ؟ : { وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ } أي : ما تسمع : { إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ } أي : منقادون لما تأمرهم به من الحق .
تنبيه :
قال ابن كثير : وقد استدلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بهذه الآية : { فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } ، على توهيم عبد الله بن عُمَر في رواية مخاطبة النبي صلّى الله عليه وسلم القتلى الذين ألقوا في قليب بدر ، بعد ثلاثة أيام ، ومعاتبته إياهم وتقريعه لهم ، حتى قال له عمر : يا رسول الله ! ما تخاطب من قوم قد جيّفوا ؟ فقال : < والذي نفسي بيده ! ما أنتم بأسمع لما أقول ، منهم ، ولكن لا يجيبون > . وتأولته عائشة على أنه قال : إنهم الآن يعلمون أن ما كنتُ أقول لهم حق .
وقال قتادة : أحياهم الله له حتى سمعوا مقالته ، تقريعاً وتوبيخاً ونقمةً .
ثم قال ابن كثير : والصحيح عند العلماء رواية عبد الله بن عُمَر ، لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة ، من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححاً له عن ابن عباس مرفوعاً : < ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم ، كان يعرفه في الدنيا ، فيسلّم عليه إلا ردّ الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام > . انتهى .
وقال ابن الهمام : أكثر مشايخنا على أن الميت لا يسمع استدلالاً بهذه الآية ونحوها ، ولذا لم يقولوا : بتلقين القبر ، وقالوا : لو حلف لا يكلم فلاناً ، فكلمه ميتاً لا يحنث . وأورد عليهم قوله صلّى الله عليه وسلم في أهل القليب < ما أنتم بأسمع منهم > وأجيب تارة بأنه روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أنكرته , وأخرى بأنه من خصوصياته صلّى الله عليه وسلم معجزة له ، أو أنه تمثيل ، كما روي عن علي كرم الله وجهه , وأورد عليه ما في مسلم من أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا . إلا أن يخص بأول الوضع في القبر ، مقدمة للسؤال ، جمعاً بينه وبين ما في القرآن . نقله الشهاب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ * وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ } . [ 54 - 55 ] : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ } قرئ بفتح الضاد وضمها ؛ أي : من أصل ضعيف هو النطفة : { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ } يعني حال الطفولة والنشء : { قُوَّةً } يعني حال البلوغ والشبيبة إلى الاكتهال وبلوغ الأشد : { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً } أي : بالشيخوخة والهرم : { يَخْلُقُ مَا يَشَاء } أي : من الأشياء ، ومنها هذه الأطوار التي يتقلب بها الْإِنْسَاْن : { وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } أي : الواسع العلم والقدرة ، كيف ؟ وهذا الترديد في الأحوال المختلفة والتغيير من صفة إلى صفة ، أظهر دليل على علم الصانع سبحانه وقدرته ، المستتبع انفراده بالألوهية : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ } أي : في الدنيا أو القبور ، وإنما يقدرون وقت لبثهم بذلك على وجه استقصارهم له ، أو ينسون أو يكذبون أو يخمنون : { كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ } أي : مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون عن الصدق والتحقيق في الدنيا ، وهكذا كانوا يبتون أمرهم على خلاف الحق . كذا في " الكشاف " .
وقال ابن كثير : يخبر تعالى عن جهل الكفار في الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا فعلوا ما فعلوا من عبادة الأوثان ، وفي الآخرة يكون منهم جهل عظيم أيضاً ، فمنه إقسامهم بالله أنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة في الدنيا ، ومقصودهم بذلك عدم قيام الحجة عليهم ، وأنهم لم ينظروا حتى يعذر إليهم . انتهى .
وقال الشهاب : المراد من قوله : { كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ } ، تشابه حاليهم في الكذب ، وعدم الرجوع إلى مقتضى العلم ؛ لأن مدار أمرهم على الجهل والباطل ، والغرض من سوق الآية ، وصف المجرمين بالتمادي في الباطل ، والكذب الذي أَلِفُوه . انتهى .
وقيل : كان قسمهم استقلالاً لأجل الدنيا ، لما عاينوا الآخرة ، تأسفاً على ما أضاعوا في الدنيا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * فَيَوْمَئِذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } . [ 56 - 57 ]
{ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ } ردا لما حلفوا عليه ، وإطلاعاً لهم على الحقيقة : { لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ } أي : فيما كتبه الله وأوجبه بحكمته : { إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } أي أنه حق ، لتفريطكم في طلب الحق واتباعه : { فَيَوْمَئِذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا } أي : بالشرك ، أو إنكار الربوبية ، أو الرسالة ، أو شيء لا يجب الإيمان به : { مَعْذِرَتُهُمْ } أي : بأنهم كفروا عن جهل ؛ لأنه إنما كان عن تقصيرهم في إزالته ، أو عن عناد : { وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } أي : ولا يطلب منهم الإعتاب ؛ أي : إزالة العتب بالتوبة والطاعة ؛ لأنهما - وإن كانتا ماحيتين للكفر والمعاصي - فإنما كان لهما ذلك في مدة الحياة الدنيا ، لا غير .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ * كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } . [ 58 - 60 ]
{ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } أي : من كل وصف يوضح الحق ويزيل اللبس ، أو من كل دليل على الأمور الأخروية , والحق يجري مجرى المثل في الظهور : { وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ } أي : مما اقترحوه أو غيرها : { لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ } أي : لا يؤمنون بها ، ويعتقدون أنها سحر وباطل : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } أي : لا يطلبون العلم ولا يتحرون الحق , بل يصرون على خرافات اعتقدوها وترهات ابتدعوها ؛ فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق ، ويوجب تكذيب المحق . قاله أبو السعود .
{ فَاصْبِرْ } أي : على ما تشاهد منهم ، من الأقوال الباطلة , والأفعال السيئة : { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } أي : في قوله : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ الصافات : 171 - 173 ] ، { وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ } أي : لا يحملنك على الخفة والقلق : { الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } أي : بما تتلو عليهم من الآيات البينة ، بتكذيبهم إياها ومكرهم فيها ؛ فإنه تعالى منجز لك ما وعدك من نصرك عليهم , وجعله العاقبة لك ، ولمن اعتصم بما جئت به من المؤمنين .(/)
سورة لقمان
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِين َ *الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } . [ 1 - 6 ]
{ الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } أي : ذي الحكمة الناطق بها : { هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } بيان لإحسانهم ، يعني ما عملوه من الحسنات , أو تخصيص لهذه الثلاثة من شعبه ، لإظهار فضلها وإناقتها على غيرها . والمراد بالزكاة ، على أنها مكية هي مطلق إخراج المال تقرباً بالتصديق منه ، وتزكية للنفس بإيتائه ، من وصمة البخل والشح المردي لها , لا أنصباؤها المعروفة ؛ فإنها إنما بيّنت بالمدينة
{ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } تعريض بالمشركين , وأنهم يستبدلون بهذا الكتاب المفيد الهدى والرحمة والحكمة ، ما يلهي من الحديث عن ذلك الكتاب العظيم , ليضلوا أتباعهم عن الدين الحق .
قال الزمخشري : واللهو : كل باطل ألهى عن الخير ، وعما يعني . ولهو الحديث نحو السمر بالأساطير ، والأحاديث التي لا أصل لها ، والتحدث بالخرافات والمضاحيك وفضول الكلام , وما لا ينبغي ، مما كانوا يؤفكون به عن استماع حكم التنزيل وأحكامه , ويؤثرونه على حديث الحق . وقوله تعالى : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي : بما هي الكمالات ومنافعها ، والنقائص ومضارها : { وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً } الضمير للسبيل ، وهو مما يذكر ويؤنث : { أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } . [ 7 - 10 ]
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى } أي : أعرض عنها : { مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً } أي : ثقلاً مانعاً من السماع : { فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } الضمير للسماوات ، وهو استشهاد برؤيتهم لها غير معمودة على قوله : { بِغَيْرِ عَمَدٍ } كما تقول لصاحبك : أنا بلا سيف ولا رمح تراني . والجملة لا محل لها ؛ لأنها مستأنفة ، أو في محل الجر ، صفة للعمد , أو بغير عمد مرئية ؛ يعني أنه عمدها بعمد لا ترى , وهي إمساكها بقدرته . كذا في " الكشاف " : { وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ } أي : جبالاً ثوابت : { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } أي : تميل فتهلككم لما في جوفها من قوة الجيشان : { وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ } أي : من كل نوع من أنواعها : { وَأَنزَلْنَا } أي : لحفظكم وحفظ دوابكم ، وللرفق بكم وبدوابكم : { مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ } أي : صنف من الأغذية والأدوية : { كَرِيمٍ } أي : كثير المنافع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } . [ 11 - 12 ]
{ هَذَا } أي : ما ذكر من السماوات والأرض ، وما تعلق بهما من الأمور المعدودة : { خَلْقُ اللَّهِ } أي : مخلوقه : { فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ } أي : مما اتخذتموهم شركاء له سبحانه في العبادة : { بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } إضراب عن تبكيتهم بما ذكر ، إلى التسجيل عليهم بالضلال البين المستدعي للإعراض عن مخاطبتهم بالمقدمات المعقولة الحقة ؛ لاستحالة أن يفهموا منها شيئاً ، فيهتدوا به إلى العلم ببطلان ما هم عليه ، أو يتأثروا من الإلزام والتبكيت فينزجروا عنه . ووضعُ الظاهر موضعَ ضميرهم ؛ للدلالة على أنهم بإشراكهم واضعون للشيء في غير موضعه , ومتعدون عن الحدود ، وظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد . أفاده أبو السعود .
ثم أشار تعالى إلى أن بطلان الشرك مقول على لسان ذوي الحكمة . كيف لا ؟ والتوحيد أساس الحكمة ، بقوله سبحانه : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ } يعني استكمال النفس بالعلوم النظرية ، وملكة الأفعال الفاضلة بقدر الطاقة البشرية ، آمرين له على لسان نبي أو بطريق الإلهام ؛ على قول الجمهور أنه حكيم . أو الوحي ؛ على قول عِكْرِمَة أنه نبي { أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ } أي : على ما أعطاك من نعمه ، من أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً . كذا قاله المهايمي , والأظهر أنّ : { أَنْ } مفسرة ؛ فإن إيتان الحكمة في معنى القول . والشكر : كلمة تجمع ما تدور عليه سعادة الدنيا والآخرة ؛ لأنه صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه إلى ما خلق لأجله : { وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } لعود ثمرات شكره عليه : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي : غني عن كل شيءٍ ، فلا يحتاج إلى الشكر , وحقيق بالحمد . بل نطق بحمده كل موجود .
تنبيه :
قال ابن كثير : اختلف السلف في لقمان ؛ هل كان نبياً أو عبداً صالحاً من غير نبوة ، على قولين ؟ : الأكثرون على الثاني , ويقال إنه كان قاضياً على بني إسرائيل ، في زمن داود عليه السلام , وما روي من كونه عبداً مسّه الرق ، ينافي [ في المطبوع : وينافي ] كونه نبياً ؛ لأن الرسل كانت تبعث في أحساب قومها , ولهذا كان جمهور السلف على أنه لم يكن نبياً ، وإنما يُنقل كونه نبياً عن عِكْرِمَة ، إن صح السند إليه ؛ فإنه رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عِكْرِمَة . قال : كان لقمان نبياً . وجابر هذا هو ابن يزيد الجعفي , وهو ضعيف . والله أعلم . انتهى .
وزعم بعضهم أن لقمان هو بلعام المذكور في التوراة ، وكان حكيم شعب وثنيّ ، وكان منبأ عن الله تعالى , وأغرب في تقريبه ، بأن الفعل العربي وهو : لقم , معناه بالعبري بلع . والله أعلم .
وقد نظم السيوطي من اختلف في نبوته ، فقال :
~وَاخْتُلِفَتْ فِيْ خَضِرٍ أَهْلُ النُّقُوْلْ قِيْلَ نَبِيٌّ أَوْ وَلِيٌّ أَوْ رَسُوْلْ
~لُقْمَاْنَ ، ذِيْ القَرْنَيْنِ ، حَوَّا ، مَرْيَمِ وَالْوَقْفُ فِيْ الجَمِيْعِ رَأْيُ الْمُعْظَمِ ثم قرن لقمان ، بوصيته إياه بعبادة الله وحده ، البرَّ بالوالدين ، كما قال تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] ، وكثيراًَ ما يقرن تعالى بين ذلك في القرآن الكريم . وقال ههنا :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَاْن بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } . [ 13 - 14 ]
{ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَاْن بِوَالِدَيْهِ } أي : بالإحسان إليهما ، لاسيما الوالدة ؛ لأنه : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ } أي : ضعفا فوق ضعف إلى الولادة . و : { وَهْناً } . حال من : { أُمُّهُ } أي : ذات وهن ، أو مصدر مؤكد لفعل هو الحال ؛ أي : تهن وهناً . وقوله تعالى : { عَلَى وَهْنٍ } صفة للمصدر ؛ أي : كائناً على وهن ، أي : تضعف ضعفاً فوق ضعف ؛ فإنها لا تزال يتزايد ضعفها ؛ لأن الحمل كلما عظم ازدادت ثقلاً وضعفاً : { وَفِصَالُهُ } أي : فطامه : { فِي عَامَيْنِ } ثم فسر الوصية بقوله سبحانه : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } أي : بأن تعرف نعمة الإحسان ، وتقدره قدره .
قال في " البصائر " : الشكر مبني على خمس قواعد : خضوع الشاكر للمشكور ، وحبه له ، واعترافه بنعمته ، والثناء عليه بها ، وأن لا يستعملها فيما يكره . هذه الخمسة هي أساس الشكر ، وبناؤه عليها ، فإن عدم منها واحدة ، اختلّت قاعدة من قواعد الشكر ، وكل من تكلم في الشكر ، فإن كلامه إليها يرجع وعليها يدور . انتهى .
وقوله تعالى : { إِلَيَّ الْمَصِيرُ } تعليل لوجوب الامتثال ؛ أي : إليّ الرجوع ، لا إلى غيري ، فأجازيك على ما صدر عنك من الشكر والكفر .
تنبيهات
الأول - قال الزمخشري : فإن قلت : قوله تعالى : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } كيف اعتراض به بين المفسر والمفسر ؟ قلت : لما وصى بالوالدين ، ذكر ما تكابده الأم ، وتعانيه من المشاق ، والمتاعب في حمله ، وفصاله هذه المدة المتطاولة ، إيجاباً للتوصية بالوالدة خصوصاً ، وتذكيراً بحقها العظيم مفرداً . ومن ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لمن قال له من أبرّ ؟ : < أمك ثم أمك ثم أمك > . ثم قال بعد ذلك : < ثم أباك > . وعن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره ، وهو يقول في حدائه بنفسه .
~أَحْمِلُ أُمِّيَ وَهِيَ الْحَمَّاْلَهْ تُرْضِعُنِي الدِّرَّةَ وَالْعَلَاْلَهْ
وَلَاْ يُجَازَى وَاْلِدٌ فِعَاْلَهْ
الثاني - قال الحافظ ابن كثير : وقوله تعالى : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } كقوله : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [ البقرة : 233 ] ، ومن ههنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة ، أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ؛ لأنه قال في الآية الأخرى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] ، وإنما يذكر تعالى تربية الوالدة ، وتعبها ، ومشقتها في سهرها ليلاً ونهاراً ، ليُذكّر الولد بإحسانها المتقدم إليه , كما قال تعالى : { وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } [ الإسراء : 24 ] .
الثالث - قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى توقيت الفصال بالعامين ؟ قلت : المعنى في توقيته بهذه المدة ، أنها الغاية التي لا تتجاوز , والأمر فيما دون العامين موكول إلى اجتهاد الأم ، إن علمت أنه يقوى على الفطام ، فلها أن تفطمه , ويدل عليه قوله تعالى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [ البقرة : 233 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ 15 ] .
{ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا } أي : في إشراك ما لا تعلمه مستحقاً للعبادة ، تقليداً لهما . وقال الزمخشري : أراد بنفي العلم به نفيه ، أي : لا تشرك بي ما ليس بشيء ، يريد الأصنام . كقوله : { مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ } [ العنكبوت : 42 ] .
قال في " الكشف " [ كذا ] : ليس هذا من قبيل نفي العلم لنفي وجوده ، كما مر في القصص . وإلا لقال ما ليس بموجود . بل أراد أنه بُولِغ في نفيه حتى جعل كلا شيء [ في المطبوع : كلاً شيء ] ، ثم بُولغ في سلك المجهول المطلق .
قال الشهاب : وهذا تقرير حسن ، فيه مبالغة عظيمة : { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً } أي : صحاباً معروفاً يرتضيه الشرع ، ويقتضيه الكرم .
قال السيوطي في " الإكليل " : في الآية أن الوالد لا يطاع في الكفر ، ومع ذلك يصحب معروفاً : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } أي : بالتوحيد والإخلاص في الطاعات ، وعمل الصالحات : { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } كناية عن الجزاء ، كما تقدم نظائره .
قال القاضي : والآيتان ، يعني : { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَاْن } إلى قوله - : { تَعْمَلُونَ } معترضتان في تضاعيف وصية لقمان ، تأكيداً لما فيها من النهي عن الشرك . كأنه قال : وقد وصينا بمثل ما وصى به ، وذكر الوالدين للمبالغة في ذلك ؛ فإنهما - مع أنهما تلو البارئ تعالى في استحقاق التعظيم والطاعة - لا يجوز أن يطاعا في الإشراك . فما ظنك بغيرهما ؟ انتهى .
ثم يبين تعالى بقية وصايا لقمان ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } . [ 16 - 17 ]
{ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ } أي : إن الخصلة من الإساءة أو الإحسان ، إن تك مثلاً في الصغر كحبة الخردل : { فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ } أي : فتكن مع كونها في أقصى غايات الصغر ، في أخفى مكان وأحرزه ، كجوف الصخرة ، أو حيث كانت في العلم العلوي أو السفلي : { يَأْتِ بِهَا اللَّهُ } أي : يحضرها ويحاسب عليها : { إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ } أي : ينفذ علمه وقدرته في كل شيء : { خَبِيرٌ } أي : يعلم كنه الأشياء ، فلا يعسر عليه . والآية هذه كقوله تعالى : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } [ الأنبياء : 47 ] الآية ، وقوله : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 و 8 ] .
لطيفة :
قوله تعالى : { فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ } الآية ، من البديع الذي يسمى التتميم ؛ فإنه تمم خفاءها في نفسها بخفاء مكانها من الصخرة , وهو من وادي قولها :
~كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِيْ رَأْسِهِ نَاْرُ
{ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ } أي : بحدودها وفروضها وأوقاتها ، لتكميل نفسك بعبادة ربك : { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ } لتكميل غيرك : { وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } أي : من المحن والبلايا , أو فيما أمرت به من الأمر بالمعروف , والنهي عن المنكر ؛ لأن الداعي إلى الحق معرّض لإيصال الأذى إليه ، وهو أظهر . ويطابقه آية : { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [ العصر : 3 ] ، { إِنَّ ذَلِكَ } إشارة إلى الصبر ، أو إلى كل ما أمر به : { مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } أي : مما عزمه الله من الأمور ، أي : قطعه قطع إيجاب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِير } . [ 18 - 19 ]
{ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } أي : لا تعرض بوجهك عنهم ، إذا كلمتهم أو كلموك ، احتقاراً منك لهم ، واستكباراً عليهم , ولكن ألن جانبك ، وابسط وجهك إليهم ، كما جاء في الحديث < ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط > : { وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً } أي : خيلاء متكبراً : { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ } أي : معجب في نفسه : { فَخُورٍ } أي : على غيره : { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } أي : توسط بين الدبيب والإسراع : { وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } أي : انقص من رفعه ، وأقصر ، فإنه يقبح بالرفع حتى ينكره الناس ، إنكارهم على صوت الحمير ، كما قال : { إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } معللاً للأمر على أبلغ وجه وآكده وأنكر بمعنى أوحش . من قولك : شيء نكر ؛ إذا أنكرته النفوس واستوحشت منه ونفرت ، كما يقال في العرف للقبيح . وحش ، وأصله ضد الأنس والألفة . فهو إما مجاز أو كناية .
قال الزمخشري : الحمار مثلٌ في الذم البليغ والشتيمة ، وكذلك نهاقه . ومن استفحاشهم لذكره مجرداً ، وتفاديهم من اسمه ، أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به ؛ فيقولون : الطويل الأذنين . كما يكنى عن الأشياء المستقذرة ، وقد عُد في مساوي الآداب ، أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولي المروءة ، ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافاً ، وإن بلغت منه الرحلة . فتشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير ، وتمثيل أصواتهم بالنهاق ، ثم إخلاء الكلام من لفظ التشبيه ، وإخراجه مخرج الاستعارة ، وأن جعلوا حميراً ، وصوتهم نهاقاً - مبالغة شديدة في الذم والتهجين ، وإفراط في التثبيط عن رفع الصوت والترغيب عنه ، وتنبيه على أنه من كراهة الله بمكان . انتهى .
تنبيه :
جاء ذكر لقمان في أحاديث مرفوعة : منها ما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر أن رسول اله صلّى الله عليه وسلم قال : < إن لقمان الحكيم كان يقول : إن الله إذا استودع شيئاً حفظه > . وروى ابن أبي حاتم عن القاسم بن مخيمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < قال لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه : يا بني إياك والتقنع ، فإنه مخوفة بالليل ، مذمة بالنهار > .
ومن الآثار فيه ما رواه ابن أبي حاتم عن السري بن يحيى قال : قال لقمان لابنه : يا بني إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك .
وعن عَوْن بن عبد الله قال : قال لقمان لابنه : يا بني ! إذا أتيت نادي قوم فارمهم بسهم الإسلام - يعني السلام - ثم اجلس في ناحيتهم ، فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا ، فإن أفاضوا في ذكر الله فأجل سهمك معهم ، وإن أفاضوا في غير ذلك فتحول عنهم إلى غيرهم . نقله ابن كثير رحمه الله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } . [ 20 - 21 ]
{ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } أي : من النجوم والشمس والقمر ، التي ينتفعون من ضيائها , وما تؤثره في الحيوان ، والنبات ، والجماد بقدرته تعالى , وكذا من الأمطار والسحب والكوائن العلوية التي خلقها تعالى لنفع من سُخرت له , وكذا ما أوجد في الأرض من قرار وأشجار وأنهار وزروع وثمار ، ليستعملها من سُخرت له فيما فيه حياته ، وراحته ، وسعادته : { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } أي : محسوسة ومعقولة , كإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وإزاحة الشبه والعلل : { وَمِنَ النَّاسِ } يعني الجاحدين نعمته تعالى : { مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ } أي : في توحيده وإرساله الرسل : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي : برهان قاطع مستفاد من عقل : { وَلَا هُدًى } أي : دليل مأثور عن نبي : { وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ } أي : منزل من لدنه تعالى ، بل لمجرد التقليد . والمنير : بمعنى المنقذ من ظلمة الجهل والضلال
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ } أي : لمن يجادل , والجمع باعتبار المعنى : { اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } أي : يدعو آباءهم إلى اعتقادات وأعمال ، هي أسباب العذاب ، كأنه يدعوهم إلى عين العذاب . فهم متوجهون إليه حسب دعوته ، ومن كان كذلك فأنى يتبع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ * وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* م َّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ 22 - 29 ] . : { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي : في أعماله : { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } أي : تعلق بأوثق ما يتعلق به من الأسباب ، وهو تمثيلٌ لحال المؤمن المخلص المحسن ، بحال من أراد رقيّ شاهق ، فتمسك بأوثق عرى الحبل المتدلي منه : { وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا } أي : من الأعمال الظاهرة والباطنة : { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ } أي : على أن جعل دلائل التوحيد بحيث لا يكاد ينكرها المكابرون أيضاً : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } أي : شيئا ما ؛ فلذلك لا يعملون بمقتضى اعترافهم
{ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : فلا يستحق العبادة فيهما غيره : { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ } أي : عن العالمين ، وهم فقراء إليه جميعا : { الْحَمِيدُ } أي : المحمود فيما خلق وشرع ، بلسان الحال والمقال : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد نفاده : { سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } أي : التي أوجد بها الكائنات ، وسيوجد بها ما لا غاية لحصره ومنتهاه ، والسبعة إنما ذكرت على سبيل المبالغة لا الحصر : { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } أي : إلا كخلقها وبعثها في سهولته : { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي : أمد قدره الله تعالى لجريهما ، وهو يوم القيامة : { وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : لأن من شاهد مثل ذلك الصنع الرائق ، والتدبير الفائق ، لا يكاد يغفل عن كون صانعه عز وجل محيطاً بما يأتي ويذر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ } . [ 30 - 32 ] . : { ذَلِكَ } إشارة إلى ما ذكر من سعة العلم ، وشمول القدرة ، وعجائب الصنع ، واختصاص البارئ بها : { بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ } أي : بسبب أنه الحق ، وجوده وإلهيته : { وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ } أي : بإحسانه في تهيئة أسبابه : { لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ } أي : عظيم الصبر على البأساء والضراء : { شَكُورٍ } أي : كثير الشكر للنعم ، بالقيام بحقها : { وَإِذَا غَشِيَهُم } أي : علاهم وأحاط بهم : { مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ } أي : كالسحب والحجب : { دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } أي : التجأوا إليه تعالى وحده ، لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد ، بما دهاهم من الضر : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ } قال ابن كثير : قال مجاهد : أي : كافر ، كأنه فسر المقتصد ههنا بالجاحد كما قال تعالى : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [ العنكبوت : 65 ] ، وقال ابن زيد : هو المتوسط في العمل ، وهذا الذي قاله ابن زيد هو المراد في قوله تعالى : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ } [ فاطر : 32 ] الآية ، فالمقتصد ههنا هو المتوسط في العمل . ويحتمل أن يكون مراداً هنا أيضاً ، ويكون من باب الإنكار على من شاهد تلك الأهوال والأمور العظام ، والآيات الباهرات في البحر ، ثم من بعد ما أنعم الله عليه بالخلاص ، كان ينبغي أن يقابل ذلك بالعمل التام ، والدؤوب في العبادة ، والمبادرة إلى الخيرات ، فمن اقتصد بعد ذلك ، كان مقصراً والحالة هذه ، والله أعلم . انتهى
{ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ } أي : غدار ، ناقض للعهد الفطريّ ، ولعقد العزيمة وقت الهول البحري : { كَفُورٍ } أي : مبالغ في كفران نعمه تعالى ، لا يقضي حقوقها ، ولا يستعملها في محابّه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ } . [ 33 ]
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } أي : ليس بمغنٍ أحدهما عن الآخر شيئاً ، لانقطاع الوصل في ذلك اليوم الرهيب . قال أبو السعود : وتغيير النظم - في الثانية - للدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزى ، وقطع طمع من توقع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر في الآخرة : { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } أي بالثواب والعقاب ، لا يمكن إخلافه : { فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ } أي : الشيطان .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } . [ 34 ]
{ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } أي : علم وقت قيامها : { وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ } أي : في وقته الذي قدره ، وإلى محله الذي عينه في علمه : { وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ } أي : من ذكرٍ أو أنثى ، سعيد أو شقي : { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً } أي : من خير أو شر : { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } أي : في بلدها أو غيره ؛ لاستئثار الله تعالى بعلم ذلك ، وقد جاء الخبر بتسمية [ في المطبوع : تسمية ] هذه الخمس : مفاتح الغيب : { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } أي : بما كان ويكون ، وبظواهر الأشياء وبواطنها ، لا إله إلا هو .(/)
سورة السجدة
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } . [ 1 - 3 ]
{ الم } تقدم أن هذه الفواتح أسماء للسور : { تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ } أي : في كونه منزلاً : { مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } أي : اختلقه من تلقاء نفسه : { بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } أي : يتبعون الحق .
وذلك أن قريشا لم يبعث إليهم رسول قبله صلى الله عليه وسلم ، فلطف تعالى بهم وبعث فيهم رسولاً منهم صلّى الله عليه وسلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } . [ 4 - 5 ]
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } تقدم الكلام في ذلك : { مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ } أي : ما لكم عنده ناصر ولا شفيع من الخلق : { أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } أي : تتعظون بالقرآن فتؤمنوا : { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ } أي : يدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية ، من الملائكة وغيرها ، نازلة آثارها وأحكامها إلى الأرض : { ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } أي : يصعد إليه ، أي : مع الملك للعرض عليه : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } أي : مقدار صعوده على غير الملك ، ألف سنة من سنين الدنيا .
قال ابن كثير : أي : يتنزل من أعلى السماوات إلى أقصى تخوم الأرضين ، كما الله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ } [ الطلاق : 12 ] الآية . وترفع الأعمال إلى ديوانها فوق السماء . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيم ُ *الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَاْن مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } . [ 6 - 9 ]
{ ذَلِكَ } أي : المدبر : { عَالِمُ الْغَيْبِ } أي : ما غاب عن العباد , وما يكون : { وَالشَّهَادَةِ } أي : ما علمه العباد , وما كان : { الْعَزِيزُ } أي : الغالب على أمره : { الرَّحِيمُ } أي : بالعباد في تدبره : { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } أي : أحكم خلق كل شيء ؛ لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة : { وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَاْن } يعني آدم : { مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ } أي : ذريته : { مِن سُلَالَةٍ } أي : من نطفة : { مِّن مَّاء مَّهِينٍ } أي : ضعيف ممتهن , والسلالة الخلاصة ، وأصلها ما يسل ويخلص بالتصفية : { ثُمَّ سَوَّاهُ } أي : قوّمه في بطن أمه : { وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } أي : جعل الروح فيه ، وأضافه إلى نفسه تشريفاً له : { وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ } أي : خلق لكم هذه المشاعر ، لتدركوا بها الحق والهدى : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } أي : بأن تصرفوها إلى ما خلقت له .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ * وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } . [ 10 - 12 ]
{ وَقَالُوا } أي : كفار مكة : { أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ } أي : صرنا تراباً مخلوطاً بتراب الأرض لا نتميز منه ، أو غبنا فيها : { أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } أي : نجدد بعد الموت : { بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ } أي : بالبعث بعد الموت للجزاء والحساب : { كَافِرُونَ } أي : جاحدون .
قال أبو السعود : إضراب وانتقال من بيان كفرهم بالبعث ، إلى بيان ما هو أبلغ وأشنع منه ، وهو كفرهم بالوصول إلى العاقبة ، وما يلقونه فيها من الأحوال والأهوال جميعاً : { قُلْ } أي : بياناً للحق ، وردّاً على زعمهم الباطل : { يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } أي : يقبض أرواحكم : { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } أي : بالبعث للحساب والجزاء .
فائدة :
قال ابن أبي الحديد في " شرح نهج البلاغة " في هذه الآية : مذهب جمهور أصحابنا أن الروح جسم لطيف بخاريّ يتكوّن من ألطف أجزاء الأغذية ، ينفذ في العروق ، حالّةً فيها ، وكذلك للقلب ، وكذلك للكبد .
وعندهم أن لملك الموت أعواناً تقبض الأرواح بحكم النيابة عنه ، لولا ذلك لتعذر عليه ، وهو جسم أن يقبض روحين في وقت واحد في المشرق والمغرب ؛ لأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين ، في وقت واحد .
قال أصحابنا : ولا يبعد أن يكون الحفظة الكاتبون هم القابضون للأرواح عند انقضاء الأجل .
قالوا : وكيفية القبض ، ولوج الملَك من الفم إلى القلب ؛ لأنه جسم لطيف هوائي ، لا يتعذر عليه النفوذ في المُخَارِق الضيقة ، فيخالط الروح ، التي هي كالشبيهة بها ؛ لأنها بخاريّ ، ثم يخرج من حيث دخل ، وهي معه .
وإنما يكون ذلك في الوقت الذي يأذن الله تعالى له فيه ، وهو حضور الأجل .
فألزموا على ذلك أن يغوص الملَك في الماء مع الغريق ليقبض روحه تحت الماء ، فالتزموا ذلك ، وقالوا : ليس بمستحيل أن يتخلل الملَك الماء في مسامّ الماء ، فإن فيه مسامّ ومنافذ ، وفي كل جسم ، على قاعدتهم في إثبات المسامّ في الأجسام .
قالوا : ولو فرضنا أنه لا مسامّ فيه ، لم يبعد أن يلجه الملَك فيوسع لنفسه مكاناً ، كما يلجه الحجر والسمك ، وغيرهما . وكالريح الشديدة التي تقرع ظاهر البحر فتقعره وتحفره ، وقوة الملك أشد من قوة الريح . انتهى .
والأولى الوقوف ، فيما لم تعلم كيفيته ، عند متلوّه وعدم مجاوزته ، أدباً عن التهجم على الغيب وتورعاً عن محاولة مالا يُبلغ كنهه ، وأسوة بما مضى عليه من لم يخض فيه ، وهم الخيرة والأسوة ، والله أعلم .
{ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ } وهم القائلون تلك المقالة الشنعاء : { نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ } أي : مطأطئوها من الحياء والخزي ، لما قدمت أيديهم : { رَبَّنَا } أي : يقولون ربنا : { أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } أي : علمنا ما لم نعلم ، وأيقنا بما لم نكن به موقنين : { فَارْجِعْنَا } أي : إلى الدنيا : { نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } أي : مقرّون بك ، وبكتابك ، ورسولك ، والجزاء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } . [ 13 - 14 ]
{ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } أي : تقواها : { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي } أي : في القضاء السابق : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } أي : سبق القول حيث قلت لإبليس ، عند قوله : { لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } [ الحجر : 39 - 40 ] ، { قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 84 - 85 ] ، أي : فمبوجب ذلك القول لم نشأ إعطاء الهدى على العموم ، بل منعناه من أتباع إبليس ، الذين هؤلاء من جملتهم حيث صرفوا اختيارهم إلى الغي والفساد ، ومشيئته تعالى لأفعال العباد منوطة باختيارهم إياها ، فلما لم يختاروا الهدى ، واختاروا الضلالة ، لم يشأ إعطاءه لهم ، وإنما آتاه الذين اختاروه من النفوس البرّة ، وهم المعنيون بما سيأتي من قوله تعالى : { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا } [ السجدة : 15 ] الآية . فيكون مناط عدم مشيئة إعطاء الهدى في الحقيقة سوء اختيارهم ، لا تحقق القول . أفاده أبو السعود .
{ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا } أي : تركتم الإقرار به ، والإيمان بصدق موعوده ، وعاملتموه معاملة المنسي المهجور : { إِنَّا نَسِينَاكُمْ } أي : جازيناكم جزاء نسيانكم ، أو تركناكم في العذاب ترك المنسي : { وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : من الموبقات ، والتكرير للتأكيد والتشديد ، وتعيين الفعل المطويّ للذوق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } . [ 15 - 16 ]
{ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا } أي : وعظوا : { خَرُّوا سُجَّداً } لسرعة قبولهم لها بصفاء فطرتهم ، وذلك تواضعاً لله وخشوعاً ، وشكراً على ما رزقهم من الإسلام : { وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } أي : عن الانقياد لها ، كما يفعله الجهلة من الكفرة الفجرة ، قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِع } أي : ترتفع وتتنحى عن الفرش ومواضع النوم . والجملة مستأنفة لبيان بقية محاسنهم ، وهم المتهجدون بالليل : { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } أي : داعين له : { خَوْفاً } من عذابه : { وَطَمَعاً } في رحمته : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } أي : من المال : { يُنفِقُونَ } أي : في وجوه البرّ والحسنات .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ } . [ 17 - 20 ]
{ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم } أي : ما ذخر ، وأُعدّ أي : لهؤلاء الذين عددت مناقبهم : { مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } أي : مما تقر به عينهم من طيبة النفس والثواب والكرامة في الجنة : { جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : في الدنيا من الأعمال الصالحة
{ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً } أي : كافراً جاحداً : { لَّا يَسْتَوُونَ } أي : في الآخرة بالثواب والكرامة ، كما لم يستووا في الدنيا بالطاعة والعبادة ، ثم فصّل مراتب الفريقين بقوله : { أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً } أي : ثواباً : { بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا } وكقوله تعالى : { كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا } [ الحج : 22 ] ، كناية عن دوام عذابهم واستمراره : { وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ } أي : يقال لهم ذلك ، تشديداً عليهم ، وزيادة في غيظهم ، وتقريعاً وتوبيخاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ } . [ 21 - 22 ]
{ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ } أي : أهل مكة : { مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى } أي : عذاب الدنيا ، من الجدبِ [ في المطبوع : والجدب ] ، والقتلِ ، والأسرِ : { دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ } يعني عذاب الآخرة : { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي يتوبون عن الكفر أي : يرجعون إلى الله عند تصفية فطرتهم بشدة العذاب الأدنى ، قبل الرين بكثافة الحجاب : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا } أي : جحدها وكفر بها : { إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ } أي : بالعذاب ، وإظهار المتقين عليهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } . [ 23 - 24 ]
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } أي : التوراة : { فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ } أي : لقاء الكتاب الذي هو القرآن ، وعود الضمير إلى الكتاب المتقدم ، والمراد غيره على طريق الاستخدام ، أو إرادة العهد ، أو تقدير مضاف ، أي : تلقي مثله ، أي : فلا تكن في مرية من كونه وحياً متلقى من لدنه تعالى . والمعنى : إنا آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب ، ولقيّناه من الوحي مثل ما لقيناك ، فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله .
ونهيُه صلى الله عليه وسلم عن الشك ، المقصود به نهي أمته ، والتعريض بمن صدر منه مثله : { وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ } أي : من الضلالة : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } أي : قادة بالخير يدعون الخلق إلى أمرنا وشرعنا : { لَمَّا صَبَرُوا } أي : على العمل به ، والاعتصام بأوامره : { وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } أي : يصدقون أشد التصديق وأبلغه . والمعنى كذلك لنجعلن الكتاب الذي آتيناكه ، هدىً لأمتك ، ولنجعلن منهم أئمة يهدون مثل تلك الهداية .
ويؤخذ من فحوى الآية ، أن بني إسرائيل لَمّا نبذوا الاعتصام بالكتاب ، ونبذوا الصبر على الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وفقدوا الاستيقان بحقيّة الإيمان ، فغيّروا وبدّلوا ، سُلِبُوا ذلك المقام ، وأَديل عليهم انتقاماً منهم ؛ وتلك سنته تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد : 11 ] ، ففي طي هذا الترغيب ، ترهيبٌ وأي ترهيبٍ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ } [ 25 - 27 ] .
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ } أي : يقضي : { بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : فيميز الحق من الباطل ، بتمييز المحق من المبطل : { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } أي : يتبين لكفار مكة : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ } أي : الماضية بعذاب الاستئصال : { يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } أي : منازلهم ، كمنازل قوم شعيب ، وهود ، وصالح ، ولوط عليهم السلام ، فلا يرون فيها أحداً ممن كان يعمرها ويسكنها ، ذهبوا كأن لم يغنوا فيها ؛ كما قال : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا } [ النمل : 52 ] ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : فبما فعلنا بهم : { لَآيَاتٍ } أي : عبراً ، ومواعظ ، ودلائل متناظرة : { أَفَلَا يَسْمَعُونَ } أي : أخبار من تقدم ، كيف صار أمرهم بسبب تكذيبهم الرسل ، وبغيهم الفساد في الأرض ، فيحملهم ذلك على الإيمان .
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ } وهي التي جزر نباتها ، أي : قطع : { فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ } يعني العشب والثمار والبقول : { أَفَلَا يُبْصِرُونَ } أي : فيستدلون به على كمال قدرته ، ووجوب انفراده بالإلهية . وهذا كآية : { فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَاْن إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً } [ عبس : 24 - 25 ] الآية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ } . [ 28 - 29 ]
{ وَيَقُولُونَ } أي : كفار مكة : { مَتَى هَذَا الْفَتْحُ } أي : الانتصار علينا ، استعجال لوقوع البأس الرباني عليهم ، الذي وعدوا به ، واستبعاد له { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ } لحلول ما يغشي الأبصار ، ويعمي البصائر ، وظهور منار الإيمان ، وزهوق الفريق الكافر .
قال ابن كثير : أي : إذا حل بكم بأس الله ، وسخطه ، وغضبه في الدنيا والآخرة [ في المطبوع : الأخرى ] ، لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ، ولا هم ينظرون ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ } [ غافر : 83 ] الآيتين . ومن زعم أن المراد من هذا الفتح فتحَ مكة ، فقد أبعد النجعة ، وأخطأ فأفحش ، فإن يوم الفتح ، قد قبِل رسول الله صلّى الله عليه وسلم إسلامَ الطلقاء ، وقد كانوا قريباً من ألفين ، ولو كان المراد فتح مكة ، لما قبِل إسلامهم لقوله تعالى : { قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ } وإنما المراد الفتح الذي هو القضاء والفصل ، كقوله : { فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً } [ الشعراء : 118 ] ، وكقوله : { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ } [ سبأ : 26 ] الآية . ، وقال تعالى : { وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } [ إبراهيم : 15 ] ، وقال تعالى : { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ } [ الأنفال : 19 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ } [ 30 ] .
{ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي : عن المشركين ، ولا تبال بهم ، وبلغ ما أنزل إليك من ربك : { وَانتَظِرْ } أي : النصرة عليهم ، فإن الله سينجز لك ما وعدك ، إنه لا يخلف الميعاد : { إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ } أي : ما في نفوسهم ، كقوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ } [ الطور : 30 ] ، { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ } [ التوبة : 98 ] ، أي : وسيجدون مغبة انتظارهم من وبيل عقابه تعالى ، وأليم عذابه بهم .(/)
سورة الأحزاب
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } [ 1 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ } نودي صلوات الله عليه بوصفه دون اسمه ، تعظيماً له . وباب المخاطبة يعدل فيها عن النداء بالاسم تكريماً للمخاطب ، ولا كذلك باب الأخبار فقد يصرح فيها بالاسم ، والتعظيم باقٍ كآية : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } [ الفتح : 29 ] ، لتعليم الناس بأنه رسول الله , وتلقينهم أن يسموه بذلك , ويدعوه به , وأمره عليه السلام بالتقوى تفخيماً وتعظيماً للتقوى نفسها ، حيث أمر بها مثله ؛ فإن مراتبها لا تنتهي , مع أن المقصود الدوام والثبات عليها , ولم يجعل الأمر لأمته كما في نظائره ؛ لأن سياق ما بعده لأمر يخصه ، كقصة زيد رضي الله عنه : { وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } أي : لا توافقهم على أمر ، ولا تقبل لهم رأياً ولا مشورة ، وجانبهم واحترس منهم ؛ فإنهم أعداء الله وأعداء المؤمنين ، لا يريدون إلا المضارّة والمضادّة : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } أي : فهو أحق بأن تُتبَع أوامره ويطاع ؛ لأنه العليم بعواقب الأمور ، وبالمصالح من المفاسد ، والحكيم الذي لا يفعل شيئا ، ولا يأمر به ، إلا بداعي الحكمة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً* م َّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } [ 2 - 4 ] .
{ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } أي : في ترك طاعة الكافرين والمنافقين وغير ذلك : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً } أي : أسند أمرك إليه ، وكله إلى تدبيره ، فكفى به حافظاً موكولاً إليه كل أمر : { مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ } قال الزمخشري : أي : ما جمع الله قلبين في جوف ، ولا زوجية وأمومة في امرأة ، ولا بنوّة ودعوة في رجل . والمعنى : إن الله سبحانه ، كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين ؛ لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب ، فأحدهما فضلة غير محتاج إليها - وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك ، فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريداً كارهاً ، عالماً ظاناً ، موقناً شاكاً ، في حالة واحدة - لم ير أيضاً أن تكون المرأة الواحدة أُمّاً لرجل زوجاً له ؛ لأن الأم مخدومة ، مخفوض لها جناح الذل ، والزوجة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره ، كالمملوكة . وهما حالتان متنافيتان .
وأن يكون الرجل الواحد دعيّاً لرجل ، وابناً له ؛ لأن البنوة أصالة النسب ، وعراقة فيه ، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير ، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلاً غير أصيل ، وهذا مثل ضربه الله في زيد بن حارثة ، وهو رجل من كَلْبٍ سبي صغيراً ، وكانت العرب في جاهليتها يتغاورون ويتسابون ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة ، فلما تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهبته له ، وطلبه أبوه وعمه فخُيّر ، فاختار رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأعتقه ، وكانوا يقولون : زيد بن محمد . فأنزل الله هذه الآية ، وقوله : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } [ الأحزاب : 40 ] .
والتنكير في : رجل , وإدخال من ، الاستغراقية على قلبين ، تأكيدان لما قصد من المعنى كأنه قال : ما جعل الله لأمة الرجال ، ولا لواحد منهم ، قلبين البتة في جوفه .
وفائدة ذكر الجوف ، كالفائدة في قوله : { الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] ، وذلك ما يحصل للسامع من زيادة التصوّر والتجلي للمدلول عليه ؛ لأنه إذا سمع به ، صوّر لنفسه جوفاً يشتمل على قلبين فكان أسرع إلى الإنكار . ومعنى : ظاهر من امرأته ، قال لها : أنت عليّ كظهر أمي . وكان الظهار طلاقاً عند أهل الجاهلية ، فكانوا يتجنبون المرأة المظاهر منها ، كما يتجنبون المطلقة ، وهو في الإسلام يقتضي الطلاق والحرمة إلى أداء الكفارة .
قال الأزهري : وخصوا الظَّهر ؛ لأنه محل الركوب . والمرأة تركب إذا غشيت ، فهو كناية تلويحية ، انتقل من الظَّهر إلى المركوب ، ومنه إلى المغشيّ . والمعنى : أنت محرمة عليّ لا تركبين كما لا تركب الأم . كذا في " الكشف " .
وقوله تعالى : { ذَلِكُمْ } إشارة إلى كل ما ذكر ؛ أي : من كونه ليس لأحد قلبان ، وليست الأزواج أمهات ، ولا الأدعياء أبناء ، أو إلى الأخير فقط وهو الدعوة : { قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } أي : لا حقيقة له فلا يقتضي دعواكم ذلك ، أن يكون ابناً حقيقياً ؛ فإنه مخلوق من صلب رجل آخر فلا يمكن أن يكون له أبوان ، كما لا يمكن أن يكون لبشر واحد قلبان : { وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ } أي : الثابت المحقق في نفس الأمر : { وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } أي : سبيل الحق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ 5 ] .
{ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } أي : انسبوهم إليهم ، وهو إفراد للمقصود من أقواله تعالى الحقة : { هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ } أي : أعدل وأحكم . قال ابن كثير : هذا الأمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام ، من جواز ادعاء الأبناء الأجانب وهم الأدعياء ، فأمر تبارك وتعالى بردّ نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة ، وأن هذا هو العدل والقسط والبر . روى البخاري عن ابن عمر قال : إن زيد بن حارثة رضي الله عنه ، مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد ، حتى نزل القرآن : { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ } . وأخرجه مسلم وغيره .
وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه ، في الخلوة بالمحارم وغير ذلك ، ولهذا قالت سهلة بنت سهيل ، امرأة أبي حذيفة رضي الله عنها : يا رسول الله ! إنا ندعوا سالماً ابناً ، وإن الله قد أنزل ما أنزل ، وإنه كان يدخل عليّ ، وإني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً . فقال صلى الله عليه وسلم : < أرضعيه تحرمي عليه . . > الحديث . ولهذا لما نسخ هذا الحكم ، أباح تبارك وتعالى زوجة الدعيّ ، وتزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ، مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنه . وقال عز وجل : { لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً } [ الأحزاب : 37 ] وقال تبارك وتعالى في آية التحريم : { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ } [ النساء : 23 ] ، احترازاً عن زوجة الدعيّ ، فإنه ليس من الصلب . فأما الابن من الرضاعة ، فمُنزّل منزلة ابن الصلب شرعاً ، بقوله صلى الله عليه وسلم في " الصحيحين " : < حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب > .
فأما دعوة الغير ابناً ، على سبيل التكريم والتحبيب ، فليس مما نهى عنه في هذه الآية ، بدليل ما رواه الامام أحمد وأهل السنن ، إلا الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما : قال : قدّمنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أغليمةَ بني عبد المطلب على جمرات لنا من جَمْع فجعل يلطح أفخاذنا ويقول : < أُبَيْنِيّ ! لاترموا الجمرة حتى تطلع الشمس > . قال أبو عبيدة وغيره : أُبَيْنيّ ، تصغير ابني . وهذا ظاهرالدلالة ؛ فإن هذا في حجة الوداع سنة عشر .
وفي مسلم عن أنس قال : قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < يابنيّ > . رواه أبو داود والترمذي . انتهى كلام ابن كثير .
وفي ذهابه إلى أن الأمر في الآية ناسخٌ نظرٌ ؛ لأن الناسخ لابد أن يرفع خطاباً متقدماً ، وأما ما لاخطاب فيه سابقاً ، بل ورد حكماً مبتدأ رفع البراءة الأصلية ، فلا يسمّى نسخاً اصطلاحاً . فاحفظه ؛ فإنه مهم ومفيد في عدة مواضع .
ولما أمر تعالى بردّ أنساب الأدعياء إلى آبائهم ، إن عرفوا ، أشار إلى دعوتهم بالإخوة والمولوية إن لم يعرفوا ، بقوله سبحانه : { فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ } أي : فتنسبوهم إليهم : { فَإِخْوَانُكُمْ } أي : فهم إخوانكم : { فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } أي : أولياؤكم فيه ؛ أي : فقولوا : هذا أخي ، وهذا مولاي ، ويا أخي ويا مولاي : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أي إثم : { فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ } أي : فيما فعلتموه من نسبة بعضهم إلى غير أبيه في الحقيقة ، مخطئين بالسهو أو النسيان ، أو سبق اللسان ؛ لأن الله تعالى قد وضع الحرج في الخطأ ، ورفع إثمه : { وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } أي : ففيه الجناح ؛ لأن من تعمد الباطل كان آثماً : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } أي : لعفوه عن المخطىء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً } [ 6 ] .
{ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } أي : في كل شيء من أمور الدين والدنيا ، فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم ، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها ، وحقه آثر لديهم من حقوقها ، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها ، وأن يبذلوها دونه ، ويجعلوها فداءه إذا أعضل خَطْبٌ ، ووقاءه إذا لقحت حربٌ ، وأن لا يتبعوا ما تدعوهم إليه نفوسهم ، ولا ما تصرفهم عنه ، ويتبعوا كلَّ ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرفهم عنه ؛ لأن كل ما دعا إليه فهو إرشاد لهم إلى نيل النجاة , والظفر بسعادة الدارين ، وما صرفهم عنه ، فأخذ بحجزهم لئلا يتهافتوا فيما يرمي بهم إلى الشقاوة وعذاب النار . أفاده الزمخشري .
وهذا كما قال تعالى : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [ النساء : 65 ] ، وفي " الصحيح " : < والذي نفسي بيده ! لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه ، وماله ، وولده ، والناس أجمعين > : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } أي : في وجوب تعظيمهن واحترامهن ، وتحريم نكاحهن ، وفيما عدا ذلك كالأجنبيات ؛ ولذا قال ابن كثير : ولكن لا تجوز الخلوة بهن ، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع ، وإن سمى بعض العلماء بناتهن ، أخوات المؤمنين ، كما هو منصوص الشافعي رضي الله عنه في " المختصر " وهو من باب إطلاق العبارة ، لا إثبات الحكم ، وهل يقال لمعاوية وأمثاله ، خال المؤمنين ؟ فيه قولان : وعن الشافعي أنه يقال ذلك . وهل يقال له صلى الله عليه وسلم : أبو المؤمنين ؟ فيه قولان : فصح عن عائشة المنع ، وهو أصح الوجهين للشافعية لقوله تعالى : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } [ الأحزاب : 40 ] ، وروي عن أُبيّ بن كعب وابن عباس رضي الله عنهما ، أنهما قرآ : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم , وأزواجه أمهاتهم ، وهو أبٌ لهم . وروي نحو هذا عن معاوية ومجاهد وعكرمة والحسن ، واستأنسوا عليه بالحديث الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < إنما أنا لكم بمنزلة الوالد ، أعلمكم . فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة , ولا يستدبرها , ولا يستطيب بيمينه > . أفاده ابن كثير .
{ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ } أي : ذوو القرابات : { بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } أي : فيما فرضه ، أو فيما أوحاه إلى نبيّه عليه السلام : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } بيان لأولي الأرحام ، أو صلة لـ : { أَوْلَى } : { إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم } أي : إخوانكم المؤمنين والمهاجرين غير الرحم : { مَّعْرُوفاً } أي : من صدقة ومواساة وهدية ووصية ؛ فإن بسط اليد في المعروف مما حث الله عباده عليه ، ويشارك فيه مع ذوي القربى وغيرهم .
تنبيه :
قال في " الإكليل " : استدل بقوله تعالى : { وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ } الآية ، مَن ورّث ذوي الأرحام . انتهى .
وهو استدلال متين ، وليس مع المخالف ما يقاومه ، بل فهم كثيرون أن المعنيّ بها ، أن القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار ، وأنها ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة ، التي كانت بينهم ، ذهاباً إلى ما روي عن الزبير وابن عباس : أن المهاجري كان يرث الأنصاري ، دون قراباته وذوي رحمه ، للأخوة التي آخى بينهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، حتى أنزل الله الآية . فرجعنا إلى مواريثنا .
إلا أن الاستدلال بذلك هو من عموم الأولوية ، لا أنها خاصة بالمدعي فيها ، كما أسلفنا بيانه مراراً : { كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً } أي : في القرآن ، أو في قضائه وحكمه ، وما كتبه وفرضه ، مقرراً لا يعتريه تبديل ولا تغيير .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } [ 7 ] .
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } أي أخذنا عهودهم بتبليغ الرسالة , والدعاء إلى الحق ، والتعاون والتناصر والاتفاق ، وإقامة الدين ، وعدم التفرق فيه ، كما قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } [ آل عِمْرَان : 81 ] ، قال أبو السعود : وتخصيصهم بالذكر ، يعني قوله : { وَمِنكَ } الخ مع اندراجهم في النبيين ، للإيذان بمزيد مزيتهم وفضلهم ، وكونهم من مشاهير أرباب الشرائع ، وأساطين أولي العزم ، وتقديم نبينا عليهم ، عليهم الصلاة والسلام ، لإبانة خطره الجليل . انتهى .
وقال في " الانتصاف " : وليس التقديم في الذكر بمقتض لذلك ، ألا ترى إلى قوله :
~بَهَاْلِيْلٌ مِنْهُمْ جَعْفَرٌ وَابْنُ أُمِّهِ عَلَيَّ وَمِنْهُمْ أَحْمَدُ الْمُتَخَيَّرُ
فأخّر ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم ليختم به تشريفاً له . وإذا ثبت أن التفضيل ليس من لوازمه التقديم ، فيظهر ، والله أعلم في سر تقديمه عليه الصلاة والسلام ، على نوح ومن بعده في الذكر ، أنه هو المخاطَب من بينهم ، والمنزل عليه هذا المتلوّ ، فكان تقديمه لذلك .
ثم لما قدم ذكره عليه الصلاة والسلام ، جرى ذكر الأنبياء ، صلوات الله عليهم بعده على ترتيب أزمنة وجودهم . والله أعلم . انتهى .
وقد صرح بأولي العزم هنا ، وفي آية : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [ الشورى : 13 ] . قال ابن كثير : فهذه هي الوصية التي أُخذ عليهم الميثاق بها { وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } أي : عهدا عظيم الشأن ، وكيف لا ؟ وقد يعترضه من الماكرين والمحادّين والمشاقّين ، ما تزول منه الجبال ، لولا الاعتصام بالصبر عليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } [ 8 - 9 ] .
{ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ } أي : فعل الله ذلك ليسأل يوم القيامة الأنبياء . ووضع الصادقين موضع ضميرهم ، لإيذان من أول الأمر ، بأنهم صادقون فيما سئلوا عنه , وإنما السؤال لحكمة تقتضيه ، أي : ليسأل الأنبياء الذين صدقوا عهودهم عما قالوه لقومهم ، أو عن تصديقهم إياها تبكيتاً لهم . كما في قوله تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } [ المائدة : 109 ] ، أو المصدقين لهم عن تصديقهم . أفاده أبو السعود { وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً } أي : لمن كفر من أممهم عذاباً موجعاً . ونحن - كما قال ابن كثير - نشهد أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم ، ونصحوا الأمم ، وأفصحوا لهم عن الحق المبين الواضح الجليّ ، الذي لا لبس فيه ولا شك ولا امتراء ، وإن كذبهم من كذبهم من الجهلة ، والمعاندين ، والمارقين ، والقاسطين ، فما جاءت به الرسل هو الحق ، ومن خالفهم فهو على الضلال . انتهى .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي : ما أنعم به عليكم يوم الأحزاب ، وهو يوم الخندق : { إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ } وهم الأحزاب : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } وهم الملائكة ، أو ما أتى من الريح من طيور الجو وجراثيمه ، المشوشة للقارّ المقلقلة للهادئ : { وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً * وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً } . [ 10 - 13 ]
{ إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } أي : من أعلى الوادي وأسفله ، بقصد التحزب على أن يكونوا جملة واحدة على استئصال النبي صلّى الله عليه وسلم ، وصحبه : { وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ } أي : مالت عن سننها ومستوى نظرها ، حيرة وشخوصاً : { وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ } أي : منتهى الحلقوم ؛ لأن بالفزع تنتفخ الرئة فترتفع ، وبارتفاعها ترتفع القلوب ، وذلك من شدة الغم . أو هو مثل في اضطراب القلوب { وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } أي : أنواع الظنون المختلفة : { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ } أي : اختبروا ليتميز الثابت من المتزلزل ، والمؤمن من المنافق : { وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً } أي : أزعجوا أشد الإزعاج من شدة الخوف والفزع ، أو من كثرة الأعداء .
فائدة :
قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر : { الظُّنُوْنَاْ } بإثبات ألف بعد النون ، وبعد لام الرسول ، في قوله : { وَأَطَعْنَا الرَّسُوْلَا } [ الأحزاب : 66 ] ، ولام السبيل ، في قوله : { فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } [ الأحزاب : 67 ] ، وصلاً ووقفاً ، موافقة للرسم ؛ لأن هذه الثلاثة رسمت في المصحف ، كذلك ، وأيضاً فإن هذه الألف تشبه هاء السكت لبيان الحركة . وهاء السكت تثبت وقفاً للحاجة إليها ، وقد ثبتت وصلاً إجراء للوصل مجرى الوقف . فكذلك هذه الألف .
وقرأ أبو عَمْرو وحمزة بحذفها في الحالتين ؛ لأنها لا أصل لها ، وقولهم : أجريت الفواصل مجرى القوافي . غير معتدٍّ به ؛ لأن القوافي يلزم الوقف عليها غالباً ، والفواصل لا يلزم ذلك فيها ، فلا تشبه بها ، والباقون بإثباتها وقفاً ، وحذفها وصلاً ، إجراء للفواصل مجرى القوافي ، في ثبوت ألف الإطلاق ، ولأنها كهاء السكت ، وهي تثبت وقفاً ، وتحذف وصلاً . أفاده السمين . ثم أشار تعالى إلى ظهر من المنافقين في تلك الشدة ، بقوله سبحانه : { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي : شبهة ، تنفساً بما يجدونه من الوسواس في نفوسهم ، وفرصة لانطلاق ألسنتهم ، بما تكنّ صدورهم ؛ لضعف إيمانهم وشدة ما هم فيه من ضيق الحال ، وحصر العدّو لهم : { مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ } أي : من النصر : { إِلَّا غُرُوراً } أي : باطلا : { وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ } أي : المنافقين : { يَا أَهْلَ يَثْرِبَ } وهي أرض المدينة : { لَا مُقَامَ لَكُمْ } بضم الميم وفتحها ، قراءتان ؛ أي : لا إقامة لكم بعد اليوم بالمدينة ، أو نواحيها لغلبة الأعداء : { فَارْجِعُوا } أي : إلى منازلكم من المدينة هاربين ، أو فارجعوا عن الإسلام كفاراً ليمكنكم المقام .
فائدة :
" يثرب " من أسماء المدينة . كما في " الصحيح " : < أريت في المنام دارَ هجرتكم ، أرض بين حرتين ، فذهب وهلى أنها هجر ، فإذا هي يثرب > وفي لفظ : < المدينة > .
قال ابن كثير : فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن البراء قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله تعالى ، إنما هي طابة هي طابة > . تفرد به الإمام أحمد ، وفي إسناده ضعف . انتهى { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ } أي : في الرجوع : { يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } أي : غير حصينة يخشى عليها : { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً * قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً } [ 14 - 16 ] .
{ وَلَوْ دُخِلَتْ } أي : يثرب : { عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا } أي : بأن دخل عليهم العدوّ من سائر جوانبها ، وأخذ في النهب والسلب : { ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ } أي : الرجعة إلى الكفر : { لَآتَوْهَا } أي : لفعلوها : { وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً } أي : وما توقفوا بإعطائها إلا ريثما يكون السؤال والجواب ؛ أي : فهم لا يحافظون على الإيمان ولا يستمسكون به ، مع أدنى خوف وفزع . وهذا منتهى الذم لهم ، ثم ذكّرهم تعالى بما كانوا عاهدوه من قبل بقوله : { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ } أي : من قبل هذا الخوف : { لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّه ِمَسْؤُولاً } أي : عن الوفاء به : { قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ } أي : لأنه لا يؤخر آجالهم , ولا يطوّل أعمارهم . بل ربما كان ذلك سبباً في تعجيل أخذهم غرة انتقاماً منهم ، ولهذا قال : { وَإِذاً } أي : فررتم : { لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً } أي : في الدنيا بعد فراركم ، أو لأنهم فقدوا بذلك حظهم الأخروي ، فمهما متعوا في الدنيا ، فإنه قليل بجانب نعيم الآخرة للصابرين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً * قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } [ 17 - 19 ] . : { قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم } أي : يجيركم : { مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً } أي : هلاكا أو هزيمة : { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً } أي : مجيراً ولا مغيثاً يدفع عنهم الضر : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ } أي : المثبطين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم المنافقون . قال الشهاب : و " قد " : للتحقيق ، أو لتقليله باعتبار متعلقه ، وبالنسبة لغير معلوماته . انتهى { وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ } أي : من ساكني المدينة : { هَلُمَّ إِلَيْنَا } أي : أقبلوا إلى ما نحن فيه من الضلال والثمار : { وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ } أي : القتال : { إِلَّا قَلِيلاً } أي : إلا إتياناً قليلاً ؛ لأنهم يتثبطون ما أمكن لهم : { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } أي : بخلاء بالمعونة والنفقة والمودة عليكم ، أو أضنّاء بكم ظاهراً ، إن لم يحضر خوفٌ : { فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ } أي : في أحداقهم : { كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } أي : كنظره أو كدورانه : { فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } أي : بالغوا فيكم بالكلام طعناً وذماً ، فأحرقوكم وآذوكم ، وأصل السلق : بسط العضو ومدة للقهر ، كان يداً أو لساناً ، ويجوز أن يشبه اللسان بالسيف على طريق الإستعارة المكنية ، ويثبت له السلق وهو الضرب تخييلاً : { أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ } أي : على فعله : { أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } [ 20 - 21 ] .
{ يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا } أي : لم ينهزموا بما أرسل عليهم من الريح والجنود ، وأن لهم عودة إليهم لخورهم واضطرابهم : { وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ } أي : مرة آخرى : { يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ } أي : فلا يذهبون إلى قتالهم ، ولا يستقرّون في المدينة ، بل يتمنون أنهم خارجون إلى البدو بين الأعراب ، وإن لحقهم عار جبنهم : { يَسْأَلُونَ } أي : القادمين : { عَنْ أَنبَائِكُمْ } أي : عما جرى لكم ، ثم أشار تعالى إلى أنه لا يضر خروجهم عن المدينة ، لو أتى الأحزاب ، بقوله : { وَلَوْ كَانُوا فِيكُم } أي : في حدوث واقعة ثانية : { مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً } أي : رياءً وخوفاً من التعيير .
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } أي : في أخلاقه وأفعاله قدوة حسن ؛ إذ كان منها ثباته في الشدائد وهو مطلوب ، وصبره على البأساء والضراء وهو مكروب ومحروب ، ونفسه في اختلاف الأحوال ساكنة ، لا يخور في شديدة ولا يستكين لعظيمة أو كبيرة ، وقد لقي بمكة من قريش ما يشيب النواصي ، ويهدّ الصياصي ، وهو مع الضعف يصابر صبر المستعلي ، ويثبت ثبات المستولي , ومن صبر على هذه الشدائد في الدعاء إلى الله تعالى ، وهو الرفيع الشأن ، كان غيره أجدر إن كان ممن يتبع بإحسان : { لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ } أي : رضوان الله , ورحمته , وثواب اليوم الآخر , ونجاته ؛ فإنه يؤثرهما على الحياة الدنيا ، فلا يجبن ؛ إذ لا يصح الجبن لمن صح اقتداؤه برسول الله صلى الله عليه وسلم ، لغاية قبحه : { وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } أي : وقرن بالرجاء ذكره تعالى بكثرة ؛ أي : ذكر أمره ونهيه ووعده ووعيده ، فأدرك مواطن السعادة ومهاوي الشقاوة ، وعلم أن في الثبات على قتل العدو ، تطهير الأرض من الفساد ، وتزيينها بالحق والصلاح والسداد ، مما جزاؤه سعادة الدارين ، والفوز بالحسنيين .
ثم بين تعالى ما كان من المؤمنين المخلصين في تلك الشدة ، بعد بيان ما كان من غيرهم ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً } [ 22 - 23 ] .
{ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ } أي : لأنه تعالى وعدهم أن يزلزلوا حتى يستغيثوه ويستنصروه ، في قوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ } [ البقرة : 214 ] ، وكذلك حدثهم الرسول صلوات الله عليه بالابتلاء والامتحان الذي يعقبه النصر والأمان : { وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } أي : ظهر صدقهما فيما وعدانا به : { وَمَا زَادَهُمْ } أي : هذا الخطب والبلاء ، عند تزلزل المنافقين وبث أراجيفهم : { إِلَّا إِيمَاناً } أي : بالله ورسوله ، ومواعيدهما : { وَتَسْلِيماً } أي : لأمر الله ومقاديره .
{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } في الصبر والثبات ، والقيام بما كتب عليهم من القتال ، لإعلاء كلمة الحق ، ومن العمل بالصالحات ، ومجانبة السيئات : { فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ } أي : أدّى ما التزمه ووفى به ، فقاتل مع الرسول صلّى الله عليه وسلم ، صادقاً حتى قتل شهيداً .
قال الشهاب : أصل معنى النحب النذر ، وقضاؤه الوفاء به . وقد كان رجال من الصحابة رضي الله عنهم نذروا أنهم إذا شهدوا معه صلّى الله عليه وسلم حرباً ، قاتلوا حتى يستشهدوا . وقد استعير : قضاء النحب ، للموت ؛ لأنه لكونه لا بد منه ، مشبّه بالنذر الذي يجب الوفاء به ، فيجوز أن يكون هنا حقيقة ، أو استعارة من المشاكلة فيه . انتهى . : { وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ } أي : ما وعد الله به من نصره والشهادة على ما مضى عليه أصحابه : { وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً } أي : ما غيروا شيئا من العهد ، ولا نقضوه كنقض المنافقين في توليهم : { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ } [ الأحزاب : 15 ] . ففيه كناية تعريضية تفهم من تخصيصهم به ، والتصريح بالمصدر لإفادة العموم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } [ 24 - 25 ] .
{ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ } أي : في عهودهم : { بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ } أي : كمال غضبهم بما أرسله من الريح والجنود ، بفضله ورحمته : { لَمْ يَنَالُوا خَيْراً } أي : نصراً لا غنيمة : { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } أي : فلم يحوجهم إلى مبارزتهم ليجلوهم عن المدينة . بل تولى كفاية ذلك وحده ؛ ولهذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول : < لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، فلا شيء بعده > : { وكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً } أي : فلا يعارض قوته قوة شيء : { عَزِيزاً } أي : غالباً على أمره .
ذكر تفصيل نبأ الأحزاب المسمى بغزوة الخندق
قال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " : كانت غزوة الخندق في سنة خمس من الهجرة ، في شوّال على أصح القولين ؛ إذ لا خلاف أن أُحداً كانت في شوال سنة ثلاث ، وواعد المشركون رسول الله صلّى الله عليه وسلم في العام المقبل وهي سنة أربع , ثم أخلفوه لأجل جدب السنة ، فرجعوا ، فلما كانت سنة خمس جاءوا لحربه . هذا قول أهل السير والمغازي ، وخالفهم موسى بن عقبة وقال : بل كانت سنة أربع . قال أبو محمد ابن حازم : وهذا هو الصحيح الذي لا شك فيه . واحتج عليه بحديث ابن عمر في " الصحيحين " : أنه عرض على النبي صلّى الله عليه وسلم يوم أُحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه ، ثم عرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه . قال : وصح أنّه لم يكن بينهما إلا سنة واحدة . وأجيب عن هذا بجوابين : أحدهما - أن ابن عمر أخبر أن النبي صلّى الله عليه وسلم رده لما استصغره عن القتال ، وأجازه لما وصل إلى السن التي رآه فيها مطيقاً ، وليس في هذا ما ينفي تجاوزها بسنة أو نحوها .
والثاني - أنه لعله كان يوم أحد في أول الرابع عشرة , ويوم الخندق في آخر الخامس عشرة .
ثم قال ابن القيم رحمه الله : وكان سبب غزوة الخندق ، أن اليهود لما رأوا انتصار المشركين على المسلمين يوم أُحد ، وعلموا بميعاد أبي سفيان لغزو المسلمين ، فخرج لذلك ثم رجع للعام المقبل ، خرج أشرافهم كسلام بن أبي الحقيق ، وسلام بن مشكم ، وكنانة بن الربيع وغيرهم إلى قريش بمكة ، يحرضونهم على غزو رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، و يوالونهم عليه ، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم ، فأجابتهم قريش ، ثم خرجوا إلى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم ، ثم طافوا في قبائل العرب يدعونهم إلى ذلك ، فاستجاب لهم من استجاب .
فخرجت قريش , وقائدهم أبو سفيان في أربعة آلاف ، ووافاهم بنو سُلَيم بمرّ الظهران ، وخرجت بنو أسد ، وفزارة ، وأشجع ، وبنو مرّة ، وجاءت غطفان ، وقائدهم عيينة بن الحصن ، وكان قد وافى الخندق من الكفار عشرة آلاف .
فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمسيرهم إليه ، استشار الصحابة ، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق يحول بين العدو وبين المدينة ، فأمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلم فبادر إليه المسلمون ، وعمل بنفسه فيه وبادروا ، وهجم الكفار عليهم ، وكان في حفره آيات نبوّته وأعلام رسالته ما قد تواتر الخبر به ، وكان حفر الخندق أمام سَلْع . وسلع جبل خلف ظهور المسلمين ، والخندق بينهم وبين الكفار ، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم في ثلاثة آلف من المسلمين ، فتحصن بالجبل من خلفه ، وبالخندق أمامهم .
وقال ابن إسحاق : خرج في سبعمائة . وهذا غلط من خروجه يوم أُحد .
وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم بالنساء والذراري فجعلوا في آطام المدينة ، واستخلف عليها ابن أم مكتوم ، وانطلق حُيي بن أخطب إلى بني قريظة ، فدنا من حصنهم . فأبى كعب بن أسد أن يفتح له ، فلم يزل يكلمه حتى فتح له ، فلما دخل عليه قال : لقد جئتكم بعزّ الدهر ؛ جئتك بقريش ، وغطفان ، وأسد على قادتها لحرب محمد . قال : قال كعب : جئتني ، والله ! بذل الدهر وبجهام قد أراق ماءه ، فهو رعد وبرق . فلم يزل به حتى نقض العهد الذي بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخل مع المشركين في محاربته ، فسرّ بذلك المشركون . وشرط كعب على حُيي أنه إن لم يظفروا بمحمدٍ ، أن يجيء حتى يدخل معه في حصنه ، فيصيبه ما أصابه . فأجابه إلى ذلك ، ووفى له به . وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم خبر بني قريظة , ونقضهم للعهد ، فبعث إليهم السعدين ، وخوات بن جبير ، وعبد الله بن رواحة ليعرفوه : هل هم على عهدهم , أو قد نقضوه . فلما دنوا منهم فوجدوهم على أخبث ما يكون ، وجاهروهم بالسب والعداوة ، ونالوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم , فانصرفوا عنهم ، ولحنوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم لحناً يخبرونه أنهم قد نقضوا العهد وغدروا . فعظم ذلك على المسلمين . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند ذلك : < الله أكبر ! أبشروا يا معشر المسلمين > . واشتد البلاء وتجهر النفاق , واستأذن بعض بني حارثة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الذهاب إلى المدينة وقالوا : بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً . وهمّ بنو سلمة بالفشل ، ثم ثبّت الله الطائفتين .
وأقام المشركون محاصرين رسول الله صلّى الله عليه وسلم شهراً ، ولم يكن بينهم قتال ؛ لأجل ما حال الله به من الخندق ، بينهم وبين المسلمين ، إلا أن فوارس من قريش منهم عَمْرو بن عبد ودّ وجماعة معه ، أقبلوا نحو الخندق ، فلما وقفوا عليه قالوا : إن هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها , ثم تيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق فاقتحموه , وجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع , ودعوا إلى البراز , فانتدب لعمرو عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، فبارزه فقتله الله على يديه , وكان من شجعان المشركين وأبطالهم ، وانهزم الباقون إلى أصحابهم . وكان شعار المسلمين يومئذ : " حم لا ينصرون " .
ولما طالت هذه الحال على المسلمين ، أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يصالح عُيينة بن حصن والحارث بن عوف ، رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة ، وينصرفا بقومهما ، وجرت المراوضة على ذلك ، فاستشار السعدين في ذلك فقالا : يا رسول الله ! إن كان الله أمرك بهذا ، فسمعاً وطاعةً , وإن كان شيء تصنعه لنا ، فلا حاجة لنا فيه . لقد كنا نحن [ و ] هؤلاء القوم على الشرك بالله ، وعبادة الأوثان ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرىً أو بيعاً ، فحين أكرمنا الله بالإسلام ، وهدانا له ، وأعزنا بك ، نعطيهم أموالنا ؟ والله ! لا نعطيهم إلا السيف . فصوّب رأيهما وقال : < إنما هو شيء أصنعه لكم ، لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة > .
ثم إن الله عز وجل ، وله الحمد ، صنع أمراً من عنده ، خذل به بين العدو ، وهزم جموعهم ، وفلّ حدّهم ؛ فكان مما هيأ من ذلك ، أن رجلا من غطفان يقال له نعيم بن مسعود بن عامر ، رضي الله عنه ، جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إني قد أسلمت ، فمرني بما شئت . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < إنما أنت رجل واحد ، فخذّل عنّا ما استطعت ؛ فإن الحرب خدعة > . فذهب من فوره ذلك إلى بني قريظة ، وكان عشيراً لهم في الجاهلية ، فدخل عليهم وهم لا يعلمون بإسلامه فقال : يا بني قريظة ! إنكم قد حاربتم محمداً ، وإن قريشاً إن أصابوا فرصةً انتهزوها ، وإلا انشمروا إلى بلادهم راجعين ، وتركوكم ومحمداً ، فانتقم منكم . قالوا : فما العمل يا نعيم ؟ ! قال : لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن . قالوا : لقد أشرت بالرأي . ثم مضى على وجهه إلى قريش . قال لهم : تعلمون ودي لكم ونصحي لكم . قالوا : نعم . قال : إن يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه ، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه ، ثم يوالونه عليكم ، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم . ثم ذهب إلى غطفان فقال لهم مثل ذلك ، فلما كان ليلة السبت من شوال بعثوا إلى يهود : إنا لسنا بأرض مقام ، وقد هلك الكراع والخفُّ ، فانهضوا بنا حتى نناجز محمداً . فأرسل إليهم اليهود : إن اليوم يوم السبت ، وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه ، ومع هذا ، فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا لنا رهائن . فلما جاءتهم رسلهم بذلك ، قالت قريش صدقكم ، والله ! نعيم . فبعثوا إلى يهود : إنا ، والله ! لا نرسل إليكم أحداً ، فاخرجوا معنا حتى نناجز محمداً . فقالت قريظة : صدقكم ، والله ! نعيم . فتخاذل الفريقان : وأرسل الله عز وجل على المشركين جنداً من الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد ، فجعلت تقوّض خيامهم ، ولا تدع لهم قدراً إلا كفأتها ، ولا طُنُبا إلا قلعته ، ولا يقر لهم قرار ، وجند الله من الملائكة يزلزلونهم ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف . وأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم ، فوجدهم على هذه الحال ، وقد تهيأوا للرحيل . فرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبرهم برحيل القوم ، فأصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، وقد ردّ الله عدوه بغيظه ، لم ينالوا خيراً ، وكفى الله قتالهم ، فصدق وعده ، وأعز جنده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده .
ثم لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة مؤيداً منصوراً ، والمسلمون معه ، ووضعوا السلاح ، وكانت الظهر ، أتى جبريل النبي صلّى الله عليه وسلم فقال : إن الله عز وجل يأمرك بالمسير إلى بني قريظة - وهم قبيلة من يهود خيبر - فإني عامدٌ إليهم فمزلزلٌ بهم . فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم مؤذناً فأذن في الناس : < من كان سامعاً مطيعاً ، فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة > . واستعمل على المدينة ابنَ أم مكتوم ، وقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ، رضوان الله عنه ، برايته إلى بني قريظة ، وابتدرها الناس ، فسار علي ، حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فرجع حتى لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالطريق . فقال : يا رسول الله ! لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث . قال : < لِمَ ؟ أظنك سمعت منهم لي أذىً > . قال : نعم ، يا رسول الله . قال : < لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً > . وتلاحق به الناس ، وحاصرهم خمساً وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ، ثم نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فتواثبت الأوس فقالوا : يا رسول الله ! صلى الله عليك وسلم ، إنهم كانوا موالينا دون الخزرج ، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت .
وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، قبل بني قريظة ، قد حاصر بني قينقاع وهم شعب من اليهود كانوا بالمدينة ، وكانوا حلفاء الخزرج ، فنزلوا على حكمه ، فسأله إياهم عبد الله بن أُبي ابن سلول فوهبهم له .
فلما كلمته الأوس قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < ألا ترضون ، يا معشر الأوس ! أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ > قالوا : بلى . قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < فذاك إلى سعد بن معاذ > .
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم ، يقال لها رُفيدة في مسجده ، كانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين , وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق : < اجعلوه في خيمة رُفيدة حتى أعوده من قريب > . فلما حكّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بني قريظة ، أتاه قومه فحملوه على حمار .
وكان رجلاً جسيماً جميلاً ، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فلما انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمين ، قال صلّى الله عليه وسلم : < قوموا إلى سيدكم > فقاموا إليه فأنزلوه .
قال ابن كثير : إعظاماً وإكراماً ، واحتراماً له ، في محل وليته ، ليكون أنفذ لحكمه فيهم . فلما جلس ، قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك , فاحكم فيهم بما شئت > . وصارت تعرّض له الأوس أن يحسن إليهم ، وتقول : يا أبا عَمْرو ! إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم .
فقال رضي الله عنه : عليكم عهد الله وميثاقه ، أنّ الحكم فيهم لما حكمتُ . قالوا : نعم . قال : وعلى من ها هنا - في الناحية التي فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، وهو معرض عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إجلالاً له - فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < نعم > . قال سعد : فإني أحكم فيهم أن تُقتل الرجال ، وتُقسم الأموال ، وتُسبى الذراري والنساء . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لسعد : < لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة > . وفي رواية : < لقد حكمت بحكم الملك > - أي : لأن هذا جزاء الخائن الغادر - وكان سعد أصيب يوم الخندق ؛ رماه رجل من قريش يقال له ابن العَرِقة ، رماه في الأكحل . فكواه رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أكحله . وقال سعد : اللهم ! إن كنتَ أبقيت من حرب قريش شيئاً ، فأبقني لها : فإنه لا قوم أحب إليّ أن أجاهد ، من قوم آذوا رسولك ، وكذبوه ، وأخرجوه . اللهم ! وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم ، فاجعل لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة . فاستجاب الله تعالى دعاءه ، وقدرّ عليهم أن نزلوا على حكمه باختيارهم ، طلباً من تلقاء أنفسهم .
ثم لما استنزلوا من حصونهم ، حبسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة في دار ، ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق ، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق ، يخرج بهم إليه أرسالاً ، وفيهم عدو الله حُيي بن أخطب ، وكعب بن أسد رأسُ القوم ، وهم ستمائة أو سبعمائة ، وسُبي من لم ينبت منهم مع النساء وأموالهم ، وهذا ما ذكره تعالى من أمر بني قريظة ، إثر أمر الخندق بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } [ 26 - 28 ] .
{ وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم } أي : عاونوا الأحزاب ، وساعدوهم على حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم : { مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } يعني بني قريظة ، وهم طائفة من اليهود ، كان نزل آباؤهم الحجاز لما فروا من الاضطهاد وتشتتوا كل شتات في أطراف البلاد : { مِن صَيَاصِيهِمْ } أي : حصونهم وآطامهم التي كانوا فيها : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } أي : الخوف ، جزاءً وفاقاً .
قال ابن كثير : لأنهم كانوا مالَئوا المشركين على حرب النبي صلّى الله عليه وسلم - وليس من يعلم كمن لا يعلم - وأخافوا المسلمين وراموا قتلهم ليعزوا في الدنيا ، فانعكس عليهم الحال وانقلب إليهم القتال ، لما انشمر المشركون وراحوا بصفقة المغبون ، فكما راموا العز ذلوا ، وأرادوا استئصال المسلمين فاستؤصلوا ؛ ولهذا قال تعالى : { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } يعني قتل الرجال المقاتلة ، وسبي الذراري والنساء .
روى الإمام أحمد عن عطية القرظي قال : عُرضت على النبي صلّى الله عليه وسلم يوم قريظة فشكّوا فيّ . فأمر بي النبي صلّى الله عليه وسلم أن ينظروا : هل أنبتُّ بعد ؟ فنظروني فلم يجدوني أنبتُّ ، فخلى عني ، وألحقني بالسبي . وكذا رواه أهل السنن كلهم : وقال الترمذي : حسن صحيح .
{ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ } حصونهم : { وَأَمْوَالَهُمْ } أي : نقودهم وأثاثهم ومواشيهم : { وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا } أي : أرضاً لم تقبضوها بعد ، يعني خيبر ، وقيل مكة . رواه مالك عن زيد بن أسلم . وقيل : فارس والروم ، وقال ابن جرير : يجوز أن يكون الجميع مراداً . قال الزمخشري : ومن بدع التفاسير أنه أراد نساءهم . وبتمام هذه الغزوة أراح الله المسلمين من شر مجاورة اليهود الذين تعودوا الغدر والخيانة ، ولم يبق إلا بقية من كبارهم بخيبر مع أهلها ، وهم الذين كانوا السبب في إثارة الأحزاب . قال بعضهم : يالله ! ما أسوأ عاقبة الطيش ! فقد تكون الأمة مرتاحة البال هادئة الخواطر ، حتى تقوم جماعة من رؤسائها بعمل غدر يظنون من ورائه النجاح ، فيجلب عليهم الشرور ويشتتهم من ديارهم .
وهذا ما حصل لليهود في الحجاز ؛ فقد كان بينهم وبين المسلمين عهود يأمن بها كل منهم الآخر ، ولكن اليهود لم يوفوا بتلك العهود حسداً منهم وبغياً . فتم عليهم ما تم ، سنة الله في المفسدين ، فإن الله لا يصلح أعمالهم : { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } أي : وقد شاهدتم بعض مقدوراته فاعتبروا بغيرها
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي : السعة والتنعم فيها : { وَزِينَتَهَا } أي : زخارفها : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ } أي : أعطكن المتعة وأطلقكن . والمتعة : ما يعطى للمرأة المطلقة على حسب السعة والإقتار ، من ثياب أو دراهم أو أثاث ، تطوعاً لا وجوباً . وقوله تعالى : { سَرَاحاً جَمِيلاً } أي : طلاقاً من غير ضرار ولا بدعة . وقد روي أنهن سألن النبي صلّى الله عليه وسلم ثياب الزينة وزيادة النفقة مما ليس عنده . فنزلت الآية . ولما نزلت ، بدأ صلّى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها ، وكانت أحبهن إليه ، فخيّرها وقرأ عليها القرآن ، فاختارت الله ورسول والدار الآخرة ، ثم اختار جميعهن اختيارها ، قيل : وكان تحته يومئذ تسع نسوة ، خمس من قريش : عائشة ، وحفصة ، وأم حبيبة ، وسودة ، وأم سلمة رضي الله عنهن ، ثم صفية بنت حيي النضرية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية رضي الله عنهن .
لطيفة :
قال الرازي : وجه التعلق ، وهو أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين : التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله . وإلى هذا أشار عليه السلام بقوله : < الصلاة وما ملكت أيمانكم > . ثم إن الله تعالى لما أرشد نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله ، بقوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ } [ الأحزاب : 1 ] ، ذكر ما يتعلق بجانب الشفقة ، وبدأ بالزوجات ، فإنهن أولى الناس بالشفقة ، ولذا قدمهن في النفقة . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً * يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } [ 29 - 30 ] .
{ وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ } أي : تردن رسوله . قال أبو السعود : وذكر الله عز وجل ، للإيذان بجلالة محله عليه السلام ، عنده تعالى : { فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } أي : لا يقدر قدره . ولما خيرهن النبي صلّى الله عليه وسلم ، واخترن الله ورسوله ، أدبهن الله وهددهن ، للتوقي عما يسوء النبي صلّى الله عليه وسلم ، ويقبح بهن من الفاحشة ، وأوعدهن بتضعيف العذاب بقوله تعالى : { يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } أي : بين الشرع والعقل قبحها ، إن قرئ بالفتح . أو مبيّنة قبحها بنفسها من غير تأمل ، إن قرئ بالكسر : { يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } أي : ضعفي عذاب غيرهن . قال القاضي : لأن الذنب منهن أقبح ، فإن زيادة قبحه تتبع زيادة فضل المذنب والنعمة عليه ، ولذلك جعل حدّ الحر ضعفي حد العبد ، وعوتب الأنبياء بما لا يعاتب به غيرهم : { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } لعموم قدرته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً * يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } [ 31 - 33 ] .
{ وَمَن يَقْنُتْ } أي : يدم مطيعاً : { مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } أي : في إتيان الواجبات ، وترك المحرمات والمكروهات : { وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } أي : مرة على الطاعة والتقوى ، وأخرى على طلبهن رضا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، بحسن الخلق ، وطيب المعاشرة ، والقناعة : { وَأَعْتَدْنَا لَهَا } أي : زيادة على أجرها المضاعف في الجنة ، أو فيها ، وفي الدنيا : { رِزْقاً كَرِيماً } أي : حسناً مرضياً : { يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ } أي : عند مخاطبة الناس ؛ أي : فلا تُجبن بقولكن ليناً خنثاً ، مثل كلام المريبات والمومسات : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } أي : ريبة وفجور : { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } أي : بعيداً من طمع المريب بجدّ وخشونة ، من غير تخنيث ، أو قولاً حسناً مع كونه خشناً .
{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } أي : اسكن ولا تخرجن منها . من وقر يقر وقاراً ، إذا سكن . أو من قرّ يقرّ من باب ضرب ، حذفت الأولى من رائي اقررن ، ونقلت كسرتها إلى القاف ، فاستغنى عن همزة الوصل , ويؤيده قراءة نافع وعاصم بالفتح , من قررت أقر ، من باب علم . وهي لغة قليلة : { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } أي : تبرج النساء أيام جاهلية الكفر الأولى ؛ إذ لا دين يمنعهم ولا أدب يزعهم , والتبرج ، فسر بالتبختر والتكسر في المشي , وبإظهار الزينة وما يُستدعى به شهوة الرجل ، وبلبس رقيق الثياب التي لا تواري جسدها , وبإبداء محاسن الجيد والقلائد والقرط ، وكل ذلك مما يشمله النهي ؛ لما فيه من المفسدة والتعرض لكبيرة .
فائدة :
قيل : { الْأُولَى } بمعنى القديمة مطلقاً من غير تقييد بزمن . فيستدل بذلك لمن قال : إن الأول لا يستلزم ثانياً . قال في " الإكليل " : وهو الأصح عند العلماء . فلو قال : أول ولد تلدينه فأنت طالق ، لم يحتج إلى أن تلد ثانياً . انتهى .
وقال الزمخشري : الأولى هي القديمة التي يقال لها الجاهلية الجهلاء , من الزمن الذي ولد فيه إبراهيم ، أو ما قبله ، إلى زمن عيسى . والجاهلية ما بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما . ويجوز أن تكون الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام ، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام ، ويعضده ما روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لأبي ذر ، لما عير رجلاً بأمه وكانت أعجمية : < إنك امرؤ فيك جاهلية > .
والمعنى نهيهن عن إحداث جاهلية في الإسلام ، تشبه جاهلية الكفر قبله : { وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : بموافقة أمرهما ونهيهما . ثم أشار إلى أن مخالفتهما رجس لا يناسب فضل أهل البيت بقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } أي : ما أمركن ونهاكن ، ووعظكن ، إلا خيفة مقارفة المآثم ، والحرص على التصوّن عنها بالتقوى . فالجملة تعليلية لأمرهن ونهيهن على سبيل الاستئناف .
قال الزمخشري : استعار للذنوب الرجس ، وللتقوى الطهر ؛ لأن عرض المقترف للمقبحات يتلوث بها ويتدنس كما يتلوث بدنه بالأرجاس ، وأما المحسنات فالعرض معها نقيّ مصون كالثوب الطاهر . وفي هذه الاستعارة ما ينفر أولي الألباب عما كرهه الله لعباده ونهاهم عنه ، ويرغبهم فيما رضيه لهم وأمرهم به . و : { أَهْلَ الْبَيْتِ } نصب على النداء ، أو على المدح . والمراد بهم من حواهم بيت النبي صلّى الله عليه وسلم .
قال ابن كثير : وهذا نص في دخول أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم في أهل البيت ههنا ، لأنهن سبب نزول هذه الآية ، وسبب النزول داخل فيه قولاً واحداً ، إما وحده على قول ، أو مع غيره على الصحيح . وأما قول عِكْرِمَة ، إنها نزلت في نساء النبي صلّى الله عليه وسلم خاصة ، ومن شاء باهلته في ذلك ، فإن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن ، فصحيح . وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن ، ففي هذا نظر ؛ فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك ، وأنه صلّى الله عليه وسلم جمع علياً وفاطمة والحسن والحسين ، ثم جللهم بكساء كان عليه ، ثم قال : < هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس > .
وقد ساق ابن كثير طرق هذا الحديث ومخرجيه ، إلا أن الشيخين لم يصححاه ، ولذا لم يخرجاه ، وأما ما رواه مسلم عن حصين بن سَبْرة ، عن زيد بن أرقم ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < أما بعد ، أيها الناس ! إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله ، واستمسكوا به ، فحث على كتاب الله عز وجل ، ورغب فيه . ثم قال : وأهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي - قالها ثلاثاً - > . فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : نساؤه من أهل بيته . ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده . قال : ومن هم ؟ قال : آل عليّ ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس - رضي الله عنهم - فإنما مراد زيد ، آله الذين حرموا الصدقة ، أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط ، بل هم مع آله . قال ابن كثير : وهذا احتمال أرجح ، جمعاً بين القرآن والأحاديث المتقدمة ، إن صحت ، فإن في بعض أسانيدها نظراً . انتهى .
وقال أبو السعود : وهذه كما ترى آية بينة ، وحجة نيرة ، على كون نساء النبي صلّى الله عليه وسلم من أهل بيته ، قاضية ببطلان رأي الشيعة في تخصيصهم أهلية البيت بفاطمة وعلي وابنيهما رضوان الله عليهم ، وأما ما تمسكوا به من حديث الكساء ، وتلاوته صلّى الله عليه وسلم الآية بعده ، فإنما يدل على كونهم من أهل البيت ، لا على أن من عداهم ليسوا كذلك ، ولو فرضت دلالته على ذلك لما اعتد بها ، لكونها في مقابلة النص . انتهى .
بقي أن الشيعة ، تمسكوا بالآية أيضاً على عصمة علي رضي الله عنه ، وإمامته دون غيره . قال ابن المطهر الحلي منهم : وفي هذه الآية دلالة على العصمة مع التأكيد بلفظ : { إِنَّمَاْ } وإدخال اللام في الخبر ، والاختصاص في الخطاب بقوله : { وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } وغيرهم ليس بمعصوم الخ . وأجاب ابن تيمية رحمه الله في " منهاج السنة " بقوله : ليس في هذا دلالة على عصمتهم ولا إمامتهم . وتحقيق ذلك في مقامين :
أحدهما - أن قوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } كقوله : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } [ المائدة : 6 ] ، وكقوله : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [ البقرة : 185 ] ، وكقوله : { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً } [ النساء : 26 - 27 ] ، فإن إرادة الله في هذه الآيات متضمنة لمحبة الله لذلك المراد ورضاه به ، وأنه شرعه للمؤمنين وأمرهم به ، ليس في ذلك أنه خلق هذا المراد ، ولا أنه قضاه وقدره ، ولا أنه يكون لا محالة ، والدليل على ذلك ، أن النبي صلّى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية قال : < اللهم هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً > فطلب من الله لهم إذهاب الرجس والتطهير ، فلو كانت الآية تتضمن إخبار الله بأنه قد أذهب عنهم الرجس وطهرهم ، ولم يحتج إلى الطلب والدعاء .
وهذا على قول القدرية أظهر ؛ فإن إرادة الله عندهم لا تتضمن وجود المراد ، بل قد يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد ، فليس في كونه تعالى مريداً لذلك ، ما يدل على وقوعه .
وهذا الرافضي وأمثاله قدرية ، فكيف يحتجون بقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ } على وقوع المراد ؟ وعندهم أن الله قد أراد إيمان من على وجه الأرض . فلم يقع مراده . وأما على قول أهل الإثبات ، فالتحقيق في ذلك أن الإرادة في كتاب الله نوعان : إرادة شرعية دينية تتضمن محبته ورضاه . وإرادة كونية قدرية تتضمن خلقه وتقديره . الأولى مثل هؤلاء الآيات . والثانية مثل قوله تعالى : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } [ الأنعام : 125 ] ، وقول نوح : { وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ } [ هود : 34 ] .
وكثير من المثبتة والقدرية يجعل الإرادة نوعاً واحداً ، كما يجعلون الإرادة والمحبة شيئاً واحداً ، ثم القدرية ينفون إرادته لما بين أنه مراد في الآيات التشريع ؛ فإنه عندهم كل ما قيل إنه مراد ، فلا يلزم أن يكون كائناً ، والله قد أخبر أنه يريد أن يتوب على المؤمنين وأن يطهرهم ، وفيهم من تاب وفيهم من لم يتب ، وفيهم من تطهر وفيهم من لم يتطهر ، وإذا كانت الآية دالة على وقوع أراده من التطهير وإذهاب الرجس ، لم يلزم بمجرد الآية ثبوت ما ادعاه .
ومما يبيّن ذلك [ أن ] أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم مذكورات في الآية , والكلام في الأمر بالتطهير بإيجابه ووعد الثواب على فعله والعقاب على تركه . قال تعالى : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } [ الأحزاب : 30 ] ، إلى قوله : { وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } ، فالخطاب كله لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلم ، ومعهن الأمر ، والنهي ، والوعد ، والوعيد . لكن لما تبين ما في هذا من المنفعة التي تعمهن وتعممّ غيرهن من أهل البيت ، جاء التطهير بهذا الخطاب وغيره ليس مختصاً بأزواجه . بل هو متناول لأهل البيت كلهم ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين أخص من غيرهم بذلك ، ولذلك خصهم النبي صلّى الله عليه وسلم بالدعاء لهم ، وهذا كما أن قوله : { لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } [ التوبة : 108 ] ، نزلت بسبب مسجد قباء ، لكن الحكم يتناوله ويتناول ما هو أحق منه بذلك ، وهو مسجد المدينة وهذا يوجه ما ثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال : < هو مسجدي هذا > . وثبت عنه في الصحيح أنه كان يأتي قباء كل سبت ماشياً وراكباً ، فكان يقوم في مسجده يوم الجمعة ، ويأتي قباء يوم السبت ، وكلاهما مؤسس على التقوى . وهكذا أزواجه ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين رضي الله عنهم أخص بذلك من أزواجه ؛ ولهذا خصهم بالدعاء . وقد تنازع الناس في آل محمد من هم ؟ فقيل : أمته . وهذا قول طائفة من أصحاب محمد ، ومالك ، وغيرهم . وقيل : المتقون من أمته . ورووا حديثا < آل محمد كل مؤمن تقي > رواه الخلال ، وتمام في " الفوائد " له . وقد احتج به طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم ، وهو حديث موضوع ، وبنى على ذلك طائفة من الصوفية ، أن آل محمد هم خواص الأولياء ؛ كما ذكر الحكيم الترمذي .
والصحيح أن آل محمد هم أهل بيته , وهذا هو المنقول عن الشافعي وأحمد , وهو اختيار الشريف أبي جعفر وغيرهم . لكن هل أزواجه من أهل بيته ؟ على قولين هما روايتان عن أحمد . أحدهما - أنهن لسن من أهل البيت . ويروى هذا عن زيد بن أرقم . والثاني - وهو الصحيح أن أزواجه من آله . فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه علمهم الصلاة عليه : < اللهم صل على محمد وأزوجه وذريته > . ولأن امرأة إبراهيم من آله وأهل بيته ، وامرأة لوط من آله وأهل بيته ؛ بدلالة القرآن . فكيف لا يكون أزواج محمد من آله وأهل بيته ؟ ولأن هذه الآية تدل على أنهن من أهل بيته ، وإلا لم يكن لذكر ذلك في الكلام معنى ، وأما الأتقياء من أمته فهم أولياؤه ؛ كما ثبت في " الصحيح " أنه قال : < إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء ، وإنما ولي الله وصالح المؤمنين > . فبين أن أولياءه صالح المؤمنين ، وكذلك في حديث آخر : < إن أوليائي المتقون ، حيث كانوا وأين كانوا > . وقد قال تعالى : { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } [ التحريم : 4 ] ، وفي " الصحاح " عنه أنه قال : < وددت أني رأيت إخواني > . قالوا : أولسنا إخوانك ؟ قال : < بل أنتم أصحابي ، وإخوتي قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني > . وإذا كان كذلك ، فأولياؤه المتقون ، بينه وبينهم قرابة الدين ، والإيمان ، والتقوى ، وهذه القرابة الدينية أعظم من القرابة الطبيعية . والقرب بين القلوب والأرواح أعظم من القرب بين الأبدان . ولهذا كان أفضل الخلق أولياؤه المتقون . وأما أقاربه ففيهم المؤمن والكافر والبر والفاجر . فإن كان فاضل منهم ، كعلي رضي الله عنه وجعفر والحسن والحسين ، ففضلهم بما فيهم من الإيمان والتقوى ، وهم أولياؤه بهذا الاعتبار لا بمجرد النسب .
فأولياؤه أعظم درجة من آله ، وإن صلى على آله تبعاً ، لم يقتض ذلك أن يكونوا أفضل من أوليائه الذين لم يصل عليهم ؛ فإن الأنبياء والمرسلين هم من أوليائه . وهم أفضل من أهل بيته , وإن لم يدخلوا في الصلاة معه تبعاً ، فالمفضول قد يختص بأمر ، ولا يلزم أن يكون أفضل من الفاضل . ودليل ذلك أن أزواجه هم ممن يصلي عليه كما ثبت ذلك في الصحيحين . وقد ثبت باتفاق الناس كلهم أن الأنبياء أفضل منهن كلهن .
فإن قيل : فهب أن القرآن لا يدل على وقوع ما أريد من التطهير وإذهاب الرجس ، لكن دعاء النبي صلّى الله عليه وسلم بذلك يدل على وقوعه ، فإن دعاءه مستجاب . قيل : المقصود أن القرآن لا يدل على ما ادعاه بثبوت الطهارة وإذهاب الرجس ، فضلاً عن أن يدل على العصمة والإمامة . وأما الاستدلال بالحديث فذاك مقام آخر .
ثم نقول في المقام الثاني : هب أن القرآن دل على طهارتهم , وعلى ذهاب رجسهم ، كما أن الدعاء المستجاب لا بد أن يستحق معه طهارة المدعوِّ لهم ، وإذهاب الرجس عنهم . لكن ليس في ذلك ما يدل على العصمة من الخطأ ، والدليل عليه أن الله لم يرد بما أمر به أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم أن لا يصدر من واحدة منهن خطأ ؛ فإن الخطأ مغفور لهن ولغيرهن ، وسياق الآية يقتضي أنه يريد ليذهب عنهم الرجس الذي هو الخبث ، كالفواحش ويطهرهم تطهيراً من الفواحش وغيرها من الذنوب .
والتطهير من الذنب على وجهين ، كما في قوله : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } [ المدثر : 4 ] ، وقوله : { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } [ الأعراف : 82 ] و [ النمل : 56 ] ، فإنه قال فيها : { مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } [ الأحزاب : 30 ] والتطهر من الذنوب إما بأن لايفعله العبد ، وإما بأن يتوب منه كما في قوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [ التوبة : 103 ] ، ما أمر الله به من الطهارة ابتداء وإرادة ، فإنه يتضمن نهيه عن الفاحشة ، لا يتضمن الإذن فيها بحال . لكن هو سبحانه ينهى عنها ، ويأمر من فعلها بأن يتوب منها . وفي " الصحيح " عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه كان يقول : < اللهم ! باعد بيني وبين خطاياي ، كما باعدت بين المشرق والمغرب . واغسلني بالثلج والبرد والماء البارد . اللهم ! نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس > . وبالجملة ، لفظ الرجس ، أصله القذر . ويراد به الشرك . كقوله : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ } [ الحج : 30 ] ، ويراد به الخبائث المحرمة ، كالمطعومات والمشروبات كقوله : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً } [ الأنعام : 145 ] ، وقوله : { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } [ المائدة : 90 ] ، وإذهاب ذلك إذهاب لكله ، ونحن نعلم أن الله أذهب عن أولئك السادة الشرك والخبائث . ولفظ الرجس عام يقتضي أن الله يذهب جميع الرجس . فإن النبي صلّى الله عليه وسلم دعا بذلك . وأما قوله : { وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيْراً } فهو سؤال مطلق بما يسمى طهارة .
وبعض الناس يزعم أن هذا مطلق فيكتفي فيه بفرد من أفراد الطهارة . ويقول مثل ذلك في قوله : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } [ الحشر : 2 ] ، ونحو ذلك . والتحقيق أنه أمر بمسمى الاعتبار الذي يقال عند الإطلاق ، كما إذا قيل : أكرم هذا ، أي : افعل معه ما يسمى عند الإطلاق إكراماً ، وكذلك ما يسمى عند الإطلاق اعتباراً ، والْإِنْسَاْن لا يسمى معتبراً إذا اعتبر في قصة ، وترك ذلك في نظيرها . وكذلك لا يقال : هو طاهر ، أو متطهر ، أو مطهر ، إذا كان متطهراً من شيء ، متنجساً بنظيره . ولفظ الطاهر كلفظ الطيب ؛ قال تعالى : { وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ } [ النور : 26 ] ، كما قال : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ } [ النور : 26 ] ، وقد روي أنه قال لعمار : < ائذنوا له . مرحبا بالطيب المطيب > . وهذا أيضاً كلفظ المتقي والمزكي ؛ قال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [ الشمس : 9 - 10 ] ، وقال : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [ التوبة : 103 ] ، وقال : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } [ الأعلى : 14 ] ، وقال : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } [ النور : 21 ] ، وليس من شرط المتقين ونحوهم أن لا يقع منهم ذنب ، ولا أن يكونوا معصومين من الخطأ والذنوب ، فإن هذا - لو كان كذلك - لم يكن في الأمة متّق ، بل من تاب من ذنوبه دخل في المتقين . كما قال : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً } [ النساء : 31 ] ، فدعاء النبي صلّى الله عليه وسلم بأن يطهرهم تطهيراً ، كدعائه بأن يزكيهم ويطييهم ويجعلهم متقين ، ونحو ذلك ومعلوم أن من استقرّ أمره على ذلك ، فهو داخل في هذا ، لا تكون الطهارة التي دعا بها لهم بأعظم مما دعا به لنفسه ، وقد قال : < اللهم ! طهرني من خطاياي بالثلج والبرد والماء البارد > . فمن وقع ذنبه مغفوراً أو مكفراً ، فقط طهره الله منه تطهيراً ، ولكن من مات متوسخاً بذنوبه ، فإنه لم يطهر منها في حياته . وقد يكون من تمام تطهيرهم صيانتهم عن الصدقة التي هي أوساخ الناس . والنبي صلّى الله عليه وسلم ، إذا دعا بدعاء ، أجابه الله بحسب استعداد المحل . فإذا استغفر للمؤمنين والمؤمنات ، لم يلزم أن لا يوجد مؤمن مذنب ، فإن هذا ، لو كان واقعاً ، لما عُذب مؤمن ، لا في الدنيا ولا في الآخرة . بل يغفر الله لهذا بالتوبة ، ولهذا بالحسنات الماحية ، ويغفر الله لهذا ذنوباً كثيرة ، وإن واحدة بأخرى ، وبالجملة ، فالتطهير الذي أراده الله والذي دعا به النبي صلّى الله عليه وسلم ، ليس هو العصمة بالاتفاق ، فإن أهل السنة عندهم ، لا معصوم إلا النبي صلّى الله عليه وسلم . والشيعة يقولون : لا معصوم غير النبي صلّى الله عليه وسلم والإمام .
فقد وقع الاتفاق على انتقاء العصمة المختصة بالنبي صلّى الله عليه وسلم والإمام عن أزواجه وبناته وغيرهن من النساء ، وإذا كان كذلك امتنع أن يكون التطهير المدعو به للأربعة ، متضمناً للعصمة التي يختص بها النبي صلّى الله عليه وسلم ، والإمام عندهم . فلا يكون دعاء النبي صلّى الله عليه وسلم له بهذا العصمة ، لا لعلي ولا لغيره . فإنه دعا لأربعة مشتركين ، لم يختص بعضهم بدعوة ، وأيضاً فالدعاء بالعصمة من الذنوب ممتنع على أصل القدرية . بل وبالتطهير أيضاً ؛ فإن الأفعال الاختيارية التي هي فعل الواجبات وترك المحرمات عندهم غير مقدورة للرب ، ولا يمكنه أن يجعل العبد مطيعاً ولا عاصياً ، ولا متطهراً من الذنوب ولا غير متطهر . فامتنع على أصلهم أن يدعو لأحد بأن يجعله فاعلاً للواجبات تاركاً للمحرمات ، وإنما المقدور عندهم قدرة تصلح للخير والشر . كالسيف الذي يصلح لقتل المسلم والكافر ، والمال الذي يمكن إنفاقه في الطاعة والمعصية ، ثم العبد يفعل باختياره ، إما الخير أو الشر بتلك القدرة . وهذا الأصل يبطل حجتهم ، والحديث حجة عليهم في إبطال هذا الأصل ، حيث دعا النبي صلّى الله عليه وسلم بالتطهير .
فإن قالوا : المراد بذلك أنه يغفر لهم ولا يؤاخذهم ، كان ذلك أدل على البطلان من دلالته على العصمة . فتبيّن أن الحديث لا حجة لهم فيه بحال على ثبوت العصمة . والعصمة مطلقاً التي هي فعل المأمور وترك المحظور ، ليست مقدورة عندهم لله ، ولا يمكنه أن يجعل أحداً فاعلاً لطاعة ، ولا تاركاً لمعصية ، لا لنبي ولا لغيره ، ويمتنع عندهم أن من يعلم أنه إذا عاش يطيعه باختيار نفسه ، لا بإعانة الله وهدايته ، وهذا مما يبين تناقض قولهم في مسائل العصمة . كما تقدم . ولو قدر ثبوت العصمة ، فقد قدمنا أنه لا يشترط في الإمام العصمة ، والإجماع على انتقاء العصمة في غيرهم . وحينئذ تبطل حجتهم بكل طريق . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } [ 34 ] .
{ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } أمر لهن بأن يذكرن ولا يغفِلن ما يقرأ في بيوتهن من آيات كتابه تعالى ، وسنة نبيه اللتين فيهما حياة الأنفس وسعادتها وقوام الآداب والأخلاق . وذكر ذلك مستوجب لتصوّر عظمته ومكانته وثمرة منفعته . وذلك يجر إلى العمل به . فمن تأول : { اذْكُرْنَ } باعملن به ، أراد ذلك تعبيراً عن المسبب باسم السبب . وجوز أن يكون المعنى : اذكرن هذه النعمة حيث جعلتن أهل بيت النبوة ومهبط الوحي ، مما يوجب قوة الإيمان والحرص على الطاعة ، حثاً على الانتهاء والائتمار فيما كلفنه .
قال أبو السعود : والتعرض للتلاوة في البيوت دون النزول فيها ، مع كونه مهبط الوحي لعمومها لجميع الآيات , ووقوعها في كل البيوت , وتكررها الموجب لتمكنهن من الذكر والتذكير , بخلاف النزول وعدم تعيين التالي لتعم تلاوة جبريل ، وتلاوة النبي صلّى الله عليه وسلم ، وتلاوتهن ، وتلاوة غيرهن ، تعليماً وتعلماً : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } أي : يعلم ويدبر ما يصلح في الدين ولذلك أمر ونهي .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } [ 35 ] .
{ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } أي : المنقادين في الظاهر لحكم الله من الذكور والإناث : { وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } أي : المصدقين بما يجب أن يصدق به في القلب : { وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ } أي : بإدامة شغف الجوارح في الطاعات : { وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ } في القول بمجانبة الكذب , والعمل بتجريد الإخلاص لوجهه تعالى فلا يكون في طاعتهم رياء : { وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ } أي : على البأساء والضراء والنوائب ، وعلى القيام بالعبادة والثبات عليها : { وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ } أي : المتواضعين لله بقلوبهم وجوارحهم . والخشوع : السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع ، والحامل عليه الخوف منه تعالى ومراقبته : { وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ } أي : بالإحسان إلى الفقراء والبؤساء الذين لا كسب لهم ولا كاسب ، فيعطون من فضول أموالهم طاعة لله وإحساناً إلى خلقه وإتماماً للخشوع : { وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ } أي : الآتين بما طلب منهم من الصيام المورث للتقوى والرحمة على من يتضور جوعاً ويتصبر فقراً : { وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ } أي : عن إبدائها وإراءتها ، حياءً وكفاً عن مثار الشهوة المحرمة ، أو عن الحرام والفجور : { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ } أي : بقلوبهم وألسنتهم : { أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً } أي : بسبب ما عملوا من الحسنات المذكورة غفراناً لما اقترفوا من الصغائر ؛ لأنها مكفرة بذلك : { وَأَجْراً عَظِيماً } أي : ثواباً وافراً في الجنة ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً } [ 36 ] .
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ } أي : ما صح لهما : { إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } أي : قضى الله ورسوله في أنفسهم قضاء ، أن يتخيروا من أمرهم غير الذي قضى فيهم ، ويخالفوا أمر الله وأمر رسوله وقضاءهما ويعصوهما ، لما في ذلك من المأثم ، كما قال تعالى : { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : فيما أمرا أو نهيا : { فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً } أي : جار عن قصد السبيل ، وسلك غير الهدى والرشاد ، وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش ، حين خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة ، فأبت لكونه مولى لا يماثلها في الشرف . فنزلت الآية فرضيت وتزوجها .
قال المهايمي : الظاهر أن الخطبة كانت بطريق الوجوب . ويحتمل أن تكون لا بطريق الوجوب ، لكن اعتبار العار في مقابلة خطبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم معصية ، لما فيه من ترجيح قول أهل العرف على قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع كونه قول الله بالحقيقة .
وقال بعضهم : إنما عد التنزيل إباءها عصياناً ، وكأنه أرغمها على زواجه ، لما أوقع الله من المصلحة لها وللمسلمين في ذلك . وهو هدم تحريم زوجة المتبنَّى ، الفاشي في الجاهلية . كما سيأتي سياقه . وذكر أيضاً أنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط . وكانت أول من هاجر من النساء - بعد صلح الحديبية - فوهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلم ، فزوجها زيداً - أي : بعد فراقه زينب - فسخطت ، فنزلت الآية ، فرضيت .
وروى الإمام أحمد عن أنس قال : خطب النبي صلّى الله عليه وسلم على جليبيب رضي الله عنه ، امرأة من الأنصار إلى أبيها . فقال : حتى أستأمر أمها . فقال النبي صلّى الله عليه وسلم : < نعم إذاً > . قال : فانطلق الرجل إلى امرأته ، فذكر ذلك لها ، فأبت أشد الإباء . فقالت الجارية : أتريدون أن تردوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمره ؟ إن كان قد رضيه لكم ، فأنكحوه . قال : فكأنها جلت عن أبويها وقالا : صدقت . فذهب أبوها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال : إن كنت رضيته فقد رضيناه . قال صلّى الله عليه وسلم : < فإني قد رضيته > . قال : فزوجها . ثم ذهب مع النبي صلّى الله عليه وسلم في غزاة ، فقتل . ورُئي حوله ناس من المشركين قد قتلهم . قال أنس : فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق بيت في المدينة . وفي رواية : فما كان في الأنصار أَيِّمٌ أنفق منها .
وذكر الحافظ ابن عبد البر في " الاستيعاب " أن الجارية لما قالت في خدرها : أتردون على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمره ، نزلت هذه الآية : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ } .
ولا يخفى شمول الآية لما ذكر ولغيره ، إلا أن تأثر هذه الآية بقصة زيد وزوجته ، الآتية ، يؤيد أنها نزلت في زوجه زينب ، لتناسق نظام الآيات حينئذ , وظهور هذه الآية كالطليعة لهذه القصة الجليلة .
وقد قدمنا مراراً أن معنى قولهم : نزلت الآية في كذا . أنها مما تشمله لعموم مساقها ؛ ولذا سأل طاوس ابن عباس عن ركعتين بعد صلاة العصر فنهاه . وقرأ له هذه الآية .
قال ابن كثير : هذه الآية عامة في جميع الأمور ، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته ، ولا اختيار لأحد ها هنا ، ولا رأي ولا قول ، كما قال تبارك وتعالى : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [ النساء : 65 ] ، وفي الحديث : < والذي نفسي بيده ! لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به > . ولهذا شدد في خلاف ذلك فقال : { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً } ، كقوله تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النور : 63 ] .
لطائف :
الأولى - قالوا على الروايات السالفة : إن ذكر الله في الآية ، مع أن الآمر لهم الرسول صلّى الله عليه وسلم ، للدلالة على أنه بمنزلة من الله ، بحيث تعد أوامره أوامر الله تعالى ، أو أنه لما كان ما يفعله بأمره ، لأنه لا ينطق عن الهوى ، ذكرت الجلالة وقدمت للدلالة على ذلك . انتهى .
وهذا وقوف مع ما روي ، وإلا فظاهر الآية يعم ما إذا قضى الله من كتابه ، ورسوله في سنته .
الثانية - : { الْخِيَرَةُ } هنا مصدر ، وذكروا أنه لم يجئ من المصادر على وزنه غير : طيرة .
الثالثة - جمع الضمير الأول - وهو لهم - لعموم مؤمن ومؤمنة من حيث إنهما في سياق النفي . قال الشهاب : واعتبر عمومه ، وإن كان سبب نزوله خاصاً ، دفعاً لتوهم اختصاصه بسبب النزول ، أو ليؤذن أنه كما لا يصح ما اختاروه مع الانفراد ، لا يصح مع الجمع أيضاً كيلا يتوهم أن للجمعية قوة تصححه . انتهى .
وجمع الثاني - وهو ضمير من أمرهم - مع أنه الرسول صلّى الله عليه وسلم ، أو له ولله تعالى ، للتعظيم . هذا ما أشار له القاضي وغيره . مع أنه لا يظهر امتناع عوده على ما عاد عليه الأول ، مع ترجيحه بعدم التفكيك فيه ، على أن يكون المعنى : ناشئةً من أمرهم . والمعنى دواعيهم السابقة إلى اختيار خلاف ما أمر الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم ، أو المعنى الاختيار في شيء من أمرهم ، أي : دواعيهم . وردّ هذا ، بأنه قليل الجدوى ، ضرورةَ أن الخيرة ناشئة من دواعيهم . . أو واقعة في أمورهم . وهو بيّن مستغن عن البيان . بخلاف ما إذا كان المعنى بدل أمره الذي قضاه صلّى الله عليه وسلم ، أو متجاوزين عن آمره لتأكيده وتقريره للنفي . فهذا هو المانع من عوده إلى ما عاد عليه الأول .
قال الشهاب : وهو كلام حسن ، ثم أشار تعالى إلى ما منّ به على المسلمين من هدم تحريم زوجة الدعيّ ، والمتبنى الذي كان فاشياً في الجاهلية ، بما جرى بين زيد متبنَّى النبي صلّى الله عليه وسلم وزوجه من الفراق ، ثم تزويجه تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم إياها ، رفعاً للحرج فيه . فقال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً* م َّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُورا ً *الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً } [ 37 - 39 ] .
{ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ } أي : بالإسلام ومتابعة النبي صلّى الله عليه وسلم ، وهو زيد بن حارثة : { وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } أي : بالعتق والحرية والاصطفاء بالولاية والمحبة ، وتزويجه بنت عمتك زينب بنت جحش .
قال ابن كثير : كان سيداً كبير الشأن جليل القدر ، حبيباً إلى النبي صلّى الله عليه وسلم يقال له : الحب . ويقال لابنه أسامة : الحب ابن الحب . قالت عائشة رضي الله عنها : ما بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سرية إلا أمره عليهم ، ولو عاش بعده لاستخلفه . رواه الإمام أحمد { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } أي : لا تطلقها : { وَاتَّقِ اللَّهَ } أي : اخشه في أمرها فإن الطلاق يشينها وقد يؤذي قلبها ، وارعَ حق الله في نفسك أيضاً ، فربما لا تجد بعدها خيراً منها ، وكانت تتعظم عليه بشرفها ، وتؤذيه بلسانها , فرام تطليقها متعللاً بتكبرها وأذاها ، فوعظه صلّى الله عليه وسلم وأرشده إلى الصبر والتقوى : { وَتُخْفِي } أي : تضمر : { فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } أي : من الحكم الذي شرعه ؛ أي : تقول ذلك ، وأنت تعلم أن الطلاق لا بد منه ، وأن لا منتدح عن امتثال أمر الله بنفسك ، لتكون أسوة لمن معك ولمن يأتي بعدك , وإنما غلبك في ذلك الحياء ، وخشية أن يقولوا تزوج محمد مطلقة متبناه ، وهذا معنى قوله تعالى : { وَتَخْشَى النَّاسَ } أي : قالتهم وتعييرهم الجاهلي : { وَاللَّهُ } أي : الذي ألهمك ذلك وأمرك به : { أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } أي : فكان عليك أن تمضي في الأمر من أول وهلة تعجيلاً بتنفيذ كلمته وتقدير شرعه ، ثم زاده بياناً بقوله : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً } أي : حاجة بالزواج : { زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ } أي : ضيق من العار في النكاح زوجات أدعيائهم : { إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً } أي بموت أو طلاق أو فسخ نكاح { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً } أي : قضاؤه واقعاً ، ومنه تزويجك زينب .
{ مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ } أي : مأثم وضيق : { فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ } أي : كتبه له من التزويج وأباحه له , وسن شريعة مثلى في وقوعه : { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ } أي : الرسل عليهم السلام . وهو أن لا حرج عليهم في الإقدام على ما أباح لهم ، ووسع عليهم في باب النكاح وغيره ؛ فإنه كان لهم الحرائر ، والسراري ، وتناول المباحات ، والطيبات ، وبهداهم القدوة : { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً } أي : قضاءً مقضياً ؛ أي : لا حرج على أحد فيما أحل له ، ثم وصف شأنهم بقوله : { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ } أي : أحكامه ، وأوامره ، ونواهيه ، ويصدعون بها : { وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ } أي : لا يخافون قالة الناس ، ولائمتهم ، ولا يبالون بها في تشريعه ، ولا ريب أن سيد الناس في هذا المقام ، بل وفي كل مقام ، حضرة نبينا صلّى الله عليه وسلم ، كما علم من قيامه بالتبليغ بالقوة ، والفعل أبلغ قيام : { وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً } أي : حافظاً لأعمال خلقه . وكافياً للمخاوف .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } [ 40 ] .
{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } هذا دفعٌ لتعيير من جهل ، فقال : تزوج محمد زوج ابنه زيد . فدفعه تعالى بأنه إنما يتصور لو كان صلّى الله عليه وسلم أباً لزيد على الحقيقة ، لكنه ليس أباً لأحد من أصحابه ، حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح ، وزيد واحد منهم ، الذين ليسوا بأولاده حقيقة ، فكان حكمه حكمهم ، والادعاء والتبني من باب الاختصاص والتقريب لاغير : { وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ } أي : ولكن كان رسول الله مبلغاً رسالاته : { وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } بفتح التاء وكسرها ، قراءتان ؛ أي : فهذا نعته وهذه صفته ، فليس هو في حكم الأب الحقيقي ، وإنما ختمت النبوة به ؛ لأنه شرع له من الشرائع ما ينطبق على مصالح الناس في كل زمان ، وكل مكان ؛ لأن القرآن الكريم لم يدع أُمّاً من أمهات المصالح إلا جلّاها ، ولا مكرمة من أصول الفضائل إلا أحياها ، فتمت الرسالات برسالته إلى الناس أجمعين ، وظهر مصداق ذلك بخيبة كل من أدعى النبوة بعده ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وهو خير الوارثين : { وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } أي : فلا يقضي إلا بما سبق به علمه ، ونفذت فيه مشيئته ، واقتضته حكمته .
تنبيهان في لطائف هذه القصة ، وفوائدها الباهرات :
الأول - لم تختلف الروايات أنه نزلت في قصة زيد بن حارثة , وزوجه زينب بنت جحش . ورواه البخاري عن أنس في التفسير . ورواه عنه في التوحيد قال : جاء زيد بن حارثة يشكو ، فجعل النبي صلّى الله عليه وسلم يقول : < اتق الله وأمسك عليك زوجك > . وأخرجه أحمد بلفظ أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم منزل زيد بن حارثة . فجاءه زيد يشكوها إليه . فقال له : < أمسك زوجك واتق الله > . فنزلت .
وقد أخرج ابن أبي حاتم هذه القصة من طريق السدي . فساقها سياقاً حسناً واضحاً ، ولفظه : بلغنا أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش ، وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم , وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أراد أن يزوجها زيد بن حارثة مولاه فكرهت ذلك ، ثم إنها رضيت بما صنع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فزوجها إياه ، ثم أعلم الله عز وجل نبيه صلّى الله عليه وسلم بعدُ ، أنها من أزواجه ، فكان يستحي أن يأمره بطلاقها ، وكان لا يزال يكون بين زيد وزينب ما يكون من الناس ، فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يمسك عليه زوجه ، وأن يتقي الله , وكان يخشى الناس أن يعيبوا عليه ويقولوا تزوج امرأة ابنه ؛ وكان قد تبنى زيداً .
وعنده ، ومن طريق علي [ بن ] زيد بن جدعان عن علي بن الحسين بن علي ، قال : أعلم الله نبيه صلّى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها ، فلما أتاه زيد يشكوها إليه ، وقال له : < اتق الله وأمسك عليك زوجك > . قال الله تعالى : " قَدْ أَخْبَرْتُكَ أنِّي مُزَوّجْكهَا " : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } [ الأحزاب : 37 ] .
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " بعد نقل ما تقدم : ووردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم والطبري ، ونقلها كثير من المفسرين ، لا ينبغي التشاغل بها ، والذي أوردته منها هو المعتمد . انتهى .
وقال الحافظ ابن كثير : ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير ههنا أثاراً ، أحببنا أن نضرب عنها صفحاً ؛ لعدم صحتها ، فلا نوردها . انتهى .
الثاني - قال القاضي عياض رحمه الله في " الشفا " في بحث أقواله صلى الله عليه وسلم الدنيوية : ولا يجوز عليه صلّى الله عليه وسلم أن يأمر أحداً بشيء أو ينهى أحداً عن شيء ، وهو يبطن خلافه ، وقد قال عليه السلام : < ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين ، فكيف أن تكون له خائنة قلب ؟ > . فإن قلت : فما معنى قوله في قصة زيد : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ } الآية . فاعلم أكرمك الله ولا تسترب في تنزيه النبي عليه السلام عن هذا الظاهر ، وأن يأمر زيداً بإمساكها ، وهو يحب تطليقه إياها ، ذكر عن جماعة من المفسرين ، وأصح ما في هذا ما حكاه أهل التفسير عن علي بن حسين أن الله تعالى كان أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه ، فلما شكاها إليه زيد ، قال له النبي صلّى الله عليه وسلم : < أمسك عليك زوجك واتق الله > وأخفى منه في نفسه ما أعلمه الله به أنه سيتزوجها مما الله مبديه ومظهره بتمام التزويج وطلاق زيد لها .
وروى نحوه عَمْرو بن فائد [ في المطبوع : عُمَر بن قائد ] عن الزهري قال : نزل جبريل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وسلم يعلمه أن الله يزوجه زينب بنت جحش . فذلك الذي أخفى في نفسه ، ويصحح هذا قول المفسرين في قوله بعد هذا : { وَكَانَ أَمْرُ اللَّه مَفْعُولاً } أي : لا بد لك أن تتزوجها ، ويوضح هذا أن الله تعالى لم يبد من أمره معها غير زواجه لها ، فدل أنه الذي أخفاه عليه السلام ، مما كان أعلمه به تعالى ، وقوله تعالى في القصة : { مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ } دل على أنه لم يكن عليه حرج في الأمر ، ولو كان على ما قيل من وقوعها في قلبه ، ومحبة طلاق زيد لها ، لكان فيه أعظم الحرج . وكيف يقال : رآها فأعجبته وهي بنت عمته ، ولم يزل يراها منذ ولدت ، ولا كان النساء يحتجبن منه عليه السلام ، وهو زوجها لزيد ، وإنما جعل الله طلاق زيد لها ، وتزويج النبي صلّى الله عليه وسلم إياها ، لإزالة حرمة التبني وإبطال سببه . كما قال : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمًْ } ، وقال : { لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ } قال ابن فورك : وليس معنى الخشية هنا الخوف ، وإنما معناه الاستحياء ؛ أي : يستحي منهم أن يقولوا تزوج زوجة ابنه ، وأن خشيته عليه السلام من الناس كانت من إرجاف المنافقين واليهود ، وتشغيبهم على المسلمين بقولهم : تزوج زوجة ابنه بعد نهيه عن نكاح حلائل الأبناء ، كما كان . فعتبه الله تعالى على هذا ، أو نزهه عن الالتفات إليهم فيما أحلّه له ، كما عتبه على مراعاة رضا أزواجه في سورة التحريم بقوله : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } [ التحريم : 1 ] ، الآية . كذلك قوله ههنا . انتهى ملخصاً .
الثالث - قال الإمام ابن حزم في " الفصل " يرد على من استدل بمثل هذه الآية على جواز وقوع الصغائر من الأنبياء ، ما مثاله : وأما قوله تعالى : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } الآية . فقد أنفنا من ذلك ؛ إذ لم يكن فيه معصية أصلاً ولا خلاف فيما أمره الله تعالى به , وأن ما كان أراده زواج ، مباح له فعله , ومباح له تركه ، ومباح له طيه ، ومباح له إظهاره ، وإنما خشي النبي صلّى الله عليه وسلم الناس في ذلك خوف أن يقولوا ويظنوا ظناً ، فيهلكوا ؛ كما قال عليه السلام للأنصاريين : < إنها صفية > . فاستعظما ذلك ، فأخبرهما النبي صلّى الله عليه وسلم < أنه إنما يخشى أن يلقي الشيطان في قلوبهما شيئاً > . وهذا الذي خشيه عليه السلام على الناس من هلاك أديانهم ، بظن يظنونه به عليه السلام ، هو الذي يحققه هؤلاء المخذولون المخالفون لنا في هذا الباب . وكان مراد الله عز وجل أن يبدي ما في نفسه ، لما كان سلف في علمه من السعادة لأُمّنا زينب رضي الله عنها ، انتهى .
الرابع - للإمام مفتي مصر رحمه الله مقالة على هذه الآية . رأيت نقلها هنا تعزيزاً لما سلف ، وإيقافاً من أسرار الآية على نخب ما وصف . قال رحمه الله : نزلت هذه الآية في زينب بنت جحش ، وهي بنت عمته - صلّى الله عليه وسلم - أميمة بنت عبد المطلب ، وقد خطبها الرسول على مولاه زيد بن حارثة ، فأبت وأبى أخوها عبد الله بن جحش فنزلت آية : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ } [ الأحزاب : 36 ] ، الخ ، فلما نزلت الآية قالا : رضينا يا رسول الله . فأنكحها إياه . وساق عنه إليها مهرها ستين درهماً ، وخماراً ، وملحفة ، ودرعاً ، وإزاراً ، وخمسين مدّاً من طعام ، وثلاثين صاعاً من تمر . كذا يروى .
فنحن من جهة ، نرى أن زينب كانت بنت عمة النبي صلّى الله عليه وسلم ، ربيت تحت نظره وشملها من عنايته ما يشمل البنت مع والدها لأول الأمر ، حتى أنه اختارها لمولاه زوجة ، مع إبائها وإباء أخيها ، وعدّ إباءها هذا عصياناً ، ولا زالت كذلك حتى نزل في شأنها قرآن ، فكأنه أرغمها على زواجه ، لما ألهمه الله من المصلحة لها وللمسلمين في ذلك ، ولو كان للجمال سلطان على قلبه صلّى الله عليه وسلم ، لكان أقوى سلطانه عليه جمال البكر في روائه ، ونضرة جدته ، وقد كان يراها ولم يكن بينه وبينها حجاب ، ولا يخفى عليه شيء من محاسنها الظاهرة ، ولكنه لم يرغبها لنفسه ، ورغبها لمولاه, فكيف يمتد نظره إليها ، ويصيب قلبه سهم حبها ، بعد أن صارت زوجة لعبد من عبيده أنعم عليه بالعتق والحرية ؟ لم يعرف فيما يغلب على مألوف البشر ، أن تعظم شهوة القريب وولعه بالقريب ، إلى أن تبلغ حد العشق ، خصوصاً إذا كان عشيره منذ صغره . بل المألوف زهادة الأقرباء بعضهم في بعض ، متى تعوّد بعضهم النظر إلى بعض ، من بداية السن إلى أن يبلغ حدّاً منه يجول فيه نظر الشهوة . فكيف يظن أو يتوهم أن النبي الذي يقول الله له : { وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [ طه : 131 ] ، يخالف مألوف العادة ، ثم يخالف أمر الله في ذلك ؟ أم كيف بالبال أن من عصم الله قلبه عن كل دنيئة ، يغلب عليه سلطانه شهوة في بنت عمته ، بعد أن زوجها بنفسه لعبد من عبيده ؟ .
ومن جهة أخرى ترى أن النبي صلّى الله عليه وسلم ، وهو الرؤوف الرحيم ، لم يبال بإباء زينب ورغبتها عن زيد ، وقد كان لا يخفى عليه أن نفور قلب المرأة من زوجها مما تسوء معه العشرة ، وتفسد به شؤون المعيشة . فما كان له - وهو سيد المصلحين - أن يرغم امرأة على الاقتران برجل وهي لا ترضاه ، مع ما في ذلك من الضرر الظاهر بكل من الزوجين .
لا ريب أننا نجد من ذلك هادياً إلى وجه الحق في فهم الآية التي نحن بصدد تفسيرها . ذلك أن التصاق الأدعياء بالبيوت واتصالهم بأنسابها ، كان أمراً تدين به العرب ، وتعده أصلاً يرجع إليه في الشرف والحسب ، وكانوا يعطون الدعي جميع حقوق الابن ، ويُجْرُون له وعليه جميع الأحكام التي يعتبرونها للابن ، حتى في الميراث وحرمة النسب ، وهي عقيدة جاهلية رديئة ، أراد الله محوها بالإسلام ، حتى لا يعرف من النسب إلا الصريح ولا يجرى من أحكامه إلا ماله أساس صحيح ؛ لهذا أنزل الله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } [ الأحزاب : 4 ] ، ثم قال : { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } [ الأحزاب : 5 ] ، الخ فهذا العدل الإلهي ، أن لا ينال حق الابن إلا من يكون ابناً .
أما المتبنى واللصيق فلا يكون له حق إلا حق المولى والأخ في الدين ، فحرم الله على المسلمين أن ينسبوا الدعي لمن تبناه ، وحظر عليهم أن يقتطعوا له شيئاً من حقوق الابن لا قليلاً ولا كثيراً ، وشدد الأمر حتى قال : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً } [ الأحزاب : 5 ] ، فهو يعفو عن اللفظة تصدر من غير قصد بأن يقول الرجل لآخر : هذا ابني . أو ينادى شخص آخر بمثل ذلك ، لا عن قصد التبني . ولكنه لا يعفو عن العمد من ذلك ، الذي يقصد منه الإلصاق بتلك اللحمة ، كما كان معروفاً من قبل ، مضت سنة الله في خلقه ، أن ما رسخ في النفس بحكم العادة, لا يسهل عليها التفصي منه ، ولا يقدر على ذلك إلا من رفعه الله فوق العادات ، وأعتقه من رق الشهوات ، وجعل همته فوق المألوفات . فلا يُطْبيه - أي : يستميله - إلا الحق ، ولا يحكم عليه إلف ، ولا يغلبه عرف . ذلك هو النبي صلّى الله عليه وسلم ، ومن يختصه الله بالتأسي به ؛ لهذا كان الأمر إذا نهى الله عن مكروه كانت الجاهلية عليه ، أو أحل شيئاً كانت الجاهلية تحرمه ، بادر النبي صلّى الله عليه وسلم إلى امتثال النهي بالكف عن المنهي عنه ، والإتيان بضده , وسارع إلى تنفيذ الأمر بإتيان المأمور به ، حتى يكون قدوة حسنة ، ومثالاً صالحاً تحاكيه النفوس ، وتحتذيه الهمم ، وحتى يخفّ وزر العادة وتخلص العقول من ريب الشبهة ، نادى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حجة الوداع بحرمة الربا ، وأول رباً وضعه ربا عمه العباس ، حتى يرى الناس صنيعه بأقرب الناس إليه وأكرمهم عليه ، فيسهل عليهم ترك مالهم ، وتنقطع وساوس الشيطان من صدورهم .
على هذا السنن الإلهي كان عمل النبي صلّى الله عليه وسلم في أمر زينب ، كبر على العرب أن يفصلوا عن أهلهم من ألصقوه بأنسابهم من أدعيائهم ؛ كما دل عليه قوله تعالى : { وَتَخْشَى النَّاسَ } الخ ، فعمد النبي صلّى الله عليه وسلم ، على سنته ، إلى خرق العادة بنفسه ، وما كان ينبغي له ، ولا من مقتضى الحكمة ، أن يكلف أحد الأدعياء الأباعد عنه ، أن يتزوج ، ثم يأمره بالطلاق ، ثم يأمر من كان قد تبناه أن يتزوج مطلقته ، ففي ذلك من المشقة مع تحكم العادة ، وتمكن الاشمئزاز من النفوس ، ما لا يخفى على أحد . فألهمه الله أن يتولى الأمر بنفسه في أحد عتقائه ؛ لتسقط العادة بالفعل ، كما ألغى حكمها بالقول الفصل ؛ لهذا أرغم النبي صلّى الله عليه وسلم زينب أن تتزوج بزيد ، وهو مولاه وصفيه ، والنبي يجد في نفسه أن هذا الزواج مقدمة لتقرير شرع ، وتنفيذ حكم إلهي .
وبعد أن صارت زينب إلى زيد لم يَلِنْ إباؤها الأول ، ولم يسلس قيادها ، بل شمخت بأنفها وذهبت تؤذي زوجها وتفخر عليه بنسبها ، وبأنها أكرم منه عرقاً وأصرح منه حرية ؛ لأنه لم يجر عليها رقّ كما جرى عليه فاشتكى منها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم المرة بعد المرة ، وهو عليه السلام مع علوّ مقامه يغلبه الحياء فيتّئد ويتمكث في تنفيذ حكم الله ولا يعجل ، فكان يقول لزيد : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ } [ الأحزاب : 37 ] ، إلى أن غلب أمر الله على أمر الأنفة ، وسمح لزيد بطلاقها بعد أن مضّه العيش معها ، ثم تزوجها بعد ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليمزق حجاب تلك العادة ، ويكسر ذلك الباب الذي كان مغلقاً دون مخالفتها كما قال : { لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً } [ الأحزاب : 37 ] ، وأكد ذلك بالتصريح في نفي الشبهة بقوله : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } الآية . هذه هي الرواية الصحيحة والقولة الراجحة .
ثم قال : وأما ما رووه من أن النبي مر ببيت زيد وهو غائب ، فرأى زينب ، فوقع منها في قلبه شيء ، فقال : سبحان مقلب القلوب ! فسمعت التسبيحة فنقلتها إلى زيد ، فوقع في قلبه أن يطلقها الخ ، ما حكوه - فقد قال الإمام أبو بكر بن العربي إنه لا يصح . وإن الناقلين له المحتجين به على مزاعمهم في فهم الآية ، لم يقدروا مقام النبوة حق قدره ، ولم تصب عقولهم من معنى العصمة كنهها . وأطال في ذلك ، وأذكر من كلامه ما يؤيد ذكرنا في شأن هذه الروايات .
قال ، بعد الكلام في عصمة النبي صلّى الله عليه وسلم وطهارته من العيب في زمن الجاهلية ، وبعد أن جاء الإسلام : وقد مهدنا لك روايات كلها ساقطة الأسانيد ، وإنما الصحيح منها ما روي عن عائشة أنها قالت : لو كان النبي صلّى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ } يعني بالإسلام : { وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } فأعتقته : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } إلى قوله : { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ } [ الأحزاب : 37 ] ، وأن رسول الله لما تزوجها قالوا : تزوج حليلة ابنه ، فأنزل الله : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } ، الآية .
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم تبناه وهو صغير ، فلبث حتى صار رجلاً ، يقال له : زيد ابن محمد . فأنزل الله : { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } [ الأحزاب : 5 ] ، يعني أنه أعدل عند الله . قال القاضي : وما وراء هذه الآية غير معتبر . فأما قولهم إن النبي صلّى الله عليه وسلم رآها ، فوقعت في قلبه ، فباطل . فإنه كان معها في كل وقت وموضع ، ولم يكن حينئذ حجاب ، فكيف تنشأ معه وينشأ معها ، ويلحظها في كل ساعة ولا تقع في قلبه ، إلا إذا كان لها زوج ؟ وقد وهبته نفسها وكرهت غيره ، فلم تخطر [ في المطبوع : يخطر ] بباله . فكيف يتجدد هوى لم يكن ! حاشا لذلك القلب المطهر من هذه العلاقة الفاسدة ، وقد قال سبحانه وتعالى : { وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } [ طه : 131 ] ، والنساء أفتن الزهرات ، وأنشر الرياحين ، فيخالف هذا في المطلقات ، فكيف في المنكوحات المحبوسات ؟ .
ثم ساق الكلام في نفس الآية على حسب ما صح في الواقعة ، ولولا خوف التطويل لنقلت كلامه بحروفه . سبحان الله ! كيف ساغ لقوم مسلمين أن يعتقدوا بمثل هذه الروايات ، وقد علموا أنّ [ في المطبوع : أنه ] الله لم يدع لنبيه أن يعرض عن ابن أم مكتوم ، ويتصدى لصناديد قريش طمعاً في إسلامهم ، حتى عاتبه على ذلك في قوله : { عَبَسَ وَتَوَلَّى } [ عبس : 1 ] ، إلى آخر الآيات ، مع أنّه [ في المطبوع : أن ] لم ينصرف عن الأعمى إلا لاشتغاله بما كان يعدّه في نفسه خيراً للدين ، ولم يكن رغبة في جاه ، ولا شرهاً إلى مال ، ولا طموحاً إلى لذة .
فلو صحت الرواية التي زعموها في شأن زينب ، لكان العتاب على تلك التسبيحة ، بمسمع من زينب ، ثم على الزواج بعد الطلاق ، كما أشار إليه في قصة داود عليه السلام وما كان محمد صلّى الله عليه وسلم في علو مقامه ورفعة منزلته من النبوة ، لتظمح نفسه إلى التلذذ ببنت عمته وزوجة مولاه ، ولا أن يسمعها ما يدل على شغفه بها ، ولا أن تضعف عزيمته عن قمع شهوته وكبح جماحها ، وما كان رب محمد يعلل شهوته ، ويرفّه من هواه فيما يخالف أمره ، وهو الذي نهاه أن يمد عينيه إلى ما متع به الناس من زهرة الحياة الدنيا ، ومن زهرتها النساء . تسامى قدر محمد عن ذلك ، وتعالى شأن ربه عن هذا علواً كبيراً .
أما والله ! لولا ما أدخل الضعفاء أو المدلسون من مثل هذه الرواية ، ما خطر ببال مطلع على الآية الكريمة شيء مما يرمون إليه ؛ فإن نص الآية ظاهر جلي لا يحتمل معناه التأويل ، ولا يذهب إلى النفس منه إلا أن العتاب كان على التمهل في الأمر ، والتريث به ، وأن الذي كان يخفيه في نفسه هو ذلك الأمر الإلهي الصادر إليه ، بأن يهدم تلك العادة المتأصلة في نفوس العرب ، وأن يتناول المعول لهدمها بنفسه ؛ كما قدر له أن يهدم أصنامهم بيده لأول مرة عند فتح مكة ، وكما هو شأنه في جميع ما نهى عنه من عاداتهم ، وهذا الذي كان يخفيه في نفسه كان الله مبديه بأمره الذي أوحاه إليه في كتابه ، وبتزويجه زوجة من كانوا يدعونه ابناً له ، كما تقدم بيانه ، ولم يكن يمنعه عن إبداء ما أبدى الله ، إلا حياءُ الكريم ، وتؤدة الحكيم ، مع العلم بأنه سيفعل لا محالة ، لكن مع معاونة الزمان .
ثم قال الإمام رحمه الله : أذكر لطيفة لبعض الأذكياء جرت بمحضر مني لدى أحد الأساتذة الأميركانيين ، فجاء في الحديث ذكر قوله تعالى : { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } [ السجدة : 7 ] ، فقال الأميركي : حتى زينب زوجة زيد بن حارثة ، يشير بقوله هذا إلى تلك الحادثة ، ويعرض بعشقه صلّى الله عليه وسلم لزينب على ما زعموا ، فقال له صاحبي : سبحان الله ! إنكم تشتغلون بعلوم السماوات والأرض ، ولا تستعملون عقولكم في أقرب الأشياء إليكم ، مع أنكم ، في المشهور عنكم ، من أشد الناس ولعاً بالبحث في الأديان ، إن الله أمر نبيه أن يتزوج زوجة من دعاه ابناً له ، ليبيّن للناس بالفعل أنه ليس كل من لقب بالابن يكون على الحقيقة ابناً ، فإن كان المسيح قد دُعي في لسان الإنجيل بـ " الابن " فليس هذا على الحقيقة ، وإنما الابن الحقيقي من ولد من أبيه ولادة صحيحة ، إن في ذلك لذكرى للعالمين . والله أعلم . انتهى كلامه رحمه الله تعالى .
الخامس - روى الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن أنس قال : لما انقضت عدة زينب رضي الله عنها قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة : < اذهب فاذكرها عليّ > . فانطلق حتى أتاها وهي تخمّر عجينها . قال : فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها وأقول إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذكرها . فوليتها ظهري ونكصت على عقبي وقلت : يا زينب ! أبشري . أرسلني رسول الله صلّى الله عليه وسلم يذكرك . قالت : ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي عز وجل . فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن ، وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن ، ولقد رأيتنا حين دخلت على النبي صلّى الله عليه وسلم ، أطمعنا عليها الخبز واللحم .
قال الحافظ ابن حجر : وهذا أيضاً من أبلغ ما وقع في ذلك : وهو أن يكون الذي كان زوجها هو الخاطب ، لئلا يظن أحد أن ذلك وقع قهراً بغير رضاه ، وفيه أيضاً اختبار ما كان عنده منها ؛ هل بقي منه شيء أم لا ؟ وفيه استحباب فعل المرأة الاستخارة ودعائها عند الخطبة قبل الإجابة ، وأن من وكَل أمره إلى الله عز وجل ، يسر الله له ما هو الأحظ له والأنفع دنيا وأخرى . انتهى . أي : فقد حفظ الله شرفها أن يضيع بعد زواجها بمولى . فاختار لها ما شرّفها به وأسمى مكانتها ، عنايةً منه ورحمة للأمة أيضاً .
السادس - روى ابن جرير عن الشعبي قال : كانت زينب رضي الله عنها تقول للنبي صلّى الله عليه وسلم إني لأُدلّ عليك بثلاث ، ما من نسائك امرأة تدل بهن : إن جدي وجدك واحد ، وإني أنكحنيك الله عز وجل من السماء ، وإن السفير لجبريل عليه السلام .
وروى البخاري بعضه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : إن زينب كانت تفخر على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم فتقول : زوجكن أهاليكن ، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات . قال ابن القيم في " زاد المعاد " : ومن خصائص زينب أن الله سبحانه كان هو وليها الذي زوجها لرسوله من فوق سماواته ، وتوفيت في أول خلافة عُمَر بن الخطاب .
وكانت [ في المطبوع : كان ] أولاً عند زيد بن حارثة ، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم تبناه ، فلما طلقها زوجه الله إياها لتتأسى به أمته في نكاح أزواج من تبنوه . انتهى .
السابع - قالوا : لا ينقض عموم قوله تعالى : { مِّن رِّجَالكُمْ } بكونه صلّى الله عليه وسلم أباً للطاهر والقاسم وإبراهيم ؛ لأنهم لم يبلغوا الحلم ، ولو بلغوا لكانوا رجالاً له ، صلّى الله عليه وسلم ، لا لهم . انتهى .
وهذا من التعمق في البحث ، وإلا فدلالة السياق أوضح من تخصيص الإضافة .
قال ابن كثير : لم يعيش له عليه الصلاة والسلام ولد ذكر ، حتى بلغ الحلم ؛ فإنه صلّى الله عليه وسلم ولد له القاسم والطيب والطاهر من خديجة رضي الله عنها ، فماتوا صغاراً ، وولد له صلّى الله عليه وسلم إبراهيم من مارية القبطية ، فمات أيضاً رضيعاً ، وكان له صلّى الله عليه وسلم من خديجة أربع بنات : زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة ، رضي الله عنهن أجمعين ، فمات في حياته صلّى الله عليه وسلم ثلاث ، وتوفيت فاطمة بعده بستة أشهر . انتهى .
ثم أمر تعالى بكثرة ذكره ، والعناية بشكره لما مَنّ به من هدايته ، إلى نور شريعته حتى ينسى عار الكفر وجاهليته ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ 41 - 42 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ } أي : بما هو أهله من صنوف التحميد والتمجيد : { ذِكْراً كَثِيراً } أي : يعم الأوقات والأحوال . قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الله تعالى لم بفرض على عباده فريضة ، إلا جعل لها حدّاً معلوماً ، ثم عذر أهلها في حال العذر ، غير الذكر ، فإن الله تعالى لم يجعل له حدّاً ينتهي إليه ، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله ، وأمرهم به في الأحوال كلها . فقال تعالى : { فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ } [ النساء : 103 ] ، وقال : { اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } ، أي : يالليل والنهار ، في البر والبحر ، وفي السفر والحضر ، والغنى والفقر ، والسقم والصحة ، والسر والعلانية ، وعلى كل حال : { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي : في أول النهار وآخره ، ليسري أثر التسبيح فيهما بقية النهار والليل ؛ لأن ذكره وتسبيحع ، يفيدان تنوير القلوب وقت خلوّها عن الأشغال .
قال الزمخشري : والتسبيح من جملة الذكر ، وإنما اختصه من بين أنواعه اختصاص جبريل وميكائيل من بين الملائكة ، ليبين فضله على سائر الأذكار ، لأن معناه تنزيه ذاته ، عما لا يجوز من الصفات والأفعال ، ومثال فضله على غيره من الأذكار ، فضل وصف العبد بالنزاهة من أدناس المعاصي ، والطهر من أرجاس المآثم ، على سائر أوصافه ، من كثرة الصلاة والصيام ، والتوفر على الطاعات كلها . ويجوز أن يريد بالذكر وإكثاره ، تكثير الطاعات والإقبال على العبادات ؛ فإن كل طاعة وكل خير ، من جملة الذكر . ثم خص من ذلك التسبيح بكرةً وأصيلاً ؛ وهي الصلاة في جميع أوقاتها ؛ لفضل الصلاة على غيرها ، أو صلاة الفجر والعشاءين ؛ لأن أداءها أشق ومراعاتها أشد . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } [ 43 ] .
{ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ } استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من الأمرين ؛ فإن صلاته تعالى عليهم ، مع عدم استحقاقهم لها وغناه عن العالمين ، مما يوجب عليهم المداولة على ما يستوجبه تعالى عليهم من ذكره تعالى وتسبيحه . أفاده أبو السعود .
وقال ابن كثير : هذا تهييج إلى الذكر ؛ أي : أنه سبحانه يذكركم فاذكروه أنتم ؛ كقوله عز وجل : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ } [ البقرة : 151 - 152 ] . انتهى .
والصلاة : الرحمة والعطف . والمعنى : هو الذي يترحم عليكم ويترأف ، حيث يدعوكم إلى الخير ، ويأمركم بإكثار الذكر ، والتوفر على الصلاة والطاعة : { لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ } أي : ظلمة الكفر والمعاصي والشبهات ومساوئ العادات : { إِلَى النُّورِ } أي : نور الإيمان والسنة والطاعة ، ومحاسن الأخلاق : { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } أي : حيث لم يتركهم يتخبطون في عمياء الضلالة والجهالة ، بل أنار لهم السبل وأوضح لهم المعالم . وذكر الملائكة تنويهاً بشأنهم وشأن المؤمنين ، وأن للملأ الأعلى عناية وعطفاً وترحماً ، بالاستغفار والدعاء والثناء على الجميل ؛ كقوله تعالى : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ } [ غافر : 7 - 9 ] الآية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً } [ 44 - 46 ] .
{ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ } أي : يحيون يوم لقائه ، بالموت أو الخروج من القبر أو دخول الجنة بسلام ؛ تبشيراً بالسلامة من كل مكروه وآفة ، والإضافة إما من إضافة المصدر إلى المفعول ، والمحيي لهم ، إما الله جل جلاله ، لقوله : { سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } [ يس : 58 ] ، تعظيماً لهم وتفضلاً منه عليهم ، كما تفضل عليهم بصنوف الإكرام ، وإما الملائكة لآية : { وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } [ الرعد : 23 - 24 ] ، أو من إضافة المصدر لفاعله ؛ أي : تحية بعضهم بعضاً بالسلام ، وقد يستدل له بآية : { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ } [ يونس : 10 ] ، { وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً } يعني الجنة وما حوته ، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } أي : على من بعثتَ إليهم بالبلاغ : { وَمُبَشِّراً } أي : بالثواب لمن آمن : { وَنَذِيراً } أي : من النار لمن كفر : { وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ } إلى دينه وطاعته والإقرار بوحدانيته : { بِإِذْنِهِ } أي : بأمره ووحيه : { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } أي : يستضاء به في ظلمات الجهل والغواية ، ويهتدي بأنواره إلى مناهج الرشد والهداية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً * وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } [ 47 - 49 ] .
{ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً } أي : ثوابا عظيماً وأجراً جزيلاً : { وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } أي : فيما يرجفون به ، ويعيبون من جاهليتهم وعوائدهم ، بإلانة الجانب في التبليغ ، والمسامحة في الإنذار والتمهل في الصدع بالحق : { وَدَعْ أَذَاهُمْ } أي : إيصال الضرر إليهم ، مجازاةً لفعلهم . بل اعف واصفح . أو معناه : دع ما يؤذونك به بسبب صدعك إياهم . فالمصدر مضاف إلى الفاعل على الأول ، وإلى المفعول على الثاني : { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً } أي : موكولاً إليه ، وكفيلاً فيما وعدك من النصر ، ودحر ذوي الكفر .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } أي : تزوجتموهن : { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } أي : تجامعوهن : { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } أي : تستوفون عددها من إحصاء أقراء ، ولا أشهر تحصونها عليهن : { فَمَتِّعُوهُنَّ } أي : أعطوهن ما يستمتعن به من عرض أو عين مال : { وَسَرِّحُوهُنَّ } أي : خلوا سبيلهن بإخراجهن من منازلكم ؛ إذ ليس لكم عليهن عدة : { سَرَاحاً جَمِيلاً } أي : من غير ضرار ولا منع حق .
تنبيه :
قال ابن كثير : هذه الآية الكريمة فيها أحكام كثيرة :
منها إطلاق النكاح على العقد وحده . وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منه ، وقد اختلفوا في النكاح ؛ هل هو حقيقة في العقد وحده ، أو في الوطء ، أو فيهما ؟ على ثلاثة أقوال ، واستعمال القرآن ، إنما هو في العقد والوطء بعده ، إلا في هذه الآية ؛ فإنه استعمل في العقد وحده لقوله تعالى : { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } .
وفيها دلالة لإباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها ، وقوله تعالى : { الْمُؤْمِنَاتِ } خرج مخرج الغالب ؛ إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك ، بالاتفاق .
وقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما ، وابن المسيب والحسن البصري وزين العابدين ، وجماعة من السلف بهذه الآية ، على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح ، لقوله تعالى : { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } بعقب النكاح بالطلاق ، فدل على أنه لا يصح ولا يقع قبله . وهذا مذهب الشافعي وأحمد ، وطائفة كثيرة من السلف والخلف ، وأيده ما روي مرفوعاً < لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك > رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه . وقال الترمذي : هذا حديث حسن ، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب . وهكذا روى ابن ماجه عن علي والمِسْوَر بن مخرمة رضي الله عنهما ، عن النبي صلّى الله عليه وسلم : < لا طلاق قبل النكاح > . وقوله تعالى : { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } هذا أمر مجمع عليه بين العلماء ، أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها ، لا عدة عليها . فتذهب فتتزوج في فورها من شاءت ، ولا يتسثنى من هذا إلا المتوفى زوجها ؛ فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشراً ، وإن لم يكن دخل بها ، بالإجماع أيضاً .
وقوله تعالى : { فَمَتِّعُوهُنَّ } المتعة ههنا أعم من أن تكون نصف الصداق المسمى ، أو المتعة الخاصة إن لم يكن قد سمى لها . قال تعالى : { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [ البقرة : 237 ] ، وقال عز وجل : { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ } [ البقرة : 236 ] .
وعن ابن عباس : إن كان سمى لها صداقاً ، فليس لها إلا النصف ، وإن لم يكن سمى لها صداقاً ، فأمتعها على قدر عسره ويسره ، وهو السراح الجميل . انتهى .
وعليه ، فالآية في المفوضية التي لم يُسم لها . وقيل : الآية عامة . وعليه ، فقيل الأمر للوجوب ، وأنه يجب مع نصف المهر المتعة أيضاً . ومنهم من قال للاستحباب ، فيستحب أن يمتعها مع الصداق بشيء .
لطيفة :
قال الرازي : وجه تعلق الآية بما قبلها ، هو أن الله تعالى في هذه السورة ، ذكر مكارم الأخلاق ، وأدّب نبيه على ما ذكرناه . لكن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بما أمر به نبيه المرسل ، فكلما ذكر للنبي مكرمةً ، وعلمه أدباً ، ذكر للمؤمنين ما يناسبه . فكما بدأ الله في تأديب النبي صلّى الله عليه وسلم بذكر ما يتعلق بجانب الله ، بقوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ } [ الأحزاب : 1 ] ، وثنى بما يتعلق بجانب العامة بقوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } [ الأحزاب : 45 ] ، كذلك بدأ في إرشاد المؤمنين بما يتعلق بجانب الله ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } [ الأحزاب : 41 ] ، ثم ثنى بما يتعلق بجانب من تحت أيديهم بقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } ثم ، كما ثلث في تأديب النبي بجانب الأمة ، ثلث في حق المؤمنين بما يتعلق بجانب نبيهم ، فقال بعد هذا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ } [ الأحزاب : 53 ] ، وبقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ } . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ 50 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } أي : مهورهن فإنها أجور الأبضاع . وإيتاؤها ، إما إعطاؤها معجلة ، أو تسميتها في العقد . وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم ، وما لا يعرف بينهم غيره .
قال ابن كثير : كان النبي صلّى الله عليه وسلم لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونشّاً ، وهو نصف أوقية فالجميع خمسمائة درهم ، إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان فإنه أمهَرها عنه النجاشي رحمه الله تعالى أربعمائة دينار ، وإلا صفية بنت حُيي فإنه اصطفاها من سبي خيبر ، ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها ، وكذلك جويرية بنت الحارث المصطلقية أدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس وتزوجها ، رضي الله عنهن . انتهى .
وتقييد الإحلال له عليه الصلاة والسلام بإعطاء المهور ، ليس لتوقف الحل عليه ، ضرورةَ أنه يصح العقد بلا تسمية . ويجب مهر المثل أو المتعة على تقديري الدخول وعدمه . بل لإيثار الأفضل والأولى له عليه الصلاة السلام ، كتقييد إحلال المملوكة بكونها مسبية ، في قوله تعالى : { وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ } فإن المشتراة لا يتحقق بدء أمرها وما جرى عليها .
قال ابن كثير : أي : وأباح لك التسرّي مما أخذت من المغانم ، وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما ، وملك ريحانة بنت شمعون النضرية ، ومارية القبطية أم ابنه إبراهيم عليه السلام ، وكانتا من السراري ، رضي الله عنهما : { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } أي : من مكة ، إلى المدينة ، والتقييد لبيان الأفضل كما تقدم ، ولهم في إفراد العم والخال وجمع العمة والخالة ، عدة أوجه . فيها اللطيف والضعيف ، وعندي أن الإفراد والجمع تابع لمقتضى السبك ، والنظم ورقة التعبير ، ورشاقة التأدية ؛ كما يدريه من يذوق طعم بلاغة القول ، ويشرب من عين فصاحته ، فالإفراد فيهما هنا أرق وأعذب من الجمع ، كما أن في آية : { بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ } [ النور : 61 ] ، أمتن وأبلغ من الإفراد ، ولكل مقام مقال ، ولكل مجال حال : { وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا } أي : يتزوجها ويرغب في قبول هبة نفسها بدون مهر ، وقد سمى من الواهبات ميمونة بنت الحارث ، وزينب بنت خزيمة أم المساكين الأنصارية ، وأم شريك بنت جابر ، وخولة بنت حكيم رضي الله عنهن .
وفي البخاري عن عائشة قالت : كنت أغار في اللائي وهبن أنفسهن للنبي صلّى الله عليه وسلم وأقول : أتهب المرأة نفسها ؟ فلما أنزل الله تعالى : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } [ الأحزاب : 51 ] الآية - قلت ما أرى ربك إلا يسارع في هواك .
وعن ابن عباس ، أنه لم يكن عنده صلّى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له ؛ أي : أنه لم يقبل ذلك وإن كان مباحاً له ؛ لأنه مردود إلى إرادته . والله أعلم .
قال ابن القيم : وأما من خطبها صلّى الله عليه وسلم ولم يتزوجها ، ومن وهبت نفسها له ولم يتزوجها ، فنحو أربع أو خمس . وقال بعضهم : هن ثلاثون امرأة . وأهل العلم بالسيرة وأحواله صلّى الله عليه وسلم ، لا يعرفون هذا بل ينكرونه .
قال أبو السعود : وإيراده عليه الصلاة والسلام في الموضعين بعنوان النبوة بطريق الالتفات ، للتكرمة والإيذان بأنها المناط لثبوت الحكم فيختص به عليه السلام حسب اختصاصها به كما ينطبق به قوله تعالى : { خَالِصَةً لَّكَ } أي : خلص لك إحلالها خالصة أي : خلوصاً ، فهي مصدر مؤكد ، أو صفته أي : هبة خالصة : { مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } أي : فإنهم لا تحل لهم الموهوبة إلا بوليّ ومهر ، خوف أن يستسري النساء وينتشر الفحش بدعوى ذلك . قال قتادة : ليس لامرأة تهب نفسها لرجل ، بغير وليّ ولا مهر إلا للنبي صلّى الله عليه وسلم : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ } أي : على المؤمنين : { فِي أَزْوَاجِهِمْ } أي : في حلّها من الوليّ والشهود والمسمى : { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } أي : في حلّها من توسيع الأمر فيها .
وقال السيوطي في " الإكليل " : فسر بالاستبراء ، وليس له في القرآن ذكر إلا ها هنا . : { لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } أي : ضيق . واللام متعلقة بـ : { خالصة } أو بفعل يفهم مما قبله ؛ أي : قد علمنا ما فرضنا عليهم ، وأسقطناه عنك لرفع الحرج عنك والضيق ، فيما اقتضته الحكمة والعناية بك : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } أي : يغفر ما يعسر التحرز عنه ، ويرحم فيما يوسع في مواقع الحرج .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً } [ 51 ] .
{ تُرْجِي } بهمز وغير همز ؛ أي : تترك وتؤخر : { مَن تَشَاء مِنْهُنَّ } أي : من هؤلاء النساء اللاتي أحللناهن لك ، فلا تتزوج بهن : { وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء } أي : تضم من تشاء منهن بالتزويج : { وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ } أي : اخترت تزوجها بعد إرجائها : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ } أي : في أن تضمها إليك . ومن رأي [ في المطبوع : رأى ] بعضهم أن الضمير في : { مِنْهُنَّ } يعود إلى الواهبات . قال الشعبي : كن نساء وهبن أنفسهن للنبي صلّى الله عليه وسلم : فدخل ببعض وأرجأ بعضهن ، لم ينكحن بعده ، منهن أم شريك ، واستؤنس بحديث عائشة عند [ في المطبوع : عن ] أحمد أنها كانت تعيّر النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وتقول : ألا تستحي المرأة أن تعرض نفسها بغير صداق ؟ فلما أنزل الله : { تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ } الآية قالت : إني أرى ربك يسارع لك في هواك . ورواه البخاري أيضاً كما تقدم . وذهب آخرون إلى أن معنى الآية : تطلّق وتخلّي سبيل من شئت من نسائك ، وتمسك من شئت منهن فلا تطلق . وعن قتادة : أنها في القَسم ، وأن له أن يقسم لمن شاء ، ويدعه لمن شاء ، مع هذا فلم يكن صلّى الله عليه وسلم يدع القَسم . وقد احتج بالآية من ذهب إلى أن القسم لم يكن واجباً عليه صلّى الله عليه وسلم . والتحقيق أن الآية عامة في ذلك كله ، وأن ما روي مما ذكر ، فمن باب الاكتفاء من العام على بعض أفراده ، أو من رأي ذهب إليه قائله . وقوله تعالى : { ذَلِكَ } أي : ما ذكر من تفويض الأمر إلى مشيئتك ، ورفع الحرج عنك فيه : { أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ } أي : تطيب أنفسهن ، إن علمن أن ذلك من الله تعالى : { وَلَا يَحْزَنَّ } لمخالفة الإرجاء : { وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } أي : لأنه حكم ، كلهن فيه سواء ، فإن سويت بينهن وجدن ذلك تفضيلاً ، وإلا علمن أنه بحكم الله تعالى ، فتطمئن به نفوسهن : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } أي : من الميل إلى البعض منهن دون البعض بالمحبة : { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً } أي : بذات الصدور : { حَلِيماً } أي : ذا حلم عن عباده فيعفو ويغفر . وروى الإمام أحمد وأهل السنن عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل . ثم يقول : < اللهم ! هذا فعلي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك > . يعني القلب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً } [ 52 ] .
{ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ } أي : من بعد النساء اللاتي نص إحلالهن لك في الآية قبلُ . وانظر إلى تكريمه تعالى لنبيه صلوات الله عليه حيث لم يقل له : وحرم عليك ما وراء ذلك . كما خاطب المؤمنين بنظيره ، لتعلم كيف تتفاوت الناس بالخطاب تفاوتهم في رفيع الدرجات .
ولم أر أحداً نبه على ذلك ، فاحرص عليه فيه , وفي أمثاله .
قال مجاهد في الآية : أي : لا يحل لك يهودية ولا نصرانية ولا كافرة : { وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } أي : فلك التسري بهن وإن كن كتابيات أو مشركات ؛ لأنه ليس لهن ما للحرائر : { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً } أي : حيث أحل ما أحل , وحظر ما حظر للنبي وللأمة ، في بيانٍ لا خفاء معه , وحكمة لا حيف معها . وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن معنى الآية هو حظر نكاح ما بعد التسع اللاتي عنده صلّى الله عليه وسلم, وأن التسع نصابه كالأربع لغيره ، وأن ذلك جزاء لاختيارهن إياه لما خيّرهن ؛ كما تقدم في الآية ، ثم قالوا إنه تعالى رفع الحرج عنه في ذلك ، ونسخ حكم هذه الآية ، وأباح له التزوج ، لكنه لم يفعله إتماماً للمنّة عليهن . ومنهم من قال إنها محكمة . وكل ذلك لا برهان معه ، وتفكيك للمعنى ، وغفلة عن سر تكريمه صلوات الله عليه بمقصود الخطاب , وقد وهم في هذا المعنى زياد - رجل من الأنصار - فرده أُبي رضي الله عنه ، إلى صواب المعنى ؛ وذلك فيما رواه عبد الله ابن أحمد وابن جرير أن زياداً قال لأُبي بن كعب : أرأيت لو أن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم توفين ، أما كان له أن يتزوج ؟ فقال : وما يمنعه من ذلك ؟ قال : قوله تعالى : { لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ } فقال له : إنما أحل الله له ضرباً من النساء . فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } ، - إلى قوله - : { إن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } ثم قيل له : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ } .
وروى الترمذي عن ابن عباس قال : نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات ، بقوله تعالى : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ } الآية . فحرم كل ذات دين غير الإسلام .
والمطلع على ما كتبوه هنا ، يأخذه العجب من البعد عن مقصدها . فالحمد لله على إلهام الحق وتعليمه .
تنبيه :
قال في " لباب التأويل " : في قوله تعالى : { وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } دليل على جواز النظر من الرجل [ إلى ] التي يريد نكاحها من النساء ، ويدل عليه ما روي عن جابر قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < إذا خطب أحدكم المرأة ، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها ، فليفعل > . أخرجه أبو داود .
وروى مسلم عن أبي هريرة أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار . فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم : < انظر إليها فإن في أَعْيَن الأنصار شيئاً > . قال الحميدي : يعني هو الصغر .
وعن المغيرة بن شعبة قال : خطبتُ امرأةً . فقال لي النبي صلّى الله عليه وسلم : < هل نظرت إليها ؟ > قلت : لا . قال : < فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما > . أخرجه الترمذي وحسنه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً } [ 53 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } هذا خطاب لبعض الصحب ، وحظر عليهم أن يدخلوا منازله صلّى الله عليه وسلم بغير إذن , كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام . و : { إِلَى } متعلق بـ : { يُؤْذَنَ } بتضمين معنى الدعاء ، للإشعار بأنه لا ينبغي أن يدخلوا على الطعام بغير دعوة ، وإن تحقق إذن ؛ كما يشعر به قوله تعالى : { غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } أي : غير منتظرين وقته ، وإدراكه .
قال ابن كثير : أي : لا ترقبوا الطعام إذا طبخ ، حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول فإن هذا مما يكرهه الله ويذمه . وهذا دليل على تحريم التطفل ؛ وهو الذي تسميه العرب الضيفن ، وقد صنف الخطيب البغدادي في ذلك كتاباً في ذم الطفيليين ، وذكر من أخبارهم أشياء يطول إيرادها . انتهى .
وأقول : قد يكون معنى قوله : { غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } نهياً لهم أن يدخلوا - مع كونهم مأذوناً لهم ومدعوين - قبل الميعاد المضروب لهم حضورهم فيه ، عجلة وانتظاراً لنضج الطعام . فإن ذلك مما يؤذي قلب صاحب الدعوة ، لشغل هذه الحصة معهم بلا فائدة ، إلا ضيق صدر الداعي وأهله ، وشغل وقته وتوليد حديث ، وتكلفاً لكلام لا ضرورة له ، وإطاقة زمن الحجاب على نسائه ، وما ذلك إلا من شؤم التعجيل قبل الوقت ، ولذلك قال تعالى : { وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا } أي : إذا دعيتم إلى الدخول ، في وقته ، فادخلوا فيه لا قبله ولا بعده . فـ : { لَكِنْ } استدراك من النهي عن الدخول ، مع الإذن المطلق الذي هو الدعوة بتعليم أدب آخر ، وإفادة شرط مهم ، وهو الإشارة إلى أن للدعوة حيناً ووقتاً يجب أن يراعى زمنه ، وهذا المنهي عنه لم يزل يرتكبه ثقلاء القرويين ، ومن شاكلهم من غلظاء المدنيين الذين لم يتأدبوا بآداب الكتاب الكريم والسنة المطهرة ؛ وهو أنهم إذا دعوا لتناول طعام يتعجلون المجيء قبل وقته بساعات ، مما يغم نفس الداعي وأهله ، ويذهب لهم جانباً من عزيز وقتهم عبثاً إلا في سماع حديثهم البارد ، وخدمتهم المستكرهة كما قدمنا ، فعلى ما ذكرناه يكون في الآية فائدة جميلة ، وحكم مهم ، وهو حظر المجيء قبل الوقت المقدّر ، وحينئذ فكلمة : غير , حال ثانية من الفاعل مقيدة للدخول المأذون فيه ، وهو أن يكون وقت الدعوة ، لا قبله . والتقدير : إلا مأذونين في حال كونكم غير ناظرين إناه . ولذا قيل : إنها آية الثقلاء . إذا علمت هذا ، فالأجدر استنباط حظر التطفل من صدر الآية ، وهو : { لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ } ومن قوله : { وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا } لا من قوله : { غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } لأنه في معنى خاص ، وهو ما ذكرناه , والله أعلم .
فائدة :
" الإني " : مصدر . يقال أنى الشيء يأنى أنياً بالفتح . و " أنى " : مفتوحاً مقصوراً .
و " إنى " : بالكسر مقصوراً ، أي : حان وأدرك . قال عَمْرو بن حسان :
~تَمَخَّضَتِ الْمَنُوْنَ لَهُ بِيَوْمٍ أَنَىْ وَلِكُلِّ حَاْمِلَةٍ تَمَاْمُ
ثم أشار سبحانه إلى أدب آخر بقوله تعالى : { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا } أي : تفرقوا ولا تمكثوا : { وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } أي : لحديث بعضكم بعضاً ، أو لحديث أهل البيت بالتسمع له عطف على ناظرين ، أو مقدر بفعل ؛ أي : لا تمكثوا مستأنسين : { إِنَّ ذَلِكُمْ } أي : المنهي عنه في الآية : { كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ } أي : لتضييق المنزل عليه وعلى أهله وإشغاله بما لا يعنيه : { فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ } أي : من الإشارة إليكم بالانتشار : { وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ } يعني أن انتشاركم حق . فينبغي أن لا يترك حياء ، كما لا يتركه الله ترك الحييّ ، فأمركم به . ووضع الحق موضع الانتشار ، لتعظيم جانبه . وقرئ : { لَا يَسْتَحِي } بحذف الياء الأولى وإلقاء حركتها على الحاء : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ } الضمير لنساء النبي ، المدلول عليهن بذكر بيوته عليه السلام : { مَتَاعاً } أي : شيئاً يتمتع به : { فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ } أي : ستر : { ذَلِكُمْ } أي : ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن ، وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول ، وسؤال المتاع من وراء حجاب : { أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } أي : من الخواطر الشيطانية ، في الميل إليهن وإليكم ؛ يعني ويجب التطهر عنه ، لما فيه من إيذاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم ؛ ولذا قال : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ } أي : أن تفعلوا فعلاً يتأذى به في حياته : { وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد وفاته لا إلى انقضاء العدة بل : { أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً } أي : أمراً عظيماً وخطباً هائلاً ، لا يقادر قدره ؛ لما فيه من هتك حرمة حبيبه صلّى الله عليه وسلم .
قال أبو السعود : وفيه من تعظيمه تعالى لشأن رسوله صلّى الله عليه وسلم ، وإيجاب حرمته حياً وميتاً ، ما لا يخفى ؛ ولذلك بالغ تعالى في الوعيد حيث قال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } [ 54 ] .
{ إِن تُبْدُوا شَيْئاً } أي : مما لا خير فيه ، كنكاحهن على ألسنتكم ، على ما روي عن بعض الجفاة : { أَوْ تُخْفُوهُ } أي : في نفوسكم : { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } أي : فيجازيكم بما صدر عنكم من المعاصي البادية والخافية لا محالة , وفي هذا التعميم مع البرهان على المقصود ، مزيد تهويل وتشديد ومبالغة في الوعيد .
قال ابن كثير : أجمع العلماء قاطبة على أن من توفي عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أزواجه ، أنه يحرم على غيره تزوجها من بعده ؛ لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة ، وأمهات المؤمنين ، واختلفوا فيمن دخل بها ثم طلقها في حياته ؛ هل يحل لغيره أن يتزوجها ؟ على قولين . مأخذهما هل دخلت هذه في عموم قوله : { مِنْ بَعْدِهِ } أم لا ؟ فأما من تزوجها ثم طلقها قبل أن يدخل بها ، فما نعلم في حلها لغيره ، والحالة هذه نزاعاً , والله أعلم . انتهى .
تنبيه :
في " الإكليل " : هذه آية الحجاب التي أمر بها أمهات المؤمنين ، بعد أن كان النساء لا يحتجبن , وفيها جواز سماع كلامهن ومخاطبتهن , وفيها تحريم أذى النبي صلّى الله عليه وسلم بسائر وجوه الأذى . انتهى .
و قال ابن كثير : هذه آية الحجاب ؛ وفيها أحكام ، وآداب شرعية , وهي مما وافق تنزيلها قول عمر رضي الله عنه ، كما روى البخاري عنه أنه قال : < يا رسول الله ! يدخل عليك البر والفاجر . فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ! > فأنزل الله آية الحجاب .
وكان يقول لو أطاع فيكن ، ما رأتكن عين . وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلّى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ، التي تولى الله تزويجها بنفسه تعالى ، وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة ، في قول قتادة والواقدي وغيرهما . وزعم أبو عبيدة معمر بن المثنى ، وخليفة بن خياط , أن ذلك كان في سنة ثلاث . فالله أعلم .
وروى البخاري عن أنس قال : لما تزوج النبي صلّى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون ، فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام ، فلما قام ، قام من قام ، وقعد ثلاثة نفر ، فجاء النبي صلّى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس ، ثم إنهم قاموا فانطلقوا ، فجئت فأخبرت النبي صلّى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا . فجاء حتى دخل ، فذهبت أدخل ، فألقى الحجاب بيني وبينه ، فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ } الآية .
ورواه مسلم أيضاً والنسائي .
وعن أنس أيضاً قال : بني على النبي صلّى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ، بخبز ولحم ، فأرسلت على الطعام داعياً ، فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون ، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون فدعوت حتى ما أجد أحداً أدعو . فقلت : يا رسول الله ! ما أجد أحداً أدعوه . قال : < ارفعوا طعامكم > . وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت . فخرج النبي صلّى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال : < السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته > . قالت : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته . كيف وجدت أهلك ؟ يا رسول الله ! بارك الله لك .
فتقرى حجر نسائه كلهن . يقول لهن كما يقول لعائشة ، ويقلن له كما قالت عائشة . ثم رجع النبي صلّى الله عليه وسلم فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون - وكان النبي صلّى الله عليه وسلم شديد الحياء - فخرج منطلقاً نحو حجرة عائشة . فما أدري آخبرته أو أُخبر ، أن القوم خرجوا . فرجع ، حتى إذا وضع رجله في أسكفّة الباب داخلة ، والأخرى خارجة ، أرخى الستر بيني وبينه ، وأنزلت آية الحجاب . انفرد به البخاري ، وأخرج نحوه مسلم والترمذي ؛ كما بسطه ابن كثير . قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : قال عياض : فرض الحجاب مما اختصصن به ، فهو فرض عليهن بلا خلاف ، في الوجه والكفين ، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها ، ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستترات ، إلا ما دعت إليه ضرورة من براز . ثم استدل بما في " الموطأ " أن حفصة لما توفي عمر سترها النساء عن أن يرى شخصها ، وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها يُستر شخصها . انتهى .
وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن ، وقد كن بعد النبي صلّى الله عليه وسلم يحججن ويطفن ، وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث ، وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص ، وقد تقدم في الحج قول ابن جريج لعطاء ، لما ذكر له طواف عائشة : أقبل الحجاب أو بعده ؟ قال قد أدركت ذلك بعد الحجاب . انتهى .
ومما يؤيده ما رواه البخاري في التفسير عن عائشة رضي الله عنها . قالت : خرجت
سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها ، وكانت امرأة جسيمة ، لا تخفى على من يعرفها . فرآها عُمَر بن الخطاب . فقال : يا سودة ! أما والله ! ما تخفين علينا . فانظري كيف تخرجين . قالت : فانكفأت راجعة ، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم في بيتي ، وإنه ليتعشى وفي يده عرقٌ ، فدخلت فقالت : يا رسول الله ! إني خرجت لبعض حاجتي ، فقال لي عمر كذا وكذا . قالت فأوحى الله إليه ثم رفع عنه ، وإن العرق في يده ما وضعه ، فقال : إنه قد أذن لكن أن تخرجنّ لحاجتكن .
قال الكرماني : فإن قلت وقع هنا أنه كان بعد ما ضرب الحجاب وفي الوضوء - أي : من البخاري - أنه كان قبل الحجاب . فالجواب لعله وقع مرتين .
قال ابن حجر : قلت بل المراد بالحجاب الأول غير الحجاب الثاني .
والحاصل أن عمر رضي الله عنه وقع في قلبه نفرة من اطلاع الأجانب على الحريم النبوي ، حتى صرح بقوله له عليه الصلاة والسلام : احجب نساءك ، وأكد ذلك إلى أن نزلت آية الحجاب , ثم قصد بعد ذلك أن لا يبدين أشخاصهن أصلاً ، ولو كن مستترات ، فبالغ في ذلك فمنع منه ، وأذن لهن في الخروج لحاجتهن ، دفعاً للمشقة ، ورفعاً للحرج ، انتهى بحروفه . وإنما نقلنا الجمع بين الروايتين ، مع أن الأمس به شرح الصحيح ، لما اتفق من نقل كثير من المفسرين إحدى الروايتين ونقل آخرين الثانية ، مما يوقع الواقف في شبهة الاختلاف ، فآثرنا توسيع الكلام لتقيق المقام . زادنا الله من فضله علماً ، إنه هو العليم العلام .
ثم يبين تعالى من لا يجب الاحتجاب منهم من الأقارب ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً } [ 55 ] .
{ لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ } أي : لا حرج ولا إثم عليهن ، في أن لا يحتجبن من هؤلاء المسمين . قال الطبري : وعُني بـ : إخوانهن وأبناء إخوانهن ؛ إخوتهن ، وأبناء إخوتهن ، وخرج معهم جمع ذلك ، مخرج جمع فتى إذا جمع : فتيان ، فكذلك جمع أخ إذا جمع : إخوان ، وأما إذا جمع إخوة فذلك نظير جمع فتى إذا جمع فتية .
تنبيهات :
الأول - قيل : إنما لم يذكر العم والخال ، لأنهما بمنزلة الوالدين ، ولذلك سمي العم أيضاً أباً في قوله تعالى : { وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [ البقرة : 133 ] ، أو لأنه اكتفى عن ذكرهما بذكر أبناء الإخوة ، وأبناء الأخوات ، فإن مناط عدم لزوم الاحتجاب بينهن وبين الفريقين ، عين ما بينهن وبين العم والخال من العمومة والخؤولة ؛ لما أنهن عمات لأبناء الإخوة ، وخالات لأبناء الأخوات . وقيل : لأنه كره ترك الاحتجاب منهما ؛ مخافة أن يَصِفَاهُن لأبنائهما .
وهو رأي عِكْرِمَة والشعبي ، كما أخرجه الطبري من طريق داود بن أبي هند عن عِكْرِمَة والشعبي أنه قال لهما : ما شأن العم والخال لم يذكرا ؟ قالا : لأنهما ينعتانها لأبنائهما . وكرها أن تضع خمارها عند خالها وعمها .
قال الشهاب : لكنه قيل عليه ، إن هذه العلة ، وهو احتمال أن يصفا لأبنائهما وهما يجوز لهما التزوج بها ، جار في النساء كلهن ، ممن لم يكن أمهات محارم . فينبغي التعويل على الأول . انتهى .
والتحقيق في رده ما رواه البخاري في التفسير من طريق عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : استأذن علي أفلح أخو أبي القعيس ، بعد ما أنزل الحجاب ، فقلت : لا آذن له حتى أستأذن فيه النبي صلّى الله عليه وسلم . فإن أخاه أبا القعيس ليس هو أرضعني ، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس . فدخل علي النبي صلّى الله عليه وسلم ، فقلت له : يا رسول الله ! إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن . فأبيت أن آذن حتى أستأذنك ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم : < وما منعك أن تأذني ؟ عمك > . قلت : يا رسول الله ! إن الرجل ليس هو أرضعني ، لكن أضعتني امرأة أبي القعيس ، فقال : < ائذني له فإنه عمك ، تربت يمينك > .
قال عروة : فلذلك كانت عائشة تقول : حرموا من الرضاعة ما تحرمون من النسب . انتهى . فبقوله صلّى الله عليه وسلم : < ائذني له فإنه عمك > مع قوله في الحديث الآخر < العم صنو الأب > يرد على عِكْرِمَة والشعبي .
الثاني - قيل : أريد بقوله تعالى : { وَلاَ نِسَائِهِنَّ } المسلمات ، حتى لا يجوز للكتابيات الدخول على أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلم . وقيل هو عام في المسلمات والكتابيات . وإنما قال : { وَلاَ نِسَائِهِنَّ } لأنهن من أجناسهن .
الثالث - استدل بعموم قوله تعالى : { وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } من ذهب إلى أن عبد المرأة محرم لها . وذهب قوم إلى أنه كالأجانب . والآية مخصوصة بالإماء دون العبيد ، وتقدم تفصيل ذلك في سورة النور .
الرابع - قال السيوطي في " الإكليل " : استدل الحسن والحسين بعدم ذكر أبناء العمومة فيها ، على تحريم نظرهما إليهن ، فكانا لا يدخلان عليهن : { وَاتَّقِينَ اللَّهَ } أي : أن تتعدين ما حدّ لكُنّ ، فتبدين من زينتكن ما ليس لكن ، أو تتركن الحجاب فيراكن أحد غير هؤلاء . وقال الرازي : أي : واتقينه عند المماليك . قال : ففيه دليل على أن التكشف لهم مشروط بشرط السلامة والعلم بعدم المحذور . وقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً } أي : فهو شاهد على ما تفعلنه من احتجابكن وترككن الحجاب لمن أبيح لكن تركه ، وغير ذلك من أموركن ، فاحذرن أن تلقينه ، وهو شاهد عليكن بمعصيته ، وخلاف أمره ، ونهيه ، فتهلكن . قال الرازي : هذا التذليل في غاية الحسن في هذا الموضع ، لأن ما سبق إشارة إلى جواز الخلوة بهم والتكشف لهم ، فقال : إن الله شاهد عند اختلاء بعضكم ببعض ، فخلوتكم مثل ملتكم بشهادة الله تعالى فاتقوا . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [ 56 ] .
{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } قال الرازي : لما أمر الله المؤمنين بالاستئذان ، وعدم النظر إلى وجوه نسائه احتراماً ، كمّل بيان حرمته ، وذلك لأن حالته منحصرة في اثنتين : حالة خلوته وذكر ما يدل على احترامه في تلك الحالة بقوله : { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ } [ الأحزاب : 53 ] ، وحالة يكون في ملأ . والملأ إما الملأ الأعلى ، وإما الملأ الأدنى ، أما في الملأ الأعلى فهو محترم ؛ فإن الله وملائكته يصلون عليه . وأما في الملأ الأدنى فذلك واجب الاحترام بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } . انتهى .
وقد روى البخاري عن أبي العالية قال : صلاة الله : ثناؤه عليه عند الملائكة . وصلاة الملائكة الدعاء . وقال ابن عباس : يصلون يبرّكون ؛ أي : يدعون له بالبركة . فيوافق قول أبي العالية ، لكنه أخص منه . وبالجملة ، فالصلاة تكون بمعنى التمجيد والدعاء والرحمة ، على حسب ما أضيفت إليه في التنزيل أو الأثر ، وقد أطنب الإمام ابن القيم في " جلاء الأفهام " في مبحث معنى الصلاة ، وأطال فأطاب . فلينظر .
وفي البخاري عن كعب بن عجرة رضي الله عنه ، أنه قيل : يا رسول الله ! أما السلام عليك فقد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك ؟ قال : < قولوا : اللهم ! صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد . اللهم ! بارك على آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد > [ في المطبوع : اللهم ! صلي ] .
وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم في مستدركه ، عن أبي مسعود البدري , أنهم قالوا : يا رسول الله ! أما السلام فقد عرفناه . فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا ؟ فقال : < قولوا : اللهم صل على محمد , وعلى آل محمد > . وذكره . ورواه الشافعي في مسنده عن أبي هريرة بمثله .
ومن ههنا ذهب الشافعي رحمه الله ، إلى أنه يجب على المصلي أن يصلي على رسول الله صلّى الله عليه وسلم في التشهد الأخير . فإن تركه لم تصح صلاته ، ووافقه الإمام أحمد في رواية . وقال به إسحاق بن راهويه ، والإمام ابن المواز المالكي وغيرهم ، كما بسطه ابن القيم في " جلاء الأفهام " وابن كثير في " التفسير " وقد تقصّيا ، عليهما الرحمة ، أيضاً الروايات في الأمر بالصلاة وكيفيتها ، فأوسعا . فليرجع إليهما .
تنبيهات :
الأول - تدل الآية على وجوب الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم مطلقاً ؛ لأن الأصل في الأمر للوجوب . فذهب قوم إلى وجوبها في المجلس مرة ، ثم لا تجب في بقية ذلك المجلس . وآخرون إلى وجوبها في العمر مرة واحدة ، ثم هي مستحبة في كل حال . وآخرون إلى وجوبها كلما ذكر . وبعضهم إلى أن محل الآية على الندب . قال ابن كثير : وهذا قول غريب ؛ فإنه قد ورد الأمر بالصلاة عليه في أوقات كثيرة ؛ فمنها واجب ، ومنها مستحب على ما نبينه :
فمنه بعد النداء للصلاة ، لحديث < إذا سمعتم مؤذناً فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا عليّ > الحديث .
ومنه عند دخول المسجد ؛ لحديث كان صلّى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم ، ثم قال : < اللهم ! اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك > . وإذا خرج صلى على محمد وسلم . ثم قال : < اللهم ! اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب فضلك > .
ومنه الصلاة ، فتستحب على قول الشافعي في التشهد الأول منها ، وتجب في الثاني .
ومنه في صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثانية ، لقول أبي أمامة : من السنة ذلك . وهذا من الصحابي في حكم المرفوع ، على الصحيح .
ومنه ختم الدعاء ، فيستحب الصلاة فيه على النبي صلّى الله عليه وسلم ، ومن آكد ذلك دعاء القنوت .
ومنه يوم الجمعة ، وليلتها ، فيستحب الإكثار منها فيهما ، ومنه في خطبة يوم الجمعة ، يجب على الخطيب في الخطبتين الإتيان بها . وهو مذهب الشافعي وأحمد .
ومنه عند زيارة قبره صلّى الله عليه وسلم لحديث < ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام > تفرد به أبو داود ، وصححه النووي في " الأذكار " . وعن الحسن بن الحسن بن علي أنه رأى قوماً عند القبر فنهاهم وقال : إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال : < لا تتخذوا قبري عيداً ، ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً ، وصلوا علي حيثما كنتم . فإن صلاتكم تبلغني > .
قال ابن كثير : فلعله رآهم يسيئون الأدب برفع أصواتهم فوق الحاجة ، فنهاهم . وقد روي أنه رأى رجلاً ينتاب القبر . فقال : يا هذا ! ما أنت ورجل بالأندلس ، ومنه إلا سواء ؛ أي : الجميع يبلغه صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين ، وقد استحب أهل الكتاب أن يكرر الكاتب الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم كلما كتبه . وقد روي في حديث < من صلى علي في كتاب لم تزل الصلاة جارية له ، ما دام اسمي في ذلك الكتاب > .
قال الحافظ ابن كثير : وليس هذا الحديث بصحيح . بل عده الحافظ الذهبي موضوعاً . وقد ذكر الخطيب البغدادي أنه رأى بخط الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ، كثيراً اسم النبي صلّى الله عليه وسلم من غير ذكر الصلاة عليه كتابة . قال : وبلغني أنه كان يصلي عليه لفظاً .
الثاني - الصلاة على غير الأنبياء ، إن كانت على سبيل التبعية ، كنحو : اللهم صل على محمد وآله وأزواجه ، فهذا جائز إجماعاً ، وأما استقلالاً فجوزه قوم الآية : { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ } [ الأحزاب : 43 ] ، وآية : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ } [ البقرة : 157 ] ، وآية : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 103 ] ، ولحديث كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : < اللهم ! صل عليهم > . فأتاه أبو أوفى بصدقته فقال : < اللهم ! صل على آل أبي أوفى > .
وكرهه قوم ، لكون صيغة الصلاة صارت شعاراً للأنبياء إذا ذكروا ، فلا يلحق بهم غيرهم . فلا يقال : قال عمر صلى الله عليه ، كما لا يقال : قال محمد عز وجل ، وإن
كان عزيزاً جليلاً ؛ لكون هذا من شعار ذكر الله عز وجل ، وحملوا ما ورد من ذلك في الكتاب والسنة على الدعاء لهم .
وقال ابن حجر : إن ذلك وقع من الشارع ، ولصاحب الحق أن يتفضل من حقه بما شاء وليس لغيره أن يتصرف إلا بإذنه ، ولم يثبت عنه إذن في ذلك . انتهى .
وقد يقال : كفى في المروي المأثور المتقدم إذناً . والاستدلال بأن ذلك من حقه فيه مصادرة على المطلوب . على أن المرجح أن الأصل الإباحة حتى يرد الحظر ، ولا حظر هنا . فتدبر .
وأما السلام ، فقال الجويني : هو في معنى الصلاة ، فلا يستعمل في الغائب ، ولا يفرد به غير الأنبياء ، فلا يقال : علي عليه السلام . وساء في هذا الأحياء والأموات . وأما الحاضر فيخاطب به ، فيقال : سلام عليك ، وسلام عليكم ، أو السلام عليك أو عليكم ، وقد غلب - كما قال ابن كثير - على كثير من النساخ للكتب ، أن يفرد علي رضي الله عنه بأن يقال : عليه السلام . من دون سائر الصحابة . قال : والتسوية بينهم في ذلك أولى . انتهى .
والخطب سهل . ومن رأى المروي في هذا الباب ، علم أن الأمر أوسع من أن يحرج فيه ، على أن هذه المسألة من فروع تخصيص العرف ، وفيه بحث في الأصول .
الثالث - قال النووي : إذا صلى على النبي صلّى الله عليه وسلم ، فليجمع بين الصلاة والتسليم . فلا يقتصر على أحدهما ، فلا يقول : صلى الله عليه . فقط . ولا : عليه السلام . فقط .
قال ابن كثير : وهذا الذي قاله منتزع من هذه الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } فالأولى أن يقال صلّى الله عليه وسلم تسليماً .
انتهى .
الرابع - قال الرازي : إذا صلى الله وملائكته عليه ، فأي حاجة إلى صلاتنا ؟ نقول : الصلاة عليه ليس لحاجته إليها ، وإلا فلا حاجة إلى الصلاة الملائكة مع صلاة الله عليه ، وإنما هو لإظهار تعظيمه ، كما أن الله تعالى أوجب علينا ذكر نفسه ، ولا حاجة له إليه ، وإنما هو لإظهار تعظيمه منا ، رحمة بنا ، ليثيبنا عليه ؛ ولهذا جاء في الحديث < من صلى علي مرة ، صلى الله عليه بها عشراً > . انتهى . وكان سبق لي ، من أيام معدودات أن كتبت في مقدمة مجموعة الخطب في سر الصلاة عليه ، ما مثله : ويسن يوم الجمعة إكثار الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم ؛ ليذكر الرحمة ببعثته ، والفضل بهدايته ، والمنة باقتفاء هديه ، وسنته ، والصلاح الأعظم برسالته ، والجهاد للحق بسيرته ، ومكارم الأخلاق بحكمته ، وسعادة الدارين بدعوته ، صلّى الله عليه وسلم ، وعلى آله ، ما ذاق عارفٌ سرَّ شريعته ، وأشرق ضياء الحق على بصيرته ، فسعد في دنياه وآخرته .
الخامس - قال الرازي : ذكر : { تَسْلِيْماً } للتأكيد ليكمل السلام عليه ، ولم يؤكد الصلاة بهذا التأكيد ؛ لأنها كانت مؤكدة بقوله : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } انتهى .
وقيل : إنه من الاحتباك . فحذف : عليه ، من أحدهما . والمصدر ، من الآخر .
قال القاضي : قيل معنى : { وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } أي : انقادوا لأوامره . فالسلام من التسليم والانقياد .
السادس - قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : سئلت عن إضافة الصلاة إلى الله دون السلام ، وأمر المؤمنين بها وبالسلام ، فقلت : يحتمل أن يكون السلام له معنيان : التحية والانقياد . فأمر به المؤمنون لصحتهما منهم . والله وملائكته لا يجوز منهم الانقياد ، فلم يضف إليهم ، دفعاً للإيهام . والعلم عند الله . انتهى .
وقال الشهاب : قد لاح لي في تخصيص السلام بالمؤمنين دون الله وملائكته ، نكتة سرية ؛ وهي أن السلام تسليمه عما يؤذيه . فلما جاءت هذه الآية عقيب ذكر ما يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم ، والأذية إنما هي من البشر ، وقد صدرت منهم ، فناسب التخصيص بهم والتأكيد . انتهى . ولما أمر تعالى بالصلاة على نبيه صلّى الله عليه وسلم التي هي الثناء عليه وتمجيده وتعظيمه ، بين وعيد من لا يرعاها ، بأن يجرؤ على ضدها بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً } [ 57 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً } أي : ينالون فيه الهوان والخزي . والمقصود من الآية الرسول صلّى الله عليه وسلم ، وذكر الله تعالى إنما هو لتعظيمه ، ببيان قربه ، وكونه حبيبه ، حتى كأنّ ما يؤذيه يؤذيه ؛ كما أن من يطيعه يطيع الله . وقد روى الطبري عن ابن عباس أنها نزلت في الذين طعنوا على النبي صلّى الله عليه وسلم ، حين اتخذ صفية بنت حُيي . وهذا في الحقيقة من أفراد ما تشمله الآية . بل لو قيل أنها عني بها من خاض في مسألة زينب ، لكان أقرب ، لتقارب الآيات في الباب الواحد ، وتناسقها كسلسلة واحدة ، في تلك المسألة التي كانت المقصود الأعظم من السورة بتمامها ، كما لا يخفى على من تدبرها .
وبالجملة ، فاللفظ عام في كل ما يصاب به صلّى الله عليه وسلم من أنواع المكروه ، فيدخل المقصود من التنزيل دخولاً أوليّاً . وعلى هذا ، فالأذية على حقيقتها . وقيل المراد بأذية الله ورسوله ، ارتكاب ما لا يرضيانه ، مجازاً مرسلاً ؛ لأنه سبب ، أو لازم له ، وإن كان بالنسبة إلى غيره ، فإنه كان في العلاقة ، وذكر الله ورسوله على ظاهره . ومن جوز إطلاق اللفظ الواحد على معنيين ، كاستعمال اللفظ المشترك في معنييه ، أو في حقيقته ومجازه ، فسر الأذية بالمعنيين باعتبار المعمولين ، فتكون بالنسبة إليه تعالى ، ارتكاب ما يكره مجازاً ، وإلى الرسول على ظاهره . فإن تعدد المعمول بمنزلة تكرر لفظ العامل ، فيجيء فيه الجمع بين المعنيين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } [ 58 ] .
{ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } أي : بقول أو فعل : { بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا } أي : بغير جناية يستحقون بها الأذية : { فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } أي : ظاهراً بيناً .
قال الزمخشري : أطلق إيذاء الله ورسوله ، وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات ؛ لأن أذى الله ورسوله لا يكون إلا غير حق أبداً ، وأما أذى المؤمنين والمؤمنات ، فمنه ومنه .
تنبيه :
في " الإكليل " : في هذه الآية تحريم أذى المسلم ، إلا بوجه شرعي ، كالمعاقبة على ذنب ، ويدخل في الآية كل ما حرم للإيذاء ، كالبيع على بيع غيره ، والسوم على سومه ، والخطبة على خطبته ، وقد نص الشافعي على تحريم أكل الإنسان مما يلي غيره ، إذا اشتمل على إيذاء . وأخرج ابن أبي حاتم من حديث عائشة مرفوعاً < أربى الربا عند الله ، استحلال عرض امرئ مسلم > ثم قرأ هذه الآية . وأخرج عن قتادة في هذه الآية : إياكم وأذى المؤمن ، فإن الله يحوطه ويغضب له . وقد زعموا أن عُمَر بن الخطاب قرأها ذات يوم ، فأفزعه ذلك ، حتى ذهب إلى أُبي بن كعب ، فدخل عليه فقال : يا أبا المنذر ! إني قرأت آية من كتاب الله فوقعت مني كل موقع : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ } الآية . والله ! إني لأعاقبهم وأضربهم . فقال له : إنك لست منهم . إنما أنت مؤدب ، إنما أنت معلم . انتهى .
قال الزمخشري : وعن الفضيل : لا يحل لك أن تؤذي كلباً أو خنزيراً بغير حق ، فكيف ؟ وكان ابن عون لا يكرى [ في المطبوع : يكرى ] الحوانيت إلا من أهل الذمة ، لما فيه من الروعة عند كر الحول . فرحمه الله ورضي عنه .
ولما بين تعالى سوء حال المؤذين ، زجراً لهم عن الإيذاء ، أمر النبي عليه الصلاة السلام بأن يأمر بعض المتأذين منهم ، بما يدفع إيذائهم في الجملة من الستر والتميز ، عن مواقع الإيذاء ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ 59 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ } جمع جلباب ، كسرداب ، وهو الرداء فوق الخمار ، تتغطى به المرأة ، وهو معنى قول بعضهم : جلبابها ملاءتها تشتمل بها . وقيل هو الخمار . قالت جنوب أخت عَمْرو ذي الكلب ترثيه :
~تَمْشِي النُّسُوْرُ إِلَيْهِ وَهْيَ لَاْهِيَةٌ مَشْيَ الْعَذَارَىْ ، عَلَيْهِنَّ الْجَلَاْلِيْبُ
وقال آخر يصف الشيب :
~حَتَّى اكْتَسَى الرَّاْسُ قِنَاْعاً أَشْهَبَا أَكْرَهَ جِلْبَاْبٍ لِمَنْ تَجَلْبَبَا
وقال الزمخشري : الجلباب ثوب واسع ، أوسع من الخمار ، ودون الرداء ، تلويه المرأة على رأسها ويبقى منه ما ترسله على صدرها ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل ، ثم قال : ومعنى : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ } يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن وأعطافهن ، يقال إذا زل عن وجه المرأة : أدني ثوبك على وجهك . وذلك أن النساء كن في أول الإسلام على هجيراهن في الجاهلية متبذلات ، تبرز المرأة في درع وخمار ، لا فصل بين الحرة والأمة . وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرضون للإماء إذا خرجن بالليل ، إلى مقاضي حوائجهن في النخيل والغيظان ، وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة ، يقولون حسبناها أمة ، فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء ، بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه ليحتشمن ويهبن ، فلا يطمع فيهن طامع ، وذلك قوله : { ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ } أي : أولى وأجدر بأن يعرفن أنهن حرائر ، فلا يتعرض لهن ولا يلقين ما يكرهن . ثم قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى من ، في : { مِنْ جَلَابِيْبِهِنَّ } قلت : هو للتبعيض ، إلا أن معنى التبعيض محتمل وجهين :
أحدهما - أن يتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب . والمراد أن لا تكون الحرة متبذلة في درع وخمار كالأمة والماهنة ، ولها جلبابان فصاعداً في بيتها .
والثاني - أن ترخي المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها ، لتتقنع حتى تتميز من الأمة . انتهى .
ومن الآثار في الآية ، ما رواه الطبري عن ابن عباس قال : أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة ، أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ، ويبدين [ في المطبوع : بيدين ] عيناً واحدةً . وأخرج ابن أبي حاتم عن أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ } خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان ، من السكينة . وعليهن أكيسة سود يلبسنها . وأخرج عن يونس بن يزيد أنه سأل الزهري : هل على الوليدة خمار ، متزوجة أو غير متزوجة ؟ قال : عليها الخمار إن كانت متزوجة ، وتنهى عن الجلباب ؛ لأنه يكره لهن أن يتشبهن بالحرائر المحصنات .
تنبيهات :
الأول - قال ابن كثير : روي عن سفيان الثوري أنه قال : لا بأس بالنظر إلى زينة نساء أهل الذمة ، وإنما نهي عن ذلك لخوف الفتنة ، لا لحرمتهن ، واستدل بقوله تعالى : { وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ } . انتهى .
الثاني - قال السبكي في " طبقاته " : استنبط أحمد بن عيسى ، من فقهاء الشافعية ، من هذه الآية أن ما يفعله العلماء والسادات ، من تغيير لباسهم وعمائمهم ، أمر حسن . وإن لم يفعله السلف ؛ لأن فيه تمييزاً لهم حتى يُعرفوا ، فيعمل بأقوالهم . انتهى . الثالث - قال الشهاب : قوله تعالى : { يُدْنِينَ } يحتمل أن يكون مقول القول . وهو خبر بمعنى الأمر ، أو جواب الأمر ، على حد : { قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ } [ إبراهيم : 31 ] ، انتهى : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً } أي : لما سلف منهن من التفريط : { رَّحِيماً } أي : بعباده ، حيث يراعي مصالحهم حتى الجزئيات منها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً } [ 60 - 61 ] .
{ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ } أي : عن نفاقهم : { وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي : ضعف إيمان ، عن مراودة النساء بالفجور : { وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ } أي : بأخبار السوء اللاتي يفترونها وينشرونها ، كمجيء عدو وانهزام سرية ، وهكذا مما يكسرون به قلوب المؤمنين ، وأصله التحريك ، من الرجفة ، وهي الزلزلة ، يسمى به الخبر المفترى ، لكونه خبراً متزلزلاً غير ثابت ، أو لاضطراب قلوب المؤمنين به : { لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } أي : لنسلطنك عليهم بما يضطرهم إلى الجلاء : { ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا } أي : في المدينة من قوة بأسك عليهم : { إِلَّا قَلِيلاً } أي : زمناً قليلاً ريثما يستعدون للرحلة : { مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا } أي : مبغضين لله وللخلق ، لا يستريحون بالخروج ، للصوق اللعنة بهم أينما وجدوا { أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً } أي : أسروا وبولغ في قتلهم لذلتهم وقلتهم ، ثم أشار تعالى إلى أن ذلك ليس ببدع ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } [ 62 ] .
{ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ } أي : في المفترين والمؤذين الذين مضوا ، إذا تمرّدوا على نفاقهم وكفرهم ولم يرجعوا ، أن يسلّط عليهم أهل الإيمان فيقهرونهم { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } أي : لأنه لا يبدلها ، أو لا يقدر أحد أن يبدلها .
تنبيهات :
الأول - قال الشهاب : إما أن يراد بالمنافقين والمراض والمرجفين ، قوم مخصوصون ، ويكون العطف لتغاير الصفات مع اتحاد الذات ، على حدّ : إلى الملك القرم وابن الهمام . أو يراد بهم أقوام مختلفون في الذوات والصفات .
فعلى الأول ، تكون الأوصاف الثلاثة للمنافقين ، وهو الموافق لما عرف من وصفهم بالذين في قلوبهم مرض ، كما مرّ في البقرة . والأراجيف بالمدينة أكثرها منهم ، لكنه لا يوافق ما ذيل به من الوعيد بالإجلاء والقتل ؛ فإنه لم يقع للمنافقين .
وعلى الثاني ، هم المنافقون وقوم ضعاف الدين ، كأهل الفجور ، والمرجفون اليهود الذين كانوا مجاورين لهم بالمدينة ، وقد وقع القتال والإجلاء لمن لم ينته منهم ، وهم اليهود . انتهى .
الثاني - ذكروا أن معنى قوله تعالى : { أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً } أنهم إذا خرجوا لا ينفكون عن المذلة ، ولا يجدون ملجأ . بل أينما يكونون ، يطلبون ويؤخذون ويقتلون ، وعليه فالجملة خبرية . وانظر هل من مانع أن تكون الجملة دعائية كقوله : { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ } [ التوبة : 98 ] و [ الفتح : 6 ] ، وقوله : { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } [ الهمزة : 1 ] ، كأنه قيل : أخذهم الله . أي : أهلكهم وقتلهم أبلغ قتل وأشده . ولم أر أحداً تعرض له ، وقد أفاد ابن عطية ، أن كل ما كان بلفظ الدعاء من الله تعالى ، فإنما هو بمعنى إيجاب الشيء ؛ لأن الله لا يدعو على مخلوقاته وهي في قبضته ، أي : لاستحالة حقيقة الدعاء وهو الطلب من الغير .
الثالث - في " الإكليل " : في الآية تحريم الأذى بالإرجاف ، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } هم قوم كانوا يجلسون على الطريق ، يكابرون المرأة مكابرة . فنزلت فيهم الآية إلى قوله : { أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً } قال : هذا حكم في القرآن ، ليس يعمل به ، لو أن رجلا أو أكثر من ذلك اقتصوا أثر امرأة فغلبوها على نفسها ففجروا بها ، كان الحكم فيهم غير الجلد والرجم ، أن يؤخذوا فتضرب أعناقهم . انتهى .
وهذا وقوف مع وجه تحتمله الآية ، كما قدمنا ، على أن للحاكم أن يفعل ذلك ، إذا رأى في ذلك مصلحة ودرء مفسدة ، على قاعدة رعاية المصالح التي هي أم الباب ، كما بسط ذلك النجم الطوفي في " رسالته " وأيدناه بما علقناه عليها .
الرابع - كتب الناصر في " الانتصاف " على قول " الكشاف " في قوله : { إلاَّ قَلِيلاً } أي : زمناً قليلاً ريثما يرتحلون ويتلقطون أنفسهم وعيالاتهم ، ما مثاله : فيها إشارة إلى أن من توجه عليه إخلاء منزل مملوك للغير بوجه شرعي ، يمهل ريثما ينتقل بنفسه ومتاعه وعياله برهة من الزمان حتى يتحصل له منزل آخر ، على حسب الاجتهاد . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً } [ 63 ] .
{ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً } أي : يسألونك عن وقت قيامها . وكان المشركون في مكة يسألونه صلّى الله عليه وسلم ، عنها استعجالاً على سبيل الهزء ، وكذلك اليهود في المدينة أو غيرهم ؛ لأن هذه السورة مدنية ، وقد أرشده تعالى أن يرد علمها إليه لاستئثاره تعالى به ، فلم يطلع نبياً ولا ملكاً ، وأن يبين لهم أنها قريبة الوقوع ، تهديداً للمستعجلين وإسكاتاً للممتحنين .
لطيفة :
تذكير قريباً باعتبار موصوفه الخبر ؛ أي : شيئاً قريباً ، أو لأن الساعة في معنى اليوم أو الوقت ، أو أن قريباً ظرف منصوب على الظرفية ، فإن قريباً وبعيداً : يكونان ظرفين ، فليس صفة مشتقة ، حتى تجري عليه أحكام التذكير والتأنيث .
قال أبو السعود : والإظهار في حيز الإضمار ، للتهويل وزيادة التقرير ، وتأكيد استقلال الجملة ؛ يعني أن قوله : { وَمَا يُدْرِيكَ } خطاب مستقل له عليه السلام ، غير داخل تحت الأمر ، مسوق لبيان أنها مع كونها غير معلومة للخلق ، مرجوة المجيء عن قريب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا } [ 64 - 66 ] .
{ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ } أي : أبعدهم من رحمته : { وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً } أي : ناراً شديدة الاتقاد في الآخرة : { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّا يَجِدُونَ وَلِيّاً } أي : حافظا يتولاهم : { وَلَا نَصِيراً } أي : يخلصهم : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ } أي : تصرف من جهة إلى جهة ، تشبيه بقطعة لحم في قدرٍ تغلي ، ترامى بها الغليان من جهة إلى جهة . أو المعنى : من حال إلى حال ، فالمراد تغيير هيئاتها من سواد وتقديد وغيره .
قال الزمخشري : وخصت الوجوه بالذكر ، لأن الوجه أكرم موضع على الْإِنْسَاْن من جسده ، ويجوز أن يكون الوجه عبارة عن الجملة ، وناصب الظرف : يقولون ، أو اذكر ، أو يجدون ، أو خالدين ، أو نصيراً : { يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا } أي : فكنا ننجو من هذا العذاب .(/)
{ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً } [ 67 - 69 ]
{ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا } وهم رؤساء الكفر الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم حتى قلدوهم فيه : { فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } أي : بما زينوه لنا . قال الزمخشري : وزيادة الألف لإطلاق الصوت جعلت فواصل الآي كقوافي الشعر ، وفائدتها الوقف والدلالة على أن الكلام قد انقطع ، وأن ما بعده مستأنف : { رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ } أي : مثلي العذاب الذي آتيتناه ؛ لأنهم ضلوا وأضلوا : { وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً } أي : لعناً هو أشد اللعن وأعظمه .
وقرئ : كَثِيْراً ، تكثيراً لأعداد اللعائن : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً } لما بين تعالى وعيد من يؤذي نبيه صلّى الله عليه وسلم ، من استحقاقه اللعنة في الدارين ، تعريضاً بمن صدر منهم شيء من الأذى في قصة زيد وزينب ، التي سيقت السورة لأجلها ، ختمها أيضاً بالوصية بالتباعد عن التشبه بقوم صدر منهم إيذاء لموسى عليه السلام ، بتنقيصه تارة ، وقلة الأدب معه طوراً ، ونسبته إلى ما ينافي الرسالة آونة ، كما يمر كثير من ذلك بقارئي توراتهم ، مما ينبئ عن عدم إيفائهم رسالته ونبوته حقها ، من التعظيم له والصلاة عليه والتسليم لأمره وقضيته ، فكانت النتيجة أن غضب الله عليهم ، ورماهم بأفانين العقوبات ، ولحقتهم المخازي ، وبرأ رسوله موسى عليه السلام من إفكهم ، ونزه مقامه عن تنقيصهم ، بأن حقق فضله ، وأسمى منزلته ، وآتاه الوجاهة - وهي العظمة والقرب - عنده .
وهكذا حقت كلمة اللعنة والخزي على مؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، ولحقهم الدمار ، وشرح لنبيه صدره ، ورفع له ذكره ، وأعلى منزلته ، وفخم وجاهته ، ما تعاقبت الأدوار ، ويقرب من هذه الآية ، في المعنى والإشارة ، قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ الصف : 5 ] ، وفيهما كلتيهما تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلم بتأسّيه بأخيه موسى صلوات الله وسلامه عليهما ، وكثيراً ما كان يقول صلّى الله عليه وسلم في جواب جفاة الأعراب حين ما يبلغه أو يسمع ما يكره : < رحمة الله على موسى ؛ لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر > .
وقد روى المفسرون ههنا آثاراً ، أحسنها ما أخرجه البراز عن أنس مرفوعاً : < كان موسى رجلاً حيياً ، وأنه أتى الماء ليغتسل ، فوضع ثيابه على صخرة ، وكان لا يكاد تبدو عورته ، فقال بنو إسرائيل إن موسى آدَرُ أو به آفة ؛ يعنون أنه لا يضع ثيابه ، فاحتملت الصخرة ثيابه حتى صارت بحذاء بني إسرائيل ، فنظروا إلى موسى كأحسن الرجال - أو كما قال - > . فذلك قوله : { فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً } ورواه البخاري في " صحيحه " عن أبي هريرة أيضاً .
قال الرازي وحديث إيذاء موسى مختلف فيه ؛ - أي : لكثرة الروايات فيه - مع أن الإيذاء المذكور في القرآن كاف كقولهم : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا } [ المائدة : 24 ] ، وقولهم : { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } [ البقرة : 55 ] ، وقولهم : { لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ } [ البقرة : 61 ] ، إلى غير ذلك . فقال للمؤمنين : لا تكونوا أمثالهم . انتهى .
و قال ابن كثير : يحتمل أن يكون كل ما روي مراداً ، وأن يكون معه غيره . انتهى ؛ أي : لعموم المعمول المحذوف ، وما بينّاه أولاً ، هو الأقرب . والله أعلم .
تنبيهات :
الأول - الوجيه : لغة بمعنى السيد ، كالوجه ، يقال : هؤلاء وجوه البلد ووجهاؤه ؛ أي : أشرافه ، وبمعنى ذي الجاه - والجاه القدر والمنزلة ، مقلوب عن وجه ، فلما أخرت الواو إلى موضع العين ، وصارت جَوَها ، قلبت الواو ألفاً . فصارت جاهاً ، وكذا في القاموس وشرحه .
الثاني - قال الزمخشري : وجيها ؛ أي : ذا جاه ومنزلة عنده ، فلذلك كان يميط عنه التهم ويدفع الأذى ويحافظ عليه لئلا يلحقه وصم ولا يوصف بنقيصة ، كما يفعل الملك بمن له عنده قربة ووجاهة . وقال ابن جرير : أي : كان موسى عند الله مشفّعاً فيما يسأل ، ذا وجه ومنزلة عنده ، بطاعته إياه ، أي : مقبولاً ومجاباً فيما يطلب لقومه من الله تعالى ، عناية منه تعالى وتفضيلاً .
الثالث - اتخذ العامة ، وكثير من المتعالمين ، وصف الوجاهة للأنبياء ذريعة للطلب والرغبة منهم ، مما لا ينطبق على عقل ولا نقل ، ولا يصدق على المعنى اللغوي بوجه ما ، وقد كتب في ذلك الإمام الشيخ محمد عبده فُتْيا ، أَبَان وجه الصواب فيما تشابه من هذه المسألة ، وذلك أنه سئل ، رحمه الله ، عمن يتوسل بالأنبياء ، والأولياء ، معتقداً أن النبي أو الولي يستميل إرادة الله تعالى عما هي عليه ، كما هو المعروف للناس من معنى الشفاعة والجاه عند الحاكم ، وأن التوسل بهم إلى الله تعالى كالتوسل بأكابر الناس إلى الحكام .
فقال امرؤ : إن هذه مخل بالعقيدة ، وإن قياس التوسل إلى الله تعالى على التوسل بالحكام محال ، وإن عقيدة التوحيد أن لا فاعل ولا نافع ولا ضار إلا الله تعالى ، وإنه لا يدعى معه أحد سواه ، كما قال تعالى : { فَلا تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً } [ الجن : 18 ] ، وإن النبي صلّى الله عليه وسلم ، وإن كان أعظم منزلة عند الله تعالى من جميع البشر ، وأعظم الناس جاهاً ومحبة ، وأقربهم إليه ، ليس له من الأمر شيء ، ولا يملك للناس ضراً ولا نفعاً ولا رشداً ولا غيره ، كما في نص القرآن .
وإنما هو مبلغ عن الله تعالى ، ولا يتوسل إليه تعالى إلا بالعمل بما جاء على لسانه صلّى الله عليه وسلم ، واتباع ما كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون من هديه وسنته ، وإنه لا سبب لجلب المنافع ودفع المضارّ إلا ما هدى الله الناس إليه ، ولا معنى للتوسل بنبي أو ولي إلا باتباعه والاقتداء به ، يرشدنا إلى هذا كثير من الآيات الواردة في القرآن العظيم ، كقوله تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } [ آل عِمْرَان : 31 ] ، { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ } [ الأنعام : 153 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وإن كان هو الصواب فأرجو إقراري عليه كتابة ، لأدافع بذلك من أساء بي الظن .
فأجاب رحمه الله ، بعد البسملة والحوقلة : اعتقادك هذا هو الاعتقاد الصحيح ، ولا يشوبه شوب من الخطأ ، وهو ما يجب على كل مسلم يؤمن بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلم أن يعتقده ؛ فإن الأساس الذي ينبت عليه رسالة النبي محمد صلّى الله عليه وسلم هو هذا المعنى من التوحيد ، كما قال الله تعالى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ } [ الإخلاص : 1 - 2 ] و : { الصَّمَدُ } هو الذي يقصد في الحاجات ، ويتوجه إليه المربون في معونتهم على ما يطلبون ، وإمدادهم بالقوة فيما تضعف عنه قواهم ، والإتيان بالخبر على هذه الصورة يفيد الحصر ، كما هو معروف عند أهل اللغة ، فلا صمد إلا هو .
وقد أرشدنا إلى وجوب القصد إليه وحده بأصرح عبارة في قوله : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] ، وقد قال الشيخ محي الدين بن العربي ، شيخ الصوفية ، في صفحة 226 من الجزء الرابع من " فتوحاته " عند الكلام على هذه الآية : إن الله تعالى لم يترك لعبده حجة عليه . بل لله الحجة البالغة ، فلا يتوسل إليه بغيره ؛ فإن التوسل إنما هو طلب القرب منه ، وقد أخبرنا الله أنه قريب ، وخبره صدق . انتهى ملخصاً .
على أن الذين يزعمون جواز شيء مما عليه العامة اليوم في هذا الشأن ، إنما يتكلمون فيه بالمبهمات ، ويسلكون طرقاً من التأويل لا تنطبق على ما في نفوس الناس . ويفسرون الجاه والواسطة بما لا أثر له في مخيلات المعتقدين . فأي حالة تدعوهم إلى ذلك ؟ وبين أيديهم القرون الثلاثة الأولى ، ولم يكن فيها شيء من هذا التوسل ، ولا ما يشبهه بوجه من الوجوه ، وكتب السنة والسير بين أيدينا شاهدة بذلك ، فكل ما حدث بعد ذلك فأقل أوصافه أنه بدعة في الدين وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
وأسوأ البدع ما كان فيه شبهة الإشراك بالله تعالى وسوء الظن به ، كهذه البدع التي نحن بصدد الكلام فيها ، وكأن هؤلاء الزاعمين يظنون أن في ذلك تعظيماً لقدر النبي صلّى الله عليه وسلم ، أو الأنبياء أو الأولياء ، مع أن أفضل التعظيم للأنبياء هو الوقوف عندما جاءوا به ، واتقاء الزيادة عليهم فيما شرعوه بإذن ربهم . وتعظيم الأولياء يكون باختيار ما اختاروه لأنفسهم . وظن هؤلاء الزاعمين أن الأنبياء والأولياء يفرحون بإطرائهم , وتنظيم المدائح وعزوها إليهم ، وتفخيم الألفاظ عند ذكرهم ، واختراع شؤون لهم مع الله ، لم ترد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا رضيها السلف الصالح .
هذا الظن بالأنبياء والأولياء هو أسوأ الظن ؛ لأنهم شبهوهم في ذلك بالجبارين من أهل الدنيا ، الذين غشيت أبصارهم ظلمات الجهل قبل لقاء الموت ، وليس يخطر بالبال أن جباراً لقي الموت وانكشف له الغطاء عن أمر ربه فيه ، يرضى أن يفخمه الناس بما لم يشرعه الله . فكيف بالأنبياء والصديقين ؟
إن لفظ الجاه الذي يضيفونه إلى الأنبياء والأولياء عند التوسل ، مفهومه العرفي هو السلطة . وإن شئت قلت نفاذ الكلمة عند من يستعمل عليه أو لديه ، فيقال فلان اغتصب مال فلان بجاهه ، ويقال فلان خلص فلاناً من عقوبة الذنب بجاهه ، لدى الأمير أو الوزير مثلاً ، فزعم زاعم أن لفلان جاهاً عند الله بهذا المعنى ، إشراك جلي لا خفي ، وقلما يخطر ببال أحد من المتوسلين معنى اللفظ اللغوي ، وهو المنزلة والقدر ، على أنه لا معنى للتوسل بالقدر والمنزلة نفسها ؛ لأنها ليست شيئاً ينفع . وإنما يكون لذلك معنى ، لو أوّلت بصفة من صفات الله ، كالاجتباء والاصطفاء ، ولا علاقة لها بالدعاء ولا يمكن لمتوسل أن يقصدها في دعائه ، وإن كان الآلوسي بنى تجويز التوسل بجاه النبي خاصة على ذلك التأويل . وما حمله على هذا إلا خوفه من ألسنة العامة وسباب الجهال ، وهو مما لا قيمة له عند العارفين . فالتوسل بلفظ الجاه مبتدع بعد القرون الثلاثة ، وفيه شبهة الشرك والعياذ بالله ، وشبهة العدول عما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم ، فلم الإصرار على تحسين هذه البدعة ؟
يقول بعض الناس : إن لنا على ذلك حجة لا أبلغ منها . وهي ما رواه الترمذي بسنده إلى عثمان بن حنيف رضي الله عنه قال : إن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال : ادع الله أن يعافني . فقال : < إن شئت دعوت , وإن شئت صبرت فهو خير لك > . قال : فادعه . قال فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ، ويدعو بهذا الدعاء : < اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة . يا محمد ! إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي . اللهم فشفعه في > . قال الترمذي وهو حديث حسن صحيح غريب .
ونقول أولاً : قد وصف الحديث بالغريب ، وهو ما رواه واحد ، ثم يكفي في لزوم التحرز عن الأخذ به ، أن أهل القرون الثلاثة لم يقع منهم مثله ، وهم أعلم منا بما يجب الأخذ به من ذلك ، ولا وجه لابتعادهم عن العمل به ، إلا علمهم بأن ذلك من باب طلب الاشتراك في الدعاء من الحي ؛ كما قال عمر رضي الله عنه ، في حديث الاستسقاء : إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلّى الله عليه وسلم فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك العباس فاسقنا ، قال ذلك ، رضي الله عنه ، والعباس بجانبه يدعو الله تعالى ، ولو كان التوسل ما يزعم هؤلاء الزاعمون ، لكان عمر يستسقي ويتوسل بالنبي صلّى الله عليه وسلم ، ولا يقول كنا نستسقي بنبيك ، وطلب الاشتراك في الدعاء مشروع حتى من الأخ لأخيه ، بل ويكون من الأعلى للأدنى ، كما ورد في الحديث ، وليس فيه ما يخشى منه ، فإن الداعي ومن يشركه في الدعاء وهو حيّ ، كلاهما عبد يسأل الله تعالى ، والشريك في الدعاء شريك في العبودية ، لا وزير يتصرف في إرادة الأمير كما يظنون : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ الصافات : 180 ] .
ثم المسألة داخلة في باب العقائد ، لا في باب الأعمال ، ذلك أن الأمر فيها يرجع إلى هذا السؤال : هل يجوز أن نعتقد بأن واحداً سوى الله يكون واسطة بيننا وبين الله في قضاء حاجاتنا أو لا يجوز ؟ أما الكتاب فصريح في أن تلك العقيدة من عقائد المشركين ، وقد نعاها عليهم في قوله : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } [ يونس : 18 ] ، سورة يونس ، وقد جاء في السورة التي نقرؤها كل يوم في الصلاة : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فلا استعانة إلا به ، وقد صرح الكتاب بأن أحداً لا يملك للناس من الله نفعاً ولا ضراً ، وهذا هو التوحيد الذي كان أساس الرسالة المصطفوية كما بيّنا .
ثم البرهان العقلي يرشد إلى أن الله تعالى في أعماله لا يقاس بالحكام ، وأمثالهم في التحول عن إرادتهم ، بما يتخذه أهل الجاه عندهم ، لتنزّهه جل شأنه عن ذلك ، ولو أراد مبتدع أن يدعو إلى هذه العقيدة ، فعليه أن يقيم عليها الدليل الموصل إلى اليقين ، إما بالمقدمات العقلية البرهانية أو بالأدلة السمعية المتواترة ، ولا يمكنه أن يتخذ حديثاً من حديث الآحاد دليلا على العقيدة مهما قوي سنده ، فإن المعروف عند الأئمة قاطبة أن أحاديث الآحاد لا تفيد إلا الظن { وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً } [ النجم : 28 ] ، انتهى كلامه رحمه الله .
ثم راجعت " اقتضاء الصراط المستقيم " للإمام العلم تقي الدين ابن تيمية رضي الله عنه . فرأيته ذكر نحواً من ذلك ، وعبارته : فالوسيلة التي أمر الله بابتغائها ، تعم الوسيلة في عبادته وفي مسألته ، فالتوسل إليه بالأعمال الصالحة التي أمر بها ، وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم ، ليس هو من باب الإقسام عليه بمخلوقاته ، ومن هذا الباب استشفاع الناس بالنبي صلّى الله عليه وسلم يوم القيامة ، فإنهم يطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله ، كما كانوا في الدنيا يطلبون منه أن يدعوَ لهم في الاستسقاء وغيره ، وقول عمر رضي الله عنه : إنا كنا ، إذا أجدبنا ، توسلنا إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا . معناه نتوسل بدعائه وشفاعته وسؤاله ، ونحن نتوسل إليك بدعاء عمه وسؤاله وشفاعته ، ليس المراد به ، إنا نقسم عليك به ، أو ما يجري هذا المجرى مما يفعل بعد موته وفي مغيبه ، كما يقوله بعض الناس : أسألك بجاه فلان عندك ، ويقولون : إنا نتوسل إلى الله بأنبيائه وأوليائه ، ويروون حديثاً موضوعاً : < إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي ، فإن جاهي عند الله عريض > فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه ، كما ذكر عمر رضي الله عنه ، لفعلوا ذلك بعد موته ، ولم يعدلوا عنه إلى العباس ، مع علمهم أن السؤال به والإقسام به ، أعظم من العباس ، فعلم أن ذلك التوسل الذي ذكروه ، وهو مما يفعل بالأحياء دون الأموات ، وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم ؛ فإن الحي يطلب منه ذلك والميت لا يطلب منه شيء ، لا دعاء ولا غيره ، وكذلك حديث الأعمى ؛ فإنه طلب من النبي صلّى الله عليه وسلم أن يدعوا له ليردّ الله عليه بصره . فعلّمه النبي صلّى الله عليه وسلم دعاءً أمره فيه ، أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه فيه ، فهذا يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلم شفع فيه ، وأمره أن يسأل الله قبول شفاعته ، وأن قوله < أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة > أي : بدعائه وشفاعته ؛ كما قال عمر : كنا نتوسل إليك بنبينا . فلفظ : التوجه ، والتوسل في الحديثين بمعنى واحد . ثم قال : يا محمد ! يا رسول الله ! إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها . اللهم ! فشفعه في . فطلب من الله أن يشفع فيه نبيه . وقوله : يا محمد ! يا نبي الله ! . هذا وأمثاله نداء . يطلب به استحضار المنادى في القلب ، فيخاطب المشهود بالقلب ؛ كما يقول المصلّي : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته . والْإِنْسَاْن يفعل مثل هذا كثيراً ، يخاطب من يتصوره في نفسه ، وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب ، فلفظ التوسل بالشخص والتوجه به والسؤال به ، فيه إجمال واشتراك ، غلظ تسببه من لم يفهم مقصد الصحابة ، يراد به التشبث به [ في الأصل : التسبب به ] لكونه داعياً وشافعاً مثلاً ، أو لكونه الداعي محبّباً له ، مطيعاً لأمره ، مقتدياً به . فيكون التسبب إما بمحبة السائل له واتباعه له ، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته ، ويراد به الإقسام به والتوسل بذاته ، فلا يكون التوسل ، لا شيء منه ولا شيء من السائل ، بل بذاته أو بمجرد الإقسام به على الله . فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً } [ 70 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ } أي : في كل ما تأتون وما تذرون ، لاسيما في ارتكاب ما يكرهه ، فضلاً عما يؤذي رسوله صلّى الله عليه وسلم : { وَقُولُوا } أي : في كل شأن من الشؤون : { قَوْلاً سَدِيداً } أي : قويماً حقاً صواباً . قال القاشاني : السداد : في القول ، الذي هو الصدق والصواب ، هو مادة كل سعادة ، وأصل كل كمال ؛ لأنه من صفاء القلب وصفاؤه يستدعي جميع الكمالات ، وهو وإن كان داخلاً في التقوى المأمور بها ، لأنه اجتناب من رذيلة الكذب ، مندرج تحت التزكية التي عبر عنها بالتقوى ، لكنه أفرد بالذكر للفضيلة ، كأنه جنس برأسه ، كما خص جبريل وميكائيل من الملائكة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [ 71 ] .
{ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } أي : بإمداد الصلاح والكمالات والفضائل عليكم ؛ لأنه لا يصح عمل ما بدون الصدق أصلاً . وبه يصلح كل عمل : { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } أي : ويجعلها مكفرة باستقامتكم في القول والعمل ؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات : { وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : في الأوامر والنواهي التي من جملتها هذه التشريعات : { فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } أي : في الدارين . وقال القاشاني : أي : فاز بالتحلية والاتّصاف بالصفات الإلهية ، وهو الفوز العظيم .
تنبيه :
قال الزمخشري : المراد نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل في القول ، والبعثُ على أن يسد قولهم في كل باب ؛ لأن حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله ، وهذه الآية مقررة للتي قبلها ؛ بنيت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، وهذه على الأمر باتقاء الله تعالى في حفظ اللسان ، ليترادف عليهم النهي والأمر ، مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام ، وإتباع الأمر الوعد البليغ ، فيقوى الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه . انتهى .
ولك أن تضم إلى المراد من الآية الذي ذكره ، مراداً آخر ، وهو نهيهم أيضاً عما خاض فيه المنافقون من التعويق والتثبيط وبث الأراجيف في غزوة الأحزاب ، المتقدمة أوائل السورة وبالجملة ، فالسياق يشمل ذينك وغيرهما إلا أن الذي يراعى أولاً ، هو ما كان التنزيل لأجله ، وذلك ما ذكر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَاْن إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ 72 ] .
{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَاْن إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } قال أبو السعود : لما بين عظم شأن طاعة الله ورسوله ، ببيان مآل الخارجين عنها من العذاب الأليم ، ومثال المراعين لها من الفوز العظيم عقب ذلك ببيان عظم شأن ما يوجبها من التكاليف الشرعية ، وصعوبة أمرها بطريقة التمثيل - مع الإيذان بأن ما صدر عنهم من الطاعة وتركها ، صدر عنهم بعد القبول والالتزام . وعبر عناه بـ : الأمانة ؛ تنبيها على أنها حقوق مرعية أودعها الله تعالى المكلفين ، وائتمنهم عليها ، وأوجب عليهم تلقيا بحسن الطاعة والانقياد . وأمرهم بمراعاتها والمحافظة عليها وأدائها من غير إخلال بشيء من حقوقها ، وعبر عن اعتبارها بالنسبة إلى استعداد ما ذكر من السماوات وغيرها ، بالعرض عليهن ، لإظهار مزيد الاعتناء بأمرها والرغبة في قبولهنّ لها - وعن عدم استعدادهنّ لقبولها ، بالإباء والإشفاق منها ، لتهويل أمرها وتربية فخامتها - وعن قبولها بالحمل لتحقيق معنى الصعوبة المعتبرة فيها ، بجعلها من قبيل الأجسام الثقيلة التي يستعمل فيها القوى الجسمانية ، التي أشدها وأعظمها ما فيهن من القوة والشدة .
والمعنى : أن تلك الأمانة في عظم الشأن ، بحيث لو كلفت هاتيك الأجرام العظام ، التي هي مثل في القوة والشدة ، مراعاتها ، وكانت ذات شعور وإدراك ، لأبين قبولها وأشفقن منها ، ولكن صرف الكلام عن سننه بتصوير المفروض بصورة المحقق ، روماً لزيادة تحقيق المعنى المقصود بالتمثيل وتوضيحه .
وقوله تعالى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَاْن } أي : عند عرضها عليه ، إما باعتبارها بالإضافة إلى استعداده ، أو بتكليفه إياها يوم الميثاق - أي : تكلفها والتزامها مع ما فيه من ضعف البنية ورخاوة القوة - وهو إما عبارة عن قبوله لها بموجب استعداده الفطري ، أو عن اعترافه بقوله : بلى . وقوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } اعتراض وسط بين الحمل وغايته ، للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما عهده وتحمله - أي : أنه كان مفرطاً في الظلم ، مبالغاً في الجهل ؛ أي : بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة ، أو اعترافهم السابق دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله تبديلاً ، وإلى الفريق الأول أشير بقوله عز وجل :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ 73 ] .
{ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ } أي : حملها الْإِنْسَاْن ليعذب الله بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يقابلوها بالطاعة ، على أن اللام للعاقبة ؛ فإن التعذيب - وإن لم يكن غرضاً له من الحمل - لكن لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض أفراده ، ترتب الأغراض على الأفعال المعللة بها ، أبرز في معرض الغرض - أي : كان عاقبة حمل الْإِنْسَاْن لها أن يعذب الله تعالى هؤلاء من أفراده لخيانتهم الأمانة ، وخروجهم عن الطاعة بالكلية ، وإلى الفريق الثاني أشير بقوله تعالى : { وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } أي : كان عاقبة حمله لها أن يتوب الله تعالى على هؤلاء من أفراده ؛ أي : يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن رقابهم بالمرة ، وتلافيهم لما فرط منهم من فرطات ، قلما يخلو عنها الْإِنْسَاْن بحكم جبلّته وتداركهم لها بالتوبة والإنابة ، والالتفات إلى الاسم الجليل ، أولاً ؛ لتهويل الخطب وتربية المهابة ، والإظهار في موضع الإضمار ، ثانياً ؛ لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لكل من مقامي الوعيد والوعد حقه : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } أي : مبالغاً في المغفرة والرحمة ، حيث تاب عليهم ، وغفر لهم فرطاتهم ، وأثاب بالفوز على طاعاتهم . انتهى ملخصاً ، مما حرره أبو السعود . وقد آثرت نقله بحروفه ؛ لتجويده الكلام ، وإجادته في المقام ، وهكذا عادتنا في كل مجوّد ، أن ننقله ولا نتصرف فيه .
بقي في الآية لطائف نشير إليها :
الأولى - فسر بعض السلف الأمانة بالطاعة ، وبعضهم بالفرائض والحدود والدين ، وبعضهم بمعرفته تعالى . قال ابن كثير : وكل هذه الأقوال لا تنافيَ بينها ، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف وقبول الأوامر والنواهي بشرطها ، وهو أنه إن قام بذلك أثيب ، وإن تركها عوقب . انتهى .
وقيل : المراد بالأمانة الطاعة التي تعمّ الطبيعة والاختيارية ؛ لأنها لازمة الوجود ، كما أن الأمانة لازمة الأداء ، وبعرضها : استدعاؤها الذي يعم طلب الفعل من المختار ، وإرادة صدوره من غيره - وبحملها ، والخيانة فيها والامتناع عن أدائها ، فيكون الإباء امتناعاً عن الخيانة وإتياناً بالمراد ، فالمعنى أن هذه الأجرام مع عظمها وقوتها ، أبَيْن الخيانة وانقدن لأمره تعالى انقياد مثلها ، حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجاداً وتكويناً وتسوية ، وعلى هيئات مختلفة وأشكال متنوعة ، كما قال : { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [ فصلت : 11 ] ، وخانها الْإِنْسَاْن حيث لم يأت - وهو حيوان عاقل صالح للتكيف - بما أمرناه به ؛ إنه كان ظلوماً جهولاً ، وإرادة الخيانة من حملها ، هو بتشبيه الأمانة قبل أدائها بحمل يحمله ، كما يقال : ركبته الديون . وقرره الزمخشري بقوله : وأما حمل الأمانة فمن قولك : فلان حامل للأمانة ومحتمل لها ؛ تريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ، ويخرج عن عهدتها ؛ لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤمنين عليها ، وهو حاملها ، ألا تراهم يقولون : ركبته الديون ، ولي عليه حق . فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملاً لها ، ومنه قولهم : أبغض حق أخيك ؛ لأنه إذا أحبه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤده ، وإذا أبغضه أخرجه وأداه فمعنى : { فَأَبْيِنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَاْ } : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَاْن } فأبين إلا أن يؤدينها ، وأبى الْإِنْسَاْن إلا أن يكون محتملاً لها لا يؤديها ، ثم وصفه بالظلم لكونه تاركاً لأداء الأمانة ، وبالجهل لإخطائه ما يسعده مع تمكنه منه ، وهو أداؤها . انتهى ملخصاً .
الثانية - نقل ابن كثير آثاراً عن بعض التابعين أن عرض الأمانة على هذه الأجرام كان حقيقياً ، وأنه قيل لها : إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت . فقلن : يا رب ! إنا لا نستطيع هذا الأمر ، ليس بنا قوة ، ولكنا لك مطيعين . قال الشراح : ولا بُعد ، أن يخلق الله فيها فهماً لخطابه ، وأنه كان على سبيل التخيير لها ؛ ولذا عبر بالعرض ، لا تكليفاً حتى يلزم عصيانها . انتهى .
قال الإمام ابن حزم في " الفصل " في الرد على من جعل للجمادات تمييزاً ، ما مثاله : وأما عرضه تعالى الأمانة على السماوات والأرض والجبال ، وإباية كل واحد منها ، فلسنا نعلم نحن ولا أحد من الناس كيفية ذلك ، وهذا نص قوله : { مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ } [ الكهف : 51 ] ، فمن تكلف أو كلف غيره معرفة ابتداء الخلق ، وأن له مبدأً لا يشبهه البتة ، فأراد معرفة كيف كان ، فقد دخل في قوله تعالى : { وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } [ النور : 15 ] .
إلا أننا نوقن أنه تعالى لم يعرض على السماوات والأرض والجبال الأمانة ، إلا وقد جعل فيها تمييزاً لما عرض عليها ، وقوة تفهم بها الأمانة فيما عرض عليها ، فلما أبتها وأشفقت منها ، سلبها ذلك التمييز وتلك القوة ، وأسقط عنها تكليف الأمانة .
قال : هذا ما يقتضيه كلامه عز وجل ، ولا مزيد عندنا على ذلك . انتهى .
وذهب جمع إلى أن ذلك من باب المجاز ، كما بينه ابن أبي الحديد في " شرح نهج البلاغة " وسبقه الزمخشري حيث قال : ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب ، وما جاء القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم ، ومن ذلك قولهم : لو قيل للشحم أين تذهب ؟ ، لقال أسوي العوج . وكم وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات ، وتصور مقاولة الشحم محال ، ولكن الغرض أن السمن في الحيوان مما يحسن قبيحه ، كما أن العجف مما يقبح حسنه . فصور أثر السمن فيه تصويراً هو أوقع في نفس السامع ، وهي به آنس ، وله أقبل ، وعلى حقيقته أوقف ، وكذلك تصوير عظم الأمانة ، وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها . انتهى .
الثالثة - قال الرازي : إن قال قائل : لم قدم التعذيب على التوبة - في آخر الآية ؟ نقول : لما سمي التكليف أمانة ، والأمانة من حكمها اللازم أن الخائن يضمن ، وليس من حكمها اللازم أن الأمين الباذل جهده يستفيد أجرة ، فكان التعذيب على الخيانة كاللازم ، والأجر على الحفظ إحسان ، والعدل قبل الإحسان .
الرابعة - ورد في تعظيم الأمانة عدة أحاديث :
منها عن أبي هريرة مرفوعاً : < أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك > . رواه أبو داود والترمذي ، وعن عبد الله بن عَمْرو بن العاص مرفوعاً : < أربع ، إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : حفظ أمانة ، وصدق حديث ، وحسن خليقة ، وعفة في طعمة > . رواه الإمام أحمد والطبراني ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، لمن سأل عن الساعة : < إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة > . قال : كيف إضاعتها ؟ يا رسول الله ! قال : < إذا وسد الأمر إلى غير أهله ، فانتظر الساعة > .
الخامسة - قال ابن كثير : روى عبد الله بن المبارك في كتاب " الزهد " أن عُمَر بن الخطاب كان ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي . وقد ورد في ذلك حديث مرفوع عن بريدة : < من حلف بالأمانة فليس منا > ، تفرد به أبو داود . أي : لأن الحلف لا يكون إلا باسم من أسمائه أو بصفة من صفاته ، وأما بغير ذلك فمكروه أو حرام ، كما تقرر في موضعه . والله أعلم .
السادسة - سبق لي أن كتبت في الآية شيئاً ، في منتصف ربيع الأول سنة 1324 ، في قرية ضمّت حفلة من أهل العلم . فسأل بعض الناس عن تفسير الآية ، ولم يكن ثمة تفسير فاستعنت بالله تعالى ، وقرأت السورة من أولها إلى آخرها مرات ثم كتبت ما تراه .
أردت إثباته هنا تعزيزاً للمقام ، ونصه : في ختم السورة بهذه الآية من البدائع ما يسميه علماء البديع " رد العجز على الصدر " ذلك أن طليعة هذه السورة كانت في ذم المنافقين وقص مخازيهم ونواياهم السيئة ضد الرسول وأصحابه في غزوة الأحزاب ، وهي غزوة الخندق ، أَبَان الحق تعالى أثر ما ذكر من الأمر بالتقوى وعدم إطاعة المنافقين ، وما كانوا يخوضون فيه من قصة التبني ونحوها ، أنهم كانوا أعطوا العهود والمواثيق أنهم إن قاتلوا لا يفروا ، وذلك في قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً } [ الأحزاب : 16 ] ، فلما خانوا أماناتهم بالفرار والتعويق لإخوانهم ، والتثبيط لهم وما كان من شنائعهم في تلك الغزوة ، بين الله تعالى في خاتمة السورة ، شأن الأمانة ، وعظم خطرها ، وأنها عند الله بمكان عظيم ؛ وذلك لأن من أعطى من نفسه موثقاً ، عاهد الله عليه فاطمأنت به النفوس ووثقت به ، وركنت إليه وأدرجته في عداد من يشد أزرها ، فإذا هو غادر خائن كاذب متلاعب ، يتخذ عهود الله هزؤاً ولعباً ، فيخذل من وثق به ، ويمالئ العدو عليه ويثبط من يرجى منه نوع معونة ، ويوقع الأراجيف ليوهي العزائم ويضعف الهمم ، فتكثر القالة وترتبك العامة فما أسوأ ما يأتي به ، وما أفظع ما أرتكب وما أعظم جريمته ! .
وجلي أن عظم الجريمة بقدر عظم آثارها ، وما ذكر بعض من آثارها ، ففي أي : مرتبة تكون الخيانة ؟ لا جرم أنها في أحط المهاوي الدنيئة . كما أن مرتكبها في الدرك الأسفل من النار ، فالأمانة المذكورة في الآية باعتبار سياقها وسباقها ، وهي الأمانة التي خان في تحملها المنافقون ، ونقضوا بها عهدهم في هذه الواقعة ، وكان من آثارها السيء في المدينة وأهلها ما كان - وإن كان لفظها يعم ما ذكر وغيره ، والْإِنْسَاْن هنا ، المعني به جنس المنافق الذي قص من نبئه ما قص ، والقصد لومه على كونه تحمل ما تحمل ، ثم نقض ذلك عن عمد وقصد ، ظلماً لنفسه وجهلاً بالعاقبة وباللوم الذي يتبعه ، وبالعذاب الذي سيلقاه ، وبكون هذا الأمر أمراً ربانياً وعزيمة إلهية ما هي بالهزل .
والمراد بعرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال ، هو ظهور خطرها بهذه المكونات ، وفظاعة الخيانة فيها ، وإشفاق كل من خطر تحملها ، وإبائهن ذلك لو كن مما يعقلن ، مع أنهن أقوى أجساماً ، وأعظم ثباتاً ، وأصبر على طوارئ الحدثان ، تخوفاً من أن يطغين في أمرها أو يعصين في شأنها ، وإن الْإِنْسَاْن ، مع ضعفه بالنسبة لهن ، حملها وما حفظها ولا رعاها ، واجترأ مع ضعفه على ما أشفق منه ما هو أقوى منه . فما أظلمه وما أجهله ! والقصد رميه بالظلم والجهل ، وجراءته على الخيانة وعدم مبالاته بما ترهب منه السماوات والأرض والجبال ، فيا لله ما أطغاه ! فذكر هذه الأجرام الكبيرة تهويل لخطر الأمانة ، وأنهن لو عقلن لكان منهن ما كان . ونظير هذه الآية في ذكر هؤلاء الثلاثة قوله تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً } [ مريم : 88 - 91 ] ، وحقاً أن سبك المعنى المذكور في قالب هذا النظم البديع لمعجزة من معجزات التنزيل ، وخارق من خوارقه في باب البلاغة ؛ فإن أسلوبه في إفراغ المعاني في أرق الألفاظ وأفخم التراكيب ، أسلوبٌ انفرد به عن كل كلام . وبه يعلم أن من بحث في كيفية العرض عليهن ، هل كان بإيداع عقل فيهن أوْ لا ؟ [ في المطبوع : أولا ] ، وفي تعيين زمانه ، وفي كيفية إبائهن وإشفاقهن ، وفي معنى لوم الْإِنْسَاْن ، ورميه بالظلم والجهل ، بعد ما عرضت عليه ، وأن ظاهره التخيير إلى غير ذلك - كله فلسفة لفظية ، ولّدها عشاق الظواهر والألفاظ ، الولعون في الغلو بمفرداتها ، وصرف الوقت فيها جعل ذلك منتهى قصدهم ومبلغ علمهم . فضاع عليهم المعنى ولم يهتدوا إليه - ولن يجدوا إليه سبيلاً ما دام هذا سبيلهم - والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .(/)
سورة سبأ
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } [ 1 ] .
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } خلقاً وملكاً ، وتصرفاً بما شاء : { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ } أي : في النشأة الآخرة . قال الشهاب : السماوات والأرض عبارة عن هذا العالم بأسره . وهو يشتمل على النعم الدنيوية . فعلم من التوصيف بقوله : { الَّذِي } الخ ، أنه محمود على نعم الدنيا ، ولمّا قيّد الثاني بكونه في الآخرة ، علم أن الأول محله الدنيا فصار المعنى : أنه المحمود على نعم الدنيا فيها ، وعلى نعم الآخرة فيها . أو هو من باب الاحتباك ، وأصله : الحمد لله الخ في الدنيا ، وله ما في الآخرة والحمد فيها ، فأثبت في كل منها ما حذف من الآخرة . وقوله تعالى : { وّلّهُ الْحّمْدُ } معطوف على الصلة ، أو اعتراض ، إن كانت جملة : { يَعْلَمُ } حالية : { وَهُوَ الْحَكِيمْ } أي : الذي أحكم أمور الدارين ودبرها بحكمته : { الْخَبِيرُ } أي : بخلقه وأعمالهم وسرائرهم ، ثم ذكر مما يحيط به علماً قوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ } [ 2 ] .
{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ } أي : من الأمطار ، والمياه ، والكنوز ، والدفائن ، والأموات : { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } أي : من الشجر ، والنبات ، وماء العيون ، والغلة ، والدواب : { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء } أي : من الأمطار ، والثلوج ، والبرد ، والصواعق ، والأرزاق ، والملائكة ، والمقادير : { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } أي : من الملائكة ، وأعمال العباد : { وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ } أي : لمن تاب من المؤمنين وقام بواجب شكره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ 3 ] .
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } يعني مشركي مكة : { لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ } أي : ساعة الجزاء ، إنكاراً لها : { قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } أي : الساعة . ردٌّ لكلامهم وتأكيدٌ لما نفوه ، باليمين بالله عز وجل : { عَالِمِ الْغَيْبِ } بالجر صفة ، والرفع خبر محذوف ، وقرئ : علَّامِ ، بالجر . وفي هذا التوصيف تقوية للتأكيد ؛ لأن تعقيب القسم بجلائل نعوت المقسم به ، يؤذن بفخامة شأن المقسم عليه وقوة إثباته وصحته ، لما أنه [ في المطبوع : أن ] في حكم الاستشهاد على الأمر ، لاسيما إذا خص من الأوصاف ما له اختصاص بهذا المعنى ؛ فإن قيام الساعة من مشاهير الغيوب وأدخلها في الخفية ، وأولها مسارعة إلى القلب ، إذا قيل عالم الغيب : { لَا يَعْزُبُ } أي : لا يغيب بضم الزاي وكسرها : { عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } أي : فالجميع مندرج تحت علمه فلا يخفى عليه شيء , وإن تناهى في الصغر , فالعظام وأجزاء البدن ، وإن تلاشت وتفرّقت وتمزّقت ، فهو عالم أين ذهبت وأين تفرّقت ، ثم يعيدها كما بدأها أول مرة ؛ لسعة علمه وعظم قدرته ، جل شأنه .
لطائف :
الأولى - عامة القراء على رفع : { أَصْغَرُ } و : { أَكَبَرُ } وفيه وجهان :
أحدهما : الابتداء والخبر : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } والثاني النسق على : { مْثَقالَ } . وعلى هذا فيكون قوله : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } تأكيداً للنفي في : { لاَ يَعْزُبُ } كأنه قال : لكنه في كتاب مبين ، ويكون في محل الحال ، وقرأ بعض السلف بفتح الراءين ، وفيه وجهان : أحدهما - أن : { لَا } هي لا التبرئة ، بني اسمها معها . والخبر قوله : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } . والثاني - النسق على : { ذَرَّةٍ } لامتناعه من الصرف .
الثانية - يشير قوله تعالى : { وَلاَ أصْغَرُ مِنَ ذَلِكَ } إلى أن : { مِثْقَالَ } لم يذكر للتحديد بل الأصغر منه لا يعزب أيضاً .
الثالثة - قال الكرخي : فإن قيل فأيّ حاجة إلى ذكر الأكبر ؛ فإن من علم الأصغر من الذرة لا بد وأن يعلم الأكبر ؟ فالجواب : لما كان الله تعالى أراد بيان إثبات الأمور في الكتاب ، فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم أنه يثبت فيه الصغائر لكونها محل النسيان , وأما الأكبر فلا يُنسى فلا حاجة إلى إثباته ، فأعلم [ في المطبوع : فاعلم ] أن الإثبات في الكتاب ليس كذلك ؛ فإن الأكبر مكتوب فيه أيضاً . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ 4 ] .
{ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } علة لقوله تعالى : { لَتَأْتيَنَّكُمْ } وبيان لما يقتضي إتيانها من جزاء المحسن والمسيء : { أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } أي : عيش هنيء في الآخرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ } [ 5 ] .
{ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا } أي : بالطعن فيها ونسبتها إلى السحر والشعر وغير ذلك { مُعَاجِزِينَ } أي : مقدرين الغلبة والعجز في زعمهم الفاسد وظنهم الباطل : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ } وهو أسوأ العذاب و : { مِّن } للبيان : { أَلِيمٌ } بالرفع صفة عذاب ، وبالجر صفة لـ : رجز ، قراءتان . وقد جوز في قوله : { وَالَّذِينَ سَعَوْا } أن يكون مبتدأ ، وجملة : { أُوْلَئِكَ } الخ خبره وأن يعطف على : { الَّذِينَ } قبله . أي : ويجزي الذين سعوا . وتكون [ في المطبوع : يكون ] جملة : { أُوْلَئِكَ } التي بعدها مستأنفة ، والتي قبله معترضة . وفي التعبير عن طعنهم وصدهم بالسعي ، تمثيل لحالهم . فإن المكذب آت بإخفاء آيات بينات ، فيحتاج إلى السعي العظيم ، والجدّ البليغ ، ليروّج كذبه لعله يعجز المتمسك به .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ } [ 6 - 8 ] .
{ وَيَرَى } أي : يعلم : { الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } أي : دينه وشرعه : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : من قريش : { هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ } يعنون النبي صلّى الله عليه وسلم : { يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي : فرقتم كل تفريق ، بحيث صرتم تراباً ورفاتاً : { إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } أي : فيما قاله : { أَم بِهِ جِنَّةٌ } أي : جنون تخيل به ذلك . فرد تعالى عليهم ما نعى به سوء حالهم بقوله : { بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ } أي : المتناهي أمره ؛ فإن من يدعى إلى الصلاح والرشاد ، ونبذ الهوى والفساد ، فيرمي الداعي بالفرية والجنون ، لَمُغرق في الجهالة ، ومبعد أي : بعد في الضلالة ، ثم أشار إلى تهويل تلك العظيمة التي تفوهوا بها ، وإنها موجبة لنزول أشد العذاب ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } [ 9 ] .
{ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاء } أي : أعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض ، وإنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم ، محيطتان بهم ، لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما وأن يخرجوا عما هم فيه من ملكوت الله عز وجل ، ولم يخافوا أن يخسف الله بهم أو يسقط عليهم كسفاً لتكذيبهم الآيات ، وكفرهم بالرسول صلّى الله عليه وسلم وبما جاء به ، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة . أفاده الزمخشري .
والكسْف : بسكون السين ، بمعنى القطع ، إما جمع كسفة ، أو فعل بمعنى مفعول ، أو مخفف من المصدر ، وقرأ حفص : { كِسَفاً } بالفتح : { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما وما يدلان عليه من قدرة الله : { لَآيَةً } أي : دلالة واضحة : { لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } أي : راجع إلى ربه مطيع له ، فإن شأنه لا يخلو من الاعتبار في آياته تعالى ، على أنه قادر على كل شيء من البعث ونشر الرميم ، كما قال تعالى :
{ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى } [ يس : 81 ] ، وقال تعالى : { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [ غافر : 57 ] .
ثم أخبر تعالى عما آتى داود وسليمان من الفضل ، والملك , وسعة السلطان , ووفرة الجند , وكثرة العَدَد , والعُدَد ، ببركة إنابتهما ، وقيامهما بشكر الرب تعالى ، عِدةً للنبي صلّى الله عليه وسلم ، وأتباعه المنيبين الشاكرين بنيل مثل ذلك ، وتذكيراً بقدرته على كل شيء ، فقال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [10 - 11 ] .
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ } أي : رجّعي معه التسبيح و : { يَا جِبَالُ } بدل من : { فَضْلاً } أو من : { آتَيْنَا } بتقدير قولنا ، أو قلنا يا جبال أوّبي معه : { وَالطَّيْرَ } بالرفع والنصب ، عطفاً على لفظ الجبال ومحلها ، وجوز انتصابه مفعولاً معه ، وأن يعطف على : { فَضْلاً } بمعنى وسخرنا له الطير . قال الزمخشري : فإن قلت أي : فرق بين هذا النظم ، وبين أن يقال : وآتينا داود منا فضلاً ، تأويب الجبال معه والطير ؟ قلت : كم بينهما ! ألا ترى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى ، من الدلالة على عزة الربوبية وكبرياء الإلهية ، حيث جعلت الجبال منزلة منزّلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا ، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا ، إشعاراً بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت ، إلا وهو منقاد لمشيئته غير ممتنع على إرادته . انتهى .
{ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ } أي : دروعاً واسعاتٍ : { وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } أي : اقتصد في نسج الدروع لتتناسب حلقها : { وَاعْمَلُوا صَالِحاً } أي : وقلنا له ولأهله ذلك : { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : فأجازيكم به .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ } [ 12 ] .
{ وَلِسُلَيْمَانَ } أي : وسخرنا له : { الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } أي : جريها بالغداة مسيرة شهر ، وجرها بالعشي كذلك ، والريح الهواء المسخر بين السماء والأرض . ويطلق بمعنى النصرة والدلالة والغلبة والقوة ، كما في القاموس : { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ } أي : النحاس المذاب ؛ أي : أجرينا له ينبوعه لكثرة ما توفر لديه منه من سعة ملكه : { وَمِنَ الْجِنِّ } أي : الشياطين الأقوياء : { مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : من رفيع المباني ، وإشادة القصور وغيرها : { بِإِذْنِ رَبِّهِ } أي : بأمره تعالى : { وَمَن يَزِغْ } أي : يعدل : { مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ } أي : النار ، ثم فصل ما ذكر من علمهم بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [ 13 ] .
{ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ } أي : مساكن ومجالس شريفة ، أو مساجد : { وَتَمَاثِيلَ } أي : صور ونقوش منوعة على الجدر ، والسقوف ، والأعمدة . جمع تمثال ، وهو كل ما صوّر على مثل صورة غيره من حيوان ، وغير حيوان ، ولم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرماً .
قال السيوطي في " الإكليل " : قال ابن الفرس : احتجت به فرقة في جواز التصوير ، وهو ممنوع فإنه منسوخ في شرعنا : { وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ } أي : وصحاف كالجوابي ، وهي الحياض الكبار ، والجفان : جمع جفنة وهي كالصحفة والقصعة ، ما يوضع فيه الطعام مطلقاً . وقيل الجفنة أعظم القصاع ، ثم يليها القصعة وهي ما تشبع عشرة ، ثم الصحفة وهي ما تشبع خمسة ، ثم الميكلة وهي ما تشبع ثلاثة أو اثنين ، ثم الصحيفة : { وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ } أي : ثابتات على الأثافي ، لا تنزل عنها لعظمها : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً } أي : قيل لهم : اعملوا لله واعبدوه على وجه الشكر لنعمائه . وفيه إشارة إلى أن العمل حقه أن يكون للشكر لا للرجاء والخوف ، كما أن فيه وجوب الشكر ، وأنه يكون بالعمل ولا يختص باللسان ؛ لأن حقيقته صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله ، وداود عليه السلام قد يدخل هنا في آله ؛ فإن آل الرجل قد يعمه : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } أي : المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه ، وأكثر أوقاته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } [ 14 ] .
{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ } أي : على سليمان : { الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ } وهي الأرضة : { تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } أي : عصاه التي ينسأ بها ، أي : يطرد ويؤخر : { فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } أي : الشديد من الجري على رسمه لهم ، والدأب عليه ، لظنهم إياه حيّاً . ثم بين تعالى من أخبار بعض الكافرين بنعمه ، إثر بيان أحوال الشاكرين لها ، ما فيه عظة واعتبار ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } [ 15 ] .
{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ } اسم لأبي قبيلة . وقد قرئ بمنع الصرف على أنه اسم لها : { فِي مَسْكَنِهِمْ } أي : في مواضع سكناهم ، وهي باليمن يقال لها : مأرب ، كمنزل من بلاد الأزد ، في آخر جبال حضرموت ، وكانت في الزمن الأول قاعدة التبابعة ، فإنها مدينة بلقيس ، بينها وبين صنعاء نحو أربع مراحل . وقرئ : { مَسَاكِنِهِمْ } : { آيَةٌ } على قدرته تعالى ومجازاته المسيء : { جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } أي : جماعتان من البساتين عن يمين بلدهم وشمالها ، أو لكل واحد جنتان عن يمين مسكنه وشماله . قيل لهم : { كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ } أي : بصرف ما أنعم به عليكم إلى ما خلق لأجله .
ثم بين ما يوجب الشكر المأمور به ، بقوله سبحانه : { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ } أي : لطيفة جميلة مباركة لا عاهة فيها : { وَرَبٌّ غَفُورٌ } أي : لمن شكره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } [ 16 ] .
{ فَأَعْرَضُوا } أي : عن الشكر : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ } أي : سيل الأمر العرم ، أي : الصَّعب والمطر الشديد - أو الوادي - أو السكر الذي يحبس الماء - أو هو البناء الرصين المبني بين الجبلين لحفظ ماء الأمطار وخزنها ، وقد ترك فيه أثقاب على مقدار ما يحتاجون إليه في سقيهم ، فلما طغوا أهلكهم الله بخراب هذا البناء ، فانهال عليهم تيار مائه ، فأغرق بلادهم وأفسد عمرانهم وأرضهم ، واضطر من نجا منهم للنزوح عنها . كما قال تعالى : { وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ } أي : ثمر مرّ ، أو بشع لا يؤكل : { وَأَثْلٍ } شجر يشبه الطرفاء من شجر البادية لا ثمر له : { وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } وهو شجر النبق ؛ أي : قلة لا تسمن ولا تغني من جوع ، فهذا تبديل النعم بالنقم ، لمن لم يشكر النعم ، كما قال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ } [ 17 ] .
{ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ } أي : بشكر النعم ، أو باتباع الرسل ، وتكذيب الحق ، والعدول إلى أهل الباطل ، ثم بين تعالى ما كانوا فيه من النعمة ، والغبطة ، والعيش الهني ، والبلاد الآمنة ، والقرى المتواصلة ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ } [ 18 ] .
{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } أي : بالزروع والثمار ، وحسن العمران ، وهي قرى بصنعاء ، كما قاله مجاهد ، وسعيد بن جبير ، ومالك ، وغيرهم : { قُرًى ظَاهِرَةً } أي : متواصلة ، يرى بعضها من بعض لتقاربها ؛ فهي ظاهرة لأعين الناظرين ، أو ظاهرة للمسافرين لا تبعد عن مسالكهم : { وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ } أي : جعلنا بين قراها مقادير متساوية ، فمن سار من قرية صباحاً وصل إلى أخرى وقت الظهيرة والقيلولة ، ومن سار بعد الظهر وصل إلى أخرى عند الغروب ، فلا يحتاج لحمل زاد ولا مبيت في أرض خالية ، ولا يخاف من عدو ونحوه : { سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ } أي : لا تخافون في الليل أو النهار ، أو وإن تطاول أمد سفركم فيها وامتد ، فلا ترون إلا الأمن ، والأمر على تقدير القول بلسان المقال بواسطة نبي ونحوه ، أو بلسان الحال ، كأنهم لما تمكنوا منه جعلوا مأمورين به ، فالأمر للإباح . وفي : في ، إشعار بشدة القرب ، حتى كأنهم لم يخرجوا من نفس القرى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } [ 19 ] .
{ فَقَالُوا } أي : بلسان الحال ، والميل إلى المهالك الشيطانية : { رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } أي : فاستعدوا لضلالهم وكفرهم ، لأن تُجعل أمكنتهم تعمل فيها المطي والرواحل ، لتباعد ما بينها وبين ما يسيرون إليه ، وحصل ذلك بما بدلوا به من بلادهم الحسنة : { وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ } أي : حتى حل بهم ما حل : { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } أي يتحدث الناس بهم ويتعجبون من نبئهم ، وكيف مكر الله بهم ، وفرق شملهم بعد الاجتماع والعيش الهني : { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي : فرقناهم كل تفريق ، حتى اتخذه الناس مثلاً مضروباً . يقولون : تفرقوا أيادي سبا ، وذهبوا أيدي سبا . بألف مقصورة . قال الأزهري : العرب لا تهمز سبأ في هذا الموضع ؛ لأنه كثر في كلامهم فاستثقلوا فيه الهمز ، وإن كان أصله مهموزاً ، والذهاب معلوم ، والأيادي جمع أيد ، والأيدي جمع يد ، وهي بمعنى الجارحة ، وبمعنى النعمة ، وبمعنى الطريق ، وهو المراد . قال في التهذيب : قولهم ذهبوا أيدي سبا ، أي : متفرقين . شبهوا بأهل سبأ لما مزقهم [ في المطبوع : لمامزقهم ] الله في الأرض كل ممزق ، فأخذ كل طائفة منهم طريقاً على حدة . واليد الطريق . يقال : أخذ القوم يد بحر . . فقيل للقوم إذا ذهبوا في جهات مختلفة : ذهبوا أيدي سبا ؛ أي : فرقتهم طرقهم التي سلكوها ، كما تفرق أهل سبا في مذاهب شتى .
قال ابن مالك : إنه مركب تركيب خمسة عشر ، مبنيّاً على السكون . وفي " زهر الأكم ، في الأمثال والحكم " أن سبا كانت أخصب بلاد الله ، كما قال تعالى : { جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } قيل كانت مسافة شهر للراكب المجدّ ، يسير الماشي في الجنان من أولها إلى آخرها لا يفارقه الظل مع تدفق الماء وصفاء الأنهار واتساع الفضاء ، فمكثوا مدة في أمن لا يعاندهم أحد إلا قصموه ، وكانت في بدء الأمر تركبها السيول ، فجمع لذلك حمير أهل مملكته وشاورهم ، فاتخذوا سدّاً في بدء جريان الماء ، ورصفوه بالحجارة والحديد ، وجعلوا فيه مخارق للماء . فإذا جاءت السيول انقسمت على وجه يعمهم نفعه في الجنات والمزروعات ، فلما كفروا نعم الله تعالى ، ورأو أن ملكهم لا يبيده شيء ، وعبدوا الشمس ، سلط الله على سدهم فأرة فخرقته ، وأرسل عليهم السيل فمزقهم كل ممزق ، وأباد خضراءهم ، وتبددوا في البلاد . فلحق الأزد بعمان ، وخزاعة ببطن مر ، والأوس والخزرج بيثرب ، وآل جفنة بأرض الشام ، وآل جذيمة الأبرش بالعراق .
وقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس ، أن رجلاً سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن سبأ ما هو ؟ أرجل أم امرأة ؟ أم أرض ؟ قال صلّى الله عليه وسلم : < بل هو رجل ولد له عشرة ، فسكن اليمن منهم ستة ، وبالشام منهم أربعة . فأما اليمانيون فمذحج ، وكندة ، والأزد ، والأشعريون ، وأنمار ، وحمير . وأما الشامية فلخم ، وجذام ، وعاملة ، وغسان > . قال ابن كثير : وإسناده حسن إلا ابن لهيعة .
روى الإمام أحمد أيضاً عن فروة بن مسيك رضي الله عنه قال : أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ! أقاتل بمقبل قومي مدبرهم ؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < نعم > . فقاتل بمقبل قومك مدبرهم . فلما وليت دعاني فقال : < لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام > . فقلت : يا رسول الله ! أرأيت سبأ ؟ أوادٍ هو ، أو جبل ، أو ما هو ؟ قال صلّى الله عليه وسلم : < لا ، بل هو رجل من العرب ولد له عشرة ، فتيامن ستة ، وتشاءم أربعة ؛ تيامن الأزد ، والأشعريون ، وحمير ، وكندة ، ومذحج ، وأنمار - الذين يقال لهم بجيلة - وخثعم . وتشاءم لخم ، وحذام ، وعاملة ، وغسان > .
قال ابن كثير : حديث حسن ، وإن كان فيه أبو حباب الكلبي ، وقد تكلموا فيه .
ورواه الحافظ ابن عبد البر في كتاب " القصد والأمم بمعرفة أصول أنساب العرب والعجم " عن تميم الداري ، أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن سبأ ؟ فذكر مثله .
و قال ابن كثير : فقوي هذا الحديث وحسُن .
وذكر علماء النسب ، منهم محمد بن إسحاق اسم سبأ ، عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبأ في العرب ، وكان يقال له الرائش ؛ لأنه أول من غنم في الغزو فأعطى قومه ، فسمي الرائش ، والعرب تسمي المال ريشاً ورياشاً ، وذكروا أنه بشّر برسول الله صلّى الله عليه وسلم في زمانه المتقدم ، وقال في ذلك شعراً :
~سَيَمْلِكُ بَعْدَنَا مَلِكٌ عَظِيْمٌ نَبِيٌّ لَا يُرَخِّصُ فِي الْحَرَامِ
~وَيَمْلِكُ بَعْدَهُ مِنْهُمْ مُلُوْكٌ يُدِيْنُوْهُ الْقِيَاْدَ بِكُلِّ رَاْمِيْ
~وَيَمْلِكُ بَعْدَهُمْ مِنَّا مُلُوْكٌ يَصِيْرُ الْمَلِكُ فِيْنَا بِانْقِسَامِ
~وَيَمْلِكُ بَعْدَ قَحْطَاْنِ نَبِيٌّ تَقِيٌّ مُتَحَنَّثٌ خَيْرُ الْأَنَامِ
~يُسَمَّى أَحْمَداً يَاْ لَيْتَ أَنِّيْ أُعَمِّرُ بَعْدَ مَبْعَثِهِ بِعَاْمِ
~فَأَعْضُدْهُ وَأَحْبُوْهُ بِنَصْرِيْ بِكُلِّ مُدَجَّجٍ وَبِكُلِّ رَامِ
~مَتَىْ يَظْهَرُ فَكُوْنُوْا نَاْصِرِيْهِ وَمَنْ يَلْقَهْ يُبَلِّغْهُ سَلَاْمِيْ
ذكر ذلك الهمداني في كتاب " الإكليل " . واختلفوا في قحطان . فقيل : إنه من سلالة إرم بن سام بن نوح . وقيل : من سلالة عابر وهو هود عليه السلام . وقيل : إنه من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام . وقد ذكر ذلك مستقصى الإمام الحافظ أبو عُمَر بن عبد البر النمري في كتاب " الإنباه على ذكر أصول القبائل الرواه " . قال ابن كثير : ومعنى قوله صلّى الله عليه وسلم في سبأ : < كان رجلاً من العرب > يعني العرب العاربة الذين كانوا قبل الخليل عليه الصلاة والسلام من سلالة سام بن نوح . وعلى القول الثالث ، كان من سلالة الخليل عليه السلام ، وليس هذا بالمشهور عندهم . والله اعلم .
ولكن في صحيح البخاري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مر بنفر من أسلم ينتضلون فقال : < ارموا ، بني إسماعيل ! فإن أباكم كان رامياً > . وأسلم قبيلة من الأنصار . والأنصار أوسها وخزرجها من عرب اليمن . من سبأ ، نزلت يثرب ، لما تفرقت ، كما مر . ثم قال : ومعنى قوله صلّى الله عليه وسلم : < ولد له عشرة > أي : كان من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن ، لا أنهم ولدوا من صلبه . بل منهم من بينه وبينه ، الأبوان والثلاثة ، والأقل والأكثر . كما هو مقرر مبين في مواضعه من كتب النسب .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : فيما ذكر من قصتهم ، وما حل بهم من النقمة والعذاب ، وتبديل النعمة وتحويل العافية على ما ارتكبوه من الكفر والآثام : { لَآيَاتٍ } أي : لعبراً عظيمة : { لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي : شأنه الصبر عن الشهوات والهوى والآثام ، والشكر على النعم ، قال الأعشى من قصيدة :
~فَفِيْ ذَاْكَ لِلْمُؤْتَسِيْ أُسْوَةٌ وَمَأْرِبُ عَفَّى عَلَيْهَا الْعَرِمْ
~رُخَاْمٌ بَنَتْهُ لَهُمْ حِمْيَرٌ إِذَاْ جَاْءَ مُوَارهُ لَمْ يَرِمْ
~فَأَرْوَىْ الزُّرُوْعِ وَأَعْنَابَهَاْ عَلَىْ سَعَةٍ مَاْؤُهُمْ إِذْ قُسِمْ
~فَصَاْرُوْا أَيَادِيَ مَاْ يَقْدِرُوْ نَ مِنْهُ عَلَىْ شُرْبٍ طِفْلٍ فُطِمْ(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } [20 - 21 ] .
{ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } قال الزمخشري : قرئ : صدق ، بالتشديد والتخفيف ، ورفع لفظ إبليسُ ، ونصب الظن . فمن شدد ، فعلى : حقق عليهم ظنه ، ووجده ظنه صادقاً ؛ أي : صدّق بمعنى حقق مجازاً ؛ لأنه ظن شيئاً فوقع فحققه . وقوله : أو وجده ظناً صادقاً . فإن العرب تقول صدّقك ظنك . والمعنى أن إبليس كان يسول له ظنه شيئاً فيهم ، فلما وقع جعل كأنه صدقه . شهاب .
ومن خفف فعلى : صدق في ظنه ، أو صدق يظن ظناً . نحو فعلته جهدك ؛ أي : فـ : ظنه ، منصوب على الظرفية بنزع الخافض ، وأصله : في ظنه ؛ أي : وجد ظنه مصيباً في الواقع ، فـ : صدق ، حينئذ بمعنى أصاب ، مجازاً . أو منصوب على أنه مصدر لفعل مقدر . كفعلته جهدك ، أي : وأنت تجهد جهدك . فالمصدر وعامله في موقع الحال . شهاب .
وبنصب [ لفظ ] إبليس ورفع الظن ، فمن شدد فعلى : وجد ظنه صادقاً . ومن خفف ، فعلى : قال له ظنه الصدقَ حينَ خيله إغواؤهم . برفع : إغواؤهم ، على الفاعلية ، أو نصبه على الحذف والإيصال ، وفاعليه وضمير الظن ؛ أي : خيل له إغواءهم . شهاب . يقولون : صدقك ظنك .
وبالتخفيف ورفعهما ، أي : على إبدال الظن من إبليس ، بدل اشتمال . شهاب . على : صدق عليهم ظن إبليس . انتهى .
وذلك إما ظنه بسبأ حين رأى انهماكهم في الشهوات ، أو ببني آدم حينما رأى ما ركب فيهم من الشهوة والغضب .
{ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ } أي : ما كان له عليهم من تسليط واستيلاء بالوسوسة والاستغواء ، إلا لغرض صحيح وحكمة بينة ، وذلك أن يتميز المؤمن بالآخرة من الشاك فيها ، وعلل التسليط بالعلم . والمراد ما تعلق به العلم . قاله الزمخشري . يعني أن العلم المستقبل المعلل به هنا ، ليس هو العلم الأزلي القائم بالذات المقدس . بل تعلقه بالمعلوم في عالم الشهادة الذي يترتب عليه الجزاء بالثواب والعقاب . فالمعنى ما سلطناه عليهم إلا ليبرز من كمون الغيب ما علمناه ، فتظهر الحكمة فيه بتحقق ما أردناه من الجزاء أو لازمه ، وهو ظهور المعلوم .
ويجوز أن يكون المعنى : لنجزي على الإيمان وضده . كذا في " العناية " : { وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } أي : رقيب قائم على أحواله وأوامره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ } [ 22 ] . : { قُلِ } أي : للمشركين ، إظهاراً لبطلان ما هم عليه , وتبكيتاً لهم : { ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم } أي : زعمتموهم آلهة : { مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } أي : من خير ، وشر ، ونفع ، وضر : { فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ } أي : شركة ، لا خلقاً ولا ملكاً ولا تصرفاً : { وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ } أي : معين يعينه على تدبير خلقه ، قال الزمخشري : يريد أنهم على هذه القصة من العجز ، والبعد عن أحوال الربوبية . فكيف يصح أن يُدعوا كما يدعى ، ويرجوا كما يرجى ؟(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [ 23 ] .
{ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } أي : من المستأهلين لمقام الشفاعة . كالنبيين والملائكة . وهذا تكذيب لقولهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } أي : كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم ، بكلمة يتكلم بها رب العزة ، في إطلاق الإذن ، تباشروا بذلك : { قَالُوا } أي : سائلاً بعضهم بعضاً : { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ } أي : قال القول الحق ، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى : { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } أي : ذو العلو والكبرياء ، ليس لملك ولا نبي أن يتكلم إلا بإذنه ، وأن يشفع إلا لمن ارتضى .
قال ابن كثير : هذا أيضاً مقام رفيع في العظمة ، وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي . فسمع أهل السماوات كلامه ، أرعدوا من الهيبة ، حتى يلحقهم مثل الغشي . قاله ابن مسعود رضي الله عنه ، ومسروق ، وغيرهما .
قال الزمخشري : فإن قلت : بم اتصل قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } ولأي شيء وقعت حتى غاية ؟ قلت : بما فهم من هذا الكلام ، من أن ثم انتظاراً للإذن وتوقعاً وتمهلاً وفزعاً من الراجين للشفاعة والشفعاء ، هل يؤذن لهم أو لا يؤذن ، وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد ملي من الزمان وطول من التربص ، ومثل هذه الحال دل عليه قوله عز وجل : { رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً } [ النبأ : 37 - 38 ] . أي : وإذا كانت الشفاعة لمن أذن له بهذا الحال ، عظمة وسموّاً من ذي الجلال ، فأنّى ينالها جماد لا يعقل ، لاسيما وهو عدو للكبير المتعال ، فتبين كذبهم فيهم أنهم شفعاء ، وحرمانهم من مقامها ، بأجلى بيان وأفصح مقال .
وفي الآية تأويل آخر ، وهو أن معنى قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } أي : عن قلوب المشركين عند الاحتضار ، ويوم القيامة إذا تنبهوا مما كانوا فيه من الغفلة في الدنيا ، ورجعت إليهم عقولهم يوم القيامة ، قالوا ماذا قال ربكم ؟ فقيل لهم الحق وأخبروا به مما كانوا عنه لاهين في الدنيا . قال مجاهد : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } أي : كشف عنها الغطاء يوم القيامة . وقال الحسن : أي : كشف عما فيها من الشك والتكذيب . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هذا عند الموت ، أقرّوا حين لا ينفعهم الإقرار . واختار ابن جرير القول الأول ، وهو أن الضمير عائد إلى الملائكة .
قال ابن كثير : وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه ؛ لصحة الأحاديث فيه ، والآثار ، أي : ولورود ما يؤيده في آية أخرى ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، وذلك في قوله تعالى : { وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 28 ] ، نعم ، النظم الكريم لا يأبى ما ذكروه ، إلا أن مراعاة الأشباه والنظائر هو العمدة في باب فهم التأويل ، ما وجد إليها سبيل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } [ 24 ] .
{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أمر بتبكيت المشركين بحملهم على الإقرار بأن آلهتهم لا يملكون مثقال ذرة فيهما . وقوله : { قُلِ اللَّهُ } أي : الذي تعترفون بأنه هو الخالق ، كما قال تعالى : { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ } [ يونس : 31 ] . أي : فحينئذ قامت الحجة عليهم منهم .
{ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } أي : وإن أحد الفريقين من الموحدين الرازقَ من السماوات والأرض بالعبادة ، ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة على ذرة ، لعلى أحد الأمرين من الهدى أو الضلال .
قال الزمخشري : وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من مُوالٍ أو منافٍ ، قال لمن خوطب به : قد أنصفك صاحبك ، وفي دَرْجِهِ بعدَ تقدمةِ ما قدم من التقرير البليغ ، دلالة غير خفية على من هو من الفريقين على الهدى ، ومن هو في الضلال المبين ، ولكن التعريض والتورية أفضل بالمجادل إلى الغرض ، وأهجم به على الغلبة مع قلة شغب الخصم وقل شوكته بالهوينا ، ونحوه قول الرجل لصاحبه : علم الله الصادق مني ومنك ، وإن أحدنا لكاذب .
ومنه بيت حسان :
~اَتَهْجُوْهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاْءُ
انتهى .
قال الناصر : وهذا تفسير مهذب وافتنان مستعذب ، رددته على سمعي فزاد رونقاً بالترديد ، واستعاده الخاطر ، كأني بطيء الفهم حين يفيد ، ولا ينبغي أن ينكر بعد ذلك على الطريقة التي أكثر تعاطيها متأخرو الفقهاء في مجادلاتهم ومحاوراتهم ، وذلك قولهم : أحد الأمرين لازم على الإبهام ، فهذا المسلك من هذا الوادي غير بعيد ، فتأمله ، والله الموفق . انتهى .
قال الشهاب : وهذا فن من فنون البلاغة يسمى الكلامَ المنصف . وقيل إن الآية على اللف والنشر المرتب . ونظر فيه بأنه لو قصد اللف بأن يكون على هدى راجعاً لقوله : { وَإِنَّا } و : { أوْ في ضَلالٍ } راجعاً لـ : { إِيَّاكُمْ } كان العطف بالواو لا بأو ، وكونها بمعنى الواو كما في قوله :
~سِيَّاْنَ كَسْرُ رَغِيْفِهِ أَوْ كَسْرُ عَظْمٍ مِنْ عِظَاْمِهْ
بعيد جداً . إلا أنه قيل : لو جعل فيه إيماء لذلك لم يبعد . وإيثار على ، في الهدى ، وفي في مقابله ، للدلالة على استعلاء صاحب الهدى وتمكنه واطلاعه على ما يريد ، كالواقف على مكان عال ، أو الراكب على جواد ، وانغماس الضال في ضلاله حتى كأنه في مهواة مظلمة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ 25 ] .
{ قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } أي : قل لهؤلاء المشركين : لا تُسألون عما أجرمنا من جرم ، وركبنا من إثم ، ولا نُسأل نحن عما تعملون من عمل . قال ابن كثير : معناه التبري منهم . أي : لستم منا ولا نحن منكم ، بل ندعوكم إلى الله تعالى وإلى توحيده ، ولإفراد العبادة له ، فإن أجبتم فأنتم منا ونحن منكم ، وإن كذبتم فنحن براء منكم وأنتم براء منا . كما قال تعالى : { وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } [ يونس : 41 ] . وقوله : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } [ الكافرون : 1 - 3 ] . انتهى .
وما ذكره معنى دقيق ، قلَّ من يتفطن له ، أسميه التفسير بالأشباه والنظائر ، وهو حمل آية موجزة أو مجملة على آية تشبهها مطولة أو مبينة ، ولا يدرك هذا إلا الراسخ في فن التأويل ، الولع بتدبر التنزيل ، ومن لطائف الآية ما ذكره الزمخشري والمنتصف [ كذا ] ، من أن هذا القول أدخلُ في الإنصاف من الأول ، حيث أسند الإجرام إلى النفس ، وأراد به الزلات والصغائر التي لا يخلو عنها مؤمن ، وأسند العمل إلى المخاطبين ، وأراد به الكفر والمعاصي والكبائر . فعبر عن الهفوات بما يعبر به عن العظائم ، وعن العظائم بما يعبر به عن الهفوات ، التزاماً للإنصاف ، وزيادة على ذلك ، أنه ذكر الإجرام المنسوب إلى النفس بصيغة الماضي ، الذي يعطي تحقيق المعنى ، وعن العمل المنسوب إلى الخصم بما لا يعطي ذلك . والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } [ 26 ] .
{ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا } أي : يوم القيامة في صعيد واحد { ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ } أي : يقضي بالعدل ؛ لأن أحد فريقينا على هدى والآخر على ضلال ، فيتبين يومئذ المهتدي منا من الضال ، ويجزى كلّا بعمله ، كما قال تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } [ الروم : 14 - 16 ] . ولهذا قال سبحانه : { وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } أي : الحاكم العادل العليم بالقضاء بين خلقه ؛ لأنه لا تخفى عليه خافية ، ولا يحتاج إلى شهود تعرّفه المحق من المبطل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاء كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 27 ] .
{ قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاء } أي : جعلتموهما لله أنداداً ، وصيرتموهما له عدلاً ، قال أبو السعود : أريد بأمرهم بإراءة الأصنام ، مع كونها بمرأى منه صلّى الله عليه وسلم . إظهار خطئهم العظيم وإطلاعهم على بطلان رأيهم ؛ أي : أرونيها لأنظر بأي صفة ألحقتموها بالله الذي ليس كمثله شيء في استحقاق العباد ، وفيه مزيد تبكيت لهم بعد إلزام الحجة عليهم .
وقد جوّز المعربُ في رأى هنا أن تكون علمية متعدية بهمزة النقل ، إلى ثلاثة مفاعيل : ياء المتكلم والموصول وشركاءه . وعائد الموصول محذوف ؛ أي : ألحقتموهم . وأن تكون بصرية تعدت بالنقل لاثنين : ياء المتكلم والموصول ، وشركاء حال . ولا ضعف في هذا كما قاله ابن عطية . بل فيه توبيخ لهم ، إذ لم يرد حقيقته ؛ لأنه كان يراهم ويعلمهم ، فهو مجاز وتمثيل . والمعنى : ما زعمتموه شريكاً إذا برز للعيون ، وهو خشب وحجر ، تمت فضيحتكم . وقوله تعالى : { كَلاَّ } ردع لهم عن المشاركة ، بعد إبطال المقايسة : { بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي : الموصوف بالغلبة القاهرة والحكمة الباهرة . فأين شركاؤهم التي هي أخس الأشياء وأذلها ، من هذه الرتبة العالية . والضمير إما لله عز وعلا ، أو لشأن . قاله أبو السعود .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [ 28 ] .
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } أي : وما أرسلناك إلا إرسالةً عامة لجميع الخلائق من المكلفين ، تبشر من أطاعك بالجنة ، وتنذر من عصاك بالنار ، كقوله تبارك وتعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [ الأعراف : 158 ] { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] .
{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } أي : فيحملهم جهلهم على ما هم فيه من الغي والضلال كقوله عز وجل : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] ، { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [ الأنعام : 116 ] . قال ابن عباس - فيما رواه ابن أبي حاتم - إن الله تعالى فضّل محمداً صلّى الله عليه وسلم على أهل السماء ، وعلى الأنبياء . قالوا : يا ابن عباس ! فبمَ فضّله الله على الأنبياء ؟ قال رضي الله عنه : إن الله تعالى قال : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } [ إبراهيم : 4 ] ، وقال للنبي صلّى الله عليه وسلم : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ } . فأرسله الله تعالى إلى الجن والإنس . قال ابن كثير : وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما قد ثبت في " الصحيحين " رفعه عن جابر رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسير شهر ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه ، وبعثت إلى الناس عامة > ، وفي " الصحيح " أيضاً أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال : < بعثت إلى الأحمر والأسود > ، قال مجاهد : يعني الجن والإنس . وقال غيره : يعني العرب والعجم . والتحقيق في معنى عموم إرساله وشمول بعثته ، هو مجيئه بشرع ينطبق على مصالح الناس وحاجاتهم أينما كانوا ، وأي زمان وجدوا ، مما لم يتفق في شرع قبله قط ، ولهذا ختمت النبوات بنبوته صلّى الله عليه وسلم ، كما تقرر في موضعه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ } [ 29 - 30 ] .
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ } يعنون بالوعد المنذر به استهزاء ، كقوله تعالى : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ } [ الشورى : 18 ] وقوله : { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [ هود : 104 ، 105 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } [ 31 ] .
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } وهو ما نزل قبلَ القرآن من كتبه تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ } أي : يتجاذبون أطراف المحادثة ، ويتراجعونها بينهم ، ثم أبدل من : { يَرْجِعُ } قوله : { يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا } وهم الأتباع : { لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا } وهم قادتهم وسادتهم : { لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ } [ 32 ] .
{ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ } أي : نحن ما فعلنا بكم أكثر من أنا دعوناكم فاتبعتمونا من غير دليل ولا برهان ، وخالفتم الأدلة ، والبراهين ، والحجج التي جاءت بها الرسل لشهوتكم واختياركم لذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ 33 ] .
{ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أي : مكركم فيهما وإغراؤكم وتمنيتكم لنا : { إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً } أي : نظراء وآلهة معه { وَأَسَرُّوا } أي : الجميع من السادة والأتباع : { النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا } وهي السلاسل التي تجمع أيديهم مع أعناقهم : { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : بأعمالهم كلٌّ بحسبه ، للقادة عذاب بحسبهم ، وللأتباع بحسبهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [ 34 - 35 ] .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } أي : زعماً أنه أكرمهم عند الله بذلك في الدنيا ، فلا يعذبهم في الآخرة علة تقدير وقوعها ، وتوهماً بأنهم لو لم يكْرُموا على الله لما رزقهم ، ولولا أن المؤمنين هانوا عليه لما حرَمهم . وقد أبطل الله تعالى حسبانهم ذلك بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [ 36 ] .
{ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ } أي : يضيق عليه حسب ما اقتضته حكمته ومشيئته في عباده ، ومن يحب ومن لا يحب ، وهو أعلم بمقتضياته وشؤونه ، فلا يقاس على ذلك أمر الثواب والعذاب ، اللذين مناطهما الطاعة وعدمها ، ولذا قال : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون َ } ذلك . فيزعمون أن مدار البسط الكرامة ، والتضييق الهوان . ويجهلون أن مناط الفوز والقرب منه تعالى ، إنما هو الكمالات النفسية ، وذلك بصدق الإيمان وحسن الاتباع . كما قال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } [ 37 ] .
{ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى } أي : بالمزية التي تقربكم قربة . فـ : { زُلْفَى } محلها النصب : { إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ } أي : الثواب المضاعف : { بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } أي : فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ومن نظائر الآية قوله تعالى : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 55 - 56 ] ، وقوله سبحانه : { فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 55 ] . وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال : < إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } [ 38 ] .
{ وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا } أي : بالصد عنها والطعن فيها : { مُعَاجِزِينَ } أي : قاصدين المعاجزة والمغالبة والقهر : { أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } أي : في عذاب جهنم محضرون يوم القيامة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [ 39 ] .
{ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } أي : يعوضه ، فإن ينابيع خزائنه لا تنضب ، وسحائب أرزاقه سحّاء الليل والنهار : { وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } أي : أعلاهم ؛ لأنه خالق الرزق وخالق الأسباب التي ينتفع بها المرزوق بالرزق ، روى أبو يعلى عن حذيفة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض ؛ يعض الموسر على ما في يده حذار الإنفاق > . ثم تلا هذه الآية : { وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } وقال مجاهد : لا يتأولنّ أحدكم هذه الآية : { مَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } إذا كان عند أحدكم ما يقيمه فليقصد فيه ، فإن الرزق مقسوم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } [ 40 - 41 ] .
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } قال الزمخشري : هذا الكلام خطاب للملائكة وتقريع للكفار ، واردٌ على المثل السائر : إياك أعني واسمعي يا جارة . ونحوه قوله تعالى : { أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } [ المائدة : 116 ] ، وقد علم سبحانه كون الملائكة وعيسى منزّهين برآء مما وجه عليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير . والغرض أن يقول ويقولوا ، ويسأل ويجيبوا ، فيكون تقريعهم أشد ، وتعييرهم أبلغ ، وخجلهم أعظم ، وهوانهم ألزم , ويكون اقتصاص ذلك لطفاً لمن سمعه ، وزجراً لمن اقتص عليه . انتهى .
وتخصيص الملائكة ، لأنهم أشرف الأنداد عند مشركي العرب ، ولأن عبادتهم مبدأ الشرك وأصله ، لزعمهم أن الأوثان على صور الهياكل العلوية المقربة ، فتكون شفعاء لهم . وقوله تعالى : { أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ } أي : أبإذنكم كان ذلك . كما قال تعالى : { أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ } [ الفرقان : 17 ] . وكما يقول تعالى لعيسى عليه السلام : { أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ } [ المائدة : 116 ] ، وهكذا تقول الملائكة : { سُبْحَانَكَ } أي : تعاليت وتقدست عن أن يكون معك إله : { أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم } أي : أنت الذي نواليه من دونهم ، إذ لا موالاة بيننا وبينهم ، فنبرء إليك منهم . بينوا بإثبات موالاة الله , ومعاداة الكفار ، براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم . وقولهم : { بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } أي : الشياطين ، لأنهم هم الذين زينوا لهم عبادة الأوثان وأضلوهم . والضمير الأول في قولهم : { أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } للإنس أو للمشركين ، والأكثر بمعنى الكل ، والثاني للجن .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلَا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } [ 42 ] .
{ فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلَا ضَرّاً } أي : لأن الأمر كله فيه لله ؛ لأن الدار دار جزاء وهو المجازي وحده . قال أبو السعود : وهذا من جملة ما يقال للملائكة عند جوابهم بالتنزّه والتبرؤ عما نسب إليهم الكفرة ، يخاطبون بذلك على رؤوس الأشهاد ، إظهاراً لعجزهم ، وقصورهم عند عَبَدتهم ، وتنصيصاً على ما يوجب خيبة رجائهم بالكلية : { وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا } وهم المشركون : { ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُون } ثم بين جملة أخرى من كفرانهم بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ 43 ] . : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا } يعنون رسول الله صلّى الله عليه وسلم : { إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا } أي : القرآن الكريم : { إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ } [ 44 ] .
{ وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ } أي : ما أنزل الله على العرب من كتاب قبل القرآن ، وما أرسل إليهم نبياً قبل محمد صلّى الله عليه وسلم ، وقد كانوا يودون ذلك ويقولون : لو جاءنا نذير أو أنزل علينا كتاب لكنا أهدى من غيرنا ، فلما مَنّ الله عليهم بذلك كذّبوه ، وجحدوه ، وعاندوه . ثم هددهم سبحانه بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [ 45 ] .
{ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي : من الأمم المتقدمة والقرون الخالية كما كذبوا : { وَمَا بَلَغُوا } أي : هؤلاء : { مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ } يعني أولئك ، من المال ، وبسطة الملك ، والعمران ، والمدينة : { فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي : عقابي ، ونكالي ، وانتقامي .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } [ 46 ] .
{ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ } أي : بخصلة واحدة إن فعلتموها أصبتم الحق ، وقد فسرها بقوله : { أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى } أي : قياما خالصاً لله بلا محاباة ، ولا مراءاة ، اثنين اثنين ، وواحداً واحداً : { ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } أي : في أمره صلّى الله عليه وسلم وما جاء به من الهدى ، والإصلاح ، وتهذيب الأخلق ، ورفع النفس عن عبادة ما هو أحط منها من الأوثان ، إلى عبادة فاطر الأرض والسماوات ، واتباع الأحسن ، ونبذ التقاليد ، وإنزال الرؤساء إلى مصاف المرؤوسين رغبة في الإخاء والمساواة ، إلى غير ذلك من محاسن الإسلام ، وخصائصه المعروفة في الكتب المؤلفة في ذلك . وقوله تعالى : { مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ } أي : جنون . مستأنف منبه لهم على أن ما عرفوه من رجاحة عقله كافٍ في ترجح صدقه ، فإنه لا يدعه أن يتصدى لادعاء أمر خطير ، وخطب عظيم من غير تحقيق وثوق ببرهان . فيفتضح على رؤوس الأشهاد ، ويلقي نفسه إلى الهلاك ، فكيف وقد انضم إليه معجزات كثيرة ؟ وجوز كون الجملة معلقاً عنها ؛ لقول ابن مالك : إن تفكر يعلّق حملاً على أفعال القلوب ، والتعبير عنه صلّى الله عليه وسلم بـ : صاحبهم ؛ للإيماء أن حاله معروف مشهور بينهم ، لأنه نشأ بين أظهرهم معروفاً بقوة العقل ، ورزانة الحلم وسداد القول والفعل { إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } وهو عذاب الآخرة والمآل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } [ 47 - 49 ] .
{ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ } أي : أي : شيء سألتكم من أجر على الرسالة فهو لكم . والمراد نفي السؤال رأساً ، وإمحاض النصح كناية ، لأن ما يسأله السائل ، يكون له ، فجعله للمسؤول عنه ؛ كناية عن أنه لا يسأل أصلاً . و " ما " على هذا شرطية . وجوز كونها موصولة مراد بها ما سألهم : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً } [ الفرقان : 57 ] . وقوله : { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } [ الشورى : 23 ] . واتخاذ السبيل إليه تعالى منفعتهم الكبرى ، وقرباه عليه السلام قرباهم . وجوز أيضاً كونها نافية . وقوله : { فَهُوَ لَكُمْ } جواب شرط مقدر ؛ أي : فإذا لم أسألكم فهو لكم : { إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ } أي : يرمي به الباطل فيدمغه ويزهقه ، أو يرمي به في أقطار الآفاق ، فيكون وعداً بإظهار الإسلام وإعلاء كلمة الحق : { عَلَّامُ الْغُيُوبِ قُلْ جَاء الْحَقُّ } أي : ظهر ، وهو الإسلام ومحاسنه : { وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } كناية عن زهوق الباطل ومحو أثره ، مأخوذ من هلاك الحيّ ، فإنه ما دام موجوداً ، إما أن يبدئ فعلاً أو يعيده ، فإذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة . ثم شاع في كل ما ذهب ، وإن لم يبق له أثر ، وإن يكن ذا روح . وجوز كون ما استفهامية منتصبة بما بعده ؛ أي : أي : شيء يقدر عليه .
تنبيه :
في " الإكليل " : في الآية استحباب هذا القول عند إزالة المنكر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } [ 50 ] .
{ قُلْ إِن ضَلَلْتُ } أي : عن الطريق الحق : { فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي } أي : لأن وبال ذلك عائد عليها ، أو على ذاتي ، لا على غيري : { وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي } أي : من الرشاد والحق المبين : { إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } فإن قيل : مقتضى المقابلة مع الجملة قبلها ، أن يقال : وإن اهتديت فإنما أهتدي لها . فلم عدل عنها إلى ما ذكر ؟ قيل : إن المقابلة تكون باللفظ وتكون بالمعنى . وما هنا من الثاني ، بيانه أن النفس كل ما عليها فهو بها ، أي : كل ما هو وبال عليها ، وضار لها ، فهو بسببها ، ومنها ؛ لأنها الأمارة بالسوء ، وكل ما هو لها مما ينفعها ، فبهداية ربها وتوفيقه إياها .
وهذا حكم عام لكل مكلف ، وإنما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن بسند ذلك إلى نفسه ؛ لأن الرسول إذا دخل في عمومه ، مع علوّ محله وسداد طريقته ، كان غيره أولى به . أشار لهذا ، الفاضل ابن الأثير في " المثل السائر " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } [ 51 ] .
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا } أي : هؤلاء المكذبون عند الموت أو البعث أو ظهور الحق وسلطانه ، ودخولهم تحت أسره : { فَلَا فَوْتَ } أي : لهم ، بهرب أو التجاء ؛ إذ لا وزر لهم ولا ملجأ : { وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } أي : من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا ، أو من الموقف إلى النار إذا بعثوا ، أو ظفر بهم بسهولة بعد تعذره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ } [ 52 ] .
{ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ } أي : بمحمد صلّى الله عليه وسلم ، أو القرآن : { وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ } أي : ومن أين لهم تناول الإيمان وقد بعدوا عن محل قبوله منهم ، لأنهم صاروا إلى الدار الآخرة ، وهي دار الجزاء ، لا دار الابتلاء ، أو : لأنهم آمنوا بلسانهم ولم يدخل الإيمان قلوبهم ، أي : على تفسير : { إِذْ فَزِعُواْ } بظهور الحق عليهم في حياتهم ، منه . قال الزمخشري : التناوش والتناول ، أخوان ، إلا أن التناوش ، تناول سهلٍ لشيءٍ قريب, يقال : ناشه ينوشه ، وتناوشه القوم . ويقال تناوشوا في الحرب . ناش بعضهم بعضاً . وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون ، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت ، كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا ، مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة ، كما يتناوله الآخر من قبس ذراع ، تناولاً سهلاً لا تعب فيه . انتهى . أي : ففيه استعارة تمثيلية ؛ شبه إيمانهم حيث لا يقبل ، بمن [ في المطبوع : يمن ] كان عنده شيء يمكن أخذه ، فلما بعد عنه فرسخاً ، مد يده لتناوله . وقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [ 53 ] .
{ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ } حال ، أو معطوف ، أو مستأنف . والأول أقرب { وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } أي : يرجمون بالظن فيتكلمون بما لم ينشأ عن تحقيق من أقوالهم الباطلة ؛ كقولهم : ساحر ، وشاعر ، ومجنون ، وما نحن بمبعوثين ، ونحو ذلك . فكله مقذوف من جهة بعيدة ، لا قرب لمصداقها بوجه ما .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ } [ 54 ] .
{ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } أي : من نفع الإيمان يومئذ ، والنجاة به من النار ، أو من أن يدال لهم الأمر ؛ لأنه جاء نصر الله والفتح : { كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ } أي : بأشباههم من كفرة الأمم : { إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ } من أرابه ، أوقعه في ريبة وتهمة . فالهمزة للتعدية . أو من : أراب الرجل ، أي : صار ذا ريبة ، وهو مجاز ، إما بتشبيه الشك بإنسان ، على أنه استعارة مكنية وتخييلية ، أو على أنه إسناد مجازي ، أسند فيه ما لصاحب الشك ، للشك ، للمبالغة . أفاده الشهاب .
تنبيه :
في " الإكليل " قال ابن الفرس : احتج بهذه الآية بعض المفسرين ، على أن الشاك كافر . وردّ بها على من زعم أنه ليس بكافر ، وأن الله لا يعذب على الشك . انتهى .
وعن قتادة : إياكم والشك والريبة ؛ فإن من مات على شك بعث عليه ، ومن مات على يقين بعث عليه .
أحيانا الله وبعثنا على اليقين ؛ إنه أرحم الراحمين ، وولي المؤمنين .(/)
سورة فاطر
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 1 - 2 ] .
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : مبتدئها ومبدعها من غير سبق مثل ومادة : { جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } أي : ذوي أجنحة متعددة متفاوتة في العدد ، حسب تفاوت ما لهم من المراتب ، ينزلون بها ، ويعرجون ، أو يسرعون بها . وفي الصحيح : < أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام ليلة أسري به ، وله ستمائة جناح > . ولهذا قال سبحانه : { يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء } أي : يزيد في خلق الأجنحة وغيره ما يشاء ، مما تقتضيه حكمته : { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } أي : نعمة سماوية كانت أو أرضية : { فَلَا مُمْسِكَ لَهَا } أي : لا أحد يقدر على إمساكها : { وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد إمساكه : { وَهُوَ الْعَزِيزُ } الغالب على كل ما يشاء : { الْحَكِيمُ } أي : في أمره وصنعه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } [ 3 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي : لتستدلوا بها على وحدته في ألوهيته ؛ لأنه المنفرد بإرسالها وحده ، ولا يصح لمن انفرد بالإنعام أن يشرك معه غيره ؛ لأنه كفران له موجب لغضبه . وهذا ما أشار له بقوله تعالى : { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ } أي : المطر والنبات : { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } أي : تصرفون عن التوحيد الواجب - لأنه مقتضى شكر النعم - إلى الشرك والكفر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ } [ 4 ] .
{ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ } فيجازي المكذب وشيعته بالخزي وظهور الحق عليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ } [ 5 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } أي : ما وعد به من جزائه بالثواب إن صدقتم في الاتباع ، وبالعقاب ، إن عصيتم : { فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } أي : بأن يذهلكم التمتع بها والتلذذ بمنافعها ، عن العمل للآخرة وطلب ما عند الله : { وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ } أي : الشيطان ، وقرئ بالضم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ 6 ] .
{ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } أي : باتباع الهوى والركون إلى الدنيا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } [ 7 - 8 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ } [ 9 ] .
{ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ } أي : مثل إحياء الموات ، إحياء الأموات ، وكثيراً ما يستدل تعالى على المعاد بإحيائه الأرض بعد موتها ، ليعتبر المرتاب في هذا ، فإنه من أظهر الآيات وأوضحها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ } [ 10 ] .
{ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ } أي : الشرف والرفعة : { فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً } أي : فليطلبها من عنده ، باتباع شريعته ، وموالاة أنبيائه ورسله ، والتأسي بهم في الصلاح والإصلاح ، والصبر والثبات ، واطّراح كل ملامة رغبة في الحق وعملاً بالصدق . وهذا كآية : { الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً } [ النساء : 139 ] . وكآية : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] ، { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } وهو الداعي إلى الحق والإصلاح ، والمنبه على سبل الضلال والفساد : { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } أي : يرفع الكلمُ العملَ الصالح ، على أن يكون المستكن للكلم ، إشارة إلى أن العمل لا يقبل إلا بالكلم المؤثر في إبلاغ دعوة الخير . والضمير المستتر للعمل ، والبارز للكلم ؛ أي : يكون العمل الصالح موجباً لرفعها وقبولها لأنه يحققها ويصدقها ، كما قال تعالى عن شعيب عليه السلام : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ } [ هود : 88 ] ، { وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ } أي : الأعمال السيئة المفسدة لصلاح الأمة وقيام عمرانها : { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ } أي : يضمحل ؛ لأن الحق يعلو ولا يُعلى عليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ 11 ] .
{ وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً } أي : ذكراناً وإناثاً ، لطفاً منه ورحمة : { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ } أي : من أحد ، وإنما سمي معمراً لما يؤول إليه ؛ أي : وما يمدّ في عمر أحد : { وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ } وهو علمه تعالى الذي سبق ، ببلوغ أصله إليه : { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } أي : الحفظ والزيادة أو النقص سهل ؛ لشمول علمه وعموم قدرته .
لطيفة :
الضمير في : عمره ، للمعمر قبله . باعتبار الأصل المحوّل عنه ؛ لأن الأصل : وما يعمر من أحد كما ذكرنا ، أو هو على التسامح المعروف فيه ، ثقة في تأويله بأفهام السامعين ، كقولهم : له علي درهم ونصفه ؛ أي : نصف درهم آخر . أو للمنقوص من عمره لا للمعمر ، كما في الوجه السابق ، وهو وإن لم يصرح به في حكم المذكور ، كما قيل : وبضدها تتبين الأشياء . فيعود الضمير على ما علم من السياق . وقد أطال بعضهم الكلام في ذلك ، ومحصله ، كما ذكره الشهاب ، أنه اختلف في معنى : { مُّعَمَّرٍ } فقيل : المزاد عمره ؛ بدليل ما يقابله من قوله : { يُنقَصُ } الخ . وقيل : من يجعل له عمر . وهل هو واحد أو شخصان ؟ فعلى الثاني هو شخص واحد . قالوا مثلاً : يكتب عمره مائة ثم يكتب تحته مضى يوم ، مضى يومان ، وهكذا . فكتابة الأصل هي التعمير ، والكتابة بعد ذلك هو النقص . كما قيل :
~حَيَاْتُكَ أَنْفَاْسٌ تُعَدُّ فَكُلَّمَا مَضَىْ نَفَسٌ مِنْهَا انْتَقَصْتَ بِهِ جُزْءاً
والضمير في : عمره ، حينئذ راجع إلى المذكور ، والمعمر هو الذي جعل الله له عمراً طال أو قصر ، وعلى القول الأول هو شخصان . والمعمر الذي يزيد في عمره . والضمير حينئذ راجع إلى معمر آخر ؛ إذ لا يكون المزيد من عمره منقوصاً من عمره . وهذا قول الفرّاء ، وبعض النحويين ، وهو استخدام ، أو شبيه به . انتهى .
ثم أشار تعالى لآيات أخرى من آيات قدرته ووحدانيته ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ 12 ] .
{ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ } أي : شديد العذوبة : { سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي : قوي الملوحة : { وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } يعني السمك : { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } أي : زينة تتحلّون بها . كما قال تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] { وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ } أي : تمخر الماء وتشقه بجريها : { لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ } أي : بالتنقل فيها : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } [ 13 ] .
{ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى } يعني مدة دوره ، أو منتهاه ، أو يوم القيامة : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } أي : فأنّى يستأهلون العبادة . والقطمير : لفافة النواة ، وهو مثلٌ في القلة والحقارة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [ 14 ] .
{ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ } لأنهم جماد : { وَلَوْ سَمِعُوا } أي : على الفرض : { مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ } أي : لعدم قدرتهم على النفع : { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } أي : يقرون ببطلانه ، وأن لا أمرَ لهم فيه : { وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } أي : لا يخبرك بالأمر مخبر ، مثل خبير عظيم أخبرك به ، وهو الحق سبحانه ؛ فإنه الخبير بكنه الأمور دون سائر المخبرين . والمراد تحقيق ما أخبر به من حال آلهتهم ، ونفي ما يدعون لهم من الإلهية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [ 15 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ } أي : رحمته ، وعنايته ، ولطفه ، وإمداده في كل لمحة ونفس ، وسر وصل الآية بما قبلها من التهكم بالأنداد ، لتذكيرهم الالتجاء إليه تعالى ، والتضرع والابتهال إذا مسهم الضر ، وأخذت البأساء بمخانقهم ، فإنهم يشعرون من أنفسهم دافعاً إلى سؤاله لا مردّ له . وحاثّاً إلى اللجأ إليه لا صاد عنه ، كما بين في غير آية ، مما يدل على أنه تعالى هو الحقيق بالعبادة ، لغناه المطلق ، كما قال : { وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } أي : المحمود لنعمه التي لا تحصى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } [16 - 17] .
{ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } أي : بممتنع . قال الزمخشري : وهذا غضب عليهم ، لاتخاذهم له أنداداً ، وكفرهم بآيه ، ومعاصيهم ، كما قال : { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } [ محمد : 38 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } [ 18 ] .
{ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } أي : لا تحمل نفس آثمة : { وِزْرَ أُخْرَى } أي : إثم نفس أخرى ، بل إنما تحمل وزرها الذي اقترفته ، لا تؤخذ نفس بذنب نفس ؛ كما تأخذ جبابرة الدنيا الوليّ بالوليّ ، والجار بالجار ، ولا يرد آية : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13 ] ؛ لأنها في الضالين المضلين ، وأنهم يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم ، وذلك كله أوزارهم ، ما فيها شيء من وزر غيرهم .
{ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ } أي : نفس أثقلتها الأوزار : { إِلَى حِمْلِهَا } أي : إلى حمل بعض أوزارها ليخفف عنها : { لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ } أي : لم تجب ولم تُغث بحمل شيء : { وَلَوْ كَانَ } أي : المدعو المفهوم من الدعوة : { ذَا قُرْبَى } أي : ذا قرابة من الداعي ، من أب أو ولد أو أخ ، وهذا قطع لأطماع انتفاعهم بقرابتهم ، وغنائهم عنهم ، وأنه لا تملك نفس لنفس شيئاً ، وأن كل امرئ بما كسب رهين ، ثم بين من يتعظ ويتذكر ؛ فقال سبحانه : { إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى } أي : تطهر من أوضار الأوزار : { فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } [ 19 ] .
{ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } مثل الكافر والمؤمن .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ } [ 20 ] .
{ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ } مثل للحق والباطل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ } [ 21 ] .
{ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ } مثل للثواب والعقاب و : { الْحَرُورُ } الريح الحارة بالليل ، وقد تكون بالنهار .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ } [ 22 ] .
{ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ } تمثيل آخر للمؤمنين والكافرين أي : ما يستوي أحياء القلوب بالإيمان بالله ورسوله ، ومعرفة تنزيله ، وأموات القلوب ؛ لغلبة الكفر عليها حتى صارت لا تعقل عن الله أمره ونهيه ، ولا تعرف الهدى من الضلال : { إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء } أي : يوفقه لفهم آياته والاتعاظ بعظاته : { وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ } أي : كما لا يقدر أن يسمع من في القبور كتاب الله ، فيهديهم به إلى سبيل الرشاد ، فكذلك لا يقدر أن ينتفع بمواعظ الله وبيان حججه ، من كان ميت القلب عن معرفة الله وفهم كتابه وواضح حججه . وهذا ترشيح لتمثيل المُصرّين على الكفر بالأموات ، وإشباع في إقناطه عليه الصلاة والسلام ، من إيمانهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ } [ 23 ] .
{ إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ } أي : ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر ، فإن كان المنذَر ممن يسمع الإنذار نفع ، وإن كان من المُصرّين فلا عليك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ } [ 24 ] .
{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ } أي : وما من أمة من الأمم الدائنة بملة ، إلا مضى فيها نذير من قبلك ينذرهم على كفرهم بالله ، ويزيح عنهم العلل كما قال تعالى : { إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [ الرعد : 7 ] وكقوله سبحانه : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ } [ النحل : 36 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ } [ 25 ] .
{ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ } أي : وإن يكذبوك ولم يستجيبوا لك ، فلا تبال بهم وتأس بمن كُذّب من الرسل السالفة ، فقد جاءوهم بالآيات ، والخوارق المحسوسة على صحة نبوتهم ، وبالصحف المرشدة لهم إلى مسالك الفلاح والنجاح ، وبالكتاب المنير لمن تدبره وتأمله ، أنه الحق الناطق بالصواب والصدق ، وليس المراد أن كل رسول جاء بجميع ما ذكر ، حتى يلزم أن يكون لكل رسول كتاب ، بل المراد أن بعض الرسل جاء بهذا ، وبعضهم جاء بهذا ، وجوز أن يراد بالجميع واحد ، والعطف لتغاير الأوصاف .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [ 26 ] .
{ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي : إنكاري بالعقوبة ، وفيه مزيد تشديد وتهويل لها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } [ 27 ] . : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } قرأ الجمهور : { جُدَدٌ } بضم الجيم وفتح الدال ، جمع جُدة بالضم ، وهي الطريقة من جدَّه إذا قطعه ، أي : ومن الجبال ذوو جدَد ، أي : طرائق بيض وحمر ، وإنما قدر المضاف ؛ لأن الجبال ليست نفس الطرائق . وغرابيب : جمع غربيب وهو الأسود المتناهي في السواد ، يقال : أسود غربيب ، كما يقال : أحمر قان ، وأصفر فاقع ، تأكيداً . وإما قدم هنا ، ومن حق التوكيد أن يتبع المؤكد للمبالغة ، ورأى بعضهم أنه مقدم من تأخير ، ذهاباً إلى جواز تقديم الصفة على موصوفها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [ 28 ] .
{ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ } أي : اختلافاً كذلك ، أي : كاختلاف الثمرات والجبال . وقوله تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } تكملة لقوله تعالى : { إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ } [ فاطر : 18 ] ، بتعيين من يخشاه عز وجل من الناس ، بعد بيان اختلاف طبقاتهم ، وتباين مراتبهم ، أما في الأوصاف المعنوية فبطريق التمثيل , وأما في الأوصاف الصورية فبطريق التصريح ، توفية لكل واحدة منهما حقها اللائق بها من البيان ؛ أي : إنما يخشاه تعالى بالغيب ، العالمون به عز وجل ، وبما يليق به من صفاته الجليلية , وأفعاله الجميلة ؛ لما أن مدار الخشية معرفة المخشي والعلم بشؤونه ، فمن كان أعلم به تعالى ، كان أخشى منه عز وجل . كما قال عليه الصلاة والسلام : < أنا أخشاكم لله وأتقاكم له > . ولذلك عقب بذكر أفعاله الدالة على كمال قدرته ، وحيث كان الكفرة بمعزل من هذه المعرفة ، امتنع إنذارهم بالكلية . أفاده أبو السعود .
وقال القاشاني : أي : ما يخشى الله إلا العلماء العرفاء به ؛ لأن الخشية ليست هي خوف العقاب ، بل هيئة في القلب خشوعية انكسارية عند تصوّر وصف العظمة ، واستحضاره لها ، فمن لم يتصوّر عظمته لم يمكنه خشيته ، ومن تجلى الله له بعظمته ، خشيه حق خشيته ، وبين الحضور التصوّري الحاصل للعالم غير العارف, وبين التجلي الثابت للعالم العارف - بون بعيد - ومراتب الخشية لا تحصى بحسب مراتب العلم والعرفان . انتهى .
ويذكر بعض المفسرين هنا القراءة الشاذة . رفع الاسم الجليل ونصب العلماء ، ويتأولون الخشية بالتعظيم استعارة ، وربما استشهدوا بقوله :
~أَهَاْبُكَ إِجْلَاْلاً وَمَا بِكَ قُدْرَةٌ عَلَيَّ وَلَكِنْ مِلْءُ عَيْنٍ حَبِيْبُهَا
وقد طعن في " النشر " في هذه القراءة ، والحق له ؛ لمنافاتها للسياق والسباق ، وما أغنى المنقحين عن تسويد الصحف بمثل هذه الشواذ ! وبالله التوفيق .
{ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } أي : غالب على كل شيء بعظمته [ في المطبوع : بعطمته ] ، غفور لمن تاب وأناب وعمل صالحاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } [ 29 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ } أي : يداومون على تلاوته وتدبره ، للأخذ بما فيه : { وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } أي : أجراً وفضلاً لا يفنى ، والتجارة استعارة لتحصيل الثواب بالطاعة ، والبوار بمعنى الكساد والهلاك ترشيح للاستعارة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } [ 30 ] .
{ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } أي : لأعمالهم ، والشكر مجاز عن الإثابة والجزاء بالإحسان .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } [31 - 32] . : { وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } أي : ثم ، يعد أخذ الذين كفروا ، أورثنا الكتاب الذي هو أعظم فضل ، وعناية ، ورحمة ، المصطفين من الموحدين . ثم بين انقسامهم في العمل به إلى ثلاثة ، بقوله تعالى : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } أي : بالإثم والعصيان : { وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ } أي : في العمل ، ليس من المجرمين ، ولا من السابقين : { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } [ 33 - 34 ] .
{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ }(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } [ 35 ] .
{ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ } أي : الإقامة : { مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ } أي : تعب : { وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } أي : كلال .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ } [ 36 - 37 ] .
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ } أي : أو ما عشتم في الدنيا أعماراً ينتفع فيها من يتذكر ويتبصر ؟ قال قتادة : اعلموا أن طول العمر حجة . فتعوذ بالله أن تغتر بطول العمر ، وقد نزلت هذه الآية ، وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً } [ 38 - 39 ] .
{ إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ } أي : مستخلفين فيها ، أباح لكم منافعها لتشكروه بالتوحيد والطاعة : { فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً } أي : بغضاً شديداً
{ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً } [ 40 ] .
{ قُلْ } أي : تبكيتاً لهم : { أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ } أي : شركة في خلقها : { أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ } أي : حجة وبرهان ، بأنه أذن لهم في الإشراك : { بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً } أي : في قولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً * وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورا ً *اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } [ 41 - 43 ] .
{ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا } أي : ما أمسكهما : { مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ } يعني إنزال العذاب على الذين كذبوا برسلهم من الأمم قبلهم : { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } وفي معنى الآية قوله تعالى : { أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا } [ الأنعام : 156 - 157 ] . وقوله تعالى : { وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [ الصافات : 167 - 170 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً * وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } [ 44 - 45 ] .
{ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا } أي : بما اقترفوا من معاصيهم : { مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ } أي : من نسمة تدب ، لشؤم معاصيهم ، والضمير للأرض لسبق ذكرها : { وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي : يؤخر عقابهم ومؤاخذتهم بما كسبوا إلى أجل معلوم عنده : { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } أي : فإذا جاء أجل عقابهم فإن الله كان بعباده بصيراً بمن يستحق أن يعاقب ، وبمن يستوجب الكرامة .(/)
سورة يس
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يس } [ 1 ].
{ يس } تقدم الكلام في مثل هذه الفواتح مراراً . وحاصله - كما قاله أبو السعود - أنها إما مسرودة على نمط التعديد ، فلا حظّ لها من الإعراب ، أو اسم للسورة كما نص عليه الخليل وسيبويه ، وعليه الأكثر ، فمحله الرفع على أنه خبر محذوف ، أو النصب ، مفعولاً لمحذوف ، وعليهما مدار قراءة : { يس } بالرفع والنصب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } [ 2 ] .
{ وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } أي : ذي الحكمة أو الناطق بالحكمة ، ولما كانت منزلة الحكمة من المعارف ، منزلة الرأس ، وكانت أخص ، أو صاف التنزيل ، أوثِرت في القَسم به دون بقية صفاته ، لذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ 3 - 4 ] .
{ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وهو الوصل إلى المطلوب بدون لغوب . والتنكير للتفخيم والتعظيم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } [ 5 ] .
{ تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } بالنصب على إضمار فعله ، وبالرفع خبر لمحذوف ، أو خبر لـ : { يس } إن كان اسماً للسورة ، أو مؤولاً بها . والجملة القسمية معترضة ، والقسم لتأكيد المقسَم عليه والمقسَم به ، اهتماماً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } [ 6 ] .
{ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ } أي : برسول ولا كتاب : { فَهُمْ غَافِلُونَ } أي : عن أمر حق الخالق والمخلوق ، بالكفر ، والفساد ، ونكران البعث ، والمعاد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } [ 7 ] .
{ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ } أي : استأهلوا لأن ينزل بهم العذاب ، وينتقم منهم أشد الانتقام : { فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } أي : لا يريدون أن يؤمنوا ويهتدوا ، كفراً ، وكبراً ، وعناداً ، وبغياً في الأرض بغير الحق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ } [ 8 ] .
{ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ } أي : اللحى ؛ أي : واصلة إليها وملزوزة إليها : { فَهُم مُّقْمَحُونَ } أي : ناصبو رؤوسهم ، غاضّو أبصارهم . يقال : أقمح الرجل ، في رأسه وغض بصره . وأقمح الغلّ الأسير ، إذا ترك رأسه مرفوعاً لضيقه ، فهو مقمح ، إذا لم يتركه عمود الغل الذي ينخس ذقنه ، أن يطأطئ رأسه . قال ابن الأثير : هي في قوله تعالى : { فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ } كناية عن الأيدي لا عن الأعناق ؛ لأن الغلّ يجعل اليد تلي الذقن والعنق ، وهو مقارب للذقن . وقال الأزهري : أراد عز وجل أن أيديهم لما غلّت عند أعناقهم ، رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صُعُداً ، كالإبل الرافعة رؤوسها ، وهذا معنى قول ابن كثير : اكتفى بذكر الغل في العنق ، عن ذكر اليدين ، وإن كانتا مرادتين ، لما دل السياق عليه ؛ فإن الغل إنما يعرف فيما جمع اليدين مع العنق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ 9 ] .
{ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } قال الزمخشري : مثل تصميمهم على الكفر ، وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم ، بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين ، في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ، ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، ولا يطأطئون رؤوسهم له ، وكالحاصلين بين سدّين ، لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم ، في أن لا تأمل لهم ولا تبصر ، وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله . انتهى . أي : فالمجموع استعارة تمثيلية .
وفي " الانتصاف " للناصر : إذا فرقت هذا التشبيه ، كان تصميمهم على الكفر مشبهها بالأغلال ، وكان استكبارهم عن قبول الحق ، وعن الخضوع ، والتواضع لاستماعه ، مشبهاً بالإقماح ؛ لأن المقمح لا يطأطئ رأسه . وقوله : { فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ } تتمة للزوم الإقماح لهم ، وكان عدم الفكر في القرون الخالية مشبهاً بسدٍّ من خلفهم ، وعدم النظر في العواقب المستقبلة مشبهاً بسدٍّ من قدامهم . انتهى . فيكون فيه تشبيه متعدد . قال الشهاب : والتمثيل أحسن منه . انتهى .
ثم قال الناصر : يحتمل أن تكون الفاء في : { فَهُمْ مُقْمَحُوْنَ } للتعقيب ، كالفاء الأولى ، أو للتسبب ، ولا شك أن ضغط اليد مع العنق في الغل يوجب الإقماح ؛ فإن اليد ، والعياذ بالله ، تبقى ممسكة بالغل تحت الذقن ، دافعة بها ومانعة من وطأتها . ويكون التشبيه أتم على هذا التفسير ، فإن اليد متى كانت مرسلة مخلاة ، كان للمغلول بعض الفرج بإطلاقها , ولعله يتحيّل بها على فكاك الغل ، ولا كذلك إذا كانت مغلولة . فيضاف إلى ما ذكرناه من التشبيهات المفرقة ، أن يكون انسداد باب الحيل عليهم في الهداية والانخلاع من ربقة الكفر المقدر عليهم ، مشبهاً بغلّ الأيدي ؛ فإن اليد آلة الحيلة إلى الخلاص . انتهى .
وإنما اختير هذا ؛ لأن ما قبله وما بعده في ذكر أحوالهم في الدنيا ، وجعله أبو حيان لبيان أحوالهم في الآخرة ، على أنه حقيقة لا تمثيل فيه ، فورد عليه أن يكون أجنبياً في البين ، وتوجيهه بأنه كالبيان لقوله : { حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ } [ يس : 7 ] ، والأول أدق ، وبالقبول أحق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ 10 ] .
{ وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ } أي : خوفتهم بالقرآن : { أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي : لا يريدون أن يؤمنوا ، ولما صدقت الآية على مثل أبي جهل وأصحابه من كفرة قريش ، الذين هلكوا في بدر ، وكانوا طواغيت الكفر ، أشار بعضهم إلى أن الآية نزلت في ذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } [ 11 ] .
{ إِنَّمَا تُنذِرُ } أي : الإنذار المترتب عليه النفع : { مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ } أي : القرآن بالتأمل فيه والعمل به : { وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ } أي : عمل الصالحات لوجهه ، وإن كان لا يراه
{ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ } أي : لذنوبه في الدنيا : { وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } أي : ثواب حسن في الجنة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } [ 12 ] .
{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى } أي : للبعث : { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا } أي : نحفظ عليهم ما أسلفوا من الخير والشر : { وَآثَارَهُمْ } أي : ما تركوه من سنة صالحة ، فعُمل بها بعد موتهم ، أو سنة سيئة فعُمل بها بعدهم : { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } أي : في اللوح المحفوظ ، أو العلم الأزلي .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ } [ 13 ] .
{ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاَ } أي : مثّل لأهل مكة مثلاً : { أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ } أي : أذكر لهم قصة عجيبة ، قصة أصاب القرية : { إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ } أي : الدعاة إلى الحق ، ورفض عبادة الأوثان .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ } [ 14 ] .
{ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } أي : فقوّيناهما برسالة ثالث : { فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } [ 15 - 17 ] .
{ قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } أي : التبليغ عن الله ظاهراً بيّناً لا سترة فيه ، وقد خرجنا من عهدته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 18 ] .
{ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } أي : تشاءمنا بكم ، فكان إذا حدث في البلد ما يسيء من حريق أو بلاء ، نسبوه إليهم . وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منه نفوسهم ، وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شيء مالوا إليه واشتهوه ، وآثروه وقبلته طباعهم ، ويتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه ؛ فإن أصابهم نعمة أو بلاء قالوا بركة هذا وبشؤم هذا ، كما حكى الله عن القبط : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ } [ الأعراف : 131 ] ، وعن مشركي مكة : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } [ النساء : 78 ] ، أفاده الزمخشري { لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا } أي : عن دعوتكم إلى التوحيد : { لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } [ 19 ] .
{ قَالُوا } أي : الرسل : { طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } أي : سبب شؤمكم معكم ، وهو الكفر والمعاصي : { أَئِن ذُكِّرْتُم } أي : وعظتم بما فيه سعادتكم . وجواب الشرط محذوف ، ثقة [ في المطبوع : ثقثة ] بدلالة ما قبله عليه ؛ أي : تطيرتم ، وتوعدتم بالرجم والتعذيب : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } أي : في الشؤم والعدوان .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ } [ 20 ] .
{ وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى } أي : يسرع في المشي ، حيث سمع بالرسل : { قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ } أي : بالإيمان بالله وحده .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ } [ 21 ] .
{ اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً } أي : جُعلاً ، ولا مالاً على الإيمان : { وَهُم مُّهْتَدُونَ } أي : في أنفسكم بالكمالات ، والأخلاق الكريمة ، والآداب الشريفة ؛ أي : فيجدر أن يُتأسّى بهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ 22 ] .
{ وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي } أي : خلقني ، وهذا تلطّف في الإرشاد بإيراده في معرض المناصحة لنفسه ، وإمحاض النصح ، حيث أراهم أنه اختار لهم ما يختار لنفسه . والمراد تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره ؛ كما ينبئ عنه قوله : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي : بعد الموت .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ } [ 23 ] .
{ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً } أي : فأضرع إليها وأعبدها ، وهي في المهانة والحقارة بحيث
{ إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ } أي : من ذلك الضر ، بالنصر والمظاهرة . وفيه تحميق لهم ؛ لأن ما يتخذ ويصنعه المخلوق ، كيف يعبد ؟(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } [ 24 ، 25 ] .
{ إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } أي : فاسمعوا إيماني واشهدوا به . قال السمين : الجمهور على كسر النون ، وهي نون الوقاية ، حذفت بعدها ياء الإضافة ، مجتزئ [ في المطبوع : مجتزى ] عنها بكسرة النون ، وهي اللغة العالية . وقرأ بعضهم بفتحها وهي غلظ . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ } [ 26 ، 27 ] .
{ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ } أي : ثواباً على صدق إيمانك ، وفوزك بسببه بالشهادة : { قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ } أي : ليقبلوا على ما أقبلت عليه ، ويضحوا لأجله النفس والنفيس .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاء وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } [ 28 ] .
{ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد موته بالشهادة : { مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاء } أي : لإهلاكهم : { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } قال الرازي : إشارة إلى هلاكهم بعده سريعاً ، على أسهل وجه ، فإنه لم يحتج إلى إرسال جند يهلكهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } [ 29 ] .
{ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } أي : ما كانت العقوبة إلا صيحة واحدة من السماء هلكوا بها : { فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } ميتون كالنار الخامدة ، رمزاً إلى أن الحي كالنار الساطعة في الحركة والالتهاب ، والميت كالرماد ، كما قال لَبِيد :
~وَمَاْ المَرْءُ إِلَّاْ كَالشِّهَاْبِ وَضَوْئِهِ يَحُوْرُ رَمَاْداً بَعْدَ إِذْ هُوَ سَاْطِعُ
تنبيهات :
الأول - قال ابن كثير : روي عن كثير من السلف أن هذه القرية هي أنطاكية ، وإن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلاً من عند المسيح عيسى عليه السلام ، كما نص عليه قتادة وغيره ، وهو الذي لم يذكر عن أحد من متأخري المفسرين ، غيره . وفي ذلك نظر من وجوه :
أحدهما - أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله عز وجل ، لا من جهة المسيح عليه السلام ، كما قال تعالى : { إِذْ أرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ } ولو كان هؤلاء من الحواريين ، لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح عليه السلام . والله أعلم . ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم : إن أنتم إلا بشر مثلنا .
الثاني - أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم ، وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح ؛ ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربعة اللائي فيهن بطاركة ، وهن : القدس ؛ لأنها بلد المسيح ، وأنطاكية ؛ لأنها أول بلدة أمنت بالمسيح عن آخر أهلها ، والإسكندرية ؛ لأن فيها اصطلحوا على اتخاذ البطارقة والأساقفة والشمامسة والرهابين ، ثم رومية ؛ لأنها مدينة الملك قسطنطين الذي نصر دينهم وأطده ، ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البطرك من رومية إليها - كما ذكره غير واحد ممن ذكر تواريخهم - كسعد بن بطريق وغيره من أهل الكتاب والمسلمين - فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت ، فأهل هذه القرية ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله ، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم .
الثالث - أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة ، وقد ذكر أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وغير واحد من السلف ، أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة ، لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم . بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين ، ذكروه عند قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى } [ القصص : 43 ] ، فعلى هذا يتعين أن أهل هذه القرية المذكورة في القرآن ، قرية أخرى غير أنطاكية ، كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضاً ، أو تكون أنطاكية - إن كان لفظها محفوظاً في هذه القصة - مدينة أخرى غير المشهورة المعروفة ؛ فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية ، ولا قبل ذلك ، والله سبحانه وتعالى أعلم . انتهى كلام ابن كثير .
وأقول : إن من محاسن التنزيل الكريم وبلاغته الخارقة ، هو الإيجاز في الأنباء التي يقصها ، والإشارة منها إلى روحها وسرها ، حرصاً على الثمرة من أول الأمر ، واقتصاراً على موضع الفائدة ، وبعداً عن مشرب القصّاص والمؤرخين ؛ لأن القصد من قصصه الاعتبار والذكرى ، وما من حاجة إلى تسمية تلك المبهمات كائنة ما كانت ، ثم إن المفسرين رحمهم الله عنوا بالبحث ، والأخذ ، والتلقي ، فكان من سلف منهم يرون فيما يرون أن من العلم تفصيل مجملات التنزيل وإبانة مبهماته ، حتى جعل ذلك فنّاً برأسه ، وألف فيه مؤلفات ، ولا بأس في التوسع من العلم والازدياد منه بأي طريقة كانت ، لاسيما وقد رفع عنّا الحرج بالتحدث عن بني إسرائيل ، إلا أنه يؤاخذ من يجزم بتعيين مبهم ما ، إن كان جزمه من غير طريق القواطع ؛ فإن القاطع هو ما تواتر أو صح سنده إلى المعصوم ، صحة لا مغمز فيها ، وهذا مفقود في الأكثر ، ومنه بحثنا المذكور ؛ فإن تعيين أن البلدة أنطاكية وتسمية الرسل ، إنما روي موقوفاً ومنقطعاً ، وفي بعض إسناده متهمون ، ولذا قد يرد على من يقطع بذلك ما لا مخرج له منه ، فالمفسر أحسن أحواله أن يمشي مع التنزيل ، إجمالاً فيما أجمله ، وتفصيلاً فيما فصله ، ولا يأخذ من أيضاًح مبهماته إلا بما قام عليه قاطع أو كان لا ينبذه العلم الصحيح ، وإلا فليعرض عن تسويد وجوه الصحف بذلك ، بل عن تشويهها .
والذي حمل السلف على قص ما نحن فيه ، هو تلقيهم له عن مثل كعب ووهب ، وموافقة من في طبقتهما لهما فيه . هذا أولاً .
وثانياً شهرة بلدة أنطاكية في ذلك العهد ، لاسيما وقد أسس فيها معبداً أحد رسل عيسى عليه السلام .
ثالثاً ما جرى في أنطاكية لما قدم ملك الرومان , وتهدد كل من أبى عبادة الأوثان بالقتل ، وكان في مقدمة الآبين رجل مقدم في المؤمنين ، فأراده على الشرك فأبى وجهر بالتوحيد ، فأرسله من أنطاكية موثقاً وأمر بأن يطعم للوحوش ، فألقى في رومية إلى أسدين كبيرين فابتلعاه ، ولما قدم لهما استبشر وتهلل لنيل الشهادة في سبيل الله . وكذلك يؤثر عن رجل مؤمن كان يدافع عن المؤمنين في عهد الرومانيين لغيرته وصلاحه , فطلب منه الحاكم أن يرتد فأبى وجهر بوجوب عبادة الإله الواحد , ونبذ عبادة من لا يضر ولا ينفع . فهدده بأن يضربه من الرأس إلى القدم . فأجاب بأنه مستبشر بنعمة الله وكرامته الأبدية . ثم أمر به الحاكم فقتل مع رفقته , والشواهد في هذا الباب لا تحصى ، معروفة لمن أعار نظره جانباً مما كتب في تواريخ مبدأ ظهور الأديان ، وما كان يلاقيه من أعدائه ومقاوميه ، فللقصة الكريمة هذه مصدقات لا تحصى .
رابعاً شهرة المرسلين برسل عيسى عليه السلام ، وكانوا انبثوا في البلاد لمحو الوثنية , والكف عن الكبائر والشرور التي كانت عليها دولة الرومان وقتئذ . هذا وما ذكره ابن كثير من وقوف عذاب الاستئصال بعد نزول التوراة يحتاج إلى قاطع . وإلا ، فقد خربت كثير من البلاد الأثيمة بعدها ، وتدمرت بتسليط الله من شاء عليها ، والصيحة أعم من أن تكون صيحة سماوية ، أو صيحة أرضية ، وهي صيحة من سلط عليهم للانتقام منهم ، حتى أباد ملكهم وقهر صولتهم ومحا من الوجود سلطانهم ، وإن كان عذاب الصيحة ظاهره الأول . وبالجملة فنحن يكفينا من النبأ الاعتبار به وفهمه مجملاً ، وأما تعيينه بوقت ما ، وفئة ما ، فهو الذي ينشأ منه ما ينشأ ، وما بنا من حاجة إلى الزيادة عن الاعتبار ، وتخصيص ما لا قاطع عليه .
الثاني - ذكر الرازي في قوله تعالى : { إِذْ أرْسَلْنا } لطيفة ، إن صح أن الرسل المنوه بهم هم رسل عيسى عليه السلام ، وهي أن إرساله لهم كإرساله تعالى ؛ لأنه بإذنه وأمره ، وبذلك تتمة التسلية للنبي صلوات الله عليه ، لصيرورتهم في حكم الرسل .
ثم قال : وهذا يؤيد مسألة فقهية ؛ وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل ، وكيل الموكل لا وكيل الوكيل ، حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه ، وينعزل إذا عزله الموكل الأول . انتهى .
الثالث - في قوله تعالى : { وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى } تبصرة للمؤمنين وهداية لهم ليكونوا في النصح باذلين جهدهم كما فعل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون } [ 30 ] .
{ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون } أي : يا ندامة عليهم تكون يوم القيامة بسبب استهزائهم وسخريتهم في الدنيا بالناصحين ، حتى أفضى بهم الحال إلى قتلهم كما فعل أصحاب القرية ، أو المراد شدة خسرانهم حتى استحقوا أن يتحسر عليهم أهل الثقلين ، أو التحسر منه تعالى مجازاً ، وتقريره أن التحسر ما يلحق المتحسر من الندم حتى يبقى حسيراً ، وهو لا يليق به تعالى ، فيجعل استعارة ، بأن شبه حال العباد بحال من يتحسر عليه الله فرضاً ، فيقول ، يا حسرة على عبادي ، قيل : وهو نظير قوله تعالى : { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } [ الصافات : 12 ] . على القراءة بضم التاء ، فالنداء للحسرة تعجب منه . والمقصود تعظيم جنايتهم ، أي : عدّها أمراً عظيماً بتعجب منه . أفاده الشهاب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ 31 ] .
{ أَلَمْ يَرَوْا } أي : يخبروا : { كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ } أي : من الأمم الخالية : { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } أي : كيف لم يكن لهم إلى هذه الدنيا كرة ولا رجعة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [ 32 ] .
{ وَإِن كُلٌّ } أي : من هؤلاء المتفرقين : { لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } أي : إلا جميعهم محضرون للحساب والجزاء ، وإنما أخبر عن كلٍّ ، بجميع ومعناها واحد ؛ لأن كلاً ، تفيد الإحاطة حتى لا ينفلت عنهم أحد . وجميع ، تفيد الاجتماع ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، وبينهما فرق , ومن ثم وقع أجمع في التوكيد تابعاً لـ : كل ؛ لأنه أخص منه ، وأزيد معنى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ } [ 33 - 35 ] .
{ وَآيَةٌ لَّهُمُ } أي : عبرة لأهل مكة عظيمة : { الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا } أي : بالنبات لتدل على إحياء الموتى : { وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } أي : وليأكلوا مما عملته أيديهم ، وهو ما يتخذ منه كالعصير والدبس ونحوهما ، على ما استظهره القاضي . وقال الزمخشري : أي : عملته بالغرس ، والسقي ، والآبار ، قيل وهذا التفسير خلاف الظاهر ؛ أي : لاحتياجه إلى تجوز ، إلا أن فيه تذكيراً بلذة ثمرة العمل ، وسرور النفس بعده ، وفي الحديث < أفضل الكسب بيع مبرور ، وعمل الرجل بيده > رواه الإمام أحمد عن أبي بردة . وجوّز أن تكون : ما ، نافية ، والمعنى : أن الثمر بخلق الله لا بفعلهم : { أَفَلَا يَشْكُرُونَ } أي : خالق هذه النعم الجسام بعبادته وحده ، وهو إنكار لعدم قيامهم بواجب الشكر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ } [ 36 ] .
{ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ } أي : الأصناف كلها : { كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ } أي : مما ذكر وغيره : { وَمِنْ أَنفُسِهِمْ } يعني الذكر والأنثى : { وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ } أي : من الأصناف والأنواع الموجودة في البر والبحر . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } [ 37 ] .
{ وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } بيان لقدرته تعالى في الزمان ، إثر ما بيّنها في المكان ، أي : نزيله ونكشفه عن مكانه . استعير لإزالته الضوء ، السلخ الذي هو كشط الجلد وإزالته عن الحيوان المسلوخ . وفيه إشارة إلى أن النهار طارئ على الليل ، كما أن المسلوخ منه قبل المسلوخ ، الذي هو كالغطاء الطارئ على المغطى . قال الشهاب : لأن الليل سابق عرفاً وشرعاً ومعنى : { مُّظْلِمُونَ } داخلون في الظلام ، يقال أظلمنا ، كما يقال : أعتمنا وأدجينا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ 38 ] .
{ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا } أي : لحدٍّ لها مؤقت مقدر ينتهي إليه دورها اليومي أو السنوي ، شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره . فالمستقر اسم مكان تقطعه في حركتها الدائمة ثم تعود . ووجه الشبه الانتهاء إلى محل معين ، واللام تعليلية ، أو بمعنى إلى . وقيل مستقرها : منقطع جريها عند خراب [ في المطبوع : حراب ] العالم . ومستقر عليه اسم زمان : { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } أي : ذلك الجري المتضمن للحكم ، والمصالح ، والمنافع ، والمدهش نظام سيره وإحكامه بلا اختلال ، تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور ، المحيط علماً بكل معلوم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } [ 39 ] .
{ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ } أي : صيرنا له منازل ينزل كل ليلة في واحد منها : { حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } أي : حتى إذا كان في آخر منازله ، دق واستقوس وصار كالعذق المقوس اليابس ، إذا حال عليه الحول . فالعرجون هو الشمروخ ؛ وهو العنقود الذي عليه الرطب ، ويسمى العذق ، بكسر العين . والقديم : العتيق ، وإذا قدم دق وانحنى واصفرّ . فشبه به من ثلاثة أوجه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ 40 ] . : { لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ } أي : تجتمع معه في وقت واحد ، وتداخله في سلطانه فتطمس نوره : { وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } أي : يسبقه بأن يتقدم على وقته فيدخل قبل مضيه . أو المراد بالليل والنهار آيتاهما ؛ أي : ولا القمر سابق الشمس فيكون عكساً للأول ؛ أي : ولا القمر ينبغي له أن يدرك الشمس . والمعنى على هذا ، أن كل واحد منهما لا يدخل على الآخر في سلطانه ، فيطمس نوره ، بل هما متعاقبان بمقتضى تدبيره تعالى ، وعليه فسر إيثار : سابق على مدرك ، كما قبله ، هو أن السبق مناسب لسرعة سير القمر ؛ إذ السبق يشعر بالسرعة ، والإدراك بالبطء ؛ وكذلك الشمس بطيئة السير تقطع فلكها في سنة . والقمر يقطعه في شهر . فكانت الشمس لبطئها جديرة بأن توصف بالإدراك ، والقمر لسرعته جديراً بأن يوصف بالسبق .
لطيفة :
قال الناصر في " الانتصاف " : يؤخذ من هذه الآية أن النهار ، تابع لليل ، وهو المذهب المعروف للفقهاء ، وبيانه من الآية أنه جعل الشمس التي هي آية النهار غير مدركة للقمر الذي هو آية الليل .
وإنما نفي الإدراك لأنه هو الذي يمكن أن يقع ، وذلك يستدعي تقدم القمر وتبعية الشمس ، فإنه لا يقال : أدرك السابق اللاحق ، ولكن : أدرك اللاحق السابق ، وبحسب الإمكان توقيع النفي ، فالليل إذاً متبوع والنهار تابع . فإن قيل : هل يلزم على هذا أن يكون الليل سابق النهار ، وقد صرحت الآية بأنه ليس سابقاً ؟
فالجواب أن هذا مشترك الإلزام . وبيانه : أن الأقسام المحتملة ثلاثة : إما تبعية النهار لليل وهو مذهب الفقهاء ، أو عكسه وهو المنقول عن طائفة من النحاة ، أو اجتماعهما . فهذا القسم الثالث منفي بالاتفاق . فلم يبق إلا تبعية النهار لليل وعكسه . وهذا السؤال وارد عليهما جميعاً ؛ لأن من قال إن النهار سابق الليل لزمه أن يكون مقتضى البلاغة أن يقال : ولا الليل يدرك النهار ؛ فإن المتأخر إذا نفي إدراكه كان أبلغ من سابقه . مع أنه يتناءى عن مقتضى قوله : { لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ } تنائيّاً لا يجمع شمل المعنى باللفظ ، فإن الله تعالى نفى أن تكون مدركة ، فضلاً عن أن تكون سابقة .
فإذا أثبت ذلك ، فالجواب المحقق عنه ، أن المنفي السبقية الموجبة لتراخي النهار عن الليل ، وتخلل زمن آخر بينهما ، وحينئذ يثبت التعاقب ، وهو مراد الآية . وأما سبق أول المتعاقبين للآخر منهما ، فإنه غير معتبر . ألا ترى إلى جواب موسى بقوله : { هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي } [ طه : 84 ] ، فقد قربهم منه عذراً عن قوله تعالى : : { وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ } [ طه : 83 ] ، فكأنه سهل أمر هذه العجلة بكونهم على أثره . فكيف لو كان متقدماً وهم في عقبه لا يتخلل بينهم وبينه مسافة ؟ فذاك لو اتفق ، لكان سياق الآية يوجب أنه لا يعد عجلة ولا سبقاً . فحينئذ يكون القول بسبقية النهار لليل ، مخالفاً صدر الآية على وجه لا يقبل التأويل . فإن بين عدم الإدراك الدال على التأخير والتبعية ، وبين السبق بوناً بعيداً ، ومخالفاً أيضاً لبقية الآية ، فإنه لو كان الليل تابعاً ومتأخراً ، لكان أحرى أن يوصف بعدم الإدراك ، ولا يبلغ به عدم السبق ، ويكون القول بتقديم الليل على النهار مطابقاً لصدر الآية صريحاً ، ولعجزها بوجه من التأويل مناسب لنظم القرآن ، وثبوت ضده أقرب إلى الحق من حبل وريده ، والله الموفق للصواب من القول وتسديده . انتهى .
{ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } أي : كل مما ذكر يجرون في مدار عظيم كالسابح في الماء . وتقدم لنا في سورة الأنبياء ، ما قاله بعض علماء الفلك في مثل هذه الآية . فراجعه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } [ 41 ] .
{ وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } أي : حملنا أولادهم الذين يرسلونهم في تجارتهم . قال الشهاب : ولا يخفى مناسبته لقوله قبله : { فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } وذكر المشحون ، أقوى في الامتنان بسلامتهم فيه ، أو لأنه أبعد عن الخطر ، وقيل المراد فلك نوح عليه السلام . فهو مفرد ، وتعريفه للعهد ، والمعنى حمل آبائهم الأقدمين الذين بهم حفظ بقاء النوع لما عمّ الطوفان ، ونجوا مع نوح في السفينة ، وإنما كان آية ، لأن بقاء نسلهم ونجاتهم بسفينة واحدة ، صنع عجيب ومقدور كبير . وآثر البعض الوجه الأول ؛ لأن الثاني محتاج للتأويل . وأرى جدارة الثاني بالإيثار ؛ لقاعدة الحمل على الأشباه والنظائر ، ما وجد له سبيل ؛ لأنه أقرب وأسدّ ، وقد جاء نظيره آية : { إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [ الحاقة : 11 - 12 ] . وإن ورد في نظير الأول الآية : { وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ } [ الرحمن : 24 ] ، وأشباهها ، إلا أن لفظ الحمل اتحد في الآيتين ، فقارب ما بينهما .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } [ 42 ] .
{ وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ } أي : مثل الفلك : { مَا يَرْكَبُونَ } أي : من الإبل فإنها سفائن البر لكثرة ما تحمل ، حتى شاع إطلاق السفينة عليها ، كما قيل : سفائن برّ والسراب بحارها . أو ما يركبون ؛ أي : من السفن والزوارق على الوجه الثاني ، وهو أن يراد بالفلك سفينة نوح .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ } [ 43 ] .
{ وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ } أي : لا مغيث لهم ، أو لا مستغيث منهم ، أو لا استغاثة ، وذلك لأن الصريخ يكون المغيث والمستغيث وهو الصارخ . ومصدراً للثلاثي كالصراخ ، يتجوز به عن الإغاثة ؛ لأن المغيث ينادي من يستغيث به ويصرخ له ، ويقول : جاءك العون والنصر . أنشد المبرد في أول الكامل :
~كُنَّا إِذَاْ مَاْ أَتَاْنَاْ صَاْرِخٌ فَزِعٌ كَاْنَ الصُّرَاْخُ لَهُ قَرْعَ الظَّنَاْبِيْبِ
أي إذا أتانا مستغيث ، كانت إغاثته الجد في نصرته .
{ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ } أي : ينجون من الموت به .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ } [ 44 ] .
{ إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ } أي : لكن رحمناهم ومتعناهم إلى زمن قدر لهم ، يموتون فيه بعد النجاة من موت الغرق ، ومن هنا أخذ أبو الطيب قوله :
~وِإِنْ أَسْلَمْ فَمَاْ أَبْقَىْ وَلَكِنْ سَلِمْتُ مِنَ الْحَمَاْمِ إِلَىْ الْحِمَاْمِ(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ 45 ] .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ } أي : من الوقائع الخالية في الأمم المكذبة للرسل
{ وَمَا خَلْفَكُمْ } أي : من العذاب المعدّ في الآخرة ، أو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، أو عكسه ، أو ما تقدم من ذنوبكم وما تأخر : { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي : باتقائكم وشكركم ، وجواب إذا ، محذوف دل عليه قوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ } [ 46 ] .
{ وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ } أي : الدالة على صدق الرسل : { إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ } بالتكذيب والصد عن الإيمان بها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } [ 47 ] .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ } أي : تصدقوا على الفقراء ، من مال الله الذي آتاكم : { قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } أي : حيث أمرتمونا بما يخالف مشيئة الله . وقولهم هذا ، إما تهكم أو عن اعتقاد . وجوّز أن يكون : { إِنْ أَنتُمْ } جواباً من الله لهم ، أو حكاية لجواب المؤمنين . وفي هذه الآية أبلغ زجر عن اقتصاص ما يحكى عن البخلاء ، في اعتذارهم بمثل ما ضلل به المشركون ومجازاتهم فيه ؛ فإن ذلك من اللؤم ، وشح النفس ، وخبث الطبع ، وإن كان يورده بعضهم للفكاهة أو الإغراب ؛ كما فعل الجاحظ سامحه الله في كتاب " البخلاء " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 48 ] .
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } يعنون وعد البعث .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } [ 49 ] .
{ مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } أي : يتخاصمون في متاجرهم ومعاملاتهم ؛ أي : أنها تبغتهم وهم في أمنهم وغفلتهم عنها . ويخصمون ، بفتح الياء وكسر الخاء لالتقاء الساكنين . والصادر على الأصل ، وأصله : يختصمون سكّنت التاء وأدغمت ، ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } [ 50 ] .
{ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً } أي : أن يوصوا في شيء من أمورهم توصية : { وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } أي : لا يقدرون على الرجوع إلى أهليهم ، ليروا حالهم ، بل يموتون حيث تفجؤهم الصيحة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } [ 51 ] .
{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ } أي : للبعث : { فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ } أي : من القبور : { إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } أي : يعدون مسرعين ، كما في قوله تعالى : { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً } [ المعارج : 43 ] ، ولا منافاة بين هذا وما في آية : { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } [ الزمر : 68 ] ؛ لأنهما في زمان واحد متقارب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ } [ 52 ] .
{ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } أي : رقادنا أو مكانه . فيقال لهم : { هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ } أي : المخبرون عن ذلك الوعد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [ 53 ] .
{ إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } أي : بمجرد تلك الصيحة . وفي كل ذلك تهوين أمر البعث والحشر ، عليه تعالى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } [ 54 ، 55 ] .
{ فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } أي متنعمون متلذذون ، وفي تنكير : { شُغُلٍ } تعظيم ما هم فيه وتفخيمه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ } [ 56 ، 57 ] .
{ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ } أي : في ظلال الأشجار ، أو في مأمن من الحرور : { عَلَى الْأَرَائِكِ } أي : السرر المزينة : { مُتَّكِؤُونَ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ 58 ] .
{ سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } أي : ولهم سلام يقال لهم قولاً كائناً منه تعالى . فيكون : { سَلامٌ } مبتدأ محذوف الخبر ، أو هو يدل من : { مَّا } أو خبر محذوف ، أي : هو سلام ، أو مبتدأ خبره الناصب لـ : { قَوْلاً } أي : سلام يقال لهم قولاً ، أو مبتدأ وخبره : { مّنْ رَّبٍ } و : { قَوْلاً } مصدر مؤكد لمضمون الجملة ، وهو مع عامله معترض بين المبتدأ والخبر . والمعنى إنه تعالى يسلم عليهم تعظيماً لهم ، كقوله : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ } [ الأحزاب : 44 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ } [ 59 ] .
{ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ } أي : عن المؤمنين في موقفهم . كقوله تعالى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } [ يونس : 28 ] . وقوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [ الروم : 14 ] { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [ الروم : 43 ] ، أي : يصيرون صدعين فرقتين : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } [ الصافات : 22 - 23 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ 60 ] .
{ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } تقريع منه تعالى للكفرة ، يقال لهم إلزاماً للحجة . وعهده تعالى إليهم هو ميثاق الفطرة . كما قاله القاشاني . أو ما نصبه لهم من الحجج العقلية ، والسمعية ، الآمرة بعبادته وحده ونبذ عبادة غيره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [ 61 ] .
{ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } أي : وإن أفردوني بالعبادة فإنه السبيل السوي . وفي تنكيره إشعار بأنه صراط بليغ في استقامته ، جامع لكل ما يجب أن يكون عليه ، وأصل لمرتبة يقصر عنها التوصيف ، فالتنوين للتعظيم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } [ 62 ] .
{ وَلَقَدْ أَضلَّ } أي : الشيطان وأغوى بالشرك : { مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً } أي : خلقاً كثيراً قبلكم . فحاق بهم سوء العذاب : { أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } أي : من أولي العقل . إنكار لأن يكونوا منهم ، وقد قامت البراهين والإنذارات .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون َ *اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } [ 63 ، 64 ] .
{ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } أي : ذوقوا حرها اليوم بكفركم في الدنيا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [ 65 ] .
{ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : عندما يجحدون ما اجترموه في الدنيا ، ويحلفون ما فعلوه ، فيختم الله على أفواههم ، ويستنطق جوارحهم ، قال الرازي : وفي الختم على الأفواه وجوه ، أقواها أن الله يسكت ألسنتهم فلا ينطقون بها ، وينطق جوارحهم فتشهد عليهم ، وإنه في قدرة الله يسير ، أما الإسكات فلا خفاء فيه ، وأما الإنطاق فلأن اللسان عضو متحرك بحركة مخصوصة . فكما جاز تحركه بها ، جاز تحرك غيره بمثلها ، والله قادر على الممكنات . والوجه الآخر ، أنهم لا يتكلمون بشيء ؛ لانقطاع أعذارهم وانتهاك أستارهم ، فيقفون ناكسي الرؤوس وقوف القنوط اليؤوس ، لا يجد عذراً فيعتذر ، ولا مجال توبة فيستغفر ، وتكلم الأيدي ظهور الأمور بحيث لا يسع معه الإنكار ، حتى تنطق به الأيدي والأبصار . كما يقول القائل : الحيطان تبكي على صاحب الدار . إشارة إلى ظهور الحزن ، والأول صحيح . انتهى . أي : لإمكانه وعدم استحالته ، فلا تتعذر الحقيقة . ويؤيده آية : { وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } [ فصلت : 21 ] .
ومن لطائف بعض أدباء العصر ما نظمه في الفونغراف ، مستشهداً به في ذلك ، فقال :
~يَنْطِقُ الْفُوْنُغْرَاْفُ لَنَاْ دَلِيْلٌ عَلَىْ نُطْقِ الْجَوَاْرِحِ وَالْجَمَاْدِ
~وَفِيْهِ لِكُلِّ ذِيْ نَظَرٍ مِثَاْلٌ عَلَىْ بَدْءِ الْخَلِيْقَةِ وَالْمَعَاْدِ
~يُدِيْرُ شُؤُوْنَهُ فَرْدٌ بِصُوْرٍ بِهِ الْأَصْوَاْتُ تَجْرِيْ كَالْمِدَاْدِ
~فَيَثْبِتُ رَسْمَهَا قَلَمٌ بِلَوْحٍ عَلَىْ وِفْقِ الْمَشِيْئَةِ وَالْمُرَاْدِ
~وَبَعْدَ فَرَاْغِهَا تَمْضِيْ كَبَرْقٍ وَلَاْ أَثَرَ لَهَاْ فِيْ الكَوْنِ بَاْدِيْ
~تَظُنُّ بِأَنَّهَاْ ذَهَبَتْ جُفَاْءٌ كَمَاْ ذَهَبَتْ بِرِيْحٍ قَوْمُ عَاْدِ
~وَأَحْلَىْ رَنَّهَاْ فِيْهِ لِتَبْقَىْ كَأَرْوَاْحٍ تَجَرَّدَ عَنْ مُوَاْدِّ
~مَتَىْ شَاْءَ الْمُدِيْرُ لَهَاْ مَعَاْداً وَرَاْمَ ظُهُوْرُهَا فِيْ كُلِّ نَاْدِ
~يُدِيْرُ الصُّوَرُ بِالْآَلَاْتِ قَسْراً فَيَنْشُرُ مَيِّتَهَا بَعْدَ الرُّقُاَدِ
~وَهَذِيْ آَلَةٌ مِنْ صُنْعِ عَبْدٍ فَكَيْفَ بِصُنْعِ خَلَّاْقِ الْعِبَاْدِ ؟
~تَبَاْرَكَ مَنْ يُعِيْدُ الْخَلْقَ طَرّاً بِنَفْخَةٍ صُوْرُهُ يَوْمَ التَّنَاْدِ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ } [ 66 ] .
{ وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ } أي : لو شاء تعالى ، لمسح أعينهم . فلو راموا أن يستبقوا إلى الطريق المسلوك لهم لم يقدروا ، لعماهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلَا يَرْجِعُونَ } [ 67 ] .
{ وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ } أي : بتغيير صورهم وإبطال قواهم : { عَلَى مَكَانَتِهِمْ } أي : مكانهم : { فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً } أي : ذهاباً : { وَلَا يَرْجِعُونَ } أي : ولا رجوعاً ؛ أي : أنهم لا يقدرون على مفارقة مكانهم . فوضع الفعل موضعه للفواصل . وإذا كان بمعنى : لا يرجعون عن تكذيبهم ، فهو معطوف على جملة : ما استطاعوا . والمراد أنهم بكفرهم ونقضهم ما عهد إليهم ، أحقّاء بأن يفعل بهم ذلك . لكنا لم نفعل لشمول الرحمة ، واقتضاء لحكمه إمهالهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ } [ 68 ] .
{ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ } أي : نطل عمره : { نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ } أي : بتناقض قواه وضعف بنيته حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبي في ضعف جسده وقلة عقله وخلوّه من العلم ، كما قال عز وجل : { وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً } [ الحج : 5 ] ، { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } [ التين : 5 ] { أَفَلَا يَعْقِلُونَ } أي : من قدر على ذلك ، قدر على الطمس والمسخ ، وأن يفعل ما يشاء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } [ 69 ] .
{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ } أي : حتى يأتي بشعر . وهذا رد لقولهم أنه صلوات الله عليه شاعر أتى بشعر . قاسوه على من يشعر بقراءة الدواوين وكثرة حفظها ، وكيف يشابه ما نزل عليه الشعر ، وليس منه لا لفظاً ؛ لعدم وزنه وتقفيته ، ولا معنىً ؛ لأن الشعر تخيلات ، وهذا حكم ، وعقائد ، وشرائع ، وحقائق .
{ وَمَا يَنبَغِي لَهُ } أي : وما يصح لمقامه ؛ لأن منزل النبوة والرسالة يتسامى عن الشعر وقرضه ؛ لما يرمي به الشعراء كثيراً من الكذب ، والمين ، ومجافاة مقاعد الحقيقة ؛ ولذا قال تعالى : { إِنْ هُوَ } أي : القرآن الذي يتلوه : { إِلَّا ذِكْرٌ } أي : عظة وإرشاد منه تعالى : { وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } أي : كتاب سماوي بين أمره وحقائقه ، فلا مناسبة بينه وبين الشعر بوجه ما .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ 70 ] .
{ لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً } أي : عاقلاً متأملاً ؛ لأن الغافل كالميت : { وَيَحِقَّ الْقَوْلُ } أي : وتجب كلمة العذاب : { عَلَى الْكَافِرِينَ } أي : المعرضين عن اتباعه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } [ 71 ] .
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } أي : مما تولينا نحن خلقه ، لم يقدر على إحداثه غيرنا { أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } أي : متصرفون فيها تصرف الملاك ، أو ضابطون قاهرون لها كما قال :
~أَصْبَحْتُ لَاْ أَحْمِلُ السِّلَاْحَ وَلَاْ أَمْلِكُ رَاسَ الْبَعِيْرِ إِنْ نَفَرَا(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [ 72 ] .
{ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ } أي : صيّرناها منقادة غير وحشية : { فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ } أي : مركوبهم
{ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } أي : ينتفعون بأكل لحمه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ } [ 73 ] .
{ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } أي : من الجلود ، والأصواف ، والأوبار : { وَمَشَارِبُ } أي : من ألبانها : { أَفَلَا يَشْكُرُونَ } أي : فيعبدوا المنعم بأصناف هذه النعم الجسيمة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ } [ 74 ] .
{ وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ } أي : ينصرونهم فيما نابهم من الكوارث .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ } [ 75 ] .
{ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ } أي : لآلهتهم : { جُندٌ مُّحْضَرُونَ } أي : مُعدّون لخدمتهم والذب عنهم ، فمن أين لهم أن ينصرونهم , وهم على تلك الحال من العجز والضعف ؟ أي : بل الأمر بالعكس . وقيل : المعنى محضرون على أثرهم في النار ، وجعْلُهم - على هذا - جنداً ، تهكمٌ واستهزاءٌ . وكذا لام : { لَهُمْ } الدالة على النفع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } [ 76 ] .
{ فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } أي : في الله تعالى بالإلحاد والشرك . أو في حقك بالتكذيب والإيذاء : { إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } أي : فنجازيهم عليه . كنى عن مجازاتهم بعلمه تعالى ، للزومه له ؛ إذ علم الملك القادر بما جرى من عدوه الكافر ، مقتضٍ لمجازاته وانتقامه . وتقديم السر ، لبيان إحاطة علمه تعالى بحيث يستوي السر عنده والعلانية . أو للإشارة إلى الاهتمام بإصلاح الباطن ؛ فإنه ملاك الأمر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَاْن أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } [ 77 ] .
{ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَاْن أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } أي : جدل بالباطل ، بيّن الجدال ، وهذه تسلية ثانية ، بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر . تأثرت الأولى [ كذا ] وهي قوله : { فَلَا يَحْزُنكَ } الآية ، عنايةً بشأنه صلوات الله عليه .
قال الطيبي : هذا معطوف على : { أَوَلَمْ يَرَوْا } قبله . والجامع ابتناء كل منهما على التعكيس ؛ فإنه خلق له ما خلق ليشكر ، فكفر وجحد النعم والمنعم ، وخلقه من نطفة قذرة ليكون منقاداً متذللاً ، فطغى وتكبر وخاصم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } [ 78 ] .
{ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً } أي : في استبعاد البعث وإنكاره : { وَنَسِيَ خَلْقَهُ } أي : خلقنا إياه : { قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } أي : بالية أشد البلى ، بعيدة عن الحياة غاية البعد . وإنما لم يؤنث لأنه اسم لما بلي من العظام ، جامد غير صفة ، كالرمة والرفات , أو مشتق فعيل بمعنى فاعل ، إلا أنه لما غلب جريانه على غير موصوف ، ألحق بالأسماء فلم يؤنث ، أو بمعنى مفعول من رمّه ، بمعنى أبلاه . وأصله الأكل ، من : رمت الإبل الحشيش . فكأن ما بلي أكلته الأرض . وقال الأزهري : إن عظاماً ، لكونه بوزن المفرد ، ككتاب وقراب ، عُومل رميم معاملته ، وذكر له شواهد . قال الشهاب : وهو غريب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [ 79 ] .
{ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : فلا تقاس قدرة الخالق على قدرة المخلوقين . وإنما تقاس إعادته على إبدائه : { وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } أي : فلا يمتنع عليه جمع الأجزاء بعد تفرقها ، لعلمه بأصولها وفصولها ومواقعها ، وطريق ضمها إلى بعضها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ } [ 80 ] .
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ } أي : الذي خلق هذا الشجر من ماء حتى صار خضراً نضراً فأثمر وينع ، ثم أعاده إلى أن صار حطباً يابساً يوقد به النار ، كذلك هو فعال لما يشاء ، قادر على ما يريد ، لا يمنعه شيء . قال قتادة : الذي أخرج النار من هذا الشجر ، قادر على أن يبعثه . وقيل : المراد بذلك شجر المرخ ، والعقار : من شجر البادية ، في أرض الحجاز . فيأتي من أراد قدح نار ، وليس معه زناد ، فيأخذ منه عودين أخضرين ، ويقدح أحدها بالآخر ، فتتولد النار من بينهما كالزناد سواء . روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما ، والعَفار الزند وهو الأعلى . والمرخ الزندة وهو الأسفل بمنزلة الذكر والأنثى . وعكس الجوهري فجعل المرخ ذكراً ، والعفار أنثى ، واللفظ مساعد له ، إلا أن الأول يؤيده قول الشاعر :
~إِذَا الْمُرْخُ لَمْ يُوْرِ تَحْتَ الْعَفَاْرِ وَضُنَّ بِقَدْرٍ فَلَمْ تُعْقَبِ
وقال أبو زياد : ليس في الشجر كله أورى ناراً من المرخ ، وربما كان المرخ مجتمعاً ملتفاً ، وهبت الريح ، وجاء بعضه بعضاً فأورى فأحرق الوادي ، ولم نر ذلك في سائر الشجر . وقال الأزهري : العرب تضرب بالمرخ والعفار ، المثل في الشرف العالي . فتقول : في كل شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار . أي : كثرت فيهما على ما في سائر الشجر . واستمجد : استكثر واستفضل . وذلك أن هاتين الشجرتين من أكثر الشجر ناراً ، وزنادهما أسرع الزناد ورياً . وفي المثل : اقدح بعفار أو مرخ ، ثم اشدد إن شئت أو أرخ . ويقال : في كل شجر نار إلا العُنّاب .
قال الشهاب : ولذا يتخذ منه مدقّ القصارين . ثم أنشد لنفسه :
~أَيَاْ شَجَرِ الْعُنَّاْبِ نَاْرُكَ أَوْقَدَتْ بِقَلْبِيْ وَمَا الْعُنَّاْبُ مِنْ شَجَرِ النَّاْرِ
انتهى .
والمقصود أنه تعالى لا يمتنع عليه إعادة المزاج الذي به تعلق الروح بعد انعدامه بالكلية ؛ لأن الذي يبدل مزاج الشجر الرطب بمزاج النار ، وهي حارة يابسة بالفعل ، مع ما في الشجر من المائية المضادّة لها ، أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضّاً ، تطرأ عليه اليبوسة والبلى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } [ 81 ] .
{ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } أي : مع كبر جرمهما : { بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم } أي : في الصغر والضعف ثانياً ، بعد ما خلقهم أولاً : { بَلَى } أي : هو القادر : { وَهُوَ الْخَلَّاقُ } أي : الكثير الخلق مرة بعد أخرى : { الْعَلِيمُ } أي : الواسع المعلومات .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ 82 ] .
{ إِنَّمَا أَمْرُهُ } أي : شأنه الأعلى ، أو قوله النافذ : { إِذَا أَرَادَ شَيْئاً } أي : إذا تعلقت إرادته بإيجاد شيء : { أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أي : فيوجد عن أمره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ 83 ] .
{ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } تنزيه له مما وصفهُ به المشركون, وتعجب من أن يقولوا فيه ما قالوا . وهو مالك كل شيء ، والمتصرف فيه بلا وازع ، ولا منازع { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي : بعد الموت ، فيجازيكم بأعمالكم .
فائدة :
قال ابن كثير : الملك والملكوت واحد في المعنى ، كرحمة ورحموت ، ورهبة ورهبوت ، وجبر وجبروت . ومن الناس من زعم أن المُلك هو عالم الأجسام ، والملكوت هو عالم الأرواح . والصحيح الأول ، وهو الذي عليه الجمهور من المفسرين وغيرهم . انتهى .
ولبعضهم : إن الملكوت صيغة مبالغة من الملك ، فهو بمعنى الملك التام ، والله هو العليم العلام .(/)
سورة الصافات
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالصَّافَّاتِ صَفّاً * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ } [ 1 - 4 ] .
{ وَالصَّافَّاتِ صَفّاً فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ } افتتح تعالى هذه السورة بالقسم ببعض مخلوقاته ، إظهاراً لعظم شأنها وكبر فوائدها ، وتنبيهاً إلى الاعتبار بصفتها وما تستدعيه من سمتها . والصافات : جمع صافة ، أي : طائفة صافة ، أو جماعة صافة .
فيكون في المعنى جمع الجمع ، أو على تأنيث مفرده ، باعتبار أنه ذات ونفس . والمراد بالصافات الملائكة ؛ لقيامها مصطفة في مقام العبودية لمالك الملك . من قوله تعالى : { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ } [ الصافات : 165 ] ، أو لصفها أجنحتها في الهواء واقفة منتظرة لأمر الله تعلى . و : { الزَّاجِرَاتِ } أي : الناس عن المعاصي ، بإلهام الخير ، من الزجر بمعنى المنع والنهي ، أو الزاجرات الأجرام العلوية والسفلية بالتدبير المأمور به . من الزجر بمعنى السوق والحث . والتاليات ، أي : آياته تعالى على أنبيائه عليهم السلام .
وقيل : الصافات الطير . من قوله تعالى : { وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ } [ النور : 41 ] والزاجرات : كل ما زجر عن معاصي الله . والتاليات : كل من تلا كتاب الله .
أو هم العلماء الصافون في العبادات أقدامهم ، الزاجرون عن الكفر ، والفسوق بالحجج ، والنصائح ، التالون آيات الله وشرائعه .
أو هم الغزاة الصافون في الجهاد , والزاجرون الخيل أو العدو ، التالون لذكر الله ، لا يشغلهم فيها عنه مبارزة العدو . وقد ذكر غير هذا ، مما يشمله اللفظ ولا يأباه . وبالجملة ، فالعطف إما لاختلاف الذوات أو الصفات . وإيثار الفاء على الواو ؛ لقصد الترتيب والتفاضل طرداً أو عكساً ، أما الأول فاعتناء بالأهم فالأهم . وأما الثاني فالترقي إلى الأعلى . وصفاً ، وزجراً ، مصدر مؤكد ، وكذا ذكراً ، ويجوز فيه كونه مفعولاً به . قال الناصر : وفي هذه الآية دلالة على مذهب سيبويه ، والخليل في مثل : { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } [ الليل : 1 - 2 ] ، فإنهما يقولان : الواو الثانية وما بعدها عواطف . وغيرهما يذهب إلى أنها حروف قسم . فوقوع الفاء في هذه الآية موقع الواو . والمعنى واحد ، إلا أن ما تزيده الفاء من ترتيبها ، دليل واضح على أن الواو الواقعة في مثل هذا السياق ، للعطف لا للقسم . انتهى .
وقوله تعالى : { إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ } الجواب للقسم ، وفي تأكيد المقسم عليه بتقديم الإقسام وتوكيد الجملة ، اهتمام به بتحقيق الحق فيه الذي هو التوحيد ، وتمهيد لما يعقبه من البرهان الناطق به ، وهو قوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ } [ 5 ] .
{ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ } فإن وجودها وانتظامها على هذا النمط البديع ، من أوضح دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته ، وأعدل شواهد وحدته ، أي : مالك السماوات والأرض ، وما بينهما من الموجودات ، ومربّيها ، ومبلغها إلى كمالاتها . والمراد بالمشارق مشارق الشمس . وإعادة ذكر الرب فيها ، لغاية ظهور آثار الربوبية فيها وتجددها كل يوم . فإنها ثلاث مائة وستون مشرقاً ، تشرق كل يوم من مشرق منها ، وبحسبها تختلف المغارب ، وتغرب كل يوم في مغرب منها . وأما قوله تعالى : { رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ } فهما مشرقا الصيف والشتاء ومغرباهما . أفاده أبو السعود .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ } [ 6 ] .
{ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا } أي : الجهة العليا القربى من كرة الأرض : { بِزِينَةٍ } أي : عجيبة بديعة : { الْكَوَاكِبِ } بالجر ، بدل من زينة . وقرئ بالإضافة ، على أنها بيانية ، أو على معنى ما زينت هي به ، وهو ضوؤها ، والمراد التزيين في رأي العين ؛ فإن الكواكب تبدو للناظرين كأنها جواهر متلألئة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ } [ 7 ] .
{ وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ } أي : خارج عن الطاعة ، يقذفه بشهبها ، كيما يتطاول إلى استراق السمع من جهتها و : { حِفْظاً } إما منصوب بإضمار فعله ؛ أي : حفظناهما حفظاً ، أو بعطفه على : { زِينَةٍ } من حيث المعنى ؛ أي : خلقنا الكواكب للسماء زينةً وحفظاً ، أو على المفعول لأجله بزيادة الواو ، والعامل فيه : { زيَّنَّا } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ } [ 8 ] .
{ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى } قرئ بالتخفيف والتشديد . وأصله يستمعون ؛ أي : يتطلبون السماع . والضمير لكل شيطان ؛ لأنه في معنى الشياطين . والجملة مستأنفة لبيان ما عليه حال المسترقة للسمع من أنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة الخ . أو هي علة للحفظ ؛ أي : لئلا يسمعوا . فحذفت اللام ثم أنْ ، وأهدر عملها . وضعفوه بلزوم اجتماع حذفين ، وهو منكر . كما ذكروه في قوله تعالى : { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا } [ النساء : 176 ] ، أي : لئلا تضلوا ، وقد يقال : إنما ينكر حذف شيئين فيما يخل بانسجام الكلام . أما في تقدير أمر له نظائر ، ومرجعه إلى تحليل معنى لا يأباه اللفظ - فلا وجه للتعصيب في رده ، لمجرد أن الكوفيين ، مثلاً ، ذهبوا إليه أو غيرهم . وشاهد المعنى أعدل من حكم القواعد ، وتحكيمها : { وَيُقْذَفُونَ } أي : يرمون : { مِن كُلِّ جَانِبٍ } أي : من جميع جوانب السماء ، إذا قصدوا الصعود إليها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ } [ 9 ] .
{ دُحُوراً } أي : للدحور وهو الطرد : { وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ } أي : شديد غير منقطع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [ 10 ] .
{ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ } أي : اختلس الكلمة : { فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ } أي : لحقه شعلة نارية تنقضّ من السماء : { ثَاقِبٌ } أي : مضيء ، كأنه يثقب الجوّ بضوئه .
تنبيه :
ذكر المفسرون أن الشياطين كانوا يصعدون إلى قرب السماء ، فربما سمعوا كلام الملائكة ، وعرفوا به ما سيكون من الغيوب ، وكانوا يخبرونهم به ، ويوهمونهم أنهم يعلمون الغيب ، فمنعهم الله تعالى من الصعود إلى قرب السماء بهذه الشهب ، فإنه تعالى يرميهم بها فيحرقهم .
قال ابن كثير : يعني إذا أراد الشيطان أن يسترق السمع ، أتاه شهاب ثاقب فأحرقه ؛ ولهذا قال جل جلاله : { لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى } أي : لئلا يصلوا إلى الملأ الأعلى ، وهي السماوات , ومن فيها من الملائكة ، إذا تكلموا بما يوحيه الله تعالى بما يقوله من شرعه وقدره ؛ كما وردت الأخبار بذلك في تفسير قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [ سبأ : 23 ] ، انتهى .
قال بعض علماء الفلك : كما أن العرش تحفّة الأرواح الغيبية - حسبما تقدم بيانه في آية : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [ الأعراف : 54 ] ، في الأعراف - فكذلك الكواكب الأخرى مسكونة مع الحيوانات ، والدواب بأرواح ، منها الصالح : الملك ، ومنها الطالح : الشيطان ، وكذلك أرضنا هذه ، فيها من الملائكة ، ومن الشياطين مالا نبصره : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ } [ الأعراف : 27 ] .
ولا يخفى أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ، فعدم إدراكنا لهذه الأرواح لا يدل على عدم وجودها ؛ كما أن عدم معرفة القدماء للميكروبات وللكهرباء التي تشاهد الآن آثارها العظيمة ، لم يكن يدل على عدم وجودها إذ ذاك في العالم ، فمن الجهل الفاضح إنكار الشيء لعدم معرفته أو العثور عليه ، على أن لنا الآن من مسألة استحضار الأرواح أكبر دليل على وجود أرواح في هذه الأرض ، لا نبصرها ولا نشعر بها .
وقد قدّر الله تعالى أن الحيوانات في هذه الأرض ، إذا خرجت عنها إلى حيث ينقطع الهواء ويبطل التنفس ، تموت في الحال . وكذلك قدر أن الأرواح الطالحة التي في أرضنا هذه ، إذا أرادت الصعود إلى السماء ، والاختلاط بالأرواح التي في الكواكب الأخرى ، انقضّ عليها ، قبل أن تخرج من جوّ الأرض ، شهاب من هذه الكواكب ، أو من غيرها ، فأحرقها وأهلكها ، بإفساد تركيبها ومادتها ، حتى لا يحصل اتصال بين هذه وتلك ، ولا تطلع على أسرار العوالم الأخرى ، وهذه الشهب التي تنقضّ ، إن كانت صادرة من أجرام ملتهبة ، كانت ملتهبة ، وإن كانت صادرة من أجرام غير ملتهبة ، التهبت فيما بعد لشدة سرعتها واحتكاكها بالغازات التي تمر فيها في جونا هذا . ولعل في مادة الشياطين ما يجتذب إلى هذه الشهب ويتحدُ بها . كما تجتذب العناصر الكيماوية بعضها بعضاً .
مثال ذلك عنصر الصوديوم فإنه يجتذب إليه الأكسجين من الماء فيحلله . ولا نقول إن جميع الشهب تنقضّ لهذا السبب ، بل منها ما ينقضّ لأسباب أخرى . كاجتذاب بعض الأجرام السماوية له ، ومنها ما ينقض لإهلاك الشياطين ، كما بينّا هنا . والشياطين مخلوقة من مواد غازية كانت ملتهبة : { وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ } [ الحجر : 27 ] ، والمراد بالسماء الدنيا في هذه الآية الفضاء المحيط بنا القريب منا ؛ أي : هذا الجو الذي نشاهده وفيه العوالم كلها . أما ما وراءه من الجواء البعيدة عنا ، التي لا يمكن أن نصل إليها بأعيننا ولا بمناظيرنا ، فهو فضاء محض لا شيء فيه . فلفظ السماء له معان كثيرة كلها ترجع إلى معنى السمو ، وتُفسَّر في كل مقام بحسبه .
ثم قال : فكل مسألة جاء بها القرآن حق ، لا يوجد في العلم الطبيعي ما يكذبها ؛ لأنه وحي الله حقاً ، والحق لا يناقضه الحق : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ فصلت : 53 ] .
وقال أيضاً : يعتقد الآن علماء الفلك أن أكثر الشهب تنشأ من ذوات الأذناب ، ويحتمل أن بعضها ناشئ من بعض الشموس المنحلّة ، أو الباقية الملتهبة ، أو من براكين بعض السيارات ، أو مما لم ينطفئ من السيارات للآن ، ومتى علمنا أن ذوات الأذناب والسيارات جميعاً مشتقة من الشموس ، كان مصدر جميع الشهب هو الشموس ، أو النجوم . قال : وهذا يفهمنا معنى هذه الآية . اهـ كلامه .
ونظير هذه الآية قوله تعالى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ } [ الملك : 5 ] ، وقوله عز وجل : { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ } [ الحجر : 16 - 18 ] ، وقوله سبحانه إخباراً عن الجن : { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً } [ الجن : 8 - 9 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ } [ 11 ] .
{ فَاسْتَفْتِهِمْ } أي : فاستخبر مشركي مكة : { أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً } أي : أقوى خلقة وأمتن بنية : { أَم مَّنْ خَلَقْنَا } أي : من السماوات ، والأرض ، والجبال ، كقوله تعالى : { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ } [ النازعات : 27 ] الآية ، وقوله : { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [ غافر : 57 ] ، وفي اضطرارهم إلى الجواب بصغر خلقهم وتضاؤله عما ذكر ، اعتراف بأنه لا يتعالى عليه أمر بعد هذا ، كشأن البعث وغيره ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ } أي : لزج ضعيف لا قوة فيه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } [ 12 ] .
{ بَلْ عَجِبْتَ } أي : من إنكارهم للبعث بعد اضطرارهم للاعتراف بما يحققه : { وَيَسْخَرُونَ } أي : من تقرير أمر البعث ، والاحتجاج عليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ } [ 13 ] .
{ وَإِذَا ذُكِّرُوا } أي : بما يؤيده ، أو وعظوا ، وخوفوا من المخالفة : { لَا يَذْكُرُونَ } أي : ما يقتضيه ؟ لتعنتهم وعنادهم ، أو لا يخافون ، ولا يتعظون .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ } [ 14 ] .
{ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً } أي : برهاناً واحتجاجاً على مصداقه ، من آيات الكائنات في أنفسهم ، أو في الآفاق : { يَسْتَسْخِرُونَ } أي : يبالغون في السخرية ، بدل الاعتبار ، والتدبر ، والتفكر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ 15 ] .
{ وَقَالُوا إِنْ هَذَا } أي : ادعاء ما ذكر ، والاستدلال عليه ، والصدع بشأنه ، والقراع فيه : { إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَو َآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ * قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ } [ 16 - 18 ] .
{ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ قُلْ } أي : تبكيتاً لهم . : { نَعَمْ } أي : تبعثون : { وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ } أي : ذليلون ، لا جدل منكم يدفعه ولا قدرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ } [ 19 ] .
{ فَإِنَّمَا هِيَ } أي : البعثة : { زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } أي : صيحة واحدة : { فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ } أي : قيام من مراقدهم أحياء ، أولو قوة مدركة ، بها يبصرون ، أو ينتظرون ما يفعل بهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ } [ 20 ] .
{ وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ } أي : يوم الجزاء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُون َ *احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ } [ 21 - 22 ] .
{ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا } أي : أنفسهم بالكفر ، والمعاصي ، والسعي بالفساد : { وَأَزْوَاجَهُمْ } أي : وأشباههم من الفجرة ، أو نساءهم الكافرات : { وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } [ 23 ] .
{ مِن دُونِ اللَّهِ } أي : من الأصنام وغيرها ، زيادة في تحسيرهم ، وتخجيلهم : { فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } أي : فعرفوهم طريقها ليسلكوها . والتعبير بـ : الهداية والصراط ؛ للتهكم بهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ } [ 24 ] .
{ وَقِفُوهُمْ } أي : احبسوهم في الموقف : { إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ } أي : عن عقائدهم ، وأعمالهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} [25] .
{مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} : أي لا ينصر بعضكم بعضا , و قد كان شأنكم التعاضد في الحياة الأولى. وهو توبيخ لهم و تقريع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ } [ 26 ] .
{ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ } أي : منقادون مخذولون .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } [ 27 ، 28 ] .
{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } أي : عن القهر والغلبة ؛ أي : كنتم تضطرونا إلى ما تدعونا إليه ، كما في آية : { وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً } [ سبأ : 33 ] ، وقيل عن الحلف والقسم . وقيل عن جهة الخير وناحية الحق ، من اليمن ضد الشؤم ؛ أي : توهمونا وتخدعونا ؛ أن ما أنتم عليه أمر ميمون فيه الخير والفوز ، فأين مصداقه وقد نزل ما نزل ؟(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } [ 29 - 35 ] .
{ قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } أي : عن الاستجابة للداعي إليها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ } [ 36 ] .
{ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ } أي : لقول من يقول بالمقدمات الخيالية عن الجنون ، فرد عليهم بأنه لم يأت بكلام مخيل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } [ 37 ] .
{ بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } أي : الذين هم أعقل الأمم ، وأحكم الحكماء ، فمتى يتفقون على قول مصدره الجنون ؟(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } [ 38 - 44 ] .
{ إِنَّكُمْ } أي : بافترائكم : { لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } أي : في الصف مترائين ، لا يحجب بعضهم عن بعض ، ولا يتفاضلون في المقاعد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ } [ 45 ] .
{ يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ } أي : شراب معين ، جار كالنهر لا ينقطع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } [ 46 ، 47 ] .
{ بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ لَا فِيهَا غَوْلٌ } أي : ما يغتال العقل ، ولا فساد من فساد خمر الدنيا : { وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } أي : تذهب عقولهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } [ 48 ، 49 ] .
{ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ } أي : على أزواجهن أو مبيضاته تشبيهاً بالثواب المقصور ، وهو المحوَّر : { عِينٌ } أي : كبار الأعين : { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } أي : بيض نعام في الصفاء ، مستور لم يركب عليه غبار . قال الشهاب : وهذا على عادة العرب في تشبيه النساء بها ، وخصت ببيض النعام ؛ لصفائه وكونه أحسن منظراً من سائره ، ولأنها تبيض في الفلاة ، وتبعد ببيضها عن أن يمس . ولذا قالت العرب للنساء : بيضات الخدور . ولأن بياضه يشوبه قليل صفرة مع لمعان ، كما في الدرّ ، وهو لون محمود جداً ؛ إذ البياض الصرف غير محمود ، وإنما يحمد إذا شابه قليل حمرة في الرجال ، وصفرة في النساء . انتهى .
وحكى ابن جرير عن ابن عباس أنه عنى بالبيض المكنون : اللؤلؤ .
ثم قال : والعرب تقول لكل مصون : مكنون ، لؤلؤاً كان أو غيره . كما قال أبو دهبل :
~وَهِيَ زَهْرَاْءَ مِثْلُ لُؤْلُؤْةِ الْغَوَّاْصِ مِيْزَتْ مِنْ جَوْهَرٍ مَكْنُوْنِ(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } [ 50 ] .
{ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } معطوف على يطاف ، والمعنى : يشربون فيتحادثون على الشراب ، كعادة أهل الشرب ، عما جرى لهم وعليهم .
وقال القاشاني : أي : يتحادثون أحاديث أهل الجنة والنار ، ومذاكرة أحوال السعداء والأشقياء ، مطلعين على كلا الفريقين وما هم فيه من الثواب والعقاب ، كما ذكر في وصف أهل الأعراف .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ } [ 51 - 53 ] .
{ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ } أي : في المحادثة : { إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ } أي : جليس في الدنيا : { يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ } أي : لمبعوثون فمجزيّون ؛ أي : يقول ذلك على وجه التعجب والتكذيب ، والمعنى : فهنا قد صدقنا ربنا وعده ، وأحل بالقرين وعيده ، كما أشار بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ } [ 54 ] .
{ قَالَ } أي : ذلك القائل : { هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ } أي : إلى أهل النار من كوى الجنة ، ومطالّها ، لأريكم ذلك القرين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } [ 55 - 57 ] .
{ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ } أي : في وسطه : { قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ } أي : لتهلكني بالإغواء : { وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي } أي : بالهداية ، واللطف بي : { لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } أي : معك في النار . وقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [ 58 ، 59 ] .
{ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } من تتمة كلامه لقرينه ، تقريعاً له ، أو معاودة على محادثة جلسائه ، تحدثاً بنعمة الله تعالى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ } [ 60 ، 61 ] .
{ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ } أي : لنيل مثله ، فليجدّ المجدون ، ولما وصف ملاذّ أهل الجنة ، تأثره بمطاعم أهل النار ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ } [ 62 ] .
{ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ } وهي شجرة كريهة المنظر والطعم ، كما ستذكر صفتها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ } [ 63 - 65 ] .
{ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً } أي : محنة وعذاباً : { لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا } أي : حملها : { كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ } أي : مثل ما يتخيل ويتوهم من قبح رؤوس الشياطين ، فهي قبيحة الأصل ، والثمر ، والمنظر ، والملمس . قال الزمخشري : وشبه برؤوس الشياطين دلالة على تناهيه في الكراهية ، وقبح المنظر ؛ لأن الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس ، لاعتقادهم أنه شر محض لا يخلطه خير ، فيقولون في القبيح الصورة : كأنه وجه شيطان ، كأنه رأس شيطان . وإذا صوره المصوّرون جاءوا بصورته على أقبح ما يقدّر ، وأهوله . كما أنهم اعتقدوا في الملك أنه خير محض لا شر فيه . فشبهوا به الصورة الحسنة . قال الله تعالى : { مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ } [ يوسف : 31 ] ، وهذا تشبيه تخييلي . انتهى . أي : لأمر مركوز في الخيال . وبه يندفع ما يقال إنه تشبيه بما لا يعرف ، وذلك لأنه لا يشترط أن يكون معروفاً في الخارج . بل يكفي كونه مركوزاً في الذهن والخيال ، ألا ترى امرأ القيس - وهو ملك الشعراء - يقول :
~وَمَسْنُوْنَةٌ زِرْقٌ كَأَنْيَاْبِ أَغْوَاْلِ
وهو لم ير الغول ، والغول نوع من الشياطين ؛ لأنه في خيال كل أحد مرتسم بصورة قبيحة ، وإن كان قابلاً للتشكل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ } [ 66 ] .
{ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا } أي : من طلعها : { فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ } أي : لغلبة الجوع ، أو الإكراه على أكلها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ } [ 67 ] .
{ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ } أي : لشراباً كالصديد ، أو الغساق ، ممزوجاً من ماء متناه في الحرارة ، يقطع أمعاءهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ } [ 68 ] .
{ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ } أي : مصيرهم : { لَإِلَى الْجَحِيمِ } أي : إلى دركاتها ، أو إلى نفسها لا مفر لهم ولا محيص كيفما تحولوا . قال ابن كثير : أي : ثم إن مردّهم بعد هذا الفصل لإلى نار تتأجج وسعير تتوهج ، فتارة في هذا ، وتارة في هذا . كما قال تعالى : { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [ الرحمن : 44 ] ، هكذا تلا قتادة هذه الآية عند هذه الآية . وهو تفسير حسن قوي . انتهى .
ومن لطائف الإشارات في هذه الآية ، ما قاله القاشاني ، وعبارته : { إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ } وهي شجرة النفس الخبيثة المحجوبة النابتة في قعر جهنم المتشعبة أغصانها في دركاتها القبيحة الهائلة ثمراتها من الرذائل والخبائث ، كأنها من غاية القبح والتشوه والخبث بالتنفر : { رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ } أي : تنشأ منها الدواعي المهلكة ، والنوازع المردية الباعثة على الأفعال القبيحة ، والأعمال السيئة ، فتلك أصول الشيطنة ، ومبادئ الشر والمفسدة ، فكانت رؤوس الشياطين : { فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا } يستمدون منها ويتغذون ويتقوون ، فإن الأشرار غذاؤهم من الشرور ، ولا يتلذذون إلا بها : { فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ } بالهيئات الفاسقة ، والصفات المظلمة ، كالممتلئ غضباً ، وحقداً ، وحسداً ، وقت هيجانها : { ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ } الأهواء الطبيعية ، والمُنى السيئة الرديئة ، ومحبات الأمور السفلية ، وقصور الشرور الموبقة ، التي تكسر بعض غلة الأشرار : { ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ } لغلبة الحرص والشره ، بالشهوة ، والحقد ، والبغض وأمثالها ، واستيلاء دواعيها مع امتناع حصول مباغيها . انتهى .
وهذه الإشارات من المجازات التي تتسع لها اللغة ؛ لأنها لا تنحصر في الحقيقة ، ولا يقال إنها المرادة هنا ، لنبؤها عن نظائرها من آيات الوعيد ، والله أعلم .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } [ 69 ، 70 ] .
{ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } تعليل لاستحقاقهم تلك الشدائد بتقليد الآباء في الضلال . والإهراع : الإسراع الشديد كأنهم يزعجون على الإسراع على آثارهم ، وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى ذلك من غير نظر وبحث ، بل مجرد تقليد وترك اتباع دليل . قال الرازي : ولو لم يوجد في القرآن آية غير هذه الآية في ذم التقليد ، لكفى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ } [ 71 ، 72 ] .
{ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ } أي : أنبياء حذروهم العواقب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ } [ 73 ] .
{ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ } أي : الذين أُنذروا وخُوّفوا ، فقد أُهلكوا جميعاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } [ 74 ] .
{ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } أي : الذين أخلصوا دينهم لله ، أو الذين أخلصهم تعالى لدينه ، على القراءتين ؛ أي : فإنه تعالى نصرهم وجعل العاقبة لهم . ثم أشار تعالى إلى أنبائهم ، تثبيتاً لفؤاده صلوات الله عليه ، وتبشيراً لأتباعه ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ } [ 75 - 77 ] .
{ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ } أي : بقوله : { رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] ، { فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } أي : نحن بهلاك قومه ؛ لأنه لا يجيب المضطر غيره : { وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } أي : من الغرق والطوفان . والمراد بأهله ، من آمن معه : { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ } أي : في الأرض بعد هلاك قومه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ } [ 78 ، 79 ] .
: { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ } أي : أبقينا عليه في الأمم بعده ثناء حسناً ، فمفعول تركنا محذوف ، أو ما حكاه تعالى بقوله : { سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ } أي : أن يسلموا عليه إلى يوم القيامة ؛ أي : أن يقولوا هذه الجملة . قال السمين : قوله : { سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ } مبتدأ وخبر ، وفيه أوجه :
أحدها أنه مفسر لـ : تركنا . والثاني أنه مفسر لمفعوله . أي : تركنا عليه شيئاً وهو هذا الكلام . أو ثَمّ قول مقدر ؛ أي : فقلنا سلام . أو ضمن تركنا معنى قلنا ، أو سلط تركنا على ما بعده . وقرئ سلاماً ، وهو مفعول به لـ : تركنا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [ 80 ] .
{ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } تعليل لما أثيب به من التكرمة ، بأنه مجازاة له على إحسانه ، وهو مجاهدته في إعلاء كلمة الله ، والدعوة إلى الحق ليلاً ونهاراً ، سراً وجهاراً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } [ 81 ] .
{ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } أي : المصدقين ، وتعليل إحسانه بالإيمان ، إظهار لفضل الإيمان ومزيته ، حيث مدح من هو من كبار الرسل به ، فالمقصود بالصفة مدحها نفسها ، لا مدح موصوفها ، وذلك لأن الإيمان أساس لكل خير يوجد ، ومركز لدائرته ، ومسك خاتمته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ } [ 82 ] .
{ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ } أي : من كفار قومه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ } [ 83 ] .
{ وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ } أي : ممن شايعه ، وتابعه في الإيمان ، والدعوة القوية إلى التوحيد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ 84 ] .
{ إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } أي : أقبل إلى توحيده بقلب خالص من الشوائب ، باق على الفطرة ، سُلَيم عن النقائص والآفات ، محافظ على عهد التوحيد الفطريّ ، منكر على من غيّر وبدّل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ } [ 85 ] .
{ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ } أي : من دون الله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ } [ 86 ] .
{ أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ } أي : أتريدون بطريق الكذب ، آلهة دون الله ؟(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 87 ] .
{ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : بمن هو الحقيق بالعبادة ، لكونه ربّاً للعالمين ، حتى تركتم عبادته وأشركتم به غيره ، والمعنى : لا يقدّر في وهم ولا ظن ما يصد عن عبادته ؛ لأن استحقاقه للعبادة أظهر من أن يختلج عرق شبهة فيه ، فأنكر ظنهم الكائن في بيان استحقاقه للعبادة ، وهو الذي حملهم على عبادة غيره . أو المعنى : فما ظنكم به ؟ ماذا يفعل بكم وكيف يعاقبكم ، وقد عبدتم غيره ؟ وعلى كلٍّ ، فالاستفهام إنكاري . والمراد من إنكار الظن إنكار ما يقتضيه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ } [ 88 ] .
{ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ } أي : ليريهم على أنه يستدل بها على شيء لأنهم كانوا منجّمين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ } [ 89 ] .
{ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ } أي : مريض لا يمكنني الخروج معكم إلى معيّدكم [ كذا ] . ترخص عليه السلام بذلك ؛ ليتخلص من شهود زورهم ، ومنكراتهم ، وأفانين شركهم ، مما تجوزه المصلحة ، أو عنى أنه سقيم القلب ، تشبيهاً لغمه وحزنه بالمرض ، على طريق التشبيه ، أو أراد أنه مستعد للموت استعداد المريض ، فهو استعارة ، أو مجاز مرسل .
قال الزمخشري : والذي قاله إبراهيم عليه السلام ، معراض من الكلام ، ولقد نوى به أن [ في المطبوع : ان ] من في عنقه الموت ، سقيم . ومنه المثل : كفى بالسلامة داء . وقول لَبِيد :
~فَدَعَوْتُ رَبِّيْ بِالسَّلَاْمَةِ جَاْهِداً لِيُصِحَّنِيْ ، فَإِذَاْ السَّلَاْمَةُ دَاْءُ
ومات رجل فجأة ، فالتفّ عليه الناس ، وقالوا : مات وهو صحيح . فقال أعرابيٌّ :
أصحيحٌ مَن الموت في عنقه ؟ انتهى .
وقال السيوطي في " الإكليل " : في الآية استعمال المعاريض والمجاز للمصلحة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ } [ 90 ] .
{ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ } أي : إلى معبدهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ } [ 91 ] .
{ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ } أي : ذهب إليها في خفية : { فَقَالَ } أي : للأصنام استهزاء : { أَلَا تَأْكُلُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ 92 - 96 ] .
{ مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ } أي : بإيجاب ولا سلب : { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ } أي : هجم عليهم : { ضَرْباً بِالْيَمِينِ } أي : التي هي أقوى الباطشتين ، فكسرها : { فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ } أي : إلى إبراهيم بعد ما رجعوا : { يَزِفُّونَ } أي : يسرعون لمعاتبته على ما صدر منه ، فأخذ عليه السلام يبرهن لهم على فساد عبادتهم : { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } أي : من الأصنام : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } أي : وما تعملونه من الأصنام المنوعة الأشكال ، المختلفة المقادير ، ولما قامت عليهم الحجة ، عدلوا إلى أخذه باليد والقهر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ } [ 97 ، 98 ] .
{ قَالُوا ابْنُوا لَهُ } أي : لإحراقه : { بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ } أي : الأذلين بإبطال كيدهم ، جعل النار عليه برداً وسلاماً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ 99 ] .
{ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ } أي : مهاجر إلى بلد أعبد فيه ربي ، وأعصم فيه ديني . قال الرازي : فيه دليل على أن الموضع الذي تكثر فيه الأعداء ، تجب مهاجرته ؛ وذلك لأن إبراهيم عليه السلام ، مع ما خصه تعالى به من أعظم أنواع النصرة ، لما أحسّ من قومه العداوة الشديدة ، هاجر ، فلأن يجب على غيره ، بالأولى . وقوله : { سَيَهْدِينِ } أي : إلى ما فيه صلاح ديني ، أو إلى مقصدي . وإنما بتّ القول لسبق وعده تعالى ؛ إذ تكفل بهدايته ، أو لأن من كان مع الله كان الله معه < احفظ الله يحفظك > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ } [ 100 ، 101 ] .
{ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ } أي : ولداً صالحاً يعينني على الدعوة والطاعة : { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ } أي : متسع الصدر حسن الصبر ، والإغضاء في كل أمر ، والحلم رأس الصلاح ، وأصل الفضائل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } [ 102 ] .
{ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } أي : السن الذي يقدر فيه على السعي والعلم : { قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى } أي : إني أمرت في المنام بذبحك - ورؤيا الأنبياء وحي كالوحي في اليقظة - فانظر هل تصبر على إمضائي أمر الرؤيا والعمل بظاهرها ؟ : { قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } أي : يأمرك الله به ، فإن كان ذاك أمراً من لدنه فأمضه .
قال القاضي : ولعله فهم من كلامه أنه رأى أنه يذبحه مأموراً به ، أو علم أن رؤيا الأنبياء حق ، وأن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر ، ثم قال : ولعل الأمر في المنام دون اليقظة ، لتكون مبادرتها إلى الامتثال ، أدل على كمال الانقياد والإخلاص . انتهى .
قال الرازي : الحكمة في مشاورة الابن في هذا الباب ، أن يطلع ابنه على هذه الواقعة ليظهر له صبره في طاعة الله ، فتكون فيه قرة عين لإبراهيم ، حيث يراه قد بلغ في الحِلم إلى هذا الحد العظيم ، وفي الصبر على أشد المكاره إلى هذه الدرجة العالية ، ويحصل للابن الثواب العظيم في الآخرة ، والثناء الحسن في الدنيا . وقوله : { سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } أي : على الذبح ، أو على قضاء الله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } [ 103 ] .
{ فَلَمَّا أَسْلَمَا } أي : استسلما وانقادا لأمره تعالى بدون إبطاء ، واستلّ إبراهيم السكين,
{ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } أي : صرعه على شقه ، فوقع جبينُه على الأرض ، وهو أحد جانبي الجبهة . وتله أصل معناه : رماه على التّل ، وهو التراب المجتمع . كـ : تربه . ثم عم لكل صرع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [ 104 ، 105 ] .
{ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا } أي : لا تذبحه وقد قمت بمصداقها في بذل الوسع من الأخذ بإمضاء ما تشير إليه ، وكمال الطاعة في هذا الشاقّ ، وأوتيت
أجر الامتثال ، والصبر ، والثبات . وفي جواب لما ثلاثة أوجه ، أظهرها أنه محذوف ؛ أي : نادته الملائكة ، أو ظهر صبرهما ، أو أجزلنا لهما أجرهما ، الثاني في أنه : { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } بزيادة الواو وهو رأي الكوفيين والأخفش ، الثالث أنه : { وَنَادَيْنَاهُ } والواو زائدة أيضاً { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } أي : باللطف ، والعناية ، والنداء ، والوحي ، والفرج بعد الشدة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ } [ 106 ] .
{ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ } أي : الاختيار البين الذي يتميز فيه المخلص من غيره ، إشارة إلى أن هذا الأمر كان ابتلاءً وامتحاناً لإبراهيم في صدق الخلة لله ، وتضحية أعز عزيز لديه ، وأحب محبوب عنده ، لأمر ربه تعالى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } [ 107 ] .
{ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } أي : رزقناه ما يذبح بدلاً عنه وفداء له ، منّة وتطولاً . وقد روي أنه عليه السلام لما نودي ، حانت منه التفاتة إلى ما حوله ، فأبصر كبشاً قد انتشب قرناه في شجرة ، فتم به المرئي في المنام المقصود به القربان لله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ } [ 108 - 113 ] .
{ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ } أي : مثل ما تركنا على نوح . كما تقدم بيانه وإعرابه : { كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ } أي : على إبراهيم : { وَعَلَى إِسْحَقَ } أي : بتكثير الذرية وتسلسل النبوة فيهم ، وجعلهم ملوكاً ، وإيتائهم ما لم يؤت أحد : { وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ } أي : في عمله : { وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } أي : بالكفر والمعاصي : { مُبِينٌ } أي : ظاهر الظلم .
تنبيهات :
الأول - يروي المفسرون ههنا في قصة الذبح روايات منكرة لم يصح سندها ولا متنها ، بل ولم تحسن ، فهي معضلة تنتهي إلى السدي وكعب . والسدي حاله معلوم في ضعف مروياته ، وكذلك كعب .
قال ابن كثير رحمه الله : لما أسلم كعب الأحبار في الدولة العمرية ، جعل يحدث عمر رضي الله عنه عن كتبه قديماً ، فربما استمع له عمر ، فترخص الناس في استماع ما عنده عنه ، غثها وسمينها ، وليس لهذه الأمة حاجة إلى حرف واحد مما عنده . انتهى .
ولقد صدق رحمه الله ، ولذا نرى التزيد على أصل ما قص في التنزيل من الضروري له ، إلا إذا صح سنده ، أو اطمأن القلب به . وقد ولِع الخطباء في دواوينهم برواية هذه القصة في خطبة الأضحى من طرقها الواهية عند المحدثين ، ويرونها ضربة لازب على ضعف سندها ، وكون متنها منكراً أيضاً أو موضوعاً ، ولما صنفتُ مجموعة الخطب حذفت هذه الرواية من خطبة الأضحى ككل مروي ضعيف في فضائل الشهور والأوقات ، واقتصرتُ على جياد الأخبار والآثار ، وذلك من فضل الله علينا فلا نحصي ثناء عليه [ في المطبوع : عيهى ] .
وأمثل ما روي في هذا النبأ من الآثار ما أخرجه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً ، قال : لما أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالمناسك ، عرض له الشيطان عند السعي ، فسابقه فسبقه إبراهيم عليه الصلاة السلام إلى جمرة العقبة ، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات ، ثم تلّه للجبين ، وعلى إسماعيل عليه السلام قميص أبيض ، فقال له : يا أبت ! إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره ، فاخلعه حتى تكفنني فيه ، فعالجه ليخلصه ، فنودي من خلفه : أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا . فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أبيض أقرن أَعْيَن . قال ابن عباس : لقد رأيتُنا نتتبع ذلك الضرب من الكباش .
الثاني - قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآية أن رؤيا الأنبياء وحي ، وجواز نسخ الفعل قبل التمكن ، وتقديم المشيئة في كل قول ، واستدل بعضهم بهذه القصة على أن من نذر ذبح ولده ، لزمه ذبح شاة . ثم قال السيوطي : فسر الذبح العظيم في الأحاديث والآثار بكبش ، فاستدل به المالكية على أن الغنم في التضحية أفضل من الإبل . انتهى .
الثالث - استدل بالآية على أنه تعالى قد يأمر بما لا يريد وقوعه - كما ذكره الرازي - وذلك في باب الابتلاء ؛ أي : ابتلاء المأمور في إخلاصه وصدقه ، فيما يشق على النفس تحمله .
الرابع - يذكر كثيرٌ الخلافَ في الذبيح ، قال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " : وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجهاً ، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : هذا القول إنما هو متلقى من أهل الكتاب ، مع أنه باطل بنص كتابهم ؛ فإن فيه إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه - بكره ، وفي لفظ : وحيده - ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده .
والذي غرّ أصحابَ [ في المطبوع : وأصحاب ] هذا القول إن في التوراة التي بأيديهم : اذبح ابنك إسحاق . قال : وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم ؛ لأنها [ في المطبوع : لأنهم ] تناقض قوله : بكرك ، وحيدك . ولكن يهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف ، وأحبوا أن يكون لهم ، وأن يسوقوه إليهم ، ويختارونه دون العرب . ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله . وكيف يسوغ أن يقال إن الذبيح إسحاق ، والله تعالى قد بشر أم إسحاق به وبابنه يعقوب ، فقال تعالى عن الملائكة أنهم قالوا لإبراهيم لما أتوه بالبشرى : { لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 70 - 71 ] ، فمحال أن يبشرها بأنه يكون لها [ في المطبوع : له ] ولد ثم يأمر بذبحه . ولا ريب أن يعقوب داخل في البشارة ، فتَناوُلُ البشارة لإسحاق ويعقوب في اللفظ واحد [ في المطبوع : الواحد ] . وهذا ظاهر الكلام وسياقه .
فإن قيل ، لو كان الأمر كما ذكرتموه لكان يعقوب مجروراً عطفاً على إسحاق ، فكانت القراءة : { وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاق يَعْقُوب } أي : ويعقوب من وراء إسحاق . قيل لا يمنع الرفع أن يكون يعقوب مبشراً به ؛ لأن البشارة قول مخصوص ، وهي أول خبر سارّ صادق . وقوله : { وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } جملة متضمنة بهذه القيود ، فيكون بشارة بل حقيقة البشارة هي الجملة الخبرية . أو لما كانت البشارة قولاً ، كان موضع هذه الجملة نصباً على الحكاية بالقول . كأن المعنى : وقلنا لها من وراء إسحاق يعقوب . والقائل إذا قال : بشرت فلاناً بقدوم أخيه ، وثقله في أثره ، لم يعقل منه إلا بشارة بالأمرين جميعاً . هذا مما لا يستريب ذو فهمٍ فيه البتة . ثم يضعف الجر أمر آخر ، وهو ضعف قولك : مررت بزيد ومن بعده عَمْرو ؛ لأن العاطف يقوم حرف الجر ، فلا يفصل بينه وبين المجرور ، كما لا يفصل بين حروف الجار والمجرور ، ويدل عليه أنه سبحانه لما ذكر قصة إبراهيم وابنه في هذه السورة ، قال : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } [ الصافات : 103 - 111 ] ، ثم قال : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ } [ الصافات : 112 ] ، فهذا بشارة من الله له ، شكراً على صبره على ما أمر به . وهذا ظاهر جداً في أن المبشر به غير الأول . بل هو كالنص فيه .
فإن قيل : فالبشارة الثانية وقعت على نبوته ، أي : لما صبر الأب على ما أمر به ، وأسلم الولد لأمر الله ، جازاه الله على ذلك ، بأن أعطاه النبوة . قيل : البشارة وقعت على المجموع ، على ذاته ووجوده وأن يكون نبياً ؛ ولهذا ينصب : { نَبِيّاً } على الحال المقدر أي : مقدراً نبوته ، فلا يمكن إخراج البشارة أن يقع على الأصل ، ثم يخص بالحال التابعة الجارية مجرى الفضلة . هذا محال من الكلام . بل إذا وقع البشارة على نبوته ، فوقوعها على وجوه أولى وأحرى ، وأيضاً فلا ريب أن الذبيح كان بمكة ، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر ، كما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار ، تذكيراً لشأن إسماعيل وأمه ، وإقامة لذكر الله .
ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة ، دون إسحاق وأمه ، ولهذا اتصل مكان الذبح وزمانه بالبيت الحرام الذي اشترك في بنائه إبراهيم وإسماعيل ، وكان النحر بمكة ، من تمام حج البيت الذي كان على يد إبراهيم وابنه إسماعيل زماناً ومكاناً ، ولو كان الذبح بالشام ، كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم ، لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة ، وأيضاً فإن الله سبحانه سمى الذبيح حليماً ؛ لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه ، ولما ذكر إسحاق سماه عليماً ، فقال : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ } [ الذرايات : 24 - 25 ] إلى أن قال : { قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } [ الذرايات : 28 ] ، وهذا إسحاق بلا ريب ، لأنه من امرأته وهي المبشرة به ، وأما إسماعيل فمن السرية .
وأيضاً فإنهما بشّرا به على الكبر واليأس من الولد . وهذا بخلاف إسماعيل فإنه ولد قبل ذلك ، وأيضاً فإن الله سبحانه أجرى العادة البشرية أن بكر الأولاد أحب إلى الوالدين ممن بعده . وإبراهيم لما سأل ربه الولد ووهبه له ، تعلقت شعبة من قلبه بمحبته ، والله تعالى قد اتخذه خليلاً . والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة ، وأن لا يشارك بينه وبين غيره فيها . فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد ، جاءت غيرة الخلة تنتزعها من قلب الخليل ، فأمره الجليل بذبح المحبوب . فلما أقدم على ذبحه ، وكانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد ، خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة ، فلم يبق في الذبح مصلحة ؛ إذ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس فيه ، فقد حصل المقصود ، فنسخ الأمر ، وفُدي الذبيح ، وصدق الخليل الرؤيا ، وحصل مراد الرب .
ومعلوم أن هذا الامتحان والاختبار [ في المطبوع : الاختيار ] ، إنما حصل عند أول مولود ، ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأول ، بل لم يحصل عند المولود الآخر من مزاحمة الخلة ، ما يقتضي الأمر بذبحه . وهذا في غاية الظهور . وأيضاً فإن سارة امرأة الخليل غارت من هاجر وابنها أشد الغيرة ، فإنها كانت جارية ، فلما ولدت إسماعيل وأحبه أبوه اشتدت غيرة سارة . فأمر الله سبحانه أن يبعد عنها هاجر وابنها ويسكنها في أرض مكة ، ليبرّد عن سارة حرارة الغيرة . وهذا من رحمته ورأفته . فكيف يأمره سبحانه بعد هذا ، أن يذبح ابنها ، ويدع ابن الجارية بحاله هذا مع رحمة الله لها ، وإبعاد الضرر عنها وخيرته لها ، فكيف يأمر بعد هذا بذبح ابنها دون ابن الجارية ؟
بل حكمته البالغة اقتضت أن يأمر بذبح ولد السرية ، فحينئذ يرق قلب الست على ولدها . وتتبدل قسوة الغيرة رحمة ، ويظهر لها بركة هذه الجارية وولدها ، وأن الله لا يضيع بيتاً ، هذه وابنها منهم ، ويرى عباده جبره بعد الكسر ، ولطفه بعد الشدة ، وأن عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد ، والوحدة ، والغربة ، والتسليم ، إلى ذبح الولد ، آلت إلى ما آلت عليه ، من جعل آثارهما وموطئ أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين ، ومتعبدات لهم إلى يوم القيامة . وهذا سنته تعالى فيمن يريد رفعته من خلقه ، أن يمن عليه بعد استضعافه وذله وانكساره . قال تعالى : { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ } [ القصص : 5 ] ، { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [ الحديد : 21 ] ، انتهى .
وقال السيوطي في " الإكليل " : واستدل بقوله تعالى بعد : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ } [ الصافات : 112 ] ، من قال إن الذبيح إسماعيل ، وهو الذي رجحه جماعة ، واحتجوا له بأدلة : منها وصفه بالحلم وذكر البشارة بإسحاق بعده ، والبشارة بيعقوب من وراء إسحاق ، وغير ذلك ، وهي أمور ظنية لا قطعية ، ثم قال : وتأملت القرآن فوجدت فيه ما يقتضي القطع أو يقترب منه - ولم أر من سبقني إلى استنباطه - وهو أن البشارة وقعت مرتين ، مرة في قوله تعالى : { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } [ الصافات : 99 - 102 ] ، فهذه الآية قاطعة في أن هذا المبشر به هو الذبيح . ومرة في قوله : { وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] الآية . فقد صرح فيها أن المبشر به إسحاق ، ولم يكن بسؤال من إبراهيم . بل قالت امرأته إنها عجوز ، وإنه شيخ ، وكان ذلك في الشام لما جاءت الملائكة إليه بسبب قوم لوط وهو في آخر أمره . أما البشارة الأولى لما انتقل من العراق إلى الشام ، حين كان سنه لا يستغرب فيه الولد ، ولذلك سأله . فعلمنا بذلك أنهما بشارتان في وقتين ، بغلامين : أحدهما بغير سؤال ، وهو إسحاق صريحاً . والثانية قبل ذلك بسؤال وهو غيره . فقطعنا بأنه إسماعيل وهو الذبيح . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ } [ 114 ] .
{ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ } أي : بالنبوة والرسالة ، والاصطفاء على عالمي زمانهما .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } [ 115 ] .
{ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } وهو قهر فرعون لهم ، بذبح الأولاد ، ونهاية الاستعباد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ } [ 116 ] .
{ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ } أي : مع ضعفهم ، وقوة فرعون وقومه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ } [ 117 ] .
{ وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ } أي : البليغ في بيانه للأحكام والتشريعات ، والآداب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [ 118 ] .
{ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } أي : في باب الاعتقاد والمعاملات الموصل رعايته والسلوك عليه ، إلى السعادة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ } [ 119 - 123 ] .
{ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ } وهو من أنبياء بني إسرائيل من بعد زمن سليمان ، أرسله الله لما انتشرت الوثنية في الإسرائيليين ، وساعد على انتشارها بينهم ملوكهم ، وبنوا لها المذابح وعبدوها من دون الله تعالى ، ونبذوا أحكام التوراة ظهرياً . فقام إلياس عليه السلام يوبخهم على ضلالهم ويدعوهم إلى التوحيد ، ويسمى في التوراة : إيليا ، وله نبأ فيها كبير .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ } [ 124 ] .
{ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ } أي : عذاب الله ، ونقمته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ } [ 125 ] .
{ أَتَدْعُونَ بَعْلاً } أي : تعبدونه أو تطلبون الخير منه ؟ وهو صنم من أصنام الفينيقيين ، أقاموا له ولغيره من الأوثان معابد ومذابح وكهنة ، يعظمون من شأنهم ، ويقيمون لهم المآدب والأعياد الحافلة ، ويقدمون لخم ضحايا بشرية : { وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ } أي : تتركون عبادته . قال القاضي : وقد أشار فيه إلى المقتضي للإنكار ، المعني بالهمزة . ثم صرح يه بقوله :القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ } [ 125 ] .
{ أَتَدْعُونَ بَعْلاً } أي : تعبدونه أو تطلبون الخير منه ؟ وهو صنم من أصنام الفينيقيين ، أقاموا له ولغيره من الأوثان معابد ومذابح وكهنة ، يعظمون من شأنهم ، ويقيمون لهم المآدب والأعياد الحافلة ، ويقدمون لخم ضحايا بشرية : { وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ } أي : تتركون عبادته . قال القاضي : وقد أشار فيه إلى المقتضي للإنكار ، المعني بالهمزة . ثم صرح يه بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } [ 126 - 127 ] .
{ وَاللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } أي : في العذاب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ } [ 128 - 130 ] .
{ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } أي : الذين آمنوا به واتبعوه : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ } بكسر الهمزة وسكون اللام موصولة بـ : ياسين . وقرئ آل ياسين بإضافة آل - بمعنى أهل - إليه . وكله من التصرف في العلم الأصلي ، الذي هو إيليا على قاعدة العرب في الأعلام العجمية ، إذا أرادت أن تلفظها في الاستعمال ، وتخففها على الألسنة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ } [ 131 - 134 ] .
{ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ } أي : للدعاء إلى الله ، والنهي عن الفواحش : { إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ } أي : من عذاب قومه المنذرين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ } [ 135 ] .
{ إِلَّا عَجُوزاً } وهي امرأته ، فإنها وإن خرجت عن مكان عذابهم ، كانت : { فِي الْغَابِرِينَ } أي : في حكم الباقين في العذاب ، لكونها على دين قومها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ } [ 136 ] .
{ ثُمَّ دَمَّرْنَا } أي : أهلكنا : { الْآخَرِينَ } بجعل قريتهم عاليها سافلها ، وإمطار حجارة من سجيل عليهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } [ 137 - 139 ] .
{ وَإِنَّكُمْ } أي : يا أهل مكة : { لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ } أي : فترون دائماً علامات مؤاخذتهم : { أَفَلَا تَعْقِلُونَ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } أي : إلى أهل نينوى للتوحيد ، والزجر عن ارتكاب المآثم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } [ 140 ] .
{ إِذْ أَبَقَ } أي : بغير إذن عن قومه المرسل إليهم : { إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } أي : السفينة المملوءة ، ليركب منها إلى بلد آخر . روي أنه نزل من يافا ، وركب الفلك إلى ترسيس ، فهبت رياح شديدة كادت تغرقهم ، فاقترعوا ليعلموا بسبب من أصابهم هذا البلاء ، فوقعت على يونس ، فألقوه في البحر . وهو معنى قوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ } [ 141 ] .
{ فَسَاهَمَ } أي : قارع : { فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ } أي : المغلوبين بالقرعة . وأصله الزلق عن الظفر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } [ 142 ] .
{ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ } أي : ابتلعه : { وَهُوَ مُلِيمٌ } أي : آت بما يلام عليه من السفر بغير أمر ربه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ } [ 143 ] .
{ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ } أي : الذاكرين الله بالتسبيح ، والإنابة ، والتوبة ، في بطن الحوت .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ 144 ] .
{ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي : لكان بطنه قبراً له إلى يوم القيامة ؛ أي : لكن رحمناه بتسبيحه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ } [ 145 ] .
{ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء } أي : حملنا الحوت على طرحه باليبس من الشط : { وَهُوَ سَقِيمٌ } أي : مما ناله من هذا المحبس الذي يأخذ بالخناق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ } [ 146 ] .
{ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ } أي : لتقيه من الذباب والشمس .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ 147 ] .
{ وَأَرْسَلْنَاهُ } أي : بعد ذلك ، بأن أمرناه ثانية بالذهاب : { إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } وهم قومه المرسل إليهم ، الذين أبق عن الذهاب إليهم أولاً ، و " أو " للإضراب , أو بمعنى الواو للشك بالنسبة إلى مرأى الناظر ؛ أي : إذا رآها الرائي قال : هي مائة ألف أو أكثر . والغرض الوصف بالكثرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [ 148 ] .
{ فَآمَنُوا } أي : فسار إليهم ودعاهم إلى الله ، وأنذرهم عذابه إن يرجعوا عن الكفر ، والغي ، والضلال ، والفساد ، والإفساد . فأشفقوا من إنذاره واستكانوا لدعوته وآمنوا معه : { فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } أي : حين انقضاء آجالهم بالعيش الهني ، والمقام الأمين ، ببركة الإيمان والعمل الصالح ، وإنما لم يختم قصته وقصة لوط بما ختم به سائر القصص من قوله : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ } الخ اكتفاء بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكورين في آخر السورة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ } [ 149 ] .
{ فَاسْتَفْتِهِمْ } أي : قريشا المنذرين بأنباء الرسل وقومهم : { أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ } أي سلهم عن وجه القسمة الضيزى التي قسموها . جعلوا لله الإناث ولأنفسهم الذكور ، في قولهم : الملائكة بنات الله . مع كراهتهم الشديدة لهن ، وأودهم واستنكافهم من ذكرهن .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ } [ 150 ] .
{ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ } أي : حاضرون ، حتى فاهوا بتلك العظيمة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ 151 ، 152 ] .
{ أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ } أي : صدر منه الولد ، مع أن الولادة من خواص الأجسام القابلة للفساد : { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي : في مقالتهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ } [ 153 ] .
{ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ } أي : اختار الإناث : { عَلَى الْبَنِينَ } أي : الذكور .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [ 154 ] .
{ مَا لَكُمْ } أي : أي : شيء عرض لعقولكم : { كَيْفَ تَحْكُمُونَ } بنسبة الناقص إلى المقام الأعلى ، وتخيرّكم الكامل .
لطيفة :
قال الزمخشري : قال قلت : { أَصْطَفَى الْبَنَاتِ } بفتح الهمزة ، استفهام على طريق الإنكار والاستبعاد ، فكيف صحت قراءة أبي جعفر بكسر الهمزة على الإثبات ؟ قلت : جعله من كلام الكفرة ، بدلاً عن قولهم : { وَلَدَ اللَّهُ } وقد قرأ بها حمزة والأعمش رضي الله عنهما . وهذه القراءة ، وإن كان هذا محملها ، فهي ضعيفة . والذي أضعفها أن الإنكار قد اكتنف هذه الجملة من جانبيها . وذلك قوله : { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } و : { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } فمن جعلها للإثباث ، فقد أوقعها دخيلة بين نسيبين . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } [ 155 ] .
{ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } أي : أنه منزه عن ذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ } [ 156 ] .
{ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ } أي : حجة واضحة وبرهان قاطع ، ثم لا يجوز أن يكون ذلك عقلياً ، لاستحالته عند الفعل ، فغايته أن يكون مأثوراً عن أسفار مقدسة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 157 ] .
{ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ } أي : المسطور فيه ذلك عن وحي سماوي : { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي : في دعواكم . وهذا كقوله تعالى : { أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ } [ الروم : 35 ] ، وفيه إشعار بأن المدار في الدعوى على البرهان البين ، وأنها بدونه لا يقام لها وزن .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } [ 158 ] .
{ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً } أي : قرباً منه . قال مجاهد : قال المشركون : الملائكة بنات الله تعالى . فقال أبو بكر رضي الله عنه : فمن أمهاتهن ؟ قالوا : بنات سروات الجن . وكذا قال قتادة وابن زيد ، ثم أشار إلى أن لا نسبة تقتضي النسب بوجه ما ، عدا عن استحالة ذلك عقلاً ، بقوله : { وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ } أي : المنسوب إليهم هذا النسب
{ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } أي : في النار يوم القيامة . لكون الجنة كالجن ، علماً في الأغلب للفرقة الفاسقة عن أمر ربها من عالم الشياطين , أي : فالمنسوب إليهم يتبرؤون من هذه النسبة ، لما يعلمون من أنفسهم أنهم من أهل السعير ، لا من عالم الأرواح الطاهرة ، فما بال هؤلاء المشركين يهرفون بما لا يعرفون ؟ وفسر بعضهم الجنة ، بالملائكة المحدّث عنها قبلُ . والضمير في إنهم ، للكفرة . ولعل ما ذكرناه أولى ، لخلوّه عن تشتيت الضمائر ، ولموافقته للأغلب من استعمال الجن والجنة . وذلك فيما عدا الملائكة . وقلنا الأغلب لما سمع من إطلاق الجن في الملائكة . قال الأعشى يذكر سليمان عليه السلام :
~وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلَاْئِكِ تَسْعَةً قِيَاْماً لَدَيْهِ يَعْمَلُوْنَ مَحَاْرِبَا
وقال الراغب : الجن يقال على وجهين : أحدهما للروحانيين المستترة عن الحواس كلها ، بإزاء الإنس . فعلى هذا تدخل فيه الملائكة . وقيل : بل الجن بعض الروحانيين ، وذلك أن الروحانيين ثلاثة : أخيار وهم الملائكة . وأشرار وهم الشياطين . وأوساط فيهم أخيار وأشرار ، وهم الجن ، ويدل على ذلك قوله تعالى : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ } [ الجن : 1 ] إلى قوله تعالى : { وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ } [ الجن : 14 ] . انتهى .
ورد إطلاق الجن على الملائكة العلامة الفاسي في " شرحه على القاموس " فقال : تفسير الجن بالملائكة مردود ؛ إذ خلق الملائكة من نور لا من نار كالجن . والملائكة معصومون ، ولا يتناسلون ولا يتّصفون بذكورة وأنوثة ، بخلاف الجن ؛ ولهذا قال الجماهير : الاستثناء في قوله تعالى : { إِلَّا إِبْلِيسَ } [ البقرة : 34 ] ، منقطع أو متصل . لكونه كان مغموراً فيهم ، متخلقاً بأخلاقهم . انتهى .
وهو يؤيد ما ذهبنا إليه ، وبيت الأعشى لا يصلح حجة ، لفساد مصداقه ؛ لأن سليمان لم تسخر الملائكة لتشيد له المباني ، وليس ذلك من عملهم عليهم السلام ، وقد مر الكلام على ذلك في تفسير سورة سبأ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ 159 ] .
{ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } أي : من الولد والنسب . وقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } [ 160 ] .
{ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } استثناء من المحضرين ، الذين هم الجنة ، متصل على القول الأول ، أي : المؤمنين منهم ، ومنقطع على الثاني ، أو استثناء منقطع من واو يصفون . هذا وبقي وجه في الآية لم يذكروه ، وهو أن يراد بالنسب المناسبة ، والمشاكلة في العبادة ، ويراد بالجنة الملائكة ، ويكون المراد من الآية الإخبار عمن عبد الملائكة من العرب وجعلوهم نداً ومِثلاً له تعالى ، وحكاية لضلال آخر لهم ، غير ضلال دعواهم ، أنهم بنات الله سبحانه ، من عبادتهم له ، مع أنهم عليهم السلام يعلمون أن هؤلاء الضالين محضرون في العذاب . والآية في هذا كآية : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [ سبأ : 40 - 41 ] ، وكان السياق من هنا إلى آخر ، كالسياق في طليعة السورة ، كله في تقرير عبودية الملائكة له تعالى ، وكونها من مخلوقاته الصافّة لعبادته ، فأنى تستحق الربوبية ؟ والله أعلم . وقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } [ 161 ] .
{ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } عود إلى خطابهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ } [ 162 ] .
{ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ } أي : مفسدين أحداً بالإغواء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ } [ 163 ] .
{ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ } أي : ضال مثلكم ، مستوجب للنار ، قال ابن جرير : يقول تعالى ذكره : فإنكم أيها المشركون بالله : { وَمَا تَعْبُدُونَ } من الآلهة والأوثان : { مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنينَ } أي : ما أنتم على ما تعبدون من دون الله بمضلين أحداً { إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ اَلْجَحِيم } أي : من سبق في علمي أنه صال الجحيم . وقد قيل : إن معنى عليه به . انتهى .
ثم بين تعالى اعتراف الملائكة بالعبودية ، للرد على عبدتهم ، بقوله حاكياً عنهم :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ 164 ] .
{ وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } أي : في العبودية وتسخيره فيما يريده تعالى منه . لا يتعدى فيه طوره ، ولا يجاوز منه قدره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ } [ 165 ] .
{ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ } أي : في أداء الطاعة ، ومنازل الخدمة التي نؤمر بها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ } [ 166 ] .
{ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ } أي : المنزهون الله عما يصفه به الملحدون ، أو المصلون له خشوعاً لعظمته ، وتواضعاً لجلاله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ } [ 167 ] .
{ وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ } أي : مشركو قريش .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنْ الْأَوَّلِينَ } [ 168 ] .
{ لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنْ الْأَوَّلِينَ } أي : كتاباً من الكتب التي نزلت عليهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } [ 169 ] .
{ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } أي : لأخلصنا العبادة له ، فجاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار ، والكتاب الذي هو أهدى الكتب والمعجز من بينها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [ 170 ] .
{ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } أي : عاقبة كفرهم . وهذا كقوله تعالى : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً } [ فاطر : 42 ] . وقوله تعالى : { أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا } [ الأنعام : 156 - 157 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } [ 171 ] .
{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } أي : وعدنا لهم الأزلي ، وهو :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ 172 ، 173 ] .
{ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا } أي : الرسل ومن آمن معهم : { لَهُمُ الْغَالِبُونَ } أي : الظاهرون على أعدائهم ، والمالكون لنواصيهم كقوله تعالى : { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ } [ 174 ] .
{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } أي : أعرض عنهم إعراض الصفوح الحليم عمن ينال منه . كقوله تعالى : { وَدَعْ أَذَاهُمْ } [ الأحزاب : 48 ] ، وقوله : { فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } [ الحجر : 85 ] ، { حَتَّى حِينٍ } أي : إلى استقرار النصر لك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } [ 175 ] .
{ وَأَبْصِرْهُمْ } أي : بصرهم وعرفهم عاقبة البغي والكفر ، وما نزل بمن أُنذر قبلهم ، أو أوضح لهم الدلائل والحجج في مجاهدتك إياهم بالقرآن والوحي ، فإن لم يبصروا الآن { فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } أي : ما قضينا لك من التأييد والنصرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } [ 176 ] .
{ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } أي : قبل حلول أجله ، وإنه لآت ، لأنه يوم الفتح الموعود به .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ } [ 177 ] .
{ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ } أي : بقربهم وفنائهم : { فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ } أي : فبئس الصباح صباح من أنذرتهم بالرسل فلم يؤمنوا ؛ لأنه يوم هلاكهم ودمارهم . قال الزمخشري : مثل العذاب النازل بهم ، بعد ما أنذروا فأنكروه ، بجيش أنذر بهجومه بعضُ نصاحهم فلم يلتفتوا إلى إنذاره ، ولا أخذوا أهبتهم ، ولا دبروا أمرهم تدبيراً ينجيهم ، حتى أناخ بفنائهم بغتة فشن عليهم الغارة ، وقطع دابرهم . وكانت عادة مغاويرهم أن يغيروا صباحاً . فسميت الغارة صباحاً ، وإن وقعت في وقت آخر . وما فصحت هذه الآية ولا كانت لها الروعة التي تحس بها ويروقك موردها على نفسك وطبعك ، إلا لمجيئها على طريقة التمثيل . انتهى . أي : فهي استعارة تمثيلية ، أو في الضمير استعارة مكنية ، والنزول تخييلية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } [ 178 ، 179 ] .
{ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } قال الزمخشري : إنما ثنى ذلك ليكون تسلية علي تسلية ، وتأكيداً لوقوع الميعاد إلى تأكيد . وفيه فائدة زائدة ، وهي إطلاق الفعلين معاً عن التقييد بالمفعول ، وإنه يبصر وهم يبصرون ما لا يحيط به من الذكر من صنوف المسرة ، وأنواع المساءة . وقيل : أريد بأحدهما عذاب الدنيا ، وبالآخر عذاب الآخرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ 180 ] .
{ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ } أي : المنعة ، والقدرة ، والغلبة : { عَمَّا يَصِفُونَ } أي : من الشريك ، والولد ، ونحوهما .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } [ 181 ] .
{ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } أي : سلام ، وأمان ، وتحية على المرسلين المبلغين رسالات ربهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 182 ] .
{ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : على نعمه ، التي أجلّها إرسال الرسل لإظهار أسمائه الحسنى وشرائعه العليا ، وإصلاح الأولى والأخرى .
فوائد في خواتم هذه السورة :
الأولى - روى ابن جرير عن الوليد بن عبد الله قال : كانوا لا يصفّون في الصلاة حتى نزلت : { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ } فصفوا . وقال أبو نضرة : كان عمر رضي الله عنه إذا أقيمت الصلاة استقبل الناس بوجهه ، ثم قال : أقيموا صفوفكم ، استقيموا قياماً ، يريد الله بكم هدى الملائكة . ثم يقول : { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ } تأخّر يا فلان ، تقدم يا فلان ، ثم يتقدم فيكبر . رواه ابن أبي حاتم وابن جرير .
وفي صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض مسجداً ، وتربتها لنا طهوراً > .
الثانية - روى الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال : صبّح رسول الله صلّى الله عليه وسلم خيبر . فلما خرجوا بفؤوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش ، رجعوا وهم يقولون : محمد والله ! محمد والخميس . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < الله أكبر خربت خيبر : إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين > . دلّ تمثله صلّى الله عليه وسلم بالآية على شمولها لعذاب الدنيا ، أولاً وبالذات .
الثالثة - قال ابن كثير : لما كان التسبيح يتضمن التنزيه ، والتبرئة من النقص ، بدلالة المطابقة ، ويستلزم إثبات الكمال ، كما أن الحمد يدل على إثبات صفات الكمال المطلق مطابقة ، ويستلزم التنزيه من النقص - قرن بينهما في هذا الموضع ، وفي مواضع كثيرة من القرآن ، ولهذا قال تبارك وتعالى : { سُبْحَانَ رَبِّكَ } الآيات .
الرابعة - روى ابن [ أبي ] حاتم عن الشعبي مرسلاً : < من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة ، فليقل آخر مجلسه ، حين يريد أن يقوم : { سُبْحَانَ رَبِّكَ } - الآيات - > .
وروي أيضاً عن علي موقوفاً .
وأخرج الطبراني عن زيد بن أرقم مرفوعاً : < من قال دبر كل صلاة : { سُبْحَانَ رَبِّكَ } الآيات ، ثلاث مرات ، فقد اكتال بالجريب الأوفى من الأجر > .
وقد بين الرازي أن خاتمة هذه السورة الشريفة جامعة لكل المطالب العالية . فارجع إليه .(/)
سورة ص
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } [ 1 ] .
{ ص } بالسكون على الوقف . وقرئ بالكسر والفتح . اسم للسورة ، على القول المتجه عندنا ، فيه وفي نظائره ، لما قدمنا غير ما مرة . وقيل : قسم رمزي ، وإليه نحا المهايمي . قال : أقسم الله سبحانه وتعالى بصدق محمد صلّى الله عليه وسلم الذي اعترف به الكل في غير دعوى النبوة ، حتى صدقه أهل الكتابين في إخباره عن الغيوب ، الدال على الصدق في دعوة النبوة ، أو بصفائه عن رذائل الأخلاق ، وقبائح الأفعال الدال على صفائه عن نقيصة الكذب ، أو بصعوده في مدارج الكمالات ، الدال على صعوده في مدارج القرب من الله ، أو بصبره الكامل هو لوازم الرسالة على أنه رسول . انتهى .
{ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْر } أي : الشرف الدال على حقيقته وصدقه ، أو التذكير ، كآية : { لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } [ الأنبياء : 10 ] ، والجواب محذوف لدلالة السياق عليه ؛ أي : أنه لحق . وقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } [ 2 ] .
{ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ } أي : كبر : { وَشِقَاقٍ } أي : عداوة للحق ، والإذعان له . إضراب عما قبله ، كأنه قيل : لا ريب فيه قطعاً ، وليس عدم إيمان الكفرة به لشائبة ريبٍ مما فيه ، بل هم في حميّة جاهلية ، وشقاق بعيد لله ولرسوله ؛ ولذلك لا يذعنون له . وقيل : الجواب ما دل عليه الجملة الإضرابية ؛ أي : ما كفر به من كفر لخلل وجده فيه { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } ثم أوعدهم على شقاقهم بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ } [ 3 ] .
: { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ } أي : لكبرهم عن الحق ، ومعاداتهم لأهله : { فَنَادَوْا } أي : فدعوا واستغاثوا : { وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ } أي : وليس الحين حين فرار ، ومهرب ، ومنجاة . والكلام على " لات " ، وأصلها ، وعملها ، والوقف عليها ، ووصل التاء بها ، أو فصلها عنها ، مبسوط في مطولات العربية ، وفي معظم التفاسير هنا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ 4 ، 5 ] .
{ وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ } أي : رسول : { مِّنْهُمْ } أي : من أنفسهم ، يعني النبي صلّى الله عليه وسلم : { وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } أي : بليغ في العجب ، وذلك لتمكن تقليد آبائهم في نفوسهم ، ورسوخه في أعماق قلوبهم ، ومضي قرون عديدة عليه ، وإلفهم به وأنسهم له ، حتى ران على قلوبهم ، وغشي على أبصارهم ، ونسي باب النظر والاستدلال . بل محي بالكلية من بينهم . وصار عندهم من أبطل الباطل ، وأمحل المحال .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } [ 6 ] .
{ وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ } أي : الأشراف من قريش يحضّون بعضهم على التمسك بالوثنية ، ويتواصون بالصبر على طغيانهم قائلين : { أَنِ امْشُوا } أي : في طريق آبائكم : { وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ } أي : عبادتها مهما سمعتم من تسفيه أحلامنا ، وتفنيد مزاعمنا : { إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } تعليل للأمر بالصبر ؛ أي : يراد منا إمضاؤه وتفنيده لا محالة ؛ أي : يريده محمد من غير صارف يلويه ، ولا عاطف يثنيه ، لا قول يقال من طرف اللسان . أو المعنى : إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد منا ، أي : بنا ، فلا انفكاك لنا عنه ، وما لنا إلا الاعتصام عليه بالصبر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ } [ 7 ] .
{ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ } أي : ما سمعنا بهذا التوحيد الذي ندعى إليه في ملة النصارى ؛ لأنهم مثلثة غير موجودة ، أو في ملة قريش التي أدركنا عليها آباءنا : { إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ } أي : ما هذا التوحيد إلا فرية محضة ، لا مستند له سوى هذا الذكر بزعمهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ } [ 8 ] .
{ أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا } أي : مع أن فينا من هو أثرى وأعلى رياسة . قال الزمخشري : أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم ورؤسائهم ، وينزل عليه الكتاب من بينهم ، كما قالوا : { وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] ، وهذا الإنكار ترجمة عما كانت تغلي به صدورهم من الحسد ، على ما أوتي من شرف النبوة من بينهم : { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي } إضراب عن مقدر ؛ أي : إنكارهم للذكر ليس عن علم ، بل هم في شك منه ، يقولون في أنفسهم : إما وإمّا : { بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ } أي : على الإنكار . فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الشك ، والحسد ، وصدّقوا وتصديقهم لا ينفعهم حينئذ ؛ لأنهم صدقوا مضطرين .
قال الناصر في " الانتصاف " : ويؤخذ منه أن : { لَمَّا } لائقة بالجواب . وإنما ينفى بها فعل يتوقع وجوده ، كما يقول سيبويه ، وفرق بينها وبين " لَمْ " ، بأن لم : نفي لفعل يتوقع وجوده لم يقبل مثبته ، قد . ولما : نفي لما يتوقع وجوده أُدخل على مثبته ، قد .
وقال : إنما ذكرت ذلك لأني حديث عهد بالبحث في قوله عليه الصلاة والسلام : < الشفعة فيما لم يقسم > . فإني استدللت به على أن الشفعة خاصة بما يقبل القسمة . فقيل لي : إن غايته أنه أثبت الشفعة فيما نفى عنه القسمة ، فإما لأنها لا تقبل قسمة ، وإما أنها تقبل ولم تقع القسمة ، فأبطلت ذلك بأن آلة النفي المذكورة لم ، ومقتضاها ، قبول المحل الفعل المنفي وتوقع وجوده . ألا تراك تقول : الحجر لا يتكلم . ولو قلت : الحجر لم يتكلم . لكان ركيكاً من القول ؛ لإفهامه قبوله للكلام . انتهى . وهو لطيف جيد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ } [ 9 ] .
{ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ } أي : حتى يتخيروا لنبوة ما تهوى أنفسهم . كلا : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } [ القصص : 68 ] ، { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ } [ 10 ] .
{ أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ } أي : فليصعدوا في المراقي التي توصلهم إلى السماء ، وليتحكموا بما شاءوا في الأمور الربانية ، والتدابير الإلهية .
روى ابن جرير بسنده عن الربيع بن أنس قال : الأسباب أدق من الشعر ، وأشد من الحديد ، وهو بكل مكان ، غير أنه لا يرى . انتهى .
وهذا البيان ينطبق على ما يعرّف به الأثير الموجود في أجزاء الخلاء المظنون أنها فارغة . فتأمل .
ثم قال ابن جرير : وأصل السبب عند العرب ، كل ما تسبب به إلى الوصول إلى المطلوب من حبل ، أو وسيلة ، أو رحم ، أو قرابة ، أو طريق ، أو محجة ، وغير ذلك . انتهى .
وقال المهايمي : أي : فليصعدوا في الأسباب التي هي معارج الوصول إلى العرش ، ليستووا عليه ، فيدبروا العالم ، وينزلوا الوحي على من شاءوا . وأنى لهم ذلك ؟ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ } [ 11 ] .
{ جُندٌ مَّا } أي : هم جند حقير : { هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ } أي : الذين كانوا يتحزبون على الأنبياء قبلك ، وأولئك قد قهروا وأهلكوا . وكذا هؤلاء . فلا تبال بما يقولون ، ولا تكترث لما به يهذون . و : { هُنَالِكَ } إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل هذا القول ، فهو مجاز . وجوز أن يكون حقيقة ، للإشارة إلى مكان قولهم وهو مكة . قال قتادة : وعده الله وهو بمكة يومئذ ، أنه سيهزم جنداً من المشركين . فجاء تأويلها يوم بدر . وقال ابن كثير : هذه الآية كقوله جلت عظمته : { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } [ القمر : 44 - 45 ] . وكان ذلك يوم بدر ، وفي الآية أوجه من الإعراب أشار له السمين بقوله : { جُندٌ } يجوز فيه وجهان :
أحدهما - وهو الظاهر - أنه خبر مبتدأ ، أي : هم جند . و : { مَّا } فيها وجهان ، أحدهما - أنه مزيدة . والثاني أنها صفة لـ : جند ، على سبيل التعظيم ، للهزء بهم ، أو للتحقير . فإن ما ، إذا كانت صفة تستعمل لهذين المعنيين . و : { هُنَالِكَ } يجوز فيه ثلاثة أوجه : أحدها - أن يكون خبراً لـ : جند . وما : مزيدة و : { مَهْزُومٌ } نعت لـ : جند . والثاني - أن يكون صفة لـ : جند . الثالث - أن يكون منصوبا بـ : مهزوم . و : { مَهْزُومٌ } يجوز فيه أيضاً وجهان : أحدهما - أنه خبر ثان لذلك المبتدأ المقدر ، والثاني أنه صفة لـ : جند . و : { هُنَالِكَ } مشارٌ به إلى موضع التقاول ، والمحاورة بالكلمات السابقة ، وهو مكة ؛ أي : سيهزمون بمكة ، وهو إخبار بالغيب . وقيل : مشار به إلى نصرة الإسلام . وقيل : إلى حفر الخندق ، يعني إلى مكان ذلك .
الثاني - من الوجهين الأولين - أن يكون جند : مبتدأ ، وما : مزيدة و : { هُنَالِكَ } نعت و : { مَهْزُومٌ } خبره . وفيه بعد ، لتفلّته عن الكلام الذي قبله . انتهى .
فائدة :
روى ابن عباس في هذه الآية أنه لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش ، فيهم أبو جهل ، فقالوا إن ابن أخيك يشتم آلهتنا , ويفعل ويفعل , ويقول ويقول ، فلو بعثت إليه فنهيته ! فبعث إليه . فجاء النبي صلّى الله عليه وسلم فدخل البيت ، وبينهم ، وبين أبي طالب قدر مجلس رجل . قال فخشي أبو جهل - لعنه الله - إن جلس إلى جنب أبي طالب ، أن يكون أرق له عليه . فوثب فجلس في ذلك المجلس . ولم يجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم مجلساً قرب عمه ، فجلس عند الباب ، فقال له أبو طالب : أي : ابن أخي ! ما بال قومك يشكونك ! يزعمون أنك تشتم آلهتهم , وتقول وتقول , قال ، وأكثروا عليه من القول . وتكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال : < يا عم ! أريدهم على كلمة واحدة يقولونها , تدين لهم بها العرب ، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية > . ففزعوا لكلمته ولقوله . فقال القوم : كلمة واحدة ؟ نعم ، وأبيك عشراً . فقالوا : وما هي ؟ وقال أبو طالب : وأي كلمة هي يا ابن أخي ؟ قال صلّى الله عليه وسلم : < لا إله إلا الله > . فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون : { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } ونزلت الآية . رواه ابن جرير ، والإمام أحمد ، والنسائي ، والترمذي وحسنه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ } [ 12 ] .
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ } أي : قبل قريش : { قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ } وهم قوم هود : { وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ } أي : الملك الثابت . وأصله البيت المطنّب ، أي : المربوطة أطنابه - أي : حباله - بأوتاده ، استعير للملك استعارة تصريحية ، وصف به فرعون مبالغة بجعله عين ملكه ، أو شبه فرعون في ثبات ملكه بذي بيت ثابت ، أقيم عموده ، وثبتت أوتاده . على طريق الاستعارة المكنية ، وأثبت له ما هو من خواصه تخييلاً ، وهو قوله : { ذُو الْأَوْتَادِ } فإنه لازم له ، أو هو كناية ، حيث أطلق اللازم ، وأريد الملزوم ، وهو الملك الثابت ، وقد جاء هذا في قول الأسود من شعراء الجاهلية :
~وَلَقَدْ غَنُوْا فِيْهَاْ بِأَنْعَمِ عِيْشَةٍ فِيْ ظِلِّ مُلْكٍ ثَاْبِتِ الْأَوْتَاْدِ
أو المعنى : ذو الجموع الكثيرة ، سمّوا بذلك لأن بعضهم يشد بعضاً ، كالوتد يشد البناء . فالاستعارة تصريحية في الأوتاد ، أو هو مجاز مرسل للزوم الأوتاد للجند ، أو هو على حقيقته ، والمراد المباني العظيمة ، والهياكل الثابتة الفخيمة ، واللفظ صادق في الكل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الْأَحْزَابُ } [ 13 ] .
{ وَثَمُودُ } وهم قوم صالح : { وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ } أي : الغيضة ، وهم قوم شعيب : { أُوْلَئِكَ الْأَحْزَابُ } أي : الكفار المتحزبون على رسلهم ، الذين جعل الجند المهزوم منهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } [ 14 ] .
{ إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } أي : فوجبت عليهم عقوبتي . قال الشهاب : { إِن } نافية و : { كُلٌّ } محذوف الخبر . والتفريغ من أعم العام ؛ أي : ما كل أحد مخبر عنه بشيء ، إلا مخبر عنه بأنه كذب جميع الرسل ؛ لأن الرسل يصدق كل منهم الكل . فتكذيب واحد منه تكذيب للكل ، أو على أنه من مقابلة الجمع بالجمع ، فيكون كل كذب رسوله ، أو الحصر مبالغة ، كأن سائر أوصافهم بالنظر إليه ، بمنزلة العدم . فهم غالبون فيه . انتهى .
وقال الزمخشري : وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه ، والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أولاً ، والاستثنائية ثانياً . وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص - أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشد العقاب وأبلغه .
وزاد الناصر فائدة أخرى للتكرير : وهي أن الكلام لما طال بتعديد آحاد المكذبين ، ثم أريد ذكر ما حاق بهم من العذاب جزاء لتكذيبهم ، كرّر ذلك مصحوباً بالزيادة المذكورة ، ليلي بقوله [ في المطبوع : ليلييقوله ] تعالى : { فَحَقَّ عِقَابِ } على سبيل التطرية المعتادة عند طول الكلام ، وهو كما قدمته في قوله : { وَكُذِّبَ مُوسَى } [ الحج : 44 ] ، حيث كرر الفعل ليقترن بقوله : { فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ } [ الحج : 44 ] . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } [ 15 ] .
{ وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء } أي : أهل مكة : { إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً } أي : أخذة واحدة بعذاب بئيس . يقال : صاح الزمان بهم ، إذا أهلكوا . كما قال :
~صَاْحَ الزَّمَاْنُ بِآَلِ بَرْمَكَ صَيْحَةً خَرُّوْا لِشِدَّتِهَاْ عَلَى الْأَذْقَاْنِ
وأصله من الغارة إذا عافصت القوم فوقعت الصيحة فيهم : { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } أي : من توقف مقدار فواق ، وهو ما بين الحلبتين ، أو رجوع وترداد ؛ فإنه فيه يرجع اللبن إلى الضرع فـ : فواق ، إما بحذف مضافين ، أو مجاز مرسل بذكر الملزوم وإرادة لازمه . وقرئ بالضم ، وهما لغتان . وقيل : المفتوح اسم مصدر من : أفاق المريض ، إفاقة وفاقة ، إذا رجع إلى الصحة ، والمضموم اسم ساعة رجوع اللبن للضرع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } [ 16 ] .
{ وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا } أي : نصيبناً من العذاب الذي وعدته ، كقوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ } [ الحج : 47 ] و [ العنكبوت : 53 و 54 ] ، { قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } أي : الجزاء ، وقولهم ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية ، كما قص عنهم نظائره في عدة آيات .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ 17 ] .
{ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } أي : فقد وعدت بالنصر ، والظفر ، والملك ، والتأييد ، كما أوتي داود عليه السلام ، مما سارت به الأمثال ؛ ولذا قال تعالى : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ } أي : القوة ؛ أي : الاجتهاد في أداء الأمانة ، والتشدد في القيام بالدعوة ، ومجانبة إظهار الضعف والوهن : { إِنَّهُ أَوَّابٌ } أي : رجّاع إليه تعالى بالإنابة ، والخشية ، والعبادة ، والصيام .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } [ 18 - 19 ] .
{ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ } أي : تبعاً لتسبيحه : { بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً } أي : مجموعة عنده يسبحن معه : { كُلٌّ لَّهُ } أي : لله تعالى : { أَوَّابٌ } أي : مطيع منقاد ، يرجع بتسبيحه وتقديسه إليه .
قال ابن كثير : أي : أنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار . كما قال عز وجل : { يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ } [ سبأ : 10 ] ، وكذلك كانت الطير تسبح بتسبيحه وترجع بترجيعه ، إذا مر به الطير وهو سابح في الهواء ، فسمعه وهو يترنم بقراءة الزبور لا يستطيع الذهاب . بل يقف في الهواء ويسبح معه ، وتجيبه الجبال الشامخات ترجّع معه ، وتسبح تبعاً له . انتهى . أي : بأن خلق فيها حياةً ونطقاً ، أو كان له عليه السلام من شدة صوته الحسن دوي في الجبال ، وحنين من الطيور إليه ، وترجيع ، وقد عهد من الطير القمري أنه ينتظر سكتة المصوّت ، والقارئ بصوت حسن ، أو المنشد ، فيجيبه ، والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } [ 20 ] .
{ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } أي : قويناه بوفرة العَدد والعُدد ، ونفوذ السلطة ، وإمداده بالتأييد والنصر : { وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ } أي : النبوة ، أو الكلام المحكم المتضمن للمواعظ والأمثال ، والحض على الأداب ، ومكارم الأخلاق ، وكان زبوره عليه السلام ، كله حكماً غرراً : { وَفَصْلَ الْخِطَابِ } أي : فصل الخصام بتمييز الحق من الباطل ، ورفع الشبه ، وإقامة الدلائل ، وكان يقيم بذلك العدل الجالب محبة الخلائق ، ولا يخالفه أحد من أقاربه ، ولا من الأجانب .
ثم ذكر تعالى من حكمته عليه السلام وقضائه الفصل ، وشدة خوفه وخشيته مع ذلك ، ما قصه بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } [ 21 ] .
{ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } أي : ولجوه . والمحراب مقدم كل بيت وأشرفه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ } [ 22 ] .
{ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ } أي : منا . فلسنا فاتكين وإنما نحن
{ خَصْمَانِ } أي : شخصان متخاصمان تحاكمنا إليك : { بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ } أي : تعدى : { فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ } أي : بما يطابق أمر الله : { وَلَا تُشْطِطْ } أي : ولا تبعد عن الحق أو تجاوزه : { وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ } أي : بحيث لا تميل عن الحق أصلاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } [ 23 ] .
{ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } أي : أنثى من الضأن : { وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ } أي : فلم ينظر إلى غناه عنها ، ولا إلى افتقاري إليها ، بل أراد التغلب عليّ : { فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا } أي : ملكنيها ، بمعنى اجعلني كافلها كما أكفل ما تحت يدي . أو بمعنى اجعلها كفلي أي : نصيبي : { وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } أي : غلبني في المكالمة .(/)
ْالقول في تأويل قوله تعالى:
[ 24 ]{ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}
[ 25 ]{ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ }
{ قال } أي داود { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ } أي طلب نعجتك التي أنت أحوج إليها ليضمها { إِلَى نِعَاجِهِ } أي مع استغنائه عن هذا الضم { وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ } أي الإخوان الأصدعاء المتخالطين في شئونهم { لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } أي بغى الأعداء مع أن من واجب حقهم النصفة على الأقل، إن لم يقوموا بفضيلة الإيثار { إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي فإنهم لا يبغون { وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } أي وهم قليل . و ( ما ) مزيدة للإبهام والتعجيب من قلتهم.
قال الشهاب : فيه مبالغة من وجوه : وصفهم بالقلة ، وتنكير ( قليل ) وزيادة ( ما ) الإبهامية . والشيء إذا بولغ فيه كان مظنة للتعجب منه ، فكأنه قيل : ما أقلهم .
وفي قضائه عليه السلام هذا ، من الحكمة وفصل الخطاب ما يهيج الأفئدة ويقر عين المغبون . ذلك صدع بالحق أبلغ صدع فجهر بظلم خصمه وبغيه جهرا لا محاباة فيه ولا مواربة فأقر عين المظلوم . وعرف الباغي ظلمه وحيفه ، وأن سيف العدل والإنصاف فوقه . ثم نفس عن قلب المظلوم البائس ، وروح عن صدره بذكر ما عليه الأكثر من هذه الخلة - خلة البغي و عدم الإنصاف - مع الخلطة و الخلة، ليتأسى و يتسلى كما قيل ( إن التأسي روح كل حزين ) ثم أكد الأمر بقلة القائمين بحقوق الأخوة ، ممن آمن و عمل صالحا ، فكيف بغيرهم ؟ وكلها حكم وغرر ودرر ، حقائق تنطبق علي أكثر هذا السواد الأعظم من الناس ، الذين يدعون المحبة، والصداقة. و لعظم شأن حقوق المحبة أسهب في آدابها علماء الأخلاق ، إسهابا نوعوا فيه الأبواب ، ولونو فيه الفصول . و مع ذالك لا تزال الشكوى عامة . و قد امتلأت من منظومها و منثورها كتب الأدب ، كما لا يخفى على من له إلمام به . و بالله التوفيق { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } أي ابتليناه بتلك الحكومة {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ . فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } أي ما استغفر منه { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى } أي لقربا { وَحُسْنَ مَآَبٍ } أي مرجعا حسنا و كرامة في الآخرة .
تنبيهات :
الأول - للمفسرين في هذا النبأ أقوال عديدة و وجوه متنوعة . مرجعها إلى مذهبين : مذهب من يرى أنها تشير تعريضا إلى وزر ألم به داود عليه السلام ثم غفر له . و مذهب من يرى أنها حكومة في خصمين لا إشعار له بذالك . فممن ذهب إلى الأول ابن جرير . فإنه قال : هذا مثل ضربه الخصم المتسورون على داود محرابه . و ذلك أن داود كانت له ، فيما قيل ، تسع و تسعون امرأة. و كانت للرجل الذي أغزاه حتى قتل امرأة واحدة . فلما قتل نكح ، فيما ذكر ، داود امرأته . ثم لما قضى للخصمين بما قضى ، علم أنه ابتلي . فسأل غفران ذنبه و خر ساجدا لله و أناب إلى رضا ربه ، و تاب من خطيئته . هذا ما قاله ابن جرير . ثم أسند قصته مطولة من روايات عن ابن عباس و السدي و عطاء و الحسن و قتادة و وهب و مجاهد . و من طريق عن أنس مرفوعا . و يشبه سياق بعضها ما ذكر في التوراة المتداولة الآن .
قال السيوطي في (الإكليل) : القصة التي يحكونها في شأن المرأة ، و أنها أعجبته، وأنه أرسل زوجها مع البعث حتى قتل ، أخرجها ابن أبي حاتم من حديث أنس مرفوعا . و في إسناده ابن لهيعة ، و حاله معروف ، عن ابن صخر عن يزيد الرقاشي و هو ضعيف . و أخرجها من حديث ابن عباس موقوفا . انتهى .
أقول : أما المرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم فيها ، فلم يأت من طريق صحيح . , أما الموقوف من ذلك على الصحب و الأتباع رضي الله عنهم ، فمعولهم في ذلك ما ذكر في التوراة من هذا النبأ ، أو الثقة بمن حكي عنها . و ينبني على ذلك ذهابهم إلى تجويز مثل هذا على الأنبياء . و قد ذهبت طائفة إلى تجويز ما عدا الكذب في التبليغ . كما فصل في مطولات الكلام .
قال ابن حزم رحمه الله : و هو قول الكرامية من المرجئة ، و ابن الطيب الباقلاني من الأشعرية ، و من اتبعه ، و هو قول اليهود و النصارى . ثم رد هذا القول ، رحمه الله ، ردا متينا .
و أما المذهب الثاني ، فهو ما جزم به ابن حزم في ( الفصل) و عبارته : ما حكاه تعالى عن داود عليه السلام قول صادق صحيح ، لا يدل على شيء مما قاله المستهزئون الكاذبون المتعلقون بالخرافات ولدها اليهود . و إنما كان ذاك الخصم قوما من بني آدم ، بال شك ، متخصمين في نعاج من الغنم على الحقيقة بينهم . بغى أحدهم على الآخر على نص الآية . و من قال إنهم كانوا ملائكة معرضين بأمر النساء ، فقد كذب على الله عز و جل ، و قوله ما لم يقل ، و زاد في القرآن ما ليس فيه ، و كذب الله عز و جل و أقر على نفسه الخبيثة ، أنه كذب الملائكة . لأن الله تعالى يقول ( و هل أتاك نبؤا الخصم ) فقال هو : لم يكونوا قط خصمين، و لا بغى بعضهم على بعض ، و لا كان قط لأحدهما تسع و تسعون نعجة ، و لا كان للآخر نعجة واحدة ، و لا قال له أكفلنيها . فأعجبوا . لم يقحمون فيه الباطل أنفسهم ؟ و نعوذ بالله من الخذلان . ثم كل ذلك بلا دليل ، بل الدعوى المجردة . و تالله ! إن كل امرىء منا ليصون نفسه و جاره المستور عن أن يتعشق امرأة جاره , ثم يعرض زوجها للقتل عمدا ، ليتزوجها . و عن أن يترك صلاته لطائر يراه . هذه أفعال السفهاء المتهوكين الفساق المتمردين . لا أفعال أهل البر والتقوى. فكيف برسول الله داود عليه السلام الذي أوحى إليه كتابه وأجرى على لسانه كلامه ؟ لقد نزهه الله عز وجل عن أن يمر مثل هذا الفحش بباله . فكيف أن يستضيف إلى أفعاله ؟ وأما استغفاره وخروره ساجداً ، ومغفرة الله له ، فالأنبياء عليهم السلام أولى الناس بهذه الأفعال الكريمة . والاستغفار فعل خير لا ينكر من ملك ولامن نبي . ولا من مذنب ولا من غير مذنب . فالنبي يستغفر الله لمذنبي أهل الأرض . والملائكة كما قال الله تعالى ( وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ) . وأما قوله تعالى عن داود عليه السلام ( وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ) فقد ظن داود عليه السلام أن يكون ما آتاه الله عز وجل من سعة الملك العظيم فتنة . فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو في أن يثبت الله قلبه على دينه . فاستغفر الله تعالى من هذا الظن ، فغفر الله تعالى له هذا الظن . إذ لم يكن ما آتاه الله تعالى من ذلك فتنة . انتهى كلام ابن حزم ، وهو وقوف على ظاهر الآية ، مجردًا عن إشارة وإيماء .
وقال البرهان البقاعي في ( تفسيره ) : وتلك القصة و أمثالها من كذب اليهود .
ثم قال : وأخبرني بعض من أسلم منهم أنهم يتعمدون ذلك في حق داود عليه السلام لأن عيسى عليه السلام من ذريته ، ليجدوا سبيلا إلى الطعن فيه . انتهى.
ثم قال : وقوله تعالى (فَغَفَرْنَا لَهُ َذَلِكَ ) أي الوقوع في الحديث عن إسناد الظلم إلى أحد بدون سماع لكلامه . وهذه الدعوى تدريب لداود عليه السلام في الأحكام . وذكرها للنبي - صلى الله عليه وسلم - تدريب له في الأناة في جميع أموره على الدوام ز ولما ذكر هذا ، ربما أوهم شيئا في مقامه - صلى الله عليه وسلم - ، فدفعه بقوله ( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ ) فالقصة لم يجر ذكرها إلا للترقية في رتب الكمال . وأول دليل على ما ذكرته ، أن هذه الفتنة إنما هي بالتدريب في الكحم ، لا بامرآة ولا غيرها . وأن ما ذكروه من قصة المرأة باطل وإن اشتهر . فكم من باطل مشهور ، ومذكور ، هو عين الزور . انتهى.
وقال ابن كثير : قد ذكر المفسرون ههنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات . ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه . ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده ، لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه . ويزيد ، وإن كان من الصالحين، لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة . الأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة ، وأن يرد علمها إلى الله عز وجل . فإن القرآن حق ، وما تضمن فهو حق أيضا . انتهى.
وقال القاضي عياص في (الشفا) : وأما قصة داود عليه السلام ، فلا يجب أن يلتفت إلى ما سطره فيها الإخباريون على أهل الكتاب الذين بدلوا و غيروا ، ونقله بعض المفسرين ولم ينص الله على شيء من ذلك ، ولا ورد في حديث صحيح . و الذي نص الله عليه قوله ( وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ) و قوله فيه ( أوَّابٌ ) فمعنى ( فتنَّاهُ ) أي اختبرناه . و ( أوَّابٌ ) قال قتادة : مطيع . وهذا التفسير أولى . قال ابن عباس وابن مسعود : ما زاد داود على أن قال للرجل : انزل عن امرأتك و أكفلنيها . فعاتبه الله على ذلك ونبهه عليه . وأنكر عليه شغله بالدنيا. وهذا هو الذي ينبغي أي يعول عليه من أمره. وقد قيل خطبها على خطبته ، وقيل: بل أحب بقلبه أن يستشهد. وحكى السمرقندي أن ذنبه الذي استغفر منه قوله ( لَقَدْ ظَلَمَكَ ) فظلمه بقول خصمه. وقيل: بل لما خشيه على نفسه، وظن من الفتنة بما بسط له من الملك والدنيا. وإلى نفى ما أضيف في الأخبار إلى داود من ذلك ذهب أحمد بن نصر و أبو تمام ، وغيرهما من المحققين . قال الداودي: ليس في قصة داود وأوريا خبر يثبت. ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم. وقيل: إن الخصمين اللذين اختصما إليه، رجلان في نتاج غنم على ظاهر الآية . وقيل: بل لما خشي على نفسه وظن من الفتنة لما بسط له من الملك والدنيا. انتهى.
وقال ابن القيم في أواخر كتابه ( الجواب الكافي ) في مباحث العشق : وقد أرشد - صلى الله عليه وسلم - المتحابين إلى النكاح. كما في سنن ابن ماجه مرفوعًا: لم ير للمتحابَّين مثل النكاح. ونكاحه لمعشوقه هو دواء العشق الذي جعله الله دواءه شرعا وقدرا. وبه تواوى نبي الله داود عليه السلام ولم يرتكب نبي الله محرما. وإنما تزوج المرأة وضمها إلى نسائه لمحبته لها. وكانت توبته بحسب منزلته عند الله وعلو مرتبته. ولا يليق بنا المزيد على هذا. انتهى.
وهذا منه تسليم ببعض القصة لا تمامها . وهو من الأوال فيها.
وأما دعوى بعضهم أن التوراة تعد داود ملكا حكيما، لا نبيا ، بدليل ذكره في أسفار الملوك منها، وما فيها من أنه بعث إليه نبي يقال له قاشان، ضرب له المثل المذكور فدعوى مردودة من وجوه:
منها أن الاستدلال بالتوراة التي بين أيديهم في إهباتٍ أو نفي لا يعول عليه. كيف لا؟ وقد أوتينا بيضاء نقية محفوظة من التغيير والتبديل بحمده تعالى. ومنها أن نبوة داود عليه السلام لا خلاف فيها عند المسلمين، فلا عبرة بخلاف غيرهم.
ومنها أنه لا مانع أن تجتمع النبوة والملك لمن أراده الله واصطفاه. وقد فعل ذلك بداود وسليمان عليهما السلام.
ومنها أنه لا حاجة في كتابنا الكريم أن يتمم بما جاء في غيره، أو يحاول رده إلى سواه من الكتب ، أو هي إليه ، لاستغنائه بنفسه. بل وكونه مهيمنا على سائر الكتب ، كما أخبر الله تعالى عنه. فليتأمل ذلك. والله أعلم.
وقد روي أن عمر بن عبد العزيز حدًّث بنبأ داود على ما يرويه القصاص، وعنده رجل من أهل الحق. فكذب المحدث به ، وقال : إن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها سترا على نبيه، فما ينبغي إظهارها عليه. فقال عمر: لسماعي هذا الكلام ، أحب إلى مما طلعت عليه الشمس . نقله الزمخشري.
قال الناصر في ( الانتصاف ): وقد التزم المحققون من أئمتنا أن الأنبياء عليهم الصلاة و السلام، داود وغيره ، منزهون من الوقوع في صغائر الذنوب، مبرءون من ذلك، والتمسوا المحامل الصحيحة لأمثال هذه القصة. وهذا هو الحق الأبلج ، والسبيل الأبهج ، إن شاء الله تعالى . انتهى.
التنبيه الثاني: قال ابن الفرس: في هذه القصة دليل على جواز القضاء في ا لمسجد ( أي لظاهر المحراب. إلا أنه ليس نصًّا في محراب المسجد ) والتلطف في رد الإنسان عن المكروه صنعه . وأنه لا يؤاخذ بعنف ما أمكن. وجواز المعاريض من القول.
قال الزمخشري: وإنما جاءت على طريقة التمثيل والتعريض، دون التصريح ، لكونها أبلغ في التوبيخ . من قبل أن المتأمل إذا أداه إلى الشعور بالعرض به ، كان أوقع في نفسه و أشد تمكنا من قلبه، وأعظم أثرا فيه ، وأجلب لاحتشامه وحيائه ، وأدعى إلى التنبيه على الخطأ فيه ، من أن يباده به صريحا ، مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة . ألا ترى إلى الحكماء ؟ كيف أوصوا في سياسة الولد ، إذا وجدت منه منة منكرة ، بأن يعرض له بإنكارها عليه، ولا يصرح. وأن تحكى له حكاية ملاحظة لحاله، إذا تأملها استسمج حال صاحب الحكاية، فاستسمج حال نفسه. وذلك أزجر له. لأنه ينصب ذلك مثالا لحاله، ومقياسا لشأنه. فتصور قبح ما وجد منه بصورة مكشوفة . مع أنه أصون لما بين الوالد و الولد من حجاب الحشمة.
الثالث: قال ابن مسعود في قوله تعالى ( إنَّ هَذَا أَخِي ): أي على ديني . أخرجه ابن أبي حاتم . فقيه جواز إطلاق ( الأخ ) على غير المناسب . واستدل بقوله تعالى ( وَخَرَّ رَاكِعًا ) من أجاز التعويض عن سجود التلاوة بركوع. والأكثرون على أن الركوع هنا مجاز مرسل، عن السجود . لأنه لإفضائه إليه ن جعل كالسبب، ثم تجوز به عنه . أو هو استعارة له، لمشابهته له في الانحناء والخضوع.
الخامس: قال ابن كثير: اختلف الأئمة في سجدة ( ص ) هل هي من عزائم السجود ؟ على قولين: أحدهما أنها ليست من العزاغئم ، بل هي سجدة شكر . لما روى عن ابن عباس رشي الله عنهما أنه قال: إنها ليست من عزائم السجود ، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها ، رواه أحمد و البخاري وأصحاب السنن. وعنه أنه قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في ( ص ) وقال: سجدها داود عليه الصلاة والسلام توبة، ونسجدها شكرا، تفرد به النسائي وعن أبي سعيد الخدري رشي الله عنه قال : قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر (ص) فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه. فلما كان يوم آخر قرأها . فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود. فقال - صلى الله عليه وسلم - :إنملا هي توبة نبي. ولكن رأيتكم تشزنتم ، فنزل وسجد . تفرد أبو داود . وإسناده على شرط الصحيح.(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } [ 26 ] .
{ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ } أي : استخلفناك على الملك في الأرض كمن يستخلفه بعض السلاطين على بعض البلاد ويملكه عليها ، ومنه قولهم : خلفاء الله في أرضه : { فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى } أي : هوى النفس ، من الميل إلى مال ، أو جاه ، أو قريب ، أو صاحب : { فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } أي : صراطه الموصل إلى الكمالات ، كحفظ المملكة ، والنصر على الأعداء ، والنجاة في الآخرة ورفع الدرجات فيها : { إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } أي : بسبب نسيانهم ، وهو ضلالهم عن السبيل ، فإن تذكره يقتضي ملازمة الحق ، ومخالفة الهوى .
تنبيه :
في الآية بيان وجوب الحكم بالحق ، وأن لا يميل إلى أحد الخصمين لقرابة ، أو رجاء ، أو سبب يقتضي الميل ، واستدل بها بعضهم على احتياج الأرض إلى خليفة من الله . كذا في " الإكليل " . و قال ابن كثير : هذه وصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى ، ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله ، وقد توعد تبارك وتعالى من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب ، بالوعيد الأكيد ، والعذاب الشديد . روى ابن أبي حاتم عن أبي زرعة ، أن الوليد بن عبد الملك قال له : أيحاسب الخليفة ، فإنك قد قرأت الكتاب الأول وقرأت القرآن وفقهت ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين ؟ أقول ؟ قال : قل في أمان . قلت : يا أمير المؤمنين ! أنت أكرم على الله أو داود عليه الصلاة والسلام ؟ إن الله تعالى جمع له النبوة والخلافة . ثم توعده في كتابه قال تعالى : { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ } الآية .
وقال الرازي : اعلم أن الْإِنْسَاْن خلق مدنيّاً بالطبع ؛ لأن الْإِنْسَاْن الواحد لا تنتظم مصالحه إلا عند وجود مدينة تامة ، حتى هذا يحرث ، وذاك يطحن ، وذلك يخبز ، وذلك ينسج والآخر يخيط . وبالجملة ، فيكون كل واحد منهم مشغولاً بمهم ، وينتظم من أعمال الجميع مصالح الجميع . فثبت أن الْإِنْسَاْن مدني بالطبع . وعند اجتماعهم في الموضع الواحد يحصل بينهم منازعات ومخاصمات ، ولا بد من إنسان قادر قاهر يقطع تلك الخصومات ، ويفصل تلك الحكومات . وذلك هو السلطان الذي ينفذ حكمه على الكل .
فثبت أنه لا تنتظم مصالح الخلق إلا بسلطان قاهر سائس ، ثم إن ذلك السلطان القاهر السائس ، إن كان حكمه على وفق هواه ولطلب مصالح دنياه ، عظم ضرره على الخلق ، فإنه يجعل الرعية فداء لنفسه ، ويتوسل بهم إلى تحصيل مقاصد نفسه ، وذلك يفضي إلى تخريب العالم ، ووقوع الهرج ، والمرج في الخلق . وذلك يفضي بالآخرة إلى هلاك ذلك الملك .
أما إذا كانت أحكام ذلك الملك مطابقة للشريعة الحقة الإلهية ، انتظمت مصالح العالم ، واتسعت أبوب الخيرات على أحسن الوجوه . فهذا هو المراد من قوله : { فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } يعني لا بد من حاكم بين الناس بالحق ، فكن أنت ذلك . ثم قال : { وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } الآية ، وتفسيره أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله ، والضلال عن سبيل الله يوجب سوء العذاب . فينتج أن متابعة الهوى توجب سوء العذاب . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } [ 27 ] .
{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً } أي : خلقاً باطلاً ، لا حكمة فيه ، أو مبطلين عابثين ، كقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ } [ الدخان : 38 - 39 ] . وهو أن تقوم الناس بالقسط في المعتقدات ، والعبادات ، والمعاملات : { ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : ولذا أنكروا البعث ، والجزاء على الأعمال ، وأخذوا يصدون عن سبيل الله ، ويبغون في الأرض الفساد .
قال الزمخشري : ومن جحد الخالق فقد جحد الحكمة من أصلها ، ومن جحد الحكمة في خلق العالم فقد سفه الخالق ، وظهر بذلك أنه لا يعرفه ولا يقدره حق قدره ، فكان إقراره بكونه خالقاً ، كلا إقرار .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ 28 ] .
{ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ } قال المهايمي : أي : أنترك البعث بالكلية ، أم نبعث ونجعل الذين آمنوا فشكروا نعمة العقل والكتاب , وعملوا الصالحات فشكروا نعمة الأعضاء ، كالمفسدين ، بصرف العقل , والأعضاء إلى غير [ في المطبوع : الغير ] ما خلقت له ؟ : { أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ } أي : مخالفة أمر الله ، رعاية لمحبته : { كَالْفُجَّارِ } أي : الذين يخالفون أوامر الله ، ولا يبالون بعداوته ؛ أي : لا نفعل ذلك ، ولا يستوون عند الله .
قال ابن كثير : وإذا كان الأمر كذلك ، فلا بد من دار أخرى يثاب فيها هذا المطيع ، ويعاقب فيها هذا الفاجر ، وهذا الإرشاد يدل العقول السليمة ، والفطر المستقيمة ، على أنه لا بدّ من معاد وجزاء ، فإذا نرى الظالم الباغي يزداد ماله وولده ونعيمه ، ويموت كذلك ، ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده ، فلا بد في حكمة الحكيم العليم العادل ، الذي لا يظلم مثقال ذرة ، من إنصاف هذا من هذا ، وإذا لم يقع هذا في هذه الدار ، فتعين أن هناك داراً أخرى لهذا الجزاء والمواساة ، ولما كان القرآن يرشد إلى المقاصد الصحيحة والمآخذ العقلية الصريحة ، قال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } [ 29 ] .
{ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ } أي : كثير الخير : { لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ } قال المهايمي : أي : لينظروا في ألفاظه وترتيبها ولوازمها ، فيستخرجوا منها علوماً بطريق الاستدلال . وقال الزمخشري : تدبر الآيات : التفكر فيها ، والتأمل الذي يؤدي إلى معرفة ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة ، والمعاني الحسنة ، لأن من اقتنع بظاهر المتلو لم يَحْلَ منه بكثير طائل . وكان مثله كمثل من له لقحة درور لا يحلبها ، ومرة نثور لا يستولدها . وعن الحسن : قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله ، حفظوا حروفه وضيعوا حدوده ، حتى إن أحدهم ليقول : والله ! لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفاً ، وقد - [ و ] الله ! - أسقطه كله ، ما يُرى للقرآن عليه أثر في خُلُق ولا عمل ، والله ! ما هو بحفظ حروفه ، وإضاعة حدوده ، والله ما هؤلاء بالحكماء ، ولا الوزعة ، لا كثر الله في الناس مثل هؤلاء . اللهم اجعلنا من العلماء المتدبرين ، وأعذنا من القراء المتكبرين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ 30 ] .
{ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } أي : كثير الرجوع [ في المطبوع : الوجوع ] إلى الله تعالى ، بالتوبة والإنابة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ } [ 31 ] .
{ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ } أي : من الخيل ، جمع : صافن ، وهو الذي يقوم على طرف سنبك يد ، أو رجل { الْجِيَادُ } جمع جواد ، وهو الذي يسرع في جريه ، أو بمعنى الحسان جمع جيد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } [ 32 ] .
{ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي } أي : آثرته عليه ، عدل عنه للمناسبة اللفظية وقصد التجنيس ، وفائدة التضمين إشارة إلى عروضه ، و : { ذِكْرِ رَبِّي } إما مضاف لفاعله أو لمفعوله .
قال الزمخشري : والخير المال كقوله : { إِنْ تَرَكَ خَيْراً } [ البقرة : 180 ] ، وقوله : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ] ، والمال : الخيل التي شغلته ، أو سمي الخيل خيراً كأنها نفس الخير ، لتعلق الخير بها . قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة > ، وقال في زيد الخيل حين وفد عليه وأسلم : < ما وصف لي رجل فرأيته ، إلا كان دون ما بلغني ، إلا زيد الخيل > وسماه زيد الخير ، وسأل رجل بلالاً رضي الله عنه عن قوم يستبقون ، من السابق ؟ فقال : رسول الله صلّى الله عليه وسلم . فقال له الرجل : أردت الخيل . فقال : وأنا أردت الخير { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } أي : غربت الشمس ، متعلق بقوله تعالى : { أحْبَبْتُ } وفيه استعارة تصريحية ، أو مكنية لتشبيه الشمس بامرأة حسناء ، أو ملك . وباء : { بالْحِجَابِ } للظرفية ، أو الاستعانة ، أو الملابسة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ } [ 33 ] .
{ رُدُّوهَا عَلَيَّ } يعني الصافنات ، وهذا من مقول القول ، فلا حاجة إلى تقدير قول آخر
{ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ } أي : فجعل يمسح مسحاً ، أي : يمسح بالسيف بسوقها وأعناقها ، يعني يقطعها .
تنبيه :
قال ابن كثير : ذكر غير واحد من السلف والمفسرين أن سليمان عليه السلام اشتغل بعرض الخيل حتى فات وقت صلاة العصر ، والذي يقطع به أنه لم يتركها عمداً بل نسياناً ، كما شغل النبي صلّى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر ، حتى صلاها بعد الغروب ، وذلك ثابت في الصحيحين من غير وجه ، ويحتمل أنه كان سائغاً في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو ، والقتال . والخيلُ تراد للقتال ، وقد ادعى طائفة من العلماء أن هذا كان مشروعا فنسخ ذلك بصلاة الخوف ، ومنهم من ذهب إلى ذلك في حال المسايفة والمضايقة حتى لا يمكن [ في المطبوع : تمكن ] صلاة ، ولا ركوع ، ولا سجود ، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في فتح تستر ، وهو منقول عن مكحول ، والأوزاعي ، وغيرهما ، والأول أقرب ؛ لأنه قال بعد : { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ } قال الحسن البصري : قال : لا ، والله ! لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك ، ثم أمر بها فعقرت . وكذلك قال قتادة .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حبّاً لها ، وهذا القول اختاره ابن جرير . قال : لأنه لم يكن ليعذب حيواناً بالعرقبة ، ويهلك مالاً من ماله بلا سبب ، سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها ، وهذا الذي رجح ابن جرير ، فيه نظر ؛ لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا ، ولاسيما إذا كان غضباً لله تعالى ، بسبب أنه اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة ؛ ولهذا لما خرج عنها لله تعالى ، عوضه الله عز وجل ما هو خير منها ، وهو الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب ، غدوّها شهر ، ورواحها شهر ، فهذا أسرع وخير من الخيل .
روى الإمام أحمد عن أبي [ في المطبوع : ابن ] قتادة ، وأبي الدهماء ، وكانا يكثران السفر نحو البيت ، قالا : أتينا على رجل من أهل البادية فقال لنا البدوي ، أخذ بيدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله عز وجل ، وقال : < إنك لا تدع شيئاً اتقاء الله تعالى ، إلا أعطاك الله عز وجل خيراً منه > . [ في المطبوع : لا تدع سبباً ] . انتهى ما ذكره ابن كثير .
وقال القاشاني : أي : طفق يمسح السيف بسوقها ، يعرقب بعضها ، وينحر بعضها ، كسراً لأصنام النفس التي تعبدها بهواها ، وقمعاً لسورتها وقواها ، ورفعاً للحجاب الحائل بينه وبين الحق ، واستغفاراً وإنابة إليه بالتجريد والترك .
وقد ذهب الرازي إلى تأويل آخر استصوبه ، قال : إن رباط الخيل كان مندوباً إليه في دينهم . كما أنه كذلك في دين الإسلام ، ثم إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغزو ، فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها ، وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس ، وإنما أحبها لأمر الله ، وطلب تقوية دينه . وهو المراد من قوله : { عَن ذِكْرِ رَبِّي } ثم إنه عليه السلام أمر بإعدائها وتسييرها حتى توارت بالحجاب أي : غابت عن بصره . ثم أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه . فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها ، والغرض من ذلك المسح أمور :
الأول - تشريفاً لها وإبانة لعزتها ، لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو .
والثاني - أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يتصنع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه . الثالث - أنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها . فكان يمتحنها ويمسح سوقها وأعناقها ، حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض .
وقال : فهذا التفسير الذي ذكرناه ينطبق عليه لفظ القرآن انطباقاً مطابقاً موافقاً . ولا يلزمنا نسبة شيء من تلك المنكرات والمحذورات .
قال : وأنا شديد التعجب من الناس كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة ، مع أن العقل والنقل يردها ، وليس لهم في إثباتها شبهة ، فضلاً عن حجة ، فإن قيل : إن الجمهور فسروا الآية بذلك الوجه ، فما قولك فيه ؟ فنقول : لنا ههنا مقامان :
المقام الأول - أن ندعي أن لفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرونها . وقد ظهر ، والحمد لله ، أن الأمر كما ذكرناه ، وظهوره لا يرتاب العاقل فيه .
المقام الثاني - أن يقال : هب أن لفظ الآية لا يدل عليه ، إلا أنه كلام ذكره الناس . فما قولك فيه ؟ وجوابنا أن الأدلة الكثيرة قامت على عصمة الأنبياء عليهم السلام ، ولم يدل دليل على صحة هذه الحكايات ، ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية ، فكيف الحكايات عن أقوام لا يبالي بهم ولا يلتفت إلى أقوالهم ؟ والله أعلم . انتهى كلام الرازي .
وسبقه ابن حزم حيث قال : تأويل الآية على أنه قتل الخيل ؛ إذ اشتغل بها عن الصلاة . خرافة موضوعة مكذوبة سخيفة باردة ، قد جمعت أفانين من القول ؛ لأن فيها معاقبة خيل لا ذنب لها ، والتمثيل بها ، وإتلاف مال منتفع به بلا معنى ، ونسبة تضييع الصلاة إلى نبي مرسل ، ثم يعاقب الخيل على ذنبه لا على ذنبها ، وإنما معنى الآية أنه أخبر أنه أحب حب الخير . من أجل ذكر ربه حتى توارت الشمس ، أو تلك الصافنات بحجابها ، ثم أمر بردها . فطفق مسحاً بسوقها ، وأعناقها بيده ، براً بها ، وإكراما لها ، هذا هو ظاهر الآية الذي لا يحتمل غيره ، وليس فيها إشارة أصلاً إلى ما ذكروه من قتل الخيل وتعطيل الصلاة ، وكل هذا قد قاله ثقات المسلمين . فكيف ، ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلّى الله عليه وسلم ؟ انتهى كلام ابن حزم .
وأقول : الذي يتجه أن هذه القصة أشير بها إلى نبأ لديهم ؛ لأن التنزيل الكريم مصدق الذي بين يديه ، إلا أن له الهيمنة عليه ، فما وقف فيه على حدّ من أنباء ما بين يديه ، يوقف عنده ولا يتجاوز ، وحينئذ ، فالقصة المعروفة عندهم هي التي أشير إليها . لكن مع الهيمنة عليها ؛ إذ لا تقبل على علّاتها . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ } [ 34 ] .
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } أي : ابتليناه : { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً } أي : جسماً مجسداً كناية عن صنم - على ما رووه - وإنما أوثر الجسد عليه - إجلالاً لسليمان عليه السلام ، وإشارة إلى أن قصته - إن صحت - كانت أمراً عرض وزال ، بدليل قوله تعالى : { ثُمَّ أَنَابَ } أي : إلى ربه بالتوبة والاستغفار ، كما بينه بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ } [ 35 ] .
{ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي } أي : غيري ؛ لفخامته وعظمته ، هبة فضل ، وإيثار امتنان : { إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ } [ 36 ] .
{ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ } أي : فذللناها لطاعته إجابة لدعوته : { تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء } أي : لينة سهلة ، مع شدة وقوة ، لذا وصفت في الآية الأخرى بـ : { عَاصِفَةً } { حَيْثُ أَصَابَ } أي : أراد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ } [ 37 ] .
{ وَالشَّيَاطِينَ } عطف على الريح : { كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ } أي : في فعر البحر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ } [ 38 ] .
{ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ } أي : مسلسلين في الأغلال لا يبعثهم إلى عمل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ 39 ] .
{ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ } أي : على من شئت من المقربين وغيرهم : { أَوْ أَمْسِكْ } أي امنع : { بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : غير محاسب على المنّ والإمساك ، فيكون حالاً من المستكين ، أو هو حال من العطاء ، أو صلة له ، وما بينهما اعتراض . والمعنى : إنه عطاء جمٌّ لا يكاد يمكن حصره ، فقد يعبر عن الكثير بـ : لا يعدّ ، ولا يحسب ، ونحوه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } [ 40 ] .
{ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى } أي : لقربى في الدرجات ، و : { وَحُسْنَ مَآبٍ } أي : مرجع في الآخرة .
تنبيه :
روى الأثريّون هنا قصصاً مطولة ومختصرة ، مؤتلفة ومختلفة . قال ابن كثير : وكلها متلقاة من أهل الكتاب ، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه الصلاة والسلام ، فالظاهر أنهم يكذبون عليه ، ولهذا كان في سياقها منكرات ، وتقوية ابن حجر لبعض منها بأنه خرجه النسائي بإسناد قوي لا عبرة له ، فليس المقام قاصراً على صحة السند فحسب [ و ] لو كان ذلك في الصحيحين ، فأنى بمروي غيرهما ؟
وذكر الرازي أن القصص المروية هنا هي لأهل الحشو من تأويلهم ، وأما أهل التحقيق فلهم تأويلات ، وقد ساقها فانظرها .
وقال الإمام ابن حزم : معنى قوله تعالى : { فَتَنَا سُلَيْمانَ } أي : آتيناه من الملك ما اختبرنا به طاعته ، كما قال تعالى مصدقاً لموسى عليه السلام في قوله : { إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ } إذ من الفتنة ما يهدي الله بها من يشاء ، وقال تعالى : { الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت : 1 - 3 ] فهذه الفتنة هي الاختبار حتى يظهر المهتدي من الضال ، فهذه فتنة الله تعالى لسليمان ، إنما هي اختباره حتى ظهر فضله فقط ، وما عدا هذا خرافات ولّدها زنادقة اليهود وأشباههم .
وأما الجسد الملقى على كرسيه فقد أصاب الله تعالى به ما أراد . نؤمن بهذا كما هو ، ونقول : صدق الله عز وجل ، كل من عند الله ربنا . ولو جاء نص صحيح في القرآن ، أو عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بتفسير هذا الجسد ما هو ، لقلنا به ، فإذا لم يأت بتفسيره ما هو نص ولا خبر صحيح ، فلا يحل لأحد القول بالظن الذي هو أكذب الحديث في ذلك ، فيكون كاذباً على الله عز وجل ، إلا أننا لا نشك البتة في بطلان قول من قال إنه كان جنياً تصور بصورته ، بل نقطع على أنه كذب ، والله تعالى لا يهتك ستر رسوله صلّى الله عليه وسلم هذا الهتك ، وكذلك نبعد في قول من قال إنه كان ولداً له ، أرسله إلى السحاب ليربيه . فسليمان عليه السلام كان أعلم من أن يربي ابنه بغير ما طبع الله عز وجل بنية البشر عليه من اللبن والطعام . وهذه كلها خرافات موضوعة مكذوبة ، لم يصح إسنادها قط . انتهى .
وزعم القاشاني أن حكاية الجني والخاتم مع سليمان ، هي من موضوعات حكماء اليهود ، كسائر ما وضعت الحكماء في تمثيلاتهم من حكايات أبسال وسلامان .
ثم أخذ القاشاني في تأويلها ، إلا أنه حل الإشكال بإشكال أعظم منه ، عفا الله عنه ، وقال قبلُ : إن صحت الحكاية في مطابقتها للواقع ، كان قد ابتلي بمثل ما ابتلي به ذو النون ، وآدم عليهما السلام . انتهى ، والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } [ 41 ] .
{ وَاذْكُرْ } أي : في باب الابتلاء ، وحسن عاقبة الصبر عليه : { عَبْدَنَا } أي : الكامل في التحقيق بالعبودية : { أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ } أي : دعاه وابتهل إليه قائلاً : { أَنِّي مَسَّنِيَ } أي : أصابني : { الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ } أي : مشقة ، بضم النون ، وفتحها مع سكون الصاد ، وبفتحهما وضمهما : { وَعَذَابٍ } أي : ألم شديد . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } [ 42 ] .
{ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ } حكاية لما أجيب به دعاؤه عليه السلام . أي : فاستجبنا له ، وقلنا : اركض برجلك . أي : اعدُ بها وامش ، فقد برأت وشفيت من مرضك ، وقوي جسمك ، وصح بدنك : { هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } أي : ماء تغتسل به ، وتشرب منه . والإشارة إلى عين ، أو نهر ، أو نحوهما .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ } [ 43 ] .
{ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ } بأن جمعناهم عليه بعد تفرقهم : { وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا } أي ترحماً منا عليه بهذا الإضعاف ، والمباركة : { وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ } أي : وتذكيراً لهم لينتظروا الفرج بالصبر والنوال بصدق الاتكال .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ 44 ] .
{ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً } أي : حزمة صغيرة : { فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً } أي : في كل ما ابتليناه به : { نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } أي : كثير الرجوع إلى الله تعالى ، بالإنابة والابتهال والعبادة .
تنبيهات :
الأول - كان أيوب عليه السلام نبياً غنياً من أرباب العقار والماشية ، وكان أميراً في قومه ، وكانت أملاكه ، ومنزله في الجنوب الشرقي من البحر الميت ، بين بلاد أدوم وصحراء العربية ، وكانت إذ ذاك خصيبة رائعة التربة ، كثيرة المياه المتسلسلة ، وكان زمنه بعد زمن إبراهيم ، وقبل زمن موسى عليهم السلام . هذا ما حققه بعض الباحثين . والله أعلم .
الثاني - يذكر كثير من المفسرين ههنا مرويات وقصصاً إسرائيلية في ابتلائه عليه السلام . ولا وثوق من ذلك كله إلا بمجمله ، وهو ما أشار له التنزيل الكريم ؛ لأنه المتيقن ، وهو أنه عليه الصلاة والسلام أصابته بلوى عظيمة في نفسه ، وماله ، وأهله ، وأنه صبر على ذلك صبراً صار يضرب به المثل لثباته ، وسعة صدره ، وشجاعته ، وأنه جوزي بحسنة صبره أضعافها المضاعفة .
الثالث - قال الزمخشري : فإن قلت : لِمَ نسب المسَّ إلى الشيطان ، ولا يجوز أن يسلطه الله على أنبيائه ، ليقضي من إتعابهم ، وتعذيبهم ، وطره ، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحاً إلا وقد نكبه وأهلكه ، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب ؟
قلت : لما كانت وسوسته إليه ، وطاعته له فيما وسوس ، سبباً فيما مسه الله به من النصب ، والعذاب - نسبه إليه ، وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه ، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو . وقيل : أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء ، ويغريه على الكراهة والجزع ، فالتجأ إلى الله تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء ، أو بالتوفيق في دمغه ، ورده بالصبر الجميل . انتهى . الرابع - دل قوله تعالى : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً } الآية ، على تقدم يمين منه عليه السلام ، وقد رووا هنا آثاراً في المحلوف عليه ، لم يصح منها شيء ، فالله أعلم به ، ولا ضرورة لبيانه ؛ إذ القصد الإعلام برحمة أخرى ونعمة ثانية عليه ، صلوات الله عليه . وهي الدلالة إلى المخرج من الحنث ، برخصة وطريقة سهلة سمحة ترفع الحرج ، ونحن نورد هنا أمثل ما كتب في الآية ، إيقافاً للقارئ عليه :
قال السيوطي في " الإكليل " : أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم أن أيوب حلف ليجلدن امرأته مائة جلد . فلما كشف الله عنه البلاء أمر أن يأخذ ضغثاً فيضربها به . فأخذ شماريخ مائة ثم ضربها ضربة واحدة . قال سعيد بن جبير : وهي لهذه الأمة لمن حلف على مثل ما حلف عليه أيوب . ثم أخرج أيضاً عن عطاء قال : هي للناس عامة . وعن مجاهد قال : كانت لأيوب خاصة . قال الكيا الهراسي : ذهب الشافعي وأبو حنيفة وزفر ، إلى أن من فعل ذلك فقد برّ في يمينه ، وخالف مالك ، ورآه خاصاً بأيوب .
قال : وفي الآية دليل على أن للزوج ضرب زوجته ، وأن يحلف ولا يستثني .
انتهى .
واستدل بهذه الآية على أن الاستثناء شرطه الاتصال ؛ إذ لو لم يشترط لأمره تعالى بالاستثناء ، ولم يحتج إلى الضرب بالضغث ، واستدل عطاء بالآية على مسألة أخرى . فأخرج سعيد بن منصور عنه بسند صحيح ، أن رجلا قال له : إني أردت أن لا أكسي امرأتي ذراعاً حتى تقف بعرفة . فقال : احملها على حمار ثم اذهب فقف بها بعرفة . فقال : إنما عنيت يوم عرفة . فقال عطاء : وأيوب حين حلف ليجلدن امرأته مائة جلدة ، ما نوى أن يضربها بالضغث ، إنما أمره الله أن يأخذ ضغثاً فيضربها به . قال عطاء : إنما القرآن عِبَرٌ . انتهى كلام " الإكليل " .
وقد رد الإمام ابن القيم في كتابه " إغاثة اللهفان " الاستدلال بهذه الآية على جواز الحيلة ، وعبارته : وأما قوله تعالى لأيوب عليه السلام : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ } فمن العجب أن يحتج بهذه الآية على من يقول : إنه لو حلف ليضربنه عشرة أسواط فجمعها وضربه بها ضربة واحدة لم يبرّ في يمينه ، هذا قول أصحاب أبي حنيفة ومالك وأصحاب أحمد . وقال الشافعي : إن علم أنها مسته كلها ، برّ في يمينه ، وإن علم أنها لم تمسه ، لم يبرّ ، وإن شك لم يحنث ، ولو كان هذا موجباً لبرّ الحالف ، لسقط عن الزاني والقاذف والشارب بعدد الضرب ، بأن يجمع له مائة سوط أو ثمانين ، ويضربه بها ضربة واحدة ، وهذا إنما يجري في المرض كما قال الإمام أحمد ، في المريض عليه الحد ، ويضرب بعثكال يسقط عنه الحد . واحتج بما رواه عن أبي أمامة بن سهل ، عن سعيد بن سعد بن عُبَاْدَة قال : كان بين أبنائنا إنسان مخدجٍ ضعيف ، لم يرع أهل الدار إلا وهو على أمةِ من إماء الدار يخبث بها ، وكان مسلماً ، فرفع شأنه سعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم . فقال : < اضربوه حدّه > قالوا يا رسول الله ! إنه أضعف من ذلك إن ضربناه مائة قتلنه . فقال : < فخذوا له عثكالاَ فيه مائة شمراخ ، فاضربوه ضربة واحدة ، وخلوا سبيله > .
وأما قصة أيوب فلها فقه دقيق ؛ فإن امرأته كانت لشدة حرصها على عافيته ، وخلاصة من دائه ، تلتمس له الدواء بما عليه ، فلما لقيها الشيطان ، وقال ما قال ، أخبرت أيوب عليه السلام بذلك ، فقال : إنه الشيطان . ثم حلف لئن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة سوط فكانت معذورة محسنة في شأنه ، ولم يكن في شرعهم كفارة . فإنه لو كان في شرعهم كفارة ، لعدل إلى التفكير ، ولم يحتج إلى ضربها ، فكانت اليمين موجبة عندهم كالحدود .
وقد ثبت أن المحدود إذا كان معذوراً خفف عنه ، بأن يجمع له مائة شمراخ أو مائة سوط فيضرب بها ضربة واحدة . وامرأة أيوب كانت معذورة ، لم تعلم أن الذي خاطبها الشيطان ، وإنما قصدت الإحسان . فلم تكن تستحق العقوبة ، فأفتى الله نبيه أيوب عليه السلام أن يعاملها معاملة المعذور ، هذا مع رفقها به وإحسانها إليه فجمع له بين البر في يمينه , والرفق بامرأته المحسنة المعذورة ، التي لا تستحق العقوبة . فظهر موافقة نص القرآن في قصة أيوب عليه السلام ، لنص السنة ، في شأن الضعيف الذي زنى . فلا يتعدى بهما عن محلهما .
فإن قيل : فقولوا في نظير ذلك ممن حلف ليضربن امرأته ، أو أمته مائة ، وكانتا معذورتين لا ذنب لهما ، إنه يبر بجمع ذلك في ضربهما بمائة شمراخ . قيل : قد جعل الله له مخرجاً بالكفارة ، ويجب عليه أن يكفر يمينه ، ويقضي الله بالبر في يمينه ها هنا ، ولا يحل له أن يبر فيها ، بل بره هو حنثه مع الكفارة ، ولا يحل له أن يضربها ، لا مفرقاً ، ولا مجموعاً .
فإن قيل : فإذا كان الضرب واجباً كالحد ، هل تقولون ينفعه ذلك ؟ قيل : إما أن يكون العذر مرجو الزوال كالحر ، والبرد الشديد ، والمرض اليسير ، فهذا ينتظر زواله . ثم يحد الحد الواجب . كما روى مسلم في صحيحه عن علي رضي الله عنه ، أن أمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم زنت ، فأمرني أن أجلدها . فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس ، فخشيت إن جلدتها أن أقتلها ، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم . فقال : < أحسنت اتركها حتى تَمَاثل > . انتهى كلام ابن القيم .(/)
القول في تأويل قةله تعالى :
{ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبَراهِيْمَ وَإسْحَاقَ وَيَعَقُوبَ أُوْلِى الأيْدِى والأبْصَارِ } [ 45 ] .
{ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبَراهِيْمَ وَإسْحَاقَ وَيَعَقُوبَ أُوْلِى الأيْدِى والأبْصَارِ } أي : ذوي القوة في العبادة ، والأفكار في معرفة الله تعالى . قال القاشاني : أي : العمل والعلم ، لنسبة الأول إلى الأيدي ، والثاني إلى البصر والنظر ، وهم أرباب الكمالات العملية والنظرية .
قال الشهاب : الأيدي ، مجاز عن القوة ، مجاز مرسل . والأبصار : جمع بصر بمعنى بصيرة ، وهو مجاز أيضاً ، لكنه مشهور فيه ، وإذا أريد بـ : الأيدي الأعمال ، فهو من ذكر السبب وإرادة المسبب . والأبصار : بمعنى البصائر مجاز عما يتفرع عليهما من المعارف كالأول أيضاً . وعلى الوجهين ، فيه تعريض بأن من ليس كذلك ، كان لا جارحة له ولا بصر . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ } [ 46 ] .
{ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم } أي : صفيناهم عن شعوب صفات النفوس ، وكدورة حظوظها [ في المطبوع : حظوظا ] ، وجعلناهم لنا خالصين بالمحبة الحقيقية : { بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ } أي : الباقية والمقر الأصلي ، أي : استخلصناهم لوجهنا بسبب تذكرهم العلم القدس ، وإعراضهم عن معدن الرجس ، مستشرقين لأنوارنا ، لا التفات لهم إلى الدنيا ، وظلماتها أصلاً .
لطيفة :
قال السمين : قرأ نافع وهشام : { بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ } بالإضافة ، وفيها أوجه : أحدها - أن يكون أضاف خالصة إلى ذكرى للبيان ؛ لأن الخالصة قد تكون ذكرى وغير ذكرى . كما قوله : { بِشِهَابٍ قَبَسٍ } [ النمل : 7 ] ، لأن الشهاب يكون قبساً وغيره .
الثاني - أن الخالصة مصدر بمعنى إخلاص ، فيكون مصدراً مضافاً لمفعوله ، والفاعل محذوف ، أي : بأن أخلصوا ذكر الدار ، وتناسوا عند ذكرها ذكر الدنيا ، وقد جاء المصدر على فاعلة كالعاقبة ، أو يكون المعنى بأن أخلصنا نحن لهم ذكرى الدار ، وقرأ الباقون بالتنوين وعدم الإضافة ، وفيها أوجه :
أحدها - أنها مصدر بمعنى الإخلاص ، فيكون : { ذِكْرَى } منصوباً به ، وأن يكون بمعنى الخلوص ، فيكون : { ذِكْرَى } مرفوعاً به ، والمصدر يعمل منوناً كما يعمل مضافاً ، أو يكون : خالصة ، اسم فاعل على بابه . و : { ذِكْرَى } : بدل ، أو بيان لها ، أو منصوب بإضمار : أعني ، أو هو مرفوع على إضمار مبتدأ ، و : { الدَّاْرِ } يجوز أن يكون مفعولاً به بـ : { ذِكْرَى } وأن يكون ظرفاً إما على الاتساع ، وإما على إسقاط الخافض . وخالصة : إن كانت صفة ، فهي صفة لمحذوف ؛ أي : بسبب خصلة خالصة . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الْأَخْيَارِ } [ 47 ، 48 ] .
{ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ } أي : المختارين من أبناء جنسهم لقربنا : { الْأَخْيَارِ } أي : المنزهين عن شوائب الشرور ، على أنه جمع : خير ، مقابل شر ، الذي هو أفعل تفضيل . أو هو جمع : خيّر ، المشدد ، أو المخفف منه
{ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الْأَخْيَارِ } أي : بالنبوة والرسالة ، للهداية والإصلاح . واليسع : خليفة إلياس وكان خادمه ، ويقال له بالعبرانية : اليشاع ، كما يسمى إلياس فيها : إيليا ، وفي التوراة نبأ طويل عن اليسع ، ونبوته ، ومعجزاته ، صلوات الله عليه . وتقدم علم أنباء هؤلاء الأنبياء عليهم السلام ، في سورة الأنبياء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ } [ 49 ، 50 ] .
{ هَذَا ذِكْرٌ } أي : شرف لهم . والذكر : يتجوز به عنه . قال الشهاب : لأن الشرف يلزمه الشهرة ، والذكر بين الناس ، فتجوز به عنه بعلاقة اللزوم . فيكون المعنى : أي : في ذكر قصصهم وتنويه الله بهم شرف لهم . واختار الزمخشري أن المعنى : هذا نوع من الذكر وهو القرآن ؛ أي : فالتنوين للتنويع . والمراد بالذكر القرآن . فذكره إنما هو للانتقال من نوع الكلام إلى آخر .
قال الزمخشري : لما أجرى ذكر الأنبياء وأتمه ، وهو باب من أبواب التنزيل, ونوع من أنواعه ، وأراد أن يذكر على عقبه باباً آخر ، وهو ذكر الجنة وأهلها ، قال : { هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ } أي : إقامة وخلود : { مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ } أي : متى جاءوها يرونها في انتظارهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ } [ 51 ] .
{ مُتَّكِئِينَ فِيهَا } أي : على الأرائك : { يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ } أي : مهما طلبوا وجدوا ، وأحضر كما أرادوا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ } [ 52 ] .
{ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ } أي : لا ينظرن إلى غير أزواجهن ، أو يمنعهن طرف الأزواج أن تنظر للغير ، لشدة الحسن . وهو أبلغ . أو بمعنى حور الطرف جمع أحور ، والثوب المقصور يشبه بالحواري في بياضه ونصاعته : { أَتْرَابٌ } أي : متساوية في السن والرتب ، لا عجوز بينهن ، جمع ترب ، بكسر فسكون ، وهو من يولد معه في وقت واحد ، كأنهما وقعا على التراب في زمان واحد . فـ : ترب فعل بمعنى مفاعل ومتارب . وكمثل بمعنى ، مماثل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ } [ 53 ] .
{ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ } أي : لوقت جزائه . واللام تعليلية . فإن ما وعده لأجل طاعتهم وأعمالهم الصالحة ، وهي تظهر بالحساب وتقع بعده . فجعل كأنه علة لتوقف إنجاز الوعد عليه ، فالنسبة لليوم والحساب مجازية . ولو جعلت اللام بمعنى بعد كما في : كتب لخمس ، سلم مما ذكر . أفاده الشهاب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ } [ 54 ] .
{ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ } أي : انقطاع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ } [ 55 ، 56 ] .
{ هَذَا } أي : باب في وصف الجنة وأهلها ، فهو مبتدأ خبر مقدر ، أو الأمر هذا ، فهو خبر لمحذوف ، أو مفعول لمحذوف : { وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ } أي : الفراش ، مستعار من فراش النائم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ } [ 57 ] .
{ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ } وهو ما يغسق من صديد أهل النار ؛ أي : يسيل . وجملة : { فَلْيَذُوقُوهُ } معترضة بين المبتدأ وخبره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } [ 58 ] .
{ وَآخَرُ } أي : ومذوق ، أو عذاب آخر : { مِن شَكْلِهِ } أي : هذا المذوق ، أو العذاب في الشدة والهوان : { أَزْوَاجٌ } أي : أجناس وأصناف . ثم بين ما يقال للرؤساء الطاغين ، إذا أدخلوا النار .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ } [ 59 ] .
{ هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ } أي : هذا جمع من أتباعكم ، وأشباهكم ، أهل طبائع السوء والرذائل المختلفة ، مقتحم معكم في مضايق المذلة ، ومداخل الهوان . والاقتحام ركوب الشدة ، والدخول فيها . وقوله : { لَا مَرْحَباً بِهِمْ } أي : دعاء من الرؤساء على أتباعهم . أو صفة لـ : فوج . أو حال ؛ أي : مقولاً فيهم : { لَا مَرْحَباً بِهِمْ } أي : ما أتوا ربهم رحباً وسعة ، لشدة عذابهم ، وكونهم في الضيق والضنك ، واستيحاش بعضهم من بعض ؛ لقبح المناظر وسوء المخابر : { إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ } أي : داخلوها بأعمالهم مثلنا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ } [ 60 ] .
{ قَالُوا } أي : التباع للرؤساء : { بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ } أي : بل أنتم أحق بما قلتم ، لتضاعف عذابكم بضلالكم ، وإضلالكم : { أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا } أي : قدمتم العذاب بإضلالنا وإغوائنا .
قال القاشاني : وهذه المقاولات قد تكون بلسان المقال ، وقد تكون بلسان الحال ، أي : لأن الوضع لا يختص بالحقيقة ، إلا أن الأظهر الأول ، ويؤيده قوله تعالى بعدُ : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } : { فَبِئْسَ الْقَرَارُ } أي : المستقر جهنم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ } [ 61 ] .
{ قَالُوا } أي : الأتباع أيضاً : { رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ } كقوله تعالى : { رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ } [ الأحزاب : 68 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ } [ 62 ] .
{ وَقَالُوا } أي : الطاغون ، أو الأتباع : { مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ } يعنون فقراء المسلمين الذين يسترذلونهم ، ويسخرون بهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ } [ 63 ] .
{ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً } قرئ بلفظ الإخبار على أنه صفة لـ : رجالاً . وبهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم ، وتأنيب لها في الاستسخار منهم . وقوله تعالى : { أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ } أي : مالت عنهم كبراً ، وتنحّت عنهم أنفة . والمعنى أي : الفعلين فعلنا بهم ، السخرية منهم أم الإزراء بهم ، على معنى إنكار الأمرين على أنفسهم ، تحسراً وندامة على ما فعلوا ، وعلى ما حاق بهم وحدهم من سوء العذاب ، وقيل : أم ، بمعنى بل ؛ أي : بل زاغت عنهم أبصارنا لخفاء مكانهم علينا في النار ؛ كأنهم يسلّون أنفسهم بالمحال ، يقولون : أو لعلهم معنا في جهنم ، ولكن لم يقع بصرنا عليهم ، فعند ذلك يعرفون أنهم في الدرجات العاليات ، وهو قوله عز وجل : { وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } [ الأعراف : 44 ] ، إلى قوله : { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ } [ الأعراف : 49 ] ، الآية . وقيل : أم بمعنى بل أيضاً ، أي : بل زاغت عنهم أبصارنا لكونها في دار أخرى وهي دار النعيم . و^رئ سُخْريّاً بضم السين ، وكسرها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } [ 64 ] .
{ إِنَّ ذَلِكَ } أي : الذي حكي عنهم : { لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } أي : لواقع وثابت . و : { تَخَاصُمُ } بدل من حق ، أو خبر لمحذوف . وقرئ بالنصب على البدل من : { ذَلِكَ } قال الزمخشري : فإن قلت : لم سمي ذلك تخاصماً ؟ قلت : شبه تقاولهم ، وما يجري بينهم من السؤال والجواب ، بما يجري بين المتخاصمين من نحو ذلك ، ولأن قول الرؤساء : { لا مَرْحَبَاً بِهِمْ } وقول أتباعهم : { بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ } من باب الخصومة . فسمي التقاول كله تخاصماً ؛ لأجل اشتماله على ذلك . انتهى .
فكتب الناصر عليه : هذا يحقق ما تقدم من أن قوله : { لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ } من قول المتكبرين الكفار . وقوله تعالى : { بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ } من قول التباع . فالخصومة على هذا التأويل حصلت من الجهتين . فيتحقق التخاصم . خلافاً لمن قال أن الأول من كلام خزنة جهنم , والثاني من كلام الأتباع ؛ فأنه على هذا التقدير ، إنما تكون الخصومة من أحد الفريقين . فالتفسير الأول أمكن وأثبت . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [ 65 ] .
{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ } أي : رسول مخوّف : { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ } أي : بلا ولد ، ولا شريك : { الْقَهَّارُ } أي : الغالب على خلقه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ } [ 66 ] .
{ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } أي : من الخلق والعجائب : { الْعَزِيزُ } أي : الذي لا يغلب إذا عاقب العصاة : { الْغَفَّارُ } أي : لمن تاب وأناب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ } [ 67 ] .
{ قُلْ هُوَ } أي : الذي أنذرتكم به من التوحيد ، ومن البعثة به : { نَبَأٌ عَظِيمٌ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } [ 68 ] .
{ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } أي : لتمادي غفلتكم ، فإن العاقل لا يعرض عن مثله ، كيف ، وقد قامت عليه الحجج الواضحة ؟ أما على التوحيد ، فما مرّ من آثار قدرته وصنعه البديع . أما على بعثته صلى الله عليه وسلم به ، به فقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ 69 ] .
{ مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ } أي : فإن إخباره عن محاورة الملائكة ، وما جرى بينهم ، على ما ورد في الكتب المتقدمة ، من غير سماع ومطالعة كتاب ، لا يتصور إلا بالوحي .
قال القاشاني : وفرق بين اختصام الملأ الأعلى ، واختصام أهل النار بقوله في تخاصم أهل النار : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ } وفي اختصام الملأ الأعلى : { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } لأن ذلك حقيقي لا ينتهي إلى الوفاق أبداً ، وهذا عارضيّ نشأ من عدم اطلاعهم على كمال آدم عليه السلام ، الذي هو فوق كمالاتهم ، وانتهى إلى الوفاق عند قولهم : { سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا } [ البقرة : 32 ] ، وقوله تعالى : { أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ البقرة 33 ] ، على ما ذكر في البقرة عند تأويل هذه القصة . انتهى .
وبالجملة ، فالاختصام المذكور في الآية ، هو المشار إليه في قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] ، قال الرازي : وهو أحسن ما قيل فيه .
ثم قال : ولو قيل : كيف جازت مخاصمة الملائكة معه تعالى ؟ قلنا : لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب ، وذلك يشابه المخاصمة والمناظرة ، والمشابهة علة لجواز المجاز ، فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه . انتهى .
وملخصه : أن : { يَخْتَصِمُونَ } استعارة تبعية لـ : يتقاولون . وقيل : معنى الآية ، نفي علم الغيب عنه صلّى الله عليه وسلم ، ورد اقتراحهم عليه أن يخبرهم بما يحدث في الملأ الأعلى من التخاصم ، كقوله تعالى : { قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } [ الأنعام 50 ] ، وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ } [ الملك : 26 ] ، ولذا قال بعد :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [ 70 ] .
{ إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ } وقرئ : { إِنَّما } بالكسر على الحكاية .
تنبيهات :
الأول - قال الرازي : واعلم أن قوله : { أنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } ترغيب في النظر والاستدلال ، ومنع من التقليد ؛ لأن هذه المطالب مطالب شريفة عالية ، فإن بتقدير أن يكون الْإِنْسَاْن فيها على الحق ، يفوز بأعظم أبواب السعادة ، وبتقدير أن يكون الْإِنْسَاْن فيها على الباطل ، وقع في أعظم أبواب الشقاوة . فكانت هذه المباحث أنباء عظيمة ومطالب عالية بهية ، وصريح العقل يوجب على الْإِنْسَاْن أن يأتي فيها بالاحتياط التام ، وأن لا يكتفي بالمساهلة والمسامحة .
الثاني - قدمنا أن أكثر المفسرين على تأويل الاختصام بالتقاول في شأن آدم عليه السلام مع الملائكة . وقيل : مخاصمتهم مناظرتهم بينهم في استنباط العلم ، كما تجري المناظرة بين أهل العلم في الأرض . حكاه الكرماني في " عجائبه " .
وذهب ابن كثير إلى أنه عنى به ما كان في شأن آدم عليه السلام ، وامتناع إبليس من السجود له ، ومحاجته ربه في تفضيله عليه . وإن قوله تعالى بعد : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ } [ البقرة : 30 ] ، تفسير له . ولم أره مأثوراً عن أحد . بل المأثور عن ابن عباس ، وغيره ما تقدم ، من أنه في شأن آدم والملائكة ، وهذا كله على إثبات علم التخاصم بالوحي ، بتقدير : ما كان لي من علم لولا الوحي . ولا تنس القول الآخر ، والنظم الكريم يصدق على الكل بلا تناف . والله أعلم .
وقد جاء ذكر تخاصم الملأ الأعلى في حديث الإمام أحمد عن معاذ رضي الله عنه قال : احتبس علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح ، حتى كدنا أن نتراءى قرن الشمس . فخرج صلّى الله عليه وسلم سريعاً ، فثوب بالصلاة ، فصلى ، وتجوز في صلاته . فلما سلم قال صلّى الله عليه وسلم : < كما أنتم > . ثم أقبل إلينا فقال : < إني قمت من الليل فصليت ما قدّر لي ، فنعست في صلاتي حتى استيقظت ، فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة . فقال : يا محمد ! أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : لا أدري ، يا رب ! أعادها ثلاثاً . فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري . فتجلى لي كل شيء وعرفت . فقال : يا محمد ! فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : في الكفارات . قال : وما الكفارات ؟ قلت : نقل الأقدام إلى الجماعات ، والجلوس في المساجد بعد الصلوات ، وإسباغ الوضوء عند الكريهات . قال : وما الدرجات ؟ قلت : إطعام الطعام ، ولين الكلام ، والصلاة والناس نيام . قال : سل . قلت : اللهم ! إني أسألك فعل الخيرات ,وترك المنكرات , وحب المساكين, وأن تغفر لي وترحمني , وإذا أردت فتنة بقوم ، فتوفني غير مفتون , وأسألك حبك , وحب من يحبك , وحب عمل يقربني إلى حبك > . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : < إنها حق فادرسوها وتعلموها > .
قال ابن كثير : هذا حديث المنام المشهور . ومن جعله يقظة فقد غلط ، وهو في السنن من طرق ، وهذا الحديث بعينه قد رواه الترمذي من حديث جهضم بن عبد الله اليمامي به ، وقال : حسن صحيح .
ثم قال ابن كثير : وليس هذا الاختصام المذكور في القرآن ، فإن هذا قد فسر ، وأما الاختصام الذي في القرآن فقد فسر بعد هذا . انتهى . يعني قوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } [ 71 ، 72 ] .
{ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } أي : فخروا له ساجدين تعظيماً وتكريماً ، إذا عدلت خلقته ، وأحييته بنفخ الروح فيه . فإذا : بدل من إذا الأولى مفصل لما أجمل قبلها من الاختصام ، وهذا ما رآه الزمخشري وتابعه ابن كثير . وقدّر أبو البقاء : اذكر ، وهو الأظهر عندي ، ويعضده القول الثاني في الآية المتقدمة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ } [ 73 ، 74 ] .
: { فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ } أي : تعظم : { وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ } أي : باستكباره أمر الله تعالى ، واستكباره عن طاعته(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ } [ 75 ] .
{ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } أي : بنفسي من غير توسط ، كأب وأم : { أَسْتَكْبَرْتَ } أي : أعرض لك التكبر ، والاستنكاف : { أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ } أي : عليه زائداً في المرتبة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ 76 ] .
{ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } يعني أن الروح الحيواني الناري أشرف من المادة الكثيفة البدنية ، وعاب عنه ما تضمنته من الحكمة الإلهية ، واللطيفة الربانية حتى تمسك بالقياس ، وعصى الله تعالى في السجود .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } [ 77 ] .
{ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا } أي : من الجنة أو السماء : { فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } أي : مطرود من الرحمة ، ومحل الكرامة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ } [ 78 ] .
{ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ } قال القاشاني : الرجيم واللعين من بعُد عن الحضرة القدسية ، المنزهة عن المواد الرجسية ، بالانغماس في الغواشي الطبيعية ، والاحتجاب بالكوائن الهيولانية . ولهذا وقت اللعن بيوم الدين ، وحدد نهايته به ؛ لأن وقت البعث والجزاء هو زمان تجرد الروح عن البدن ومواده ، وحينئذ لا يبقى تسلطه على الْإِنْسَاْن . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } [ 79 - 83 ] .
{ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } وهو القيامة الكبرى : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } وهم الذين أخلصهم الله لنفسه من أهل العناية عن ثوب الكدورات النفسية وحجب الأنانية ، وصفى فطرتهم عن خلط ظلمة النشأة البشرية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ } [ 84 ] .
{ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ } جملة معترضة ، للتأكيد ؛ أي : ولا أقول إلا الحق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ * قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } [ 85 ، 86 ] .
{ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } أي : تبعك في التعزز ، والاستكبار ، والإباء عن الحق ، والمحاجة في الباطل : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } أي : على القرآن ، أو الوحي . قال القاشاني : أي : لا غرض لي في ذلك . فإن أقوال الكامل المحقق بالحق مقصودة بالذات ، غير معلومة بالغرض : { وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } قال الزمخشري : أي : المتصنعين الذين يتحلون بما ليسوا من أهله ، وما عرفتموني قط متصنعاً ، ولا مدعياً ما ليس عندي ، حتى أنتحل النبوة ، وأدعي القرآن .
تنبيه :
في الآية ذم التكليف . وقد روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : يا أيها الناس ! من علم شيئاً فليقل به ، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم . فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم : الله أعلم . فإن الله عز وجل قال لنبيكم صلّى الله عليه وسلم : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ } [ 87 ، 88 ] .
{ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } أي : عظة وتذكير لهم . وهذا كقوله : { لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] ، وقوله سبحانه : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [ هود : 17 ] : { ولَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ } أي : عند ظهور الإسلام ، وانتشاره ، ودخول الناس فيه أفواجاً أفواجاً ، من صحة خبره ، وإنه الحق والصدق . وهذا من أجلّ معجزات القرآن ؛ لأنه من الغيوب التي ظهر مصداقها ؛ إذ كان زمن الإخبار به زمن قلة من المؤمنين ، وخوف من المشركين ، فلم يمض ردح من الزمن حتى أبدل الله قلتهم كثرة ، وضعفهم قوة ، وخوفهم أمناً ، وكمونهم ظهوراً وانتشاراً . فصدق الله العظيم ، وصدق نبيه الكريم ، وحقت كلمة الله على الكافرين ، والحمد لله رب العالمين .(/)
سورة الزمر
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [ 1 ] .
{ تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } أي : هذا تنزيل ، أو تنزيله كائن من الله .
وقرئ : { تَنزِيلُ } بالنصب على إضمار فعل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ } [ 2 ] .
{ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ } أي : عن شعوب الشرك والرياء ، بإمحاض التوحيد ، وتصفية السر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } [ 3 ] .
{ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } أي : الذي وجب اختصاصه بأن يخلص له الطاعة من كل شائبة ؛ لانفراده بالألوهية : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } أي : بالمحبة ؛ للتقرب والتوسل بهم إلى الله تعالى : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } أي : يقولون ذلك احتجاجاً على ضلالهم : { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : عند حشر معبوداتهم معهم ، فيقرن كلاً منهم مع من يتولاه ، من عابد ومعبود ، ويدخل المبطل النار مع المبطلين ، كما يدخل المحق الجنة مع المحقين : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } لا يوصله إلى النجاة ، ومقر الأبرار .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [ 4 ] . : { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } أي : نزهه عن المماثلة ، والمجانسة ، واصطفاء الولد ؛ لكون الوحدة لازمة لذاته ، وقهره بوحدانيته لغيره ، فلا تماثل في الوجود ، فكيف في الوجوب ؟(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ * خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } [ 5 - 6 ] .
{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ } أي : بإذهاب أحدهما ، وتغشية الآخر مكانه ، كإنما ألبسه ولفّ عليه : { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى } وهو منتهى دوره ، أو منقطع حركته : { أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا } أي : من نفسها ونوعها : { زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } أي : ذكراً وأنثى ، من الإبل والبقر والضأن والمعز : { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ } أي : متقلبين في أطوار الخلقة : { فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ } يعني البطن ، والرحم ، والمشيمة : { ذَلِكُمُ } أي : الخالق لصوركم . المكوّر أي : المصرف بقدرته ، المسخر بسلطانه ، المنشي للكثرة من نفس واحدة بحكمته ، المنزل للنعم بنعمته : { اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } أي : عن عبادته إلى عبادة غيره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ 7 ] .
{ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ } أي : عن إيمانكم : { وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } أي : لأنه سبب هلاكهم : { وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } أي : وإن تستعملوا ما أنعم به عليكم فيما خلق له ، يقبله منكم ؛ لأنه دينه ، ويثيبكم ثواباً حسناً لطاعتكم .
تنبيه :
في " الإكليل " : استدل بقوله تعالى : { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } على أنه تعالى لا يرضى الكفر والمعاصي ، وعلى أن الرضا غير الإرادة . وهو أحد قولي أهل السنة . والقول الثاني وحكاه الآمدي عن الجمهور ، أن الرضا والإرادة سيان ، وحملوا العبادَ في الآية على المخلصين { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } أي : لا تحمل حاملة حمل أخرى ، أي : ما عليها من الذنوب ، أو لا تؤخذ نفس بذنب نفس أخرى ، بل كل مأخوذ بذنبه : { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ } أي : بعد الموت : { فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : بما في القلوب من الخير والشر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَاْن ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ * أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } [ 8 - 9 ] .
{ وَإِذَا مَسَّ } أي : أصاب : { الْإِنْسَاْن ضُرٌّ } أي : شدة وبلاء : { دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ } أي : ابتهل إليه برفع الشدة والبلاء عنه ، مقبلاً إليه بالدعاء والتضرع : { ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ } أي : أعطاه : { نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ } أي : نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه من قبل النعمة . وقيل : نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ، ويبتهل إليه . فـ : ما بمعنى من ، أقيمت مقامها لقصد الدعاء الوصفي ، ولِمَا في ما ، من الإبهام والتفخيم { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ } أي : يصد الناس عن دينه وطاعته : { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ } أي : عش به : { قَلِيلاً } أي : يسيراً في الدنيا .
{ إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ * أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً } أي : متعبداً في ساعاته يقطعها في السجود والقيام : { يَحْذَرُ الْآخِرَةَ } أي : عقابها : { وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } أي : جنته ورضوانه ، أي : أهذا أفضل أم ذاك الكافر الجاحد الناسي لربه ؟ : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ } أي : توحيده ، وأمره ، ونهيه في الثواب والطاعة : { وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } أي : لا يستويان .
تنبيهات :
الأول - في الآية استحباب قيام الليل . قال ابن عباس : آناء الليل : جوف الليل . وقال الحسن : ساعاته أوله ، ووسطه ، وآخره .
الثاني - في قوله تعالى : { يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } ردّ على من ذم العبادة خوفاً من النار ، أو رجاءً الجنة . وقال صلّى الله عليه وسلم < حولها ندندن > .
الثالث - في قوله تعالى : { هَلْ يَسْتَوِي } الآية مدح العلم ، ورفعة قدره ، وذم الجهل ، ونقصه . وقد يستدل به على أن الجاهل لا يكافئ العالمة ، كما أنه لا يكافئ بنت العالم ، أفاده في " الإكليل " .
وفي الآية أيضاً إشعار بأن الذين يعلمون هم العاملون بعلمهم ؛ إذ عبر عنهم أولا بـ : القانت ، ثم نفى المساواة بينه وبين غيره ، ليكون تأكيداً له ، وتصريحاً بأن غير العالم كأن ليس بعالم .
قال القاشاني : وإنما كان المطيع هو العالم ، لأن العلم هو الذي رسخ في القلب ، وتأصل بعروقه في النفس ، بحيث لا يمكن صاحبه مخالفته ، بل سيط باللحم والدم ، فظهر أثره في الأعضاء لا ينفك شيء منها عن مقتضاه ، وأما المرتسم في حيز التخيل ، بحيث يمكن ذهول النفس عنه ، وعن مقتضاه ، فليس بعلم . إنما هو أمر تصوري وتخيل عارض لا يلبث ، بل يزول سريعاً ، لا يغذو القلب ، ولا يسمن ، ولا يغني من جوع : { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ } أي : يتعظ بهذا الذكر : { أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } أي : العقول الصافية عن قشر التخيل والوهم ، لتحققها بالعلم الراسخ الذي يتأثر به الظاهر ، وأما المشوبة بالوهم فلا تتذكر ولا تتحقق بهذا العلم ولا تعيه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ 10 ] .
{ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ } أي : للذين أحسنوا بالطاعات في الدنيا ، مثوبة حسنة في الآخرة ، لا يكتنه كنهها : { وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ } أي : بلاده كثيرة . فمن تعسر عليه التوفر على الإحسان في وطنه ، فليهاجر إلى حيث يتمكن منه . قال الشهاب : وجه إفادة هذا التركيب هذه المعاني الكثيرة ، أوضحه شراح الكشاف بأن قوله : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا } مستأنف لتعليل الأمر بالتقوى, ولذا قيد بالظرف ؛ لأن الدنيا مزرعة الآخرة ، فينبغي أن يلقى في حرثها بذر المثوبات . وعقّب بهذه الجملة لئلا يعتذر عن التفريط بعدم مساعدة المكان ، ويتعلل بعدم مفارقة الأوطان ، فكان حثّاً على اغتنام فرصة الأعمار ، وترك ما يعوق من حب الديار ، والهجرة فيما اتسع من الأقطار ، كما قيل :
~إِذَاْ كَاْنَ أَصْلِيْ مِنْ تُرَاْبٍ فَكُلُّهَا بِلَاْدِيْ وَكُلُّ الْعَاْلِمِيْنَ أَقَاْرِبِي
انتهى { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ } أي : على مشاق الطاعة من احتمال البلاء ، ومهاجرة الأوطان لها : { أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : بغير مكيال ؛ تمثيل للكثرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ } [ 11 ] .
{ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ } أي : عن الالتفات إلى غيره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ } [ 12 ] .
{ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ } أي : وأمرت بذلك ، لأجل أن أكون مقدمهم في الدنيا والآخرة ؛ لأن إخلاصه صلّى الله عليه وسلم أتم من إخلاص كل مخلص . وعلى هذا ، فالأولية في الشرف والرتبة ، أو لأنه أول من أسلم وجهه لله من أمته . فالأولية زمانية على ظاهرها . ويجوز أن تجعل اللام مزيدة . كما في : أردت لأن أفعل . فيكون أمراً بالتقدم في الإخلاص .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي } [13 - 14 ] .
{ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي } أي : بترك الإخلاص له : { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ } أي : أخصه بالعبادة : { مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي } عن شوب الغير .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } [ 15 ] .
{ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : أهلكوا أنفسكم بالضلال ، وأهليهم بالإضلال ، وخسروا أنفسهم بالهلاك وأهليهم به أيضاً ، إن كانوا مثلهم ، أو بفقدهم فقداً لا اجتماع بعده ، إن كانوا من أهل الجنة : { أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ } [ 16 ] .
{ لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } أي : أطباق من النار : { ذَلِكَ } أي : العذاب المتوعد به : { يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ } أي : بعدم التعرض لما يوجب السخط . قال الزمخشري : وهذه عظة من الله تعالى ، ونصيحة بالغة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَاد ِ *الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ * أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ } [ 17 - 19 ] .
{ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا } يعني الأوثان . وفعلوت للمبالغة : { وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى } أي : بالثواب : { فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } أي : أيثاراً للأفضل واهتماماً بالأكمل . قال الزمخشري : أراد أن يكونوا نقاداً في الدين ، يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل ، ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك ، وأقواها عند السبر ، وأبينها دليلاً وأمارة ، وأن لا تكون في مذهبك كما قال القائل :
~وَلَاْ تَكُنْ مِثْلَ عِيْرٍ قِيْدَ فَانْقَاْدَا
يريد المقلد . انتهى ويدخل تحته أيضاً إيثار الأفضل من كل نوعين ، اعتراضاً ، كالواجب مع الندب ، والعفو مع القصاص ، والإخفاء مع الإبداء في الصدقة ، وهكذا : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ } أي : أفأنت تنقذه منها ؟ أي : لا يمكن إنقاذه أصلاً(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ } [ 20 - 21 ] .
{ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ } أي : يتم جفافه : { فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً } أي : فتاتاً : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ } أي : لتذكيراً وتنبيهاً على أنه لا بد من صانع حكيم ، وأن ذلك كائن عن تقدير وتدبير ، لا عن تعطيل وإهمال . ويجوز أن يكون مثلاً للدنيا كقوله تعالى : { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [ يونس : 24 ] ، { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [ الكهف : 45 ] ، أفاده الزمخشري .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [ 22 ] .
{ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ } أي : وسعه لتسليم الوجه إليه وحه ، ولقبول دينه ، وشرعه بلطفه ، وعنايته ، وإمداده سبحانه : { فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ } أي : على بينة ومعرفة ، واهتداء إلى الحق ، واستعارة النور للهدى والعرفان ، شهيرة ، كاستعارة الظلمة لضد ذلك . وخبر من محذوف دلّ عليه قوله تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ } أي : من قبول ذكره لشدة ميلها إلى اللذات البدنية ، وإعراضها عن الكمالات القدسية ، أو من أجل ذكره ؛ فـ : من للتعليل والسببية . . وفيها معنى الابتداء لنشئها عنه . قال الشهاب : إذا قيل : قسا منه ، فالمراد أنه سبب لقسوة نشأت منه . وإذا قيل : قسا عنه ، فالمعنى أن قسوته جعلته متباعداً عن قبوله ، وبهما ورد استعماله . وقد قرئ بـ : عن ، في الشواذ . لكن الأول أبلغ ؛ لأن قسوة القلب تقتضي عدم ذكر الله ، وهو معناه إذا تعدى بـ : عن . وذكره تعالى مما يلين القلوب . فكونه سبباً للقسوة ، يدل على شدة الكفر الذي جعل سبب الرقة ، سبباً لقسوته : { أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } أي : عن طريق الحق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ 23 ] .
{ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً } أي : يشبه بعضه بعضاً . في الصحة ، والإحكام ، والبناء على الحق ، والصدق ، ومنفعة الخلق ، ووجوه الإعجاز : { مَّثَانِيَ } جمع مثنى بمعنى مردد ومكرر ، لما ثنى من قصصه ، وأنبائه ، وأحكامه ، وأوامره ، ونواهيه ، ووعده ، ووعيده ، ومواعظه : { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } تمثيل لإفراط خشيتهم ، أو حقيقة لتأثرهم عند سماع آياته ، وحكمه ، ووعيده ، بما يرد على قلوبهم منها : { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } أي : بالانقياد ، والطاعة ، والسكينة لأمره : { ذَلِكَ } أي : الكتاب ، أو الكائن من الخشية والرجاء : { هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ } أي : من زاغ قلبه : { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } [ 24 ] .
{ أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : فمن يجعل وجهه وقاية لشدة العذاب ذلك اليوم ، أي : قائماً مقامها في أنه أول ما يمسه المؤلم له ؛ لأن ما يتقى به هو اليدان ، وهما مغلولتان . ولو لم تغلا كان يدفع بهما عن الوجه ؛ لأنه أعز أعضائه . وقل : الاتقاء بالوجه كناية عن عدم ما يتقى به ؛ لأن الوجه لا يتقى به . وخبر من محذوف كنظائره . أي : كمن أمن العذاب : { وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } أي : وباله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ } [ 25 ] .
{ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ } أي : لا يحتسبون أن الشر يأتيهم منها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [26 - 27 ] .
{ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : الذل والصغار : { وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } أي : بيّنا لهم في هذا القرآن ، الذي هو دليل في نفسه من إعجازه ، من كل مثل يحتاج إليه . من يستدل بنظره على حقيته وأحقيته : { لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي : به ما يهمهم من أمور دينهم ، وما يصلحهم من شؤون سعادتهم . فيفسروا المعقول بالمحسوس .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ 28 ] .
{ قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } أي : مستقيماً بريئاً من التناقض والاختلاف : { لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي : العذاب ، والخزي يوم الجزاء ، بالاتقاء من الأفعال القبيحة ، والأخلاق الرديئة ، والاعتقادات الفاسدة . ومن أجل تلك الأمثال . ما مثل به ليتقي من أعظم المخوفات ، وهو الشرك ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [ 29 ] .
{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً } أي : للمشرك والموحد رجلين مملوكين : { رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ } أي : سيئو الأخلاق ، يتجاذبونه ويتعاورونه في مهماتهم المختلفة ، لا يزال متحيراً متوزع القلب ، لا يدري أيهم يُرضي بخدمته ، وعلى أيهم يعتمد في حاجته : { وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ } أي : خلص ملكه له ، لا يتجه إلى إلا جهته ، ولا يسير إلا لخدمته ، فهمّه واحد ، وقلبه مجتمع : { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } أي : صفةً وحالاً . أي : في حسن الحال وراحة البال ؟ كلا . وهكذا حال من يثبت آلهة شتى ، لا يزال متحيراً خائفاً لا يدري أيهم يعبد ، وعلى ربوبية أيهم يعتمد . وحال من لم يعبد إلا إلهاً واحداً ، فهمّه واحد ، ومقصده واحد ، ناعم البال ، خافض العيش والحال . والقصد أن توحيد المعبود فيه توحيد الوجهة ، ودرء الفرقة . كما قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام : { أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [ يوسف : 39 ] { الْحَمْدُ لِلَّهِ } قال أبو السعود : تقرير لما قبله من نفي الاستواء بطريق الاعتراض ، وتنبيه للموحدين على أن ما لهم من المزية بتوفيق الله تعالى . وأنها نعمة جليلة موجبة عليهم أن يداوموا على حمده وعبادته . أو على أن بيانه تعالى بضرب المثل ، أن لهم المثل الأعلى , وللمشركين مثل السوء . صنع جميل ولطف تام منه عز وجل ، مستوجب لحمده وعبادته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ } [ 30 ] .
{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ } تمهيد لما يعقبه من الاختصام يوم القيامة . وقرئ : مائت ومائتون . وقيل : كانوا يتربصون برسول الله صلّى الله عليه وسلم موته . أي : إنكم جميعاً بصدد الموت .
وقوله تعالى : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونٍَ } إضراب وانتقال من بيان عدم الاستواء على الوجه المذكور ، إلى بيان أن أكثر الناس ، وهم المشركون ، لا يعلمون ذلك مع كمال ظهوره ، فيبقون في ورطة الشرك والضلال ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [ 31 ] .
{ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ } أي : مالك أموركم : { تَخْتَصِمُونَ } أي : فتحتج أنت عليهم بأنك بلّغتهم ما أرسلت به من الأحكام والمواعظ التي من جملتها ما في تضاعيف هذه الآيات ، واجتهدت في الدعوة إلى الحق حق الاجتهاد ، وهم قد لجّوا في المكابرة والعناد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } [ 32 ] .
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ } أي : افترى عليه بنسبة الشريك والولد : { وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ } أي : بالأمر الذي هو عين الحق : { إِذْ جَاءهُ } أي : حضر عنده دليله وبرهانه ، فرفضه ورده على قائله ، أي : لا أحد من المتخاصمين أظلم ممن حاله ذلك ؛ لأنه أظلم من كل ظالم : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } أي : لهؤلاء الذين افتروا على الله سبحانه ، وسارعوا إلى التكذيب بالحق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [ 33 ] .
{ وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } أي : جاء بدليل التوحيد ، وآمن به فلم يعتد بشبهة تقابله ، يعني النبي صلّى الله عليه وسلم ، ومن تبعه : { أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } أي : الموصوفون بالتقوى التي هي أجل الرغائب . ولذا كان جزاؤهم أن يقيهم الله ما يكرهون ، كما قال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ } [ 34 - 37 ] .
{ لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ } أي : الذين أحسنوا أعمالهم وأصلحوها : { لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } أي : نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يعصمه من كل سوء ، ويدفع عنه كل بلاء في مواطن الخوف : { وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ } يعني الأوثان التي عبدوها من دونه تعالى ، وهذه تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم عما قالت له قريش : إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا ، ويصيبك مضرتها لعيبك إياها . كما قال قوم هود : { إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ } [ هود : 54 ] .
{ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ } أي : من غفل عن كفايته تعالى ، وعصمته له عليه الصلاة والسلام ، وخوفه بما لا ينفع ، ولا يضر أصلاً : { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ } أي : يصرفه عن مقصده ، أو يصيبه بسوء يخل بسلوكه ؛ إذ لا راد لفضله ، ولا معقب لحكمه : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ } أي : ينتقم من أعدائه لأوليائه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ 38 ] .
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } لما تقرر في الفِطَر والعقول من استيقان ذلك ، ولوضوح الدليل عليه : { قُلْ } أي : تبكيتاً لهم : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } أي : نفعه وخيره ، كلا ، فإنها لا تضر ولا تنفع : { قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } أي : في جميع أمورهم ، لا على غيره ، لعلمهم بأن كل ما سواه تحت قهره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ } [ 39 - 40 ] .
{ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ } أي : حالتكم التي أنتم عليها ، من العداوة ، ومناصبة الحق : { إِنِّي عَامِلٌ } أي : على مكانتي ، فحذف للاختصار ، والمبالغة في الوعيد ، والإشعار بأن حاله لا تزال تزداد قوة ، بنصر الله عز وجل وتأييده . ولذلك توعدهم بكونه منصوراً عليهم في الدارين ، بقوله تعالى : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } أي : دائم ، وقد أخزاهم الله يوم بدر : { وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } [ طه : 127 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } [ 41 ] .
{ إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ } أي : لأجلهم ، ولأجل حاجتهم إليه ، وافتقارهم إلى بيان مراشدهم : { فَمَنِ اهْتَدَى } أي : بدلائله : { فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } أي : لتجبرهم على الهدى ؛ إذ ما عليك إلا البلاغ : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } [ الحجر : 94 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ 42 ] . : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } أي : مفارقتها ، بإبطال تصرفها فيها بالكلية : { وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } أي : ويتوفى التي لم يحن موتها في منامها ، بإبطال تصرفها بالحواس الظاهرة : { فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ } أي : فلا يردها إلى بدنها إلى يوم القيامة : { وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي : وهو نوم آخر ، أو موت : { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : فيما ذكر من التوفي على الوجهين : { لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي : في كيفية تعلقها بالأبدان ، وتوفيها عنها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلَا يَعْقِلُونَ * قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ 43 - 45 ] .
{ أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً } أي : هو مالكها لا يستطيع أحد شفاعة ما ، إلا أن يكون المشفوع له مرتضى ، والشفيع مأذوناً له ، وكلاهما مفقود ها هنا : { لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ } أي : دون آلهتهم : { اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ } أي : فرادى ، أو مع ذكر الله تعالى : { إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } أي : يفرحون بذلك ؛ لفرط افتتانهم بها ، ونسيانهم حق الله تعالى . ولقد بولغ في الأمرين حيث بيّن الغاية فيهما ، فإن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سروراً حتى تنبسط له بشرة وجهه ، والاشمئزاز أن يمتلئ غماً حتى ينقبض أديم وجهه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ 46 ] .
{ قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : التجئ إلى الله بالدعاء بأسمائه الحسنى ، وقل : أنت وحدك تقدر على الحكم بيني وبينهم . والمقصود بيان حالهم ، ووعيدهم ، وتسلية حبيبه الأكرم ، وأن جدّه وسعيه معلوم مشكور عنده تعالى ، وتعليم العباد الالتجاء إلى الله تعالى ، والدعاء بأسمائه الحسنى ، والاستعانة بالتضرع ، والابتهال على دفع كيد العدو .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون } [ 47 - 48 ] .
{ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون } أي : نزل بهم جزاؤه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَاْن ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [ 49 - 50 ] .
{ فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَاْن ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ } أي : مني بوجوه الكسب والتحصيل : { بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ } أي : ابتلاء له ، أيشكر تلك النعمة ، فيصرفها فيما خلقت له ، فيسعد . أو يكفرها فيشقى : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي : كما قال قارون : { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } [ القصص : 78 ] : { فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : فما دفع عنهم ما كسبوه بذلك العلم من متاع الدنيا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ * أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ 51 - 52 ] .
{ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي : بأن الكل منه سبحانه ، ومن آياته في ذلك - كما قال المهايمي - أنه تعالى قوي بذاته ، له تقويه من يشاء ، وتضعيف من يشاء . ومنها أنه فيّاض بذاته لا يتوقف فيضه على الشفعاء . ومنها أنه فاعل بذاته لا يتوقف فعله على سبب وواسطة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ } [ 53 - 56 ] .
{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ } أي : جنوا عليها بالإسراف في المعاصي والكفر : { لَا تَقْنَطُوا } قرئ بفتح النون وكسرها : { مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ } أي : لا تيأسوا من مغفرته بفعل سبب يمحو أثر الإسراف : { إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً } أي : لمن تاب وآمن ؛ فإن الإسلام يجب ما قبله : { إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ } أي : توبوا إليه : { وَأَسْلِمُوا لَهُ } أي : استسلموا وانقادوا له ، وذلك بعبادته وحده ، وطاعته وحده ، بفعل ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه : { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ } أي : قصرت : { فِي جَنبِ اللَّهِ } أي : في جانب أمره ونهيه ، إذ لم أتبع أحسن ما أنزل : { وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ } أي : المستهزئين بمن يتبع الأحسن . و : { أن تَقُولَ } مفعول له بتقدير مضاف ؛ أي : فتداركوا كراهة أن تقول ، أو تعليل لفعل يدل عليه ما قبله ، أي : أنذركم وآمركم باتباع أحسن القول كراهة . وتفصيله في " شروح الكشاف " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [ 57 ] .
{ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي } أي : للإسلام : { لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } أي : من هذا الكفر ؛ أي : تقول هذا النوع من التحسر ، والتعلل بما لا يجدي .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [ 58 ] .
{ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً } أي : رجعة إلى الدنيا : { فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } أي في الإيمان والعمل الصالح . ثم رد تعالى على تلك النفوس بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ } [ 59 - 60 ] .
{ بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ } أي : بنسبة ما يستحيل عليه من الولد والشريك ، وتجويز ما يمتنع عليه من رضاه بما هم عليه ، وأمره لهم ، وغير ذلك من إفكهم : { وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } أي : لما ينالهم من الشدة التي تغير ألوانهم ، فالسواد حقيقي ، أو لما لحقهم من الكآبة ، ويظهر عليهم من آثار الهيئات الظلمانية ، ورسوخ الرذائل النفسانية في ذواتهم ، فالسواد مجاز بالاستعارة : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ } أي : عن الإيمان والهدى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون َ *اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [ 61 - 62 ] .
{ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ } أي : بفوزهم ، وفلاحهم لإتيانهم بأسباب الفوز ، من الاعتقادات المبنية على الدلائل ، والأعمال الصالحة : { لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } أي : يتولى التصرف فيه كيف شاء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ } [ 63 - 66 ] .
{ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : هو وحده يملك أمرها ، وخزائن غيوبها وأبواب خيرها وبركتها : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ } أي : خصه بالعبادة : { وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ } أي : الصارفين ما أنعم به عليهم ، إلى ما خلق لأجله .
قيل : كان الظاهر : لو أشركت ؛ لأن أن ، تقتضي احتمال الوقوع . وهو هنا مقطوع بعدمه . فالجواب : أن هذا الكلام وارد على سبيل الفرض . والمحالات يصح فرضها لأغراض . والمراد به تهييج الرسل ، وإقناط الكفرة ، والإيذان بغاية قبح الإشراك ، وكونه بحيث ينهى عنه من لا يكاد يمكن أن يباشره ، فكيف بمن عداه ؟ .
وإطلاق الإحباط هنا يستدل به من ذهب إلى أن الردة مبطلة للعمل مطلقا ، كالحنفية . وغيرهم يرى الإحباط مقيداً بالاستمرار عليه إلى الموت ، وأنه هو المحيط في الحقيقة ، وأنه إنما ترك التقييد به اعتماداً على التصريح به في آية أخرى ، وهي قوله تعالى : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } [ البقرة : 217 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ 67 ] .
{ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : ما قدروا عظمته تعالى حق عظمته ، ولا عرفوا جلاله حق معرفته ؛ حيث جعلوا له شركاء ، ووصفوه بما لا يليق بشؤونه الجليلة ، مع أن عظمته وكمال قدرته تتحير فيها الأوهام ، فإن تبديل الأرض غير الأرض ، وطي السماوات كطي السجل ، أهون شيء عليه .
وفي القبضة واليمين ، مذهبان معروفان :
مذهب السلف ، وهو إثبات ذلك من غير تكييف له ، ولا تشبيه ، ولا تحريف ، ولا تبديل ، ولا تغيير ، ولا إزالة للفظ الكريم عما تعرفه العرب ، وتضعه عليه بتأويل ، يجرون على الظاهر ، ويكلون علمه إليه تعالى ، ويقرون بأن تأويله : أي : ما يؤول إليه من حقيقته ، لا يعلمه إلا الله ، وهكذا قولهم في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن ، ووردت بها الأخبار الصحاح .
المذهب الثاني - القول بأن ذلك من المجاز المعروف نظيره في كلام العرب ، وإن الإطلاق لا ينحصر في الحقيقة . ثم من ذاهب إلى أن المجاز في المفردات, استعيرت القبضة للملك ، أو التصرف واليمين للقدرة ، وذاهب إلى أنه في المركب ، بتمثيل حال عظمته ونفاذ قدرته ، بحال من يكون له قبضة فيها الأرض ، ويمين بها تطوى السماوات ، وهذا ما عول عليه الزمخشري وبسطه أحس بسط .
ثم أشار إلى أن من عظيم قدرته تعالى ، أنه جعل النفخ في الصور سبب موت الكل تارة ، وحياتهم أخرى ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [ 68 ] .
{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ } أي : هلك : { مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ } أي : من خواص الملائكة ، أو من الشهداء ، روي ذلك عن بعض التابعين . وقال قتادة : قد استثنى الله ، والله أعلم ، إلى ما صار ثُنْيَتُه . وهذا هو الوجه ؛ إذ لا يصار إلى بيان المبهمات إلا بقاطع : { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ } أي : وقوف ، يقلبون أبصارهم دهشاً وحيرةً ، أو ينتظرون ما يحل بهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } [ 69 ] .
{ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } أي : لأنه يتجلى لهم سبحانه لإقامة العدل والجزاء
{ وَوُضِعَ الْكِتَابُ } أي : عرض كتب الأعمال على أهلها ليقرأ كل واحد عمله في صحيفته . أو : { الْكِتَابُ } مجاز عن الحساب وما يترتب عليه من الجزاء ، ووضعه ترشيح له . والمراد بوضعه الشروع فيه ، أو هو تمثيل . وجوهٌ نقلها الشهاب : { وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء } أي : الذين يشهدون للأمم وعليهم ، من الحفظة والأخيار المطلعين على أحوالهم ؛ أي : أحضروا للشهادة لهم ، أو عليهم لاطّلاعهم على أحوالهم ، وجوّز إرادة المستشهدين في سبيل الله تعالى ، تنويهاً بشأنهم ، وترفيعاً لقدرهم ، بضمهم إلى النبيين في الموقف . ولا يبعد : { وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } أي : فتوزن أعمالهم بميزان العدل ، ويوفّون جزاء أعمالهم ، لا ينقص منها شيء ، كما قال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [ 70 - 73 ] .
{ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً } أي : أفواجاً متفرقة بعضها في أثر بعض ، على تفاوت ضلالهم وغيهم ، رعاية للعدل في التقديم والتأخير : { حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } أي : ليدخلوها ، ولكل فريق باب
{ وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا } أي : الموكلون بتعذيبهم : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ } أي : من جنسكم تعرفون صدقهم وأمانتهم : { يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا } أي : وقتكم أو يوم القيامة ، حرصاً على صلاحكم وهدايتكم : { قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ } أي : وجبت : { كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } أي : حكمه عليهم بالشقاوة ، وأنهم من أهل النار : { قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ } أي : مساق إعزاز وتشريف ، للإسراع بهم إلى دار الكرامة : { زُمَراً } أي : متفاوتين حسب تفاوت مراتبهم في الفضل : { حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ } أي : من دنس المعاصي ، وطهرتم من خبث الخطايا
{ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } قال السمين : في جواب : { إِذَا } ثلاثة أوجه :
أحدها - قوله : { وَفُتِحَتْ } والواو زائدة . وهو رأي الكوفيين والأخفش ، وإنما جيء هنا الواو دون التي قبلها ؛ لأن أبواب السجون مغلقة إلى أن يجيئها صاحب الجريمة فتفتح له ، ثم تغلق عليه ، فناسب ذلك عدم الواو فيها ، بخلاف أبواب السرور والفرح ، فإنها تفتح انتظاراً لمن يدخلها .
والثاني - أن الجواب قوله : { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا } على زيادة الواو أيضاً .
الثالث - أن الجواب محذوف . قال الزمخشري : وحقه أن يقدر بعد خالدين : أي لأنه يجيء بعد متعلقات الشرط ما عطف عليه . والتقدير : اطمأنوا . وقدّره المبرد : سعدوا . وعلى هذين الوجهين ، فتكون الجملة من قوله : { وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } في محل نصب على الحال ، والواو واو الحال ؛ أي : جاءوها مفتحة أبوابها ؛ كما صرح بمفتحة حالاً من : { جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ } وهو قول المبرد والفارسي وجماعة ، وزعم بعضهم أن هذه الواو تسمى واو الثمانية ؛ لأن أبواب الجنة ثمانية ، وردّه في " المغني " بأنه لو كان لواو الثمانية حقيقة ، لم تكن الآية منها ؛ إذ ليس فيها ذكر عدد البتة ، وإنما فيها ذكر الأبواب ، وهي جمع يدل على عدد خاص . ثم الواو ليست داخلة عليه ، بل على جملةٍ هو فيها . انتهى .
أي وهي - على قول مثبتها - الداخلة على لفظ الثمانية على سرد العدد ، ذهاباً إلى أن بعض العرب إذا عدّوا قالوا : ستة سبعة وثمانية . إيذاناً بأن السبعة عدد تام ، وأن ما بعده عدد مستأنف ، فأشبهت واو الاستئناف .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 74 - 75 ] .
{ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } أي : بإيصالنا إلى ما وعدنا ، وأنبأنا عنه على ألسنة رسله : { وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ } أي : أرض الآخرة . شبه نيلهم بأعمالهم لها ، بإرثهم من آبائهم ؛ فكأن الأعمال آباؤهم ، كما قيل :
~وَأَبِيْ الْإِسْلَاْمُ لَاْ أَبَ لِيْ سِوَاْهُ
وكما يقال : الصدق يورث النجاة { نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء } أي : يتبوأ كل من جنته الواسعة ، أي : مكان أراده : { فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } أي : الذين عملوا بما عملوا : { وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ } أي : الملائكة السماوية حافين في جنة الفردوس حول عرش الرحمن ، محدقين به . وتقدم في تفسير آية : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [ الأعراف : 54 ] في الأعراف ، كلام في حملة العرش ، فتذكره : { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم } أي : بين الخلائق : { بِالْحَقِّ } أي : بالعدل : { وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : على ما قضى بينهم بالحق ، وأنزل كلاً منزلته التي هي حقه . والقائل : إما الحق جل جلاله ، أو الملائكة الحافون ، أو المؤمنون ممن قضي بينهم ، أو الكل ، فله الحمد عز وجل .
عن قتادة قال : افتتح الله أول الخلق بـ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } فقال : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } وختم بالحمد فقال : { وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .(/)
سورة غافر
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ 1 - 2 ] .
{ حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } الكلام في مفتتح هذه السورة ، وتاليه ، كالذي سلف في [ الم السجدة ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ * مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ } [ 3 ، 4 ] .
{ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ } أي : المن والفضل : { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } أي : المرجع والجزاء : { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : ما يخاصم في حجج الله ، وأدلته على وحدانيته بالإنكار لها ، إلا الذين جحدوا توحيده ، قال الزمخشري : سجل على المجادلين في آيات الله بالكفر . والمراد الجدال بالباطل ، من الطعن فيها ، والقصد إلى إدحاض الحق ، وإطفاء نور الله . وقد دل على ذلك قوله : { وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } [ غافر : 5 ] .
فأما الجدال فيها ، لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها ومقارحة أهل العلم في استنباط معانيها ، ورد أهل الزيغ بها وعنها ، فأعظم جهاد في سبيل الله . وقوله صلّى الله عليه وسلم < جدال في القرآن كفر > وإيراده منكراً ، تمييز منه بين جدال وجدال . انتهى : { فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ } أي : للتجارات ، وتمتعهم بالتجوال والترداد ، فمآلهم إلى الزوال والنفاد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } [ 5 ] . : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ } أي : الذين تحزبوا على الرسل ، وناصبوهم : { مِن بَعْدِهِمْ } أي : من بعد سماع أخباهم ، ومشاهدة أثارهم : { وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } أي : ليتمكنوا منه , ومن الإيقاع به , وإصابته بما أرادوا من تعذيب , أو قتل ، من الأخذ بمعنى الأسر ، والأخيذ الأسير : { وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ } أي : قابلو حجج الرسل بالباطل من جدالهم : { لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } أي : ليزيلوا به الأمر الثابت بالحجة الصحيحة ، لكنه لا يندحض وإن كثرت الشبه ؛ لما أنه الثابت في نفسه المتقرر بذاته : { فَأَخَذْتُهُمْ } أي : العذاب الدنيوي المعروف أخباره ، المشهود آثاره : { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } أي : في الدار ، فيعتبر به عقاب تلك الدار .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ } [ 6 ] .
{ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ } قال ابن جرير : أي : وكما حق على الأمم التي كذبت رسلها ، التي قصصت عليك ، يا محمد ، قصصها ، وحل بها عقابي . كذلك وجبت كلمة ربك على الذين كفروا بالله من قومك ، الذين يجادلون في آيات الله ؛ لأنهم أصحاب النار .
ثم نوه بالمؤمنين ، وبما أعدّ لهم ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } [ 7 - 10 ] .
{ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ } أي : من الملائكة . وقد سبق في تفسير آية : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [ الأعراف : 54 ] ، في الأعراف ، كلام في حملة العرش ، فراجعه : { وَمَنْ حَوْلَهُ } يعني الملائكة المقرّبين : { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } أي : ويقرون بأنه لا إله لهم سواه ، ويشهدون بذلك لا يستكبرون عن عبادته . وفائدة التصريح بإيمانهم مع جلائه ، وهو إظهار فضيلة الإيمان ، وإبراز شرف أهله ، والإشعار بعلة دعائهم للمؤمنين ؛ حسبما ينطق به قوله تعالى : { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } فإن المشاركة في الإيمان أقوى المناسبات وأتمها ، وأدعى الدواعي إلى النصح والشفقة .
وفي نظم استغفارهم لهم في سلك وظائفهم المفروضة عليهم ، من تسبيحهم ، وتحميدهم ، وإيمانهم ، إيذان بكمال اعتنائهم به ، وإشعار بوقوعه عند الله تعالى في موقع القبول : { رَبَّنَا } أي : يقولون ربنا : { وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً } أي : شملت رحمتك ، وأحاط بالكل علمك : { فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ } أي : صراطك المستقيم بمتابعة نبيك في الأقوال ، والأعمال ، والأحوال : { وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } أي : عمل صالحاً منهم ، ليتم سرورهم بهم : { إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ } أي : عقوبتها وجزاءها : { وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } أي : لبغضه الشديد لكم ، أعظم من بغض بعضكم لبعض ، وتبرؤ كل من الآخر ، ولعنه حين تعذبون ، كما قال تعالى : { يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } [ العنكبوت : 25 ] ، أو أعظم من مقتكم أنفسكم وذواتكم ، فقد يمقتون أنفسهم حين تظهر لهم هيئاتها المظلمة ، وصفاتها المؤلمة ، وسواد الوجه الموحش ، وقبح المنظر المنفر : { إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } أي : تدعون على ألسنة الرسل عليهم السلام ، إلى الإيمان به سبحانه ، فتكفرون كبراً وعتوّاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ } [ 11 ] .
{ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } أي : أنشأتنا أمواتاً مرتين ، وأحييتنا في النشأتين كما قال تعالى : { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ البقرة : 28 ] ، قال قتادة : كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم ، فأحياهم الله في الدنيا ، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة . فهما حياتان وموتتان : { فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا } أي : فأقررنا بما علمنا من الذنوب في الدنيا ، وذلك عند وقوع العقاب المرتب عليها ، وامتناع المحيص عنه : { فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ } أي : فهل إلى خروجنا من النار ، من سبيل ، لنرجع إلى الدنيا فنعمل غير الذي كنا نعمل . قال الزمخشري : وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط . وإنما يقولون ذلك تعللاً وتحيراً . ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك . وهو قوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ * هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ } [ 12 ، 13 ] .
{ ذَلِكُم } أي : ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب ، وأن لا سبيل إلى خروج قط : { بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا } أي : بسبب إنكاركم أن الألوهية له خالصة ، وقولكم : { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً } [ ص : 5 ] ، وإيمانكم بالشرك : { فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } أي : فالقضاء له وحده لا للغير . فلا سبيل إلى النجاة لعلوّه وكبريائه ، فلا يمكن لأحد [ في المطبوع : أحداً ] ردّ حكمته وعقابه : { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ } أي : من الريح ، والسحاب ، والرعد ، والبرق ، والصواعق ، ونحوها : { وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقاً } أي : مطراً . وإفراده بالذكر من بين الآيات ، لعظم نفعه ، وتسبب حياة كل شيء عنه : { وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ } أي : وما يتعظ بآياته تعالى ، إلا من يرجع إليه بالتوبة والإنابة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ } [ 14 ، 15 ] .
{ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } أي : فاعبدوه مخلصين له الدين ، عن شوب الشرك
{ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } أي : غاظهم ذلك : { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ } أي : رفيع درجات عرشه كقوله : { ذِي الْمَعَارِجِ } [ المعارج : 3 ] ، وهي مصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش . وهي دليل على عزته وملكوته ، أو هو عبارة عن رفعة شأنه ، وعلو سلطانه ، وكمالاته ، غير المتناهية : { ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ } أي : الوحي والعلم اللدني الذي تحيا به القلوب الميتة : { مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } أي : أهل عنايته الأزلية ، واختصاصه للرسالة والنبوة : { لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ } أي : يوم القيامة الكبرى ، الذي يتلاقى فيه العبد بربه ليحاسبه على أعماله ، أو العباد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار ِ *الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ 16 ، 17 ] .
{ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ } أي : من قبورهم ، أو ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل ، أو بناء
{ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ } أي : من أعمالهم ، وأعيانهم ، وأحوالهم . وقوله : { لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } ينادي به الحق سبحانه ، عند فناء الكل ، أو وقت التلاقي ، والبروز ، فيجيب هو وحده : { لِلَّهِ الْوَاحِدِ } أي : المتفرد بالملك : { الْقَهَّارِ } أي : الذي قهر بالغلبة كل ما سواه : { الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } أي : بإيصال ما يستحق كل منهم إليه ، من تبعات سيئاته ، وثمرات حسناته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ } [ 18 ] .
{ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ } أي : الواقعة القريبة : { إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ } أي : من أهواله ترتفع القلوب عن مقارّها ، فتصير لدى الحلوق : { كَاظِمِينَ } أي : ممتلئين غمّا ، بما أفرطوا من الظلم : { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ } أي : قريب يهتمّ لشأنهم ، فيخفف عنهم غمومهم : { وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ } أي : من يشفع في تخفيفها عنهم ؛ إذ لا تقبل شفاعة فيهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ } [ 19 - 25 ] . : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ } أي : نظراتها الخائنة ، وهي الممتدة إلى ما لا يحل : { وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } أي : تكنّه من الضمائر والأسرار : { وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ } أي : بالعدل : { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ } أي : لأنهم لا يقدرون على شيء : { إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ } يعني حصونهم وقصورهم وعددهم : { فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ } أي : بآيات نبوته : { مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ } أي : قالوا أعيدوا عليهم القتل ، كالذي كان أولاً ، واستبقوا نسائهم للخدمة : { وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ } أي : وما مكرهم في دفع ما أراد الله من ظهور دينه ، إلا في ضياع ؛ إذ هو كالغثاء الذي يقذفه تيار الحق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ } [ 26 ] .
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ } أي : ما أنتم عليه من عبادة الأصنام : { أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ } أي : فساد مملكتي ؛ إذ يتفق الكل على متابعته ، وإجراء أحكامه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } [ 27 ] .
{ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } أي : التجأت إليه وتوكلت عليه ، فهو ناصر دينه ، ومعزّ أهله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } [ 28 ] .
{ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } أي : من فرعون وملئه : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ } أي : من عذاب الدنيا إن تعرضتم له . وقد أشار الزمخشري إلى ما في طي هذا القول من اللطائف والأسرار ، بما ملخصه : إن هذا المؤمن استدرجهم في الإيمان باستشهاده على صدق موسى ، بإحضاره عليه السلام من عند مَن تنسب إليه الربوبية ، بينات عدة لا بينة واحدة ، وأتى بها معرفة ، معناه البينات العظيمة التي شهدتموها وعرفتموها على ذلك ، ليلين بذلك جماحهم ، ويكسر من سورتهم .
ثم أخذهم بالاحتجاج بطريق التقسيم ، فقال : لا يخلو من أن يكون صادقاً أو كاذباً . فإن يك كاذباً فضرر كذبه عائد عليه . أو صادقاً فيصبكم ، إن تعرضتم له ، بعضُ الذي يعدكم . وإنما ذكر بعض ، في تقدير أنه نبي صادق ، والنبي صادق في جميع ما يَعِدُ به ، لأنه سلك معهم طريق المناصحة لهم والمداراة ، فجاء بما هو أقرب إلى تسليمهم ، وأدخل في تصديقهم له ، ليسمعوا منه ولا يردوا عليه صحته ، وذلك أنه حين فرضه صادقاً ، فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يَعِدُ . ولكنه أردفه : { يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ } ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام ، ليريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه ، وأثنى عليه ، فضلاً عن أن يكون متعصباً له ، وتقديم الكاذب على الصادق من هذا القبيل .
قال الناصر : ويناسب تقديم الكاذب على الصادق هنا ، قوله تعالى : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [ يوسف : 26 - 27 ] ، فقدم الشاهد أمارة صدقها على أمارة صدق يوسف ، وإن كان الصادق هو يوسف ، دونها ، لرفع التهمة وإبعاد الظن ، وإدلالاً بأن الحق معه ، ولا يضره التأخير لهذه الفائدة . وقريب من هذا التصرف لإبعاد التهمة ، ما في قصة يوسف مع أخيه ؛ إذ بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه . انتهى { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } قال الزمخشري : يحتمل أنه إن كان مسرفاً كذاباً ، خذله الله وأهلكه ، ولم يستقم له أمر ، فتتخلصون منه ، وأنه لو كان مسرفاً كذاباً لما هداه الله للنبوة ، ولما عضده بالبينات .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ } [ 29 ] . : { يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ } أي : عالين وقاهرين ، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم بأنفسكم ، ولا تعرضونا لعذابه تعالى : { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى } أي : ما أشير عليكم إلا ما أستصوبه من قتله ؛ إذ البأس السماوي من أجل قتله ، أمر متوهم . فإتباعه غلط : { وَمَا أَهْدِيكُمْ } أي : بإراءة رأي قتله : { إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ } وهو دفع تبدل دينكم ، وإظهار الفساد في الأرض ، بإظهار أحكامه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ } [ 30 ، 31 ] .
{ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم } أي : من قتله : { مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ } أي : الطوائف الهالكة بالتكذيب : { مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ } أي : جزائهم من الغرق : { وَعَادٍ } أي : من الريح العقيم : { وَثَمُودَ } أي : الصيحة : { وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ } أي : من الأمم المكذبة ، مما يدل على أن الهلاك سنة مستمرة لأهل التكذيب ؛ إذ لم يكن لهم ذنب آخر يوجبه : { وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ } أي : فلا يعاقبهم بغير ذنب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ } [ 32 ] .
{ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ } يعني يوم القيامة ، أي : عذابه . سمي بذلك لما جاء في حديث < أن الأرض إذا زلزلت ، وانشقت من قطر إلى قطر ، وماجت وارتجت ، فنظر الناس إلى ذلك ، ذهبوا هاربين ينادي بعضهم بعضاً > أي : من هول فزع النفخة . وقال قتادة : ينادي كل قوم بأعمالهم ؛ ينادي أهل الجنة أهلَ الجنة وأهل النار أهلَ النار . وقيل لمناداة أهل الجنة أهل النار : { أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ } [ الأعراف : 44 ] ، ومناداة أهل النار أهل الجنة : { أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ } [ الأعراف : 50 ] ، واختار البغوي وغيره أنه سُمّي لمجموع ذلك ؛ أي : لوقوع الكل فيه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ 33 ] .
{ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } أي : ذاهبين فراراً من الفزع الأكبر : { كَلَّا لا وَزَرَ إِلَى رَبِّك َيَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ } [ القيامة : 11 - 12 ] { مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ } أي : من عذابه ، من مانع ، لتقرر الحجة عليكم : { وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ } أي : بزيغه عن صراط ربه : { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } أي : من حجة ، ولا مرشد إلى النجاة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ } [ 34 ] .
{ وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ } أي : من قبل مجيء موسى بالحجج البينة والبراهين النيرة ، على وجوب عبادته تعالى وحده . كقوله : { أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [ يوسف : 39 ] ، { فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ } أي : مع ظهور استقامته الكافية في الدلالة على صحة ما جاءكم به ، فلم يزل يقررها : { حَتَّى إِذَا هَلَكَ } أي : مات : { قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً } أي : يقرر حججه . فقطعتم من عند أنفسكم ، بعدم إرسال الله الرسول ، مع الشك في إرسال من أعطاه البيانات ، من فرط ضلالكم : { كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } أي : في التشكيك عند ظهور البراهين القطيعة : { مُّرْتَابٌ } أي : شاك مع ظهور لوائح اليقين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } [ 35 ] .
{ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ } أي : برهان : { أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } أي : بطر للحق ، لا يقبل الحجة ، جبار في المجادلة ، ألدّ فيصدر عنه أمثال ما ذكر ، من الإسراف ، والارتياب ، والمجادلة في الباطل لطمس بصيرته ، فلا يكاد يظهر له الحق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ } [ 36 ، 37 ] .
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً } أي : قصراً عالياً ظاهراً لكل أحد : { لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ } أي : طرقها : { فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى } أي : لأسأله عن إرساله ، أو لأقف على كنهه : { وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً } قال ابن جرير : أي : لأظن موسى كاذباً فيما يقول ويدعي ، من أن له في السماء ربّاً أرسله إلينا : { وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ } أي : سبيل الرشاد لما طبع على قلبه ، من كبره ، وتجّبره ، وإسرافه ، وإرتيابه : { وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ } أي : خسار وهلاك ، لذهاب نفقته على الصرح سدى ، وعدم نيله ، مما أراده من الاطلاع ، شيئاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ } [ 38 ] .
{ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ } أي : طريق الصواب الذي ترشدون إذا أخذتم فيه ، واستكملتموه . ثم أشار إلى تفصيل ما أجمله بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ } [ 39 ] .
{ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ } أي : تمتع يسير ، لسرعة زوالها : { وَإِنَّ الْآخِرَةَ } التي يوصل إليها سبيلي : { هِيَ دَارُ الْقَرَارِ } أي : الاستقرار ، والخلود .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ 40 ] .
{ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : بغير تقدير ، وموازنة بالعمل . بل أضعافاً مضاعفة . قال الزمخشري : قوله : { بِغَيْرِ حِسَابٍ } واقع في مقابلة : { إِلَّا مِثْلَهَا } يعني أن جزاء السيئة له حساب وتقدير ، لئلا يزيد على الاستحقاق ، فأما جزاء العمل الصالح فبغيره تقدير وحساب ، بل ما شئت من الزيادة والكثرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ } [ 41 ، 42 ] . : { وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } أي : بوجوده علم ؛ إذ لا وجود له : { وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ } أي : الغالب الذي يقهر من عصاه : { الْغَفَّارِ } أي : الذي يستر ظلمات نفوس من أطاعه ، بأنواره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [ 43 ، 44 ] .
{ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ } أي : الذي تدعوني إلى عبادته ، ليس له دعوة في الدنيا لدفع الشدائد ، والأمراض ونحوها ، ولا في الآخرة لدفع أهوالها ، على ما قاله المهايمي . أو لا دعوة له في الدارين لعدمه بنفسه ، واستحالة وجوده فيهما ، على ما قاله القاشاني . وقال الشهاب : عدم الدعوة عبارة عن جماديتها ، وأنها غير مستحقة لذلك .
وسياق : { لَا جَرَمَ } عند البصريين أن يكدن لا ردّاً لما دعاه إليه قومه و : { جَرَمَ } بمعنى كسب ؛ أي : وكسب دعاؤهم إليه بطلان دعوته ؛ أي : ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته ، ويجوز أن يكون : { لَا جَرَمَ } نظير لابد من الجرم وهو القطع . فكما أنك تقول : لابد لك أن تفعل . والبد من التبديد الذي هو التفريق ، ومعناه لا مفارقة لك من فعل كذا ، فكذلك [ في المطبوع : فكذالك ] : { لَا جَرَمَ } معناه لا انقطاع لبطلان دعوة الأصنام . بل هي باطلة أبداً . هذا ما يستفاد من " الكشاف " .
وفي " الصحاح " : قال الفراء : { لَا جَرَمَ } كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا محالة ، ولا بد فجرت على ذلك ، وكثرت حتى تحولت إلى معنى القسم ، وصارت بمنزلة حقا ، فلذلك يجاب عنها باللام . ألا تراهم يقولون : لا جرم لآتيناك . وقد حقق الكلام فيها ابن هشام في " المغني " في بحث ، والجلال في " همع الهوامع " أثناء بحث إن والقسم ، فنظرهما { وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ } أي : في الضلالة ، والطغيان ، وسفك الدماء : { هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ } أي : في النصح عند معاينة الأهوال ، وما يحيق بكم : { وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ } أي : وأسلم أمري إليه ، وأجعله له ، وأتوكل عليه ، فإنه الكافي من توكل عليه : { إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } أي : فيعلم المطيع منهم ، والعاصي ، ومن يستحق المثوبة والعقوبة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ } [ 45 ] .
{ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا } أي : فرفع الله عن هذا المؤمن من آل فرعون ، بإيمانه وتصديق رسوله موسى ، مكروه ما كان فرعون ينال به أهل الخلاف عليه ، من العذاب والبلاء ، فنجاه منه : { وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ } أي : بفرعون ، وقومه : { سُوءُ الْعَذَابِ } يعني الغرق ، أو النار . وعلى الأول ، فقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا لـ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ * وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ } [ 46 - 48 ] .
{ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } جملة مستأنفة مبنية لكيفية نزول العذاب بهم ، على أن : { النَّارُ } مبتدأ ، وجملة : { يُعْرَضُونَ } خبره . وعلى الثاني ، فالنار خبر لمحذوف ، وهو خبر العذاب السيء ، أو هي بدل من : { سُوءُ الْعَذَابِ } . والمراد عرض أرواحهم عليها دائماً . واكتفى بالطرفين المحيطين - الغدو والعشي - عن الجميع ، وبه يستدل على عذاب القبر والبرزخ . وقاناه الله تعالى ، بمنه .
قال السيوطي : وفي " العجائب " للكرماني ، في الآية أدل دليل على عذاب القبر ؛ لأن المعطوف غير المعطوف عليه ؛ يعني قوله تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ } أي : هذا العرض ما دامت الدنيا ، فإذا قامت الساعة يقال لهم : { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } وهو عذاب جهنم ؛ لأنه جزاء شدة كفرهم : { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ } أي : يتخاصمون فيها ، الأتباع والمتبوعون : { فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً } أي : أتباعاً كالمكرهين : { فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا } أي : نحن وأنتم . فكيف نغني عنكم ؟ ولو قدرنا لأغنينا عن أنفسنا : { إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ } أي : بأن أدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، ولا معقب لحكمه . أو بأن قدّر عذاباً لكل منا لا يدفع عنه ، ولا يتحمله عنه غيره ، قال الشهاب : وهذا أنسب بما قبله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ } [ 49 ] .
{ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ } أي : لما أيسوا من التخفيف عند المحاجّة : { ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ } أي : يدفع عنا يوماً من أيام العذاب ، أو ألَمَ يوم ، وشدته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ } [ 50 ] .
{ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ } أي : المتكاثرة على صدقهم ، المنذرة بهذه الشدة : { قَالُوا بَلَى } أي : جاءوا بها , وأخبروا مع البينات : { قَالُوا فَادْعُوا } أي : إن كان ينفعكم ، وهيهات : { وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ } أي : في ضياع لا يجاب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [ 51 ] .
{ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } أي : لننصرهم في الدارين ، أما في الدنيا ، فبإهلاك عدوهم واستئصاله عاجلاً ، أو بإظفارهم بعدوّهم وإظهارهم عليه ، وجعل الدولة لهم , والعافية لأتباعهم , وأما في الآخرة ، فبالنعيم الأبدي ، والحبور السرمدي . و : { الْأَشْهَادُ } جمع شاهد ، وهم من يشهد على تبليغ الرسل وتكذيبهم ظلماً , أو جمع شهيد ، كأشراف وشريف .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ 52 ] .
{ يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } قال ابن جرير : ذلك يوم لا ينفع أهل الشرك اعتذارهم ، لأنهم لا يعتذرون إلا بباطل ؛ وذلك أن الله قد أعذر إليهم في الدنيا ، وتابع عليهم الحجج فيها ، فلا حجة لهم في الآخرة إلا الاعتصام بالكذب ؛ بأن يقولوا : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ، ولذا كانت لهم اللعنة ، وهي البعد من رحمة الله , وشر ما في الدار الآخرة من العذاب الأليم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ } [ 53 ] .
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى } أي : ما يهتدي به , فكذب به فرعون ، وقومه كما كذبت قريش : { وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ } أي : وتركنا عليهم بعده من ذلك التوراة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } [ 54 ] .
{ هُدًى } أي : بياناً لأمر دينهم ، وما ألزمناهم من شرائعها : { وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } أي : لذوي الحجى ، والعقول منهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } [ 55 ] .
{ فَاصْبِرْ } أي : إذا تلوت ما قصصناه عليك للناس ، فاصبر على أذى المشركين ، واصدع بما تؤمر : { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } أي : بنصرك على من خالف ، لا خلف له وهو منجزه ، واذكر نبأ موسى وفرعون : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } أي : سله غفرانه ، وعفوه : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } كقوله تعالى : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } [ ق : 39 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ 56 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } أي : يدفعون الحق بالباطل ، ويردّون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة ، بلا برهان ولا حجة من الله : { إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ } أي : إلا تكبّر عن الحق ، وتعظم عن التفكر ، وغمط لمن جاءهم به ، حسداً منهم على الفضل الذي آتاك الله ، والكرامة التي أكرمك بها من النبوة : { مَّا هُم بِبَالِغِيهِ } قال ابن جرير : أي : الذي حسدوك عليه أمر ليسوا بمدركيه ولا نائليه . لأن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، وليس بالأمر الذي يدرك بالأماني . وقد قيل : إن معناه إن في صدورهم إلا عظمة ، ما هم ببالغي تلك العظمة ، لأن الله مذلّهم : { فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } قال ابن جرير : أي : فاستجر بالله يا محمد ، من شر هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان ، ومن الكبر أن يعرض في قلبك منه شيء : { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } أي : لما يقولون ، وبما يعملون ، فسيجازيهم .
تنبيه :
قال كعب ، وأبو العالية : نزلت هذه الآية في اليهود ، وذلك أنهم ادعوا أن الدجال منهم ، وأنهم يملكون به الأرض . فأمر صلى الله عليه وسلم أن يستعذ بالله من فتنته . قال ابن كثير : وهذا قول غريب ، وفيه تعسف بعيد . وإن كان قد رواه ابن أبي حاتم ، ولم يذكره ابن جرير ، على ولعه بالغريب والضعيف .
وفي " الإكليل " : ليس في القرآن الإشارة إلى الدجال إلا في هذه الآية ، أي : على صحة هذه الرواية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [ 57 ] .
{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } أي : لإنشائهما ، وابتداعهما من غير شيء ، أعظم من خلق البشر : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } أي : لا ينظرون ، ولا يتأملون لغلبة الجهل عليهم ؛ ولذا يجعلون إعادة الشيء أعظم من خلقه عن عدم ، مع أنه أهون وأيسر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ } [ 58 ] .
{ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } أي : ما يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئاً ، وهو مثل الكافر الذي لا يتأمل حجج الله بعينيه فيتدبرها ويعتبر بها ، فيعلم وحدانيته وقدرته على خلق ما شاء ، ويؤمن به - والبصير الذي يرى بعينيه ما شخص لهما ويبصره . وذلك مثل المؤمن الذي يرى بعينيه حجج الله فيتفكر فيها ، ويتعظ ، ويعلم ما دلت من توحيد صانعه ، وعظيم سلطانه : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي : ولا يستوي أيضاً المؤمنون بالله ورسوله ، المطيعون لربهم : { وَلَا الْمُسِيءُ } وهو الكافر بربه ، العاصي له ، المخالف أمره : { قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ } أي : حججه تعالى . فيعتبرون ويتعظون ؛ أي : لو تذكّروا آياته واعتبروا بها ، لعرفوا خطأ ما هم مقيمون عليه ، من إنكار البعث ، ومن قبح الشرك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ } [ 59 ] .
{ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا } أي : فأيقنوا بمجيئها ، وأنكم مبعوثون ، ومجازون بأعمالكم ، فتوبوا : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ } أي : لا يصدقون بمجيئها ؛ يعني المشركين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ 60 ] .
{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } أي : اعبدوني أُثبْكم . قال الزمخشري : والدعاء بمعنى العبادة ، كثير في القرآن ، ويدل عليه قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } أي : صاغرين أذلاء . قال الشهاب : إطلاق الدعاء على العبادة مجاز ، لتضمن العبادة له ، لأنه عبادة خاصة أريد به المطلق ، وجعل الإثابة لترتبها عليها استجابة ، مجازاً ، أو مشاكلة . وإنما أوّل به لأن ما بعده يدل عليه . والمقام يناسبه الأمر بالعبادة . وقد جوّز أن يراد بالدعاء ، والاستجابة ظاهرهما ، ويراد بالعبادة الدعاء مجازاً ؛ لأنه باب من العبادة عظيم ، وفرد من أفرادها فخيم . قال الشهاب : ولو قيل لا حاجة إلى التجوّز ، لأن الإضافة المراد بها العهد هنا ، فيفيد ما ذكر من غير تجوّز - لكان أحسن . انتهى .
وعلى الوجه الثاني - وهو أن المراد بالدعاء السؤال - اقتصر كثير من المفسرين . قال المهايمي : { أَسْتَجِبْ لَكُمْ } لأن الدعاء من العبد غاية في التذلل لربه ، وهو محبوب لربه . فإذا أتى العبد بمحبوب الرب عظمه بالاستجابة ، وإذا لم يستجب له في الدنيا عوضه في الآخرة ، ولحبه التذلل أمر العباد بالعبادة ، فإن استكبروا كان لهم غاية الإذلال . وقال القاشاني : الآية في دعاء الحال ؛ لأن الدعاء باللسان مع عدم العلم بأن المدعو به خير له أم لا ، دعاء المحجوبين ، وأما الدعاء الذي لا تتخلف عنه الاستجابة ، فهو دعاء الحال بأن يهيئ العبد استعداده لقبول ما يطلبه ، ولا تتخلف الاستجابة عن هذا الدعاء . كمن طلب المغفرة ، فتاب إلى الله ، وأناب بالزهد والطاعة . انتهى .
وتقدم في آية : { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] ، فوائد تناسب هذا المقام ، فلتراجع . ثم أشار تعالى إلى أنه كيف لا يلزم العباد عبادته ، وقد أنعم عليهم بما يقضي شكره بالعبادة ، مما أجلاه منافع الليل والنهار ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } [ 61 ، 62 ] .
{ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ } أي : الله الذي لا تصلح الألوهية إلا له ، ولا تنبغي عبادة غيره ، هو الذي جعل لكم الليل مظلماً لتسكنوا فيه ، فتستردوا بالراحة فيه ، ما فاتكم من القوى في العمل بالنهار : { وَالنَّهَارَ مُبْصِراً } أي : أن يبصر فيه ، أو به لتتحركوا لتحصيل الأكساب الدينية والدنيوية ، فقد تفضل الله عليكم بهما وبما فيهما
{ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } أي : ليشكروه بعبادته : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } أي : عن طاعته إلى إثبات الشريك وعبادته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } [ 63 ] .
{ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } أي : من الأمم المتقدمة الهالكة ؛ أي : فسلكتم أنتم معشر قريش مسلكهم ، وركبتم محجتهم في الضلال .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ 64 ] .
{ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً } أي : تستقرون عليها وتسكنون فوقها : { وَالسَّمَاء بِنَاء } أي : مبنية مرفوعة فوقكم بغير عمد ترونها لمصالحكم ، وقوام دنياكم . وقد فسر البناء بالقبة المضروبة ؛ لأن العرب تسمّي المضارب أبنية .
فهو تشبيه بليغ ، وهو إشارة إلى كرويتها [ في المطبوع : كريتها ] . قال الشهاب : { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } أي : يجعل كل عضو في مكان يليق به ، ليتم الانتفاع بها ، فتستدلوا بذلك على كمال حكمته : { وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ } أي : لذيذات المطاعم ، والمشارب لتشكروه وحده : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } أي : الذي لا تصلح الربوبية إلا له .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 65 ] .
{ هُوَ الْحَيُّ } أي : الذي لا يموت ، الدائم الحياة ، وكل شي سواه فمنقطع الحياة غير دائمها : { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } أي : مفردين له الطاعة ، لا تشركوا في عبادته شيئاً : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : الثناء والشكر لله ، مالك جميع أجناس الخلق ، لا للأوثان التي لا تملك شيئاً ، ولا تقدر على ضرر ولا نفع .
قال ابن جرير : وكان جماعة من أهل العلم يأمرون من قال : { لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } أن يتبع ذلك : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } تأولاً منهم هذه الآية ، بأنها أمر من الله بِقِيلِ ذلك . ثم أسنده عن ابن عباس ، وابن جبير .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 66 ] .
{ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } أي : من الآلهة والأوثان : { لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي } أي : الآيات الواضحات من عنده ، على وجوب وحدته ، وتفرده بالعبادة : { وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : لأخضع له بالطاعة دون غيره من الأشياء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
} [ 67 ] .
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ } أي : مما يرجع إليه . أو خلق أباكم آدم منه : { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ } أي : يبقيكم لتبلغوا أشدكم ، فتتكامل قواكم : { ثُمَّ لِتَكُونُوا } أي : إذا تناهى شبابكم ، وتمام خلقكم : { شُيُوخاً وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ } أي : من قبل أن يصير شيخاً : { وَلِتَبْلُغُوا } أي : ونفعل ذلك لتبلغوا : { أَجَلاً مُّسَمًّى } أي : ميقاتاً محدوداً لحياتكم ، وهو وقت الموت ، أو لجزائكم وهو يوم القيامة : { وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي : ولكي تعقلوا حجج الله عليكم بذلك ، وتتدبروا آياته ، فتعرفوا بها أنه لا إله غيره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ 68 ] .
{ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } أي : يكونه من غير كلفة ولا معاناة ، وقد تقدم في [ سورة ] البقرة الكلام على هذه الآية مطولاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُون َ *الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ لْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } [ 69 - 72 ] .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ } أي : عن الرشد إلى الغي : { الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ } أي : بكتاب الله ، وهو القرآن : { وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ } أي : الماء الحار . قال المهايمي : لدفعهم برد اليقين من دلائل الكتاب ، والسنة : { ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } أي : يحرقون . قال المهايمي : لإحراقهم الأدلة العقلية والنقلية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ } [ 73 ، 74 ] .
{ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا } أي : غابوا فلم نعرف مكانهم ، وهذا قبل أن يقرنوا معهم ، أو ضلالهم استعارة لعدم نفعها لها . فحضورهم كالعدم : { بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئاً } أي : ما كنا مشركين . وكذبوا لحيرتهم واضطرابهم . أو بمعنى : تبين لنا أنا لم نكن نعبد شيئاً . قال القاشاني : لاطلاعهم على أن ما عبدوه ، وضيعوا أعمارهم في عبادته ، ليس بشيء ، فضلاً عن إغنائه عنهم شيئاً : { كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ } أي : أهل الكفر به ، عنه وعن رحمته ، فلا يخفف عنهم العذاب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ } [ 75 ] .
{ ذَلِكُم } أي : العذاب : { بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ } أي : بسبب فرحكم في الدنيا ، بغير ما أذن الله لكم به ، من الباطل والمعاصي ، وبمرحكم فيها . والمرح هو الأشر ، والبطر ، والخيلاء . وبين الفرح والمرح تجنيس بديع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } [ 76 ] .
{ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } أي : منزل المتعظمين عن الإيمان والتوحيد ، جهنم .
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [ 77 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [ 77 ] .
{ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } أي : فاصبر على جدال هؤلاء المتكبرين في آيات الله ، وعلى تكذيبهم ، فإن وعد الله إياك بالظفر عليهم ، حق ثابت : { فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ } أي : من العذاب والنقمة : { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } أي : قبل أن يحل بهم ما يحل : { فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } أي : فنحكم بينهم بالحق ، وهو الخلود في النار ، لمناسبة نفوسهم الكدرة الظلمانية ، البعيدة عن الحق ، واستحكام ملكات رذائلهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ } [ 78 ] .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ } أي : لتقف على ما وفينا لهم من وعد النصر إياهم في الدنيا : { وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } أي : لمكان الطول ، مع أن في نبئهم ما يشاكل نبأ المذكورين ، والشيء يعتبر بشكله : { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } أي : بأمره . وهذا رد لمقترحهم وتعنتهم في طلب ما قص عنهم من آية : { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] الآية ، بأن الإتيان بذلك مرده مشيئة الله تعالى وإرادته به ، وقد شاء أن تكون الآية العظمى تنزيله ، الأكبر من كل آية ، والأعظم من كل خارقة . فهو خير الآيات ، وأحسنها ، وأقوم المعجزات ، وأمتنها . كما قال تعالى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [ البقرة : 106 ] ، وقال تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ } [ العنكبوت : 51 ] ، { فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ } أي : عند عدم الإيمان بالآية المقترحة ، بعد إتيانها : { قُضِيَ بِالْحَقِّ } أي : من المؤاخذة ، بعد تقرير الحجة المقترحة لهم : { وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ } أي : في دعواهم الشريك ، وافترائهم الكذب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [ 79 - 82 ] .
{ اللَّهُ } أي : الذي لا تصلح الألوهية إلا له : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ } أي : مسخرة : { لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } من الجلود ، والأوبار ، والأصواف : { وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ } أي : بالمسافرة عليها : { وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ } أي : في طريق البحر : { تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } أي : دلائله الدالة على فرط رحمته ، وكمال قدرته : { فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ } أي : من الحصون ، والقصور ، والمباني ، والعَدد ، والعُدد : { فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : مما لا يدفع به العذاب الأرضي ، ولا السماوي .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } [ 83 - 85 ] .
{ فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ } أي : الخالي عن نور الهداية والوحي ، ورضوا بها عن قبول هداية الرسل ، ومعارفهم ، واستهزأوا برسلهم لاستصغارهم بما جاءوا به ، في جنب ما عندهم من العلم الوهمي : { وَحَاقَ بِهِم } أي : من عذاب الله : { مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون } أي : جزاؤه : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ } أي : مضت في خلقه ، أن لا يقبل توبة , ولا إيماناً في تلك الحال : { وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } أي : وهلك ، عند مجيء بأسه تعالى ، الكافرون بربهم الجاحدون توحيد خالقهم ، ففاتتهم سعادة الأبد ، والعيش الرغد .
نسأله تعالى المعافاة من غضبه وعقابه ، والموافاة مع زمرة أحبابه . آمين .(/)
سورة فصلت
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [ 1 ، 2 ] .
{ حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قال أبو السعود : إن جعل : { حم } اسماً للسورة ، فهو إما خبر مبتدأ محذوف ، وهو الأظهر ، أو مبتدأ خبره : { تَنزِيلٌ } وهو على الأول خبر بعد خبر . وخبر لمبتدأ محذوف ، إن جعل مسروداً على نمط التعديد . وقوله تعالى : { مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } متعلق به ، مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية ، بالفخامة الإضافية . أو خبر آخر . أو : { تَنزِيلٌ } مبتدأ لتخصصه بالصفة ، خبره : [ : { كِتَاْبٌ فُصِّلَتْ } ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ 3 ] .
{ كِتَابٌ } وهو على الوجوه الأول بدل منه ، أو خبر آخر ، أو خبر لمحذوف . ونسبة التنزيل إلى الرحمن الرحيم ، للإيذان بأنه مدار للمصالح الدينية والدنيوية ، واقع بمقتضى الرحمة الربانية ، حسبما ينبىء عنه قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] ، { فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } أي : بُيِّنت بالاشتمال على جميع المطالب الدينية ، مع الدلائل العقلية : { قُرْآناً عَرَبِيّاً } أي : بلسان عربي يتيسر فيه من جميع الفوائد ما لا يتيسر في غيره . وانتصاب : { قُرْآناً } على المدح ، أو الحالية من : { كِتَابٌ } لتخصصه بالصفة ، أو من : { آيَاتُهُ } : { لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : مقداره ومعانيه ، أو لأهل العلم ، والنظر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ } [ 4 ] .
{ بَشِيراً } أي : للعاملين به ، الناظرين فيه ، والمستخرجين منه ، بالنعيم المقيم : { وَنَذِيراً } أي : للمعرضين عنه بخلود الأبد في نار جهنم : { فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ } أي : أكثر هؤلاء القوم ، الذين أنزل هذا القرآن بشيراً ونذيراً لهم ، فلم يتدبروه : { فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ } أي : لا يصنعون له ، عتوّاً واستكباراً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ } [ 5 ] .
{ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } أي : أغطية متكاثفة ، لا يصل إليها شيء مما تدعونا إليه ، من التوحيد وتصديق ما في هذا القرآن من الأمر ، والنهي ، والوعد ، والوعيد : { وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ } أي : صمم ، لا نسمع ذلك ، استثقالاً له وكراهية : { وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } أي : فلا تواصل ولا تلاقي على ما ندعي إليه : { فَاعْمَلْ } أي : على ما تدعو إليه ، وانصب له : { إِنَّنَا عَامِلُونَ } أي : على ما ألفينا عليه آباءنا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِين َ *الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [6 - 8 ] .
{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ } أي : بالتوحيد ، وإخلاص العبادة ، من غير انحراف إلى الباطل ، والسبل المتفرقة : { وَاسْتَغْفِرُوهُ } أي : بالتوبة من الشرك : { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } أي : لا يزكون أنفسهم . بطاعة الله ، أو لا ينفقون من أموالهم زكاتها . وهذا ما رجحه ابن جرير ، ذهاباً إلى أن ذلك هو الأشر من معنى الزكاة . لاسيما مع ضميمة الإيتاء .
وفيه إشارة إلى أن من أخص صفات الكفار هو منع الزكاة ، ليحذر المؤمنون من ارتكابه . وعن قتادة : إن الزكاة قنطرة الإسلام . فمن قطعها نجا ، ومن تخلف عنها هلك . قال ابن جرير : وقد كان أهل الردة بعد نبي الله ، قالوا : أما الصلاة فنصلي . وأما الزكاة ، فو الله ! لا تُغصَب أموالنا . قال فقال أبو بكر : والله ! لا أفرق بين شيء جمع الله بينه . والله ! لو منعوني عقالاً مما فرض الله ورسوله ، لقاتلناهم عليه : { وَهُم بِالْآخِرَةِ } أي : بإحيائهم بعد مماتهم للمجازاة : { هُمْ كَافِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } أي : عليهم ، أو غير منقوص ، أو غير منقطع ، أو غير محسوب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ } [ 9 ، 10 ] .
{ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } أي : في مقدارهما . وعلمهم بصلة الموصول ، أما لما تلقوه خلفاً عن سلف ، فاستفاض بينهم . أو لما سمعوه من الكتب السافلة ، كالتوراة ، فأذعنت بذلك نفوسهم ، حتى صار معهوداً لها : { وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً } أي : أكفاء : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] : { ذَلِكَ } أي : الذي خلق الأرض في يومين : { رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ } أي : جبالاً ثوابت : { مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا } أي : أكثر خيرها : { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ } أي : مستوية بالامتزاج والاعتدال ، للطالبين للأقوات والمعايش ؛ أي : قدرها لهم ، أو لمن سأل عن مبلغ الأجل الذي خلق الله فيه الأرض ، وجعل فيها الرواسي والبركة ، وتقدير الأقوات . فحدّه ، كما أخبر تعالى ، وأنه أربعة أيام .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [ 11 ] .
{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء } أي : قصد إلى إيجادهما . وثم ، للتفاوت بين الخلقين في الإحكام وعدمه ، واختلافهما في الجهة والجوهر ، لا للتراخي في الزمان ؛ إذ لازمان هناك . قاله القاشاني .
وقال ابن جرير : أي : ثم ارتفع إلى السماء ، أي : بلا تكليف ولا تمثيل : { وَهِيَ دُخَانٌ } قال القاشاني : أي : جوهر لطيف بخلاف الجواهر الكثيفة الثقيلة الأرضية . وقال القاضي : دخان أمر ظلماني ، ولعله أراد به مادتها ، أو الأجزاء المصغرة التي ركبت منها ، وأصله للرازي حيث قال : لما خلق تعالى الأجزاء التي لا تتجزأ ، فقبل أن خلق فيها كيفية الضوء ، كانت مظلمة عديمة النور ، ثم لما ركبها وجعلها سماوات ، وكواكب ، وشمساً ، وقمراً ، وأحدث صفة الضوء فيها ، فحينئذ صارت مستنيرة . فثبت أن تلك الأجزاء ، حين قصد الله تعالى أن يخلق منها السماوات ، والشمس ، والقمر, كانت مظلمة . فصح تسميتها بالدخان ؛ لأنه لا معنى للدخان إلا أجزاء متفرقة ، غير متواصلة ، عديمة النور . ثم قال : فهذا ما خطر بالبال في تفسير الدخان . والله أعلم بحقيقة الحال . انتهى .
وقال بعض علماء الفلك في تفسير هذه الآية : { وَهِيَ دُخَانٌ } : أي : ذرات ، أي : غازات أي : سديم . ثم تجاذبت كما يجتمع السحاب فصارت كتلة واحدة . مصداقاً لقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً } [ الأنبياء : 30 ] . أي : كتلة واحدة ، فدارت ثم تقطعت ، وتفصلت بالقوة الدافعة ، فتكونت الأرض والسماوات ، تصديقاً لقوله تعالى : { فَفَتَقْنَاهُمَا } أي : فصلناهما ، فصارتا كرات من الماء في يومين ، أي : ألفي سنة . لقوله تعالى : { وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } [ الحج : 47 ] ، وفي هذا الوقت كان عرشه على الماء . أي : كان ملكه وسلطانه على الماء ، والله أعلم . انتهى والله أعلم .
{ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } قال القاشاني : أي : تعلق أمره وإرادته بإيجادهما ، فوجدتا في الحال معاً . كالمأمور المطيع ، إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع لم يلبث في امتثاله . وهو من باب التمثيل ؛ إذ لا قول ثمة . انتهى .
وقال ابن جرير : أي : قال الله جل ثناؤه للسماء والأرض : جيئا بما خلقت فيكما . أما أنت يا سماء ، فأطلعي ما خلقت فيك من الشمس ، والقمر ، والنجوم . وأما أنت يا أرض فأخرجي ما خلقت فيك من الأشجار ، والثمار ، والنبات ، وتشققي عن الأنهار : { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } أي : جئنا بما أحدثت فينا من خلقك ، مستجيبين لأمرك ، لا نعصي أمرك . انتهى . يعني أن إثبات المقاولة مع السماء والأرض من المجاز . إما بالاستعارة المكنية . كما تقول : نطقت الحال . فتجعل الحال كإنسان يتكلم في الدلالة ، ثم يتخيل له النطق الذي هو لازم المشبه به ، وينسب إليه . وإما بالاستعارة التمثيلية بأن شبه فيه حالة السماء والأرض التي بينهما وبين خالقهما ، في إرادة تكوينهما وإيجادهما ، بحالة أمير ذي جبروت له نفاذ في سلطانه ، وإطاعة من تحت تصرفه من غير تردد .
وقد رد غير واحد قول من ذهب إلى أن في الجمادات تمييزاً ونطقاً على ظاهر أمثال هذه النصوص ، منهم ابن حزم . قال في " الفِصل " : وأما قوله تعالى : { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } فقد علمنا بالضرورة والمشاهدة أن القول في اللغة التي نزل بها القرآن ، إنما هو دفع آلات الكلام من أنابيب الصدر ، والحلق ، والحنك ، واللسان ، والشفتين ، والأضراس ، بهواء يصل إلى آذان السامع ، فيفهم به مرادات القائل . فإذ لا شك في هذا ، فلكل من لا لسان له ، ولا شفتين ، ولا أضراس ، ولا حنك ، ولا حلق ، فلا يكون منه القول المعهود منا . هذا مما لا يشك فيه ذو عقل . فإذا هذا هكذا كما قلنا بالعيان ، فكل قول ورد به نص ولفظ مخبر به عمن ليست هذه صفته ، فإنه ليس هو القول المعهود عندنا . لكنه معنى آخر . فإذ هذا كما ذكرنا ، فبالضرورة صح أن معنى قوله تعالى : { أَتَيْنَا طَائِعِينَ } إنما هو على نفاذ حكمه عز وجل وتصريفه لهما . انتهى .
وكذا الحال في : { أَتَيْنَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } فإنهما لما نزلا . . . وهما من الجمادات - منزلة العقلاء ، إذ أُمرا وخوطبا على طريق المكنية ، أو التمثيلية ، أثبت لهما ما هو من صفات العقلاء من الطوع والكره ترشيحاً . وهما مؤولان بـ : طائع وكاره . لأن المصدر لا يقع حالاً بدون ذلك ، ويجوز كونهما مفعولاً مطلقاً . وإنما قال : { طَائِعِينَ } بجمع المذكر السالم مع اختصاصه بالعقلاء الذكور . وكان مقتضى الظاهر طائعات ، أو طائعتين نظراً إلى الخطاب ، والإجابة ، والوصف بالطوع ، والكره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ 12 ] .
{ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } أي : أحكمهن بإزالة رخاوة الدخان . قال المهايمي ولم يجعل لمادتها يوماً ؛ لأنها كمادة الأرض . فدخلت في يومها : { وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا } أي : ما أمر به فيها ، ودبره من الملائكة ، والخلق الذي فيها ، وما لا يعلم : { وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } فإنها كالسقف المرفوع المزين بمصابيح معلقة به ، ما يدعو إلى الاستدلال بها على قدرة صانعها وحكمته : { وَحِفْظاً } أي : من الشياطين أن تسترق أخبارها : { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } [ 13 ] .
{ فَإِنْ أَعْرَضُوا } أي : عن هذا الاستدلال ، وعن الإيمان بهذا العزيز الغالب على كل شيء ، الذي اقتضى علمه ترتيب بعض الأمور : { فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } لأنكم مثلهما في العناد ، ومثل عاد في الاستكبار ، ومثل ثمود في استحباب العمى على الهدى . قال ابن جرير : قد بينا فيما مضى أن معنى الصاعقة كل ما أفسده الشيء ، وغيّره عن هيئته . وقيل في هذا الموضوع : عني بها وقعة من الله وعذاب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ } [ 14 - 16 ] .
{ إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } قال الزمخشري : أي : أتوهم من كل جانب ، واجتهدوا بهم ، وأعملوا فيهم كل حيلة ، فلم يروا منهم إلا العتو ، والإعراض كما حكى الله تعالى عن الشيطان : { لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } [ الأعراف : 17 ] ، يعني لآتينهم من كل جهة ، ولأعلمن فيهم كل حيلة ، وتقول : استدرت بفلان من كل جانب ، فلم يكن لي فيه حيلة .
وحاصله جعل الجهتين كناية عن جميع الجهات ، علي ما عرف في مثله . والمراد بإتيانهم من جميع الجهات ، بذل الوسع في دعوتهم على طريق الكناية ، ويحتمل أن المعنى : جاءوهم بالوعظ من جهة الزمن الماضي ، وما جرى فيه على الكفار ، ومن جهة المستقبل ، وما سيجري عليهم . فالمراد بما بين أيديهم الزمن الماضي ، وبما خلفهم المستقبل . ويجوز فيه العكس ، كما ذكر في آية الكرسي : { أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا } أي : إرسال رسول : { لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً } أي : من السماء بما تدعوننا إليه : { فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ } أي : من عبادة الله وحده : { كَافِرُونَ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } أي : حتى نخاف عذابه ، لو تركنا عبادته ، أو عبدنا معه غيره .
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } أي : فيجب أن يحذر عقابه ويتقى عذابه : { وَكَانُوا بِآيَاتِنَا } أي : التي هي أقوى الدلائل : { يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ } أي : لعتوهم بالقوة : { رِيحاً صَرْصَراً } أي : شديدة الصوت في هبوبها : { فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ } أي : مشؤومات عليهم : { لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ } أي : في الأخرى ، كما لم ينصروا في الدنيا . تنبيه :
قال الرازي : استدل الأحكاميون من المنجمين بهذه الآية على أن بعض الأيام قد يكون نحساً وبعضهاً قد يكون سعداً ؛ لأن النحس يقابله السعد ، والكدر يقابله الصافي . ثم أطال الرازي في الجواب والإيراد . ولا يخفى أن السعد والنحس إنما هو أمر إضافي لا ذاتي . وإلا لكان اليوم الذي يراه المنجمون نحساً ، مشؤوم الطالع على كل ما أشرقت عليه الشمس ، وكذا ما يرونه سعداً ، والواقع بخلاف ذلك ؛ إذ اليوم النحس عند زيد ، قد يكون سعداً عند بكر . بل الساعة بل الدقيقة . فأين تلك الدعوى ؟ والقرآن أتى على أسلوب العرب البديع . ومن لطائفهم تسمية وقت الشدة ، والبؤس بالنحس ، ومقابلها بالسعد . فالنحس نحس على صاحبه ، والسعد سعد على صاحبه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [ 17 ] .
{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } أي : بيّنّا لهم سبيل الحق ، وطريق الرشد ، ونهيناهم أن يتبعوا الضلالة ، وأمرناهم أن يقتفوا الهدى : { فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : من الآثام ، بكفرهم بالله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [ 18 ] .
{ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } أي : يخشون ربهم ، ويخافون ، وعيده . وذلك بالإيمان به وحده وتصديق رسله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } [ 19 ] .
{ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي : يوم يجمع ، لمزيد الفضيحة ، بين الأولين والآخرين ، أعداء الله المشركون والجاحدون ، إلى النار فيجيء أولهم على أخرهم ، ليتم إلزام الحجة عليهم بين جميعهم ، فلا يبقى لهم مقال لهم لأنهم لا يزالون يجادلون عن أنفسهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
} [ 20 ] .
{ حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا } أي : فبالغوا في إنكار المخالفة : { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ } أي : بأنهم سمعوا الحجج فأعرضوا عنها ، وسمعوا الشبه فاتبعوها ، وسمعوا الفواحش فاستحسنوها : { وَأَبْصَارُهُمْ } أي : بأنهم رأوا الآيات فلم يعتبروها ، ورأوا القبائح فاختاروها : { وَجُلُودُهُمْ } أي : بأنهم باشروا المعاصي ، فوصل أثرها إلى القوة اللامسة منهم ، فيشهد كل عضو وجزء : { بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ 21 ] .
{ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ } أي : المدركة ألم العذاب الذي لا يدركه السمع والبصر : { لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا } أي : بما يوجب إيلامكم : { قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ } أي : بهذه الشهادة : { الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } أي : أنطق كل شيء من الحيوان . فهو من العام الذي خصه العقل ، كقوله تعالى : { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 284 ] ، أي : كل شيء من المقدورات . هذا ، على أن النطق على ظاهره وحقيقته .
وقيل المراد ظهور علامات على الأعضاء دالة على ما كانت متلبسة به في الدنيا ، بتغير أشكالها ونحوه . مما يلهم الله من رآه أنه صدر عنه ذلك ؛ لارتفاع الغطاء في الآخرة . فالنطق مجاز عن الدلالة . قال القاشاني : معنى : { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ } أي : غيرت صور أعضائهم ، وصورت أشكالها على هيئة الأعمال التي ارتكبوها ، وبدلت جلودهم ، وأبشارهم فتنطق بلسان الحال ، وتدل بالأشكال على ما كانوا يعملون ، ولنطقها بهذا اللسان قالت : { أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } إذ لا يخلو شيء ما من النطق ، ولكن الغافلين لا يفهمون . انتهى .
لكن قال الرازي : تفسير هذه الشهادة ، بظهور أمارات مخصوصة على هذه الأعضاء ، دالة على صدور تلك الأعمال منهم ، عدول عن الحقيقة إلى المجاز . والأصل عدمه .
ثم قال : وهذه الآية يحسن التمسك بها في بيان أن البينة ليست شرطاً للحياة ، ولا لشيء من الصفات المشروطة بالحياة . فالله تعالى قادر على خلق العقل ، والقدرة ، والنطق في كل جزء من أجزاء هذه الأعضاء . والله أعلم . تنبيه :
قال الرازي : نقل عن ابن عباس أنه قال : المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج ، وإنه من باب الكنايات كما قال : { وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } [ البقرة : 235 ] وأراد النكاح . وقال : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ } [ النساء : 43 ] و [ المائدة : 6 ] ، والمراد قضاء الحاجة . فتكون الآية وعيداً شديداً في الزنى . انتهى .
وقد أشار الإمام ابن الأثير في " المثل السائر " إلى ترجيح هذا المعنى . حيث ذكر هذه الآية في الترجيح الذي يقع بين معنيين ، يدل عليهما لفظ واحد ، يكون حقيقة في أحدهما ، مجازاً في الآخر ، وعبارته : الجلود ههنا تفسر حقيقة ومجازاً . أما الحقيقة فيراد بها الجلود مطلقاً ، وأما المجاز فيراد بها الفروج خاصة ، وهذا هو المانع البلاغي الذي يرجح جانب المجاز على الحقيقة ، لما فيه من لطف الكناية عن المكنى عنه .
وقد يسأل ههنا في الترجيح بين الحقيقة والمجاز ، عن غير الجانب البلاغي . ويقال : ما بيان هذا الترجيح ؟ فيقال : طريقة لفظ الجلود عام ، فلا يخلو إما أن يراد به الجلود مطلقاً ، أو يراد به الجوارح التي هي أدوات الأعمال خاصة ، ولا يجوز أن يراد به الجلود على الإطلاق ، لأن شهادة غير الجوارح التي هي الفاعلة ، شهادة باطلة ؛ إذ هي شهادة غير شاهد . والشهادة هنا يراد بها الإقرار . فتقول اليد : أنا فعلت كذا وكذا . وتقول الرجل : أنا مشيت إلى كذا وكذا . وكذلك الجوارح الباقية تنطق مُقرّة بأعمالها . فترجح بهذا أن يكون المراد به شهادة الجوارح . وإذا أريد به الجوارح ، فلا يخلو إما أن يراد به الكل أو البعض .
فإن أريد به الكل ، دخل تحته السمع والبصر ، ولم يكن لتخصيصهما بالذكر فائدة . وإن أريد به البعض ، فهو بالفرج أخص منه بغيره من الجوارح ؛ لأمرين :
أحدهما - أن الجوارح كلها قد ذكرت في القرآن الكريم شاهدة على صاحبها بالمعصية ما عدا الفرج . فكان حمل الجلد عليه أولى ، ليستكمل ذكر الجميع .
الآخر - إنه ليس في الجوارح ما يكره التصريح بذكره إلا الفرج ، فكنى عنه بالجلد ؛ لأنه موضع يكره التصريح فيه بالمسمى على حقيقته .
فإن قيل : إن تخصيص السمع والبصر بالذكر ، من باب التفصيل ، كقوله تعالى : { فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } [ الرحمن : 68 ] . والنخل والرمان من الفاكهة . قلت في الجواب : هذا القول عليك لا لك ؛ لأن النخل والرمان إنما ذكرا لتفضيلٍ لهما في الشكل ، أو في الطعم ، والفضيلة ههنا في ذكر الشهادة ، إنما هي تعظيم لأمر المعصية . وغير السمع والبصر أعظم في المعصية ؛ لأن معصية السمع إنما تكون في سماع غيبة ، أو في سماع صوت مزمار ، أو وتر ، أو ما جرى هذا المجرى . ومعصية البصر إنما تكون في النظر إلى محرم : وكلتا المعصيتين لا حدّ فيها . وأما المعاصي التي توجد من غير السمع والبصر ، فأعظم ؛ لأن معصية اليد توجب القطع ، ومعصية الفرج توجب جلد مائة ، أو الرجم . وهذا أعظم . فكان ينبغي أن تخص بالذكر دون السمع والبصر ، وإذا ثبت فساد ما ذهبت إليه ، فلم يكن المراد بالجلود إلا الفروج خاصة . انتهى كلام ابن الأثير .
وناقشه ابن أبي الحديد في " الفلك الدائر " بما محصله : أن حمل الجلد على الفرج إنما يتعين ، إذا كان بين لفظتي الجلد ، والفرج ، أو معناهما مناسبة ، ولا نجد مناسبة إلا أن يكون لأجل أن الجلد جزء من أجزاء ماهية الفرج . فعبر عن الكل بالبعض ، وهو بعيد جداً . انتهى .
وأقول : مقصود من أثر عنه إرادة الفروج بالجلود هو إرادة الفرد الأهم والأقوى ؛ وذلك لأن الجلود تصدق على ما حواه الجسم من الأعضاء والعضلات التي تكتسب الجريمة ، ولا يخفى أن أهمها بالعناية , وأولاها بالإرادة هو الفرج ؛ لأن معصيتها تربى على الجميع ، وقد عهد في مفسري السلف اقتصارهم في التأويل من العام على فرده الأهم . كقصرهم : { سَبِيْل اللَّهِ } على الجهاد ، مع أن : { سَبِيْل اللَّهِ } يصدق على كل ما فيه خير وقربة ، ونفع ومعونة ، على الطاعة ، إلا أن أهم الجميع هو جهاد الذين يصدون عن الحق . فذكر الجهاد لا ينفي غيره . وهذه فائدة ينبغي أن يحرص على فهمها كل من له عناية بالتفسير . فإنها من فوائده الجليلة ، وينحل بها إشكالات ليست بالقليلة . والله الموفق .
وقوله تعالى : { وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } إما من تمام كلام الجلود ، أو مستأنف من كلامه تعالى : وعلى كل ، فهو مقرر لما قبله ، بأن القادر على الخلق أول مرة ، قادر على إنطاق كل شيء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ } [ 22 ] .
{ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ } أي : وما كنتم تستترون عند فعلكم الفواحش والمنكرات ، مخالفة أو كراهة أن يشهد عليكم ما ذكر . أي : ليس استتارهم للخوف مما ذكر ، بل من الناس . فـ : { أنَ يَشْهَدَ } مفعول له ، بتقدير مضاف ، أو من أن يشهد ، أو عن أن يشهد ، أو أنه ضمن معنى الظن ، فهو في محل نصب . وفي الآية تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن يتحقق ، أنه لا يمر عليه حال إلا وعليه رقيب ، كما قال أبو نواس :
~إِذَاْ مَاْ خَلَوْتَ الدَّهْرِ يَوْماً ، فَلَاْ تَقُلْ خَلَوْتُ . وَلَكِنْ قُلْ : عَلَيَّ رَقِيْبٌ
~وَلَاْ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ يَغْفُلُ سَاْعَةً وَلَاْ أَنَّ مَاْ يَخْفَىْ عَلَيْكَ ، يَغِيْبُ
{ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ } أي : ما ظننتم أن الله يعلم فينطق الجوارح ، ولكن ظننتم أنه لا يعلم كثيراً ، وهو ما علمتم خفية ، فما استترتم عنها واجترأتم على المعاصي . وإذا كان : { أنَ يَشْهَدَ } مفعولاً له ، فالمعنى ما استترتم بالحجب ، لخيفة أن تشهد عليكم الجوارح ، فلذا ما استترتم عنها ، لكن لأجل ظنكم أن الله لا يعلم كثيراً ، فلذا سعيتم في الاستتار عن الخلق ، لا عن الخالق ، ولا عما تنطق به الجوارح .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ } [ 23 ] .
{ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ } أي : أهلككم بالجراءة على مخالفته في الدنيا ، ومجادلته في القيامة : { فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ } أي : لأعمال النجاة ، والدرجات في الآخرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ } [ 24 ] .
{ فَإِن يَصْبِرُوا } أي : على النار : { فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } أي : منزل ومسكن : { وَإِن يَسْتَعْتِبُوا } أي : يسألوا العتبى ، وهي الرجعة إلى الذين يحبون : { فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ } أي : المجابين إليه ، فلا يخفف عنهم العذاب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ 25 ، 26 ] .
{ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء } أي : بعثنا لهم نظراء من الشياطين اقترنوا بهم : { فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أي : حسّنوا لهم أعمالهم كلها ، الحاضرة والمستقبلة . فالطرفان كناية عن الجميع ، أو ما بين أيديهم من جرائم الدنيا ، وما خلفهم من التكذيب بالمعاد . قال الشهاب : وتفسير أمور الدنيا بما بين أيديهم ، لحضورها عندهم ، كالشيء الذي بين يديك تقلّبه كيف تشاء ، والآخرة بما خلفهم ، لعدم مشاهدتها ، كالشيء الذي خلفك ، أو لكونها ستلحق بهم ، وقد يعكس فيجعل ما بين أيديهم الآخرة ؛ لأنها مستقبلة ، وما خلفهم الدنيا لمضيّها وتركها كما مرّ قريباً .
وقال القاشاني في تفسير الآية : أي : قدرنا لهم أخداناً وأقراناً من شياطين الإنس أو الجن ، من الوهم والتخيل ، لتباعدهم من الملأ الأعلى ، ومخالفتهم بالذات للنفوس القدسية والأنوار الملكوتية ، بانغماسهم في المواد الهيولانية . واحتجابهم بالصفات النفسانية ، وانجذابهم إلى الأهواء البدنية والشهوات الطبيعية . فناسبوا النفوس الأرضية الخبيثة والكدرة المظلمة . وخالفوا الجواهر القدسية . فجعلت الشياطين أقرانهم وحجبوا عن نور الملكوت : { فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } أي : ما بحضرتهم من اللذات البهيمية والسبعية ، والشهوات الطبيعية في : { وَمَا خَلْفَهُمْ } أي : من الآمال والأماني التي لا يدركونها : { وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ } أي : في القضاء الإلهي . بالشقاء الأبدي : { فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم } من المكذبين بأنبيائهم ، الضالين المضلين : { مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : ستروا زينة أدلة القرآن عن أتباعهم ، الذين زينوا لهم شبهاتهم الواهية : { لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ } أي : إذا قرأه ، ولا تصغوا له ، كيلا يؤثر عليكم وعظه : { وَالْغَوْا فِيهِ } أي : ائتوا باللغو عند قراءته ، ليختلط . فلا يمكنه القراءة . والمراد باللغو ما لا أصل له ، أو ما لا معنى له : { لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } أي : تصدّون من أراد استماعه ، عن استماعه ، فلا يسمعه . وإذا لم يسمعه ، ولم يفهمه ، لم يتبعه . فتغلبون بكيدكم هذا حججه ، التي يغلب بها عقولكم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } [ 27 ، 28 ] .
{ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ } أي : المكث الأبدي . وفي النظم الكريم من البديع ، التجريد ، وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة ، آخر مثله ، مبالغة فيها ؛ لأنها نفسها دار الخلد . ويجعله للظرفية الحقيقية ، تكلف لا داعي له . مع أن المذكور أبلغ . قال الشهاب : { جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } أي : ينكرون أو يلغون . وذكر الجحود الذي هو سبب اللغو .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ } [ 29 ] .
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا } أي : ندوسهما انتقاماً منهما : { لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ } قال القاشاني : أي : حنق المحجوبون واغتاظوا على من أضلهم من الفريقين ، عند وقوع العذاب . وتمنوا أن يكونوا في أشد من عذابهم وأسفل من دركاتهم ، لما لقوا من الهوان ، وألم النيران ، وعذاب الحرمان ، والخسران ، بسببهم ، وأرادوا أن يشفوا صدورهم برؤيتهم في أسوأ أحوالهم ، وأنزل مراتبهم . كما ترى من وقع في البلية ، بسبب رفيق أشار إليه بما أوقعه فيها ، يتحرد عليه ويتغيظ ، ويكاد أن يقع فيه ، مع غيبته ويتحرق . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [ 30 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ } أي : وحدوه بنفي غيره ، وعرفوه بالإيقان حق معرفته : { ثُمَّ اسْتَقَامُوا } أي : في أخلاقهم ، وعقائدهم ، وأعمالهم . وذلك بالسلوك في طريقه تعالى ، والثبات على صراطه ، مخلصين لأعمالهم ، عاملين لوجهه ، غير ملتفتين بها إلى غيره : { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ } أي : في الدنيا ، بإلهامهم ، أو عند الموت ، أو حين البعث
{ أَلَّا تَخَافُوا } أي : ما تقدمون عليه بعد مماتكم : { وَلَا تَحْزَنُوا } أي : على ما خلفتم من دنياكم ، من أهل وولد . فإنا نخلفكم في ذلك كله ، أو من الفزع الأكبر ، وهوله ، فإنكم آمنون لآية : { لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ } [ الأنبياء : 103 ] ، والتنزيل يفسر بعضه بعضاً ، أو الآيتان في مقامين ، وبشارتين ، وفضله تعالى أوسع ، وجوده أعم وأشمل .
قال القاشاني : وإنما تنزلت الملائكة عليهم للمناسبة الحقيقية بينهم في التوحيد الحقيقي ، والإيمان اليقيني ، والعمل الثابت على منهاج الحق والاستقامة في الطريقة إليه . غير ناكثين في عزيمة ، ولا منحرفين عن وجهة ، ولا زائغين في عمل . كما ناسبت نفوس المحجوبين من أهل الرذائل الشياطين ، بالجواهر المظلمة , والأعمال الخبيثة . فتنزلت عليهم . انتهى . وقوله تعالى : { وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } أي : في الدنيا ، حال الإيمان بالغيب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ } [ 31 ، 32 ] .
{ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } أي : أحباؤكم في الدارين ، للتناسب بيننا وبينكم . كما أن الشياطين أولياء الكافرين ، لما بينهم من الجنسية ، والمشاركة في الظلمة والكدورة . قال ابن كثير : أي : تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار : نحن كنا قرناءكم في الحياة الدنيا ، نسددكم ، ونوفقكم ، ونحفظكم بأمر الله . وكذلك نكون معكم في الآخرة ، نؤنس منكم الوحشة في القبور ، وعند النفخة في الصور ، ونؤمنكم يوم البعث والنشور ، ونجاوزكم الصراط المستقيم ، ونوصلكم إلى جنات النعيم .
و قال الرازي : معنى كونهم أولياء للمؤمنين ، أن للملائكة تأثيرات في الأرواح البشرية ، بالإلهامات ، والمكاشفات اليقينية ، كما أن للشياطين تأثيرات في الأرواح ، بإلقاء الوساوس فيها ، وتخييل الأباطيل إليها ، وبالجملة ، فكون الملائكة أولياء للأرواح الطيبة الطاهرة ، حاصل من جهات كثيرة معلومة ، لأرباب المكاشفات والمشاهدات . فهم يقولون : كما أن تلك الولاية كانت حاصلة في الدنيا ، فهي تكون باقية في الآخرة . فإن تلك العلائق ذاتية لازمة غير قابلة للزوال . بل كأنها تصير بعد الموت أقوى وأبقى . وذلك لأن جوهر النفس من جنس الملائكة ، وهي كالشعلة بالنسبة إلى الشمس ، والقطرة بالنسبة إلى البحر ، والتعلقات الجسمانية هي التي تحول بينها وبين الملائكة . كما قال صلى الله عليه وسلم : < لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم ، لنظروا إلى ملكوت السماوات . فإذا زالت العلائق الجسمانية ، والتدبيرات البدنية ، فقد زال الغطاء والوطاء ، فيتصل الأثر بالمؤثر ، والقطرة بالبحر ، والشعلة بالشمس > . انتهى .
وهو مشرب صوفيّ ومنزع فلسفيّ ، فيه شية من الرقة : { وَلَكُمْ فِيهَا } أي : في الآخرة : { مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ } أي : من الروح ، والريحان ، والنعيم المقيم : { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } أي : تتمنون : { نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ } أي : إكراماً معداً لكم ، من غفور لذنوبكم ، ورحيم بتفضله وتطوله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [ 33 ] .
{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } أي : لا أحد أحسن مقالاً ممن دعا الناس إلى عبادته تعالى ، وكان من الصالحين المؤتمرين ، والمسلمين وجوههم إليه تعالى في التوحيد .
لطائف :
الأولى - قال القاشاني : وإنما قدم الدعوة إلى الحق والتكميل ؛ لكونه أشرف المراتب ، ولاستلزامه الكمال العلمي والعملي ، وإلا لما صحت الدعوة . انتهى .
الثانية - في الآية إشارة إلى ترغيبه صلى الله عليه وسلم في الإعراض عن المشركين ، وعما كانوا يقولونه من اللغو في التنزيل ، مما قصه تعالى عنهم فيما تقدم . وإرشاده إلى المواظبة على التبليغ ، والدعوة ، ببيان أن ذلك أحسن الطاعات ورأس العبادات ، فهذا هو سر انتظام هذه الآية في إثر ما سبق . وثمة وجه آخر . وهو أن مراتب السعادات اثنان : كامل وأكمل . أما الكامل فهو أن يكتسب من الصفات الفاضلة ما لأجلها يصير كاملاً في ذاته . فإذا فرغ من هذه الدرجة ، اشتغل بعدها بتكميل الناقصين .
فقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } [ فصلت : 30 ] و [ الأحقاف : 13 ] ، إشارة إلى المرتبة الأولى . وهي اكتساب الأحوال التي تفيد كمال النفس في جوهرها . فإذا حصل الفراغ من هذه المرتبة ، وجب الانتقال إلى المرتبة الثانية ، وهي الانتقال بتكميل الناقصين ، وذلك إنما يكون بدعوة الخلق إلى الدين الحق ، وهو المراد من قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً } الآية .
واعلم أن من آتاه الله قريحة قوية ، ونصيباً وافياً من العلوم الإلهية ، عرف أنه لا ترتيب أحسن ولا أكمل من ترتيب آيات القرآن ، أفاده الرازي .
الثالثة - يدخل في الآية كل من دعا إلى الله بطريق من الطرق المشروعة ، وسبيل من السبل المأثورة ؛ لأن الدعوة الصحيحة هي الدعوة النبوية ، ثم ما انتهج منهجها في الصدع بالحق ، وإيثاره على الخلق .
الرابعة - في الآية دليل على وجوب الدعوة إلى الله تعالى - على ما قرره الرازي - لأن الدعوة إلى الله أحسن الأعمال ، وكل ما كان أحسن الأعمال ، فهو واجب .
الخامسة - احتج من جوز قول : أنا مسلم . بدون تعليق على المشيئة بهذه الآية . وقال : إطلاقها يدل على أن ذلك هو الأولى ، والمسألة معروفة بسطها الغزالي في " الأحياء " .
وللإمام ابن حزم في " الفِصل " تحقيق لطيف لا بأس بإيراده . قال رحمه الله : اختلف الناس في قول المسلم : أنا مؤمن . فروينا عن ابن مسعود وجماعة من أصحابه الأفاضل ، ومن بعده من الفقهاء ، أنه كره ذلك . وكان يقول : أنا مؤمن إن شاء الله . وقال بعضهم : آمنت بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله . وكانوا يقولون : من قال أنا مؤمن ، فليقل إنه من أهل الجنة .
ثم قال ابن حزم : والقول عندنا في هذه المسألة ، أن هذه صفة يعلمها المرء من نفسه . فإن كان يدري أنه مصدق بالله عز وجل ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبكل ما أتى به عليه السلام ، وأنه يقر بلسانه بكل ذلك ، فواجب عليه أن يعترف بذلك . كما أمر تعالى ، إذا قال تعالى : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } [ الضحى : 11 ] ولا نعمة أوكد ، ولا أفضل ، ولا أولى بالشكر ، من نعمة الإسلام . فواجب عليه أن يقول : أنا مسلم قطعاً عند الله تعالى ، وفي وقتي هذا . ولا فرق بين قوله : أنا مؤمن مسلم . وبين قوله : أنا أسود وأنا أبيض .
وهكذا سائر صفاته التي لا يشك فيها . وليس هذا من باب الامتداح ، والتعجب في شيء ؛ لأنه فرض عليه أن يحص دمه بشهادة التوحيد . قال تعالى : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ البقرة : 136 ] ، وقول ابن مسعود عندنا صحيح ؛ لأن الإسلام والإيمان اسمان منقولان عن موضوعهما في اللغة ، إلى جميع البر والطاعات ، فإنما منع ابن مسعود من القول بأنه مسلم مؤمن ، على معنى أنه مستوف لجميع الطاعات . وهذا صحيح . ومن ادعى لنفسه هذا فقد كذب بلا شك ، وما منع رضي الله عنه من أن يقول المرء : إني مؤمن . بمعنى مصدق . كيف ؟ وهو يقول : قل آمنت بالله ورسله . أي : صدقت . وأما من قال فقل إنك في الجنة ، فالجواب أننا نقول : إن متنا على ما نحن عليه الآن ، فلا بد لنا من الجنة بلا شك . وبرهان ذلك أنه قد صح من نصوص القرآن ، والسنة ، والإجماع ، أن من آمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبكل ما جاء به ، ولم يأت بما هو كفر ، فإنه في الجنة ، إلا أننا لا ندري ما يفعل بنا في الدنيا ، ولا نأمن من مكر الله تعالى ، ولا إضلاله ، ولا كيد الشيطان ، ولا ندري ماذا نكسب غداً ، ونعوذ بالله من الخذلان . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ 34 ] .
{ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ } أي : لكون الأولى من مقام العقل تجرّ صاحبها إلى الجنة ومصاحبة الملائكة . والثانية من مقام النفس تجر صاحبها إلى النار ومقارنة الشياطين : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي : ادفع السيئة حيث اعترضتك ، بالتي هي أحسن منها ، وهي الحسنة . على أن المراد بالأحسن الزائد مطلقاً ، أو بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات . وإنما عدل من مقتضى الظاهر وهو : ادفع بالحسنة ، إلى الأبلغ - لأن من دفع بالأحسن هان عليه الدفع بما دونه . وهذا الكلام أبلغ في الحمل والحث على ما ذكر ؛ لأنه يومئ إلى أنه مهم ينبغي الاعتناء به والسؤال عنه .
قال القاشاني : أي : إذا أمكنك دفع السيئة من عدوك بالحسنة ، التي هي أحسن فلا تدفعها بالحسنة التي دونها ، فكيف بالسيئة ؟ فإن السيئة لا تندفع بالسيئة ، بل تزيد وتعلو ارتفاع النار بالحطب . فإن قابلتها بمثلها كنت منحطاً إلى مقام النفس ، متبعاً للشيطان ، سالكاً طريق النار ، ملقياً لصاحبك في الأوزار ، وجاعلاً له ولنفسك من جملة الأشرار ، متسبباً لازدياد الشر ، معرضاً عن الخير . وإن دفعتها بالحسنة ، سكّنت شرارته ، وأزلت عداوته ، وتثبت في مقام القلب على الخير ، وهديت إلى الجنة ، وطردت الشيطان ، وأرضيت الرحمن ، وانخرطت في سلك الملكوت ، ومحوت ذنب صاحبك بالندامة ، ثم أشار تعالى إلى علة الأمر ، وثمرته بقوله : { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ } أي : صديق أو قريب : { حَمِيمٌ } أي : شديد الولاء . وأصل الحميم الماء الشديد حرارته . كنى به عن الولي المخلص في وده ، لما يجد في نفسه من حرارة الحب ، والشوق ، والاهتمام نحو مواليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [ 35 ] .
{ وَمَا يُلَقَّاهَا } أي : هذه الخصلة الشريفة ، والفضيلة العظيمة ، وهي مقابلة الإساءة بالإحسان : { إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا } أي : على تجرع الشدائد ، أو على طاعته تعالى ، وأمره ، تخلقاً بالعلم والعفو : { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } أي : من الخير وكمال النفس ، ومن الله تعالى بالتخلق بأخلاقه ، ومن الثواب وكمال العقل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ 36 ] .
{ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } أي : وإما يلقين الشيطان في نفسك وسوسة من حديث النفس ، إرادة حملك على مجازاة المسيء بالإساءة ، والانتقام منه ، فاستجر بالله واعتصم من خطواته ، بالرجوع إلى جنابه تعالى ، واللجأ إلى حضرته ، من شره ووسوسته ونزغه . قال ابن كثير : قدمنا أن هذا المقام لا نظير له في القرآن إلا في سورة الأعراف ، وهو قوله تعالى : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الأعراف : 199 - 200 ] ، وفي سورة المؤمنون ، وهو قوله سبحانه : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينَ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } [ المؤمنون : 96 - 98 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ 37 ] .
{ وَمِنْ آيَاتِهِ } أي : حججه تعالى على خلقه ، ودلالته على وحدانيته وعظيم سلطانه
{ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ } أي : اختلافهما ، ومعاقبة كل واحد منها صاحبه : { وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } أي : نورهما وإشراقهما وتقدير منازلهما ، واختلاف سيرهما في سمائهما ، لبقاء صلاح الكون : { لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ } لأنهما مسخران بتسخير خالق قادر عليهم ، فهما مخلوقان : { وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } أي : تفرّدونه بالعبادة . فإن من طاعته أن تخلصوا له العبادة ، ولا تشركوا في طاعته أحداً ؛ لأنها لا تنبغي لأحد سواه . تنبيه :
استدل بالآية الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " على صلاة الكسوف . قال : لأنه لا صلاة تتعلق بالشمس والقمر غيرها ، وأخذ من ذلك تفضيلها على صلاة الاستسقاء ، لكونها في القرآن ، بخلافها . كذا في " الإكليل " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } [ 38 ] .
{ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا } أي : عن عبادته كبراً وعتواً : { فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ } أي : من الملائكة
{ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } أي : لا يملّون عبادته ، لأنها قرة أعينهم ، وحياة أنفسهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } [ 39 - 41 ] .
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً } أي : ساكنة لا حركة لعشب فيها ، ولا نبات ، ولا زرع : { فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } أي : اهتزت بالنبات وتحركت بزينته ، وربت بارتفاعه على سطحها ، أي : صارت ربوة مرتفعة : { إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا } أي : هذه الأرض الدارسة ، فأخرج منها النبات ، وجعلها تهتز بالزرع من بعد يبسها : { لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا } أي : يميلون عن حججنا وأدلتنا ، ويزيغون عنها تكذيباً لها ، وجحوداً لها : { لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا } أي : لإحاطة علمه بهم ، وكونه بالمرصاد لهم ، فسيجزيهم .
تنبيه :
شملت الآية من بضع الكلام في الآيات على غير مواضعه ، كما فسّرها ابن عباس . قال في " الإكليل " : ففيها الرد على من تعاطى تفسير القرآن بما لا يدل عليه جوهر اللفظ ، كما يفعله الباطنية ، والاتحادية ، والملاحدة ، وغلاة المتصوفة : { أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ } أي : بهذا القرآن : { لَمَّا جَاءهُمْ } أي : فهم هالكون . فالخبر محذوف ، أو الجملة بدل من جملة : { إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا } : { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } أي : منبع محمي عن التغيير والتبديل ، وعن محاكاته بنظير .(/)
{ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ 42 ] .
{ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ } أي لا يتطرق إليه البطلان من جهة من الجهات .
قال القاشاني : لا من جهة الحق فيبطله بما هو أبلغ منه وأشد إحكاما في كونه حقا وصدقا . ولا من جهة الخلق فيبطلونه بالإلحاد في تأويله, ويغيرونه بالتحريف لكونه ثابتا في اللوح محفوظا من جهة الحق, كما قال : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ( الحجر : 9 ) , وفيه تمثيل لتشبيهه بشخص حمي من جميع جهاته . فلا يمكن أعداءه الوصول إليه لأنه في حصن حصين من حماية الحق المبين . هذا على أن ما بين يديه وما خلفه, كناية عن جميع الجهات . كالصباح والمساء كناية عن الزمان كله . أو المعنى : لا يتطرق إليه باطل في كل ما أخبر عنه من الأخبار الماضية والآتية . والماضية ما بين يديه, والآتية ما خلفه . أو العكس كما مر { تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } قال ابن جرير : أي هو تنزيل من عند ذي حكمة, بتدبير عباده وصرفهم فيما فيه مصالحهم, محمود على نعمه عليهم بأياديه عندهم .
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ( 43 ) } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } [ 43 ] .
{ مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } أي : ما يقول لك كفار قومك ، إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم ، من الكلمات المؤذية ، والمطاعن في الكتب المنزلة ؛ أي : فاصبر كما صبروا : { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ } أي : لذنوب التائبين إليه من ذنوبهم ، بالصفح عنهم : { وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } أي : لمن أصرّ على كفره وذنوبه ، ومات قبل التوبة منها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [ 44 ] .
{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } أي : بينت أدلته وما فيه ، بلسان نعرفه لنفهم ما فيه . قال الزمخشري : كانوا لتعنتهم يقولون : هلا نزل القرآن بلغة العجم ؟ فقيل : لو كان كما يقترحون ، لم يتركوا الاعتراض والتعنت ، وقالوا : لولا فصلت آياته ؟ أي : بينت ولخصت بلسان نفقهه : { أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } الهمزة همزة الإنكار ، يعني : لأنكروا وقالوا : أقرآن أعجمي ورسول عربي ؟ أو مرسل إليه عربي ؟ والمعنى : إن آيات الله على أي : طريقة جاءتهم ، وجحدوا فيها متعنتاً ؛ لأن القوم غير طالبين للحق ، وإنما يتعبون أهواءهم . انتهى .
قال الشهاب : والأعجمي أصله أعجم ، ومعناه من لا يفهم كلامه للكنة ، أو لغرابة لغته وزيدت الياء للمبالغة . كما في أحمري . ويطلق على كلامه مجازاً . لكنه اشتهر حتى ألحق بالحقيقة . وأما العجمي فالمنسوب إلى العجم . وهم مَن عدا العرب ، وقد يخص بأهل فارس ، ولغتهم العجمية أيضاً . فبين الأعجمي والعجمي عموم وخصوص وجهي . انتهى .
{ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء } أي : وهو للمؤمنين بالغيب هداية تهديهم إلى الحق ، وتبصّرهم بالمعرفة ، وشفاء يزيل أمراض قلوبهم من الرذائل . كالنفاق والشك ، أي : تبصّرهم بطريق النظر والعمل ، فتعلمهم وتزكيهم : { وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } أي : لا يسمعونه ولا يفهمونه . بل يشتبه عليهم لاستيلاء الغفلة عليهم ، وسد الغشاوات الطبيعية طرق أسماع قلوبهم وأبصارها ، فلا ينفذ فيها ولا يتنبهوا بها ولا يتيقظوا : { أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } أي : مثلهم في عدم قبولهم الحق ، واستماعهم له ، مثل من يُصيّح به من مسافة شاطة ، لا يسمع من مثلها الصوت ، فلا يسمع النداء . وذلك لبعدهم عن منبع النور الذي [ في المطبوع : الى ] يدرك به الحق ويرى . وانهماكهم في ظلمات الهيولى .
قال الشهاب : وجعل النداء من مكان بعيد ، تمثيلاً لعدم فهمهم وانتفاعهم بما دُعُوا له . يقال : أنت تنادى من مكان بعيد ، أي : لا تفهم ما أقول . وقيل : إنه على حقيقته ، وإنهم يوم القيامة ينادون كذلك ، تفضيحاً لهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } [ 45 ] .
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ } قال ابن جرير : أي : فاختلف في العمل بما فيه الذين أوتوه من اليهود . وقال ابن كثير : أي : كذب وأوذي ، فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل : { وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } وهي العدة بالقيامة ، وفصل الخصومة حينئذ ؛ أي : لولا أنه تعالى قدر الجزاء في الآخرة : { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي : بتعجيل العذاب : { بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً } [ الكهف : 58 ] ، { بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } [ القمر : 46 ] ، { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } أي : موقع للريب والاضطراب لأنفسهم وأتباعهم ، لعمى بصائرهم وتبلد عقولهم ، وإلا فالحق أجلى من أن يخفى . وقال ابن كثير : أي : وما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم ، لما قالوا . بل كانوا شاكّين فيما قالوه ، غير محققين لشيء كانوا فيه ، هكذا وجّهه ابن جرير . وهو محتمل . والله أعلم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } [ 46 ] .
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ } أي : من عمل بطاعة الله ، فائتمرَ لأمره ، وانتهى عما نهان ، فلنفسه نفعه ؛ لأنه يجازى عليه جزاءه الحسن : { وَمَنْ أَسَاء } أي : عمل السيء وعصى
{ فَعَلَيْهَا } ضره ؛ لأنه جنى على نفسه بذلك ، ما أكسبها سخط الله تعالى والعقاب الأليم و : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } أي : لا يعاقب أحداً إلا بذنبه ، ولا يعذب أحداً إلا بقيام الحجة عليه ، وإرسال الرسول إليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } [ 47 ] .
{ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ } أي : لا يعلمها إلا هو . أو المعنى : إذا سئل عنها يقال : الله عالم بها : { وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا } أي : أوعيتها : { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ } أي : مقروناً بعلمه . قال الزمخشري : يعلم عدد أيام الحمل وساعاته ، وأحواله من الخداج ، والتمام ، والذكورة ، والأنوثة ، والحسن ، والقبح ، وغير ذلك : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي } أي : الذين كنتم تشركونهم في عبادتي : { قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } أي : أعلمناك ما منا من يشهد لهم بالشركة ويقرّ بها الآن . فـ : { شَهِيدٍ } فعيل من الشهادة ، ونفي الشهادة كناية عن التبرؤ منهم ، أو هو منهم إنكار لعبادتها ، فيكون كذباً ، كقولهم : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ } [ 48 ] .
{ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ } أي : يعبدون من الأوثان ، فلم تنفعهم ولم تدفع عنهم شيئاً : { وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ } أي : وأيقنوا يومئذ مالهم من ملجأ يلجأون إليه من عذاب الله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَاْن مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ } [ 49 ] .
{ لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَاْن مِن دُعَاء الْخَيْرِ } أي : لا يمل من مسألته ربه بالخير ، كالمال وصحة الجسم : { وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ } أي : الضرّ في نفسه من سقم أو جهد في معيشته : { فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ } أي : من روح الله ورحمته ، ومن أن يكشف ما نزل به . قال الزمخشري : بولغ فيه من طريقين : من طريق بناء فعول ، ومن طريق التكرير . والقنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ 50 ] .
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ } أي : بتفريجها عنه : { لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي } أي : حقي نلته بعملي ، لا بفضل من الله ، جحداً للمنعم : { وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى } أي : للحالة الحسنى من الكرامة ، حرصاً ورجماً بالغيب ، وتلاعباً بما شاء الهوى : { فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا } أي : فلنخبرن هؤلاء المتمنين على الله الأباطيل ، بحقيقة أعمالهم ، ولنبصرنّهم عكس ما اعتقدوا فيها : { وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } وهو تخليدهم في النار .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَاْن أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ} [ 51 ] .
{ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَاْن أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ } أي : إذا كشفنا ما به من ضر ، ورزقناه غنى ، وصحة ، وسعة ، أعرض عما دعي إليه من الطاعة ، وتكبر وشمخ بأنفه عن الإجابة { وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ } أي : كثير ، يديم تضرعه ، ويستغرق في الابتهال أنفاسه . وقد استعير العرض لكثرة الدعاء . كما يستعار له الطول أيضاً . فيقال : أطال فلان الدعاء ، إذا أكثر . وكذلك أعرض دعاءه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } [ 52 ] .
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ } أي : القرآن : { مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ } أي : من غير نظر ، واتباع دليل : { مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أي : من أضل منكم ، فوضع الموصول موضع الصلة ، شرحاً لحالهم وتعليلاً لمزيد ضلالهم ، والشقاق الخلاف ، لكون المخالف في شق ، وجانب ممن خالفه . قال الشهاب : الآية رجوع لإلزام الطاعنين والملحدين ، وختم السورة بما يلفت لفت بدئها ، وهو من الكلام المنصف ، وفيه حث على التأمل ، واستدراج للإقرار ، مع ما فيه من سحر البيان . وحديث الساعة وقع في البين تتميماً للوعيد ، وتنبيهاً على ما هم عليه من الضلال البعيد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ 53 ] .
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ } يعني وقائع النبي صلى الله عليه وسلم بنواحي بلد المشركين من أهل مكة وأطرافها ، وظهوره على الناس تصديقاً للوعد : { وَفِي أَنفُسِهِمْ } أي : من غلبتهم وقهرهم وكسر شوكتهم ، وكما وقع في بدر وفتح مكة : { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } أي : أن هذا القرآن ، بوعده ووعيده ، هو الحق الثابت ؛ إذ [ في المطبوع : إذا ] لا برهان بعد عيان ، فقد نصر الله رسوله وصحبه ، وخذل الباطل وحزبه : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي : لا يخفى عليه شيءٌ ما ، مما يفعله خلقه ، وهو مجازيهم عليه ، ففيه وعد ، ووعيد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } [ 54 ] .
{ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ } أي : في شك عظيم من البعث بعد الممات ، ومعادهم إلى ربهم : { أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } أي : فلا يخرج عن إحاطته شيء : { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [ الملك : 14 ] .
بسم الله الرحمن الرحيم(/)
سورة الشورى
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ح م *عسق } [ 1 ، 2 ] .
{ حم عسق } قد روي بعض المفسرين ها هنا ، في تفسير : { حم عسق } آثاراً واهية جداً لا يعول عليها . بل هي ، كما قال ابن كثير : منكرة ، وقد قدمنا أن الصواب أن هذه الحروف ، أوائل السور الكريمة ، أسماء لها . و : { حم عسق } اسمان للسورة ولذلك فصل بينهما ، وعُدَّا آيتين . وقيل اسم واحد ، والفصل ليناسب سائر الحواميم ، فيكون آية واحدة . وهو الوجه عندي لاشتهارها بهما معاً . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 3 ] .
{ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } كلام مستأنف ، وارد التحقيق أن مضمون السورة موافق لما في تضاعيف سائر الكتب المنزلة على الرسل المتقدمة في الدعوة إلى التوحيد ، والإرشاد إلى الحق . أو أن إيحاءها مثل إيحائها ، بعد تنويهها بذكر اسمها ، والتنبيه على فخامة شأنها . والكاف في حيز النصب على أنه مفعول لـ : { يُوْحِي } على الأول , وعلى أنه نعت لمصدر مؤكد له على الثاني , وذَلِكَ - على الأول - إشارة إلى ما فيها ، وعلى الثاني إلى إيحائها ، وما فيه من معنى البعد ، للإيذان بعلوّ رتبة المشار إليه ، وبعد منزلته في الفضل ؛ أي :
مثل ما في هذه السورة من المعاني ، أوحى إليك في سائر السور ، وإلى من قبلك من الرسل في كتبهم . على أن مناط المماثلة ما أشير إليه من الدعوة إلى التوحيد ، والإرشاد إلى الحق ، وما فيه صلاح العباد في المعاش والمعاد . أو مثل إيحائها ، أوحى إليك عند إيحاء سائر السور . وإلى سائر الرسل عند إيحاء كتبهم إليهم . لا إيحاءً مغايراً له . كما في قوله تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ } [ النساء : 163 ] الآية . على أن مدار المثلية كونه بواسطة الملك . وصيغة المضارع على حكاية الحال الماضية, للإيذان باستمرار الوحي ، وأن إيحاء مثله عادته . وفي جعل مضمون السورة أو إيحاءها مشبهاً به ، من تفخيمها ما لا يخفى . وكذا في وصفه تعالى بوصفي العزة والحكمة . وتأخير الفاعل لمراعاة الفواصل . مع ما فيه من التشويق . وقرئ : { يُوْحَى } على البناء للمفعول ، على أن : { كَذَلِكَ } مبتدأ : { وَيُوْحَى } خبره المسند إلى ضميره ، أو مصدره و : { يُوْحِي } مسند إلى : { إِلَيْكَ } . و : { اللّهُ } مرتفع بما دل عليه : { يُوْحِي } كأنه قيل : من يوحي ؟ فقيل : الله .
{ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } صفتان له ، أو مبتدأ ، كما في قراءة : { نُوْحِي } ، والعزيز وما بعده خبران له ، أو العزيز الحكيم صفتان له . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [ 4 ] .
{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } خبران له . وعلى الوجوه السابقة ، استئناف مقرر لعزته وحكمته . أفاده أبو السعود .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } [ 5 ، 6 ] .
{ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } أي : يتشققن لتأثرهن من تجليات عظمته ، ويتلاشين من علو قهره وسلطته [ في المطبوع : سلطنته ] ، يدل عليه مجيئه بعد : { الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } أو من دعائهم له ولداً ، كما في سورة مريم : { وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ } أي : يسألون المغفرة لذنوب من في الأرض من المؤمنين به : { أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء } أي : شركاء وأنداداً : { اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ } أي : رقيب على أفعالهم يحفظ أعمالهم ليجازيهم بها يوم القيامة : { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } أي : بموكل لحفظ أعمالهم ، وإنما أنت منذر : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [ الرعد : 40 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } [ 7 ] . : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى } أي : أهلها ، وهي مكة : { وَمَنْ حَوْلَهَا } أي : من العرب وسائر الناس : { وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ } أي : يوم القيامة الذي تكون فيه الفضيحة أعظم ؛ لأنه يجمع فيه الخلائق : { لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } أي : منهم فريق في الجنة ، وهم الذين آمنوا بالله ، واتبعوا ما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفريق في السعير ، أي : النار الموقدة المسعورة على أهلها ، وهم الذين كفروا بالله ، وخالفوا ما جاءهم به رسوله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } [ 8 ] .
{ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي : أهل دين واحد وملة واحدة : { وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ } أي : ولكن لم يفعل ذلك فيجعلهم أمة واحدة ، لمنافاة ذلك ما يقتضيه حكمة خلق الْإِنْسَاْن من تنوع أفراده المستلزم اختلاف أميالهم ومشاربهم ؛ ولذا شاء ما اقتضاه خلقهم واستعدادهم . فكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون . فأدخل من شاء في رحمته وهم المؤمنون ، وفي عذابه ، الكافرين .
قال أبو السعود : ولا ريب في أن مشيئته تعالى لكل من الإدخالين ، تابعة لاستحقاق كل من الفريقين لدخول مدخله : { وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } أي : والكافرون بالله مالهم من وليّ يتولاهم يوم القيامة ، ولا نُصَيْر ينصرهم من عقاب الله فينقذهم من عذابه ، لأنه يدخلهم في قهره . وتوصيفهم بالظالمين ، إشارة إلى عدل المؤمنين في باب الاعتقادات ، والأخلاق ، والأعمال ، والأفعال ، وأنه تعالى يواليهم ، وينصرهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ 9 ، 10 ] .
{ أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } أي : يتولونهم ، مع أنه لا ولاية لهم في الحقيقة ؛ إذ لا قدرة ولا قوة : { فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ } أي : هو الذي يجب أن يتولى وحده ، ويعتقد أنه المولى والسيد دون غيره ، لتوليه سبحانه كل شيء ، وسلطانه وحكمه . والفاء جواب شرط مقدر . كأنه قيل بعد إنكار كل ولي سواه : إن أرادوا ولياً بحق ، فالله هو الولي بالحق ، لا ولي سواه : { وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : هو المحي القادر ، فكيف تستقيم ولاية غيره ؟ , وقوله : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } تمهيد لما يأتي بعد ، من الأمر بإقامة الدين وعدم التفريق فيه ، الذي هو وصية الله تعالى لأنبيائه ، وشرعته لخلقه ، وتنبيه على أن خلاف من خالف من المشركين والكافرين ، إنما مردّه إلى الله تعالى ، وحكمه ، وقضائه ، أنه لا دين إلا دينه ، ولا عبادة إلا عبادته ، ولا حلال إلا ما أحله ، ولا حرام إلا ما حرمه, والقصد الرد على مشركي مكة وأمثالهم ، في تشريعهم ما لم يأذن به الله ، وتحكيمهم إتباع الآباء وأفانين الأهواء . فإن السورة مكية ، ومع ذلك ، فتدل الآية على أن ما اختلف فيه المختلفون وتنازعوا في شيء من الخصومات ، يجب أن يكون التحاكم فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن لا يوثر على حكومته حكومة غيره . كقوله تعالى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } [ النساء : 59 ] ، وتدل أيضاً على الرجوع إلى المحكم من كتاب الله ، والظاهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا اختلفوا في تأويل آية واشتبه عليهم . وعلى تفويض مالم تصل إلي دركه العقول ، إلى الله تعالى ، بأن يقال : الله أعلم . كما في قوله : { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [ الإسراء : 85 ] .
وقوله : { ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبّي } بتقدير قل ، أو هو حكاية لقوله صلى الله عليه وسلم . أي : الذي هذه الصفات صفاته ، ربي لا آلهتكم التي تدعون من دونه ، التي لا تقدر على شيء : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي : في أموري كلها : { وَإلَيْهِ أُنِيبُ } أي : أرجع في المعاد ، أو من الذنوب ، أو في الأمور المعضلة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى:
{ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [11]
{ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } أي من جنسهم { أَزْوَاجًا } أي نساء { وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا } أي أصنافاً مختلفة,أو ذكوراً وإناثاً ,{ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ }أي يكثركم من ( الذرء ) وهو البث. يقال : ذرأ الله الخلق ,بثهم كثرهم,و فسر ب( يخلقكم ) ,و ضمير ( فيه ) للبطن أو الرحم. و قال الزمخشري : أي في هذا التدبير ,وهو أن جعل للناس و الأنعام أزواجاً,حتى كان بين ذكورهم و إناثهم التوالد و التناسل, و الضمير في ( يذرؤكم ) يرجع إلى المخاطبين والأنعام مغلباً فيه المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل, فإن قلت: ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير ؟ و هلا قيل:يذرؤكم به؟ قلت: جعل هذا التدبير كالمنع و المعدن للبث والتكثير. انتهى.
و قيل ( في ) مستعارة للسببية { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }, قال ابن جرير: فيه وجهان: أحدهما أن يكون معناه: ليس مثله شيء, و تكون الكاف هي المدخلة في الكلام. انتهى.
و بقي ثالث وهو أن المثل بمعنى الصفة, أي ليس كصفته صفة, و رابع - وهو ما عول عليه المحققون - أن المراد من ( مثله ) ذاته,كما في قولهم : مثلك لا يبخل,على قصد المبالغة في نفيه عنه, فإنه إذا نفي عمن يناسبه, كان نفيه عنه أولى, ثم سلكت هذه الطريقة في شأن من لا مثل له سبحانه. و وجه المبالغة أن الكناية من باب دعوى الشيء ببيّنة, وقد بينت الكناية في الآية بوجه آخر أشار إليه الشُّمنِّيّ , وهو أنه نفي للشيء بنفي لازمه, لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم, كما يقال: ليس لأخي زيد أخ. فأخو زيد ملزوم, والأخ لازمه, لأنه لا بد لأخي زيد من أخ هو زيد, فنُفِي هذا اللازم, و المراد نفي ملزومه, أي ليس لزيد أخ. إذ لو كان له أخ لكان لذلك الأخ أخ, هو زيد. فكذا نفي أن يكون لمثل الله مثل, و المراد نفي مثله تعالى - إذ لو كان له مثل, لكان هو تعالى مثل مثله, لتحقق المماثلة من الجانبين.
فلا يصح نفي مثله (أي نفي مثل ذلك المثل) وبالجملة، فأطلق نفي مثل المثل، وأريد لازمه من نفي المثل. قال بعض الأفاضل: طالما كنت أجد في نفسي من هذا شيئا. وذلك أن محصل هذا أن نفي المثل لازم لحقيقة الآية. وقد تقرر أولًا أنها تقتضى إثباته. ولذا أوّلوها بالأوجه المذكورة. فكيف يعقل أن إثبات الشيء ونفيه يلزمان معا لشيء واحد؟ مع تصريحهم بأن تنافي اللوازم يقتضي تنافي الملزومات، وبفرض صحة أن كلا منهما لازم لها، فقصرها على هذا دون ذاك تحكم مع أن القصد إبطال دلالتها على المحال، ولا يكفي فيه قولنا إنه غير مراد كما لا يخفى، ثم ظهر أن إثبات المثل ليس لازمًا لحقيقة الآية قطعًا بل هو محتمل فقط، كما تحتمل نفيه وإن كان الأول أقرب، لكن عارضه في خصوص هذه المادة أنه لو كان له مثل الخ. فبطل ذلك الاحتمال من أصله فالتعويل في نفي المثل على هذه المقدمة القطعية بخلاف المثال فافهم ذلك.
وقال العصام: هذا - أي كون الآية من باب الكناية - وجه تلقاه الفحول بالقبول، ورجحوه بأن الكناية أبلغ من التصريح، وعدم الزيادة أحق بالترجيح، وفيه بحث، وهو أن نفي مثل المثل لا يستلزم نفي المثل؛ لأن الشيء ليس مثل مثله، بل المثل المشارك للشيء في صفة، مع كون الشيء أقوى منه فيها وبمنزلة الأصل، والمثل بمنزله الملحق به المتقارب منه . انتهى.
ورده السيلكوتي فقال: ما قيل إن نفي مثل المثل لا يستلزم نفي المثل لأن مثل الشيء أضعف منه، فتوهم محض، لأن المماثلة هي ا لشركة في أخص الصفات والمساواة في جميع الوجوه مما به المماثلة، صرح به في (شرح العقائد النسفية) انتهى. ومثل هذه اللطائف الأدبية مما تتحلى به أجياد الأفهام، وتتشعب في أودية بدائعه عيون محاسن الكلام.
تنبيه:
قال السيوطي في الإكليل: في الآية رد على المشبهة، وأنه تعالى ليس بجوهر ولا بجسم، ولا عرض ولا لون ولا حال في مكان ولا زمان. انتهى.
وكان حقه أن يتم الاستنباط، فكما أن صدر الآية فيه رد على المشبهة، فكذا تتمتها وهو قوله تعالى (وهو السميع البصير) رد على المعطلة، ولذا كان أعدل المذاهب مذهب السلف، فإنهم أثبتوا النصوص بالتنزيه من غير تعطيل ولا تشبيه، وذلك أن المعطلين لم يفهموا من أسماء الله تعالى وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فجمعوا بين التمثيل والتعطيل، فمثلوا أولًا وعطلوا آخرًا، فهذا تشبيه وتمثيل منهم، للمفهوم من أسمائه وصفاته تعالى، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، فعطلوا ما يستحقه سبحانه وتعالى من الأسماء والصفات اللائقة به عز وجل، بخلاف سلف الأمة وأجلاء الأئمة، فإنهم يصفون الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه وبما وصف به نبيه صلى الله عليه وسلم ، من غير تحريف ولا تشبيه، قال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فرد على المشبهة بنفي المثلية، ورد على المعطلة بقوله (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) قال الحافظ ابن عبد البر: أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسنة، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لم يكيفوا شيئا من ذلك، وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج، فكلهم ينكرها ولا يحمل منها شيئا على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود. انتهى.
قال الذهبي: صدق الله، فإن من تأول سائر الصفات، وحمل ما ورد منها على مجاز الكلام، أداه ذلك السلب إلى تعطيل الرب وأن يشابه المعدوم، كما نقل عن جماد بن زيد أنه قال: مثل الجهمية كقوم قالوا: في دارنا نخلة، قيل: لها سعف؟ قالوا: لا، قيل: لها كرب؟ قالوا: لا، قيل: لها رطب؟ قالوا: لا، قيل: فلها ساق؟ قالوا: لا، قيل: فما في داركم نخلة. قلت: كذلك هؤلاء النفاة، قالوا: إلهنا الله تعالى؛ وهو لا في زمان، ولا في مكان، ولا يرى ولا يسمع، ولا يبصر ولا يتكلم، ولا يرضى ولا يريد، ولا ولا، وقالوا: سبحان المنزه عن الصفات. بل نقول: سبحان الله العلي العظيم السميع البصير المريد، الذي كلم موسى تكليما ، واتخذ إبراهيم خليلا، ويرى في الآخرة، المتصف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسله، المنزه عن سمات المخلوقين وعن جحد الجاحدين ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وقال الذهبي رحمه الله أيضا: مقال متأخري المتكلمين، أن الله تعالى ليس في السماء، ولا على العرش ولا على السموات ولا في الأرض، ولا داخل العالم ولا خارج العالم، ولا هو بائن عن خلقه ولا متصل بهم، وقالوا: جميع هذه الأشياء صفات الأجسام والله تعالى منزه عن الجسم، قال لهم أهل السنة والأثر: نحن لا نخوض في ذلك ونقول ما ذكرناه اتباعًا للنصوص ولا نقول بقولكم، فإن هذه السلوب نعوت للمعدوم، تعالى الله جل جلاله عن العدم، بل هو موجود متميز عن خلقه، موصوف بما وصف به نفسه، من أنه فوق العرش بلا كيف، انتهى.
وقال الإمام ابن تيمية في (الرسالة التدمرية) في القاعدة الأولى: إن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي، فالإثبات كإخباره بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير ونحو ذلك، والنفي كقوله (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال، إلا إذا تضمن إثباتا، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال، لأن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس شيء، وما ليس بشيء فهو كما قيل ليس بشيء فضلا عن أن يكون مدحا أو كمالا، ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال، فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمنا لإثبات مدح، كقوله (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) إلى قوله (وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا) فنفي السنة النوم يتضمن كمال الحياة والقيام، فهو مبين لكمال أنه الحي القيوم، وكذلك قوله (وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا) أي لا يكرثه ولا يثقله، وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها، بخلاف المخلوق القادر، إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته وعيب في قوته، وكذلك قوله (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السموات والأرض، وكذلك قوله (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) فإن نفي مس اللغوب، الذي هو التعب والإعياء دل عل كمال القدرة ونهاية القوة، بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه، وكذلك قوله (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) إنما نفي الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء، ولم ينف مجرد الرؤية، لأن المعدوم لا يرى، وليس في كونه لا يرى مدح، إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحا، وإنما المدح في كونه لا محاط به، وإن رئي ، كما أنه لا يحاط به وإن علم، فكما أنه إذا علم لا يحاط به علما، فكذلك إذا رئي لا يحاط به رؤية، فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته، ما يكون مدحا وصفة كمال، وكان ذلك دليلا على إثبات الرؤية لا على نفيها، لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة، وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وإذا تأملت ذلك وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتا، هو مما لم يصف الله به نفسه، الذين لا يصفونه إلا بالسلوب، لم يثبتوا في الحقيقة إلها محمودا، بل ولا موجودا، وكذلك من شاركهم في بعض ذلك، كالذين قالوا لا يتكلم أو لا يرى أو ليس فوق العالم أو لم يستو على العرش، ويقولون: ليس بداخل ا لعالم ولا خارجه ولا مباين للعالم ولا مجانب له، إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم، وليست هي صفة مستلزمة صفة ثبوت، ولهذا قال محمود بن سبكتكين لمن ادعى ذلك في الخالق: ميز لنا بين هذا الرب الذي نثبته وبين المعدوم، وكذلك كونه لا يتكلم أولا ينزل، ليس في ذلك صفة مدح ولا كمال، بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات، فهذه الصفات منها ما لا يتصف به إلا المعدوم ومنها ما لا يتصف به إلا الجمادات والناقص، فمن قال لا هو مباين للعالم ولا مداخل للعالم، فهو بمنزلة من قال لا هو قائم بنفسه ولا بغيره ولا قديم ولا محدث ولا متقدم على العالم ولا مقارن له، ومن قال إنه ليس بحي ولا سميع ولا بصير ولا متكلم، لزمه أن يكون ميتا أصم أعمى أبكم، فإن قال العمى عدم البصر عما من شأنه أن يقبل البصر، وما لم يقبل البصر كالحائط لا يقال له أعمى ولا بصير، قيل له هذا اصطلاح اصطلحتموه، وإلا فما يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام يمكن وصفه بالموت والعمى والخرس والعجمة، وأيضا فكل موجود يقبل الاتصاف بهذه الأمور ونقائضها، فإن الله قادر على جعل الجماد حيا كما جعل عصا موسى حية ابتلعت الحبال والعصي، وأيضا فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصا مما يقبل الاتصاف مع اتصافه بنقائضها، فالجماد الذي لا يوصف بالبصر ولا العمى ولا الكلام ولا الخرس، أعظم نقصا من الحي الأعمى الأخرس، فإن قيل إن البارئ لا يمكن اتصافه بذلك، كان في ذلك من وصفه بالنقص أعظم مما إذا وصف بالخرس والعمى والصمم ونحو ذلك، مع أنه إذا جعل غير قابل لها كان تشبيها له بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف بواحد منها ، وهذا تشبيه بالجمادات لا بالحيوانات، فكيف من قال ذلك على غيره مما يزعم أنه تشبيه بالحي، وأيضا فنفس نفي هذه الصفات نقص، كما أن إثباتها كمال، فالحياة من حيث هي هي، مع قطع النظر عن تعيين الموصوف بها، صفة كمال، وكذلك العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والعقل ونحو ذلك، وما كان صفة كمال فهو سبحانه أحق أن يتصف به من المخلوقات، فلو لم يتصف به مع اتصاف المخلوق به، لكان المخلوق أكمل منه.(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } [ 12 ، 13 ] .
{ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : مفاتيح الأرزاق وخزائن الملك والملكوت : { يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ } أي : يوسع رزقه وفضله على من يشاء من خلقه ويغنيه ، ويقتّر على آخرين : { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } اعلم أنه تعالى لما عظم وحيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقوله : { كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ الشورى : 3 ] ، ذكر في هذه الآية تفصيل ذلك ، وهو ما شرعه له ولهم من الاتفاق على عبادته وحده لا شريك له كما قال : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] ، وفي الحديث : < نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد > . يعني : عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ، وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم . كقوله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } [ المائدة : 48 ] . وتخصيص هؤلاء الخمسة ، وهم أولو العزم عليهم السلام ، بالذكر ، لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة . ولاستمالة قلوب الكفرة ، لاتفاق الكل على نبوة بعضهم . وابتدأ بنوح عليه السلام لأنه أول الرسل . والمعنى : شرع لكم من الدين ما وصى به جميع الأنبياء من عهد نوح عليه السلام إلى زمن نبينا عليه الصلاة السلام . والتعبير بالتوصية فيهم والوحي له ، للإشارة إلى أن شريعته صلى الله عليه وسلم هي الشريعة الكاملة . ولذا عبر فيه بـ : الذي ، التي هي أصل الموصولات . وأضافه إليه بضمير العظمة ، تخصيصاً له ولشريعته بالتشريف وعظم الشأن وكمال الاعتناء . وهو السر في تقديمه على ما بعده مع تقدمه عليه زماناً : { كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } أي : من إخلاص العبادة لله وإفراده بالألوهية والبراءة مما سواه من الأوثان : { اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء } وهو من صرف اختياره إلى ما دعي إليه : { وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } أي : يوفق للعمل لطاعته وإتباع رسله ، من يُقبل إلى طاعته ، ويتوب من معاصيه . ثم أشار إلى أهل الكتاب ، إثر بيان حال المشركين ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } [ 14 ] .
{ وَمَا تَفَرَّقُوا } أي : في دينهم وصاروا شيعاً : { إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ } أي : الدلائل الصحيحة ، والبراهين اليقينية على حقية ما لديهم : { بَغْياً بَيْنَهُمْ } أي : ظلماً ، وتعدياً ، وطلباً للرئاسة : { وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } وهو تأخير العذاب إلى يوم القيامة : { لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي : باستئصالهم ، لاستيجاب جناياتهم لذلك : { وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ } وهم أهل مكة الذين مَنَّ الله عليهم بالكتاب العزيز : { لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } أي : موقع لأتباعهم في الشك ، لكثرة ما يبثونه من الوساوس الصادة عن سبيل الله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [ 15 ] .
{ فَلِذَلِكَ فَادْعُ } أي : فلأجل ما ذكر من التفرق والشك المريب ، فادع الناس كافة إلى إقامة الدين لمقاومة الباطل ودحره ، وهتك وساوسه : { وَاسْتَقِمْ } أي : على الدعوة إليه ، والصدع به : { كَمَا أُمِرْتَ } أي : أوحي إليك : { وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ } أي : أي : كتاب كان ، لا كالذين آمنوا ببعض ، وكفروا بعض . وفيه تحقيق للحق ، وبيان لاتفاق الكتب في الأصول ، وتأليف لقلوب أهل الكتابين ، وتعريض بهم . أفاده أبو السعود { وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } أي : لأسوي بينكم في دعوة واحدة ، كما قال تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } [ آل عِمْرَان : 64 ] . ثم أشار إلى أن ما وراء الأمر المذكور ، والتبليغ به من الحساب ، فهو إليه تعالى . فقال : { اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } أي : لا خصومة ولا محاجة بعد هذا ؛ لأن الحق قد ظهر ، ولم يبق للمحاجة حاجة ، ولا للمخالفة محل سوى المكابرة . والحجة في الأصل مصدر بمعنى الاحتجاج . كما ذكره الراغب . وتكون بمعنى الدليل . والمراد هو الأول دون الثاني . وهو ظاهر : { اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا } أي : يوم القيامة ، فيقضي بالحق فيما اختلفنا : { وَإِلَيْهِ الْمَصِيْرُ } أي : المعاد والرجع للجزاء .
تنبيهان :
الأول - تفسير العدل بما ذكرناه ، لأنه الذي يقتضيه سياق الكلام لاسيما والسورة مكية ، ولم يكن مظهره صلوات الله عليه بها فصل الخصومات والقضاء في الحكومات . نعم من ذهب إلى ذلك فإنما وقف مع عمومها . ومنه قول قتادة : أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعدل حتى مات . والعدل ميزان الله في الأرض ، به يأخذ للمظلوم من الظالم ، وللضعيف من الشديد ، وبالعدل يصدق الله الصادق ، ويكذب الكذاب ، وبالعدل يرد المعتدي ويوبخه .
الثاني - قال ابن كثير : اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات . كل منها منفصلة عن التي قبلها . حكم برأسها . قالوا : ولا نظير لها سوى آية الكرسي . فإنها أيضاً عشرة فصول كهذه . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } [ 16 ] .
{ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ } أي : يخاصمون في دينه الذي ابتعث به خاتم أنبيائه, وهم الذين أورثوا الكتاب ، المذكورون قبلُ ، ليصدوا عن الهدى طمعاً في عود الجاهلية : { مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ } أي : استجاب له الناس ؛ أي : بالاستسلام والانقياد لدينه حسبما قادهم إليه العقل السليم ، والنظر الصحيح ، وسيرة الداعي ، وهديه ، وحسن دعوته ، وتصديق الكتب المنزلة له ، وسلامة الفطرة : { حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ } أي : زائلة لأنها في باطل . والباطل لا بقاء له مع قوة الحق : { عِندَ رَبِّهِمْ } أي : في حكمه وقضائه وتقديره . قال أبو السعود : وإنما عبر عن أباطيلهم بالحجة ، مجاراة معهم على زعمهم الباطل : { وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } أي : عظيم ، لمكابرتهم الحق بعد ظهوره : { وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } وهو عذاب النار .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ } [ 17 ] .
{ اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } أي : متلبساً به في أحكامه وأخباره : { وَالْمِيزَانَ } أي : وأنزل الميزان ، وهو العدل الذي يوزن به الحقوق ، ويسوى به الخلاف : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ } قال أبو السعود : أي : شيء قريب ، أو قريب مجيئها ، أو الساعة بمعنى البعث . والمعنى أنها على جناح الإتيان . فاتبع الكتاب ، واعمل به ، وواظب على العدل قبل أن يفاجئك اليوم الذي توزن فيه الأعمال ، ويوفى جزاؤها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ } [ 18 ] .
{ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا } أي : خائفون منها . قال ابن جرير : لأنهم لا يدرون ما الله فاعل بهم فيها : { وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ } أي : المتحقق وجوده لا محالة : { أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ } أي : لإنكارهم عدل الله ، وحكمته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ * مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [ 19 ، 20 ] .
{ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ } أي : يلطف بهم في تدبير إيصال ما يفتقرون من خير الدين والدنيا : { يَرْزُقُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } .
قال الزمخشري : سمي ما يعلمه العامل مما يبتغي به الفائدة والزكاء ، حرثاً على المجاز - أي : بتشبيهه بالزرع من حيث إنه فائدة تحصل بعمل الدنيا ، ولذلك قيل : الدنيا مزرعة الآخرة . وفرق بين عمل العاملين بأن من عمل للآخرة ، وفق في عمله وضوعفت حسناته . ومن كان عمله للدنيا أعطي شيئاً منها ، لا ما يريده ويبتغيه ، وهو رزقه الذي قسم له وفرغ منه ، وما له نصيب قط في الآخرة ، ولم يذكر في معنى عامل الآخرة وله في الدنيا نصيب على أن رزقه المقسوم له ، واصلٌ إليه لا محالة - للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده من زكاء عمله ، وفوزه في المآب . انتهى .
وهذه الآية كآية : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ } [ الإسراء : 18 ] ، الخ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ * ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ } [ 21 - 23 ] .
{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } أم : منقطعة ، فيها معنى بل والهمزة ، ولا بد من سبق كلام ، خبراً أو إنشاء ، يضرب عنه ويقرر ما بعده . وما سبق قوله : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً } [ الشورى : 13 ] ، الخ فهو معطوف عليه ، وما بينهما من تتمة الأول . والمراد بشركائهم ، إما شياطينهم لأنهم شاركوهم في الكفر وحملوهم عليه ، وإما أوثانهم ، وإضافتها إليهم لأنهم متخذوها شركاء وإن لم تكن كذلك في الحقيقة . وعلى الثاني ، فإسناد الشرع إليها ، لأنها سبب ضلالهم وافتتانهم بما تدينوا به ، أو لأنها على صورة المشّرع الذي سن هذه الضلال لهم ، ويجوز كون الاستفهام المقدر حينئذ للإنكار . أي : ليس لهم شرع ولا شارع . كما في قوله : { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا } [ الأنبياء : 43 ] ، { وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ } أي : القضاء السابق بأن الجزاء في القيامة لا في الدنيا . أو لولا ما وعدهم الله به من أنه يفصل بينهم ويبيّن في الآخرة . فالفصل بمعنى البيان : { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي : لفرغ من الحكم بين الكافرين والمؤمنين ، بتعجيل العذاب للكافرين : { وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ تَرَى الظَّالِمِينَ } أي : يوم البعث : { مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا } أي : من السيئات : { وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ } أي : نازل بهم لا محالة : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً } أي : لا أسألكم على دعايتكم إلى ما أدعوكم إليه من الحق الذي جئتكم به ، والنصيحة التي أنصحكم ، ثواباً ، وجزاءً ، وعوضاً من أموالكم تعطونيه : { إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } أي : أن تودوني في القرابة التي بيني وبينكم ، وتصلوا الرحم التي بيننا ، ولا يكن غيركم ، يا معشر قريش ، أولى بحفظي ونصرتي ومودتي منكم .
قال الشهاب : المودة مصدر مقدر بـ : أن الفعل . والقربى مصدر كالقرابة . وفي للسببية . وهي بمعنى اللام لتقارب السبب والعلة . والخطاب ، إما لقريش أو لجميع العرب ، لأنهم أقرباء في الجملة . انتهى . والاستثناء منقطع . ومعناه نفي الأجر أصلاً ؛ لأن ثمرة مودتهم عائدة إليهم ؛ لكونها سبب نجاتهم . فلا تصلح أن تكون أجراً له . وقيل : المعنى أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم . وقيل القربى التقرب إلى الله تعالى . أي : إلا أن تتوددوا إلى الله فيما يقربكم إليه . والمعنى الأول هو الذي عول عليه الأئمة . ولم يرتض ابن عباس رضي الله عنه ، غيره . ففي البخاري عنه أنه سئل عن قوله تعالى : { إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } فقال سعيد بن جبير : القربى آل محمد . فقال ابن عباس : عجلت . إن النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة . فقال : إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة .
قال ابن كثير : انفرد به البخاري - أي : عن مسلم - ورواه الإمام أحمد . وهكذا روى الشعبي ، والضحاك ، وعلي بن أبي طلحة ، والعوفي ، ويوسف بن مِهْرَان ، وغير واحد ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، مثله . وبه قال مجاهد ، وعكرمة وقتادة ، والسدي ، وأبو مالك ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم . وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن ابن عباس قال : قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : < لا أسألكم عليه أجراً إلا أن تودوني في نفسي ، لقرابتي منكم ، وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم > . وروى الإمام أحمد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < لا أسألكم على ما أتيتكم به من البينات والهدى أجراً ، إلا أن تودوا الله تعالى ، وأن تقربوا إليه بطاعته > . وهكذا روي عن قتادة ، والحسن البصري مثله .
وأما رواية أنها نزلت بالمدينة فيمن فاخر العباس من الأنصار ، فإسناده ضعيف . على أن السورة مكية . وليس يظهر بين الآية وتلك الرواية في هذا السياق مناسبة . وكذا ما رواه ابن أبي حاتم أنه لما نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله ! من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم ؟ قال : < فاطمة وولدها - رضي الله عنهم - > فإن في إسناده مبهماً لا يعرف ، عن شيخ شيعي ، وهو حسين الأشقر ، فلا يقبل خبره في هذا المحل ، وذكر نزول الآية في المدينة بعيد . فإنها مكية . ولم يكن إذ ذاك لفاطمة رضي الله عنها أولاد بالكلية . فإنها لم تتزوج بعلي رضي الله عنه إلا بعد بدر السنة الثانية من الهجرة .
والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما ، كما رواه عنه البخاري . ولا ننكر الوصاة بأهل البيت , والأمر بالإحسان إليهم ، واحترامهم ، وإكرامهم . فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض ، فخراً ، وحسباً ، ونسباً . ولاسيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية . كما كان عليه سلفهم ، كالعباس وبنيه ، وعلي وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين ، وقد ثبت في " الصحيح " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته : < إني تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي . وإنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض > . وروى الإمام أحمد عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ! إن قريشاً إذا لقي بعضهم بعضاً لقوهم ببشر حسن ، وإذا لقونا ، لقونا بوجوه لا نعرفها . قال فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً وقال : < والذي نفسي بيده ! لا يدخل قلب الرجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله > . هذا ملخص ما أورده ابن كثير رحمه الله تعالى ، وسبقه في الإيساع في ذلك تقي الدين ابن تيمية في " منهاج السنة " من أوجه عديدة .
قال في الوجه الثالث : إن هذه الآية في سورة الشورى . وهي مكية باتفاق أهل السنة . بل جميع آل حم مكيات . وكذلك آل طس . ومن المعلوم أن علياً إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد غزوة بدر . والحسن ولد في السنة الثالثة من الهجرة . والحسين في السنة الرابعة فتكون هذه الآية قد نزلت قبل وجود الحسن والحسين بسنين متعددة . فكيف يفسر النبي صلى الله عليه وسلم الآية بوجوب مودة قرابة لا تعرف ولم تخلق .
ثم قال : الوجه الرابع - إن تفسير الآية الذي في الصحيحين عن ابن عباس يناقض ذلك . فهذا ابن عباس ترجمان القرآن وأعلم أهل البيت ، بعد علي ، يقول : ليس معناها مودة ذوي القربى . ولكن معناها لا أسألكم يا معشر العرب , ويا معشر قريش عليه أجراً ، لكن أسألكم أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم . فهو سأل الناس الذين أرسل إليهم أولاً ، أن يصلوا رحمه فلا يعتدوا عليه حتى يبلّغ رسالة ربه .
الوجه الخامس - أنه قال : { لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } لم يقل إلا المودة للقربى ولا المودة لذوي القربى . فلو أراد المودة لذوي القربى لقال المودة لذوي القربى كما قال : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى } [ الأنفال : 41 ] ، وقال : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى } [ الحشر : 7 ] ، وكذلك قوله : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } [ الإسراء : 26 ] ، وقوله : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى } [ البقرة : 177 ] ، وهكذا في غير موضع . فجميع ما في القرآن من التوصية بحقوق ذوي قربى النبي صلى الله عليه وسلم ، وذوي قربى الْإِنْسَاْن ، إنما قيل فيها : ذوي القربى . لم يقل : في القربى . فلما ذكر هنا المصدر دون الاسم ، دل على أنه لم يرد ذوي القربى .
الوجه السادس - أنه لو أريد المودة لهم لقال : المودة لذوي القربى ، ولم يقل في القربى ، فإنه لا يقول من طلب المودة لغيره : أسألك المودة في فلان ، ولا في قربى فلان . ولكن أسألك المودة لفلان ، والمحبة لفلان . فلما قال المودة في القربى ، علم أنه ليس المراد لذوي القربى .
الوجه السابع - أن يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسأل على تبليغ رسالة ربه أجراً البتة . بل أجره على الله كما قال : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } [ ص : 86 ] ، وقوله : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ } [ الطور : 40 ] و [ القلم : 46 ] وقوله : { قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ } [ سبأ : 47 ] ، ولكن الاستثناء هنا منقطع ، كما قال : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً } [ الفرقان : 57 ] ، ولا ريب أن محبة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم واجبة . لكن لم يثبت وجوبها بهذه الآية ، ولا محبتهم أجر للنبي صلى الله عليه وسلم . بل هو مما أمرنا الله به كما أمرنا بسائر العبادات . وفي " الصحيح " عنه أنه خطب أصحابه بغدير يدعى خما بين مكة والمدينة فقال < أذكركم الله في أهل بيتي > وفي " السنن " عنه أنه قال < والذي نفسي بيده ! لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله ولقرابتي > فمن جعل محبة أهل بيته أجراً له يوفيه إياه ، فقد أخطأ خطأً عظيماً . ولو كان أجراً له [ لم ] نُثَب عليه نحن ؛ لأنا أعطيناه أجره الذي يستحقه بالرسالة . فهل يقول مسلم مثل هذا ؟ .
الوجه الثامن - إن القربى معرفة باللام . فلا بد أن يكون معروفاً عند المخاطبين الذين أمر أن يقول لهم : { لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرٍ } وقد ذكر أنها لما نزلت ، لم يكن قد خلق الحسن والحسين ، ولا تزوج علي بفاطمة . فالقربى التي كان المخاطبون يعرفونها ، يمتنع أن تكون هذه . بخلاف القربى التي بينه وبينهم ، فإنها معروفة عندهم ، كما تقول : لا أسألك إلا المودة في الرحم التي بيننا . وكما تقول : لا أسألك إلا العدل بيننا وبينكم . ولا أسألك إلا أن تتقي الله في هذا الأمر . انتهى
{ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً } أي : يكتسب طاعة : { نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنَاً } أي : بمضاعفته : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } أي : لمن تاب وأناب : { شَكُورٌ } لسعيهم بتضعيف جزاء حسناته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ 24 ] .
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } أي : بدعوى النبوة والوحي : { فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ } قال ابن كثير : أي : لو افتريت عليه كذباً كما يزعم هؤلاء الجاهلون ، يختم على قلبك ، أي : يطبع على قلبك ويسلبك ما كان آتاك من القرآن . كقوله جل جلاله : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 44 - 47 ] ، أي : لانتقمنا منه أشد الانتقام ، وما قدر أحد من الناس أن يحجز عنه . انتهى .
وهذا تفسير بالأشباه ، والنظائر من الآيات ، يؤثره كثير من الأئمة ، ما وجد إليه سبيلاً . فإن التنزيل يفسر بعضه بعضاً ، ومآل الآية على هذا المعنى ، كما أوضحه أبو السعود ، هو الاستشهاد على بطلان ما قالوا ، ببيان أنه عليه السلام لو افترى على الله تعالى ، لمنعه من ذلك قطعاً ، فختم على قلبه بحيث لم يخطر بباله معنى من معانيه ، ولم ينطق بحرف من حروفه . وحيث لم يكن الأمر كذلك . بل تواتر الوحي حيناً فحيناً ، تبين أنه من عند الله تعالى .
وقال الزمخشري : فإن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم ، حتى تفتري عليه الكذب ؛ فإنه لا يجترئ على افتراء الكذب على الله ، إلا من كان في مثل حالهم . وهذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله ، وإنه في البعد مثل الشرك بالله ، والدخول في الجملة المختوم على قلوبهم . ومثل هذا أن يخوّن بعض الأمناء فيقول : لعل الله خذلني . لعل الله أعمى قلبي . وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب ، وإنما يريد استبعاد أن يخون مثله ، والتنبيه على أنه رُكب من تخوينه أمر عظيم . انتهى .
قال الشهاب : فمعناه إن يشأ الله يختم على قلبك كما فعل بهم . فهو تسلية له صلوات الله عليه ، وتذكير لإحسانه إليه وإكرامه ، ليشكر به ويترحم على من ختم على قلبه ، فاستحق غضب ربه ، ولولا ذلك ما اجترأ على نسبته لما ذكر ؛ ولذا أتى بأن ، في موضع لو ، إرخاءً للعنان ، وتلميحاً للبرهان . على أنه لا يتصور وصفه بما ذكروه . فالتفريع بالنظر للمعنى المكني عنه ، وحاصله أنهم ، اجترؤوا على هذا المحال ؛ لأنه مطبوعون على الضلال . انتهى : { وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } استئناف مقرر لنفي الافتراء عما يقوله صلى الله عليه وسلم ، فإنه لو كان مفترى لمحقه ؛ إذ من سنته تعالى محو الباطل وإثبات الحق بوحيه .
فليس : يمح ، مجزوماً بالعطف على الجزاء ، بل معطوف على مجموع الجملة ، والكلام السابق ، ولذا أعيد لفظ الجلالة ، ورفع يحق . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون عدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والتكذيب ، ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن ، وبقضائه الذي لا مرد له من نصرتك عليهم . إن الله عليم بما في صدرك وصدورهم ، فيجري الأمر على حسب ذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } [ 25 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } أي : يقبل رجوعه إذا راجع توحيد الله وطاعته ، من بعد كفره : { وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ } أي : معاصيه التي تاب منها : { وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } أي : من خير ، أو شر ، وهو مجازيكم عليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ * وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } [ 26 ، 27 ] .
{ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي : يستجيب لهم . فحذف اللام كما حذف في قوله تعالى : { وَإِذَا كَالُوهُمْ } [ المطففين : 3 ] ، أي : يثيبهم على طاعتهم : { وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ } أي : على ثوابهم ، منةً منه وطولاً : { وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ } أي : تجاوزوا الحدّ الذي حدّه لهم إلى غيره ، بركوبهم ما حظره عليهم ؛ لأن الغنى مبطرةً مأشرة : { كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَاْن لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } [ العلق : 6 - 7 ] ، { وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء } أي : ولكن ينزل من رزقه ما يشاؤه بقدرٍ ، لكفايتهم : { إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } قال الزمخشري : أي : يعرف ما يؤول إليه أحوالهم ، فيقدّر لهم ما هو أصلح لهم ، وأقرب إلى جمع شملهم ، فيُفقر ويُغني ، ويمنع ويعطي ، ويقبض ويبسط ، كما توجبه الحكمة الربانية ، ولو أغناهم جميعاً لبلغوا ، ولو أفقرهم لهلكوا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } [ 28 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ } أي : بركات الغيث ، ومنافعه ، وآثاره من الخصب ، والرخاء : { وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } أي : الذي يتولى الخلق بإحسانه ، والمحمود على أياديه عندهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ } [ 29 ] .
{ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ } أي : حشرهم يوم القيامة : { إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ } أي : متمكن منه ، لا يتعذر عليه وإن تفرقت أوصالهم .
تنبيه :
ذهب بعض الباحثين في آيات القرآن الفلكية ، والعوالم العلْوية إلى معنى آخر في هذه الآية . وعبارته : يفهم من الآية أن الله تعالى خلق السماوات دواب ، ويستدل من قوله تعالى : { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } [ النور : 45 ] ، أن هذه الدواب ليست ملائكة كما قال المفسرون ، بل حيوانات كحيوانات الأرض ، ولا يبعد أن يكون بينهم حيوان عاقل كالْإِنْسَاْن ، ويلزم لحياة تلك الحيوانات أن يكون في السماوات نباتات ، وأشجار ، وبحار ، وأنهار كما تحقق في هذا العصر لدى علماء الرصد .
ثم قال : لعمري ، إن هذه الآية التي نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم قبل ألف وثلاثمائة وعشرين سنة ، لآية لأهل هذا العصر وأيّة آية ، آية لأهل العلم ، والفلسفة الذين يبذلون الأموال ، والأرواح بلا حد ، ولا حساب ، ليتوصلوا إلى معرفة سر من أسرار الكائنات ، ومع هذا الجد العنيف والجهد المتواصل منذ ثلاثمائة سنة ، لم يتوصلوا إلا بالظن إلى ما أنبأت به هذه الآية . وجل ما توصلوا إليه بالبرهان العقلي ، إن الأرض أصغر من الشمس ، وأنها تدور حولها ، وإن الكواكب السيارات كريّات ، وإن النجوم الثوابت شموس ، ولها سيارات تدور حولها ، ولما ثبت لديهم جميعاً وجود الماء والهواء ، وحصول الصيف والشتاء في هذه السيارات ، ظنوا أنه يوجد فيها عالم كعالم الأرض .
وبدأ البعض منهم يفكرون بإيجاد الوسائل للمخابرة بالكهربائية مع سكان المريخ الذي هو أقرب السيارات إلينا ، وليس ذلك بالمستحيل فنّاً . ويستدل على إمكانيته من آخر الآية نفسها وهو قوله تعالى : { وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ } فلا يبعد أن يتخابرا ويجتمعا فكراً ، إذا لم يجتمعا جسماً . فلينظر الفلكيون إلى ما حوته هذه الآية المكنوزة في القرآن . وليعلم المعجبون منا بالعلوم العصرية ، الضاربون صفحاً عن العلوم الإسلامية ، ما في كتاب الله من الحكمة والبيان . وقال أيضاً : لا يخفى أن القرآن العظيم نزل لبيان الحق وتعليم الدين ، أولاً وبالذات . لكن ، تمهيداً لهذا السبيل ، أتى بشذرات من العلوم الفلكية والطبيعية ، وصرف بصائر الناس إلى التفكير في خلق السماوات والأرض ، وما هن عليه من الإبداع ، فوجه أبصارهم إلى التأمل في خلق الْإِنْسَاْن , وما عليه من التركيب العجيب ، إلى غير ذلك من الأمور الفلكية والطبيعية في أكثر من ثلاثمائة آية .
فالمفسرون رحمهم الله ، لما فسروا هذه الآيات ، شرحوا معانيها على مقدار محيط علمهم بالعلوم الفلكية والطبيعية ، ولا يخفى ما كانت عليه هذه الآلات في زمنهم من النقصان ، لاسيما علم الفلك . فهم معذورون إذا لم يفهموا معاني هذه الآيات التي تحيّر عقول فلاسفة هذا العصر ، المتضلعين بالعلوم العقلية . لذلك لم يفسروا هذه الآيات حق تفسيرها ، بل أوّلوها وصرفوا معانيها عن الحقيقة إلى المجاز أو الكناية . انتهى كلامه .
وقال عالم فلكي أيضاً : يقول العلماء إنه من المحقق أن هذه السيارات مسكونة بحيوانات تشبه الحيوانات التي على أرضنا هذه ، ويكون كل كوكب منها أرضاً بالنسبة لحيواناته ، وباقي الكواكب سماوات بالنسبة لها .
قال : والظاهر أن القول بوجود الحيوانات في هذه الكواكب صحيح ؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ } ويقول : { يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [ الرحمن : 29 ] ,(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ } [ 30 ] .
{ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } أي : فبسبب معاصيكم ، وما اجترمتم من الآثام : { وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ } أي : من الذنوب فلا يعاقب عليها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } [ 31 ] .
{ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ } أي : بمعجزين ربكم إن أراد عقوبتكم ؛ لأنكم في قبضة تصرّفه : { وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } أي : إذا أراد عذابكم . فاتقوه واخشوه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } [ 32 ، 33 ] .
{ وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ } أي : السفن الجارية : { فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ } أي : الجبال : { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ } أي : فيبقين ثوابت على ظهر البحر : { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : في جري هذه الجواري في البحر ، بتسخير الله تعالى الريح لجريها : { لَآيَاتٍ } أي : لعبرة ، وعظة ، وحجة بينة على القدرة الأزلية : { لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي : لكل مؤمن . وإنما آثر وصفيه المذكورين ، تذكيراً بما ينبغي أن يكون المؤمن عليه من وفرة الصبر وكثرة الشكر ؛ إذ لا يكمل الإيمان بدونهما . والإيمان نصفان : نصف صبر ، ونصف شكر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ * وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ } [ 34 ، 35 ] .
{ أَوْ يُوبِقْهُنَّ } أي : أو يهلكهن بالغرق : { بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ } وقوله تعالى : { وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ } عطف على علة مقدرة مثل لينتقم منهم : { وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ } أي : يخاصمون الرسول في آياته على توحيده أنهم ما لهم من محيد عن عذابه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [ 36 ، 38 ] .
{ فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ } أي : مما زين للناس حبه من الشهوات : { فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : فهو متاع لكم ، تتمتعون به في الدنيا ، وليس من الآخرة : { وَمَا عِندَ اللَّهِ } أي : من ثوابه الأخروي : { خَيْرٌ وَأَبْقَى } وذلك لخلوصه عن الشوائب ودوامه : { لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي : في أمورهم ، وقيامهم بأسبابهم : { وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } أي : يصفحون عمن أساء إليهم : { وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ } أي حينما دعاهم إلى توحيده ، والبراءة من عبادة غيره : { وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } أي : لا ينفردون برأي حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليه ، وذلك من فرط تدبّرهم وتيقظهم ، وصدق تآخيهم في إيمانهم وتحابّهم في الله تعالى : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } أي : فيؤدّون ما فرض عليهم من الحقوق لأهلها ، من زكاة ونفقة . وما ندبوا إليه من مواساة وصدقة ومعونة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ } [ 39 ] .
{ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ } أي : بالعدالة . احترازاً عن الذلة والانظلام ، لكونهم في مقام الاستقامة ، قائمين بالحق والعدل الذي ظلّه في نفوسهم . قال القاشاني . وقال ابن جرير : اختلف أهل التأويل في الباغي الذي حمد تعالى ذكره ، المنتصر منه بعد بغيه عليه . فقال بعضهم : هو المشرك إذا بغى على المسلم . وقال آخرون : بل هو كل باغٍ بغى فحمد المنتصر منه . وإليه ذهب السدي حيث قال : ينتصرون ممن بغى عليهم من غير أن يعتدوا .
قال ابن جرير : وهذا القول الثاني أولى من ذلك بالصواب ؛ لأن الله لم يخصص من ذلك معنى دون معنى . بل حمد كل منتصر بحقٍّ ممن بغى عليه . . فإن قال قائل : وما في الانتصار من المدح ؟ قيل : إن في إقامة الظالم على سبيل الحق ، وعقوبته بما هو له أهل ، تقويماً له . وفي ذلك أعظم المدح . انتهى . وكذا قال الزمخشري . فإن قلت : أهم محمودون في الانتصار ؟ قلت : نعم ؛ لأن من أخذ حقه غير متعد حد الله وما أمر به فلم يسرف في القتل ، إن كان وليّ دم ، أو ردّ على سفيه محاماة على عرضه وردعاً له ، فهو مطيع ، وكل مطيع محمود . قال النَّخَعِي : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترىء عليهم الفساق .
ثم أشار تعالى إلى أن الانتصار يجب أن يكون مقيداً بالمثل ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 40 - 42 ] .
{ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } أي : وجزاء سيئة المسيء ما ماثلها ؛ إذ النقصان حيف والزيادة ظلم . ثم بين تعالى أن العفو أولى ، فقال : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ } أي : بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء : { فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } أي : ثوابه عليه . وفي إبهامه ، ما يدل على عظمه ؛ حيث جعل حقاً على العظيم الكريم : { إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } أي : البادئين بالسيئة ، والمعتدين في الانتقام : { وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ } أي : بعد ما ظُلِم . فالمصدر مضاف لمفعوله ، أو هو مصدر المبني للمفعول : { فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ } أي : للمعاقب ، ولا للعاتب والعائب ؛ لأنهم انتصروا منهم بحق . ومن أخذ حقه ممن وجب ذلك عليه ، ولم يتعد ولم يظلم ، فكيف يكون عليه سبيل ؟ : { إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ } أي : يبدءوهم بالظلم والإضرار ، أو يعتدون في الانتقام : { وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } أي : يتكبرون فيها ويفسدون : { أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : بسبب ظلمهم ، وبغيهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [ 43 ] .
{ وَلَمَن صَبَرَ } أي : على الأذى : { وَغَفَرَ } أي : لمن ظلمه ، ولم ينتصر : { إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } أي : التي ندب الله عباده ، وعزم عليهم العمل بها .
تنبيه :
نقل السيوطي في " الإكليل " عن الكيا الهراسي أنه قال : قد ندب الله إلى العفو في مواضع من كتابه ، وظاهر هذه الآية : { وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ } أن الانتصار أفضل . قال : وهو محمول على من تعدى وأصرّ ؛ لئلا يتجرأ الفساق على أهل الدين ، وآيات العفو فيمن ندم وأقلع . انتهى .
وعجيب فهمه الأفضلية من الآية ، فإنها لا تدل عليه ، عبارة ولا إشارة ؛ فإنه تعالى لم يرغب في الانتصار . وإنما بين أنه مشروع لهم إذا شاءوا ، ثم بين بعده أن مشروعيته بشرط رعاية المماثلة ، ثم بين أن العفو أولى ، وهو الذي انتهى إليه الكلام ، وتم به السياق . وكذلك لا حاجة إلى حمل الانتصار على من تعدى ؛ وذلك لأن الانتصار بالمثل من فروع علم العقوبات ، والجزاء المشروعة لإقامة الحق والعدل ، ودفع الظلم عن النفس والصغار ، ورفع الأحقاد والأضغان ، وأما العفو والصفح ، فذاك من فروع علم الأخلاق ، وتهذيب النفوس ؛ لأنه من باب المسامحة بالحق وإسقاط المستحق ، رغبة في تزكية النفس وهضماً لها وحرصاً على خير الأمرين ، وأوفر الأجرين ، وكلاهما من محاسن الشريعة الحنيفية ، وتوسطها بين الاقتصاص البتة ، والعفو كلياً ؛ لأن العقل السليم يرى فيهما إفراطاً وتفريطاً ، والدين دين الفطرة ، وهي تتقاضى القصاص بالمثل ، وتراه حقاً لها بجبلتها ، والقضاء الأدبي ، والوازع الرحماني يرشدها إلى ما هو أمثل إن شاءت ، ويبرهن لها أمثليته ، مما لا يبعد إذا راجعت نفسها وثابت إلى رشدها ، أن تؤثره ولا تؤثر عليه كيف ؟ وقد دل قوله تعالى : { إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } كما قال الزمخشري ، على أن الانتصار لا يكاد يؤمن فيه تجاوز السيئة والاعتداء ، خصوصاً في حال الحرد والتهاب الحمية . فربما كان المجازى من الظالمين وهو لا يشعر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } [ 44 ] .
{ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ } أي : ومن خذله عن الرشاد ، فليس له من ولي يليه ، فيهديه لسبيل الصواب ، ويسدده من بعد إضلال الله إياه : { وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } أي : رجعة إلى الدنيا . وذلك استعتاب منهم في غير وقته .
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ * وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيل ٍ *اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ } [ 45 - 47 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ * وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ * اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} [ 45 - 47 ] .
{ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } أي : النار : { خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } أي : من طرف قد خفي من ذله وصغاره : { وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : بالتعريض للعذاب المخلد ، وتفويت النعيم المؤبد : { أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم } أي : أجيبوا أيها الناس داعي الله ، وآمنوا به : { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ } أي : لا يرده الله بعد ما حكم به فـ : من ، صلة مرد ، أو هي صلة يأتي ؛ أي : من قبل أن يأتي يوم الله لا يمكن رده : { مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ } أي إنكار لما اقترفتموه ؛ لأنه محصي عليكم ، أو نكير ينكر على الله في مؤاخذتكم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَاْن مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَاْن كَفُورٌ } [ 48 ] .
{ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } أي : رقبياً تفظ عليهم أعمالهم ، وتحصيها : { إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ } أي : إبلاغهم ما أرسلت به ، فإذا فعلت فقد قضيت ما عليك : { وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَاْن مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَاْن كَفُورٌ } أي : جحودٌ نعم ربه ، فلا يذكر إلا البؤس والبلاء ، ولا يتفكر إلا فيما أنزل به من الفساد والشقاء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [ 49 ، 50 ] .
{ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } أي : إنه تعالى يجعل أحوال العباد في الأولاد مختلفة على مقتضى المشيئة ، وتقديم الإناث ، إما لأنها أكثر لتكثير النسل ، أو لتطييب قلوب آبائهن ، تنبيهاً بأنهن سبب لتكثير مخلوقاته ، فلا يجوز الحزن من ولادتهن وكراهيتهن ، كما يشاهد من بعض الجهلة . وقال الثعالبي : إنه إشارة إلى ما في تقدم ولادتهن من اليمن ، ومن يمن المرأة تبكيرها بأنثى .
قال الشهاب : والضمير في : { يُزَوِّجُهُمْ } للأولاد ، وما بعده حال منه ، أو مفعول ثان إن ضمن معنى التصيير ، يعني يجعل أولاد من يشاء ذكوراً وإناثاً مزدوجين ؛ كما يفرد بعضهم بالذكور وبعضهم بالإناث ، ويجعل بعضهم لا أولاد له أصلاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } [ 51 ] .
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً } أي : إلهاماً وقذفاً في القلب منه ، بلا واسطة : { أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ } أي : يكلمه بحيث يسمع كلامه ولا يراه ، كما كلم موسى عليه السلام : { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } أي : من الملائكة كجبريل : { فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء } أي : فيوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن ربه ، ما يشاء إيحاءه ، من أمر ونهي ، وغير ذلك ، على سبيل الإلقاء ، والنفث في الروع ، والإلهام ، أو الهتاف ، أو المنام : { إِنَّهُ عَلِيٌّ } أي : من أن يواجه ، ويخاطب . بل يفنى ويتلاشى من يواجهه ، لعلوّه من أن يبقى معه غيره ، أو يحتمل شيء حضوره . قال القاشاني .
وقال المهايمي : أي : لا يبلغ البشر حد مكالمته شفاهاً ، ولا يحتمل سماع كلامه مع رؤيته . انتهى { حَكِيمٌ } أي : يدبر بالحكمة وجوه التكليم ، ليظهر علمه في تفصيل المظاهر ، ويكمل به عباده ، ويهتدوا إليه ليعرفوه . وقال المهايمي : أي : حكيم في تبليغ كلامه العلي إلى البشر الضعيف .
تنبيه :
في " الإكليل " : استدلت بالآية ، عائشة رضي الله عنها ، على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه . واستدل مالك بقوله : { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } على أن من حلف لا يكلم زيداً ، فأرسل إليه رسولاً أو كتاباً ، أنه يحنث . لأنه تعالى استثناه من الكلام ، فدل على أنه منه . انتهى . وفيه بعد ؛ إذ لا يقال لمن ألهمه الله ، إنه كلمه إلا مجازاً ، فلا يكون الاستثناء متصلاً . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } [ 52 ، 53 ] .
{ وَكَذَلِكَ } أي : مثل ذلك الإيحاء على الطرق الثلاثة : { أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } أي : وحياً من أمرنا . وسماه روحاً لأنه تحيا به القلوب الميتة . قال الشهاب : فهو استعارة أو مجاز مرسل ، لما فيه من الهداية والعلم الذي هو كالحياة . وقيل : هو جبريل .
و : { أَوْحَيْنَا } مضمن معنى أرسلنا . والمعنى : أرسلناه إليك بالوحي : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ } أي : الروح ، أو الكتاب ، أو الإيمان : { نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا } أي : بالتوفيق للقبول ، والنظر فيه : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } أي : خلقاً وملكاً : { أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } أي : في الآخرة ، فيقضي بينهم بالعدل ؛ إذ لا حاكم سواه ، فيجازي كلّاً بما يستحقه من ثواب ، أو عقاب . نسأله تعالى أن يحسن لنا المآب . إنه الكريم الوهاب .(/)
سورة الزخرف
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [ 1 - 3 ]
أي معانيه و مواعظه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } [ 4 ] .
{ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ } أي : رفيع القدر ، بحيث لا رفعة وراءها : { حَكِيمٌ } أي : ذو الحكمة الجامعة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ } [ 5 ] .
{ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ } أي : أنهملكم ونصرف عنكم الذكر لإسرافكم . وإنما كانت الحاجة إلى الذكر للإسراف ، إذ لو كانوا على السيرة العادلة والطريقة الوسطى لما احتيج إلى التذكير ، بل التذكير يجب عند الإفراط والتفريط . ولهذا بعث الأنبياء في زمان الفترة . قاله القاشاني .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون * فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ } [ 6 - 8 ] .
{ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً } أي : قوة : { وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ } أي : سلف في القرآن في غير موضع منه ، ذكر قصتهم وحالهم في تكذيبهم وتعذيبهم وما مثلناه لهم ؛ أي : فليتوقع هؤلاء المستهزئون من العقوبة مثل ما حل بسلفهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيم ُ *الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [ 9 ، 10 ] .
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً } أي : مهاداً تستقرون عليها : { وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } أي : طرقاً تتطرقونها من بلدة إلى بلدة ، لمعايشكم ومتاجركم : { لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي : بتلك السبل إلى حيث أردتم من القرى والأمصار .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } [ 11 ] .
{ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ } أي : بمقدار الحاجة إليه . فلم يجعله طوفاناً يهلك ، ولا رذاذاً لا ينبت ، بل غيثاً مغيثاً : { فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } أي : أحيينا به بلدة ميتاً من النبات ، قد درست من الجدب ، وعفت من القحط : { كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } أي : من بعد فنائكم ، ومصيركم بالأرض .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } [ 12 - 14 ] .
{ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا } أي : خلق كل شيء فزوّجه ، فجعل منه الذكر والأنثى : { وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ } أي : من السفن والبهائم ما تركبونه : { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } أي : مطيقين : { وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } أي : لصائرون إليه ، وراجعون بعد مماتنا .
تنبيه :
في " الإكليل " : في الآية استحباب هذا الذكر عند ركوب الدابة والسفينة ، وكان صلى الله عليه وسلم يقوله كلما استوى على راحلته ، أو دابته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسَاْن لَكَفُورٌ مُّبِينٌ } [ 15 ] .
{ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً } أي : جعل هؤلاء المشركون لله من خلقه نصيباً ، وذلك قولهم للملائكة : هم بنات الله . قال القاشاني : أي : اعترفوا بأنه خالق السماوات والأرض ومبدعهما وفاطرهما . وقد جسموه وجزأوه بإثبات الولد له ، الذي هو بعض من الوالد ، مماثل له في النوع ، لكونهم ظاهريين جسمانيين ، لا يتجاوزون عن رتبة الحس والخيال ، ولا يتجردون عن ملابس الجسمانيات ، فيدركون الحقائق المجردة ، والذوات المقدسة ، فضلاً عن ذات الله تعالى . فكل ما تصوروا وتخيلوا ، كان شيئاً جسمانياً . ولهذا كذبوا الأنبياء في إثبات الآخرة ، والبعث ، والنشور ، وكل ما يتعلق بالمعاد ؛ إذ لا يتعدى إدراكهم الحياة الدنيا ، وعقولهم المحجوبة عن نور الهداية ، أمور المعاش . فلا مناسبة أصلاً بين ذواتهم وذوات الأنبياء ، إلا في ظاهر البشرية . فلا حاجة إلى ما وراءها . انتهى : { إِنَّ الْإِنْسَاْن لَكَفُورٌ مُّبِينٌ } أي : لجحودٌ نعم ربه ، التي أنعمها عليه ، يبين كفرانه لمن تدبر حاله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ } [ 16 ] .
{ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ } أي : بل اتخذ . والهمزة للإنكار تجهيلاً لهم ، وتعجيباً من شأنهم ، حيث لم يرضوا بأن جعلوا لله من عباده جزءاً ، حتى جعلوا ذلك الجزء شر الجزأين وهو الإناث دون الذكور . على أنهم أنفر خلق الله عن الإناث ، وأمقتهم لهن ، ولقد بلغ بهم المقت إلى أن وأدوهن ، كأنه قيل : هبوا أن إضافة اتخاذ الولد إليه جائزة ، فرضاً وتمثيلاً ، أما تستحيون من الشطط في القسمة ، ومن ادعائكم أنه آثركم على نفسه بخير الجزأين وأعلاهما ، ترك له شرهما وأدناهما ؟ قاله الزمخشري .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } [ 17 ] .
{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً } أي : من البنات : { ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً } أي : من الكآبة ، والغم ، والحزن : { وَهُوَ كَظِيمٌ } أي : مملوء قلبه من الكرب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } [ 18 ] .
{ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ } أي : تربى في الزينة ، يعني النبات : { وَهُوَ فِي الْخِصَامِ } أي : في المجادلة : { غَيْرُ مُبِينٍ } أي : لمن خاصمه ببرهان ، وحجة ، لعجزه وضعفه . والمعنى : أو من كان كذلك جعلتموه جزءاً لله من خلقه ، وزعمتم أنه نصيب منهم ؟ .
تنبيه :
قال الكيا الهراسي : في دليل على إباحة الحلي للنساء . وسئل أبو العالية من الذهب للنساء ، فلم ير به بأساً ، وتلا هذه الآية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } [ 19 ] .
{ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً } أي : جعلوا ملائكة الله الذين هم عنده ، يسبحونه ، ويقدسونه ، إناثاً . فقالوا : هم بنات الله . جهلاً منهم بحق الله سبحانه ، وجراءةً منهم على قيل الكذب .
قال القاشاني : لما سمعوا من أسلافهم قول الأوائل من الحكماء في إثبات النفوس الملكية وتأنيثهم إياها ، إما باعتبار اللفظ وإما باعتبار تأثرها وانفعالها عن الأرواح المقدسة العقلية ، مع وصفهم إياها بالقرب من الحضرة الإلهية - توهموا أنوثتها في الحقيقة ، التي هي بإزاء الذكورة في الحيوان مع اختصامها بالله . فجعلوها بنات . وقلما يعتقدها العامي إلا صوراً إنسية لطيفة في غاية الحسن . انتهى .
{ أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ } أي : أحضروا خلق الله إياهم فوصفوهم بذلك لعلمهم بهم وبرؤيتهم إياهم ؟ وهو تجهيل لهم ، وتهكم بهم : { سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ } أي : على الملائكة بما هم مبرءون عنه : { وَيُسْأَلُونَ } أي : عنها يوم القيامة ، بأن يأتوا ببرهان على حقيقتها ، ولن يجدوا إلى ذلك سبيلاً ، وفيه من الوعيد ما فيه ؛ لأن كتابتها ، والسؤال عنها ، يقتضي العقاب والمجازاة عليها ، وهو المراد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ } [ 20 ، 21 ] .
هذا بيان لضلال لهم آخر، في جدلهم و خصامهم و تعنتهم . و قد استدل المعتزلة بظاهر الآية في أنه تعالى لا يشاء الشرور و المعاصي . و أهل السنة تأوّلوا الآية بما يلاقي العقد الصحيح . وهو عموم مشيئته تعالى لكل شيء ، الناطق به غير ما آية . و لما كانت هذه الآية و أخواتها من معارك الأنظار قديماً و حديثاً ، آثرت أن أنقل هنا ما لمحققي المفسرين ، جرياً على قاعدتنا في التقاط نفائس ما للمتقدم ، وتحلية مصنفاتنا بها ، فنقول : قال القاشاني : لما سمعوا من الأنبياء تعليق الأشياء بمشيئة الله تعالى ،افترضوه و جعلوه ذريعة في الإنكار . و قالوا ذلك لا عن علم و إيقان ، بل على سبيل العناد و الإفحام . و لهذا ردهم الله تعالى بقوله ( ما لهم بذلك من علم ) إذ لو علموا ذلك لكانوا موحدين ، لا ينسبون التأثير إلا إلى الله . فلا يسعهم إلا عبادته دون غيره . إذ لا يرون حينئذٍ لغيره نفعاً ولا ضراً ( إن هم إلا يخرصون ) لتكذيبهم أنفسهم في هذا القول بالفعل ، حين عظموهم و خافوهم و خافوهم و خوّفوا أنبياءهم من بطشهم ، كما قال قوم هود ( إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) و لما خوفوا إبراهيم عليه السلام كيدهم ، أجاب بقوله ( وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ) إلى قوله ( وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ ) انتهى .
و في البيضاوي و حواشيه : إن هذا القول استدلال منهم على امتناع النهي عن عبادة غيره تعالى أو على حسنها . يعنون أن عبادتهم الملائكة بمشيئته تعالى . فيكون مأموراً بها أو حسنة . و يمتنع كونها منهياً عنها أو قبيحة . و هذا الاستدلال باطل . لأن المشيئة لا تستلزم الأمر أو الحسن ، لأنها ترجيح بعض الممكنات على بعض / حسناً كان أو قبيحاً . و لذلك جهلهم في استدلالهم هذا . و الحاصل أن الإنكار متوجه إلى جعلهم ذلك دليلاً على امتناع النهي عن عبادتهم ، أو على حسنها : لا إلى هذا القول ، فإنه كلمة حق أريد به باطل . انتهى .
و قال الناصر في ( الانتصاف ) : نحن معاشر أهل السنة نقول : إن كل شيء بمشيئته تعالى ، حتى الضلالة و الهدى ، اتباعاً لدليل العقل ، و تصديقاً لنص النقل . في أمثال قوله تعالى ( يُضِلُّ مَن يَشآءُ و يَهْدي مَن يَشَآءُ ) و آية الزخرف هذه لا تزيد هذا المعتقد الصحيح إلا تمهيداً ، ولا تفيده إلا تصويباً و تسديداً . فنقول : إذا قال الكافر ( لو شاء الله ما كفرتُ ) فهذه كلمة حق أراد بها باطلاً ، أما كونها كلمة حق ، فلما مهّدناه . وأما كونها أراد بها باطلاً ، فمراد الكافر بذلك أن يكون له الحجة على الله ، توهماً أنه يلزم من مشيئة الله تعالى لضلالة من ضلّ ، أن لا يعاقبه على ذلك. لأنه فعل مقتضى مشيئته.
ثمّ قال : فإذا وضح ما قلناه ، فإنما رد الله عليهم مقالتهم هذه. لأنهم توهموا أنها حجة على الله . فدحض الله حجتهم ، وأكذب أمنيتهم ، و بين أن مقالتهم صادرة عن ظن كاذب و تخرص محض ، فقال ( مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْم إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُون ) و ( إِنْ هُمْ إِلَّّا يَظُنُّون ) و قد أفصحت أخت هذه الآية عن هذا التقدير . و ذلك قوله تعالى في سورة الأنعام ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ) فبين تعالى أن الحامل لهؤلاء على التكذيب بالرسل ، و الإشراك بالله ، اغترارهم بأن لهم الحجة على الله بقولهم ( لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا ) فشبه تعالى حالهم في الاعتماد على هذا الخيال ، بحال أوائلهم. ثم بين أنه معتقد نشأ عن ظن خلّب و خيال مكذب، فقال ( إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُون ) ثم لما أبطل أن يكون لهم في مقالتهم حجة على الله, أثبت تعالى الحجة له عليهم بقولهم ( فلله الحجة البالغة ) ثم أوضح أن الرد عليهم ليس إلاّ في احتجاجهم على الله بذلك . لا لأن المقالة في نفسها كذب. فقال ( فلو شاء لهداكم أجمعين ) وهو معنى قولهم ( لو شاء الله ما أشركنا ) من حيث أن (لو) مقتضاها امتناع الهداية لامتناع المشيئة. فدلت الآية الأخيرة على أن الله تعالى لم يشأ هدايتهم، بل شاء ضلالتهم. ولو شاء هدايتهم لما ضلوا, فهذا هو الدين القويم، والصراط المستقيم، و النور اللائح و المنهج الواضح. والذي يدحض به حجة هؤلاء, مع اعتقاد أن الله تعالى شاء وقوع الضلالة منهم, هو أنه تعالى جعل للعبد تأتياً و تيسراً للهداية و غيرها، من الأفعال الكسبية, حتى صارت الأفعال الصادرة منه مناط التكليف لأنها اختيارية يفرق بالضرورة بينها وبين العوارض القسرية فهذه الآية أقامت الحجة ووضحت لمن اصطفاه الله للمعتقدات الصحيحة المحجة ولما كانت تفرقة دقيقة لم تنتظم في سلك الأفهام الكثيفة فلا جرم أن أفهامهم تبددت وأفكارهم تبدلت فغلت طائفة القدرية واعتقدت أن العبد فعال لما يريد على خلاف مشيئة ربه وجارت الجبرية فاعتقدت أن لا قدرة للعبد البتة ولا اختيار وأن جميع الأفعال صادرة منه على سبيل الاضطراب أما أهل الحق فمنحهم الله من هدايته قسطا وأرشدهم إلى الطريق الوسطى فانتهجوا سبل السلام وساروا ورائد التوفيق لهم إمام مستضيئين بأنوار العقول المرشدة إلى أن جميع الكائنات بقدرة الله تعالى ومشيئته ولم يغب عن أفهامهم أن يكون بعض الأفعال للعبد مقدورة لما وجدوه من التفرقة بين الاختيارية والقسرية بالضرورة لكنها قدرة تقارن بلا تأثير وتميز بين الضروري والاختياري في التصوير فهذا هو التحقيق والله ولي التوفيق. انتهى.
وقد سبق في آية الأنعام نقول عن الأئمة في الآية مسهبة: فراجعها إن شئت . وقوله تعالى ( أم ءاتيناهم كتابا من قبله ) أي من قبل هذا القرآن ( فهم به مستمسكون ) أي يعملون به ويدينون بما فيه ويحتجون به عليك نظير قوله تعالى في الآية الأخرى ( قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ) يعني بالعلم كتابا موحى في ذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } [ 22 ] .
{ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } أي : لا حجة لهم إلا تقليد آبائهم ، الجهلة مثلهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ 23 ] .
{ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } أي : كما فعل هؤلاء المشركون من دفاع الحجة بالتقليد ، فعل من قبلهم من أهل الكفر بالله .
قال القاضي : وفيه تسلية له صلى الله عليه وسلم ، ودلالة على أن التقليد في نحو ذلك ضلال قديم ، وأن مقلديهم أيضاً لم يكن لهم سند منظور فيه . وتخصيص المترفين ، إشعار بأن النعم ، وحب البطالة ، صرفهم عن النظر إلى التقليد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ } [ 24 ] .
{ قَالَ } وقرئ قل : { أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ } أي : جاحدون منكرون ، وإن كان أهدى ، إقناطاً للنذير من أن ينظروا ، أو يتفكروا فيه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [ 25 ] .
{ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ } أي : بعذاب الاستئصال : { فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } أي : آخر أمرهم ، مما أصبح مثلاً وعبرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ } [ 26 ] .
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ } قال القاضي : أي : اذكر وقت قوله هذا ، ليروا كيف تبرأ عن التقليد وتمسك بالدليل ، أو ليقلدوه إن لم يكن لهم بد من التقليد ، فإنه أشرف آبائهم : { لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ } أي : بريء من عبادتكم أو معبودكم . و : { بَرَاء } بفتح الباء الموحدة كما هو قراءة العامة ، مصدر كالطلاق والعتاق ، أريد به معنى الوصف مبالغة . فلذا أطلق على الواحد وغيره . وقرئ بضم الباء وهو اسم مفرد صفة مبالغة ، كطوال وكرام ، بضم الطاء والكاف . وقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } [ 27 ] .
{ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } استثناء منقطع أو متصل ، على أن ما يعم أولي الأمر وغيرهم ، وأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام ، أو إلا بمعنى غير صفة لـ : ما ؛ أي : إنني بريء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني ؛ أي : خلقني : { فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } أي : للدين الحق ، واتباع سبيل الرشد . والسين إما للتأكيد ، ويؤيده آية الشعراء : { يَهْدِينِ } بدونها . والقصة واحدة ، والمضارع في الموضوعين للاستمرار ، وإما للتسويف والاستقبال ، والمراد هداية زائدة على ما كان له أولاً ، فيتغاير ما في الآيتين من الحكاية أو المحكي ، بناء على تكرر قصته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ 28 ] .
{ وَجَعَلَهَا } أي : شهادة التوحيد : { كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } أي : موصي بها ، موروثة متداولة محفوظة . كقوله تعالى : { وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ } [ البقرة : 132 ] ، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي : لكي يرجعوا إلى عبادته ، ويلجأوا إلى توحيده في سائر شؤونهم ، أو لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحّد منهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ } [ 29 ] .
{ بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء } يعني أهل مكة : { وَآبَاءهُمْ } أي : من قبلهم بالحياة ، فلم أعاجلهم على كفرهم : { حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ } أي : دعوة التوحيد ، أو القرآن : { وَرَسُولٌ مُّبِينٌ } أي : ظاهر الرسالة بالآيات ، والحجج التي يحتج بها عليهم في دعوى رسالته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ } [ 30 ] .
{ وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ } أي : جاحدون ، فازدادوا في ضلالهم ، لضمهم إلى شركهم ، معاندة الحق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ 31 ] .
{ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ } أي : من إحداهما ، مكة والطائف ، فالتعريف للعهد : { عَظِيمٍ } أي : بالجاه والمال ؛ فإن الرسالة منصب عظيم لا يليق إلا بعظيم عندهم ، قال القاضي : ولم يعلموا أنها رتبة روحانية ، تستدعي عظيم النفس ، بالتحلّي بالفضائل ، والكمالات القدسية ، لا التزخرف بالزخارف الدنيوية ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ 32 ] .
{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } إنكار ، فيه تجهيل وتعجيب من تحكمهم فيما لا يتولّاه إلا هو تعالى . والمراد بالرحمة النبوة : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : فجعلنا بعضهم غنياً وبعضهم فقيراً : { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ } أي : بالغنى : { فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم } يعني الغني : { بَعْضاً } يعني الفقير : { سُخْرِيّاً } أي : مسخراً في العمل ، وما به قوام المعايش ، والوصول إلى النافع ، لا لكمالٍ في الموسّع عليه ، ولا لنقص في المقتّر عليه بل لحاجة التضامّ والتآلف ، التي بها ينتظم شملهم . وأما النفحات الربانية ، والعلوم اللدنية ، فليست مما يستدعي سعة ويساراً ؛ لأنها اختصاص إلهي ، وفيض رحماني ، يمنّ به على أنفس مستعدّيه ، وأرواح قابليه .
والسّخريّ : بالضم منسوب إلى السخرة بوزن غرفة ، وهي الاستخدام والقهر على العمل { وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } يعني أن النبوّة خير مما يجمعون من الحطام الفاني ؛ أي : والعظيم من أعاطيها وحازها ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لا من حاز الكثير من الشهوات المحبوبة .
ثم أشار تعالى إلى حقارة الدنيا عنده ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } [ 33 - 35 ] .
{ وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي : متفقة على الكفر بالله تعالى ؛ أي : لولا كراهة ذلك : { لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ } أي : لتكثير النعم عليه ، مع كفره بالمنعم فيزداد عذاباً : { لِبُيُوتِهِمْ } بدل من : { لِمَن } { سُقُفاً } بفتح السين وسكون القاف ، وبضمهما [ في المطبوع : بعضمهما ] ، جمعاً : { مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ } أي : مصاعد من فضة : { عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } أي : يرتقون : { وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً } أي : من فضة : { وَسُرُراً } أي : من فضة : { عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ وَزُخْرُفاً } أي : ولجعلنا لهم مع ذلك زخرفاً ، أي : زينة من ذهب وجواهر فوق الفضة ، ثم أشار إلى أن لا دلالة في ذلك على فضيلتهم بقوله : { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : وما كل هذه الأشياء التي ذكرت ، من السقف من الفضة ، والمعارج ، والأبواب ، والسرر من الفضة ، الزخرف ، إلا متاع يستمتع به أهل الدنيا في الدنيا : { وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } أي : وزين الدار الآخرة ، وبهاؤها عند ربك للمتقين ، أي : الذين اتقوا الله فخافوا عقابه ، فجدّوا في طاعته وحذروا معاصيه خاصة دون غيرهم . قال المهايمي : يعني لا خصوصية في ذلك المتاع ، بحيث يدل عدمه على عدم منصب النبوة ، وإنما الذي يدل عدمه على عدم النبوة ، التقوى . فالنبوة إنما تكون لمن كمل تقواه ، سواء كانت عنده أم لا ، وإنما كانت الزينة الدنيوية أحق بالكفار ؛ لأنها تثير ظلمة الأهوية المانعة من رؤية الحق ، بحيث يصير صاحبها أعشى . انتهى .
تنبيه :
ما قدمناه من أن معنى : { وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } على تقدير : لولا كراهة ذلك . وإن معنى كونهم أمة واحدة اجتماعهم على أمر واحد وهو الكفر ، أي : أن كراهة الاجتماع على الكفر هي المانعة من تمتيع الكافر بها على الوجه المذكور - هو ما ذكره المفسرون . فورد عليه أنه حين لم يوسع على الكافرين للفتنة التي كان يؤدي إليها التوسعة عليهم من إطباق الناس على الكفر لحبهم الدنيا وتهالكهم عليها ، فهلا وسع على المسلمين ليطبق الناس على الإسلام ؟ فأجيب بأن التوسعة عليهم مفسدة أيضاً ، لما تؤدي إليه من الدخول في الإسلام لأجل الدنيا . والدخول في الدين لأجل الدنيا من دين المنافقين فكانت الحكمة فيما دبر حيث جعل في الفريقين أغنياء وفقراء ، وغلب الفقر على الغنى ، هذا ما قاله الزمخشري .
وعندي أن لا حاجة لتقدير الكراهة ، وأن معنى الآية غير ما ذكروه ، وذلك أن المعنى : لولا أن يكونوا خلقوا ليكونوا أمة واحدة ، للترافد ، والتعاون ، والتضام ، وما به قوام حياتهم كالجسم الواحد ، لجعلنا للناس ما ذكر من الزين والحلي لدخوله تحت القدرة الكاملة ، إلا أن ذلك مبطل للحكمة ومخرب لنظام الوجود ، وإنما عبّر عن الناس بمن يكفر بالرحمن ، رعاية للأكثر وهم الكفار ؛ فإنهم الذين طبقوا ظهر الأرض ، وملأوا وجهها ، وحطّاً لقدر الدنيا وتصغيراً لشأنها ، بأن تؤتى لمن هو الأدنى منزلة ، والأخس قدراً .
و خلاصة المعنى : أن خلقهم أمة واحدة مدنيين بالطبع ، مانع من بسط الدنيا عليهم جميعهم . وهذا هو معنى لولا المطرد ، أن ما بعدها أبداً مانع من جوابها ؛ ولذلك يقولون : حرف امتناع لوجود .
فليس المعنى على ما ذكروه أبدا كما يظهر واضحاً لمن أمعن النظر . وبالجملة ، فالآية هذه تتمة لما قبلها ، في جواب أولئك الظانين ، أن العظمة الدنيوية تستتبع النبوة . فبين تعالى حكمته في تفاوت الخلق في الآية الأولى ، وهي التسخير . وفي الثانية حقارة الدنيا عنده ، وأنه لولا التسخير لآتاها أحط الخلق وأبعدهم منه ، مبالغة في الإعلام بضعتها ، وهذا مصداق ما ورد من أن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة ، وأن ما عنده خير وأبقى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ 36 ] .
{ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ } أي : يعرض عنه ، فلم يخف سطوته ، ولم يخش عقابه : { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } أي : نجعل له شيطاناً يغويه ، ويضله عن السبيل القويم دائماً ، لمقارنته له . قال القاشاني : قرىء : يعشَُ ، بضم الشين ، وفتحها ، والفرق أن عشا يستعمل إذا نظر نظر العَشى لعارض أو متعمداً ، من غير آفة في بصره . وعَشِي إذا إيف بصره . فعلى الأول معناه : ومن كان له استعداد صافٍ وفطرةٍ سليمة لإدراك ذكر الرحمن ، أي : القرآن النازل من عنده وفهم معناه . وعلم كونه حقاً ، فتعامى عنه لغرض دنيوي وبغي وحسد ، أولم يفهمه ولم يعلم حقيقته ، لاحتجابه بالغواشي الطبيعية ، واشتغاله باللذات ، الحسية عنه ، أو لاغترازه بدينه وما هو عليه من اعتقاده ، ومذهبه الباطل .
{ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً } جنياً فيغويه بالتسويل والتزيين لما انهمك فيه من اللذات ، وحرص عليه من الزخارف ، أو بالشبه والأباطيل المغوية لما اعتكف عليه بهواه من دينه ، أو إنسياً يغويه ، ويشاركه في أمره ، ويجانسه في طريقه ، ويبعده عن الحق . وعلى الثاني معناه . ومن إيف استعداده في الأصل ، وشقي في الأزل بمعنى القلب عن إدراك حقائق الذكر ، وقصّر عن فهم معناه : { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً } من نفسه أو جنسه ، يقارنه في ضلالته وغوايته . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } [ 37 ] .
{ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ } قال ابن جرير : أي : وإن الشياطين ليصدون هؤلاء الذين يعشون عن ذكر الله ، عن سبيل الحق ، فيزينون لهم الضلالة ، ويكرهون لهم الإيمان بالله ، والعمل بطاعته { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } أي : يظن هؤلاء المشركون بالله ، بتزيين الشياطين لهم ما هم عليه ، أنهم على الصواب والهدى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ } [ 38 ] .
{ حَتَّى إِذَا جَاءنَا } أي : العاشي : { قَالَ } أي : لشيطانه : { يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ } أي بعد المشرق من المغرب . فغلب المشرق على المغرب ، ثم ثنى . وقيل المراد مشرقا [ في المطبوع : مشرقاً ] الصيف والشتاء . والتقدير من المغربين ، فاختصر { فَبِئْسَ الْقَرِينُ } قال القاشاني : أي : حتى إذا حضر عقابنا اللازم لاعتقاده وأعماله ، والعذاب المستحق لمذهبه ودينه ، تمنى غاية البعد بينه ، وبين شيطانه الذي أضله عن الحق ، وزين له ما وقع بسببه في العذاب ، واستوحش من قرينه واستذامه ، لعدم الوصلة الطبيعية ، أو انقطاع الأسباب بينهما بفساد الآلات البدنية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } [ 39 ] .
{ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } قال القاشاني : أي : لن ينفعكم التمني وقت حلول العذاب واستحقاق العقاب ، إذا ثبت وصح ظلمكم في الدنيا ، وتبين عاقبته ، وكشف عن حاله ؛ لأنكم مشتركون في العذاب لاشتراككم في سببه ، أو ولن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب من شدته وإيلامه ؛ أي : كما ينفع الواقعين في أمر صعب ، معاونتهم في تحمل أعبائه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } [ 40 ] .
{ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } إنكار تعجيب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم . وأراد أنه لا يقدر على ذلك منهم إلا هو وحده تعالى . وقد تكرر في التنزيل التعبير عنهم بالصم العمي الضلال ؛ لأنه لا أجمع من ذلك لشرح حالهم ، ولا أبلغ منه ؛ إذ سلبوا استماع حجج الله وهداه ، كالأصم ، وإبصار آيات الله والاعتبار بها ، كالأعمى . وقصدَ السبيل الأمم ، كالضال الحائر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ } [ 41 ] .
{ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ } أي : نقبضك قبل أن نظهرك عليهم : { فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ } أي : بالعذاب الأخروي .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ } [ 42 ] .
{ أوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ } وهذا كقوله تعالى : { فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [ غافر : 77 ] ، وفي تعبيره بالوعد ، وهو لا يخلف الميعاد ، إشارة إلى أنه هو الواقع . وهكذا كان ؛ إذ لم يفلت أحد من صناديدهم ، إلا من تحصّن بالإيمان .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ 43 ] .
{ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } يعني دين الله الذي أمر به وهو الإسلام ؛ فإنه كامل الاستقامة من كل وجه . قال الشهاب : هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم وأمر لأمته أو له ، بالدوام على التمسك . والفاء في جواب شرط مقدّر . أي : إذا كان أحد هذين واقعاً لا محالة ، فاستمسك به .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } [ 44 ] .
{ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } أي : وإن الذي أوحي إليك لشرف لك ولقزمك من قريش ؛ لما خصهم به من نزوله بلسانهم . أو المراد بقومه ، أتباعه ؛ أي : تنويه بقدرك وبقدر أمتك ، لما أعطاه لهم بسببه من العلوم ، والمزايا ، والخصائص ، والشرائع الملائمة لسائر الأحوال ، والأزمان ، وجوز أن يراد بالذكر الموعظة : { وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } أي : عما عملتم فيه ، من ائتماركم بأوامره ، وانتهائكم عن نواهيه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ 45 ] .
{ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } أي : هل حكمنا بعبادة الأوثان ؟ وهل جاءت في ملة من مللهم ؟ قال القاضي : والمراد به الاستشهاد بإجماع الأنبياء على التوحيد ، والدلالة على أنه ليس ببدع ابتدعه ، فيكذب ويعادى له . انتهى .
والذين أمر بمسألتهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، هم مؤمنو أهل الكتابين : التوراة ، والإنجيل . فالكلام بتقدير مضاف ؛ أي : أممهم المؤمنين ، أو يجعل سؤالهم بمنزلة سؤال أنبيائهم ؛ لأنهم إنما يخبرونه عن كتب الرسل ، فإذا سألهم فكأنه سأل الأنبياء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ 46 ] .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا } أي : المصدقة له : { إِلَى فِرْعَوْنَ } لينهاه عن الاستعباد : { وَمَلَئِهِ } أي : لينهاهم عن التعبّد له : { فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : فأبان أنه لا يستحق العبادة غيره تعالى ، وأن ليس لأحد سواه استعباد ، لأنها حق الربوبية المطلقة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ } [ 47 ] .
{ فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ } فلما أتاهم بالحجج على التوحيد والبراءة من الشرك ؛ إذا فرعون وقومه يضحكون ؛ أي : كما أن قومك ، مما جئتهم به من الآيات والعبر ، يسخرون . وهذا تسلية من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ، عما كان يلقى من مشركي قومه ، وإعلام منه له أن قومه من أهل الشرك ، لن يعدوا أن يكونوا كسائر الأمم الذين كانوا على منهاجهم في الكفر بالله وتكذيب رسله ، وندب منه نبيّه صلى الله عليه وسلم إلى الاستنان بهم بالصبر عليهم ، بسنن أولي العزم من الرسل . وإخبار منه له أن عقبى مردتهم إلى البوار والهلاك . كسنته في المتمردين عليهم قبله ، وإظفاره بهم ، وإعلائه أمره . كالذي فعل بموسى عليه السلام ، وقومه الذين آمنوا به . من إظهارهم على فرعون وملئه . أفاده ابن جرير .
ثم أشار إلى أن موجب الهزء لم يكن إلا لعناد ، لا لقصورها ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } [ 48 - 50 ] .
{ وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } أي : السابقة عليها : { وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ } أي : الدنيوي كالسنين ، مما يلجئ إلى الرجوع ، ولا أقل من رجائه : { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } أي : من أنه لا يعذّب من آمن بك ليكشف عنا العذاب : { إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ } أي : بما تزعم أنه الهداية : { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } أي : العهد الذي عاهدوا عليه ، ويتمادون في غيهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهّبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } [ 51 - 53 ] .
{ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي } يعني أنهار النيل : { أَفَلَا تُبْصِرُونَ } أي : ما أنا فيه من النعيم والخير ، وما فيه موسى من الفقر : { أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ } أي : ضعيف لا شيء له من الملك ، والأموال : { وَلَا يَكَادُ يُبِينُ } أي : الكلام ، لمخالفة اللغة العبرانية اللغة القبطية : { فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهّبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } أي : يعينونه ويصدقونه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } [ 54 ، 55 ] .
{ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ } أي : فاستفزهم بهذه المغالطات ، وحملهم على أن يخفّوا له ويصدقوه : { فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا آسَفُونَا } أي : أغضبونا بطاعة عدونا وقبول مغالطاته بلا دليل ، وتكذيب موسى وآياته ، وندائه بالساحر ، ونكث العهود : { انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } وذلك لاستغراقهم في بحر الضلال ، الأجيال الطوال ، وعدم نفع العظة معهم بحال من الأحوال .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ * وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } [ 56 ، 58 ] .
{ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً } أي : حجة للهالكين بعدهم : { وَمَثَلاً } أي : عبرة : { لِلْآخِرِينَ } أي : الناجين : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً } أي : في كونه كآدم ، كما أشارت له آية : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ آل عِمْرَان : 59 ] ، والمعنى : لما بين وصفه الحق من أنه عبد مخلوق منعم عليه بالنبوة ، عبادته كفر ، ودعاؤه شرك ، إذ لم يأذن الله بعبادة غيره : { إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ } أي : من مثله المضروب ووصفه المبين : { يَصِدُّونَ } أي : يعرضون ، ولا يعون : { وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } يعنون بآلهتهم الملائكة الذين عبدوهم ، زعماً منهم أنهم بنات الله تعالى ، كما ذكر عنهم ذلك في أول السورة . أي : أنهم خير من عيسى وأفضل ، لأنهم من الملأ الأعلى والنوع الأسمى ، فإذا جازت عبادة المفضول وهو عيسى ، فبالأولى عبادة الأفضل وهم الملائكة . كأنهم يقرون على شركهم أصولاً صحيحة ، ويبنون على تمسكهم أقيسة صريحة ، وغفلوا ، لجهلهم ، عن بطلان المقيس والمقيس عليه ، وأن البرهان الصادع قام على بطلان عبادة غيره تعالى ، وعلى استحالة التوالد في ذاته العلية .
وإذا اتضح الهدى فما وراءه إلا الضلال ، والمشاغبة بالجدال . كما قال تعالى : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً } أي : ما ضربوا لك هذا القول إلا لأجل الجدل والخصومة ، لا عن اعتقاد ، لظهور بطلانه : { بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } أي : شديد والخصومة بالباطل تمويهاً وتلبيساً . وفي الحديث < ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل > وما ذكرناه في تفسير هذه الآية ، هو الجلي الواضح ، لدلالة السياق والسباق فقابل بينه وبين ما حكاه الغير وأنصف .
ثم جلى شأن عيسى عليه السلام ، بما يرفع كل لبس ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ } [ 59 ] .
{ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } أي : بالنبوة والرسالة : { وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ } أي : آية لهم وحجة عليهم ، بما ظهر على يديه ، مما أيّد نبوته ، ورسالته ، وصدق دعواه .
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ } [ 60 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [ 60 ] .
{ وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم } أي : بدلكم : { مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ } أي : يكونون مكانكم . إيعاد لهم بأنهم في قبضة المشيئة في إهلاكهم ، وإبدال من هو خير منهم . كما في قوله تعالى : { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [ محمد : 38 ] ، وقيل معنى : { لَجَعَلْنَا مِنكُم } لولدنا منكم ملائكة ، كما ولدنا عيسى من غير أب ، لتعرفوا تميزنا بالقدرة . واللفظ الكريم يحتمله ، إلا أن الأظهر هو الأول ، لما جرت به عادة التنزيل ، من خواتم أمثال ما تقدم ، بنظائر هذا الوعيد ، والله أعلم .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ 61 ، 62 ]
{ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ } الضمير إما للقرآن كما ذهب إليه قوم ، أي : وإن القرآن الكريم يعلم بالساعة ويخبر عنها وهن أهوالها ، وفي جعله عين العلم ، مبالغة . والعلم بمعنى العلامة . وقيل الضمير لعيسى عليه السلام . أي : إن ظهوره من أشراط الساعة . ونزوله إلى الأرض في آخر الزمان دليل على فناء الدنيا . وقال يعضهم : معناه أن عيسى سبب للعلم بها . فإنه هو ومعجزاته من أعظم الدلائل على إمكان البعث . فالآية مجاز مرسل علاقته المسببية ؛ إذ أطلق المسبب وهو العلم ، وأراد السبب وهو عيسى ومعجزاته . كقولك : أمطرت السماء نباتاً ؛ أي : مطراً يتسبب عنه النبات .
وقرئ : { وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِّلسَّاعَةِ } بفتحتين . أي : أنه كالجبل الذي يهتدي به إلى معرفة الطريق ونحوه ؛ فبعيسى عليه السلام يهتدي إلى طريقة إقامة الدليل على إمكان الساعة وكيفية حصولها . انتهى . وهو جيد : { فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ } أي : اتبعوا هداي ، أو شرعي ، أو رسولي ، أو هو أمر للرسول أن يقوله : { هَذَا } أي : القرآن ، أو ما أدعوكم إليه : { صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ } أي : عن الاتباع : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [ 63 ، 64 ] .
{ وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } أي من أحكام التوراة وغيرها . كاختلاف اليهود في القيامة ، لعدم صراحتها في كتبهم . وقد جاء في نحوها آية : { وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } [ آل عِمْرَان : 50 ] ، وقد وضع عن اليهود شيئاً من إصْر التوراة ، وأغلال الناموس ، كما فعل في يوم السبت ، خففت شدّة حكمه .
قال يعض المحققين : وإنما لم يقل : ولأبين لكم كل ما تختلفون فيه ؛ لأنه لم يفعل ذلك . بل ترك بيان كثير من الأشياء ، كالفساد الذي دخل في أغلب كتبهم للفارقليط - محمد صلى الله عليه وسلم - الذي يأتي بعده ، لعدم استعداد الناس في زمنه لقبول كل شيء منه . كما قال هو نفسه في : إنجيل يوحنا ، في الإصحاح السادس عشر ، وخصوصاً إذا تعرض للطعن في كتبهم ، وهي رأس مالهم الوحيد وتراث أجدادهم ، ولو فعل ذلك لشك فيه الكثيرون منهم وكذبوه ، ولما اتبعه إلا الأقلون أو النادرون ، فتضيع الفائدة من بعثته التي بيناها في المتن ، وهي التي بعث من أجلها .
وأما قول الله تعالى عن لسانه : { وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ } [ آل عِمْرَان : 50 ] ، فالمراد بمثل هذا التعبير ، أنه بمجيئه عليه السلام تحققت نبوات التوراة عنه ، وبه صحت وصدقت . وكلمة التوراة ، تطلق على كتاب العهد القديم ؛ فالمعنى أن مجيء عيسى كان وفق ما أنبأ به النبيون عنه من قبل . ولولاه لما صدقت تلك النبوات ؛ فإنها لا تنطبق إلا عليه . وليس المراد أن عيسى يقرّ كل ما في التوراة ، كما يتوهم النصارى الآن من مثل هذه الآية . وإلا لما قال بعدها مباشرة : { وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } [ آل عِمْرَان : 50 ] ، فكيف يقرّها وهو قد جاء ناسخاً لبعض ما فيها ؟ فتدبر ذلك ولا تكن كهؤلاء الذين يهرفون بما لا يعرفون ، ويفسرون ما لا يفهمون . انتهى كلامه . وهو وجيه جداً .
{ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ } قال ابن جرير : أي : إن الله الذي يستوجب علينا إفراده بالألوهية وإخلاص الطاعة له ، ربي وربكم جميعاً . فاعبدوه وحده لا تشركوا معه في عبادته شيئاً . فإنه لا يصح ولا ينبغي أن يعبد شيء سواه
{ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } أي : هذا الذي أمرتكم به ، من اتقاء الله وطاعتي ، وإفراد الله بالألوهية ، هو الطريق القويم . وإذا كان هذا قول عيسى عليه السلام ، فلا عبرة بقول الملحدين فيه والمفترين عليه ما لم يقله . ثم أشار إلى وعيد من خالف الحق بعد وضوحه ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ } [ 65 ] .
{ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ } أي : الفرق المتحزبة اختلافاً نشأ : { مِن بَيْنِهِمْ } أي : لا من قوله تعالى ، ولا من قول عيسى . بل ظلماً وعناداً : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ } أي : مؤلم من شدة الأهوال ، وكثرة الفضائح ، وظلمهم بترك النظر في الدلائل العقلية والنقلية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُون َ *الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } [ 66 ، 67 ] .
{ هَلْ يَنظُرُونَ } أي : قريش : { إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ } أي : المتخالون على المعاصي والفساد ، والصد عن الحق يوم القيامة : { بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } أي : معاد ، يتبرأ كل من صاحبه : { إِلَّا الْمُتَّقِينَ } أي : المتصادقين في طاعة الله ومحبته . قال القاشاني : الخلة إما أن تكون خيرية ، أوْ لا . والخيرية إما أن تكون في الله أو لله ومحبته . وغير الخيرية إما أن يكون سببها اللذة النفسانية أو النفع العقلي .
والقسم الأول هو المحبة الروحانية الذاتية المستندة إلى تناسب الأرواح في الأزل ، التي قال فيها < فما تعارف منها ائتلف > فهم إذا برزوا في هذه النشأة ، وتوجهوا إلى الحق ، وتجددوا عن مواد الرجس ، فلما تلاقوا تعارفوا ، وإذا تعارفوا تحابوا ، لتجانسهم الأصلي ، وتوافقهم في الوجهة والطريقة ، وتشابههم في السيرة والغريزة ، وتجردهم عن الأغراض الفاسدة والأعراض الذاتية ، التي هي سبب العداوة . وانتفع كل منهم بالآخر في سلوكه وعرفانه . والتذ بلقائه ، وتصفى بصفائه ، وتعاونوا في أمور الدنيا والآخرة . فهي الخلة التامة الحقيقية التي لا تزول أبداً كمحبة الأنبياء ، والأصفياء ، والأولياء ، والشهداء .
والقسم الثاني هو المحبة القلبية المستندة إلى تناسب الأوصاف ، والأخلاق ، والسير الفاضلة ، ونشأته الاعتقادات ، والأعمال الصالحة . كمحبة الصلحاء والأبرار فيما بينهم ، ومحبة العرفاء والأولياء إياهم . ومحبة الأنبياء أممهم .
والقسم الثالث هو المحبة النفسانية المستندة إلى اللذات الحسية ، والأعراض الجزئية . كمحبة الأزواج لمجرد الشهوة ، ومحبة الفجار ، والفساق المتعاونين في اكتساب الشهوات ، واستلاب الأموال .
والقسم الرابع هو المحبة العقلية المستندة إلى تسهيل أسباب المعاش ، وتيسير المصالح الدنيوية ، كمحبة التجار والصناع ، ومحبة المحسَن إليه للمحسِن . فكل ما استند إلى غرض فانٍ ، وسبب زائل ، زال بزواله ، وانقلب عند فقدانه عداوة . لتوقع كل من المتحابين ما اعتاد من صاحبه ، من اللذة المعهودة ، والنفع المألوف ، وامتناعه لزوال سببه ، ولما كان الغالب على أهل العلم أحد القسمين الأخيرين ، أطلق الكلام ، وقال : { الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } لانقطاع أسباب الوصلة بينهم ، وانتفاء الآلات البدنية عنهم ، وامتناع حصول اللذة الحسية ، والنفع الجسماني ، وانقلابهما حسرات وآلاماً وضرراً وخسراناً . قد زالت اللذات والشهوات ، وبقيت العقوبات والتبعات ، فكل يمقت صاحبه ويبغضه ؛ لأنه يرى ما به من العذاب ، منه وبسببه .
ثم استثنى المتقين المتناولين للقسمين الباقيين لقلتهم ، كما لقال : { وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } [ ص : 24 ] ، { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [ سبأ : 13 ] ، ولعمري ، إن القسم الأول أعز من الكبريت الأحمر . وهم الكاملون في التقوى ، البالغون إلى نهايتها ، الفائزون بجميع مراتبها . ويليهم القسم الثاني ، وكلا القسمين ، لاشتراكهما في طلب مرضاة الله ، وطلب ثوابه ، واجتناب سخطه ، وعقابه ، نسبهم سبحانه إلى نفسه بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } [ 68 ] .
{ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } أي : لأمنهم من العذاب : { وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } أي : على فوات لذات الدنيا ؛ لكونهم على ألذّ منها وأبهج ، وأحسن حالاً وأجمل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ } [ 69 ] .
{ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا } أي : صدقوا بكتاب الله ورسله ، وعملوا بما جاءتهم به رسلهم : { وَكَانُوا مُسْلِمِينَ } أي : أهل خضوع لله بقلوبهم ، وقبول منهم لما جاءتهم به رسولهم عن ربهم ، على دين إبراهيم عليه السلام ، حنفاء ، لا يهود ، ولا نصارى ، ولا أهل أوثان .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ } [ 70 ] .
{ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ } أي : تسرون سروراً يظهر حباره ، أي : أثره على وجوهكم ، كقوله تعالى : { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ } [ المطففين : 24 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ÷وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ 71 ، 72 ] .
{ يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ } الصحاف جمع صفحة ، وهي آنية الأكل . والأكواب جمع كوب ، وهو ما يشرب منه كالكوز ، إلا أن الكوب ما لا عروة له . قال الشهاب : العروة ما يمسك منه ويسمى أذاناً . ولذا قال من ألغز فيه :
~وَذِيْ أُذُنٍ بِلَاْ سَمْعٍ لَهُ قَلْبٌ بِلَاْ قَلْبِ
~إِذَا اسْتَوْلَىْ عَلَىْ صَبٍّ فَقُلْ مَاْ شِئْتَ فِي الصَّبِّ
ومن اللطائف هنا ما قيل : إنه لما كانت أواني المأكولات أكثر بالنسبة لأواني المشروب عادة ، جمع الأول جمع كثرة ، والثاني جمع قلة { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } أي : بمشاهدته : { وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : من الخيرات ، والأعمال الصالحات . وقد شبه ما استحقوه بأعمالهم الحسنة ، من الجنة ونعيمها الباقي لهم ، بما يخلفه المرء لورّاثه من الأملاك ، والأرزاق . ويلزمه تشبيه العمل نفسه بالمورث ، على صيغة اسم الفاعل ، فهو استعارة تبعية ، أو تمثيلية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ } [ 73 ] .
{ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ } أي : ما اشتهيتم ، ومن إما ابتدائية أو تبعيضية ، ورجح بدلالته على كثرة النعم ، وأنها غير مقطوعة ولا ممنوعة ، وأنها مزينة بالثمار أبداً ، موقرة بها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } [ 74 ، 75 ] .
{ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ } أي : الذين اجترموا الكفر ، والمعاصي في الدنيا : { فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ } أي : لا يخفف ولا ينقص : { وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } أي : مستسلمون يائسون .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ } [ 76 ] .
{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } أي : بهذا العذاب : { وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ } أي : بكفرهم الله ، وجحودهم توحيده .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } [ 77 ، 78 ] .
{ وَنَادَوْا } أي : بعد إدخالهم جهنم : { يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } أي : ليمتنا . أي : سله أن يفعل بنا ذلك . تمنوا تعطل الحواس وعدم الإحساس ، لشدة التألم بالعذاب الجسماني { قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ } أي : لابثون : { لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } أي : لا تقبلونه وتنفرون منه ، وعبّر بالأكثر ؛ لأن من الأتباع من يكفر تقليداً .
لطيفة :
قال القاشاني : سمي خازن النار مالكاً لاختصاصه بمن ملك الدنيا وآثرها . لقوله تعالى : { فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى } [ النازعات : 37 - 39 ] كما سمي خازن الجنة رضواناً لاختصاصه بمن رضي الله عنهم ، ورضوا عنه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } [ 79 ] .
{ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } أي : أم أبرم مشركو مكة أمراً فأحكموه ، يكيدون به الحق الذي جاءهم ، فإنا محكمون لهم ما يخزيهم ويذلهم ، من النكال . كقوله تعالى : { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ } [ الطور : 42 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [ 80 ] .
{ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم } أي : ما أخفوه من تناجيهم بما يمكرون ، فلا نجازيهم عليه لخفائه علينا : { بَلَى } أي : نسمعهما ونطلّع عليهما : { وَرُسُلُنَا } يعني الحفظة : { لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } أي : ما تكلّموا به ولفظوا من قول ، ثم أشار إلى ردّ إفكهم في أن الملائكة بنات الله تعالى ، ختماً للسورة مما بدئت به ، المسمى عند البديعيين : رد العجز على الصدر . فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } [ 81 ] .
{ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } أي : لذلك الولد . والأولية بالنسبة إلى المخاطبين ، لا لمن تقدّمهم . قال الشهاب : ولو أبقى على إطلاقه ، على أن المراد إظهار الرغبة والمسارعة ، جاز . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ 82 ] .
{ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } على نفي التالي . وهو عبادة الولد ؛ أي : أوحّده وأنزّهه تعالى عما يصفونه من كونه مماثلاً لشيء ، لكونه ربّاً خالقاً للأجسام كلها ، فلا يكون من جنسها ، فيفيد انتقاء الولد على الطريق البرهاني . وأما دلالته على الثاني ، فإذا جعل قوله : { سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ } الخ من كلام الله تعالى ، لا من كلام الرسول ؛ أي : نزّه رب السماوات عما يصفونه ، فيكون نفياً للمتقدم ويكون تعليق عبادة الرسول من باب التعليق بالمحال ، والمعلق بالشرط عند عدمه فحوى بدلالة المفهوم ، أبلغ عند علماء البيان من دلالة المنطوق . كما قال في استبعاد الرؤية : { فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } [ الأعراف : 143 ] . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ } [ 83 ] .
{ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا } أي : في باطلهم : { وَيَلْعَبُوا } أي : في دنياهم : { حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ } قال ابن جرير : وذلك يوم يُصليهم الله بفريتهم عليه جهنم ، وهو يوم القيامة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ } [ 84 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } أي : المعبود فيهما بلا شريك : { وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ } أي : في تدبير خلقه ، وتسخيرهم لما يشاء بمصالحهم .
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ 85 ، 86 ] { وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ } أي : الشفاعة لهم عند الله ، كما زعموا أن أندادهم شفعاء : { إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي : من آمن بالله ، وأقر بتوحيده ، وهم يعلمون حقيقة توحيده ؛ أي : وحّدوه ، وأخلصوا له على علم منهم ويقين ، كقوله : { وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } [ الأنبياء : 28 ] . قال ابن كثير : هذا استثناء منقطع ، أي : لكن من شهد بالحق على بصيرة ، وعلم ، فإنه تنفع شفاعته عنده ، بإذنه له .
تنبيه :
قال الشهاب : استدل الفقهاء بهذه الآية على أن الشهادة لا تكون إلا عن علم ، وأنها تجوز وإن لم يشهد .
وفي " الإكليل " قال إلكيا : يدل قوله تعالى : { إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } على معنيين : أحدهما - أن الشهادة بالحق غير نافعة إلا مع العلم ، وأن التقليد لا يغني مع عدم العلم بصحة المقالة . والثاني - أن شرط الشهادات في الحقوق وغيرها ، أن يكون الشاهد عالماً بها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [ 85 - 86 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } [ 87 ] .
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } أي : خلقنا لتعذر المكابرة فيه من فرط ظهوره : { فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي : يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ } [ 88 ] .
{ وَقِيلِهِ } أي : قيل محمد صلوات الله عليه ، شاكياً إلى ربه تبارك وتعالى ، قومه الذين كذبوه وما يتلقى منهم : { يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء } أي : الذين أمرتني بإنذارهم ، وأرسلتني إليهم لدعائهم إليك : { قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ } أي : بالتوحيد ، والرسالة ، واليوم الآخر . كقوله تعالى : { وقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً } [ الفرقان : 30 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [ 89 ] .
{ فَاصْفَحْ } أي : أعرض : { عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ } أي : لكم ، أو عليكم ، أو أمري سلام ؛ أي : متاركة فهو سلام متاركة لا تحية .
وقال الرازي : احتج قوم بهذه الآية على أنه يجوز السلام على الكافر . ثم قال : إن صح هذا الاستدلال فإنه يوجب الاقتصار على مجرد قوله : سلام . وأن يقال للمؤمن : سلام عليكم . والمقصود التنبيه على التحية التي تذكر للمسلم والكفار .
وفيه نظر ؛ لأنه جمود على الظاهر البحت هنا ، والغفلة عن نظائره . من نحو قول إبراهيم عليه السلام لأبيه : { سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي } [ مريم : 47 ] ، وآية : { سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [ القصص : 55 ] ، على أن الأكثر على أن الخبر هنا محذوف ، أي : عليكم والمقدر كالمذكور ، والمحذوف لعلة كالثابت ، فالصواب أن السلام للمتاركة . والله أعلم : { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } أي : حقية ما أرست به, بسموّ الحق ، وزهوق الباطل
تنبيه :
قرىء : { وقيلَه } بالنصب عطفاً على ، سرّهم ونجواهم . وضعّف بوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، بما لا يحسن اعتراضاً ، أو على محل الساعة ؛ لأنه في محل نصب ؛ لأنه مصدر مضاف لمفعوله ، أو بإضمار فعله ؛ أي : وقال قيله .
وقرىء بالجر عطفاً على الساعة ، أو الواو للقسم ، والجواب محذوف ؛ أي : لأفعلن بهم ما أريد ، أو مذكور وهو قوله : { إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ } .
وقرىء بالرفع عطفاً على علم الساعة ، بتقدير مضاف ؛ أي : وعندهم علم قيله ، أو مرفوع بالابتداء ، وجملة يا رب الخ هو الخبر . أو الخبر محذوف ؛ أي : وقيله كيت وكيت ، مسموع أو متقبل . وفي " الحواشي " مجازيات جدلية ، فازدد بمراجعتها علماً .
بسم الله الرحمن الرحيم....(/)
سورة الدخان
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ } [ 1 - 3 ]
يعني ليلة القدر التي قدر فيها سبحانه إنزال ذكره الحكيم . و كانت في رمضان . كما قال سبحانه (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) قال ابن كثير : و من قال إنها ليلة النصف من شعبان ، فقد أبعد النجعة . فإن نص القرآن أنها في رمضان. و ما روي من الآ ثار في فضلها ، فمثله لا تعارض به النصوص . هذا على فرض صحتها . وإلا فهي ما بين مرسل و ضعيف. و البركة اليمن . ولا ريب أنها كانت أبرك ليلة و أيمنها على العالمين ، بتنزيل ما فيه الحكمة و الهدى ، و النجاة من الضلال و الردى. قال القاشاني : ووصفها بالمباركة ،لظهور الرحمة و البركة ،و الهداية و العدالة في العالم بسببها . و ازدياد رتبته صلى الله عليه و سلّم و كماله بها . كما سماها ( ليلة القدر ) لأن قدره و كماله إنما ظهر بها .{ إنّا كنّا منذرين } أي من خالف مقتضى الحكمة و قوة الدلائل ، و اختار المذام و تذلل للهوى و لم يكتف بهداية الله ، و لم يقت روحه بقوت معارفه ، وذلك لتقوم حجة الله على عباده .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } [ 4 ] .
{ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } أي : يفضل ويبين كل أمر تقتضيه الحكمة ، على وجه متين محمود عند الكمل تقتات به أرواحهم ، وترحم به نفوسهم . وقوله تعالى :
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ 5 ، 6 ] .
{ أَمْراً مِّنْ عِندِنَا } نصب على الاختصاص ؛ أي : أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا على مقتضى حكمنا . وهو بيان لفخامته الإضافية ، بعد بيان فخامته الذاتية : { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } أي : مرسلين إلى الناس رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آيات الله ، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب ، والحكمة ، رحمة منه تعالى بهم ، لمسيس الحاجة إليه كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] ، وجوز كون رحمة علة للإنزال . أي : رحمة تامة كاملة على العالمين بإنزاله ، لاستقامة أمورهم الدينية والدنيوية ، وصلاح معاشهم ومعادهم ، وظهور الخير ، والكمال ، والبركة ، والرشاد فيهم بسببه .
والوجه هو الأول ، وهو كونه غاية للإرسال ؛ لإفصاح تلك الآية عنه : { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } أي : لدعوة حقائق الأشياء بمقتضياتها : { الْعَلِيمُ } أي : بمقادير قابلياتها ، فلا يبعد عليه الإرسال والإنزال ، قاله المهايمي . وقال القاشاني : أي : السميع لأقوالهم المختلفة في الأمور الدينية الصادرة عن أهوائهم ، العليم : أي : بعقائدهم الباطلة ، وآرائهم الفاسدة ، وأمورهم المختلفة ، ومعايشهم غير المنتظمة . فلذلك رحمهم بإرسال الرسول الهادي إلى الحق في أمر الدين ، الناظم لمصالحهم في أمر الدنيا ، المرشد إلى الصواب فيهما ، بتوضيح الصراط المستقيم ، وتحقيق التوحيد بالبرهان ، وتقنين الشرائع وسنن الأحكام لضبط النظام .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ * لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ } [ 7 - 9 ] .
{ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ } قال أبو مسلم : أي : إن كنتم تطلبون اليقين وتريدونه ، فاعرفوا أن الأمر كما قلنا ، كقولهم : فلان منجد متْهم ؛ أي : يريد نجداً وتهامة . وقيل : معناه إن كنتم موقنين بما تقرون به ، من أنه رب الجميع ، وخالقه : { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ } أي : بل ليسوا بموقنين في إقرارهم بربوبيته ؛ لأن الإيقان يستتبع قبول البرهان ، وإنما هو قول ممزوج بلعب ، لغشيان أدخنة أهوية نفوسهم ، بصائر قلوبهم وأرواحهم .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ } [ 10 - 12 ] .
{ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ } أي انتظر لمجازاتهم ذلك اليوم الهائل ، ولا يستعمل الارتقاب إلا في أمر مكروه . وللسلف في معنى الدخان ثلاثة أوجه :
الأول - قال بعضهم : كان ذلك حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش أن يؤخذوا بسنين كسنين يوسف ، فأخذوا بالمجاعة . قالوا : وعنى بالدخان ما كان يصيبهم حينئذ في أبصارهم من شدة الجوع ، من الظلمة كهيئة الدخان ، روى ابن جرير عن مسروق قال : كنا عند عبد الله بن مسعود جلوساً وهو مضطجع بيننا . فأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الرحمن : إن قاصاً عند أبواب كندة يقص ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار ، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام ، فقال :
يا أيها الناس ! اتقوا الله . فمن علم شيئاً فليقل بما يعلم , ومن لا يعلم فليقل : الله أعلم ؛ فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم . وما على أحدكم أن يقول لما لا يعلم : لا أعلم ؛ فإن الله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } [ ص : 86 ] ، إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدباراً قال : < اللهم سبعاً كسبع يوسف > . فأخذتهم سنة حصّت كل شيء حتى أكلوا الجلود ، والميتة ، والجيف . ينظر أحدهم إلى السماء فيرى دخاناً ، من الجوع .
فأتاه أبو سفيان بن حرب فقال : يا محمد ! إنك جئت تأمرنا بالطاعة وبصلة الرحم ، وإن قومك قد هلكوا ، فادع الله لهم . . . . قال عز وجل : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } ، إلى قوله : { إِنَّكُمْ عَائِدُونَ } [ الدخان : 15 ] ، قال : فكشف عنهم : { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ } [ الدخان : 16 ] ، فالبطشة يوم بدر . وقد مضت آية الروم ، وآية الدخان ، والبطشة واللزام .
قال ابن كثير : وهذا الحديث مخرج في " الصحيحين " ، ورواه الإمام أحمد في " مسنده " وهو عند الترمذي والنسائي في " تفسيرهما " ، وعند ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق متعددة ، وقد وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسير الآية بهذا ، وأن الدخان مضى ، جماعةٌ من السلف كمجاهد ، وأبي العالية ، وإبراهيم النَّخَعِي ، والضحاك ، وعطية العوفي ، وهو اختيار ابن جرير . قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : والظاهر أن مجيء أبي سفيان كان قبل الهجرة . لقول ابن مسعود : ثم عادوا . ولم ينقل أن أبا سفيان قدم المدينة قبل بدر . وعلى هذا فيحتمل أن يكون أبو طالب كان حاضراً ذلك . فلذلك قال :
~وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَاْمُ بِوَجْهِهِ
لكن روي ما يدل على أن القصة المذكورة وقعت بالمدينة ، فإن لم يحمل على التعدد ، وإلا فهو مشكل جداً . والله المستعان . انتهى .
وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان على هذا معنيين :
أحدهما - أن في سنة القحط يعظم يبس الأرض بسبب انقطاع المطر ، ويرتفع الغبار الكثير ، ويظلم الهواء . وذلك يشبه الدخان ولهذا يقال لسنة المجاعة : الغبراء .
ثانيهما - أن العرب يسمون الشر الغالب بالدخان ، فيقولون : كان بيننا أمر ارتفع له دخان . والسبب فيه أن الْإِنْسَاْن إذا اشتد خوفه أو ضعفه ، أظلمت عيناه ، فيرى الدنيا كالمملوءة من الدخان . انتهى .
و قال الشهاب : الظاهر أن هذه التسمية استعارة ؛ لأن الدخان مما يتأذى به ، فأطلق على كل مؤذٍ يشبهه ، أو على ما يلزمه ، ولذا قيل :
~تُرِيْدُ مُهَذَّباً لَاْ عَيْبَ فِيْهِ وَهَلْ عَوْدٌ يَفُوْحُ بِلَاْ دُخَاْنِ
الوجه الثاني في الآية - أنه دخان يظهر في العالم ، وهو إحدى علامات القيامة ، ولم يأت بعد ، وهو آت وهو قول حذيفة . ويروى عن عليّ وابن عباس وجمع من التابعين . قال الرازي : واحتج القائلون بهذا القول بوجوه :
الأول - أن قوله : { يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ } يقتضي وجود دخان تأتي به السماء . وما ذكرتموه من الظلمة الحاصلة في العين بسبب شدة الجوع ، فذاك ليس بدخان أتت به السماء . فكان حمل لفظ الآية على هذا الوجه ، عدولاً عن الظاهر ، لا لدليل منفصل ، وإنه لا يجوز .
الثاني - أنه وصف ذلك الدخان بكونه مبيناً ، والحالة التي ذكرتموها ليست كذلك لأنها عارضة تعرض لبعض الناس في أدمغتهم ، ومثل هذا لا يوصف بكونه دخاناً مبيناً .
والثالث - أنه وصف ذلك الدخان بأنه يغشي الناس . وهذا إنما يصدق إذا وصل ذلك الدخان إليهم واتصل بهم ، والحالة التي ذكرتموها لا تغشي الناس إلا على سبيل المجاز . وقد ذكرنا أن العدول من الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا لدليل منفصل .
الرابع - ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدّه الدخان من الآيات المنتظرة . أما القائلون بالقول الأول ، فلا شك أن ذلك يقتضي صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز ، وذلك لا يجوز إلا عند قيام دليل يدل على أن حمله على حقيقته ممتنع ، والقوم لم يذكروا ذلك الدليل ، فكان المصير إلى ما ذكروه مشكلاً جداً . فإن قالوا : الدليل على أن المراد ما ذكرناه أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون : { رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ } وهذا ، إذا حملناه على القحط الذي وقع بمكة ، استقام . فإنه نقل أن التقحط لما اشتد ، بمكة مشى إليه أبو سفيان , وناشده بالله وبالرحم ، ووعده أنه إن لهم وأزال الله عنهم تلك البلية ، أن يؤمنوا به . فلما أزال الله تعالى عنهم ذلك رجعوا إلى شركهم .
أما إذا حملناه على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة ، لم يصح ذلك ؛ لأن عند ظهور علامات القيامة . لا يمكنهم أن يقولوا : { رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ } ولم يصح أيضاً أن يقال لهم : { إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ } والجواب : لم لا يجوز أن يكون ظهور هذه العلامة جارياً مجرى ظهور سائر علامات القيامة ، في أنه لا يوجب انقطاع التكليف ، فتحدث هذه الحالة . ثم إن الناس يخافون جداً فيتضرعون . فإذا زالت تلك الواقعة عادوا إلى الكفر والفسق ، وإذا كان هذا محتملاً ، فقد سقط ما قالوه ، والله أعلم . انتهى كلام الرازي .
وهكذا رجح الإمام ابن كثير الوجه الثاني ، ذهاباً إلى ما صح عن ابن عباس ، ترجمان القرآن ومن وافقه من الصحابة والتابعين ، مع الأحاديث المرفوعة الصحاح , والحسان وغيرهما ، التي أوردوها ، مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة ، على أن الدخان من الآيات المنتظرة . مع أنه ظاهر القرآن ، قال الله تبارك وتعالى : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } أي : بين واضح يراه كل أحد . وعلى ما فسر به ابن مسعود رضي الله عنه ، إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد . وهكذا قوله تعالى : { يَغْشَى النَّاسَ } أي : يتغشاهم ويعمهم . ولو كان أمراً خيالياً يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه : { يَغْشَى النَّاسَ } وقوله تعالى : { هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً . كقوله عز وجل : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } [ الطور : 13 - 14 ] ، أو يقول بعضهم لبعض ذلك .
وقوله سبحانه وتعالى : { رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ } أي : يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه ، سائلين رفعه , وكشفه عنهم ، كقوله جلت عظمته : { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنعام : 27 ] ، وكذا قوله جل وعلا : { وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ } [ إبراهيم : 44 ] . وهكذا قال جل جلاله .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ } [ 13 ، 14 ] .
{ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ } أي : كيف لهم بالتذكر ، وقد أرسلنا إليهم رسولاً بين الرسالة والنذارة . ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه . بل كذبوه وقالوا معلّم مجنون . وهذا كقوله جلت عظمته : { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَاْن وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى } [ الفجر : 23 ] الآية . وكقوله عز وجل : { وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ } [ سبأ : 51 ] . إلى آخر السورة . وقوله تعالى :
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ } [ 15 ] .
{ إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ } يحتمل معنيين :
أحدهما - أنه يقول تعالى ولو كشفنا عنكم العذاب ، ورجعناكم إلى الدار الدنيا ، لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب . كقوله تعالى : { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ المؤمنون : 75 ] ، وكقوله جلت عظمته : { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 28 ] .
والثاني - أن يكون المراد إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلاً بعد انعقاد أسبابه ، ووصوله إليكم ، وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال ، ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم . كقوله تعالى : { إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [ يونس : 98 ] . ولم يكن العذاب باشرهم واتصل بهم . بل كانوا قد انعقد سببه عليهم ، ولا يلزم أيضاً أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه ، قال الله تعالى ، إخباراً عن شعيب عليه السلام ، أنه قال لقومه حين قالوا : { لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا } [ الأعراف : 88 - 89 ] . وشعيب عليه السلام لم يكن قط على ملتهم وطريقتهم . وقال قتادة : { إِنَّكُمْ عَائِدُونَ } إلى عذاب الله . وقوله عز وجل :
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ } [ 16 ] .
{ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ } فسرّ ذلك ابن مسعود رضي الله عنه بيوم بدر . وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسيره الدخان بما تقدم ، وروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما ، من رواية العوفي عنه . وعن أبي ابن كعب رضي الله عنه ، وجماعة عنه ، وهو محتمل . والظاهر أن ذلك يوم القيامة ، وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضاً .
قال ابن جرير : حدثني يعقوب . حدثنا ابن علية . حدثنا خالد الحذاء عن عِكْرِمَة قال : قال ابن عباس رضي الله عنهما : قال ابن مسعود رضي الله عنه : البطشة الكبرى يوم بدر . وأنا أقول هي يوم القيامة . وهذا إسناد صحيح عنه . وبه يقول الحسن البصري ، وعكرمة في أصح الروايتين عنه . والله أعلم . انتهى كلام ابن كثير .
فصل :
وممن رجح الوجه الأول ، وهو أن المراد بالدخان يوم المجاعة والشدة مجازاً ، بذكر المسّبب وإرادة السبب . أو بالاستعارة ، العلامة أبو السعود حيث قال : والأول هو الذي يستدعيه مساق النظم الكريم قطعاً . فإن قوله تعالى : { أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى } الخ ، ردّ لكلامهم ، واستدعائهم الكشف ، وتكذيب لهم في الوعد بالإيمان ، المنبئ عن التذكر والاتعاظ بما اعتراهم من الداهية ، أي : كيف يتذكرون ؟ أو من أين يتذكرون بذلك ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب عنهم ؟ : { وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ } أي : والحال أنهم شاهدوا من دواعي التذكر ، وموجبات الاتعاظ ما هو أعظم منه في إيجابها . حيث جاءهم رسول عظيم الشأن ، وبيّن لهم مناهج الحق ، بإظهار آيات ظاهرة ومعجزات قاهرة ، تخرّ لها صم الجبال .
{ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ } عن ذلك الرسول وهو هو ، ريثما يشاهدون منه ما شاهدوه من العظائم الموجبة للإقبال عليه ، ولم يقتنعوا بالتولي : { وَقَالُوا } في حقه : { مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ } أي : قالوا تارة : يعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف . وأخرى مجنون ، أو يقول بعضهم كذا وآخرون كذا . فهل يتوقع من قوم هذه صفاتهم أن يتأثروا بالعظة والتذكير ؟ وما مثلهم إلا كمثل الكلب إذا جاع ضعف ، وإذا شبع طغى .
وقوله تعالى : { إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ } جواب من جهته تعالى عن قولهم : { رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ } بطريق الالتفات ، لمزيد التوبيخ والتهديد ، وما بينهما اعتراض . أي : [ في المطبوع : ألى ] : إنا نكشف العذاب المعهود عنكم كشفاً قليلاً ، أو زماناً قليلاً . إنكم تعودون إثر ذلك إلى [ في المطبوع : إى ] ما كنتم عليه من العتو ، والإصرار على الكفر ، وتنسون هذه الحالة ، وفائدة التقييد بقوله : { قَلِيلاً } الدلالة على زيادة خبثهم ؛ لأنهم إذا عادوا قبل تمام الانكشاف ، كانوا بعده أسرع إلى العود . وصيغة الفاعل في الفعلين ، للدلالة على تحققهما لا محالة ، ولقد وقع كلاهما حيث كشفه الله تعالى ، بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم فما لبثوا أن عادوا إلى ما كانوا عليه من العتوّ والعناد . انتهى ما قاله أبو السعود بزيادة .
فصل :
وأما الوجه الثالث في الآية ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي . حدثنا جعفر بن مسافر . حدثنا يحيى بن حسان . حدثنا ابن مهيعة . حدثنا عبد الرحمن الأعرج في قوله عز وجل : { يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } قال : كان يوم فتح مكة . قال ابن كثير : وهذا القول غيب جداً . بل منكر . انتهى .
أي لأنه لم يرو مرفوعاً ولا موقوفاً على ابن عباس ، ترجمان القرآن ، أو غيره من الصحب ، إلا أن عدم كونه مأثوراً لا ينافي احتمال لفظ الآية له ، وصدقها عليه ، لاسيما ، ويؤيده قوله تعالى في آخر السورة : { فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ } مما هو وعد بظهوره عليهم ، وكان ذلك يوم الفتح . وحينئذ ، فمعنى قوله تعالى : { إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ } أي : ما ينزل بهم يومئذ ، برفع القتل والأسر عنهم . ومعنى : { عَائِدُونَ } أي : إلى لقاء الله ومجازاته .
فصل :
يظهر مما نقلناه عن السلف في هذه الآية من الأقوال الثلاثة ، أن هذه الآية من الآي اللاتي أخذت من الصحب ، عليهم الرضوان ، اهتماماً في معناها ، وعناية في البحث عن المراد منها . حتى كان ابن مسعود مصراً على وجه ، وعلي وابن عباس وحذيفة على وجه آخر . على ما أسند عنهم من طرق ، ولعمر الحق ! إن هذه الآية لجديرة بزيادة العناية . وهكذا كل ما كان من معارك الأنظار للأئمة الكبار . وسبب الاختلاف هو إيجاز [ في المطبوع : إيجار ] الأسلوب الكريم ، وإيثاره من الألفاظ أرقها ، وأوجزها . مما يصدق لبلاغته حقيقة تارة ومجازاً أخرى . هذا أولاً .
وثانياً ، لما كان كثير من الأحاديث المروية تتشابه مع الآيات ، كان ذلك مما يقرب بينهما ، ويدعوا إلى اتحاد المراد منهما . لما تقرر من شرح السنة للكتاب ، وهذا ما درج عليه المحدثون قاطبة . فترى أحدهم إذا رأى في خبر ما يشير إلى آية ، قطع بأنه تفسيرها ووقف عنده ولم يتعده . وأما من فتح للتدبر باباً ، ومهد للنظر مجالاً ، وأرى أن الأثر قد يكون من محمولات الآية وما صدقاتها ، وأنها أعم وأشمل ، أو إن حمل الخبر عليها اشتباه أفضى إليه التشابه . فذاك وسّع للسالك المسالك ، وفتح للمريد المدارك ، ورقاه من حظيره النقل إلى فضاء العقل . ولكلٍّ وجهة .
إذا علمت ذلك ، رأيت أن من فسر هذه الآية بالمجاعة التي حصلت لقريش ، أمكنه تطبيق الآية عليها مجازاً في بعض مفرداتها ، وحقيقة في بقيتها وفي وقوع مصداقها ، في رأيه . ومن فسرها بالدخان المنتظر ، المروي من أشراط الساعة ، وقف مع المروي ورأى أنه تفسيرها ؛ لأن الأصل التوافق والحمل على المعهود ؛ لأنه الأقرب خطوراً والأسبق حضوراً ، ومن فسرها بالظهور عليهم يوم الفتح ، رأى أنها من بليغ المجاوز وبديع الكناية في ذلك ، وأن الوعد بالارتقاب . كثر أشباهه ونظائره في غير ما آية ، مراداً به الفتح . كآية : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ } [ السجدة : 28 - 30 ] .
فهذا وأمثاله يبين مآخذ الأئمة ، ومداركهم في التأويل . وبه يعلم أن أطراف المدارك قد تتجاذب اللفظ فتستوقف الرأي عن التشيع لمدرك دون آخر . ما لم يكن ثمة ما يرشح أحدها وقد يظن الواقف على كلام الرازي المتقدم ، واحتجاجه للوجه الثاني بما أطال به ، أن لا منتدح ، بعد ، عنه . مع أن للذاهب إلى غيره أن يجيب عن احتجاجه بما أسلفنا من صحة المجاز . بل وقوّته هنا ؛ لأن المقام مقام إنذار ، وإيعاد ، والذوق أكبر حاكم وإليه مرد البلاغة . ولا يلزم المتأول نكرانه للدخان المنتظر كما قد يتوهم . بل يتعرف بأنه آية آتية يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ، وينقلب هذا النظام إلى نشأة ثانية ، وأنه لا يلزم من الاشتراك اللفظي اتحاد المتلو والمروي .
وبالجملة ، فاللفظ الكريم يتناول المعاني الثلاثة . وسببه تحقق مصداق الجميع . وأما تعيين واحد منها للمراد ، فصعب جداً فيما أراه ، لاسيما ولم يتفق الصحب على رأي فيها . هذا ما نقوله الآن . والله العلم . وقوله تعالى :
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ } [ 17 ] .
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ } أي : ابتلينا ، قبل هؤلاء المشركين ، قوم فرعون ، بإرسال موسى عليه السلام إليهم ليؤمنوا . فاختاروا الكفر على الإيمان : { وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ } أي : على الله والمؤمنين ، أو في نفسه . فعلى الأول كريم بمعنى مكرم أي : معظَّم . وعلى الثاني ، من الكرم بمعنى الاتصاف بالخصال الحميدة ، حسباً ونسباً .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } [ 18 ] .
{ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ } أي : أرسلوا معي بني إسرائيل ، لأسير بهم إلى بلادنا الأولى ، وأطلقوهم من أسركم وحبسكم ؛ فإنهم قوم أحرار ، أبوا - للضيم - هذه الديار : { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } أي : على وحيه ورسالته ، التي حمّلنيها إليكم ؛ لأنذركم بأسه إن عصيتم .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنْ لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } [ 19 ] .
{ وَأَنْ لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ } أي : بإنكار ربوبيته ، ودعوى الربوبية لأنفسكم ، وتكذيب رسوله ، وغضب عباده : { إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } أي : حجة واضحة على ربوبية الله ، ونفي ربوبيتكم ، وعلى رسالتي ، وعلى أن بني إسرائيل عباده الخاصة .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ } [ 20 ] .
{ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ } أي : اعتصمت به من رجمكم ؛ يعني القتل ، فعصمني ، فلا ينالني منك مكروه ، مع أنه لا يعصم من افترى عليه ، وقصد بهذه الجملة ، إظهار مزيد شجاعته وثباته في موقف تضطراب فيه الأفئدة ، وتزلّ الأقدام ، خوفاً ورعباً ، وما ذاك إلا لإيوائه إلى عصمة الله وتأييده .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ } [ 21 ] .
{ وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ } أي : فكونوا بمعزل عني . فلست بموالٍ منكم أحداً .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ } [ 22 ] .
{ فَدَعَا رَبَّهُ } أي : لما تابوا عن إجابته : { أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ } أي : مشركون مفسدون .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ } [ 23 ] .
{ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً } أي : فأجاب دعاءه ، وأوحى إليه بأن سر بقومك ليلاً : { إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ } أي : إن فرعون ، وقومه من القبط متبعوكم ، إذا شخصتم عن بلدهم ، وأرضهم ليرجعوكم .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ * كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } [ 24 ، 25 ] .
{ وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً } أي : فإذا قطعت البحر أنت وأصحابك ، فاتركه ساكناً على حاله التي كان عليها حين دخلته ، ولا تضربه بعصاك ليدخله القبط فيغرقوا : { إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ كَمْ تَرَكُوا } أي : بعد هلاكهم بالغرق : { مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } أي : بساتين وعيون يسقى منها ، ويتنعم بالنظر فيها ، هذا في التفكة والتنزه .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } [ 26 ] .
{ وَزُرُوعٍ } أي : قائمة مزارعهم للقوت : { وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } أي : محافل مزينة ، ومنازل مزخرفة .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ } [ 27 ] .
{ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ } أي : متنعمين من نساء ، وأموال ، وحشم ، وما لا يحصى من المشتهيات .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ } [ 28 ] .
{ كَذَلِكَ } أي : أخرجناهم مثل هذا الإخراج . فالكاف ، أو الجار والمجرور صفة مصدر مفهوم من الترك . أو هو خبر محذوف ؛ أي : الأمر كذلك . والمراد به التأكيد والتقرير
{ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ } يعني من خلفهم بعد مهلكهم .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ } [ 29 ] .
{ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ } قال الزمخشري : إذا مات رجل خطير ، قالت العرب في تعظيم مهلكه : بكت عليه السماء والأرض ، وبكته الريح ، وأظلمت له الشمس . قال جرير :
~تَبْكِيْ عَلَيْكَ نُجُوْمُ اللَّيْلِ وَالْقَمَرَا
وقالت الخارجية :
~أَيَاْ شَجَرَ الْخَاْبُوْرِ مَاْ لَكَ مُوْرِقاً كَأَنَّكَ لَمْ تَجْزَعْ عَلَىْ ابْنِ طَرِيْفِ
وذلك على سبيل التمثيل والتخييل . مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه ، وكذلك ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنه ، من بكاء مصلى المؤمن ، وآثاره في الأرض ، ومصاعد عمله ، ومهابط رزقه في السماء : تمثيل . ونفي ذلك عنهم في قوله تعالى : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ } فيه تهكم بهم وبحالهم ، المنافية لحال من يعظم فقده ، فيقال فيه : بكت عليه السماء والأرض ، وعن الحسن : فما بكى عليهم الملائكة والمؤمنون ، بل كانوا بهلاكهم مسرورين . يعني : فما بكى عليهم أهل السماء ، وأهل الأرض : { وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ } أي : مؤخّرين بالعقوبة . بل عجلوا بها ، زيادة سخط عليهم .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ } [ 30 ] .
{ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ } يعني استعباد فرعون ، وقتله أبناءهم .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ } [ 31 ] .
{ مِن فِرْعَوْنَ } بدل من العذاب ، على حذف مضاف ، أو جعله عذاباً مبالغةً لإفراطه في التعذيب ، أو حال من المهين ، بمعنى واقعاً من جهته : { إِنَّهُ كَانَ عَالِياً } أي : متكبراً على الناس : { مِّنَ الْمُسْرِفِينَ } أي : المتجاوزين الحدّ ، في العتو والشر .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ 32 ] .
{ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } أي : فضلناهم لأجل علمٍ معهم ، على عالمي زمانهم . أو عالمين بأنهم أحقاء بأن يختاروا ويؤثروا .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاء مُّبِينٌ } [ 33 ] .
{ وَآتَيْنَاهُم } أي : زيادة على اختبارهم ، وتفضيلهم : { مِّنَ الْآيَاتِ } أي : المعجزات والكرامات : { مَا فِيهِ بَلَاء مُّبِينٌ } أي : نعمة ظاهرة ؛ لأنهم حجة واضحة على أعدائهم .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ هَؤُلَاء لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ } [ 34 ، 35 ] .
{ إِنَّ هَؤُلَاء } أي : مشركي قريش : { لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى } أي : المتعقبة للحياة ، كأنهم أرادوا إلا موتتنا هذه . وليس القصد إلى إثبات ثانية . قال الإسنوي في " التمهيد " : الأول في اللغة ابتداء الشيء ثم قد يكون له ثان ، وقد لا يكون . كما تقول : هذا أول ما اكتسبته . فقد تكتسب بعده شيئاً ، وقد لا تكتسب . كذا ذكره جماعة ، منهم الواحدي في تفسيره ، والزجاج . ومن فروع المسألة ، ما لو قال : إن كان أول ولد تلدينه ذكراً فأنت طالق ، تطلق إذا ولدته ، وإن لم تلد غيره ، بالاتفاق . قال أبو علي : اتفقوا على أن ليس من شرط كونه أولاً ، أن يكون بعده آخر . وإنما الشرط أن لا تقدم عليه غيره . انتهى .
وما ذكر أظهر مما للزمخشري هنا : { وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ } أي : مبعوثين .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 36 ] .
{ فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي : في بعثنا بعد بلائنا في قبورنا . قال ابن كثير : وهذه حجة باطلة ، وشبهة فاسدة . فإن المعاد إنما هو يوم القيامة ، لا في دار الدنيا . بل بعد انقضائها وذهابها وفراغها ، يعيد الله العالمين خلقاً جديداً ، ويجعل الظالمين لنار جهنم وقوداً ، ثم أنذرهم تعالى بأسه الذي لا يردّ ، كما حلّ بأشباههم من المشركين ، بقوله سبحانه :
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } [ 37 ] .
{ أَهُمْ خَيْرٌ } أي : في القوة والمنعة : { أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } أي : أهلكناهم بجرمهم ، وهو كفرهم وفسادهم . وهم ما هم . فما بال قريش لا تخاف أن يصيبها ما أصابهم ؟ وقوم تبع هم حمير وأهل سبأ . أهلكهم الله عز وجل وفرقهم في البلاد شذر مذر . كما تقدم في سورة سبأ . قال ابن كثير : وقد كانوا عرباً من قحطان . كما أن هؤلاء عرب من عدنان ، وكانت حمير كلما ملك فيهم رجل سموه تبعاً . كما يقال : كسرى ، لمن ملك الفرس . وقيصر ، لمن ملك الروم . وفرعون ، لمن ملك مصر كافراً . والنجاشي ، لمن ملك الحبشة ، وغير ذلك من أعلام الأجناس .
لكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن ، وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند ، واشتد ملكه ، وعظم سلطانه وجيشه ، واتسعت مملكته ، وبلاده ، وكثرت رعاياه ، وهو الذي مصّر الحيرة ، فاتفق أنه مر بالمدينة النبوية ، وذلك في أيام الجاهلية ، فأراد قتال أهلها فمانعوه ، وقاتلوه بالنهار, وجعلوا يقْرُونَه بالليل . فاستحيا منه وكف عنهم ، واستصحب معه حبرين من أحبار يهود ، كانا قد نصحاه , وأخبراه أن لا سبيل له على هذه البلدة . فإنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان . فرجع عنها ، وأخذهما معه إلى بلاد اليمن . فلما اجتاز بمكة أراد هدم الكعبة . فنهياه عن ذلك أيضاً . وأخبراه بعظمة هذا البيت ، وأنه من بناء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، وأنه سيكون له شأن عظيماً على يدي ذلك النبي المبعوث في آخر الزمان ، فعظمها وطاف بها , وكساها المُلاء والوصائل والحبر . ثم كرّ راجعاً إلى اليمن ، ودعا أهلها إلى التهود معه . وكان إذ ذاك دين موسى عليه الصلاة والسلام ، فيه من يكون على الهداية قبل بعثة المسيح عليه الصلاة والسلام . فتهود معه عامة أهل اليمن .
وقد ذكر القصة بطولها الإمام محمد بن إسحاق في كتابه " السيرة " . وترجمة الحافظ ابن عساكر في " تاريخه " ترجمة حافلة ، وذكر أنه ملك دمشق . وساق ما روي في النهي عن سبه ولعنه . قال ابن كثير : وكأنه ، والله أعلم . كان كافراً ثم أسلم ، وتابع دين الكليم على يدي من كان أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق قبل بعثة المسيح عليه السلام ، وحج البيت في زمن الجرهميين وكساه المُلاء ، والوصائل من الحرير والحبر ، ونحر عنده ستة آلاف بدنة ، وعظمه وأكرمه ، ثم عاد إلى اليمن ، وقد ساق قصته بطولها الحافظ ابن عساكر من طرق متعددة مطولة مبسوطة ، عن أبي بن كعب ، وعبد الله بن سلام ، وعبد الله بن عباس ، رضي الله عنهم ، وكعب الأحبار ، وإليه المرجع في ذلك كله ، وإلى عبد الله بن سلام أيضاً , وهو أثبت وأكبر وأعلم . وكذا روى قصته وهبه بن منبه ، ومحمد بن إسحاق في " السيرة " كما هو مشهور فيها . وقد اختلط على الحافظ ابن عساكر في بعض السياقات ، ترجمة تبع هذا ، بترجمة آخر متأخر عنه بدهر طويل ؛ فإن تبعا هذا المشار إليه في القرآن أسلم قومه على يديه , ثم لما توفي عادوا بعده إلى عبادة الثيران والأصنام ، فعاقبهم الله تعالى ، كما ذكره في سورة سبأ .
وتبع هذا هو تبع الأوسط . واسمه أسعد أبو كرب . ولم يكن في حمير أطول مدة منه . وتوفي قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من سبعمائة سنة ، وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من يهود المدينة ، أن هذه البلدة مهاجر نبي في آخر الزمان اسمه أحمد ، قال في ذلك شعراً ، واستودعه عند أهل المدينة . فكانوا يتوارثونه ويروونه خلفاً عن سلف ، وكان ممن يحفظه أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري ، الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره ، وهو :
~شَهِدْتُ عَلَىْ أَحْمَدَ أَنَّهُ رَسُوْلٌ مِنَ اللَّهِ بَاْرِي النَّسَمْ
~فَلَوْ مُدَّ عُمْرِيْ إِلَىْ عُمْرِهِ لَكُنْتُ وَزِيْراً لَهُ وَابْنُ عَمْ
~وَجَاْهَدْتُ بِالسَّيْفِ أَعْدَاْءَهُ وَفَرَّجْتُ عَنْ صَدْرِهِ كُلَّ غَمْ
ثم ساق ابن كثير آثاراً في النهي عن سبه , وبالجملة فإن قصته المذكورة , والمروي في شأنه ، وإن لم يكن سنده على شرط الصحيح ، إلا إن ذلك مما يتحمل التوسع فيه ، لكونه نبأ محضاً مجرداً عن حكم شرعي . نعم ، لا يشك أن قريشاً كانت تعلم من فخامة نبئه المروي لها بالتواتر ، ما فيه أكبر موعظة لها ، ولذا طوى نبأه ، إحالة على ما تعرفه من أمره ، وما تسمر به من شأنه . وما القصد إلا العظة والاعتبار ، لا قصّ ذلك خبراً من الأخبار ، وسمراً من الأسمار ، كما هو السر في أمثال نبئه . وبالله التوفيق .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [ 38 ، 39 ] .
{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ } أي : الاستدلال على خالقهما ، لعبادته وطاعته : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } أي : حكمة خلقها ، فيعرضون عنه .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [ 40 - 42 ] .
{ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ } أي : فصل الله بين الخلائق وقضاءه عليهم ، ليجزيهم بما أسلفوا من خير أو شر : { مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً } أي : عليه إثابة ، أو تحمل عقاب : { وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ } أي : بأن وفّقه للإيمان ، والعمل الصالح : { إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ } أي : الغالب في انتقامه من أعدائه : { الرَّحِيمُ } أي : بأوليائه ، وأهل طاعته .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ } [ 43 ] .
{ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ } أي : التي هي أخبث شجرة معروفة في البادية .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ طَعَامُ الْأَثِيمِ } [ 44 ] .
{ طَعَامُ الْأَثِيمِ } أي : الفاجر الكثير الآثام .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ } [ 45 ، 46 ] .
{ كَالْمُهْلِ } وهو دردي الزيت ، أي : عكره في قعره : { يَغْلِي فِي الْبُطُونِ } أي : يضطرب فيها من شدة الحرارة فيقلق القلوب ويحرقها . وقوله : { كَغَلْيِ الْحَمِيمِ } أي : الماء الحار الذي انتهى غليانه . وقوله : { فِي الْبُطُونِ } كقوله : { نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ } [ الهمزة : 6 - 7 ] ، وهذه الآية كآية الصافات : { أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ } [ الصافات : 62 - 67 ] ,
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ } [ 47 ] .
{ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ } أي : ادفعوه بعنف : { إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ } أي : وسطها ، ومعظمها .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ } [ 48 ] .
{ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ } أي : لتستوفي جميع أجزاء بدنه نصيبها .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } [ 49 ] .
{ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } أي : يقال له ذلك ، على سبيل الهزؤ والتهكم ، فيتم له ، مع العذاب الأول - وهو الحسى - العذابُ العقلي .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ } [ 50 ] .
{ إِنَّ هَذَا } أي : العذاب أو الأمر : { مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ } أي : تشكّون ، مع ظهور دلائله ، أو تتمارون وتتلاحقون .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ } [ 51 ] .
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ } أي : يأمن صاحبه من الخوف والفزغ .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ } [ 52 ، 53 ] .
{ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } أي : ما رقّ من الحرير وكثف : { مُّتَقَابِلِينَ } أي : في مجالسهم ، أو أماكنهم ؛ لحسن ترتيب الغرف ، وتصفيف منازلهم .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } [ 54 ] .
{ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } أي : قرنّاهم بما فيه قرة أعينهم ، واستئناس قلوبهم ، لوصولهم بمحبوبهم ، وحصولهم على كمال مرادهم .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ } [ 55 ] .
{ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ } أي : يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه ، آمنين من كل ضرر .
....(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ } [ 56 - 59 ] .
{ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى } قال ابن جرير : أي : لا يذوق هؤلاء المتقون في الجنة ، الموت بعد الموتة الأولى ، التي ذاقوها في الدنيا .
وكان بعض أهل العربية يوجه : { إِلَّا } هنا بمعنى سوى ؛ أي : سوى الموتة الأولى . انتهى .
يعني أن الاستثناء منقطع ، أي : لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا : { وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ } أي : سهلناه حيث أنزلناه بلغتك ، وهو فذلكة للسورة : { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي : يتعظون بعبره وعظاته وحججه ، فينيبوا إلى طاعة ربهم ويذعنوا للحق : { فَارْتَقِبْ } أي : ما يحل بهم من زهوق باطلهم : { إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ } أي : منتظرون عند أنفسهم غلبتك ، أو هو قولهم : { نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُوْنِ } وهذا وعد له صلى الله عليه وسلم بالنصرة والفتح عليهم , وتسلية ووعيد لهم . وقد أنجز الله وعده ، كما قال سبحانه : { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } [ المجادلة : 21 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [ غافر : 51 ] .
....(/)
سورة الجاثية
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [ 1 ، 2 ] .
{ حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } قال المهايمي : فعزته تقتضي إفاضة الحجج التي بها الغلبة على الخصوم ، وإفاضة الكمالات التي يعسر الوصول إليها . وأنواع السعادات ، وحدة النظر ، والحكمة تقتضي محو الشبه وإزالة النقائص وإحراق الشقاوة وتمهيد الفكر . وقد نزله من مقام عزته بمقتضى حكمته ، لتكميل القوة النظرية والعملية ، ليتوسل بها إلى الكمالات الحقيقية ، من الإيمان ، والإيقان ، والعقل ، وذلك بالنظر إلى أنواع الآيات المتضمنة للحجج ، ورفع الشبه ؛ فمنها آيات الأجسام .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ 3 - 5 ] .
{ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ } أي : مطر . سمي رزقاً لأنه سببه : { فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي : عن الله ، ما وعظهم به ودعائهم إليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ } [ 6 ] .
{ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ } أي : الدالة على كمال قدرته ، وحكمته ، وإرادته : { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ } أي : بعد آياته ، ودلائله الباهرة ، وتقديم اسم الله للمبالغة ، والتعظيم ، كما في قولك : أعجبني زيد ، وكرمه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [ 7 ] .
{ وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ } أي : كذاب يتكلم في حق الله ، وصفاته على خلاف الدليل : { أَثِيمٍ } أي : بترك الاستدلال ، لاسيما إذا لم يترك عن غفلة ، بل مع كونه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئاً وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مَّن رِّجْزٍ أَلِيم ٌ *اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ 8 - 12 ] .
{ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ } أي : لا بالإخبار عنها بالغيب ، بل : { تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ } أي : على إنكارها : { مُسْتَكْبِراً } أي : عن قبولها ، لا يتأثر بها أصلاً : { كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً } استهانة بها : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ } أي : من بعد انقضاء آجالهم ، عذابها : { وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا } أي : من الأموال ، والأولاد : { شَيْئاً } أي : من عذاب الله : { وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء } يعني آلهتهم التي عبدوها ، أو رؤساءهم الذين أطاعوهم في الكفر ، واتخذوهم نصراء في الدنيا : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * هَذَا } أي : القرآن : { هُدًى } أي : بيان ودليل على الحق ، يهدي إلى صراط مستقيم من اتبعه ، وعمل بما فيه .
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مَّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ } أي : بتسخيره : { وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ } أي : بإستفادة علم ، وتجارة ، وأمتعة غريبة ، وجهاد ، وهداية ، وغوص فيه ؛ لاستخراج لآليه ، وصيد منه : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : نعمة هذا التسخير ، فتعبدوه وحده ، وتصرفوا ما أنعم به عليكم ، إلى ما خلقتم له .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ 13 ] .
{ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي : في آيات الله وحججه وأدلته ، فيعتبرون بها ويتفكرون . قال المهايمي : منها أن ربط بعض العالم بالبعض دليل توحيده ، وجعل البعض سبب البعض ، دليل حكمته ، وجعل الكل مسخراً للإنسان ، دليل كمال جوده . فمن أنكر هذه الآيات ، ولم يشكر هذه النعم ، استوجب أعظم ، وجوه الانتقام .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ } [ 14 ] .
{ قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا } أي : صدّقوا بالله ، واتبعوك : { يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ } أي : لا يخافون بأس الله ، ونقمه ، ووقائعه بأعدائه : { لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : من علمهم . ومنه العفو ، والتجاوز عن بعض ما يؤذي ويوحش . وقد روي أنها نزلت في عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقد شتمه رجل من غفار ، فهمّ أن يبطش به ، فتكون الآية مدنية . قيل : يؤيده ما أورد على كونها مكية . من أن من أسلم بها كانوا مقهورين فلا يمكنهم الانتصار منهم ، والعاجز لا يؤمر بالعفو والصفح ، وأجيب بأن المراد أنه يفعل ذلك بينه وبين الله بقلبه ، ليثاب عليه . مع أن دوام عجز كل أحد منهم غير معلوم . فالصواب أن الآية مكية كالسورة . ومعنى نزولها في عمر - إن صح - صدقها على قضيته ، والاستشهاد بها لسماحه . كما حققنا المراد من النزول ، غير ما مرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } [ 15 ] .
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ } أي : لكونه افتكّها من العذاب : { وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا } أي : أساء عمله بمعصية ربه ، فعلى نفسه جنى ؛ لأنه أوبقها بذلك : { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } أي : تصيرون . فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ 16 ] .
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ } أي : التوراة : { وَالْحُكْمَ } أي : الفهم بالكتاب والعلم بالسنن التي تنزل بالكتاب : { وَالنُّبُوَّةَ } أي : جعلنا منهم أنبياء ، ورسلاً إلى الخلق : { وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ } يعني المنّ ، والسلوى : { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } أي : عالمي أهل زمانهم ، بإيتائهم ما لم يؤت غيرهم . كما قال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ 17 ] .
{ وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ } أي : حججاً وبراهين ، وأدلة قاطعات ، تأبى الاختلاف ، ولكن أبوا إلا الاختلاف : { فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ } أي : ظلماً وتعدياً منهم ، لطلب الحظوظ العاجلة : { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : بالمؤاخذة ، والمجازاة . قال ابن كثير : وهذا فيه تحذير لهذه الأمة ، أن تسلك مسلكهم ، وأن تقصد منهجهم ؛ ولهذا قال جل وعلا :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [ 18 ] .
{ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ } أي : على طريقة ، وسنة ، ومنهاج من أمر الدين ، الذي أمرنا به من قبلك من رسلنا : { فَاتَّبِعْهَا } أي : تلك الشريعة الثابتة بالدلائل ، والحجج : { وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } يعني المشركين ، وما هم عليه من الأهواء التي لا حجة عليها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } [ 19 ] .
{ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً } أي : لن يدفعوا عنك من غضبه ، وعقابه شيئاً ما { وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } أي : أعوان ، وأنصار على المؤمنين ، وأهل الطاعة ، أو في التخزب والتقوى ، ولكن ماذا تغنيهم ولايتهم لبعضهم ، وقد تخلت عناية الله ونصرته عنهم ؟ : { وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } أي : من اتقاه بعبادته وحده ، وخشيته بكفايته من بغى عليه ، وكاده بسوء . والأظهر تفسير الآية بآية : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } [ البقرة : 257 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ * أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } [ 20 - 21 ] .
{ هَذَا } أي : القرآن : { بَصَائِرُ لِلنَّاسِ } أي : يبصرون به الحق من الباطل ، ويعرفون به سبيل الرشاد . قال الزمخشري : جعل ما فيه من معالم الدين والشرائع ، بمنزلة البصائر في القلوب كما جعل روحاً وحياة ، أي : فهو تشبيه بليغ : { وَهُدًى } أي : من الضلالة : { وَرَحْمَةٌ } أي : من العذاب لمن آمن وأيقن : { لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ } أي : يطلبون اليقين : { أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ } أي : اكتسبوا سيئات الأعمال : { أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } أي : من عدم التفاوت .
قال الزمخشري : والمعنى إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محياً ، وأن يستووا مماتاً ، لافتراق أحوالهم أحياء حيث عاش هؤلاء على القيام بالطاعات ، وأولئك على ركوب المعاصي ، ومماتاً حيث مات هؤلاء على البشرى بالرحمة ، والوصول إلى ثواب الله ورضوانه ، وأولئك على اليأس من رحمة الله ، والوصول إلى هول ما أعدّ لهم . انتهى .
وزد عليه : حيث عاش هؤلاء على الهدى ، والعلم بالله ، وسنن الرشاد ، وطمأنينة القلب ، وأولئك على الضلال ، والجهل ، والعبث بالفساد ، واضطراب القلب ، وضيق الصدر ، بعدم معرفة المخرج المشار إليه بآية : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً } [ طه : 124 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } [ 22 ] .
{ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ } أي : بالحكمة والصواب . قال ابن جرير : أي : للعدل والحق ، لا لما حسب هؤلاء الجاهلون بالله ، من التسوية بين الأبرار والفجار ؛ لأنه خلاف العدل والإنصاف : { وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } قال الزمخشري : معطوف على بالحق ؛ لأن فيه معنى التعليل ، أو على معلل محذوف ، تقديره ، خلق الله السموات والأرض ليدل بها على قدرته ، ولتجزى كل نفس : { وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } أي : في جزاء أعمالهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } [ 23 ، 24 ] .
{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } أي : من ترك متابعة الهدى إلى متابعة الهوى ، فكأنه يعبده ، فجعله إلهاً تشبيه بيلغٍ أو استعارة . قال القاشاني : الإله المعبود ، ولما أطاعوا الهوى فقد عبدوه وجعلوه إلهاً ؛ إذ كل ما يعبده الْإِنْسَاْن بمحبته وطاعته ، فهو إلهه لو كان حجراً ! : { وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } أي : عالماً بحاله ، من زوال استعداده ، وانقلاب وجهه ، إلى الجهة السفلية ، أو مع كون ذلك العابد للهوى عالماً بعلم ما يجب عليه فعله في الدين ، على تقدير أن يكون : { عَلَىْ عِلْمٍ } حالاً من الضمير المفعول في : { أَضَلَّهُ اللَّهُ } لا من الفاعل ، وحينئذ يكون الإخلال لمحالفته علمه بالعمل ، وتختلف القدم عن النظر ؛ لتشرب قلبه بمحبة النفس وغلبة الهوى ، أو على علم منه غير نافع ؛ لكونه من باب الفضول ، ليس فيه إلى الحق سلوك ووصول : { وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ } أي : بالطرد من باب الهدى ، والإبعاد عن محل سماع كلام الحق وفهمه ، لمكان الرين ، وغلظ الحجاب ، فلا يعقل منه شيئاً : { وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً } أي : عن رؤية حجج الله ، وآياته : { فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ } أي : فمن يوقفه لإصابة الحق بعد إضلال الله إياه : { أَفَلَا تَذَكَّرُونَ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } أي : ما الحياة ، أو الحال غير حياتنا هذه التي نحن فيها : { نَمُوتُ } أي : بالموت البدني الطبيعي { وَنَحْيَا } أي : الحياة لجسمانية الحسية ، لا موت ولا حياة غيرهما : { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ } أي : مرّ الليالي ، والأيام ، وطول العمر : { وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } أي : وما يقولون ذلك عن علم ، ولكن عن ظن ، وتخمين . و : { ذلك } إشارة إلى نسبة الحوادث إلى الدهر ، أو إلى إنكار البعث ، أو إلى كليهما . قال الزمخشري : كانوا يزعمون أن مرور الأيام ، والليالي هو المؤثر في هلاك الأنفس ، وينكرون ملك الموت ، وقبضه الأرواح بأمر الله ، وكانوا يضيفون كل حادثة وحدث إلى الدهر والزمان , وترى أشعارهم ناطقة بشكوى الزمان ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم < لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر > أي : فإن الله هو الآتي بالحوادث لا الدهر . انتهى .
وقال الخطابي ، معناه أنا صاحب الدهر , ومدبر الأمور التي تنسبونها إلى الدهر . فمن سب الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور ، عاد سبه إلى ربه الذي هو فاعلها . وإنما الدهر زمان جعل ظرفاً لمواقع الأمور . وكان عادتهم إذا أصابهم مكروه أضافوه إلى الدهر فقالوا : بؤساً للدهر ، وتباً للدهر . انتهى .
قال ابن كثير : وقد غلط ابن حزم . ومن نحا نحوه من الظاهرية ، في عدّهم الدهر من الأسماء الحسنى ؛ أخذاً من هذا الحديث . انتهى .
تنبيه :
في هذه الآية رد على الدهرية ، وهم المعطلة بأن متمسكهم ظن وتخمين . لم يشم رائحة اليقين . وما هذا سبيله ، فباب القبول في وجهه مسدود : { إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً } [ يونس : 36 ] .
قال الشهرستاني في معطلة العرب : فصنف منهم أنكروا الخالق ، والبعث ، والإعادة ، وقالوا بالطبع المحيي والدهر المنفي . وهم الذين أخبر عنهم القرآن المجيد : { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا } . إشارة إلى الطبائع المحسوسة في العالم السفلي ، وقصر الحياة والموت على تركبها وتحللها .
فالجامع هو الطبع ، والمهلك هو الدهر : { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } . فاستدل عليهم بضرورات فكرية ، وآيات فطرية ، في كم آية وسورة فقال تعالى : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ } [ الأعراف : 184 ] { أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ الأعراف : 185 ] . وقال : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ } [ النحل : 48 ] ، وقال : { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } [ فصلت : 9 ] . وقال : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ } [ البقرة : 21 ] . فثبتت الدلالة الضرورية من الخلق على الخالق . فإنه قادر على الكمال ، إبداءً وإعادةً . انتهى . ولي في الرد على الدهريين ، وهم الماديون والطبيعيون ، كتاب وسمته " دلائل التوحيد " فليرجع إليه المريد ، فليس وراءه ، بحمده تعالى ، من مزيد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 25 ] .
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } أي : بأن الله باعث خلقه يوم القيامة : { مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي : انشروهم أحياء ، حتى نصدق ببعثنا أحياء بعد مماتنا ، وإطلاق الحجة على ذلك ، إما حقيقة بناء على زعمهم ، فإنهم ساقوه مساق الحجة ، أو هو مجاز تهكماً بهم . كأنه قيل : ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة . بمعنى أن لا حجة لهم البتة ، وفيه مبالغة لتنزيل التضاد منزلة التجانس .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [ 26 ] .
{ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } أي : قل لهم في جواب قولهم : { وَمَا يُهْلِكُنا إلا الدَّهْرُ } : قل الله يحييكم ثم يميتكم ، لا الدهر . لما عرف من وجوب رجوع العالم إلى واجب الوجود ، هو سبب الأسباب ، ومصدر الكائنات ، أو قل لهم - في جواب إنكارهم البعث - : بأن من قدر على الإبداء ، قدر على الإعادة ، والحكمة اقتضت الجمع للمجازاة ، على ما مرّ مراراً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ } [ 27 ] .
{ وَلَلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ } أي : فلا مالك غيره ، ولا معبود سواه : { وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ } أي : الذين أتوا بالباطل في أقوالهم وأفعالهم ، وهم عَبْدة غيره تعالى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } [ 28 - 31 ] .
{ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } أي : باركة ، مستوفرة على الركب لا حراك بها . شأن الخائف المنتظر لما يكره وذلك عن السحاب أو في الموقف الأول ، وقت البعث قبل الجزاء : { كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا } أي : اللوح الذي أثبت فيه أعمالهم ، ويعطى بيمين من كان سعيداً ، وشمال من كان شقياً { الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ } أي : يشهد عليكم بما عملتم بلا زيادة ولا نقصان ، وإنما أضاف صحائف أعمالهم إلى نفسه تعالى ، لأنه أمر الكتبة أن يكتبوا فيها أعمالهم : { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ } أي : نستكتب الملائكة : { مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي : ما صلح به حالهم في المعاد الجسماني : { فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ } أي : في جنته : { ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : فيقال لهم : { أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } أي : بكسب الآثام ، والكفر بالله ، وعدم التصديق بمعاده ، ولا الإيمان بثواب وعقاب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } [ 32 ] .
{ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ } أي : أي : شيء هي ؟ أي : لا نستيقن بها : { إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } أي : إنها كائنة وآتية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون * وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ * ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } [ 33 - 35 ] .
{ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا } أي : قبائح أعمالهم ، أو عقوبات أعمالهم السيئات : { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون } يعني الجزاء : { وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا } أي : نترككم في العذاب ترك ما يُنسى ، كما تركتم التأهب له . فـ : { نَنْسَاكُمْ } استعارة أو مجاز مرسل : { وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } أي : خدعتكم حتى آثرتموها على الآخرة وزعمتم أن لا حياة سواها : { فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا } أي : من النار : { وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } أي : ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم أي : يرضوه ، من الإعتاب ، وهو إزالة العتب . كناية عن الإرضاء ، أو : لا هم يردون إلى الدنيا ليتوبوا ويراجعوا الإنابة ، فما بعد الموت مستعتب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 36 ، 37 ] .
{ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ } أي : الثناء الكامل . قال ابن جرير : أي : فلله الحمد على نعمه ، وأياديه عند خلقه ، فإياه فاحمدوا أيها الناس ، فإن كل ما بكم من نعمة فمنه ، دون ما تعبدون من دونه ، من آلهة ووثن : { رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : الاستعلاء ، ونهاية الرفع والكبر على كل شيء ، وغاية العلو ، والعظمة باستغنائه عنه ، وافتقاره إليه : { وَهُوَ الْعَزِيزُ } أي : القوي القاهر لكل شيء : { الْحَكِيمُ } قال القاشاني : أي : المرتب لاستعداد كل شيء ، بلطف تدبيره ، المهيّء لقبوله ، لما أراد منه من صفاته ، بدقيق صنعته ، وخفي حكمته : { لا إله إلا هو رب العالمين } .
وافق الفراغ من تفسير هذه السورة قبيل ظهر الاثنين رابع عشر جمادى الآخرة عام 1326 بمنزلنا بدمشق الشام . بقلم جامعه جمال الدين القاسمي .(/)
سورة الأحقاف
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ } [ 1 - 3 ] .
{ حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ } أي : الحكمة ولإقامة العدل في الخلق { وَأَجَلٍ مُّسَمًّى } أي : وبتقدير أجل معين لكل منها ، يفنيه إذا هو بلغه ، وهو يوم القيامة { وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا } أي : من هول ذلك اليوم : { مُعْرِضُونَ } أي : لا يؤمنون .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 4 ] .
{ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } أي : من الأوثان التي تعبدونها { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ } أي : أروني ما تأثير ما تعبدونه في شيء أرضيّ بالاستقلال ، أو شيء سماوي بالشركة ، حتى تستحق العبادة { اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا } تبكيت لهم بتعجيزهم عن الإتيان بسند نقلي ، بعد تبكيتهم بالتعجيز عن الإتيان بسند عقلي . أي : ائتوني بكتاب إلهي من قبل هذا القرآن الناطق بالتوحيد ، وإبطال الشرك ، دالّ على صحة دينكم { أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ } أي : أو بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين ، شاهدة باستحقاقهم للعبادة { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي : في دعواكم ، فإنها لا تكاد تصح ، ما لم يقم عليها برهان عقلي ، أو سلطان نقلي . وحيث لم يقم عليها شيء منهما ، وقد قامت على خلافها أدلة العقل والنقل ، تبين بطلانها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } [ 5 ] .
{ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ } أي : دعاءه لعجزه عنها : { إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } أي : لأنهم إما جمادات ، وإما مسخّرون مشغولون بأحوالهم . والغفلة : مجاز عن عدم الفائدة فيها ، أو هو تغليب لمن يتصور منه الغفلة على غيره .
لطيفة :
قال الناصر : في قوله : { إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ } نكتة حسنة . وذلك أنه جعل يوم القيامة غاية لعدم الاستجابة ، ومن شأن الغاية انتهاء المغيّا عندها ، لكن عدم الاستجابة مستمر بعد هذه الغاية ؛ لأنهم في القيامة أيضاً لا يستجيبون لهم . فالوجه - والله أعلم - أنها من الغايات المشعرة بأن ما بعدها ، وإن وافق ما قبلها ، إلا أنه أزيد منه زيادة بينة تلحقه بالثاني ، حتى كأن الحالتين ، وإن كانتا نوعاً واحداً لتفاوت ما بينهما ، كالشيء وضده ، وذلك أن الحالة الأولى التي جعلت غايتها القيامة ، لا تزيد على عدم الاستجابة . والحالة الثانية التي في القيامة ، زادت على عدم الاستجابة بالعداوة ، وبالكفر بعبادتهم إياهم . فهو من وادي ما تقدم آنفاً في سورة الزخرف في قوله : { بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ } [ الزخرف : 29 - 30 ] انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ 6 ] .
{ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ } أي : جمعوا يوم القيامة لموقف الحساب : { كَانُوا } أي : آلهتهم : { لَهُمْ أَعْدَاء } أي : لتبرئهم منهم . قال الشهاب : أعداء استعارة ، أو مجاز مرسل للضارّ { وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } قال ابن جرير : أي : وكانت آلهتهم التي يعبدونها في الدنيا ، بعبادتهم جاحدين ؛ لأنهم يقولون يوم القيامة : ما أمرناهم بعبادتنا ، ولا شعرنا بعبادتهم إيانا ، تبرّأنا إليك منهم ، يا ربنا ! أي : فالتكذيب بلسان المقال ، قصداً إلى بيان أن معبودهم في الحقيقة الشياطين ، وأهواؤهم . و قال القاشاني : كانوا أعداء ، لأن عبادة أهل الدنيا لسادتهم وخدمتهم إياهم ، لا تكون إلا لغرض نفسانيّ . وكذا استعباد الموالي لخدمهم ، فإذا ارتفعت الأغراض ، وزالت العلل والأسباب ، كانوا لهم أعداء ، وأنكروا عبادتهم ، ويقولن : ما خدمتمونا ، ولكن خدمتم أنفسكم . كما قيل في تفسير قوله : { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } [ الزخرف : 67 ] انتهى .
وقيل : الضمير في : { كَانُوا } في الموضعين ، للعابدين ، لئلا يلزم التفكيك . وفيه نظر : لأنه اختلاف المتبادر من السياق ؛ إذ هو لبيان حال الآلهة معهم ، لا عكسه ، ولأن كفرهم حينئذ إنكار لعبادتهم . وتسميته كفراً ، خلاف الظاهر أيضاً . وقد أوضح ذلك آية : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 82 ] . والقرآن يفسر بعضه بعضاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ 7 ] .
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي : بادهوه بالجحود أول ما سمعوه , من غير إجالة فكر , ولا إعمال رؤية . واللام في : { لِلْحَقِّ } لام الأجل متعلقة بـ : { قَاْلَ } وقيل : بمعنى الباء متعلقة بـ : { كَفَرُوا } وعُدّي الكفر باللام حملاً على نقيضه ، وهو الإيمان ؛ فإنه يُعدى بها نحو : { أَنُؤْمِنُ لَكَ } [ الشعراء : 111 ](/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ 8 ] .
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً } أي : لا تقدرون أن تدفعوا عني سوءاً ، إن أصابني به . وأم - على ما قالوا - منقطعة مقدرة بـ : بل ، الإضرابية وهمزة الاستفهام ، المتجوز به عن الإنكار والتعجيب ، ووجه كون الافتراء أشنع من السحر ، حتى أضرب عنه ، أن الكذب خصوصاً على الله متفق على قبحه ، حتى ترى كل أحد يشمئز من نسبته إليه بخلاف السحر ، فإنه ، وإن قبح ، فليس بهذه المرتبة ، حتى تكاد تعد معرفته من السمات المرغوبة . وقال الناصر : هذا الإضراب في بابه مثل الغاية التي قدمتها آنفاً في بابها ، فإنه انتقال إلى موافق ، لكنه أزيد من الأول ، فنزل لزيادته عليه ، مع ما تقدمه مما ينقص عنه ، منزلة المتنافيين ، كالنفي والإثبات اللذين يضرب عن أحدهما للآخر ، وذلك أن نسبتهم للآيات إلى أنها مفتريات ، أشدّ وأبعد من نسبتها إلى أنها سحر . فأضرب عن ذلك الأول إلى ما ذكر ما هو أغرب منه . انتهى .
{ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ } أي : تخوضون في حقه من أنه سحر أو أفك : { كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } أي : يشهد لي بالصدق بما يؤيدني به من آياته ، وصدق مواعيده : { وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } أي : لمن راجع منكم الكفر ، وتاب ، وآمن .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [ 9 ] .
{ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ } أي : ما كنت أول رسل الله التي أرسلها إلى خلقه . قد كان من قبلي له رسل كثيرة أرسلت إلى أمم قبلكم ، فلم تستنكرون بعثتي ، وتستبعدون رسالتي ، كقوله : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ } [ آل عِمْرَان : 144 ] ، والبدع : كالبديع ، بمعنى الجديد المبتدأ . قال ابن جرير : ومن البدع قول عديّ بن زيد :
~فَلَاْ أَنَاْ بِدْعٌ مِنْ حَوَاْدِثَ تَعْتَرِيْ رِجَاْلاً عَرَتْ مِنْ بَعْدِ بُؤْسَىْ وَأَسْعُدِ
ومن البديع قول الأحوص :
~فَخَرَتْ فَانْتَمَتْ فَقُلْتُ : ذَرِيْنِيْ لَيْسَ جَهْلٌ أُتِيْتِهِ بِبِدِيْعِ
{ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ } قال أبو السعود : أي : أي : شيء يصيبنا فيما يستقبل من الزمان ، من أفعاله تعالى ، وماذا يقدّر لنا من قضاياه . وعن الحسن رضي الله عنه : ما أدري ما يصير إليه أمري ، وأمركم في الدنيا . وقيل : يجوز أن يكون المنفي هو الدراية المفصلة . والأظهر أن ما عبارة عما ليس علمه من وظائف النبوة من الحوادث والواقعات الدنيوية ، دون ما سيقع في الآخرة ، فإن العلم بذلك من وظائف النبوة ، وقد ورد به الوحي الناطق بتفاصيل ما يفعل بالجانبين . انتهى .
وهذا الأظهر يقرب من قول الحسن . وهو ما عول عليه ابن جرير . قال ابن كثير : بل لا يجوز غيره . كيف ؟ وهو صلى الله عليه وسلم جازم بأنه صائر إلى الجنة ، هو ومن اتبعه بإحسان . وأما في الدنيا ، فلم يدر ما كان يؤول إليه أمره ، وأمر مشركي قريش ، أيؤمنون ، أم يكفرون فيعذبون فيستأصلون بكفرهم . فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أم العلاء ، وكانت بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت : طار لنا في السكنى ، حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين ، عثمان بن مظعون رضي الله عنه ، فاشتكى عثمان عندنا ، فمرضناه . حتى إذا توفي أدرجناه في أثوابه ، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت : رحمة الله عليك ، أبا السائب ! شهادتي عليك لقد أكرمك الله عز وجل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < أما هو فقد جاءه اليقين من ربه ، وإني لأرجو له الخير . والله ! ما أدري - وأنا رسول الله - ما يفعل بي ! > قالت : فقلت : والله ! لا أزكي أحداً بعده أبداً وأحزنني ذلك . فنمت ، فرأيت لعثمان رضي الله عنه عيناً تجري ، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ذاك عمله > فقد انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم ، وفي لفظ له : < ما أدري - وأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - ما يفعل به > . وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ ، بدليل قولها : فأحزنني ذلك . وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعيّن بالجنة ، إلا الذي نص الشارع على تعيينهم ، كالعشرة ، وابن سلام ، والعميصاء ، وبلال ، وسراقة ، وعبد الله بن عَمْرو بن حرام ، والدجابر ، والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة ، وزيد بن حارثة ، وجعفر ، وابن رواحة ، وما أشبه هؤلاء رضي الله عنهم . انتهى كلام ابن كثير .
و قال المهايمي : { وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ } أي : فيما لو يوح إليّ . والوحي ببعض الأمور لا يستلزم العلم بالباقي . ولم يكن لي أن أضم إلى الوحي كذباً من عندي .
{ إِنْ أَتَّبِعُ } أي : في تقرير الأمور الغيبية : { إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي : منذر عقاب الله على كفركم به ، أَبَان لكم إنذاره ، وأبان لكم دعاءه إلى ما فيه صلاحكم ، وسعادتكم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ 10 ] .
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ } أي : القرآن منزلاً من لدنه ، عليّ . لا سحراً ، ولا مفترى كما تزعمون : { وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي : من الواقفين على أسرار الوحي بما أوتوا من التوراة : { عَلَى مِثْلِهِ } أي : مثل القرآن ، وهو ما في التوراة من الأحكام المصدقة للقرآن من الإيمان بالله وحده ، وهو ما يتبعه ، كقوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ } [ الشعراء : 196 ] ، وقوله : { إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } [ الأعلى : 18 - 19 ] ، أو على مثل ما ذكر من كونه من عند الله تعالى . أو على مثل شهادة القرآن ، فجعل شهادته على أنه من عند الله ، شهادة على مثل شهادة القرآن ؛ لأنه بإعجازه كأنه يشهد لنفسه بأنه من عند الله ، أو المثل صلة والفاء ، في قوله تعالى : { فَآمَنَ } للدلالة على أنه سارع إلى الإيمان بالقرآن ، لما علم أنه من جنس الوحي الناطق بالحق : { وَاسْتَكْبَرْتُمْ } أي : عن الإيمان به بعد هذه الشهادة .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } استئناف مشعر بأن كفرهم ، لضلالهم المسبب عن ظلمهم ، ودليل على الجواب المحذوف . مثل : أَلَسْتُمْ ظَالِمِينَ . أو فَمَنَ أَضَل ُّمِنْكُمْ . وذلك عدم الهداية مما ينبئ عن الضلال قطعاً ، فيكون كقوله في الآية الأخرى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } [ فصلت : 52 ] .
قال أبو السعود : ووصفهم بالظلم للإشعار بعلة الحكم ، فإن تركه تعالى لهدايتهم ، لظلمهم .
تنبيه :
روي أن الشاهد هو عبد الله بن سلام ، فتكون الآية مدنية مستثناة من السورة ، كما ذكره الكواشي ؛ لأن إسلامه كان بالمدينة . وأجيب : بأن لا حاجة للاستثناء ، وأن الآية من باب الإخبار قبل الوقوع ، كقوله : { وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ } [ الأعراف : 48 ] . ويرشحه أن : { شَهِدَ } معطوف على الشرط الذي يصير به الماضي مستقبلاً ، فلا ضير في شهادة الشاهد بعد نزولها ، ويكون تفسيره به بياناً للواقع ، لا على أنه مراد بخصوصه منها . هذا ما حققوه . ويقرب مما نذكره كثيراً من المراد من سبب النزول في مثل هذا ، وأنه استشهاد على ما يتناوله اللفظ الكريم .
ثم أشار إلى حكاية نوع من أباطيلهم في التنزيل والمؤمنين به ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ } [ 11 ] .
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ } أي : الإيمان ، أو ما أتى به الرسول : { خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } أي : لو كان من عند الله لكنا أولى به ، كسائر الخيرات من المال ، والجاه .
قال ابن كثير : يعنون بلالاً ، وعماراً ، وصهيباً ، وخباباً رضي الله عنهم ، وأشباههم ، وأضرابهم من المستضعفين ، والعبيد ، والإماء ، وما ذاك إلّا لأنهم عند أنفسهم يعتقدون أن لهم عند الله وجاهة ، وله بهم عناية . وقد غلطوا في ذلك غلطاً فاحشاً ، وأخطأوا خطأً بيّناً ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا } [ الأنعام : 53 ] أي : يتعجبون كيف اهتدى هؤلاء دوننا ، ولهذا قالوا : { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } ، وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل ، وقول لم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم : هو بدعة ؛ لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه ؛ لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها . انتهى { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ } أي : بالقرآن : { فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ } أي : كذب قديم ، كما قالوا : { أسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } . قال ابن كثير : فيتنقصون القرآن وأهله ، وهذا هو الكبر الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < بطر الحق وغمط الناس > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ } [ 12 ] .
{ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً } أي : قدوة يؤتم به في دين الله ، وشرائعه ، ورحمة لمن آمن به ، وعمل بما فيه { وَهَذَا } أي : الذي يقولون فيه ما يقولون : { كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ } أي : لكتاب موسى من غير تعلم من أنزل عليه إياه : { لِّسَاناً عَرَبِيّاً } أي : بيّناً واضحاً , وفي تقييد الكتاب بذلك ، مع أن عربيته أمر معلوم الدلالة ، على أن تصديقه لها باتحاد معناه معها ، وهي غير عربية . ومثله لا يكون ممن يعرف ذلك اللسان بغير وحي من الله تعالى { لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ 13 - 14 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ } أي : لا غيره { ثُمَّ اسْتَقَامُوا } أي : على العمل الصالح . قال القاضي : أي : جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم ، والاستقامة في الأمور ، التي هي منتهى العمل . و : { ثُمَّ } للدلالة على تأخير رتبة العمل ، وتوقف اعتباره على التوحيد : { فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي : من هول يوم القيامة : { وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } أي : لا يحزنهم الفزع الأكبر { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَاْن بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [ 15 ] .
{ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَاْن بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً } وقرئ : { حُسْناً } ، وهذا تمهيد لمن عقهما وعصاهما في الإيمان المذكور ، في قوله تعالى : { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ } [ الأحقاف : 17 ] الآية .
{ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } أي : ذات كره ، أو حملاً ذا كره ، وهو المشقة { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ } أي : حمله جنيناً في بطنها ، وفطامه من الرضاع : { ثَلَاثُونَ شَهْراً } أي : تمضي عليها بمعاناة المشاق ، ومقاساة الشدائد لأجله ، مما يوجب للأم مزيد العناية ، وأكيد الرعاية ، لا يقال : بقي ثلاثة أشهر ، لأن أمد الرضاع حولان ، لأنا نقول : إن الحولين أمد من أراد تمام الأجل ، وإلا فأصله أقل منهما ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [ البقرة : 233 ] ، ولئن سلم أنهما أمدها ، فيكون في الآية الاكتفاء بالعقود ، وحذف الكسور ، جرياً على عرفهم في ذلك ، كما ذكروه في حديث أنس في وفاته صلى الله عليه وسلم على رأس ستين سنة ، مع أن الصحيح أنه توفي عن ثلاث وستين ، كما بين في شرح الشمائل . قالوا : إن الراوي للأولى اقتصر فيها على العقود , وترك الكسور ، وسرّ ذلك هو القصد إلى ذكر المهم ، وما يكتفي به فيما سيق له الكلام ، لا ضبط الحساب ، وتدقيق الأعداد .
قال ابن كثير : وقد استدل علي رضي الله عنه بهذه الآية مع التي في لقمان : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [ لقمان : 14 ] ، وقوله تبارك وتعالى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [ البقرة : 233 ] ، على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وهو استنباط قوي صحيح ، ووافقه عليه عثمان ، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم .
{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } أي : استحكم قوته ، وعقله : { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي } أي : ألهمني : { أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ } أي : بالهداية للتوحيد ، والعمل بطاعتك ، وغير ذلك { وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي } أي : واجعل الصلاح سارياً في ذريتي ، راسخاً فيهم : { إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ } أي : من ذنوبي التي سلفت مني : { وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } أي : المستسلمين لأمرك ونهيك ، المنقادين لحكمك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } [ 16 ] .
{ أُوْلَئِكَ } أي : الموصوفون بالتوبة والاستقامة : { الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا } أي : من الصالحات فنجازيهم عليها : { وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ } أي : فلا نعاقبهم عليها لتوبتهم : { فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ } أي : معدودين في زمرتهم ثواباً ومقاماً .
قال الشهاب : والظاهر أنه من قبيل : { وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } [ يوسف : 20 ] ليدل على المبالغة بعلوّ منزلتهم فيها ؛ إذ قولك : فلان من العلماء . أبلغ من قولك : عالم . ولم يبينوه ههنا ، ومن لم يتبنه لهذا قال في بمعنى مع . انتهى .
{ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } أي : وعدهم تعالى هذا الوعد ، وعدَ الحق في الدنيا ، وهو موفيه لهم في الآخرة ، كما قال : { وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } [ الطور : 21 ] .
ثم بين تعالى نعت من عصى ما وصى به من الإحسان لوالديه ، من كل ولد عاق كافر ، وما له في مآله ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } [ 17 ] .
{ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ } أي : حين دعواه إلى الإيمان والاستقامة : { أُفٍّ لَّكُمَا } أي : من هذه الدعوة : { أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ } أي : أبعث من قبري بعد فنائي : { وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي } أي : هلكت ولم يرجع أحد منهم : { وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ } أي : يطلبان الغياث بالله منه . والمراد إنكار قوله ، واستعظامه ، كأنهما لجأا إلى الله في دفعه ، كما يقال : العياذ بالله ! أو المعنى : يطلبان أن يغيثه الله بالتوفيق ، حتى يرجع عما هو عليه : { وَيْلَكَ آمِنْ } أي : صدق بوعد الله ، وأقرّ أنك مبعوث بعد موتك . و : { وَيْلَكَ } في الأصل معناه الدعاء بالهلاك ، فأقيم مقام الحث على فعلٍ أو تركٍ ، للإيماء إلى أن مرتكبه حقيق بأن يطلب له الهلاك ، فإذا سمع ذلك ترك ما هو فيه ، وأخذ ما ينجعه : { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } أي : إن وعده تعالى لخلقه ، بأنه يبعثهم من قبورهم إلى موقف الحساب ، لمجازاتهم بأعمالهم ، حق لا شك فيه : { فَيَقُولُ } أي : مجيباً لوالديه ، ورادّاً عليهما نصيحتهما ، وتكذيباً بوعد الله : { مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } أي : أباطيلهم التي كتبوها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } [ 18 ] .
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ } أي : الإلهي ، وهو العذاب : { فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ } أي : الذين كذبوا رسل الله ، وعتوا عن أمره : { إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } أي : ببيعهم الهدى بالضلال ، والباقي بالفاني .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } [ 19 ] .
{ وَلِكُلٍّ } أي : من الفريقين : { دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا } أي : مراتب من جزاء ما عملوا من صالح وسيء : { وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ } أي : جزاءها : { وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } أي : ينقص ثواب ، ولا زيادة عقاب .
تنبيه :
روى ابن جرير عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في ابن لأبي بكر الصديق . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر ، قال لأبويه - وهما أبو بكر وأم رومان ، وكانا قد أسلما ، وأبى هو أن يسلم ، فكانا يأمرانه بالإسلام ، فكان يرد عليهما ويكذبهما ويقول : فأين فلان ، وأين فلان ؟ يعني مشايخ قريش ممن قد مات . فأسلم بعد ، فحسن إسلامه - فنزلت توبته في هذه الآية : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا } .
قال الحافظ ابن حجر : لكن نفي عائشة أن تكون نزلت في عبد الرحمن وآل بيته ، أصح إسناداً وأولى بالقبول ؛ وذلك ما رواه البخاري ، والإسماعيلي ، والنسائي ، وأبو يعلى أن مروان كان عاملاً على المدينة ، فأراد معاوية أن يستخلف يزيد ، فكتب إلى مروان بذلك ، فجمع مروان الناس فخطبهم ، فذكر يزيد ، ودعا إلى بيعته وقال : إن الله أرى أمير المؤمنين في يزيد رأياً حسناً ، وإن يستخلفه ، فقد استخلف أبو بكر وعمر . فقال عبد الرحمن : ما هي إلا هرقلية ! فقال مروان : سنة أبي بكر وعمر . فقال عبد الرحمن : هرقلية ! إن أبا بكر ، والله ! ما جعلها في أحد من ولده ، ولا في أهل بيته ، وما جعلها معاوية إلا كرامة لولده ! فقال مروان : خذوه . فدخل بيت عائشة ، فلم يقدروا عليه . فقال مروان : إن هذا الذي أنزل الله فيه : { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي } فقالت عائشة من وراء الحجاب : ما أنزل الله فينا سيئاً من القرآن ، إلا أن الله أنزل عذري . ولو شئت أن أسمي من نزلت فيه لسميته ، ولكن رسول الله لعن أبا مروان ، ومروانُ في صلبه .
ومما يؤيده أن : { الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ } هم المخلدون في النار في علم الله تعالى ، وعبد الرحمن كان من أفاضل المسلمين ، وسرواتهم ، وحاول بعضهم عدم التنافي بأن يقع منه ذلك قبل إسلامه ، ثم يسلم بعد ذلك . ومعلوم أن الإسلام يجبّ ما قبله ، وأن معنى الوعيد في الآية إنما هو للمصرّين عليه الذين لم يقلعوا ، لكثرة ما ورد في العفو عن التائبين ، وقد نزل من الوعيد الشديد في أول البعثة آيات لا تحصى ، وكلها تنعى على من كان مشركاً آنئذٍ ، ولم يقل أحد بشمولها لهم بعد إيمانهم ، أو أن فيها ما يحط من أقدارهم ، ويجعلها مغمزاً لهم ، إلا أن مروان لم يجد لمقاومة ما ألقمه إلا الشغب ، وشغل الناس عن باطله بنغمة يطرب لها الجهلة ، وقالةٍ يلوكها الرعاع ، وهم الذين يهمه أمرهم . ويرحم الله عبد الرحمن ! فقد شفى الغلة ، وصدع بالحق ، في حين أن لا ظهير له ، ولا نُصَيْر - والله أعلم - .
قال ابن قتيبة في " المعارف " : أربعة رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسق : أبو قحافة ، وابنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر ، وابنه محمد بن عبد الرحمن .
وقال أيضاً : قيل : كان عبد الرحمن من أفضل قريش ، ويكنى أبا محمد ، وله عقب بالمدينة ، وليسوا بالكثير ، مات فجأة سنة ثلاث وخمسين بجبلٍ يقرب من مكة ، فأدخلته عائشة الحرم ودفنته وأعتقت عنه . انتهى .
وفي دمشق في مقبرة باب الفراديس ، المسماة بالدحداح ، مزار يقال إنه عبد الرحمن بن أبي بكر ، نسب إليه زوراً . وما أكثر المزَوّرات في المزارات ، كما يعلمه من دقّق في الوفيات .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } [ 20 ] .
{ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ } أي : يقال لهم أذهبتم : { طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا } عطف تفسير لقوله : { أَذْهَبْتُمْ } أي : فما بقي لكم من اللذائذ شيء لاستيفائكم إياها : { فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } أي : الهوان : { بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } أي : بغير ما أباح لكم وأذن : { وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } أي : عن طاعته ، فأبعدكم عن كرامته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ 21 ] .
{ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ } يعني هوداً : { إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ } جمع حقف ، وهو الرمل المستطيل المرتفع . قال قتادة ذكر لنا أن عاداً كانوا حيّاً باليمن ، أهل رمل ، مشرفين على البحر { وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } أي : وقد مضت الرسل بإنذار أممها قبله وبعده ، متفقين على : { أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ } أي : لا تشركوا مع الله شيئاً في عبادتكم إياه . وقال كل واحد منهم عليه السلام : { إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ } أي : من عبادة غير الله : { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي : بمقدار هتكهم ، عذاب الله بالشرك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } [ 22 ، 23 ] .
{ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا } أي : لتصرفنا : { عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } أي : من العذاب على عبادتنا إياها : { إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } أي : في وعدك أنه آت لا محالة { قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ } أي : إني ، وإن علمت إتيانه قطعاً ، فلا أعلم وقت مجيئه ؛ لأن العلم بوقته عنده تعالى ، فيأتيكم به في وقته الذي قدره له : { وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } . قال الطبري : أي : مواضع حظوظ أنفسكم ، فلا تعرفون ما عليها من المضرة بعبادتكم غير الله ، وفي استعجال عذابه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } [ 24 ، 25 ] .
{ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ } أي : فلما جاءهم عذاب الله الذي استعجلوه ، فرأوه عارضاً في ناحية من نواحي السماء ، متجهاً نحو مزارعهم : { قَالُوا هَذَا عَارِضٌ } أي : سحاب عارض : { مُّمْطِرُنَا } أي : بغيث نحيا به : { بَلْ هُوَ } أي : قال هود بل هو : { مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ } أي : من العذاب : { رِيحٌ } أي : هي ريح ، أو بدل من ما , : { فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ } أي : تهلك : { كُلَّ شَيْءٍ } أي : من أموالهم وأنفسهم : { بِأَمْرِ رَبِّهَا } أي : إذنه الذي لا يعارض ، فلم تدفع عنهم آلهتهم ، بل دمّرتهم : { فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ } أي : بيوتهم . ثم أشار إلى أن هذا لا يقتصر على عاد ، بل ينتظر لمن كان على شاكلتهم من أهل مكة ، وغيرها ، بقوله : { كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } أي : الكافرين إذا تمادوا في غيّهم ، وطغوا على ربهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون } [ 26 ] .
{ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ } أي : مكنّا عاداً ، وآتيناهم من كثرة الأموال وقوة الأجسام ، فيما لم نمكنكم فيه من الدنيا ، على أن : إن شرطية محذوفة الجواب . والتقدير : ولقد مكناهم في الذي ، أو في شيء ، إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر . وقيل : هي صلة كما في قوله :
~يُرَجَّى الْمَرْءُ مَاْ إِنْ لَاْ يَرَاْهُ وَيَعْرِضُ دُوْنَ أَدْنَاْهُ الْخُطُوْبُ
قال الزمخشري : والوجه هو الأول . ولقد جاء عليه في غير آية في القرآن : { هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً } [ مريم : 74 ] ، { كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً } [ غافر : 82 ] وهو أبلغ في التوبيخ ، وأدخل في الحث على الاعتبار .
قال الناصر : واختص بهذه الطائفة قوله تعالى : { وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } [ فصلت : 15 ] ، وقوله : { مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ } [ الأنعام : 6 ] أي : والأصل توافق المعاني في الآي الواردة في نبأ واحد . على ما فيه أيضاً من سلامة الحذف ، والزيادة .
{ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً } قال الطبري : أي : جعلنا لهم سمعاً يسمعون به مواعظ ربهم ، وأبصاراً يبصرون بها حجج الله ، وأفئدة يعقلون بها ما يضرهم ، وينفعهم { فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ } أي : لأنهم لم يستعملوها فيما خلقت له ، بل في خلافه : { إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون } أي : من العذاب .
قال الطبري : وهذا وعيد من الله عز وجل ثناؤه ، لقريش . يقول لهم : فاحذروا أن يحل بكم من العذاب على كفركم بالله ، وتكذيبكم رسله ، ما حلّ بعاد ، وبادروا بالتوبة قبل النقمة .
لطيفة :
قال الشهاب : أفرد السمع في النظم ، وجمع غيره ، لاتحاد المدرك به ، وهو الأصوات ، وتعددت مدركات غيره ، ولأنه في الأصل مصدر ، وأيضاً مسموعهم من الرسل متحد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ 27 ] .
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم } أي : ما حول قريتكم يا أهل مكة : { مِّنَ الْقُرَى } أي : كجحر ثمود ، وأرض سدوم ، ومأرب ونحوها ، فأنذرنا أهلها بالمثلات ، وخربنا ديارها ، فجعلناها خاوية على عروشها : { وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ } أي : وعظناهم بأنواع العظات ، وبيّنا لهم ضروباً من الحجج : { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي : عن الكفر بالله ورسله . قال الطبري : وفي الكلام متروك ، ترك ذكره استغناء بدلالة الكلام عليه ، وهو : فأبوا إلا الإقامة على كفرهم ، والتمادي على غيّهم ، فأهلكناهم ، فلم ينصرهم منا ناصر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [ 28 ] .
{ فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً } أي : فهلا نصر هؤلاء الذين أهلكناهم من الأمم الخالية قبلهم ، أوثانهم التي اتخذوا عبادتها قرباناً يتقربون بها ، فيما زعموا ، إلى ربهم إذ جاءهم بأسنا ، فتنقذهم من عذابنا ، إن كانت تشفع لهم عند ربهم ، كما قالوا : { هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } [ يونس : 18 ] .
{ بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ } أي : غابوا عن نصرهم ، وامتنع أن يستمدوا بهم ، امتناع الاستمداد بالضالّ ففي : { ضَلُّوا } استعارة تبعية : { وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ } أي : ضياع آلهتهم عنهم ، وامتناع نصرهم إثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة { وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي : وإثر افترائهم في أنها شفعاؤهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } [ 29 - 32 ] .
{ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ } أي : أملناهم إليك ، وأقبلنا بهم نحوك : { يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا } أي : ليتم التدبر والتفكر : { فَلَمَّا قُضِيَ } أي : فرغ من قراءته ، كمل تأثيرهم به ، فأرادوا التأثير به ، لذلك : { وَلَّوْا } أي : رجعوا : { إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } أي : عما هم فيه من الضلال { قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى } أي : المتفق على تعظيم كتابه . أي : وقد علمنا صدقه لكونه : { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : من هذه الكتب كلها ، وقد فُضّل عليها إذ : { يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ } أي : معرفة الحقائق : { وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي : لا عوج فيه ، وهو الإسلام .
قال ابن كثير : أي : يهدي إلى الحق في الاعتقاد والأخبار ، وإلى طريق مستقيم في الأعمال . فإن القرآن مشتمل على شيئين : خبر وطلب . فخبره صدق ، وطلبه عدل ، كما قال تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } [ الأنعام : 115 ] وقال تعالى : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } [ التوبة : 33 ] ، فالهدى هو العلم النافع . ودين الحق هو العمل الصالح . وهكذا قالت الجن : يهدي إلى الحق في الاعتقادات ، وإلى طريق مستقيم ، أي : في العمليات { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ } أي : رسول الله محمداً إلى ما يدعوكم إليه من طاعة الله { وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ } أي : بمعجز ربّه ، بهربه إذا أراد تعالى عقوبته ؛ لأنه في قبضته وسلطانه ، أنّى اتجه { وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء } أي : نصراء ينصرونه من الله إذا عاقبه { أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } أي : أخذ على غير استقامة .
تنبيهات :
الأول - روى الإمام مسلم عن علقمة قال : سألت ابن مسعود رضي الله عنه : هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال : لا ، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه ، فالتمسناه في الأودية والشعاب ، فقيل : استطير ، اغتيل ! قال : فبتنا بشرّ ليلة بات فيها قوم . فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حِراء . قال : فقلنا : يا رسول الله ! فقدناك فطلبناك فلم نجدك ، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم . فقال : < أتاني داعي الجن ، فذهبت معهم ، فقرأت عليهم القرآن > قال : فانطلق بنا ، فأرانا آثارهم .
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان الجن يستمعون الوحي ، فيسمعون الكلمة ، فيزيدون فيها عشراً . فيكون ما سمعوا حقاً ، وما زادوا باطلاً . وكانت النجوم لا يُرمى بها قبل ذلك . فلما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب ، فشكوا ذلك إلى إبليس ، فقال : ما هذا إلا من أمر قد حدث . فبثّ جنوده ، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يصلّي بين جبلي نخلة ، فأتوه فأخبروه ، فقال : هذا الحدث الذي حدث في الأرض . ورواه الترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سننيهما . وهكذا قال الحسن البصري : إنه صلى الله عليه وسلم ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله تعالى عليه بخبرهم .
وذكر محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ، ودعائه إياهم إلى الله عز وجل ، وإبائهم عليه ، فذكر القصة بطولها ، ثم قال : فلما انصرف عنهم ، بات بنخلة ، فقرأ تلك الليلة من القرآن ، فاستمعته الجن من أهل نصيبين . قال ابن كثير : وهذا صحيح ، ولكن قوله : إن الجن كان استماعهم تلك الليلة . فيه نظر ؛ فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء ، كما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور . وخرُوجُه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف كان بعد موت عمه ، وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين ، كما قرره ابن إسحاق وغيره .
وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال : هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة ، فلما سمعوه قالوا : أنصتوا ، فأنزل الله عز وجل عليه : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ } الآية . قال ابن كثير : فهذا مع الأول من رواية ابن عباس رضي الله عنهما ، يقتضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة ، وإنما استمعوا قراءته ، ثم رجعوا إلى قومهم ، ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالاً : قوماً بعد قوم ، وفوجاً بعد فوج . فأما ما رواه البخاري ومسلم جميعاً عن معن بن عبد الرحمن قال : سمعت أبي يقول : سألت مسروقاً : من آذن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة استمعوا القرآن ؟ فقال : حدثني أبوك - يعني ابن مسعود رضي الله عنه - أنه آذنته بهم شجرة ، فيحتمل أن يكون هذا في المرة الأولى ، ويكون إثباتاً مقدماً على نفي ابن عباس رضي الله عنهما ، ويحتمل أن يكون في الأولى ، ولكن لم يشعر بهم حال استماعهم حتى آذنته بهم الشجرة ، أي : أعلمته باجتماعهم ، ويحتمل أن يكون هذا في بعض المرات المتأخرات ، والله أعلم .
قال الحافظ البيهقي : وهذا الذي حكاه ابن عباس رضي الله عنهما إنما هو أول ما سمعت الجن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلمت حاله ، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ، ولم يرهم ، ثم بعد ذلك أتاه داعي الجن ، فقرأ ، عليهم القرآن ، ودعاهم إلى الله عز وجل - كما رواه ابن مسعود رضي الله عنه - .
ثم قال ابن كثير : وأما ابن مسعود رضي الله عنه ، فإنه لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حال مخاطبته للجن ، ودعائه إياهم ، وإنما كان بعيداً منه ، ولم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم أحد سواه ، ومع هذا ، لم يشهد حال المخاطبة . هذه طريقة البيهقي . وقد يحتمل أن يكون أول مرة خرج إليهم ، لم يكن معه صلى الله عليه وسلم ابن مسعود ولا غيره ، كما هو ظاهر سياق الرواية الأولى من طريق الإمام مسلم ، ثم بعد ذلك خرج معه ليلة أخرى - والله أعلم - كما روى ابن أبي حاتم في تفسير : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ } من حديث ابن جريح قال : قال عبد العزيز بن عُمَر : أما الجن الذين لقوه بنخلة فجن نينوى ، وأما الجن الذين لقوه بمكة ، فجن نصيبين .
وتأول البيهقي قوله : فبتنا بشرّ ليلة . على غير ابن مسعود ، ممن لم يعلم بخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الجن ، وهو محتمل ، على بُعدٍ ، وبالجملة ، فقد روي ما يدل على تكرار ذلك . وقد روي عن ابن عباس غير ما روي عنه أولاً من وجه جيد عن ابن جرير في هذه الآية ، قال : كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين ، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم ، فهذا يدلّ على أنه قد روى القصتين . وذكر أبو حمزة الثمالي أن هذا الحي من الجن كانوا أكثر الجن عدداً , وأشرفهم نسباً . وعن ابن مسعود أنهم كانوا تسعة . ويروى أنهم كانوا خمسة عشر ، وروي ستين ، وروي ثلاثمائة . وعن عِكْرِمَة أنهم كانوا اثني عشر ألفاً . قال ابن كثير : فلعل هذا الاختلاف دليل على تكرر وفادتهم عليه صلى الله عليه وسلم . ومما يدل على ذلك ما رواه البخاري في " صحيحه " أن عبد الله بن عُمَر رضي الله عنهما قال : ما سمعت عمر رضي الله عنه لشيء قط يقول : إني لأظنه هكذا ، إلا كان كما يظن . بينما عُمَر بن الخطاب جالس ، إذ مر به رجل جميل فقال : لقد أخطأ ظني ، أو إن هذا على دينه في الجاهلية ، أو لقد كان كاهنهم . عليّ الرجل . فدعي له ، فقال له ذلك ، فقال : ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم . قال : فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني !
قال : كنت كاهنهم في الجاهلية . قال : فما أعجب ما جاءتك به جنيتك ؟ قال : بينا أنا يوماً في السوق ، جاءتني أعرف فيها الفزع ، فقالت : ألم تر الجن وإبلاسها ويأسها من بعد إنكاسها ، ولحوقها بالقلاص وأحلاسها ؟ قال عمر : صدق ! بينما أنا نائم عند آلهتهم ، إذ جاء رجل بعجل فذبحه ، فصرخ به صارخ ، لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه ، يقول : يا جليح ! أمر نَجِيْح ، رجل فصيح ، يقول : لا إله إلا الله . قال فوثب القوم . فقلت : لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا . ثم نادى : يا جليح ! أمر نَجِيْح ، رجل فصيح ، يقول : لا إله إلا الله . فقمت ، فما نشبنا أن قيل : هذا نبي - هذا سياق البخاري - وقد رواه البيهقي من حديث ابن وهب بنحوه .
ثم قال : وظاهر هذه الرواية يوهم أن عمر رضي الله عنه بنفسه سمع الصارخ يصرخ من العجل الذي ذبح . وكذلك هو صريح في رواية ضعيفة عن عمر رضي الله عنه . وسائر الروايات تدل على أن هذا الكاهن هو الذي أخبر بذلك عن رؤيته وسماعه - والله أعلم - .
وهذا الرجل هو سواد بن قارب . قال البيهقي : وسواد بن قارب يشبه أن يكون هو الكاهن الذي لم يذكر اسمه في الحديث الصحيح . ثم روى بسنده عن البراء قال : بينما عُمَر بن الخطاب يخطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال : أيها الناس ! أفيكم سواد بن قارب ؟ قال ، فلم يجبه أحد تلك السنة . فلما كانت السنة المقبلة قال أيها الناي ! أفيكم سواد بن قارب ؟ قال ، فقلت : يا أمير المؤمنين ! وما سواد بن قارب ؟ قال ، فقال له عمر : إن سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئاً عجيباً ! قال : فبينما نحن كذلك ، إذ طلع سواد بن قارب . قال ، فقال له عمر : يا سواد ! حدثنا ببدء إسلامك كيف كان ؟ . قال سواد : فإني كنت نازلاً بالهند ، وكان لي رَئِيٌّ من الجن . قال : فبينا أنا ذات ليلة نائم إذ [ في المطبوع : إذا ] جاءني في منامي ذلك ، قال : قم فافهم ، واعقل إن كنت تعقل ! قد بعث رسول من لؤي بن غالب ، ثم أنشأ يقول :
~عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَتَحْسَاْسِهَاْ وَشَدَّهَا الْعِيْسَ بِأَحْلَاْسِهَاْ
~تَهْوِيْ إِلَىْ مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَىْ مَاْ خيِّرُ الْجِنَّ كَأَنْجَاْسِهَاْ
~فَانْهَضْ إِلَى الْصَّفْوَةِ مِنْ هَاْشِمٍ وَاسْمُ بِعَيْنَيْكَ إِلَىْ رَاْسِهَاْ
قال : ثم أنبهني فأفزعني وقال : يا سواد بن قارب ! إن الله عزّ وجل بعث نبياً ، فانهض إليه تهتد وترشد . فلما كان من الليلة الثانية ، أتاني فأنبهني ، ثم أنشأ يقول :
~عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَتَطْلَابِهَاْ وَشَدَّهَا الْعِيْسَ بِأَقتَاْبِهَاْ
~تَهْوِيْ إِلَىْ مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَىْ وَلَيْسَ قُدْمَاْهَاْ كَأَذْنَاْبِهَاْ
~فَانْهَضْ إِلَى الْصَّفْوَةِ مِنْ هَاْشِمٍ وَاسْمُ بِعَيْنَيْكَ إِلَىْ قَاْبِهَاْ
فلما كان في الليلة الثالثة ، أتاني فأنبهني ، ثم قال :
~عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَتَخْبَاْرِهَاْ وَشَدَّهَا الْعِيْسَ بِأَكْوَاْرِهَاْ
~تَهْوِيْ إِلَىْ مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَىْ وَلَيْسَ ذَوُو الشَّرِّ كَأَخْيَاْرِهَاْ
~فَانْهَضْ إِلَى الْصَّفْوَةِ مِنْ هَاْشِمٍ مَاْ مُؤْمِنُو الْجِنِّ كَكُفَّاْرِهَاْ
قال : فلما سمعه تكرر ليلة بعد ليلة ، وقع في قلبي حب الإسلام من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله . قال : فانطلقت إلى رحلي ، فشددته على راحلتي ، فما حللت نسعة ، ولا عقدت أخرى ، حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو بالمدينة - يعني مكة - والناس عليه كعرف الفرس ، فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم قال : < مرحباً بك يا سواد بن قارب ، قد علمنا ما جاء بك > . قال : قلت : يا رسول الله ! قد قلت شعراً ، فاسمعه مني ! قال صلى الله عليه وسلم : < قل يا سواد > ، فقلت :
~أَتَاْنِيْ رَئِيِّيْ بَعْدَ لَيْلٍ وَهَجْعَةٍ وَلَمْ يَكُ فِيْمَا قَدْ بَلَوْتُ بِكَاْذِبِ
~ثَلَاْثَ لَيَاْلٍ ، قَوْلَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ : أَتَاْكَ رَسَوْلٌ مِنْ لُؤَيَّ بْنِ غَاْلِبِ
~فَشَمَّرْتُ عَنْ سَاْقِيْ الْإِزْاَرِ وَوَسَّطَتْ بِي الدِّعْلِبُ الْوَجْنَاْءُ بَيْنَ السَّبَاْسِبِ
~فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ لَاْ رَبَّ غَيْرَهُ وَأَنَّكَ مَأْمُوْنٌ عَلَىْ كُلِّ غَاْئِبِ
~وَأَنَّكَ أَدْنَى الْمُرْسَلِيْنَ وَسِيْلَةً إِلَىْ اللَّهِ ، يَا ابْنَ الْأَكْرَمِيْنَ الْأَطَاْيِبِ
~فَمُرْنَاْ بِمَاْ يَأْتِيْكَ يَاْ خَيْرَ مُرْسَلٍ وَإِنْ كَاْنَ فِيْمَاْ جَاْءَ شَيْبَ الذَّوَاْئِبِ
~وَكُنْ لِيْ شَفِيْعاً يَوْمَ لَاْ ذُوْ شَفَاْعَةٍِ سِوَاْكَ بِمُغْنٍ عَنْ سَوَاْدِ بْنِ قَاْرِبِ قال : فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ، وقال لي : أفلحت يا سواد ! فقال له عمر رضي الله عنه : هل يأتيك رئيك الآن ؟ فقال : منذ قرأت القرآن لم يأتني ، ونعم العوض كتاب الله عز وجل من الجن . ثم أسنده البيهقي من وجهين آخرين . انتهى كلام ابن كثير .
وقد ساقه الإمام المارودي في " أعلام النبوة " مع نظائر له ، في الباب السادس عشر ، في هتوف الجن ، ثم قال : ولئن كانت هذه الهتوف أخبارَ آحاد ، عمن لا يرى شخصه ، ولا يحج قوله ، فخروجه عن العادة نذير ، وتأثيره في النفوس بشير ، وقد قبلها السامعون . وقبول الأخبار يؤكد صحتها ، ويؤيد حجتها . فإن قيل : إن كانت هتوف الجن من دلائل النبوة ، جاز أن تكون دليلاً على صحة الكهانة ، فعنه جوابان :
أحدهما : أن دلائل النبوة غيرها ، وإنما هي من البشائر بها ، وفرق بين الدلالة والبشارة إخباراً .
والثاني : أن الكهانة عن مغيّب ، والبشارة عن معين ، فالعيان معلوم ، والغائب موهوم . انتهى .
التنبيه الثاني :
قال المارودي : في صرف الجن المذكور في قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ } [ الأحقاف : 29 ] ، وجهان :
أحدهما - أنهم صرفوا عن استراق سمع السماء ، برجوم الشهب ، ولم يصرفوا عنه بعد عيسى إلا بعد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : ما هذا الحادث في السماء ، إلا لحادثٌ في الأرض ، وتخيلوا به تجديد النبوة ، فجابوا الأرض ، حتى وقفوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن مكة عامداً إلى عكاظ ، وهو يصلي الفجر ، فاستمعوا القرآن ، ورأوه كيف يصلي ، ويقتدي به أصحابه ، فعلموا أنه لهذا الحادث ، صرفوا عن استراق السمع برجوم الشهاب . وهذا قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه .
أقول : وعليه فتكون إلى - في إليك - بمعنى لام التعليل . وذُكر في " المغني " أنها تأتي مرادفة اللام ، نحو : { وَالأَمْرُ إلَيْكِ } [ النمل : 33 ] . وفيه تكلف وبعدٌ ؛ لنبوّه عما يقتضيه سياق بقية الآية .
ثم قال المارودي : وحكى عِكْرِمَة أن السورة التي كان يقرؤها : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [ العلق : 1 ] . أقول : سيأتي مرفوعاً عن جابر أنها سورة الرحمن .
ثم قال المارودي :
والوجه الثاني - أنهم صرفوا عن بلادهم بالتوفيق ، هداية من الله تعالى ، حتى أتوا نبي الله ببطن نخلة ، فنزل عليه جبريل بهذه الآية ، وأخبره بوفود الجن ، وأمره بالخروج إليهم ، فخرج ومعه ابن مسعود ، حتى جاء الحجون . قال ابن مسعود : فخط عليّ خطّاً وقال : لا تجاوزه .
فعلى الوجه الأول ، لم يعلم بهم حتى أتوه . وعلى الوجه الثاني ، أعلمه جبريل قبل إتيانهم . واختلف أهل العلم في رؤيته لهم ، وقراءته عليهم . فحكى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرهم ، ولم يقرأ عليهم ، وإنما سمعوا قراءته حين مرّوا به مصلياً . وحكى ابن مسعود أنه رآهم . وقرأ عليهم القرآن .
أقول : تقدم لابن كثير ما فيه كفاية - .
ثم قال المارودي : وفي قوله : { فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا } [ الأحقاف : 29 ] وجهان :
أحدهما - فلما حضروا قراءته القرآن ، قالوا : أنصتوا لسماعه .
والوجه الثاني : فلما حضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : أنصتوا لسماع قوله . انتهى .
قال ابن كثير : وهذا - أي : قولهم أنصتوا - أدب منهم . وقد روى البيهقي عن جابر قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ، ثم قال : < مالي أراكم سكوتاً ؟ لَلْجِن كانوا أحسن منكم رداً ؛ ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 42 ] ، إلا قالوا : ولا بشيء من آلائك أو نعمك ربنا نكذب ، فلك الحمد > ورواه الترمذي وقال : لا نعرفه إلا من حديث الوليد ابن مسلم عن زهير .
الثالث - دل قوله تعالى : { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ } [ الأحقاف : 31 ] ، على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عام الرسالة إلى الإنس والجن .
قال ابن كثير : لأنه دعا الجن إلى الله تعالى ، وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين ، وتكليفهم ، ووعدهم ، ووعيدهم ، وهي سورة الرحمن ، ولهذا قال : { أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ } [ الأحقاف : 32 ] . قال المارودي : لم يختلف أهل العلم أنه يجوز أن يبعث إليهم رسولاً من الإنس ، واختلفوا في جواز بعثة رسول منهم ، فجوزه قوم لقول الله تعالى : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } [ الأنعام : 130 ] ، ومنع آخرون منه . وهذا قول من جعلهم من ولد إبليس ، وحملوا قوله : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } على الذين لما سمعوا القرآن ، ولّوا إلى قومهم منذرين . انتهى .
أقول : ونظيره تسمية رسل عيسى عليه السلام رسلاً في آية : { إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ } [ يس : 14 ] .
الرابع - استدل بقوله : { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } من ذهب من العلماء إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة ، وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة ؛ إذ لو كان لهم جزاء على الإيمان أعلى من هذا ، لأوشك أن يذكروه .
قال المارودي : فأما كفارهم فيدخلون النار ، وأما مؤمنوهم ، فقد اختلفوا في دخولهم الجنة ثواباً على إيمانهم . فقال الضحاك : ومن جوز أن يكون رسلهم منهم ، يدخلون الجنة . وحكى سفيان عن ليث أنهم يثابون على الإيمان بأن يجازوا على النار خلاصاً منها ، ثم يقال : لهم : كونوا تراباً كالبهائم . انتهى .
والحق - كما قال ابن كثير - أن مؤمنهم كمؤمن الإنس ، يدخلون الجنة ، كما هو مذهب جماعة من السلف . وقد استدل بعضهم لهذا بقوله عز وجل : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ } [ الرحمن : 56 ] ، وفي هذا الاستدلال نظر ، وأحسن منه قوله جل وعلا : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 46 - 47 ] ، فقد امتن تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة . وقد قابلت الجن هذه الآية بالشكر القوليّ أبلغ من الإنس ، فقالوا : ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب ، فلك الحمد . فلم يكن تعالى ليمتن عليهم بجزاء لا يحصل لهم .
وأيضاً ، فإنه إذا كان يجازي كافرهم بالنار ، وهو مقام عدل ، فلأن يجازي مؤمنهم بالجنة ، وهو مقام فضل ، بطريق الأولى والأحرى ، ومما يدل أيضاً على عموم ذلك قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً } [ الكهف : 107 ] ، وما أشبه ذلك من الآيات . وما ذكروه ههنا من الجزاء على الإيمان ، من تكفير الذنوب ، والإجارة من العذاب الأليم ، هو يستلزم دخول الجنة ؛ لأنه ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار . فمن أجير من النار دخل الجنة لا محالة ، ولم يرد معنا نص صريح , ولا ظاهر عن الشارع ، أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة ، وإن أجيروا من النار ، ولو صح لقلنا به ، والله أعلم . وهذا نوح عليه الصلاة والسلام يقول لقومه : { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً } [ نوح : 4 ] ولا خلاف أن مؤمني قومه في الجنة ، فكذلك هؤلاء . وقد حكي فيهم أقوال غريبة . فعن عُمَر بن عبد العزيز أنهم لا يدخلون بحبوحة الجنة ، وإنما يكونون في ربضها ، وحولها ، وفي أرجائها .
ومن الناس من زعم أنهم في الجنة يراهم بنو آدم ، ولا يرون بني آدم بعكس ما كانوا عليه في الدار الدنيا ، ومن الناس من قال : لا يأكلون في الجنة ولا يشربون ، وإنما يلهمون التسبيح ، والتحميد ، والتقديس ، عوضاً عن الطعام والشراب ، كالملائكة ؛ لأنهم من جنسهم ، وكل هذه الأقوال فيها نظر ، ولا دليل عليها . انتهى .
الخامس - قيل : سر التبعيض في قوله : { مِّن ذُنُوبِكُمْ } أن من العذاب ما لا يغفر بالإيمان ، كذنوب المظالم ، أي : حقوق العباد . وفيه نظر ؛ لأن الحربي لو نهب الأموال المصونة ، وسفك الدماء المحقونة ، ثم حسن إسلامه ، جبّ الإسلام عنه إثم ما تقدم ، بلا إشكال . ويقال : إنه ما وعد المغفرة للكافر على تقدير الإيمان في كتاب الله تعالى إلا مبعضة ، والسر فيه أن مقام الكافر قبض لا بسط ، فلذلك لم يبسط رجاؤه كما في حق المؤمن - أفاده الناصر - .
السادس - قال ابن كثير : جمعوا في دعواهم قومهم بين الترغيب والترهيب ، ولهذا نجع في كثير منهم ، وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفوداً وفوداً ، كما تقدم بيانه .
السابع - قال المارردي : الجن من العالم الناطق المميز ، يأكلون ، ويتناكحون ، ويتناسلون ، ويموتون ، وأشخاصهم محجوبة عن الأبصار ، وإن تميزوا بأفعالٍ وآثارٍ ، إلا أن الله يخص برؤيتهم من يشاء ، وإنما عرفهم الإنس من الكتب الإلهية ، وما تخيلوه من آثارهم الخفية .
و قال القاشاني : الجن نفوس أرضية تجسدت في أبدان لطيفة مركبة من لطائف العناصر ، سماها حكماء الفرس : الصور المعلقة . ولكونها أرضية متجسدة في أبدان عنصرية ، ومشاركتها الإنس في ذلك ، سمّيا ثقلين . وكما أمكن الناس التهدي بالقرآن أمكنهم ، وحكاياتهم من المحققين وغيرهم أكثر من أن يمكن رد الجميع ، وأوضح من أن يقبل التأويل . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 33 ] .
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } أي : بإعادة الروح إلى الجسد ، بعد مفارقتها إياه ، وإخراجهم من قبورهم كهيئتهم قبل وفاتهم . وفي ابن جرير بحث نحوي في دخول الباء في : { بِقَادِرٍ } بديع . ويذكر في مباحث زيادة الباء ، في مطولات العربية .
{ بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : من إعادة المعدوم ، ولو فني الجسد وغيره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } [ 34 ، 35 ] .
{ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا } أي : على الإحياء إحياء : { بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ فَاصْبِرْ } أي : على تبليغ الرسالة وتكذيبهم وإيذائهم : { كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } أي : أولو الثبات والجد منهم ، فإنك منهم . والعزم - في اللغة - كالعزيمة ، ما عقدت قلبك عليه من أمر . والعزم أيضاً القوة على الشيء والصبر عليه . فالمراد به هنا المجتهدون ، المجدّون ، أو الصابرون على أمر الله فيما عهده إليهم ، وقدره وقضاه عليهم . ومطلق الجد ، والجهد ، والصبر موجود في جميع الرسل ، بل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وكثير من الأولياء . فلذا ذهب جمهور المفسرين في هذه الآية إلى أنهم جميع الرسل ، وأن من بيانية لا تبعيضية ، فكل رسول من أولي العزم ، فإن أريد به معنى مخصوص ببعضهم ، فلا بد من بيانه ليظهر وجه التخصيص . ومنشأ الاختلاف في عددهم إلى أقوال :
أحدها - أنهم جميع الرسل . والثاني - أنهم أربعة : نوح وإبراهيم وموسى ومحمد . والثالث - أنهم خمسة بزيادة عيسى ، كما قيل :
~أُوْلِي الْعَزْمِ نُوْحٌ وَالْخَلِيْلُ الْمُمَجَّدُ وَمَوْسَىْ وَعِيْسَىْ وَالنَّبِيِّ مُحَمَّدُ
والرابع - أنهم ستة ، بزيادة هارون أو داود . والخامس - أنهم سبعة بزيادة آدم . والسادس - أنهم تسعة ، بزيادة إسحاق ، ويعقوب ، ويوسف . وقد يزاد وينقص .
وتوجيه التخصيص أن المراد بهم من له جد وجهد تام في دعوته إلى الحق ، وذبه عن حريم التوحيد ، وحمى الشريعة ، بحيث يصبر على ما لا يطيقه سواه من عوارضه النفسية والبدنية ، وأموره الخارجية ، كمبارزة كل أهل عصره ، كما كان لنوح ، أو لملك جبار في عصره ، وانتصاره عليه من غير عدة دنيوية ، كنمروذ إبراهيم ، وجالوت داود ، وفرعون موسى ، ولكل موسى فرعون ، ولكل محمد أبو جهل . وكالابتلاء بأمور لا يصبر عليها البشر بدون قوة قدسية ، ونفس ربانية ، كما وقع لأيوب عليه الصلاة والسلام . ومن هنا كشف برقع الخفاء عن وجه التخصيص ، وهذا مما كشف بركاتهم سره - أفاده الشهاب - .
{ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } أي : ولا تستعجل بمساءلتك ربك العذاب لهم ، فإن ذلك نازل بهم لا محالة ، وإن اشتد عليك الأمر من جهتهم { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ } أي : من عذاب الله ، ونكاله ، وخزيه الذي ينزل بهم في الدنيا ، أو في الآخرة : { لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً } : { مِّن نَّهَارٍ } أي : لأنه ينسيهم شدة ما ينزل بهم من عذابه ، قدر ما كانوا في الدنيا لبثوا ، ومبلغ ما فيها مكثوا .
وقوله تعالى : { بَلَاغٌ } قال ابن جرير : فيه وجهان :
أحدهما - أن يكون معناه : لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ، ذلك لبث بلاغ ، بمعنى : ذلك بلاغ لهم في الدنيا إلى أجلهم ، ثم حذف : ذلك لبث ، وهي مرادة في الكلام اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام عليها .
والآخر - أن يكون معناه : هذا القرآن والتذكير بلاغ لهم وكفاية ، إن فكروا واعتبروا ، فتذكروا . انتهى .
وأشار المهايمي إلى معنى آخر فقال : ليس من حق الرسل الاستعجال ، بل حقهم بلاغ .
{ فَهَلْ يُهْلَكُ } أي : بعذاب الله إذا أنزله بمقتضى العدل ، والحكمة : { إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } أي : الذين خالفوا أمره ، وخرجوا من طاعته ، نعوذ بالله من غضبه ، وأليم عقابه .(/)
سورة محمد
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } [ 1 ] .
{ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : جحدوا توحيد الله ، وعبدوا غيره : { وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ } أي : أعرضوا وامتنعوا عن الإقرار لله بالوحدانية ، ولنبيه بالرسالة . أو صدوا غيرهم عن ذلك { أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي : جعلها على غير هدى ورشاد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } [ 2 ] .
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي : الطاعات فيما بينهم وبين ربهم . وقوله : { وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ } أي : بما أنزل الله به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم . وإنما خصه بالذكر ، مع دخوله فيما قبله ، تعظيماً لشأنه وتعليماً ؛ لأنه لا يصح الإيمان ولا يتم إلا به ؛ إذ يفيد بعطفه أنه أعظم أركانه ، لإفراده بالذكر . وقد تأكد ذلك بالجملة الاعتراضية التي هي قوله : { وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } أي : الثابت بالواقع ، ونفس الأمر { كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } أي : ستر بإيمانهم وعملهم الصالح ، ما كان منهم من الكفر والمعاصي ، لرجوعهم عنها وتوبتهم : { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } أي : حالهم وشأنهم ، وعملهم في الدنيا بالتأييد والتوفيق .
قال الشهاب : البال يكون بمعنى الحال والشأن ، وقد يخص بالشأن العظيم ، كقوله صلى الله عليه وسلم < كل أمر ذي بال > . ويكون بمعنى الخاطر القلبيّ ، ويتجوز به عن القلب ، ولو فسر به هنا كان حسناً أيضاً . وقد فسره السفاقسي بالفكر ؛ لأنه إذا صلح قلبه وفكره ، صلحت عقيدته وأعماله . و قال ابن جرير : البال كالمصدر ، مثل الشأن ، لا يعرف منه فعل ، ولا تكاد العرب تجمعه إلا في ضرورة شعر ، فإذا جمعوه قالوا : بالات .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } [ 3 ] .
{ ذَلِكَ } أي : المذكور من فعله تعالى بالفريقين ما فعله كائن : { بِأَنَّ الَّذِينَ } أي : بسبب أن الذين : { كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } أي : يشبه لهم الأشباه ، فليحق بكل قوم من الأمثال أشكالاً .
قال الزمخشري : فإن قلت : أين ضرب الأمثال ؟ قلت : في أن جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكفار ، واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين . أو في أن جعل الإضلال مثلاً لخيبة الكفار ، وتكفير السيئات مثلاً لفوز المؤمنين . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } [ 4 ] .
{ فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ } لما كان طليعة هذه السورة تمهيداً لجهاد المشركين الساعين في الأرض بالفساد ، الصادّين عن منهج الرشاد ، وبعثاً على الصدق في قتالهم ، كسحاً لعقبة باطلهم ، عملاً بما يوجبه الإيمان ويفرضه الإيقان ، وتمييزاً لأولياء الرحمن من أولياء الشيطان ، تأثر تلك الطليعة بهذه الجملة . ولذا قال أبو السعود : الفاء لترتيب ما في حيّزها من الأمر على ما قبلها ؛ فإن ضلال أعمال الكفرة وخبثهم ، وصلاح أحوال المؤمنين وفلاحهم ، مما يوجب أن يرتب على كل من الجانبين ما يليق به من الأحكام ؛ أي : فإذا كان الأمر كما ذكر ، فإذا لقيتموهم في المحاربة ، فضرب الرقاب . وأصله : فأضربوا الرقاب ضرباً . فحذف الفعل ، وقدم المصدر ، وأنيب منابه مضافاً إلى المفعول . وفيه اختصار وتأكيد بليغ . والتعبير به عن القتل ، تصوير له بأشنع صورة ، وتهويل لأمره ، وإرشاد للغزاة إلى أيسر ما يكون منه : { حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ } أي : غلبتموهم ، وقهرتم من لم تضربوا رقبته منهم ، فصاروا في أيديكم أسرى : { فَشُدُّوا الْوَثَاقَ } بفتح الواو ، وقرئ بكسرها . وهو ما يوثق به ، أي : يربط ويشد ، كالقيد والحبل . أي : فأمسكوهم به كيلاً يقتلوكم فيهربوا منكم : { فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } أي : فإما تمنون بعد ذلك عليهم ، فتطلقونهم بغير عوض ، لزوال سبعيّتهم ، وإما تفدون فداءً ، فتطلقونهم بعوض مال ، أو مسلم أسروه فيتقوى به المسلمون ، أو يتخلص أسيرهم .
قال المهايمي : ولم يذكر القتل اكتفاء بما مر من قوله : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ } [ الأنفال : 67 ] ، وذلك فيمن يرى فيه الإمام بقاء السبعية بالكمال ، ولم يذكر الاسترقاق ؛ لأنه في معنى استدامة الأسر ، وذلك فيمن يرى فيه نوع سبعية ، ولا تزالوا كذلك : { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أي : إلى انقضاء الحرب . والأوزار : كالأحمال وزناً ومعنى ، استعير لآلات الحرب التي لا تقوم إلا بها ، استعارة تصريحية أو مكنية ، بتشبيهها بإنسان يحمل حملاً على رأسه أو ظهره ، وأثبت له ذلك تخييلاً ، وقد جاء ذكرها في قول الأعشى :
~وَأَعْدَدْتَ لِلْحَرْبِ أَوْزَاْرَهَاْ رِمَاْحاً طِوَاْلاً وَخَيْلَاً ذُكُوْرًا
وقيل : أوزارها آثامها . يعني : حتى يترك أهل الحرب - وهم المشركون - شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا .
تنبيهات :
الأول - قال في " الإكليل " : في الآية بيان كيفية الجهاد .
الثاني - للسلف قولان في أن الآية : منسوخة ، أو محكمة .
فروي عن ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي أنها منسوخة بقوله تعالى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] ، قالوا : فلم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة بعد براءة ، وانسلاخ الأشهر الحرم .
وروي عن ابن عمر ، وعطاء ، والحسن ، وعمر بن عبد العزيز ، أن الآية محكمة ليست منسوخة ، وأنه لا يجوز قتل الأسير ، وإنما له المن أو الفداء .
ووجه من ذهب إلى الأول تعارض الآيتين عنده بادئ بدء ، فلم يبق إلا القول بإحداهما وهي المطلقة .
ومدرك الثاني أن الأمر بقتلهم المجمل في آيات ، محمول على المفصل في مثل هذه الآية ، أي : إن القتل عند اللقاء ، ثم بعد انقضاء الحرب المن أو الفداء لا غير ، إلا أن تبدو مصلحة في القتل ، فتلك من باب آخر .
وثم قول ثالث : وهو كون الآية محكمة مع تفويض الأمر إلى الإمام ، وأن ذكر المن والفداء لا ينافي جواز القتل ، لعلمه من آيات أخر ، لاسيما ومرجع الأمر إلى المصلحة . وهذا القول هو الذي أختاره ، وإذا دار الأمر في الآي بين الإحكام والنسخ ، فالأول هو المرجح . وقد لا يتعارض قول من قال بالنسخ مع الذاهب إلى الإحكام ، لما قدمناه في مقدمة التفسير ، من تغاير اصطلاح السلف ، والأصوليين في النسخ .
ثم رأيت ابن جرير سبقني في ترجيح ذلك ، وعبارته :
والصواب من القول عندنا في ذلك ، أن هذه الآية محكمة غير منسوخة . وذلك أن صفة الناسخ والمنسوخ ، أنه ما لم يجز اجتماع حكميهما في حال واحدة ، أو ما قامت الحجة بأن أحدهما ناسخ الآخر ، وغير مستنكر أن يكون جعل الخيار في المن ، والفداء ، والقتل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإلى القائمين بعده بأمر الأمة ، وإن لم يكن القتل مذكوراً في هذه الآية ، لأنه قد أذن بقتلهم في آية أخرى ، وذلك قوله تعالى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] ، الآية . بل ذلك كذلك ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يفعل فيمن صار أسيراً في يده من أهل الحرب ، فيقتل بعضاً ، ويفادي ببعض ، ويمن على بعض ، مثل يوم بدر : قتل عقبة بن أبي معيط ، وقد أتي به أسيراً . وقتل بني قريظة وقد نزلوا على حكم سعد ، وصاروا في يده سلماً ، وهو على فدائهم والمن عليهم قادر ، وفادى بجماعة ، أسارى المشركين الذين أسروا ببدر ، ومن على ثمامة بن أثال الحنفي ، وهو أسير في يده . ولم يزل ذلك ثابتاً من سيره في أهل الحرب ، من لدن أذن الله له بحربهم ، إلى أن قبضه إليه صلى الله عليه وسلم دائماً ذلك فيهم . وإنما ذكر جل ثناؤه في هذه الآية المن والفداء في الأسارى ، فخص ذكرهما فيها ، لأن الأمر بقتلهم والأذن منه بذلك ، قد كان تقدم في سائر أي : تنزيله مكرراً ، فأعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بما ذكر في هذه الآية من المن والفداء ، ما له فيهم مع القتل . انتهى كلام ابن جرير .
الثالث - من فوائد الآية أيضاً جواز تخلية سبيل المشركين ، إذا ضعفت شوكتهم ، وأمنت مفسدتهم ، لأن ذلك من لوازم المن ، وقبول الفداء ، والقول بإبادة خضرائهم من غير تفصيل ، ينافيه نص هذه الآية ، وقبول النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس هجر وهم مشركون ، فتفهّم . وبالجملة ، فالذي عول عليه الأئمة المحققون رضي الله عنهم ، أن الأمير يخيّر ، بعد الظفر تخيير مصلحة لا شهوة في الأسراء المقاتلين ، بين قتال واسترقاق ، ومنّ وفداء . ويجب عليه اختيار الأصلح للمسلمين ؛ لأنه يتصرف لهم على سبيل النظر ، فلم يجز له ترك ما فيه الحظ ، كوليّ اليتيم ، لأن كل خصلة من هذه الخصال قد تكون أصلح في بعض الأسرى . فإن منهم من له قوة ونكاية في المسلمين ، فقتله أصلح . ومنهم الضعيف ذو المال الكثير ، ففداؤه أصلح ، ومنهم حسن الرأي في المسلمين ، يرجى إسلامه ، فالمنّ عليه أولى ، ومن ينتفع بخدمته ، ويؤمن شرّه ، استرقاقه أصلح - كما في " شرح الإقناع " .
الرابع - تسن دعوة الكفار إلى الإسلام قبل القتال لمن بلغته الدعوة ، قطعاً لحجته . ويحرم القتال قبلها لمن لم تبلغه الدعوة ، لحديث بريدة بن الحصيب قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على سرية أو جيش ، أمره بتقوى الله تعالى في خاصة نفسه ، وبمن معه من المسلمين . وقال : < إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث ، فإن هم أجابوك إليها فاقبل منهم ، وكف عنهم : ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم ، وكف عنهم ، فإن هم أبوا فادعهم إعطاء الجزية ، فإن أجابوك فاقبل منهم ، وكف عنهم . فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم > رواه مسلم .
وقيد الإمام ابن القيم وجوب الدعوة واستحبابها ، بما قصدهم المسلمون . أما إذا كان الكفار قاصدين المسلمين بالقتال ، فللمسلمين قتالهم من غير دعوة ، دفعاً عن نفوسهم ، وحريمهم ، وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده ، لأنه أعرف بحال الناس ، وبحال العدو ، ونكايتهم ، وقربهم ، وبعده - كما في " شرح الإقناع " - .
وقوله تعالى : { ذَلِكَ } خبر لمحذوف . أي : الأمر ذلك . أو مفعول لمقدر : { وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ } أي : لنتقم منهم بعقوبة عاجلة ، وكفاكم ذلك كله { وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ } أي : ليختبركم بهم ، فيعلم المجاهدين منكم والصابرين فيثيبهم ، ويبلوهم بكم ، فيعاقب بأيديكم من شاء منهم حتى ينيب إلى الحق { وَالَّذِينَ قُتِلُوا } أي : استشهدوا . وقرئ : قَاْتِلُوْا : { فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } [ 5 ، 6 ] .
{ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } أي : بيّنها لهم في كثير من آياته ، تعريفاً يشوق كل مؤمن أن يسعى لها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [ 7 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } أي : الظفر والتمكين في الأرض ، وإرث ديار العدو .
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } [ 8 - 9 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [ 8 - 9 ] .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ } أي : خزياً وشقاءً . وأصله من السقوط على الوجه ، كالكبِّ { وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي : جعلها على غير هدى واستقامة { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ } أي : من الحق ، وشايعوا ما ألفوه من الباطل { فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } كعبادتهم لأوثانهم ، حيث لم تنفعهم ، بل أوبقهم بها فأصلاهم سعيراً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } [ 10 ] .
{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي : من الأمم المكذّبة رسلها ، الرادة نصائحها { دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } أي : ما اختص بهم ، وكان لهم ، يقال : دمّره بمعنى أهلكه ، ودمّره عليه : أهلك ما يختص به من المال والنفس . فالثاني أبلغ ، لما فيه من العموم ، لجعل مفعوله نسياً منسياً ، فيتناول نفسه ، وكل ما يختص به . والإتيان بـ : على ؛ لتضمنه معنى أطبق عليه ، أي : أوقعه عليهم محيطاً بهم ، أو هجم الهلاك عليهم { وَلِلْكَافِرِينَ } يعني المكذّبين رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أَمْثَالُهَا } أي : أمثال عاقبة تكذيب الأمم السالفة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ * إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } [ 11 ، 12 ] .
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ } أي : لا ناصر لهم يدفع عنهم العذاب ، إذا حاق بهم { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ } أي : غير مفكّرين في المعاد ، ولا معتبرين بسنة الله ، كغفلة الأنعام عن النحر والذبح ، فلا هم لهم إلا الاعتلاف دون غيره { وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } أي : مأواهم بعد مماتهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ * أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ } [ 13 ، 14 ] .
{ وَكَأَيِّن } أي : وكم : { مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ } يعني مكة ، على حذف مضاف : { أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } أي : على برهان ، وحجة ، وبيان من أمر ربه ، والعلم بوحدانيته ، فهو يعبده على بصيرة منه { كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } أي : فأراه إياه الشيطان حسناً ، فهو مقيم عليه { وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ } [ 15 ] .
{ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ } أي : متغيّر الريح : { وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } أي : من القذى ، وما يوجد من عسل الدنيا : { وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ } أي : من فرط حرارته .
لطيفة :
{ مَثَلُ الْجَنَّةِ } مبتدأ خبره : { كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ } بتقدير حرف إنكار ومضاف ؛ أي : أمثل أهل الجنة كمثل من هو خالد . أو أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد . فلفظ الآية ، وإن كان في صورة الإثبات ، هو في معنى الإنكار والنفي ، لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار ، وانسحاب حكمه عليه ، وهو قوله : { أَفَمَن كَانَ } الخ ، وليس في اللفظ قرينة على هذا ، وإنما هو من السياق ، وإن فيه جزالة المعنى ، وثم أعاريب أخر ، هذا أمتنها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ } [ 16 ] .
{ وَمِنْهُم } أي : ومن هؤلاء الكفار : { مَّن } أي : كافر منافق : { يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } أي : من الصحابة ، استهزاء بما سمعوه من المتلو ، وتهاوناً به : { مَاذَا قَالَ آنِفاً } أي : الساعة . هل فيه هدى ؟ فإن بينوه لم يستفيدوا منه شيئاً { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } أي : فلا يدخلها الهدى لإبائهم عنه : { وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ } أي : آرائهم ، لا ما يدعوا إليه البرهان .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ } [ 17 ] .
{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا } أي : بإتباع الحق ، والمشي مع الحجة : { زَادَهُمْ هُدًى } أي : بياناً لحقيقة ما جاءهم : { وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ } أي : أعانهم عليها . أو آتاهم جزاء تقواهم ، أو بين لهم ما يتقون .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ } [ 18 ] .
{ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا } قال ابن كثير : أي : أمارات اقترابها ، كقوله تبارك وتعالى : { هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى أَزِفَتِ الْآزِفَةُ } [ النجم : 56 - 57 ] ، وكقوله جلت عظمته : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } [ القمر : 1 ] ، وقوله سبحانه وتعالى : { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ } [ النحل : 1 ] ، وقوله جل وعلا : { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 1 ] . فبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة ، لأنه خاتم الرسل ، الذي أكمل الله تعالى به الدين ، وأقام به الحجة على العالمين . وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأمارات الساعة وأشراطها ، وأبان عن ذلك وأوضحه ، بما لم يؤته نبيّ قبله ، كما هو مبسوط في موضعه .
وقال الحسن البصري : بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة ، وهو كما قال ، ولهذا جاء في أسمائه صلى الله عليه وسلم أنه نبيّ التوبة ، ونبيّ الملحمة ، والحاشر الذي يحشر الناس على قدميه ، والعاقب الذي ليس بعده نبي .
روى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بإصبعيه هكذا - بالوسطى ، والتي تليها - : < بعثت أنا والساعة كهاتين > .
{ فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ } أي : ذكرى ما قد ضيعوا وفرّطوا فيه من طاعة الله إذا جاءتهم الساعة . يعني : أن ليس ذلك بوقت ينفعهم فيه التذكر والندم ؛ لأنه وقت مجازاة ، لا وقت استعتاب واستعمال .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } [ 19 ] .
{ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } قال ابن جرير : أي : فاعلم يا محمد أنه لا معبود تنبغي أو تصلح له الألوهية ويجوز لك وللخلق عبادته ، إلا الله الذي هو خالق الخلق ، ومالك كل شيء . يدين له بالربوبية كل ما دونه . والفاء فصيحة في جواب شرط معلوم ، مما مر من أول السورة إلى هنا ، من حال الفريقين .
قال السيوطي : وقد استدل بالآية من قال بوجوب النظر ، وإبطال التقليد في العقائد ، ومن قال بأن أول الواجبات ، المعرفةُ قبل الإقرار .
{ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } قال ابن جرير : أي : وسل ربك غفران سالف ذنوبك وحادثها ، وذنوب أهل الإيمان بك من الرجال والنساء . قال الشهاب : وإنما أعيد الجار ؛ لأن ذنوبهم جنس آخر غير ذنب النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن ذنوبهم معاص كبائر وصغائر ، وذنبه ترك الأولى .
وقال السيوطي : استدل بالآية من أجاز الصغائر على الأنبياء . انتهى .
والمسألة مبسوطة بأقوالها ، وما لها وما عليها في " الفصل " لابن حزم ، فارجع إليه .
وفي " الصحيح " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : < اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي ، وإسرافي في أمري ، وما أنت أعلم به مني . اللهم اغفر لي هزلي ، وجدي ، وخطاياي ، وعمدي ، وكل ذلك عندي > .
وفي " الصحيح " أنه كان يقول في آخر الصلاة : < اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أسرفت ، وما أنت أعلم به مني . أنت إلهي لا إله إلا أنت > .
وفي " الصحيح " أنه قال : < يا أيها الناس ! توبوا إلى ربكم ، فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة > .
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } أي : متصرفكم فيما تتصرفون فيه ، وإقامتكم على ما تقيمون عليه من الأقوال والأعمال ، فيجازيكم عليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ } [ 20 ] .
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ } أي : تأمرنا بجهاد أعداء الله من الكفار { فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ } أي : مبيّنة لا تقبل نسخاً ولا تأويلاً { وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ } أي الأمر بقتال المشركين : { رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي : شك في الدين ، وضعف في اليقين : { يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } أي : من فزعهم ، ورعبهم ، وجبنهم من لقاء الأعداء . شبه نظرهم بنظر المحتضر الذي لا يطرف بصره : { فَأَوْلَى لَهُمْ } قال الشهاب : اختلف فيه ، بعد الاتفاق على أن المراد به التهديد ، والوعيد ، على أقوال :
فذهب الأصمعي إلى أنه فعل ماض بمعنى قارب . وقيل : قرّب بالتشديد ، ففاعله ضمير يرجع لما علم منه ، أي : قارب هلاكهم . والأكثر أنه اسم تفضيل من الولي ، بمعنى القرب . وقال أبو علي : إنه اسم تفضيل من الويل . والأصل أويل ، فقلب ، فوزنه أفلع . وردّ بأن الويل غير متصرف ، وأن القلب خلاف الأصل ، وفيه نظر . وقد قيل : إنه فَعلى ، من آل يؤول . وقال الرضي : إنه علم للوعيد ، وهو مبتدأ ، ولهم خبره . وقد سمع فيه أولاة بتاء تأنيث . وهو كما قيل ، يدل على أنه ليس بأفعل تفضيل ، ولا أفعل فُعلى ، وأنه علم وليس بفعل ، بل مثل أرمل وأرملة ، إذا سمي بهما ، فلذا لم ينصرف . ولا اسم فعل ؛ لأنه سمع فيه أولاةٌ معرباً مرفوعاً ، ولو كان اسم فعل بني . وفيه أن لا مانع من كون أولاة ، لفظا آخر بمعناه ، فلا يرد شيء منه عليهم أصلاً ، كما جاء أول أفعل تفضيل ، واسم ظرف كـ : قبل ، وسمع فيه أولة - كما نقله أبو حيان - فلا يرد النقص به كما لا يخفى . انتهى .
قال السمين : إذا قلنا باسميته . ففيه أوجه :
أحدهما - أنه مبتدأ ، ولهم خبره ، تقديره : فالهلاك لهم .
والثاني - أنه خبر مبتدأ مضمر ، تقديره : العقاب أو الهلاك أولى لهم ، أي : أقرب وأدنى ، ويجوز أن تكون اللام بمعنى الباء . أي : أولى وأحق لهم .
الثالث - أنه مبتدأ ، ولهم متعلق به ، واللام بمعنى الباء ، وطاعة خبره ، والتقدير : فأولى بهم طاعة دون غيرها ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } [ 21 ] .
{ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } فيه أوجه :
أحدها - أنه خبر أولى على ما تقدم .
الثاني - أنها صفة السورة . أي : فإذا أنزلت سورة محكمة طاعة ، أي : ذات طاعة ، أو مطاعة . ذكره مكيّ ، وأبو البقاء . وفيه بعد ، لكثرة الفواصل .
الثالث - أنها مبتدأ ، وقول عطف عليها ، والخبر محذوف . تقديره : أمثل بكم من غيرهما . وقدّره مكيّ : منا طاعة ، فقدّره مقدماً . الرابع - أن يكون خبر مبتدأ محذوف . أي : أمرنا طاعة .
الخامس - أن لهم : خبر مقدم ، وطاعة : مبتدأ مؤخر . والوقف والابتداء يعرفان مما قدمته ، فتأمل - أفاده السمين - .
{ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ } أي : جد الحال ، وحضر القتال : قال أبو السعود : أسند العزم ، وهو الجد إلى الأمر ، وهو لأصحابه ، مجازاً . كما في قوله تعالى : { إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [ لقمان : 17 ] ، وعامل الظرف محذوف . أي : خالفوا وتخلفوا . وقيل ناقضوا . وقيل : كرهوا . وقيل : هو قوله تعالى : { فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ } على طريقة قولك : إذا حضرني طعام ، فلو جئتني لأطعمتك . أي : فلو صدقوه تعالى فيمل قالوه من الكلام المنبئ عن الحرص على الجهاد ، بالجري على موجبه : { لَكَانَ } أي : الصدق : { خَيْراً لَّهُمْ } أي : في عاجل دنياهم ، وآجل معادهم . قيل : فلو صدقوه في الإيمان ، وواطأت قلوبهم في ذلك ألسنتهم . وأيّاً ما كان ، فالمراد بهم الذين في قلوبهم مرض ، وهم المخاطبون بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } [ 22 ] .
{ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ } أي : أعرضتم عن تنزيل الله تعالى ، وفارقتم أحكام كتابه ، وما جاء به رسوله : { أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ } أي : بالتغاور والتناهب : { وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } أي : تعودوا لما كنتم عليه في جاهليتكم من التشتت والتفرق ، بعد ما جمعكم الله بالإسلام ، وألف به بين قلوبكم ، وأمركم بالإصلاح في الأرض ، وصلة الأرحام . وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال ، وبذل الأموال . وقد ساق ابن كثير هنا من الأحاديث في صلة الرحم لباب اللباب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } [ 23 ] .
{ أُوْلَئِكَ } إشارة إلى المذكورين : { الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ } أي : عن استماع الحق لتصامهم عنه بسوء اختيارهم : { وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } أي : لتعاميهم عما يشاهدونه من الآيات المنصوبة في الأنفس ، والآفاق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [ 24 ] .
{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } قال ابن جرير : أي : أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي يعظهم بها في أي : القرآن الذي أنزله على نبيه عليه السلام ، ويتفكرون في حججه التي بينها لهم في تنزيله ، فيعلموا بها خطأ ما هم عليه مقيمون { أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } أي : فلا يصل إليها ذكر ، ولا ينكشف لها أمر . وتنكير القلوب للإشعار بفرط جهالتها ونُكرها ، كأنها مبهمة منكورة . والأقفال مجاز عما يمنع الوصول . وإضافتها إلى القلوب لإفادة الاختصاص المميز لها عما عداها ، وللإشارة إلى أنها لا تشبه الأقفال المعروفة ؛ إذ لا يمكن فتحها أبداً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ } [ 25 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم } أي : عادوا لما كانوا عليه من الكفر : { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى } أي : الحق بواضح الحجة : { الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ } أي : زين لهم ارتدادهم وحملهم عليه : { وَأَمْلَى لَهُمْ } أي : ومدّ لهم في الآمال والأماني ، أو أمهلهم الله تعالى ، فمد في آجالهم ، ولم يعاجلهم بالعقوبة . والمعنى : الشيطان سول لهم ، والله أملى لهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } [ 26 ] .
{ ذَلِكَ } إشارة إلى ما ذكر من ارتدادهم { بِأَنَّهُمْ } أي : بسبب أنهم : { قَالُوا } أي : المنافقون : { لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ } أي : لليهود الكارهين لنزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ } أي : بعض أموركم ، أو ما تأمرون به كالقعود عن الجهاد ، والتظاهر على الرسول ، أو الخروج معهم إن أخرجوا ، كما أوضح ذلك قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ } [ الحشر : 11 ] ، وهم بنو قريظة ، والنضير الذين كانوا يوالونهم ويوادّونهم { وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } أي : إخفاءهم لما يقولونه لليهود .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } [ 27 ، 28 ] .
{ فَكَيْفَ } أي : يفعلون ويدفعون ضرر الردة عليهم : { إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ } أي : التي ولوها عن الله إلى أعدائه : { وَأَدْبَارَهُمْ } أي : التي ولوها عن الأعداء إلى الله { ذَلِكَ } أي : التوفي الهائل : { بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ } أي : من إطاعة أعدائه { وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ } أي : في معاداتهم ، فأدى بهم إلى الردة : { فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } أي : التي كانت تفيدهم النجاة من ذلك الضرب ، ومن الفضائح الدنيوية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ } [ 29 ] .
{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي : نفاق تفرع منه أضغان على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين : { أَن لَّن يُخْرِجَ } أي : يظهر : { اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ } أي : أحقادهم لرسوله وللمؤمنين ، فتبقى أمورهم مستورة . والمعنى : أن ذلك مما لا يكاد يدخل تحت الاحتمال .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [ 30 ، 31 ] .
{ وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ } أي : لعرّفناكهم بدلائل تعرفهم بأعيانهم معرفة متاخمة للرؤية : { فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ } أي : بعلامتهم التي نسمهم بها : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } أي : أسلوبه وما يرمون من غير إيضاح به .
قال في " الإكليل " : استدل بالآية من جعل التعريض بالقذف موجباً للحد .
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } أي : فيجازيكم بحسب قصدكم { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ } أي : أهل المجاهدة في سبيل الله ، والصبر على المشاق : { وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } أي : أفانين أقوالكم ، وضروب بياناتكم ، وأعمال قوة ألسنتكم في نشر الحق ، والصدع به ، والدأب عليه ، هل هو متمحض لذلك ، أم فيه ما فيه من المحاباة خيفة لوم اللائم .
قال القاشاني : علم الله تعالى قسمان : سابقٌ على معلوماته إجمالاً في لوح القضاء ، وتفصيلاً في لوح القدر ، وتابع إياها في المظاهر التفصيلية من النفوس البشرية ، والنفوس السماوية الجزئية . فمعنى : { حَتَّى نَعْلَمَ } حتى يظهر علمنا التفصيليّ في المظاهر الملكوتية والإنسية ، التي يثبت بها الجزاء - والله أعلم - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ } [ 32 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ } أي : فتذهب سدى ، لا تثمر لهم نفعاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } [ 33 ، 34 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } أي : لكن يعذبهم ويعاقبهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } [ 35 ] .
{ فَلَا تَهِنُوا } أي : فلا تضعفوا أيها المؤمنون بالله عن جهاد الذين اعتدوا عليكم ، وصدوا عن سبيل الله { وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ } أي : الصلح والمسالمة : { وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ } أي : الأغلبون ، فإن كسح الضلال من طريق الحق لا منتدح عنه ، ما تيسرت أسبابه ، وقهرت أربابه : { وَاللَّهُ مَعَكُمْ } أي : بنصره ما تمسكتم بحبله : { وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } أي : لن ينقصكم ثوابها ويضيعها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ } [ 36 ] .
{ إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } أي : فلا تدعكم الرغبة في الحياة إلى ترك الجهاد : { وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ } أي : ثواب إيمانكم وتقواكم : { وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ } أي : لأنه غني عنكم ، وإنما يريد منكم التوحيد ، ونبذ الأوثان ، والطاعة لما أمر به ونهى عنه .
قال بعض المفسرين : أي : لا يسألكم جميع أموالكم ، بل يقتصر منكم على جزء يسير ، كربع العشر وعشره . إشارة إلى إفادة الجمع المضاف للمعلوم ، وهو معطوف على الجزاء . والمعنى : إن تؤمنوا لا يسألكم الجميع ، أي : لا يأخذه منكم ، كما يأخذ من الكفار جميع أموالهم . ولا يخفى حسن مقابلته لقوله : { يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ } أي : يعطكم كل الأجور ، ويسألكم بعض المال - هذا ما قاله الشهاب - .
والظاهر أن المراد بيان غناه تعالى عن عباده ، وأن طلب إنفاق الأموال منهم ، لعود نفعه إليهم لا إليه ، لاستغنائه المطلق ، فإن في الصدقات دفع أحقاد صدور الفقراء عنهم ، وفي بذله للجهاد دفع غائلة الشرور والفساد ، وكله مما يعود ثمرته عليهم .
ثم أشار تعالى إلى حكمته ، ورحمته في عدم سؤاله إنفاق أموالهم كلها ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } [ 37 ] .
{ إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا } أي : فيجهدكم بالمسألة ، ويلح عليكم بطلبها منكم ، تبخلوا بها وتمنعوها ، ضنّاً منكم بها ، ولكنه علم ذلك منكم ، ومن ضيق أنفسكم ، فلم يسألكموها .
قال الزمخشري : الإحفاء المبالغة ، وبلوغ الغاية في كل شيء . يقال : أحفاه في المسألة ، إذا لم يترك شيئاً من الإلحاح ، وأحفى شاربه ، إذا استأصله .
{ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } أي : أحقادكم ، وكراهتكم لدينٍ يذهب بأموالكم . وضمير يخرج لله تعالى ، ويعضده القراءة بنون العظمة . أو للبخل لأنه سبب الأضغان . وقرئ يخرج من الخروج ، بالياء والتاء ، مسنداً إلى الأضغان .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [ 38 ] .
{ هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي : في جهاد أعدائه ، ونصرة دينه : { فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ } أي : بالنفقة فيه { وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } أي : يمسكه عنها ، لأنه يحرمها الأجر ، ويكسبها الوزر : { وَاللَّهُ الْغَنِيُّ } أي : عن كل ما سواه ، وكل شيء فقير إليه . ولهذا قال سبحانه : { وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء } أي : بالذات إليه . فوصفه بالغنى وصف لازم له ، ووصف الخلق بالفقر وصف لازم لهم ، لا ينفكون عنه ، أي : وإذا كان كذلك ، فإنما حضكم في النفقة في سبيله ليكسبكم بذلك ، الجزيلَ من ثوابه . وليعلم أن سبيل الله يشمل كل ما فيه نفع وخير ، وفائدة ، وقربة ، ومثوبة . وإنما اقتصر المفسرون على الجهاد لأنه فرده الأشهر ، وجزئيه الأهم ، وقت نزول الآيات ، وإلا فلا ينحصر فيه .
{ وَإِن تَتَوَلَّوْا } أي : عما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم : { يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } أي : يهلككم ثم يأتي بقوم آخرين غيركم ، بدلاً منكم ، يؤمنون به ، ويعملون بشرائعه .
{ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } أي : لا يبخلوا بما أُمروا به من النفقة في سبيل الله ، ولا يضيعون شيئاً من حدود دينهم ، ولكنهم يقومون بذلك كله ، على ما يؤمرون به .
بسم الله الرحمن الرحيم(/)
سورة الفتح
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } [ 1 ] .
{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } قال الرازي : في الفتح وجوه :
أحدها - فتح مكة ، وهو ظاهر .
وثانيها - فتح الروم وغيرها .
وثالثها - المراد من الفتح ، صلح الحديبية .
ورابعها - فتح الإسلام بالحجة والبرهان ، والسيف والسنان .
وخامسها - المراد منه الحكم ، كقوله : { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ } [ الأعراف : 89 ] ، وقوله : { ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ } [ سبأ : 26 ] . انتهى .
ولا يخفى أن الوجوه المذكورة كلها ، مما يصدق عليها الفتح الرباني ، وجميعها مما تحقق مصداقه . إلا أن سبب نزول الآية ، الذي حفظ الثقات زمنه ، يبين المراد من الفتح بياناً لا خلاف معه ، وهو أنه الوجه الثالث المذكور .
قال الإمام ابن كثير : نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية ، في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة ، حين صدّه المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام ، ليقضي عمرته فيه ، وحالوا بينه وبين ذلك ، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة ، وأن يرجع عامه هذا ، ثم يأتي من قابل ، فأجابهم إلى ذلك ، على تكرّهٍ من جماعة من الصحابة ، منهم عُمَر بن الخطاب ، رضي الله عنهم كما سيأتي تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى . فلما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه حيث أُحصر ورجع ، أنزل الله عز وجل هذه السورة ، فيما كان من أمره وأمرهم ، وجعل ذلك الصلح فتحاً ، باعتبار ما فيه من المصلحة ، وما آل الأمر إليه ، كما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره أنه قال : إنكم تعدون الفتح فتح مكة ، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية . وعن جابر رضي الله عنه قال : ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية . روى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال : تعدون أنتم الفتح فتحَ مكة ، وقد كان فتح مكة فتحاً ، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان ، يوم الحديبية .
وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } مرجعه من الحديبية . قال النبي صلى الله عليه وسلم : < لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على الأرض > ، ثم قرأها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم - أخرجاه في " الصحيحين " من رواية قتادة به - .
وروى الإمام أحمد عن مجمع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه - وكان أحد القراء الذين قرأوا القرآن - قال : شهدنا الحديبية ، فلما انصرفنا عنها ، إذا الناس ، ينفرون الأباعر . فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس ؟ قالوا : أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرجنا مع الناس نرجف ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم ، فاجتمع الناس عليه ، فقرأ عليهم : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } .
قال ، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي : رسول الله ! أو فتح هو ؟ قال صلى الله عليه وسلم : أي : والذي نفس محمد بيده ! إنه لفتح . ورواه أبو داود في الجهاد .
ثم قال ابن كثير : فالمراد بقوله : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } - أي : بيناً ظاهراً - هو صلح الحديبية ، فإنه حصل بسببه خير جزيل ، وأمِن الناس ، واجتمع بعضهم ببعض ، وتكلم المؤمن مع الكافر ، وانتشر العلم النافع والإيمان . انتهى .
وقال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد " في الكلام على ما في غزوة الحديبية من الفقه واللطائف ، ما مثاله :
كان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم ، أمن الناس به ، وكلّم بعضهم بعضاً ، وناظره في الإسلام ، وتمكّن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه ، والدعوة إليه ، والمناظرة عليه ، ودخل بسببه بشرٌ كثيرٌ في الإسلام ؛ ولهذا سماه الله فتحاً في قوله : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } نزلت في الحديبية ، فقال عمر : يا رسول الله ! أو فنح هو ؟ قال : نعم . وأعاد سبحانه ذكر كون ذلك فتحاً قريباً . وهذا شأنه سبحانه أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة مقدمات تكون كالمدخل إليها, المنبئة لها وعليها ، كما قدم بين يدي قصة المسيح ، وخلقه من غير أب ، قصة زكريا ، وخلق الولد له ، مع كونه كبيراً ، لا يولد لمثله . وكما قدم بين يدي نسخ القبلة ، قصة البيت ، وبنائه ، وتعظيمه ، والتنويه به ، وذكر بانيه ، وتعظيمه ومدحه . ووطأ قبل ذلك كله بذكر النسخ ، وحكمته المقتضية له ، وقدرته الشاملة له . وهكذا ما قدم بين يدي مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من قصة الفيل ، وبشارات الكهان به ، وغير ذلك . وكذلك الرؤيا الصالحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مقدمة بين يدي الوحي في اليقظة . وكذلك الهجرة ، كانت مقدمة بين يدي الأمر بالجهاد . ومن تأمّل أسرار الشرع والقدر ، رأى من ذلك ما تبهر حكمته أولي الألباب . انتهى . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } [ 2 ] .
{ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ } قال أبو السعود : غاية للفتح ، من حيث إنه مترتب على سعيه عليه الصلاة والسلام في إعلاء كلمة الله تعالى ، بمكابدة مشاقّ الحروف ، واقتحام موارد الخطوب { مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } أي : جميع ما فرط منك ، من ترك الأولى . وتسميته ذنباً ، بالنظر إلى منصبه الجليل .
قال ابن كثير : هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها غيره ، وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال كغيره ، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . وهذا فيه تشريف عظيم لرسول اله صلى الله عليه وسلم في جميع أموره على الطاعة والبرّ والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه ، لا من الأولين ، ولا من الآخرين . وهو صلى الله عليه وسلم أكمل البشر على الإطلاق ، وسيدهم في الدنيا والآخرة . ولما كان أطوع خلق الله تعالى لله ، وأشدهم تعظيماً لأوامره ونواهيه ، قال حين بركت به الناقة : حبسها حابس الفيل . ثم قال صلى الله عليه وسلم : < والذي نفسي بيده ! لا يسألوني اليوم شيئاً يعظمون به حرمات الله إلا أجبتهم إليها ، فلما أطاع الله في ذلك ، وأجاب إلى الصلح ، قال الله تعالى : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } الآيات > .
وقوله تعالى : { وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } أي : بإظهاره إياك على عدوّك ، ورفعه ذكرك { وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } أي : ويرشدك طريقاً من الدين لا عوج فيه . قال أبو السعود : أصل الاستقامة ، وإن كانت حاصلة قبل الفتح ، لكن حصل بعد ذلك من اتضاح سبيل الحق ، واستقامة مناهجه ، ما لم يكن حاصلاً قبل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً } [ 3 ] .
{ وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً } أي : قوياً منيعاً ، لا يغلبه غالب ، ولا يدفعه دافع ، للبأس الذي يؤيدك الله به ، والظفر الذي يمدك به .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [ 4 ] .
{ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ } أي : السكون ، والطمأنينة إلى الإيمان ، والحق { لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ } أي : يقيناً منضماً إلى يقينهم .
قال القاشاني : السكينة نور في القلب يسكن به إلى شاهده ويطمئن . وهو من مبادئ عين اليقين ، بعد علم اليقين ، كأنه وجدانٌ يقينيّ معه لذة وسرور .
{ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : أنصار ينتقم بهم ممن يشاء من أعدائه { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } أي : في تقديره وتدبيره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً } [ 5 ] .
واللام في قوله تعالى : { لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } متعلق بمحذوف ، نحو : أمر بالجهاد ليُدخل . . . الخ . أو دبّر ما دبّر مما ذكر لذلك ، أو متعلق بـ : { فَتَحْنَا } على تعلق الأول به مطلقاً ، وهذا مقيداً ، أو بقوله : { لِيَزْدَادُواْ } { وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً } [ 6 ] .
{ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ } أي : ظن الأمر السوء ، وهو أن لا ينصر تعالى رسوله والمؤمنين : { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ } أي : بالتعذيب في الدنيا بأنواع الوقائع ، كالقتل ، والإهانة ، والإذلال . وقرئ : { دَاْئِرَةُ السُّوْءِ } بالضم , وهما لغتان من ساء كالكُره والكَره : { وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } أي : بالقهر ، والحجب : { وَلَعَنَهُمْ } أي : بالطرد ، والإبعاد في الآخرة : { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً } .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } [ 7 ] .
{ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } قيل في سر التكرير : إنه ذكر سابقاً على أن المراد به أنه المدبر لأمر المخلوقات بمقتضى حكمته ، فلذلك ذيله بقوله : { عَلِيماً حَكِيماً } ، وهنا أريد به التهديد بأنهم في قبضة قدرة المنتقم ، فلذا ذيله بقوله : { عَزِيزاً حَكِيماً } فلا تكرار . وقيل : إن الجنود جنود رحمة ، وجنود عذاب ، وأن المراد هنا الثاني ، ولذا تعرّض لوصف العزة . وقال القاشاني : كررها ليفيد تغليب الجنود الأرضية على السماوية في المنافقين والمشركين ، بعكس ما فعل بالمؤمنين . وبدّل : { عَلِيماً } بقوله : { عَزِيزاً } ليفيد معنى القهر والقمع ؛ لأن العلم من باب اللطف ، والعزة من باب القهر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } [ 8 ] .
{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } أي : على أمتك بما أجابوك فيما دعوتهم إليه : { وَمُبَشِّراً } أي : لمن استجاب لك بالجنة : { وَنَذِيراً } أي : لمن خالفك بالنار .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ 9 ] .
{ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ } أي : تؤيدوا دينه ، وتقرّوه : { وَتُوَقِّرُوهُ } أي : تعظّموه : { وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي : غدوة وعشياً - على ظاهره - أو دائماً ، بجعل طرفي النهار كناية عن الجميع ، كما يقال : شرقاً وغرباً ، لجميع الدنيا . والضمائر كلها - على ما ذكرنا - لله ، وجوّز إعادة الأولين للرسول ، والأخير لله إلا أن فيه تفكيكاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } [ 10 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ } أي : على قتال قريش تحت الشجرة ، وأن لا يفرّوا عند لقاء العدو ، ولا يولوهم الأدبار { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } أي : لأن عقد الميثاق مع رسول الله ، كعقده مع الله ، من غير تفاوت ؛ لأن المقصود من توثيق العهد مراعاة أوامره تعالى ، ونواهيه { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } تأكيد لما قبله . أي : أن يد الله عند البيعة فوق أيديهم ، كأنهم يبايعون الله ببيعتهم نبيَّه صلى الله عليه وسلم . وقال القاشاني : أي : قدرته البارزة في يد الرسول ، فوق قدرتهم البارزة في صور أيديهم ، فيضرهم عند النكث ، وينفعهم عند الوفاء .
{ فَمَن نَّكَثَ } أي : نقض عهده : { فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } أي : لعود ضرر ذلك عليه خاصة { وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } وهو الجنة .
تنبيه :
هذه البيعة هي بيعة الرضوان . وكانت تحت شجرة سمرة بالحديبية . وكان الصحابة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ألفاً وأربعمائة ، وقيل : وثلاثمائة ، وقيل : خمسمائة . والأول أصح - على ما قاله ابن كثير - وقد اقتص سيرتها غير واحد من الأئمة . ولما كانت هذه السورة الجليلة كلها في شأنها ، لزم إيرادها مفصلة .
قال ابن إسحاق : خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة معتمراً ، لا يريد حرباً . واستنفر العرب ، ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه ، وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب ، أو يصدوه عن البيت . فأبطأ عليه كثير من الأعراب . وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار ، ومن لحق به من العرب ، وساق معه الهدي ، وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه ، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائراً لهذا البيت ، ومعظماً له .
وقال الإمام ابن القيم : قصة الحديبية كانت سنة ست في ذي القعدة . وكان معه ألف وخمسمائة . هكذا في " الصحيحين " عن جابر . وفيهما عن عبد الله بن أبي أوفى : كنا ألفاً وثلاثمائة . وعن جابر فيهما : كانوا ألفاً وأربعمائة - والقلب إلى هذا أميل - وهو قول البراء بن عازب ، ومعقل بن يسار ، وسلمة بن الأكوع . ثم لما كانوا بذي الحليفة قلّد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي ، وأشعر ، وأحرم بالعمرة ، وبعث عيناً له بين يديه من خزاعة ، يخبره عن قريش ، حتى إذا كان قريباً من عسفان ، أتاه عينه فقال : إني تركت كعب بن لؤي ، قد جمعوا لك الأحابيش ، وجمعوا لك جموعاً ، وهم مقاتلوك ، وصادوك عن البيت .
واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال : < أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم ، فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين ، وإن نجوا تكن عنقاً قطعها الله ؟ أم ترون أن نؤم البيت ، فمن صدنا عنه قاتلناه ؟ > [ وفي المطبوع : وإن نجوا يكن عنق ] قال أبو بكر : الله ورسوله أعلم ! إنما جئنا معتمرين ، ولم نجئ لقتال أحد . ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < فروحوا إذن > . فراحوا ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : < إن خالد بن الوليد بالغميم ، في خيل قريش ، فخذوا ذات اليمين > فو الله ! ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بقترة [ في المطبوع : بعترة ] الجيش . فانطلق يركض نذيراً لقريش . وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم ، بركت راحلته . فقال الناس : حَلْ حَلْ ، فألحّت : فقاوا : خلأت القصواء ! خلأت القصواء ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلُق ، ولكن حبسها حابس الفيل ! ثم قال : والذي نفسي بيده ! لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتموها > .
ثم زجرها فوثبت به ، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء إنما يتبرضه الناس نبرضاً ، فلم يلبث الناس أن نزحوه ، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش ، فانتزع سهماً من كنانته ، ثم أمرهم أن يجعلوها فيه . قال : فو الله ! ما زال يجيش لهم بالريّ ، حتى صدروا عنه . وفزعت قريش لنزوله عليهم ، فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم رجلاً من أصحابه ، فدعا عُمَر بن الخطاب ليبعثه إليهم ، فقال : يا رسول الله ! ليس بمكة أحد من بني كعب يغضب لي إن أوذيت ، فأرسل عثمان بن عفان فإن عشيرته بها ، وإنه مبلغ ما أردت ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان ، فأرسله إلى قريش وقال : < أخبرهم أنا لم نأت لقتال ، وإنما جئنا عماراً ، وادعهم إلى الإسلام . - وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات ، فيدخل عليهم - ويبشرهم بالفتح ، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهرٌ دينه بمكة ، حتى لا يستخفي فيها بالإيمان > .
فانطلق عثمان ، فمر على قريش ببلدح ، فقالوا : أين تريد ؟ فقال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى الله والإسلام ، ونخبركم أنا لم نأت لقتال ، وإنما جئنا عماراً . فقالوا : قد سمعنا ما تقول ، فانفذ لحاجتك . وقام إليه أَبَان بن سعيد بن العاص ، فرحب به ، وأسرج فرسه . فحمل عثمانَ على الفرس وأجاره ، وأردفه أَبَان حتى جاء مكة . وقال المسلمون قبل أن يرجع عثمان : خلص عثمان قبلنا إلى البيت وطاف به . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون ! > فقالوا : وما يمنعه يا رسول الله ، وقد خلص ؟ قال : < ذاك ظني به أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف معاً > واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح ، فرمى رجل من أحد الفريقين رجلاً من الآخر ، وكانت معركة ، وتراموا بالنبل والحجارة ، وصاح الفريقان كلاهما ، وارتهن كل واحد من الفريقين بمن فيهم . وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل . فدعا إلى البيعة ، فثار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة ، فبايعوه على أن لا يفروا . فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد نفسه وقال : < هذه عن عثمان > .
ولما تمت البيعة رجع عثمان . فقال المسلمون : اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت ؟ فقال : بئس ما ظننتم بي ! والذي نفسي بيده ! لو مكثت بها سنة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بالحديبية ، ما طفت بها ، حتى يطوف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت ! فقال المسلمون : رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعلمنا بالله ! وأحسننا ظنّاً . وكان عمر أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة تحت الشجرة ، فبايعه المسلمون كلهم ، إلا الجد [ في المطبوع : الحر ] بن قيس ، وكان مَعْقِل بن يسار آخذاً بغصنها يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان أول من بايعه أبو سنان الأسدي ، وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات ، في أول الناس وأوسطهم وآخرهم .
فبينا هم كذلك إذ جاء بديل [ بن ] ورقاء الخُزَاعِي في نفر من خزاعة ، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة فقال : إني تركت كعب بن لؤي ، وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية ، معهم العوذ المطافيل ، وهم مقاتلوك ، وصادوك عن البيت . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إنا لم نجئ لقتال أحد ، ولكن جئنا معتمرين ، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب ، وأضرت بهم : فإن شاؤوا أماددهم ويخلّوا بيني وبين الناس . وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ، وإلا فقد جموا . وإن أبوا إلا القتال ، فو الذي نفسي بيده ! لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذن الله أمره > .
قال بديل : سأبلغهم ما تقول . فانطلق حتى أتى قريشاً فقال : إني قد جئتكم من عند هذا الرجل ، وسمعته يقول قولاً ، فإن شئتم عرضته عليكم . فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء . وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته . قال سمعته يقول كذا وكذا . فقال عروة بن مسعود الثقفي : إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ، ودعوني آته . فقالوا : ائته . فأتاه ، فجعل يكلمه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لبديل . فقال له عروة عند ذلك : أي : محمد ! أرأيت لو استأصلت قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح [ في المطبوع : اجناح ] أهله قبلك ؟ وإن تكن أخرى ، فو الله إني لأرى وجوهاً ، وأرى أوشاباً من الناس ، خليقاً أن يفروا ويدعوك ! فقال له أبو بكر : امصص بظر اللات ! أنحن نفر عنه وندعه ! قال : من ذا ؟ قالوا : أبو بكر . قال : أما والذي نفسي بيده ! لولا يد كانت لك عندي لم أَجزك بها ، لأجبتك ! وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكلما كلمه أخذ بلحيته . والمغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف ، وعليه المغفر . فكلما أهوى عروة إلى لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال : أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع عروة رأسه وقال : من ذا ؟ قال : المغيرة بن شعبة . فقال : أي : غدر ! أو لست أسعى في غدرتك ؟ وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية . فقتلهم ، وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < أما الإسلام فأقبل ، وأما المال فلست منه في شيء > .
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فو الله ! ما تنخم النبي صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها جلده ووجهه ، وإذا أمرهم ابتدروا إلى أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له . فرجع عروة إلى أصحابه فقال : أي : قوم ! لقد وفدت على الملوك : على كسرى وقيصر والنجاشي ، والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً . والله ! إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له . وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها . فقال رجل من بني كنانة : دعوني آته . فقالوا : ائته . فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < هذا فلان ، وهو من قوم يعظمون البدن ، فابعثوها له > فبعثوها له ، واستقبله القوم يلبون ، فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت ، فرجع إلى أصحابه فقال : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت ، وما أرى أن يصدوا عن البيت . فقام مكرز بن حفص ، فقال : دعوني آته . فقالوا : ائته . فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم : < هذا مكرز بن حفص ، وهو رجل فاجر > فجعل يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فينا هو يكلمه ، إذ جاء سهيل بن عَمْرو ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < قد سهل لكم من أمركم > فقال : هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً . فدعا الكاتب ، فقال : < اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم > . فقال سهيل : أما الرحمن فو الله ما ندري ما هو ، ولكن اكتب : باسمك اللهم ، كما كنت تكتب . فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا باسم الله الرحمن الرحيم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < اكتب : باسمك اللهم > . ثم قال : < اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله > فقال سهيل : فو الله ! لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < إني رسول الله وإن كذبتموني ! اكتب : محمد بن عبد الله > . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به > فقال سهيل : والله ! لا تتحدث العرب أننا أُخذنا ضغطةً ، ولكن لك من العام المقبل ، فكتب فقال سهيل : على أن لا يأتيك منا رجل ، وإن كان على دينك ، إلا رددته إلينا . فقال المسلمون سبحانه الله ! كيف يرد إلى المشركين ، وقد جاء مسلماً ؟ !
فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل ابن سهيل يرسف في قيوده ، قد خرج من أسفل مكة ، حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين . فقال سهيل : هذا يا محمد أول من قاضيتك عليه أن ترده ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < إنا لم نقض الكتاب بعد > فقال : فو الله ! إذن لا أصالحك على شيء أبداً . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < فأجزه لي > [ في المطبوع : فأجره ] قال : ما أنا بمجيزه [ في المطبوع : بمجيره ] لك ، قال : < بلى ، فافعل > . قال : ما أنا بفاعل . قال مكرز : قد أجزناه لك . فقال أبو جندل : يا معشر المسلمين ! أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً ، ألا ترون ما لقيت - وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله - .
قال عمر ابن الخطاب : والله ! ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله ! ألست نبي الله ؟ قال : < بلى ! > قلت : ألسنا على الحق ، وعدونا على الباطل ؟ قال : < بلى ! > فقلت : على ما نعطي الدنية في ديننا ، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا ؟ فقال : < إني رسول الله ، وهو ناصري ، ولست أعصيه > . قلت : أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : < بلى ! أفأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ > قلت : لا ! قال : < فإنك آتيه ، وتطوف به ! > قال فأتيت أبو بكر ، فقلت له كما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد عليه أبو بكر كما رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء ، وزاد : فاستمسك بغرزه حتى تموت فوالله ! إنه لعلى الحق . قال عمر فعملت لذلك أعمالاً .
فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < قوموا وانحروا ثم احلقوا > . فوالله ! ما قام منهم رجل حتي قال ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت أم سلمة : يا رسول الله ! أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً كلمة حتى تنحر بُدنك ، وتدعو حالقك فيحلق لك . فقام فخرج فلم يلكم أحداً منهم ، حتى فعل ذلك ؛ نحر بدنه ، ودعا حالقه فحلقه . فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضاً ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غمّاً .
ثم جاءت نسوة مؤمنات ، فأنزل الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } [ الممتحنة : 10 ] ، حتى بلغ : { بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك . فتزوج إحداهما معاوية ، والأخرى صفوان بن أمية . ثم رجع إلى المدينة ، وفي مرجعه أنزل الله عليه : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً } الآيات . فقال لعمر : أفتح هو يا رسول الله ؟ قال : < نعم ! > فقال الصحابة : هنيئاً لك يا رسول الله ! فمالنا ! فأنزلنا الله عز وجل : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ } [ الفتح : 4 ] ، الآية .
ولما رجع إلى المدينة جاءه أبو بصير - رجل من قريش - مسلماً ، فأرسلوا في طلبه رجلين ، وقالوا : العهد الذي جعلت لنا ! فدفعه إلى الرجلين ، فخرجا به ، حتى بلغا ذا الحليفة ، فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا جيداً ، فاستله الآخر ، فقال : أجل ! والله إنه لجيد ، لقد جربت به ثم جربت . فقال أبو بصير أرني أنظر إليه ، فأمكنه منه ، فضربه حتى برد ، وفرّ الآخر يعدو ، حتى بلغ المدينة ، فدخل المسجد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه : < لقد رأى هذا زعراً > . فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : قُتل والله ! صاحبي ، وإني لمقتول . وجاء أبو بصير فقال : يا نبي الله ! قد أوفى الله ذمتك ، وقد رددتني إليهم ، فأنجاني الله منهم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : < ويل أمه ! مسعر حرب لو كان له أحد > .
فلما سمع ذلك علم أنه سيرده إليهم ، فخرج حتى أتى سيف البحر ، وتفلّت منهم أبو جندل بن سهيل ، فلحق بأبي بصير ، فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة . فوالله ! لا يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم ، وأخذوا أموالهم . وأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم ، فمن أتاه فهو آمن ، فأنزل الله عز وجل : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ } [ الفتح : 24 ] الآية .
وجرى الصلح بين المسلمين ، وأهل مكة على وضع الحرب عشر سنين ، وأن يأمن الناس بعضهم من بعض ، وأن يرجع عنهم عامهم ذلك ، حتى إذا كان العام المقبل ، قدمها ، وخلّوا بينه وبين مكة ، فأقام بها ثلاثاً ، وأنه لا يدخلها إلا سلاح الراكب ، والسيوف في القرب ، وأن من أتانا من أصحابكم لم نرده عليك ، ومن أتاك من أصحابنا رددته علينا ، وأن بيننا وبينك عيبةً مكفوفة ، وأنه لا إسلال ولا إغلال . فقالوا : يا رسول الله ! نعطيهم هذا ؟ فقال : من أتاهم منا ، فأبعده الله ، ومن أتانا منهم فرددناه إليهم ، جعل الله له فرجاً ومخرجاً .
هذا ولنظر تتمة ما في فوائد هذه الغزوة ولطائفها في " زاد المعاد " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [ 11 ] .
{ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا } قال مجاهد : هم أعراب المدينة ، كجهينة ومزينة ، استتبعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لخروجه إلى مكة ، فقالوا : نذهب معه إلى قوم قد جاؤوه ، فقتلوا أصحابه ، فنقاتلهم . فاعتلوا بالشغل . أي : سيقولون لك إذا عاتبتهم على التخلف عنك : شغلنا عن الخروج معك معالجة أموالنا ، وإصلاح معايشنا ، والخوف على أهلنا من الضيعة ، فاستغفر لنا ربنا .
وقوله تعالى : { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } تكذيب لهم في اعتذارهم ، وأن الذي خلفهم ليس بما يقولون ، وإنما هو الشك في الله ، والنفاق . وكذا طلبهم للاستغفار أيضاً ، ليس بصادر عن حقيقة ؛ لأنه بغير توبة منهم ، ولا ندم على ما سلف منهم من معصية التخلف . وفيه إيذان بأن اللسان لا عبرة به ، ما لم يكن مترجماً عن الاعتقاد الحق .
{ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً } أي : لا أحد يمنعه تعالى من ذلك ؛ لأنه لا يغالبه غالب . إشارة إلى عدم فائدة استغفاره لهم ، مع بقائهم على كذبهم ونفاقهم ، ولذا هددهم بقوله سبحانه : { بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } أي : فيجازيكم عليه .
لطيفة :
قال الناصر : لا تخلو الآية من الفن المعروف عند علماء البيان باللف . وكان الأصل - والله أعلم - : فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أرد بكم ضراً ، ومن يحرمكم النفع إن أراد بكم نفعاً ؛ لأن مثل هذه النظم يستعمل في الضر . وكذلك ورد في الكتاب العزيز مطرداً ، كقوله : { فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } [ المائدة : 17 ] ، { وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً } [ المائدة : 41 ] ، { فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ } [ الأحقاف : 8 ] . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في بعض الحديث : < إني لا أملك لكم شيئاً > - يخاطب عشيرته - وأمثاله كثيرة .
وسر اختصاصه بدفع المضرة أن الملك مضاف في هذه المواضع باللام ، ودفع المضرة نفع يضاف للمدفوع عنه ، وليس كذلك حرمان المنفعة ، فإنه ضرر عائد عليه ، لا له . فإذا ظهر ذلك ، فإنما انتظمت الآية على هذا الوجه ، لأن القسمين يشتركان في أن كل واحد منهما نفي لدفع المقدر من خير وشر ، فلما تقاربا أدرجهما في عبارة واحدة ، وخص عبارة دفع الضر ؛ لأنه هو المتوقع لهؤلاء ؛ إذ الآية في سياق التهديد ، أو الوعيد الشديد . وهي نظير قوله : { قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } [ الأحزاب : 17 ] ، فإن العصمة إنما تكون من السوء لا من الرحمة . فهاتان الآيتان يرامان في التقرير الذي ذكرته - والله أعلم - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً * وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً } [ 12 ، 13 ] .
{ بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ } أي : اعتقدتم أنه لن يرجع : { الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً } أي : بل تستأصلهم قريش { وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ } أي : حسّن الشيطان ذلك وصححه ، حتى حبب لكم التخلف { وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ } وهو عدم نصر الرسول ، وعدم رجوعهم من سفرهم هذا { وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } هالكين ، مستوجبين لسخط الله ، أو فاسدين في أعمالكم ونياتكم { وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً } أي : من النار تستعر [ في المطبوع : تسعتر ] عليهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ 14 ] .
{ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } قال ابن جرير : هذا من الله جل ثناؤه حثٌّ لهؤلاء الأعراب المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على التوبة ، والمراجعة إلى أمر الله ، في طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم . يقول لهم : بادروا بالتوبة من تخلفكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الله يغفر للتائبين ؛ لأنه لم يزل ذا عفو عن عقوبة التائبين إليه من ذنوبهم ، ومعاصيهم من عباده ، وذا رحمة بهم أن يعاقبهم على ذنوبهم بعد توبتهم منها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً } [ 15 ] .
{ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ } أي : بعذر الاشتغال بأموالهم ، وأهليهم بعد طلبهم الاستغفار لهم : { إِذَا انطَلَقْتُمْ } أي : قصدتم السير : { إِلَى مَغَانِمَ } أي : أماكنها . قال ابن جرير : وذلك ما كان الله وعد [ في المطبوع : وعد الله ] أهل الحديبية من غنائم خيبر : { ذَرُونَا } أي : اتركونا في الانطلاق إليها : { نَتَّبِعْكُمْ } أي : نشهد معكم قتال أهلها : { يُرِيدُونَ } أي : بعد ظهور كذبهم في الاعتذار ، وطلب الاستغفار : { أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ } قال ابن جرير : أي : وعد الله الذي وعد أهل الحديبية ، وذلك أن الله جعل غنائم خيبر لهم ، ووعدهم ذلك عوضاً من غنائم أهل مكة ؛ إذ انصرفوا عنهم [ في المطبوع : عنها ] على صلح ، ولم يصيبوا منهم شيئاً .
وقال آخرون : بل عنى بقوله : { يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ } إرادتهم الخروج مع نبي الله صلى الله عليه وسلم في غزوة . وقد قال الله تبارك وتعالى في سورة التوبة : { فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً } [ التوبة : 83 ] ، والأكثرون على الأول . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة ست ، وأقام بالمدينة بقيتها وأوائل المحرم ، ثم غزا خيبر بمن شهد الحديبية ، ففتحها وغنم أموالاً كثيرة ، فخصها بهم .
قال الشراح : وكان ذلك بوحي . ثم كانت غزوة تبوك بعد فتح خيبر ، وبعد فتح مكة أيضاً . وفي منصرفه من تبوك نزل قوله تعالى : { فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ } [ التوبة : 83 ] الآية . فكيف يحمل على ما كان في غزوة الحديبية ، وقد نزل بعدها بكثير ؟ - والله أعلم - { قُل لَّن تَتَّبِعُونَا } أي : إلى خيبر إذا أردنا السير إليها . وهو نفي في معنى النهي . قال الشهاب : فالخبر مجاز عن النهي الإنشائي ، وهو أبلغ .
{ كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ } قال ابن جرير : أي : من قبل مرجعنا إليكم . إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية معنا ، ولستم ممن شهدها ، فليس لكم أن تتبعونا إلى خيبر ، لأن غنيمتها لغيركم : { فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا } أي : أن نصيب معكم مغنماً إن نحن شهدنا معكم ، فلذلك تمنعوننا من الخروج معكم . قال الشهاب : وهو إضراب عن كونه بحكم الله . أي : بل إنما ذلك من عند أنفسكم حسداً .
{ بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ } أي : عن الله تعالى ما لهم وما عليهم من أمر الدين : { إِلَّا قَلِيلاً } أي : فهماً قليلاً ، وهو ما كان في أمور الدنيا ، كقوله تعالى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [ الروم : 7 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ 16 ] .
{ قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ } أي : عن المسير معك : { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي : يفوق قتال من أقاتلهم ، بحيث لا دخل للصلح والأمن فيه ، بل : { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } أي : يدخلون في الدنيا من غير حرب ولا قتال . وقرئ شاذاً : { أو يسلموا } بمعنى إلا أن يسلموا ، أو حتى يسلموا { فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً } يعني الغنيمة في الدنيا ، والجنة في الآخرة : { وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ } أي : عن الحديبية : { يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } أي : لتضاعف جرمكم .
ثم خص من هذا الوعيد أصحاب الأعذار ، وإن حدثت بعد التخلف الأول ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً } [ 17 ] .
{ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ } قال المهايمي : وإن أمكنه القتال بإحساس صوت مشي العدو ، ومشي فرسه ، لكن يصعب عليه حفظ نفسه عنه { وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ } أي : وإن أمكنه القتال قاعداً ، لكن لا يمكنه الكرّ والفرّ ، ولا يقوى قوة القائم : { وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } أي : فإنه وإن أمكنه الإبصار والقيام ، فلا قوة له في دفع العدو ، فضلاً عن الغلبة عليه .
ثم أشار تعالى إلى أن هؤلاء ، وإن فاتهم الجهاد ، لا ينقص ثوابهم إذا أطاعوا الله ورسوله ، بقوله سبحانه : { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ } أي عن إطاعتهما ، وإن كان أعمىً ، أو أعرجاً [ في المطبوع : أعرج ] ، أو مريضاً : { يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً } أي : بالمذلة دنيا ، والنار أخرى .
تنبيه :
اختلف المفسرون في هؤلاء القوم الذين هم أولو بأس شديد - على أقوال :
أحدها - أنهم هوزان .
الثاني - ثقيف ، وكلاهما غزاه النبي صلى الله عليه وسلم .
الثالث - بنو حنيفة الذين تابعوا مسيلمة الكذاب ، وغزاهم أبو بكر رضي الله عنه .
الرابع - أهل فارس والروم ، الذين غزاهم عمر رضي الله عنه .
ومثار الخلاف هو عموم ظاهر الآية ، وشمول مصداقها لكل الغزوات المذكورة . ولو عد من الأوجه كفار مكة ، لم يبعد ، بل عندي هو الأقرب ، لأن السين للاستقبال القريب ؛ فإن هذه السورة نزلت عِدةً بفتح مكة ، منصرفه صلى الله عليه وسلم من الحديبية ، وعلى أثرها كانت غزوة الفتح الأعظم ، التي لم يتخلف عنها من القبائل الشهيرة أحد ، إذ دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتال قريش أو يسلموا ، فكان ما كان من إسلامهم طوعاً أو كرهاً - والله أعلم - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } [ 18 ] .
{ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } يعني بيعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ، حين بايعوه على مناجزة قريش الحرب ، وعلى أن لا يفرّوا ، ولا يولوهم الدبر ، تحت شجرة هناك .
وقد أجمع الرواة في " الصحاح " على أن الشجرة لم تُعْلمْ بعد . ففي " الصحيحين " من حديث أبي عوانة عن طارق ، عن سعيد بن المسيب قال : كان أبي ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة . قال : فانطلقنا من قابل حاجّين ، فخفي علينا مكانها ، وإن كانت بينت لكم ، فأنتم أعلم . وفيهما أيضاً عن سفيان قال : إنهم اختلفوا في موضعها .
وروى ابن جرير عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب قال : كان جدي يقال له حَزْن ، وكان ممن بايع تحت الشجرة ، فأتيناها من قابل ، فعمّيت علينا .
ثم قال ابن جرير : وزعموا أن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه مر بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة فقال : أين كانت ؟ فجعل بعضهم يقول : هنا ، وبعضهم يقول : ها هنا ! فلما كثر اختلافهم قال : سيروا ، هذا التكلّف ، فذهبت الشجرة ، وكانت سمرة ، إما ذهب بها سيل ، وإما شيء سوى ذلك . انتهى .
وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : روى ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع أن عمر بلغه أن قوماً يأتون الشجرة ، فيصلّون عندها ، فتوعدهم ، ثم أمر بقطعها ، فقطعت ! .
ولا ينافي ما تقدم ، لاحتمال أن هؤلاء علموا مكانها ، أو توهّموها ، فاتخذوها مسجداً ، ومكاناً مقدساً ، فقطعها عمر حالتئذ ، صوناً لعقيدتهم من الشرك ، لأن الاجتماع على العبادة حولها يفضي إلى عبادتها بعد ، كما أفضى نصب الأوثان إلى عبادتها ، وكان أول أمرها لتعظيم مسمياتها ، وإجلال مثال أصحابها .
وقال في " الفتح " أيضاً في شرح ابن عمر ، وقوله : رجعنا من العام المقبل ، فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها . كانت رحمة من الله ، ما مثاله :
وقد وافق المسيب بن حَزْن ، والد سعيد ، ما قاله ابن عمر من خفاء الشجرة . والحكمة في ذلك أن لا يحصل بها افتنان ، لما وقع تحتها من الخير ، فلو بقيت لما أمن تعظيم بعض الجهال لها ، حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها قوة نفع أو ضر ، كما نراه الآن مشاهداً فيما هو دونها . وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله " كانت رحمة من الله . أي : كان خفاؤها عليهم ، بعد ذلك ، رحمة من الله تعالى . انتهى .
وهذه البيعة تسمى بيعة الرضوان ، سميت لهذه الآية ، وتقدمت قصتها مفصلة .
{ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } أي : من الصدق والعزيمة على الوفاء بالعهد : { فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ } أي : في الصبر والطمأنينة والوقار { وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } قال ابن جرير : أي : وعوّضهم في العاجل مما رجوا الظفر به من غنائم أهل مكة ، بقتالهم أهلها { فَتْحاً قَرِيباً } ، وذلك - فيما قيل - فتح خيبر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } [ 19 ] .
{ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا } وهي مغانم خيبر ، وكانت أرضاً ذات عَقَّار وأموال ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل بيعة الرضوان خاصة { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } أي : ذا عزة في انتقامه من أعدائه ، وحكمه في تدبير خلقه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } [ 20 ] .
{ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } يعني ما يفيء عليهم من غنائم الكفار في سبيل الجهاد { فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ } يعني غنائم خيبر . وأما الغنائم المؤخرة فسائر فتوح المسلمين بعد ذلك الوقت ، إلى قيام الساعة . وقيل : المعجلة هي صلح الحديبية . والصواب هو الأول ، كما قاله ابن جرير ؛ لأن المسلمين لم يغنموا بعد الحديبية غنيمة ، ولم يفتحوا فتحاً أقرب من بيعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية إليها ، من فتح خيبر وغنائمها { وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ } أي : أيدي أهل خيبر ، فانتصرتم عليهم ، أو أيدي المشركين من قريش عنكم في الحديبية . واختار ابن جرير الأول . قال : لأن الثاني سيذكر في قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ } الآية . أي : والتأسيس خير من التأكيد . ولك أن تقول : لا مانع من التأكيد ، لاسيما في مقام التذكير بالنعم ، والتنويه بشأنها . وتكون الآية الثانية بمثابة التفسير للأولى ، والتبيين لمطلقها - والله أعلم - { وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ } أي : ولتكون تلك الكفة أو الغنيمة عبرة للمؤمنين ، يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان ، وأنه ضامن نصرهم ، والفتح لهم { وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } أي : ويزيدكم بصيرة ويقيناً وثقة بفضل الله . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } [ 21 ] .
{ وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا } معطوف على : { هَذِهِ } أي : فيجّعل لكم هذه المغانم ، ومغانم أخرى ، وهي مغانم هوزان في غزوة حنين ، لأنه قال : { لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا } وهذا يدل على ما تقدم محاولة لها . وقال الحسن : هي فارس والروم . قال القرطبي : وكونها معجلة ، وإن كانت لم تحصل إلا في عهد عمر ، بالنسبة لما بعدها من الغنائم الإسلامية .
وعن قتادة : هي مكة . قال ابن جرير : وهذا القول الذي قاله قتادة ، أشبه بما دل عليه ظاهر التنزيل . وذلك أن الله أخبر هؤلاء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة أنه محيط بقرية لم يقدروا عليها ، ومعقول أنه لا يقال لقوم ، لم يقدروا على هذه المدينة ، إلا أن يكونوا قد راموها فتعذرت عليهم . فأما وهم لم يرموها فتتعذر عليهم ، فلا يقال إنهم لم يقدروا عليها . فإذا كان ذلك كذلك ، وكان معلوماً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقصد قبل نزول هذه الآية عليه ، خيبرَ لحربٍ ، ولا وجّه إليها لقتال أهلها جيشاً ولا سرية ، علم أن المعنى بقوله : { وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا } غيرها ، وأنها هي التي عالجها ورامها فتعذرت ، فكانت مكة وأهلها كذلك ، وأخبر الله تعالى نبيه والمؤمنين ، أنه أحاط بها وبأهلها ، وأنه فاتحها عليهم . انتهى .
وقال القرطبي : معنى : { قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا } أي : أعدها لكم ، فهي كالشيء الذي أحيط به من جميع جوانبه ، فهو محصور لا يفوت . فأنتم ، وإن لم تقدروا عليها في الحال ، فهي محبوسة عليكم لا تفوتكم . وقيل : { أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا } علم أنها ستكون لكم ، كما قال : { وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءً عِلْماً } . وقيل : حفظها الله عليكم ، ليكون فتحها لكم . انتهى .
وقد جوز في : { أُخْرَى } أن تكون معطوفة على : { مَغَانِمَ } المنصوب بـ : { وَعَدَكُمْ } وأن تكون مرفوعة بالابتداء و : { لَمْ يَقْدِرُواْ عَلَيْهَا } صفتها و : { قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا } خبر . وأوجه أخر .
{ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } أي : لا يبعد عليه إذا شاءه .
ثم أشار تعالى إلى تبشير أهل بيعة الرضوان بالظفر ، والنصر المستمر ، لصدق إيمانهم ، [ و ] إخلاصهم في ثباتهم ، وإيثارهم مرضاة الله ورسوله على كل محبوب ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } [ 22 ، 23 ] .
{ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ } أي : بعد هذا الفتح ، والنصر المعجل : { الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ } أي ولوهم أعجازهم في الحرب ، فعل المنهزم من قرنه في الحرب { ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً } أي : من يواليهم على حربكم ، وينصرهم عليكم { سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ } أي : مضت في كفار الأمم السالفة مع مؤمنيها { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } أي : تغييراً .
قال ابن جرير : بل ذلك دائم . للإحسان جزاؤه من الإحسان ، وللإساءة ، والكفر العقاب ، والنكال .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } [ 24 ] .
{ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } أي : قضى بينهم وبينكم المكافّة والمحاجزة ، بعد ما خولكم الظفر عليهم والغلبة ، إشارة إلى منة الصلح ونعمته في الحديبية ، وأن ذلك عناية منه تعالى بما حفظ من أنفسهم وأموالهم ، ولطف بهم يومئذ لما ادخر لهم بعده .
وقد ذهب بعضهم إلى أنه عنى بهذا الكف ، ما كان يوم الفتح ، ونظر فيه بأن السورة نزلت قبله .
وقال ابن إسحاق : حدثني من لاأتهم عن عِكْرِمَة مولى ابن عباس أن قريشاً كانوا بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين ، وأمروهم أن يطوفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا من أصحابه أخذاً ، فأخذوا أخذاً . فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعفا عنهم ، وخلى سبيلهم . وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل . قال ابن إسحاق : ففي ذلك قال : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } الآية .
وروى ابن جرير عن مجاهد قال : أقبل معتمراً نبي الله صلى الله عليه وسلم . فأخذ أصحابه ناساً من أهل الحرم غافلين ، فأرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم . فذلك الإظفار ببطن مكة .
قال قتادة : بطن مكة ، الحديبية .
{ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } أي : فيجازيكم عليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ 25 ] .
{ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : هؤلاء المشركون من قريش ، هم الذين جحدوا توحيد الله : { وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ } أي : وصدوا الهدي أيضاً ، وهو ما يهدى إلى مكة من النعم : { مَعْكُوفاً } أي : محبوساً . قال السمين : يقال : عكفت الرجل عن حاجته إذا حبسته عنها . وأنكر الفارسي تعدية عكف بنفسه ، وأثبتها ابن سيده ، والأزهري وغيرهما ، وهو ظاهر القرآن ، لبناء اسم المفعول منه . انتهى .
وقوله تعالى : { أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } قال ابن جرير : أي : محل نحره . وذلك دخول الحرم ، والموضع الذي إذا صار إليه حلّ نحره ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ساق معه حين خرج إلى مكة في سفرته تلك ، سبعين بدنة .
وفي الآية دليل على أن محل ذبح الهدي ، الحرم .
{ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ } أي : موجودون بمكة مع الكفار : { لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } أي : بصفة الإيمان وهم بمكة ، حبسهم المشركون بها عنكم ، فلا يستطيعون من أجل ذلك الخروج إليكم { أَن تَطَؤُوهُمْ } أي : تقتلوهم مع الكفار ، لو أذن لكم في الفتح بدل الصلح . قال السمين : { أَن تَطَؤُوهُمْ } يجوز أن يكون بدلاً من رجال ونساء ، غلب الذكور ، وأن يكون بدلاً من مفعول : { تَعْلَمُوهُمْ } . فالتقدير على الأول : ولولا وطء رجال ونساء غير معلومين . وتقدير الثاني : لم تعلموا وطأهم ، والخبر محذوف تقديره : ولولا رجال ونساء موجودون ، أو بالحضرة . انتهى .
{ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ } أي : إثم وغرامة . من عرّه إذا عراه ما يكرهه . وقوله : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } حال من الضمير المرفوع في : { تَطَؤَوهُمْ } أي : تطؤوهم غير عالمين بهم . وفي جواب : { لَوْلاَ } أقوال :
أحدها - أنه محذوف لدلالة الكلام عليه . والمعنى : ولولا كراهة أن تهلكوا ناساً مؤمنين بين ظهراني المشركين ، وأنتم غير عارفين بهم ، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة ، لما كف أيديكم عنهم ، ولأذن لكم في دخول مكة مقاتليهم .
والثاني - أنه مذكور ، وهو : { لَعَذَّبْنَا } وجواب لو هو المحذوف . فحذف من الأول لدلالة الثاني ، ومن الثاني لدلالة الأول .
والثالث -أن قوله : { لَعَذَّبْنَا } جوابهما معاً ، وهو بعيد إن أريد حقيقة ذلك .
وذكر الزمخشري قريباً من هذا فإنه قال : ويجوز أن يكون : { لَوْ تَزَيَّلُوا } كالتكرير لـ : { وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ } لمرجعهما لمعنى واحد ، ويكون : { لَعَذَّبْنَا } هو الجواب . ومنع الشيخ رجوعهما لمعنى واحد ، قال : لأن ما تعلق به الأول غير ما تعلق به الثاني - أفاده السمين - .
وأجاب الناصر بقوله : وإنما كان مرجعهما ههنا واحدا ، وإن كانت لولا تدل على امتناع لوجود ، ولو تدل على امتناع لامتناع . وبين هذين تناف ظاهر ؛ لأن لولا ههنا دخل على وجود ، ولو دخلت على قوله : { تَزَيَّلُوا } وهو راجع إلى عدم وجودهم . وامتناع عدم الوجود وجود . فآلا إلى أمر واحد من هذا الوجه . قال : وكان جدي رحمه الله يختار هذا الوجه الثاني ، ويسميه تطرية . وأكثر ما تكون إذا تطاول الكلام ، وبعد عهد أوله ، واحتيج إلى رد الآخر على الأول ، فمرة يطري بلفظه ، ومرة بلفظ آخر يؤدي مؤادّه وقد تقدمت لهما أمثال .
تنبيه :
فسر ابن إسحاق المعرة بالدية ، ذهاباً إلى أن دار الحرب لا تمنع من ذلك . وهو مذهب الشافعي . وذهب غيرهما إلى أنها تمنع من ذلك ، ومنهم ابن جرير ، حيث قال : المعرة هي كفارة قتل الخطأ ، وذلك عتق رقبة مؤمنة لمن أطاق ذلك ، ومن لم يطق فصيام شهرين . قال : وإنما اخترت هذا القول ، دون القول الذي قاله ابن إسحاق ، لأن الله إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب - إذا لم يكن هاجر منها ، ولم يكن قاتِله علم إيمانه - الكفارةَ دون الدية فقال : { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } لم يوجب على قاتله خطأ ديته ، فلذلك قلنا : عنى بالمعرة في هذا الموضع الكفارة . انتهى .
{ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء } متعلق بما يدل عليه الجواب المحذوف ، كأنه قيل عقيبه : لكن كفها عنهم ، ولم يأذن لكم في مقاتلتهم ، ليدخلكم في رحمته الكاملة بحفظكم من المعرة . وقد جوّز أن يكون : { مَن يَشَاءُ } عبارة عمن رغب في الإسلام من المشركين ، وعليه اقتصر ابن جرير ، قال : أي : ليدخل الله في الإسلام من أهل مكة من يشاء ، قبل أن تدخلوها . وناقش فيه أبو السعود بأن ما بعده من فرض التنزيل ، وترتيب التعذيب عليه ، يأباه .
{ لَوْ تَزَيَّلُواْ } أي : لو تميز مشركو مكة من الرجال المؤمنين ، والنساء المؤمنات ، الذين لم تعلموهم منهم : { لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } أي : بالقتل ، أو الأسر ، أو نوع آخر من العذاب الآجل .
تنبيه :
قال إلكيا الهراسي : في الآية دليل على أنه لا يجوز حرق سفينة الكفار ، إذا كان فيهم أسرى من المسلمين ، وكذلك رمي الحصون إذا كانوا بها ، والكفار إذا تترسوا بهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } [ 26 ] .
{ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ } قال ابن جرير : وذلك حين جعل سهيل بن عَمْرو في قلبه الحمية ، فامتنع أن يكتب في كتاب المقاضاة الذي كتب بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ، وأن يكتب فيه : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } وامتنع هو وقومه من دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم عامه ذلك . والعامل في الظرف إما لعذبنا ، أو صدوكم ، أو اذكر مقدراً ، فيكون مفعولاً به . والحمية الأنفة ، وهي الاستكبار والاستنكاف ، مصدر من حمى من كذا حمية .
وقوله تعالى : { فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ } عطف على منويّ . أي : فهم المسلمون أن يأبوا ذلك ، ويقاتلوا عليهم ، فأنزل الله سكينته على رسوله ، وعلى المؤمنين . يعني : الوقار والتثبيت ، حتى صالحوهم على أن يعودوا من قابل ، وعلى ما تقدم .
{ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } أي : اختارها لهم ، فالإلزام مجاز عما ذكر من اختيارها لهم ، وأمرهم بها . : { وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا } قال أبو السعود : أي : متصفين بمزيد استحقاق لها . على أن صيغة التفضيل للزيادة مطلقاً . وقيل : أحق بها من الكفار { وَأَهْلَهَا } أي : المستأهل لها { وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } . قال أبو السعود : أي : فيعلم حق كل شيء ، فيسوقه إلى مستحقه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } [ 27 ] .
{ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ } .
قال ابن جرير : أي : لقد صدق الله رسوله محمداً رؤياه التي أرها إياه أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين ، لا يخافون أهل الشرك ، مقصراً بعضهم رأسه ، ومحلقاً بعضهم . ثم روي عن مجاهد أنه قال : أُري بالحديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين ، فقال أصحابه حين نحر بالحديبية : أين رؤيا محمد صلى الله عليه وسلم ؟
وعن ابن زيد قال : قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : إني قد رأيت أنكم ستدخلون المسجد الحرام محلقين رؤوسكم مقصرين ، فلما نزل بالحديبية ، ولم يدخل ذلك العام ، طعن المنافقون في ذلك فقالوا : أين رؤياه ؟ فقال الله : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ } الآية ، إني لم أُره يدخلها هذا العام ، وليكونن ذلك . و : { الرُّؤْيَا } منصوب بنزع الخافض ، أي : صدقه في رؤياه . أي : حقق صدقها عنده ، كما هو عادة الأنبياء عليهم السلام ، ولم يجعلها أضغاث أحلام . أو منصوب على أنه مفعول ثان ، وهو ما قاله الكرماني ، وعبارته : كذب ، يتعدى إلى مفعولين ، يقال : كذبني الحديث ، وكذا صدق ، كما في الآية . وهو غريب لتعدي المثقل لواحد ، والمخفف لمفعولين .
وقوله : { بِالْحَقِ } حال من الرؤيا ؛ أي : متلبسة بالحق ، ليست من قبيل أضغاث الأحلام .
وقوله : { لَتَدْخُلُنَّ } جواب قسم محذوف ؛ أي : والله ! لتدخلن .
وقوله : { إن شَاءَ اللَّهُ } تعليق للعدة بالمشيئة ، لتعليم العباد ، أو للإشعار بأن بعضهم لا يدخل ، فهو في معنى : ليدخلنّه من شاء الله دخوله منكم . أو حكاية لما قاله ملك الرؤيا ، أو النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه .
وقوله : { مُحَلّقِينَ } حال مقدرة ، لأن الدخول في حال الإحرام ، لا في حال الحلق والتقصير . وفي الكلام تقدير ، أو هو من نسبة ما للجزء إلى الكل . والمعنى : محلقاً بعضكم ، ومقصراً آخرون . والقرينة عليه : أنه لا يجتمع الحلق والتقصير ، فلا بد من نسبة كل منهما لبعض منهم .
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < رحم الله المحلقين ! > قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : < رحم الله المحلقين ؟ > قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : < رحم الله المحلقين ! > قالوا : والمقصرين يا رسول الله ! قال : < والمقصرين ! >
وقوله تعالى : { لاَ تَخَافُونَ } حال مؤكدة لقوله : { ءَامِنِينَ } أو مؤسسة ، لأن اسم الفاعل للحال والمضارع للاستقبال ، فيكون أثبت لهم الأمن حال الدخول . ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد ، لا يخافون من أحد .
قال الحافظ ابن كثير : وهذا كان في عَمْرة القضاء ، في ذي القعدة سنة سبع ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة ، رجع إلى المدينة ، فأقام بها ذا الحجة ومحرم ، وخرج في صفر إلى خيبر ، ففتحها الله عليه ، بعضها عنوة ، وبعضها صلحاً ، وهي إقليم عظيم ، كثير النخل والزروع ، فاستخدم من فيها من اليهود عليها ، على الشطر ، وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم ، ولم يشهدها أحد غيرهم ، إلا الذين قدموا من الحبشة : جعفر بن أبي طالب ، وأصحابه ، وأبو موسى الأشعري ، وأصحابه رضي الله عنهم ، ولم يغب منهم أحد .
قال ابن زيد : إلا أبا دجانة سِمَاك بن خرشة ، كما هو مقرر في موضعه . ثم رجع المدينة ، فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع ، خرج صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمراً ، هو وأهل الحديبية ، فأحرم من ذي الحليفة ، ساق معه الهدي . قيل : كان ستين بدنة . فلبى ، وسار وأصحابه يلبون ، قريباً من مر الظهران ، بعث محمد بن سلمة بالخيل والسلاح أمامه ، فلما رآه المشركون رعبوا رعباً شديداً ، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم ، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه ، من وضع القتال عشر سنين ، فذهبوا فأخبروا أهل مكة . فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بمر الظهران ، حيث ينظر إلى أنصاب الحرم ، بعث السلاح من القسي ، والنبل ، والرماح إلى بطن يأجج ، وسار بالسيوف إلى مكة مغمدة في قربها ، كما شارطهم عليه . فلما كان في أثناء الطريق ، بعثت قريش مكرز بن حفص فقال : يا محمد ! ما عرفناك تنقض العهد ! فقال صلى الله عليه وسلم : < وما ذاك ؟ > قال : دخلت علينا بالسلاح ، القسي والرماح ! فقال صلى الله عليه وسلم : < لم يكن ذلك ، وقد بعثنا به إلى يأجج ؟ > فقال : بهذا عرفناك ، بالبر والوفاء . وخرجت رؤوس الكفار من مكة ، لئلا ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى أصحابه رضي الله عنهم [ في المطبوع : عنه ] ، غيظاً وحنقاً . وأما بقية أهل مكة من الرجال ، والنساء ، والولدان فجلسوا في الطرق ، وعلى البيوت ، ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه ، فدخلها عليه الصلاة والسلام ، وبين يديه أصحابه يلبون ، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى ، وهو راكب ناقته القصواء ، التي كان راكبها يوم الحديبية ، وعبد الله بن رواحة الأنصاري آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يقول :
~بِاسْمِ الَّذِيْ لَاْ دِيْنَ إِلّاْ دِيْنُهُ بِاسْمِ الَّذِيْ مُحَمَّدٌ رَسُوْلُهُ
~خَلُّوْا بَنِي الْكُفَّاْرِ عَنْ سَبِيْلِهِ الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَىْ تَأْوِيْلِهِ
~كَمَاْ ضَرَبْنَاْكُمْ عَلَىْ تَنْزِيْلِهِ ضَرْباً يُزِيْلُ الْهَاْمَ عَنْ مَقِيْلِهِ
~وَيُذْهِلُ الْخَلِيْلَ عَنْ خَلِيْلِهِ قَدْ أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ فِيْ تَنْزِيْلِهِ
~فِيْ صُحُفٍ تُتْلَىْ عَلَىْ رَسُوْلِهِ بِأَنَّ خَيْرَ الْقَتْلِ فِيْ سَبِيْلِهِ
~يَاْ رَبِّ ! إِنِّيْ مُؤْمِنٌ بِقِيْلِهِ
وروى الإمام أحمد من طريق أبي الطفيل عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مرّ الظهران في عمرته ، بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشاً تقول : ما يتباعثون من العجف ؟ فقال أصحابه : لو انتحرنا ، من ظهرنا ، فأكلنا من لحمه ، وحسونا من مرقه ، وأصبحنا غداً حين ندخل على القوم ، وبنا جمامة . قال صلى الله عليه وسلم : < لا تفعلوا ، ولكن اجمعوا لي من أزوادكم > فجمعوا له ، وبسطوا الأنطاع ، فأكلوا حتى تولوا ، وحثا كل واحد منهم في جرابه . ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المسجد ، وقعدت قريش نحو الحِجر فاضطبع صلى الله عليه وسلم بردائه ، ثم قال : < لا يرى القوم فيكم غميزة > فاستلم الركن ، ثم دخل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود ، فقالت قريش : ما يرضون بالمشي إنهم لينقزون نقز الظباء ؟ ففعل ذلك ثلاثة أطواف ، فكانت سنّة .
قال أبو الطفيل : فأخبرني ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في حجة الوداع . وروى أحمد من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة ، وقد وهنتهم حمى يثرب ، ولقوا منها سوءاً ، فقال المشركون : إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب ، ولقوا منها شراً ، وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحجر ، فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُرملوا الأشواط الثلاثة ، ليرى المشركون جلدهم . قال ، فرملوا ثلاثة أشواط ، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين ، حيث لا يراهم المشركون . وفي رواية : ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم .
وفي ابن كثير زيادة من الأحاديث في هذا الباب ، فليراجعها من أحب الزيادة .
وقوله تعالى : { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا } أي : من الخيرة ، والمصلحة في صرفكم عن مكة ، ودخولكم إليها ، عامكم ذلك .
قال ابن جرير : وذلك علمه تعالى ذكره بما بمكة من الرجال ، والنساء المؤمنين لم يعلمهم المؤمنون ، ولو دخلوها في ذلك العام لوطئوهم بالخيل والرجل ، فأصابهم منهم معرة بغير علم ، فردهم الله عن مكة من أجل ذلك . وليدخل في رحمته من يشاء ممن يريد أن يهديه { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ } أي : قبل دخولكم الذي وعدتم به في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم : { فَتْحاً قَرِيباً } يعني الصلح الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش ، أو فتح خيبر ، لتستروح إليه قلوب المؤمنين ، إلى أن يتيسر الفتح الموعود . وإلى الأول ذهب الزهري ، قال : يعني صلح الحديبية . وما فتح في الإسلام فتح كان أعظم منه ، إنما كان القتال حيث التقى الناس . فلما كانت الهدنة ، وضعت الحرب ، وأمن الناس كلهم بعضهم بعضاً ، فالتقوا ، فتفاوضوا في الحديث والمنازعة ، فلم يكلم أحد بالإسلام ، يعقل شيئاً ، إلا دخل فيه . فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر . ووافقه مجاهد ، وإلى الثاني ذهب ابن زيد .
قال ابن جرير : والصواب أن يعم فيقال : جعل الله من دون ذلك كليهما .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً } [ 28 ] .
{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى } أي : البيان الواضح : { وَدِينِ الْحَقِّ } أي : الإسلام . وقال المهايمي : { بِالْهُدَى } أي : الدلائل القطعية : { وَدِينِ الْحَقِّ } أي : الاعتقادات الصائبة المطابقة لما هو الواقع أشد مطابقة .
وقال ابن كثير : أي : بالعلم النافع ، والعمل الصالح ، فإن الشريعة تشتمل على شيئين : علم وعمل . فالعلم الشرعي صحيح ، والعمل الشرعي مقبول ، فإخباراتها حق ، وإنشاءاتها عدل { لِيُظْهِرَهُ } أي : ليعليه : { عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } قال ابن جرير : أي : ليبطل به الملل كلها ، حتى لا يكون دين سواه . وذلك حين ينزل عيسى ابن مريم ، فيقتل الدجال ، فحينئذ تبطل الأديان كلها ، غير دين الله الذي بعث به محمداً صلى الله عليه وسلم ، ويظهر الإسلام على الأديان كلها . انتهى .
وقال ابن تيمية : قد أظهره الله علماً ، وحجةً ، وبياناً على كل دين ، كما أظهره قوة ونصراً وتأييداً ، وقد امتلأت الأرض منه ، ومن أمته في مشارق الأرض ، ومغاربها ، وسلطانهم دائم لا يقدر أحد أن يزيله ، كما زال ملك اليهود ، وزال ملك من بعدهم عن خيار الأرض ، وأوسطها . انتهى .
{ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً } أي : على أن ما وعده من إظهار دينه على جميع الأديان ، أو الفتح أو المغانم كائن . قال الحسن : شهد لك على نفسه أنه سيظهر دينك على الدين كله .
قال ابن جرير : وهذا إعلام من الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ، والذين كرهوا الصلح يوم الحديبية من أصحابه أن الله فاتح عليهم مكة ، وغيرها من البلدان ، مسلّيهم بذلك عما نالهم من الكآبة والحزن ، بانصرافهم عن مكة قبل دخولها ، وقبل طوافهم بالبيت .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } [ 29 ] .
{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ } أي : أصحابه : { أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } أي : لهم شدة وغلظة على الكفار المحاربين لهم ، الصادّين عن سبيل الله ، وعندهم تراحم فيها بينهم ، كقوله تعالى : { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ المائدة : 54 ] .
لطائف :
الأولى - جوز في : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ } أن يكونا مبتدأ وخبراً ، وأن يكون : { رَّسُولُ اللَّهِ } صفة ، أو عطف بيان ، أو بدلاً { وَالَّذِينَ مَعَهُ } عطف عليه . وخبرهما : { أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ } .
الثانية - قال الشهاب : قوله تعالى : { رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } تكميل ، لو لم يذكر لربما توهم أنهم لاعتيادهم الشدة على الكفار قد صار ذلك لهم سجية في كل حال ، وعلى كل أحد . فلما قيل : { رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } اندفع ذلك التوهم ، فهو تكميل واحتراس ، كما في الآية المتقدمة ، فإنه لما قيل : { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } ربما توهم أن مفهوم القيد غير معتبر ، وأنهم موصوفون بالذل دائماً ، وعند كل أحد ، فدفع بقوله : { أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } فهو كقوله :
~حَلِيْمٌ إِذَاْ مَا الْحُلْمُ زَيَّنَ أَهْلَهُ عَلَىْ أَنَّهُ عِنْدَ الْعَدُوِّ مَهِيْبُ
الثالثة - قال المهايمي : تفيد الآية أن دين الحق قد ظهر في أصحابه صلوات الله عليه ، إذ اعتدلت قوتهم الغضبية ! بتبعية اعتدال المفكرة والشهوية ؛ إذ هم أشداء على الكفار ، لرسوخهم في صحة الاعتقاد ، بحيث يغارون على من لم يصح اعتقاده ، رحماء بينهم ، لعدم ميلهم إلى الشهوات . هذا باعتبار الأخلاق ، وأما باعتبار الأعمال ، فأنت : { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً } قال ابن كثير : وصفهم بكثرة العمل ، وكثرة الصلاة ، وهي خير الأعمال . ووصفهم بالإخلاص فيها لله عز وجل ، والاحتساب عند الله تعالى جزيل الثواب ، وهو الجنة المشتملة على فضل الله عز وجل ، وهو سعة الرزق عليهم ورضاه تعالى عنهم ! وهو أكبر من الأولى ، كما قال جل وعلا : { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] انتهى .
{ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم } مبتدأ وخبر ، أي : علامتهم كائنة فيها . وقوله تعالى : { مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ } بيان للسيما ، كأنه قيل : سيماهم التي هي أثر السجود ، أو حال من المستكن في وجوههم .
قال الشهاب : وهي على ما قبله خبر مبتدأ تقديره : هي من أثر السجود . انتهى . وهل الوجوه مجاز عن الذوات ، أو حقيقة ؟ في معناها تأويلان للسلف ، فعن ابن عباس : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم } يعني السمت الحسن . وقال مجاهد وغير واحد ، يعني الخشوع والتواضع . وقال منصور لمجاهد : ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه ، فقال مجاهد ، ربما كان بين عيني من هو أقسى قلباً من فرعون .
وقال بعض السلف : من كثرت صلاته بالليل ، حسن وجهه بالنهار . وقد رفعه ابن ماجه . والصحيح أنه موقوف . وقال بعضهم : عن للحسنة لنوراً في القلب ، وضياء في الوجه ، وسعة في الرزق ، ومحبة في قلوب الناس . وقال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه : ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه ، وفلتات لسانه .
وروى الطبراني مرفوعا : < ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله تعالى رداءها ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر > وإسناده واه ؛ لأن فيه العرزمي [ في المطبوع : العزرمي ] وهو متروك .
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ، ليس لها باب ولا كوة ، لخرج عمله للناس كائناً ما كان > .
وأخرج أيضاً عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < إن الهدى الصالح ، والسمت الصالح والاقتصاد ، جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة > . ورواه أبو داود أيضاً .
والتأويل الثاني في الآية ، أن ذلك آثار ترى في الوجه من ثرى الأرض ، أو ندى الطهور . روي ذلك عن ابن جبير وعكرمة . وقد كان ذلك في العهد النبوي ، حيث لا فراش للمسجد إلا ترابه وحصباؤه .
وكل من المعنيين من سيماهم رضي الله عنهم وأرضاهم .
وقوله تعالى : { ذَلِكَ } أي : الوصف : { مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ } أي : صفتهم العجيبة فيها : { وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } أي : فراخه ، أو سنبله ، أو نباته : { فَآزَرَهُ } أي : قواه : { فَاسْتَغْلَظَ } أي : فغلظ الزرع واشتد . فالسين للمبالغة في الغلظ ، أو صار من الدقة إلى الغلظ : { فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } أي : استقام على قصبه . والسوق جمع ساق : { يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ } أي : يعجب هذا الزرع الذي استغلظ فاستوى على سوقه في تمامه ، وحسن نباته ، وبلوغه وانتهائه ، الذين زرعوه . وقوله تعالى : { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } تعليل لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وقوتهم ، كأنه قيل : إنما قوّاهم وكثّرهم ليغيظ بهم الكفار .
لطائف :
الأولى : يجوز في قوله تعالى : { وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ } وجهان :
أحدهما - أنه مبتدأ ، وخبره : { كَزَرْعٍ } فيوقف على قوله : { فِي التَّوْرَاةِ } فهما مثلان ، وإليه ذهب ابن عباس .
والثاني - أنه معطوف على : { مَثَلُهُمْ } الأول ، فيكون مثلاً واحداً في الكتابين ، ويوقف حينئذ على : { فِي الْإِنجِيلِ } ، وإليه نحا مجاهد والفراء ، ويكون قوله : { كَزَرْعٍ } في هذا فيه أوجه :
أحدهما - أنه خبر مبتدأ مضمر . أي : مثلهم كزرع ، فسر به المثل المذكور في الإنجيل .
الثاني - أنه حال من الضمير في : { مَثَلُهُمْ } أي : مماثلين زرعاً هذه صفته .
الثالث - أنه نعت مصدر محذوف ، أي : تمثيلاً كزرع - ذكره أبو البقاء - .
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون : { ذَلِكَ } إشارة مبهمة أوضحت بقوله : { كَزَرْعٍ } كقوله : { وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ } [ الحجر : 66 ] ، - أفاده السمين - .
الثانية - قال السمين : الضمير المستتر في : { فَآزَرَهُ } للزرع ، والبارز للشطء . وعكس النسفي ، فجعل المستتر للشط ، والبارز للزرع . أي : فقوي الشطء بكثافة الزرع وكثافته كثرة فروعه وأوراقه . قال الجمل : وما صنعه النسفي أنسب ؛ فإن العادة أن الأصل يتقوى بفروعه ، فهي تعينه وتقويه .
الثالثة - قال السمين : { يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ } حال . أي : حال كونه معجباً ، وهنا تمّ المثل .
الرابعة - قال الزمخشري : هذا مثل ضربه الله لبدء أمر الإسلام ، وترقّيه في الزيادة ، إلى أن قوي واستحكم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام وحده ، ثم قوّاه الله بمن آمن معه ، كما يقوّي الطاقة الأولى من الزرع ، ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزراع . وهذا ما قاله البغوي من أن الزرع : محمد ، والشطء : أصحابه والمؤمنون ، فجعلا التمثيل للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته .
وأما القاضي فجعله مثالاً للصحابة فقط . وعبارته : وهو مثل ضربه الله تعالى للصحابة ، قلّوا في بدء الإسلام ، ثم كثروا واستحكموا ، فترقّى أمرهم ، بحيث أعجب الناس .
قال الشهاب : ولكل وجهة .
الخامسة - قال ابن كثير : من هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه ، في رواية عنه ، تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم . قال : لأنهم يغيظونهم ، ومن غاظ الصحابة ، فهو كافر لهذه الآية . ووافقه طائفة من العلماء على ذلك - انتهى كلام ابن كثير - .
ولا يخفاك أن هذا خلاف ما اتفق عليه المحققون من أهل السنة والجماعة من أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة ، كما بسط في كتاب العقائد ، وأوضحه النووي في " شرح مقدمة مسلم " ، وقبله الإمام الغزالي في كتابه " فيصل التفرقة " . وقد كان من جملة البلاء في القرون الوسطى التسرع من الفقهاء بالتفكير والزندقة . وكم أريقت دماء في سبيل التعصب لذلك ، كما يمر كثير منهم بقارئ التاريخ . على أن كلمة الأصوليين اتفقت على أن المجتهد كيفما كان ، مأجور غير مأزور ، ناهيك بمسألة عدالتهم المتعددة أقوالها ، حتى في أصغر كتاب في الأصول كمثل " جمع الجوامع " . نعم ، إن التطرف والغلوّ في المباحث ليس من شأن الحكماء المنصفين . وإذا اشتد البياض صار برصاً .
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا } أي : صدقوا الله ورسوله : { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً } أي : عفواً عما مضى من ذنوبهم ، وسيء أعمالهم بحسنها { وَأَجْراً عَظِيماً } أي : ثواباً جزيلاً ، وهو الجنة .
بسم الله الرحمن الرحيم(/)
سورة الحجرات
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ 1 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } قال ابن جرير : أي : يا أيها الذين أقروا بوحدانية الله ، ونبوة نبي صلى الله عليه وسلم ، لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم ، قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله ، فتقضوا بخلاف أمر الله ، وأمر رسوله . محكي عن العرب : فلان يقدم بين يدي إمامه ، بمعنى يعجل الأمر والنهي دونه . انتهى .
و : { تُقَدِّمُوا } إما متعد حذف مفعوله ، لأنه أريد به العموم ، أو أنه نزل منزلة اللازم لعدم القصد إلى المفعول ، كما تقول : فلان يعطي ويمنع ، أو هو لازم ، فإن قدم ، يرد بمعنى تقدم كبيّن ، فإنه متعد ، ويكون لازماً بمعنى تبين .
وفي هذه الجملة تجوزان :
أحدهما - في بين اليدين ، فإن حقيقته ما بين العضوين ، فتجوز بهما عن الجهتين المقابلتين لليمين والشمال ، قريباً منه بإطلاق اليدين على ما يجاورهما ويحاذيهما . فهو من المجاز المرسل ، ثم استعيرت الجملة استعارة تمثيلية للقطع بالحكم بلا اقتداء ، ومتابعة لمن يلزم متابعته ، تصويراً لهجنته وشناعته ، بصورة المحسوس ، كتقدم الخادم بين يدي سيده في مسيره ، فنقلت العبارة الأولى ، بما فيها من المجاز ، إلى ما ذكر ، على ما عرف أمثاله - هذا محصل ما في " الكشاف " و " شروحه " .
قال ابن كثير : معنى الآية : لا تسرعوا في الأشياء قبله ، بل كونوا تبعاً له في جميع الأمور ، حتى يدخل في عموم هذا الأدب حديث معاذ رضي الله عنه . قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن : < بم تحكم ؟ > قال : بكتاب الله تعالى . قال صلى الله عليه وسلم : < فإن لم تجد ؟ > قال : بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال صلى الله عليه وسلم : < فإن لم تجد ؟ > قال رضي الله عنه : أجتهد رأيي ! فضرب في صدره وقال : < الحمد لله الذي وفق رسولَ رسول الله لما يرضي رسول الله > . وقد رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه . والغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة ، ولو قدمه قبل البحث عنهما ، لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله . انتهى .
وقد جوز أن يكون المراد : بين يدي رسول الله ، وذكر الله ؛ لبيان قوة اختصاصه به تعالى ، ومنزلته منه ، تمهيداً وتوطئة لما بعده . وقد أيد هذا ، بأن مساق الكلام لإجلاله صلى الله عليه وسلم .
تنبيه :
قال ابن جرير : بضم التاء من قوله : { لَا تُقَدِّمُوا } قرأ قراءة الأمصار ، وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها ، لإجماع الحجة من القراء عليها . وقد حكى عن العرب : قدّمت في كذا وتقدمت في كذا . فعلى هذه اللغة لو كان قيل : لا تَقدموا ، بفتح التاء ، كان جائزاً . انتهى . وبه قرأ يعقوب فيما نقل عنه .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : في التقديم أو مخالفة الحكم . والأمر بالتقوى على أثر ما تقدم ، بمنزلة قولك للمقارف بعض الدلائل : لا تفعل هذا ، وتحفظ مما يلصق العار بك . فتنهاه أولاً عن عين ما قارفه ، ثم تعمّ وتأمره بما لو امتثل أمرك فيه ، لم يرتكب تلك الغفلة ، وكل ما يضرب في طريقها ، ويتعلق بسببها - أشار له الزمخشري - .
{ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : فحقيق أن يتقى ويراقب .
تنبيه :
في " الإكليل " : قال إلكيا الهراسي : قيل نزلت في قوم ذبحوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم أن يعيدوا الذبح . وعموم الآية النهي عن التعجيل في الأمر والنهي ، دونه . ويحتج بهذه الآية في اتباع الشرع في كل شيء . وربما احتج به نفاة القياس ، وهو باطل منهم . ويحتج به في تقديم النص على القياس . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } [ 2 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } أي : إذا نطق ونطقتهم ، فلتكن أصولتكم قاصرة عن الحد الذي يبلغه صوته ، ليكون عالياً لكلامكم ، لا أن تغمروا صوته بلغطكم ، وتبلغوا أصواتكم إلى أسماع الحاضرين قبل صوته ، فإن ذلك من سوء الأدب بمكان كبير : { وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } أي : بل تعمدوا في مخاطبته القول اللين ، القريب من الهمس ، الذي يضادّ الجهر ، كما تكون مخاطبة المهيب المعظم . وروي عن مجاهد تفسيره بندائه باسمه ، أي : لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضاً : يا محمد ! يا محمد ! بل يا نبي الله ! يا رسول الله ! ونظر فيه شراح " الكشاف " بأن ذكر الجهر حينئذ لا يظهر له وجه ، إذ الظاهر أن يقال : لا تجعلوا خطابه كخطاب بعضكم لبعض ، كما مر في قوله : { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً } [ النور : 63 ] . انتهى .
ولك أن تقول : إنما أفرغ هذا المعنى المروي عن مجاهد في قالب ذاك اللفظ الكريم جرياً على سنة التنزيل في إيثار أرق الألفاظ والجمل ، وألطفها في ذلك ، فإن أسلوبه فوق كل أسلوب وقد قال : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به : { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ } أي : مخافة أن تحبط أعمالكم ، برفع صوتكم فوق صوته ، وجهركم له بالقول كجهركم لبعضكم : { وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } أي : لا تعلمون ، ولا تدرون بحبوطها .
تنبيه :
استدلت المعتزلة بالآية على أن الكبائر محبطة الأعمال ، لأن المذكور في الآية كبيرة محبطة ولا فرق بينها وبين غيرها . ولما كان عند أهل السنة ، المحبط للأعمال هو الكفر خاصة ، تأولوا الآية بأنها للتغليظ والتخويف ، إذ جعلت بمنزلة الكفر المحبط ، أو هي للتعريض بالمنافقين المقاصدين بالجهر والرفع الاستهانة ، فإن فعلهم محبط قطعاً .
وقال الناصر : المراد في الآية النهي عن رفع الصوت على الإطلاق . ومعلوم أن حكم النهي الحذر مما يتوقع في ذلك من إيذاء النبي عليه الصلاة والسلام . والقاعدة المختارة أن إيذاءه عليه الصلاة والسلام يبلغ مبلغ الكفر المحبط للعمل باتفاق . فورد النهي عما هو مظنة لأذى النبي عليه الصلاة والسلام ، سواء وجد هذا المعنى أو لا ، حماية للذريعة ، وحسماً للمادة . ثم لما كان هذا المنهي عنه - وهو رفع الصوت - منقسماً إلى ما يبلغ ذلك المبلغ أولاً ، ولا دليل يميز أحد القسمين عن الآخر ، لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقاً ، وخوّف أن يقع فيما هو محبط للعمل ، وهو البالغ حد الإيذاء ، إذ لا دليل ظاهر يميزه . وإن كان ، فلا يتفق تمييزه في كثير من الأحيان ، وإلى التباس أحد القسمين بالآخر وقعت الإشارة بقوله : { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } . وإلا فلو كان الأمر على ما تعتقده المعتزلة ، لم يكن لقوله : { وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } موقع ؛ إذ الأمر بيْن أن يكون رفع الصوت مؤذياً ، فيكون كفراً محبطاً قطعاً ، وبين أن يكون غير مؤذٍ ، فيكون كبيرة محبطة على رأيهم قطعاً . فعلى كلا حاليه ، الإحباط به محقق ، إذن فلا موقع لإدغام الكلام بعدم الشعور ، مع أن الشعور ثابت مطلقاً - والله أعلم - .
ثم قال : وهذا التقرير الذي ذكرته يدور على مقدمتين ، كلتاهما صحيحة :
إحداهما - أن رفع الصوت من جنس ما يحصل به الإيذاء ، وهذا أمر يشهد به النقل والمشاهدة الآن ، حتى إن الشيخ ليتأذى برفع التلميذ صوته بين يديه . فكيف برتبة النبوة ، وما تستحقه من الإجلال والإعظام .
المقدمة الأخرى - أن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم كفر . وهذا أمر ثابت قد نص عليه أئمتنا - يعني المالكية - وأفتوا بقتل من تعرض لذلك كفراً ، ولا تقبل توبته ، فما أتاه أعظم عند الله وأكبر ، والله الموفق . انتهى .
ولا يخفى أن الإنصاف هو الوقوف مع ما أوضحه النص وأبانه ، فكل موضع نص فيه على الإحباط وجب قبوله بدون تأويل ، وامتنع القياس عليه ، لأنه مقام توعد وخسران ، ولا مجال للرأي في مثل ذلك . هذا ما أعقده وأراه . والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } [ 3 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ } أي : يبالغون في خفضها : { عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } قال ابن جرير : أي : اصطفاها وأخلصها للتقوى يعني لاتقائه بأداء طاعته ، واجتناب معاصيه ، كما يمتحن الذهب بالنار ، فيخلص جيدها ، ويبطل خبثها : { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } أي : ثواب جزيل ، وهو الجنة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } [ 4 ] .
{ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ } أي : يدعونك : { مِن وَرَاء } أي : خارج : { الْحُجُرَاتِ } أي : عند كونك فيها ، استعجالاً لخروجك إليهم ، ولو بترك ما أنت فيه من الأشغال : { أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } إذ لا يفعله محتشم ، ولا يفعل لمحتشم ، فلا يراعون حرمة أنفسهم ، ولا حرمتك ، ونسب إلى الأكثر ، لأنه قد يتبع عاقل جماعة الجهال ، موافقة لهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 5 ] .
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } أي : لأن خروجه باستعجالهم ربما يغضبه ، فيفوتهم فوائد رؤيته وكلامه . وإن صبروا استفادوا فوائد كثيرة ، مع اتصافهم بالصبر ، ورعاية الحرمة لنبيهم وأنفسهم : { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : لمن تاب من معصية الله ، بندائك كذلك ، وراجع أمر الله فيه ، وفي غيره .
تنبيهات :
الأول - قال ابن كثير : قد ذكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي ، فيما أورده غير واحد .
روى الإمام أحمد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن الأقرع بن حابس ؛ أنه نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ! يا محمد ! - وفي رواية : يا رسول الله ! - فلم يجبه . فقال : يا رسول الله ! إن حمدي لزين ، وإن ذمّي لشين ، فقال : < ذاك الله عز وجل > .
وروى ابن إسحاق ، في ذكر سنة تسع ، وهي المسماة سنة الوفود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة ، وفرغ من تبوك ، وأسلمت ثقيف وبايعت ، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه ، فكان منهم وفد بني تميم . فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته : أن أخرج إلينا يا محمد ! فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياحهم ، فخرج إليهم . ثم ساق ابن إسحاق نبأهم مطولاً ثم قال : وفيهم نزل من القرآن : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } .
الثاني - : { الْحُجُرَاتِ } بضمتين ، وبفتح الجيم ، وبسكونها . وقرئ بهن جميعاً : جمع حجرة . وهي الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوّط عليها . فعلة بمعنى مفعولة ، كالغرفة والقبضة .
قال الزمخشري : والمراد حجرات نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكانت لكل واحدة منهن حجرة . ومناداتهم من ورائها يحتمل أنهم قد تفرقوا على الحجرات ، متطلبين له ، فناداه بعض من وراء هذه ، وبعض من وراء تلك ، وأنهم قد أتوها حجرة حجرة ، فنادوه من ورائها . وأنهم نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها . ولكنها جمعت إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكمان حرمته . والفعل - وإن كان مسنداً إلى جميعهم - فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم ، وكان الباقون راضين ، فكأنهم نولوه جميعاً .
الثالث - قال الزمخشري : ورود الآية على النمط الذي وردت عليه ، فيه ما لا يخفى على الناظر من بينات إكبار محل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلاله .
منها - مجيئها على النظم المسجل على الصائحين به ، بالسفه والجهل ، لما أقدموا عليه .
ومنها - لفظ : { الْحُجُرَاتِ } وإيقاعها ، كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه .
ومنها - المرور على لفظها بالاقتصار على القدر الذي تبين به ما استنكر عليهم .
ومنها - التعريف باللام دون الإضافة .
ومنها - أن شفع ذمهم باستجفائهم واستركاك عقولهم ، وقلة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات ، تهويناً للخطب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتسلية له ، وإماطة لما تداخله من إيحاش تعجزهم ، وسوء أدبهم ، وهلم جرا . . . من أول السورة إلى آخر هذه الآية . فتأمل كيف ابتدئ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله ، متقدمة على الأمور كلها ، من غير حصر ولا تقييد . ثم أردف ذلك النهي عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر ، كأن الأول بساط الثاني ، ووطاء لذكره . ثم ذكر ما هو ثناء على الذين تحاموا ذلك ، فغضوا أصواتهم ، دلالة على عظيم موقعه عند الله . ثم جيء على عقب ذلك بما هو أطم ، وهجنته أتم ، من الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم ، في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر ، كما يصاح بأهون الناس قدراً ، لينبه على فظاعة ما أجروا إليه ، وجسروا عليه ، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول ، حتى خاطبه جلّة المهاجرين والأنصار بأخي السرار ، كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ من التفاحش مبلغاً . ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب ، وتقتبس محاسن الآداب ، كما يحكى عن أبي عبيد - ومكانه من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى - أنه قال : ما دققت باباً على عالم قط ، حتى يخرج في وقت خروجه . انتهى .
الرابع - قال ابن كثير : قال العلماء : يكره رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم ، كما كان يكره في حياته ؛ لأنه محترم حياً ، وفي قبره صلى الله عليه وسلم . وقد روينا عن أمير المؤمنين عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما ، فحصبهما . ثم ناداهما فقال : من أين أنتما ؟ قالا : من أهل الطائف . قال : لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً . انتهى .
الخامس - روى البخاري عن عبد الله بن الزبير أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر : أمّر القعقاع بن مَعْبَد ، وقال عمر : أمر الأقرع بن حابس . فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي ! فقال عمر : ما أردت خلافك ! فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما . فنزل في ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } حتى انقضت الآية .
وفي رواية : فأنزل الله في ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُم } الآية .
قال ابن الزبير : فما كان عمر يُسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه . وقد انفرد بهاتين الرايتين البخاري دون ومسلم .
قال الحافظ ابن حجر : وقد استشكل ذلك ! قال ابن عطية : الصحيح أن سبب نزول هذه الآية كلام جفاة الأعراب .
قال ابن حجر : قلت : لا يعارض ذلك هذا الحديث ، فإن الذي يتعلق بقصة الشيخين في تخالفهما في التأمير هو أول السورة : { لَا تُقَدِّمُوا } ولكن لما اتصل بها قوله : { لَا تَرْفَعُواْ } تمسك عمر منها بخفض صوته . وجفاة الأعراب الذين نزلت فيهم هم من بني تميم ، والذين يختص بهم ، وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ } انتهى .
وتقدم لنا مراراً الجواب عن أمثاله ، بأن قولهم : نزلت الآية في كذا ، قد يكون المراد به الاستشهاد على أن مثله مما تتناوله الآية ، لا أنه سبب لنزولها .
قال الإمام ابن تيمية : قولهم نزلت هذه الآية في كذا ، يراد به تارة سبب النزول ، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية ، وإن لم يكن السبب . كما تقول : عنى بهذه الآية كذا . انتهى .
وبه يجاب عما يرويه كثير من تعدد سبب النزول ، فاحفظه ، فإنه من المضنون به على غير أهله . ولو وقف عليه ابن عطية لما ضعف رواية البخاري ، ولما تمحل ابن حجر لتفكيك الآيات بجعل بعضها لسبب . وبعضها الآخر ، في قصة واحدة . وبالله التوفيق . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [ 6 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } أي : فاستظهروا صدقه من كذبه ، بطريق آخر كراهة : { أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ } أي : قوماً براء مما قذفوا به بغية أذيتهم بجهالة لاستحقاقهم إياها ، ثم يظهر لكم عدم استحقاقهم : { فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } أي : فتندموا على إصابتكم إياها بالجناية التي تصيبونهم بها ، وحق المؤمن أن يحترز مما يخاف منه الندم في العواقب .
تنبيهات :
الأول - قال ابن كثير : ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق . وقد روي ذلك من طرق . ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية مالك عن ابن المصطلق ، وهو الحارث بن ضرار والد جويرية أم المؤمنين رضي الله عنها . قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن سابق ، حدثنا عيسى بن دينار ، حدثني أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخُزَاعِي رضي الله عنه يقول : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاني إلى الإسلام ، فدخلت فيه ، وأقررت به ، ودعاني إلى الزكاة ، فأقررت بها وقلت : يا رسول الله ! أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام ، وأداء الزكاة ، فمن استجاب لي جمعت زكاته ، وأرسل إليّ يا رسول الله رسولاً إبّان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة .
فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له ، وبلغ الإبّان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه ، احتبس عليه الرسول ، فلم يأته ، وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله ، فدعا بسروات قومه ، فقال لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقّت لي وقتاً يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة ، وليس من رسول الله الخلف ، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة ، فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة . فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فَرِقَ ، فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إن الحارث منعني الزكاة ، وأراد قتلي . فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث .
فأقبل الحارث بأصحابه ، حتى إذا استقبل البعث ، وفصل من المدينة ، لقيهم الحارث ، فقالوا : هذا الحارث ! فلما غشيهم قال لهم : إلى من بعثتم ؟ قالوا : إليك . قال : ولِمَ ؟ قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة ، فزعم أنك منتعته الزكاة ، وأردت قتله ! قال : لا ، والذي بعث محمداً بالحق ، ما رأيته بتة ، ولا أتاني . فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < منعت الزكاة ، وأردت قتل رسولي ؟ ! > قال : لا ، والذي بعثك بالحق ! ما رأيته بتة ! ولا أتاني ! وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ! خشيت أن تكون كانت سخطة من الله تعالى ورسوله . فنزلت الحجرات : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ } إلى قوله : { حَكِيمٌ } .
وقال مجاهد وقتادة : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق يتصدقهم ، فتلقوه بالصدقة ، فرجع فقال : إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك - زاد قتادة - : وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه إليهم ، وأمره أن يتثبّت ولا يعجل ، فانطلق حتى أتاهم ليلاً ، فبعث عيونه ، فلما جاءوا أخبروا خالدا رضي الله عنه أنهم مستمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم . فلما أصبحوا أتاهم خالد رضي الله عنه فرأى الذي يعجبه . فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . قال قتادة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < التثبت من الله ، والعجلة من الشيطان > . وكذا ذكر غير واحد من السلف ، منهم ابن أبي ليلى ، ويزيد بن رومان ، والضحاك ، ومقاتل ، وغيرهم في هذه الآية ، أنها نزلت في الوليد بن عقبة - والله أعلم - انتهى .
قال ابن قتيبة في " المعارف " : الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عَمْرو بن أمية ابن عبد شمس ، وهو أخو عثمان لأمه أروى بنت كريز . أسلم يوم فتح مكة ، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً إلى بني المصطلق ، فأتاه فقال : منعوني الصدقة ! وكان كاذباً . فأنزل الله هذه الآية . وولّاه عمر على صدقات بني تغلب ، وولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص ، فصلى بأهلها صلاة الفجر ، وهو سكران ، أربعاً ، وقال : أزيدكم ؟ ! فشهدوا عليه بشرب الخمر عند عثمان ، فعزله وحدّه . ولم يزل بالمدينة حتى بويع علي ، فخرج إلى الرقة فنزلها ، واعتزل علياً ومعاوية . ومات بناحية الرقة .
الثاني - في " الإكليل " : في الآية رد خبر الفاسق ، واشتراط العدالة في المخبر ، راوياً كان ، أو شاهداً ، أو مفتياً . ويستدل بالآية على قبول خبر الواحد العدل . قال ابن كثير : ومن هنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال ، لاحتمال فسقه في نفس الأمر ، وقبلها آخرون ، لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق ، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال .
الثالث - في قوله تعالى : { فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } فائدتان :
إحداهما - تقرير التحذير وتأكيده . ووجهه هو أنه تعالى لما قال : { أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ } قال بعده : وليس ذلك مما لا يلتفت إليه ، ولا يجوز للعاقل أن يقول : هب أني أصبت قوماً ، فماذا علي ؟ بل عليكم منه الهم الدائم ، والحزن المقيم . ومثل هذا الشيء واجب الاحتراز منه .
والثانية - مدح المؤمنين : أي : لستم قال المهايمي : إذا فعلوا سيئة لا يلتفتون إليها ، بل تصبحون نادمين عليها - أفاده الرازي - .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ } [ 7 ] .
{ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ } قال ابن جرير : يقول تعالى ذكره لأصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم : واعلموا أيها المؤمنون بالله ورسوله أن فيكم رسول الله ، فاتقوا الله أن تقولوا الباطل ، وتفتروا الكذب ، فإن الله يخبره أخباركم ، ويعرفه أنباءكم ، ويقوّمه على الصواب في أموره .
{ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } قال الطبري : أي : لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمل في الأمور بآرائكم ، ويقبل منكم ما تقولون له ، فيطيعكم ، لنالكم عنت - يعني الشدة والمشقة - في كثير من الأمور ، بطاعته إياكم ، لو أطاعكم ، لأنه كان يخطئ في أفعاله ، كما لو قبل من الوليد بن عقبة قوله في بني المصطلق ، أنهم قد ارتدوا ومنعوا الصدقة وجمعوا الجموع لغزو المسلمين ، فغزاهم فقتل منهم ، وأصاب من دمائهم وأموالهم ، كان قد قتل وقتلتم من لا يحل له ولا لكم قتله ، وأخذتم من المال ما لا يحل له ولكم أخذه من أموال قومٍ مسلمين ، فنالكم من الله بذلك عنت . والعنت : المشقة ، أو الهلاك ، أو الإثم ، أو الفساد .
تنبيه :
أن بما في حيزها سادة مسدّ مفعولي : { اعْلَمُوا } باعتبار ما قيد به من الحال ، وهو قوله : { لَوْ يُطِيعُكُمْ } الخ ، فإنه حال من الضمير المجرور في : { فِيكُمْ } المستتر فيه . والمعنى : أنه فيكم كائناً على حالة يجب تغييرها ، أو كائنين على حالة كذلك ، وهي أنكم تودّون أن يتبعكم في كثير من الحوادث ، ولو فعل ذلك لوقعتم في الجهل والهلاك . وفيه إيذان بأن بعضهم زين لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقع في بني المصطلق ، وأنه لم يطع رأيهم هذا . ويجوز أن يكون : { لَوْ يُطِيعُكُمْ } مستأنفاً . إلا أن الزمخشري منع هذا الاحتمال ، قال : لأدائه إلى تنافر النظم ، لأنه لو اعتبر : { لَوْ يُطِيعُكُمْ } الخ كلاماً برأسه ، لم يأخذ الكلام بحجز بعض ، لأنه لا فائدة حينئذ في قوله : { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ } إذا قطع عما بعده . وأجيب بجواز أن يقصد به التنبيه على جلالة محله صلى الله عليه وسلم ، وأنهم لجهلهم بمكانه مفرّطون فيما يجب له من التعظيم ، وفي أن شأنهم أن يتبعوه ، ولا يتبعوا آراءهم ، حتى كأنهم جاهلون بأنه بين أظهرهم ، فوضح جواز الاستئناف ، والوقف على : { رَسُولَ اللَّهِ } .
{ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } أي : فما أجدركم أن تطيعوا رسول الله وتأتمّوا به ، فيقيكم الله بذلك من العنت فيما لو استتبعتم رأي رسول الله لرأيكم : { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ } أي : بالله : { وَالْفُسُوقَ } يعني الكذب : { وَالْعِصْيَانَ } أي : مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتضييع ما أمر الله به . : { أُوْلَئِكَ } أي : المصوفون بمحبة الإيمان ، وتزينه في قلوبهم ، كراهتهم المعاصي : { هُمُ الرَّاشِدُونَ } أي : السالكون طريق الحق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ 8 ] .
{ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً } أي : إحساناً منه ، ونعمة أنعمها عليكم . قال القاشاني : كان فضلاً بعنايته بهم في الأزل ، المقتضية للهداية الروحانية الاستعدادية المستتبعة لهذه الكمالات في الأبد . ونعمة بتوفيقه إياهم للعمل بمقتضى تلك الهداية الأصلية ، وإعانته بإفاضة الكمالات المناسبة لاستعداداتهم ، حتى اكتسبوا ملكة العصمة الموجبة لكراهة المعصية . وهو تعليل لـ : حبّب ، وكرّه ، وما بينهما اعتراض ، أو نصب بفعل مضمر ، أي : جرى ذلك فضلاً ، أو يبتغون فضلاً { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : ذو علم بالمحسن ، والمسيء ، وحكمة في تدبير خلقه ، وتصريفهم فيما شاء من قضائه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [ 9 ] .
{ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } أي : تقاتلوا : { فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } قال ابن جرير : أي : بالدعاء إلى حكم كتاب الله ، والرضا بما فيه ، لهما وعليهما ، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل .
{ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى } أي : فإن أبت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله ، له وعليه ، وتعدت ما جعل الله عدلاً بين خلقه ، وأجابت الأخرى منهما { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي } أي : تعتدي وتأبى الإجابة إلى حكم الله : { حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } أي : ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه : { فَإِن فَاءتْ } أي : رجعت الباغية ، بعد قتالكم إياهم ، إلى الرضا بحكم الله في كتابه : { فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ } أي : بالإنصاف بينهما ، وذلك حكم الله في كتابه الذي جعله عدلاً بين خلقه : { وَأَقْسِطُوا } أي : اعدلوا في كل ما تأتون وتذرون { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } أي : فيجازيهم أحسن الجزاء .
تنبيهات :
الأول - قال القاشاني : الاقتتال لا يكون إلا للميل إلى الدنيا ، والركون إلى الهوى ، والانجذاب إلى الجهة السفلية ، والتوجه إلى المطالب الجزئية . والإصلاح إنما يكون من لزوم العدالة في النفس التي هي ظل المحبة ، التي هي ظل الوحدة . فلذلك أمر المؤمنون الموحدون بالإصلاح بينهما ، على تقدير بغيهما . والقتال مع الباغية على تقدير بغي إحداهما ، حتى ترجع . لكون الباغية مضادة للحق ، دافعة له .
وقد روي أن هذه الآية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلتا في بعض ما تنازعتا فيه بالنعال والأيدي ، لا بالسيوف ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاهم فحجز بينهم وأصلح . روي ذلك من طريق عديدة ، مما يقوي أن القتال الذي نزلت فيه كان حقيقياً .
ويروى عن الحسن أن الاقتتال بمعنى الخصومة ، والقتال بمعنى الدفع مجازاً . قال - فيما رواه الطبريّ عنه - : كانت تكون الخصومة بين الحيين ، فيدعوهم إلى الحكم ، فيأبون أن يجيبوا ، فأنزل الله : { وَإِن طَائِفَتَانِ } إلى قوله : { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي } الآية . يقول : ادفعوا إلى الحكم ، فكان قتالهم الدفع . انتهى . ولا يخفى أن المادة قد تحمل على حقيقتها ومجازها فتتسع لهما . وقد قال اللغويون : ليس كل قتال قتلاً . وقد يفضي الخصام إلى القتل ، فلا مانع أن يراد من الآية ما هو أعم ، لتكون الفائدة أشمل - والله أعلم - .
الثاني - في " الإكليل " : في الآية وجوب الصلح بين أهل العدل والبغي ، وقتال البغاة وهو شامل لأهل مكة كغيرهم ، وأن من رجع منهم وأدبر لا يقاتل ، لقوله : { حَتَّى تَفِيءَ } . انتهى .
وقد روى سعيد عن مروان قال : صرخ صارخ لعليّ يوم الجمل : لا يقتل مدبر ، ولا يذفف على جريح ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن ألقى السلاح فهو آمن .
وقد اتفق الفقهاء على حرمة قتل مدبرهم وجريحهم ، وأنه لا يغنم لهم مال ، ولا تسبى لهم ذرية ، لأنهم لم يكفروا ببغيهم ولا قتالهم . وعصمة الأموال تابعة لدينهم ، ولذا يجب رد ذلك إليهم إن أخذ منهم . ولا يضمنوا ما أتلفوه حال الحرب من نفس أو مال . ومن قتل من أهل البغي غسل ، وكفن ، وصُلي عيه ، فإن قتل العادل كان شهيداً ، فلا يغسل ، ولا يصلى عليه ، لأنه قتل في قتال أمره الله تعالى به ، كشهيد معركة الكفار . وأن أظهر قوم رأي الخوارج . مثل تكفير من ارتكب كبيرة ، وترك الجماعة ، واستحلال دماء المسلمين وأموالهم ، ولم يجتمعوا لحرب ، لم يتعرّض لهم . وإن جنوا جناية وأتوا حداً ، أقامه عليهم .
وإن اقتتلت طائفتان لعصبية ، أو طلب رئاسة ، فهما ظالمتان ؛ لأن كل واحدة منهما باغية على الأخرى ، وتضمن كل واحدة منهما ما أتلف على الأخرى .
هذه شذرة مما جاء في " الإقناع " ، و " شرحه " وتفصيله ثمة .
الثالث - قال في " شرح الإقناع " : في الآية فوائد : منها أنهم لم يخرجوا بالبغي عن الإيمان ، وأنه أوجب قتالهم ، وأنه أسقط عنهم التبعة فيما أتلفوه في قتالهم . وإجازة كل من منع حقّاً عليه . والأحاديث بذلك مشهورة : منها ما روى عُبَاْدَة بن الصامت قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة ، في المنشط والمكره ، وأن لا ننازع الأمر أهله . متفق عليه . وأجمع الصحابة على قتالهم ، فإن أبا بكر قاتل مانعي الزكاة ، وعلياً قاتل أهل الجمل ، وأهل صفّين . انتهى .
وتدل الآية أيضاً على وجوب معاونة من بغى عليه ، لقوله : { فَقَاتِلُواْ } ، وعلى وجوب تقديم النصح ، لقوله : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } ، وعلى السعي في المصالحة ، وذلك ظاهر .
الرابع - وجه الجمع في : { اقْتَتَلُواْ } ، مع أنه قد يقال : مقتضى الظاهر : اقتتلتا ، هو الحمل على المعنى دون اللفظ ؛ لأن الطائفين في معنى القوم والناس . والنكتة في اعتبار المعنى أولاً . واللفظ ثانياً عكس المشهور في الاستعمال ، ما قيل إنهم أولاً في حال القتال مختلطون مجتمعون ، فلذا جمع أولاً ضميرهم ، وفي حال الإصلاح متميزون متفارقون ، فلذا ثنى الضمير ثانياً وسرّ قرْن الإصلاح الثاني بالعدل ، دون الأول ، لأن الثاني لوقوعه بعد المقاتلة مظنة للتحامل عليهم بالإساءة ، أو لإيهام أنهم لما أحوجوهم للقتال استحقوا الحيف عليهم .
الخامس - أقسط الرباعي همزته للسلب . أي : أزيلوا الجور ، واعدلوا . بخلاف قسط الثلاثي ، فمعناه جار . قال تعالى : { وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] ، وهذا هو المشهور - خلافاً للزجاج - في جعلهما سواء - أفاده الكرخي - . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ 10 ] .
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } استئناف مقرر لما من الأمر بالإصلاح ، فإن من لوازم الأخوة أن يصطلحوا .
قال الشهاب : وتسمية المشاركة في الإيمان أُخوة تشبيه بليغ ، أو استعارة شبه المشاركة فيه بالمشاركة في أصل التوالد ؛ لأن كلّاً منهما أصل للبقاء ، إذ التوالد منشأ الحياة ، والإيمان منشأ البقاء الأبدي في الجنان .
{ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } أي : إذا اقتتلا بأن تحملوهما على حكم الله ، وحكم رسوله .
قال القاشاني : بيّن تعالى أن الإيمان الذي أقل مرتبته التوحيد والعمل ، يقتضي الأخوة الحقيقية بين المؤمنين ، للمناسبة الأصلية ، والقرابة الفطرية ، التي تزيد على القرابة الصورية ، والنسبة الولادية ، بما لا يقاس ، لإقضائه المحبة القلبية ، لا المحبة النفسانية ، المسببة عن التناسب في اللحمة . فلا أقل من الإصلاح الذي هو من لوازم العدالة ، وأحد خصالها ، إذ لو لم يعدوا عن الفطرة ، ولم يتكدروا بغواشي النشأة ، لم يتقاتلوا ، ولم يتخالفوا . فوجب على أهل الصفاء ، بمقتضى الرحمة ، والرأفة ، والشفقة اللازمة للأخوة الحقيقية ، الإصلاح بينهما ، وإعادتهما إلى الصفاء . انتهى .
تنبيه :
وضع الظاهر موضع المضمر مضافاً إلى المأمورين ، للمبالغة في التقرير والتخصيص . وتخصيص الاثنين بالذكر دون الجمع ، لأن أقل من يقع بينهم الشقاق اثنان . فإذا لزمت المصالحة بين الأقل ، كانت بين الأكثر ألزم ، لأن الفساد في شقاق الجمع ، أكثر منه في شقاق الاثنين - أفاده القاضي والزمخشري - .
وفي معنى الآية أحاديث كثيرة : كحديث < المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه > . وحديث < والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه > . وحديث < مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر > . وحديث < المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً > وشبّك بين أصابعه صلى الله عليه وسلم - وكلها في " الصحاح " - .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي : خافوا مخالفة حكمه ، والإهمال فيه ، ليرحمكم فيفصح عن سالف آثامكم ، ويثيبك رضوانه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاسم الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ 11 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ } أي : لا يهزأ رجال من رجال ، فيروا أنفسهم خيراً من المسخور منهم : { عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ } أي : الساخرات .
قال أبو السعود : فإن مناط الخيرية في الفريقين ، ليس ما يظهر للناس من الصور والأشكال والأوضاع والأطوار التي عليها يدور أمر السخرية غالباً . بل إنما هو الأمور الكامنة في القلوب ، فلا يجترئ أحد على استحقار أحد ، فلعله أجمع منه ، لما نيط به من الخيرية عند الله تعالى ، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله تعالى ، والاستهانة بمن عظمه الله تعالى . ومن أهل التأويل من خص السخرية بما يقع من الغنيّ للفقير . وآخرون بما يعثر من أحد على زلة أو هفوة ، فيسخر به من أجلها .
قال الطبري : والصواب أن يقال إن الله عمّ ، بنهيه المؤمنين من أن يسخر بعضهم من بعض ، جميع معاني السخرية . فلا يحل لمؤمن أن يسخر من مؤمن ، لا لفقره ، ولا لذنب ركبه ، ولا لغير ذلك . وقد عد الغزالي في " الإحياء " السخرية من آفات اللسان ، وأوضح معناها بما لا مطلب وراءه فننقله هنا تتميماً للفائدة ، قال رحمه الله :
الآفة الحادية عشرة - السخرية والاستهزاء : وهذا محرم مهما كان مؤذياً ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ } الآية . ومعنى السخرية : الاستهانة ، والتحقير ، والتنبيه على العيوب ، والنقائص ، على وجه يُضحك منه . وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول ، وقد يكون بالإشارة والإيماء ، وإذا كان بحضرة المستهزأ به لم يسم ذلك غيبة ، وفيه معنى الغيبة .
وقالت عائشة رضي الله عنها : حاكيت ، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : < والله ما أحب أني حاكيت إنساناً ، ولي كذا وكذا > .
وقال ابن عباس في قوله تعالى : { يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا } [ الكهف : 49 ] ، إن الصغيرة التبسم بالاستهزاء بالمؤمن ، والكبيرة القهقهة بذلك .
وهذا إشارة إلى أن الضحك على الناس من جملة الذنوب الكبائر . وقال معاذ بن جبل : قال النبي صلى الله عليه وسلم : < من عير أخاه بذنب قد تاب منه ، لم يمت حتى يعمله > .
وكل هذا يرجع إلى استحقار الغير ، والضحك عليه ، والاستهانة به ، والاستصغار له . وعليه نبه قوله تعالى : { عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ } . أي : لا تستحقروه استصغاراً ، فلعله خير منك . وهذا إنما يحرم في حق من يتأذى به . فأما من جعل نفسه مسخرة ، وربما فرح من أن يسخر به ، كانت السخرية في حقه من جملة المزح . ومنه ما يذم وما يمدح . وإنما المحرم استصغار يتأذى به المستهزأ به ، لما فيه من التحقير والتهاون ، وذلك تارة بأن يضحك على كلامه إذا تخبط فيه ولم ينتظم ، أو على أفعاله إذا كانت مشوشة ، كالضحك على حفظه وعلى صنعته أو على صورته وخلقته ، إذا كان قصيراً أو ناقصاً ، لعيب من العيوب ، فالضحك من جميع ذلك داخل في السخرية المنهي عنها . انتهى .
لطيفة :
قال أبو السعود : القوم مختص بالرجال ، لأنهم القُوّام على النساء ، والأحسن المهمات ، وهو في الأصل إما جمع قائم كصوْم ، وزوْر ، في جميع صائم ، وزائر . أو مصدر نعت به فشاع في الجمع . وأما تعميمه للفريقين في مثل قوم عاد وقوم فرعون ، فإما للتغليب ، أو لأنهن توابع . واختيار الجمع لغلبة وقوع السخرية في المجامع . والتنكير إما للتعميم أو للقصد إلى نهي بعضهم عن سخرية بعض ، لما أنها مما يجري بين بعض وبعض .
{ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ } أي : لا يعيب بعضكم على بعض ، ولا يطعن .
قال الشهاب : ضمير : { تَلْمِزُوا } للجمع بتقدير مضاف فيه . و : { أَنفُسَكُمْ } عبارة عن بعض آخر من جنس المخاطبين ، وهم المؤمنون ، فجعل ما هو من جنسهم بمنزلة أنفسهم ، كما في قوله : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] ، وقوله : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] ، فأطلق الأنفس على الجنس استعارة . ففي اللفظ الكريم تجوز ، وتقدير مضاف . والنهي على هذا مخصوص بالمؤمنين ، وهو مغاير لما قبله ، وإن كان مخصوصاً بالمؤمنين أيضاً بحسب المفهوم ، لتغاير الطعن والسخرية ، فلا يقال إن الأول مغن عنه ، إذ السخرية ذكره بما يكره على وجه مضحك بحضرته ، وهذا ذكره بما يكره مطلقاً . أو هو تعميم بعد التخصيص ، كما يعطف العام على الخاص ، لإفادة الشمول . وقيل : إنه من عطف العلة على المعلول ، أو اللمز مخصوص بما كان على وجه الخفية ، كالإشارة . أو هو من عطف الخاص على العام لجعل الخاص كجنس آخر مبالغة . انتهى . وقيل : معنى الآية : لا تفعلوا ما تلمزون به ، فإن من فعل ما استحق به اللمز ، فقد لمز نفسه .
قال الشهاب : فـ : { أَنْفُسَكُمْ } على ظاهره ، والتجوز في قوله : { تَلْمِزُوا } . فهو مجاز ذكر فيه المسبب ، وأريد السبب . والمراد : لا ترتكبوا أمراً تعابون به ، وضعف بأنه بعيد من السياق ، وغير مناسب لقوله : { وَلَا تَنَابَزُوا } ، كما في " الكشف " ، وكونه من التجوز في الإسناد ، إذ أسند فيه ما للمسبب إلى السبب ، تكلف ظاهر ، وكذا كونه كالتعليل للنهي السابق ، لا يدفع كونه مخالفاً للظاهر . وكذا كون المراد به لا تتسببوا في الطعن فيكم ، بالطعن على غيركم ، كما في الحديث < من الكبائر أن يشتم الرجل والديه > ، إذ فُسر بأنه إذا شتم والدي غيره ، شتم الغيرُ والديه أيضاً .
{ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ } أي : ولا تداعوا بالألقاب التي يكره النبزَ بها الملقب فقد روي أنه عنى بها قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية ، فلما أسلموا كانوا يغضبون من الدعاء بها رواه أحمد , وأبو داود . وفسره بعض السلف بقول الرجل للرجل : يا فاسق ، يا منافق ! وبعض بتسمية الرجل بالكفر بعد الإسلام ، وبالفسوق بعد التوبة . والآية - كما قال ابن جرير - : تشمل ذلك كله قال : لأن التنابز بالألقاب هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة .
{ بِئْسَ الاسم الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } قال الزمخشري : { الاسم } ههنا يعني الذكر . من قولهم : طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم ، كما يقال : طار ثناؤه وصيته . وحقيقته ما سماه ذكره ، وارتفع بين الناس . ألا ترى إلى قولهم : أشاد بذكره ؟ كأنه قيل بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائر ، أن يذكروا بالفسق . وفي قوله : { بَعْدَ الْإِيمَانِ } ثلاثة أوجه :
أحدهما - استقباح الجمع بين الإيمان وبين الفسق الذي يأباه الإيمان ويحظره ، كما تقول : بئس الشأن بعد الكبرة ، الصبوة .
والثاني - أنه كان في شتائمهم لمن أسلم من اليهود : يا يهودي ! يا فاسق ! فنهوا عنه ، وقيل لهم : بئس الذكر ، أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه . والجملة على هذا التفسير متعلقة بالنهي عن التنابز .
والثالث - أن يجعل من فسق غير مؤمن ، كما تقول للمتحول عن التجارة إلى الفلاحة : بئست الحرفة ، الفلاحة بعد التجارة . انتهى .
واختار ابن جرير الثالث ، لا ذهاباً لرأي المعتزلة من أن الفاسق غير مؤمن ، كما أنه غير كافر ، فهو في منزلة بين المنزلتين ، بل لأن السياق يقتضي ختم الكلام بالوعيد ، فإن التلقيب [ في المطبوع : التقليب ] بما يكرهه الناس أمر مذموم لا يجتمع مع الإيمان ، فإن شعار الجاهلية . وعبارته : يقول تعالى ذكره : ومن فعل ما نهينا عنه ، وتقدم على معصيتنا بعد إيمانه ، فسخر من المؤمنين ، ولمز أخاه المؤمن ، ونبزه بالألقاب ، فهو فاسق : { بِئْسَ الاسم الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } يقول : فلا تفعلوا فتستحقوا ، إن فعلتموه ، أن تسموا فساقاً ، بئس الاسم الفسوق . وترك ذكر ما وصفنا من الكلام ، اكتفاء بدلالة قوله : { بِئْسَ الاسم الْفُسُوقُ } عليه . ثم ضعف القول الثاني وقال : وغير ذلك من التأويل أولى بالكلام ، وذلك أن الله تقدم بالنهي عما تقدم النهي عنه في أول هذه الآية, فالذي هو أولى أن يختمها بالوعيد لمن تقدم على بغيه ، أو يقبح ركوبه ما ركب مما نهي عنه ، لا أن يخبر عن قبح ما كان التائب أتاه من قبل توبته ، إذ كانت الآية لم تفتتح بالخبر عن ركوبه ما كان ركب قبل التوبة من القبيح ، فيختم آخرها بالوعيد عليه ، أو القبيح . انتهى .
{ وَمَن لَّمْ يَتُبْ } أي : من نبزه أخاه بما نهى الله عن نبزه به من الألقاب ، أو لمزه إياه ، أو سخريته منه : { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } أي : الذين ظلموا أنفسهم فأكسبوها العقاب بركوبهم ما نهوا عنه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } [ 12 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ } أي : كونوا على جانب منه . وذلك بأن تظنوا بالناس سوءاً ؛ فإن الظان غير محقق . وإبهام الكثير لإيجاب الاحتياط والتورع فيما يخالج الأفئدة من هواجسه ، إذ لا داعية تدعو المؤمن للمشي وراءه ، أو صرف الذهن فيه ، بل من مقتضى الإيمان ظن المؤمنين بأنفسهم الحسن . قال تعالى : { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ } [ النور : 12 ] . نعم ! من أظهر فسقه ، وهتك ستره ، فقد أباح عرضه للناس . ومنه ما روي : من ألقى جلباب الحياء ، فلا غيبة له . ولذا قال الزمخشري : والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها ، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة ، وسبب ظاهر ، كان حراماً واجب الاجتناب . وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد من الستر والصلاح ، وأونست منه الأمانة في الظاهر ، فظنّ الفساد والخيانة به محرم ، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب ، والمجاهرة بالخبائث .
{ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ } وهو ظن المؤمن الشر ، لا الخير : { إِثْمٌ } أي : مكسب للعقاب ، لأن فيه ارتكاب ما نهي عنه .
قال حجة الإسلام الغزالي في " الإحياء " في بيان تحريم الغيبة بالقلب : اعلم أن سوء الظن حرام ، مثل سوء القول . فكما يحرم عليك أن تحدث غيرك بلسانك بمساوئ الغير ، فليس لك أن تحدث نفسك ، وتسيء الظن بأخيك . قال : ولست أعني به إلا عقد القلب ، وحكمه على غيره بسوء الظن . فأما الخواطر وحديث النفس ، فهو معفو عنه ، بل الشك أيضاً معفو عنه . ولكن المنهي عنه أن يظن . والظن عبارة عما تركن إليه النفس ، ويميل إليه القلب . فقد قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } . قال : وسبب تحريمه أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب ، فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءاً إلا إذا انكشفت لك بعيان لا يقبل التأويل . فعند ذلك لا يمكنك أن لا تعتقد ما علمته وشاهدته . وما لم تشاهده بعينيك ، ولم تسمعه بأذنك ، ثم وقع في قلبك ، فإنما الشيطان يلقيه إليك ، فينبغي أن تكذّبه فإن أفسق الفساق . إلى أن قال : فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به المال ، وهو بعين مشاهدة ، أو بينة عادلة . انتهى .
ولما كان من ثمرات سوء الظن التجسس ، فإن القلب لا يقنع بالظن ، ويطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس ، ذكر سبحانه النهي عنه ، إثر سوء الظن لذلك ، فقال تعالى : { وَلَا تَجَسَّسُوا } قال ابن جرير : أي : لا يتبع بعضكم عورة بعض ، ولا يبحث عن سرائره ، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه ، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره ، وبه فاحمدوا أو ذموا ، لا على ما تعلمونه من سرائره .
يقال : تجسس الأمر إذا تطلبه ، وبحث عنه ، كتلمس . قال الشهاب : الجس بالجيم كاللمس ، فيه معنى الطلب ؛ لأن من يطلب الشيء يمسه ويجسه ، فأريد به ما يلزمه ، واستعمل التفعل للمبالغة فيه .
قال الغزالي : ومعنى التجسس أن لا يترك عَبَّاد الله تحت ستر الله ، فيتوصل إلى الاطلاع ، وهتك الستر ، حتى ينكشف له ما هو كان مستوراً عنه ، كان أسلم لقلبه ودينه .
وقد روي في معنى الآية أحاديث كثيرة ، منها حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فرفع صوته حتى أسمع العواتق في خدورهن ، فقال : < يا معشر من آمن بلسانه ، ولم يخلص الإيمان في قلبه ! لا تتبعوا عورات المسلمين ، فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ، ولو في جوف بيته > .
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم : < لا تجسسوا ، ولا تحسسوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عَبَّاد الله إخوانا > . وروى أبو داود أن ابن مسعود رضي الله عنه أتى برجل ، فقيل له : هذا فلان ، تقطر لحيته خمراً ! فقال : إنا قد نهينا عن التجسس ، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به - والرجل سماه ابن أبي حاتم في روايته : الوليد بن عقبة بن أبي معيط .
وروى أبو داود عن معاوية قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : < إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم ، أو كدت أن تفسدهم > . فقال أبو الدرداء رضي الله عنه كلمة سمعها معاوية من رسول الله ، نفعه الله بها .
وروى الإمام أحمد عن دجين ، كاتب عقبة ، قال : لعقبة : إنا لنا جيراناً يشربون الخمر ، وأنا داع لهم الشرط ليأخذونهم ! قال : لا تفعل ، ولكن عظهم وتهددهم ! قال : ففعل فلم ينتهوا . قال : فجاءه دجين فقال : إني نهيتهم فلم ينتهوا ، وإني داع لهم الشُّرط فتأخذهم ! فقال له عقبة : لا تفعل ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيى موؤودة من قبرها > ! .
وروى أبو داود عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : < إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم > . قال الأوزاعي : ويدخل في التجسس استماع قوم وهم له كارهون .
{ وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } أي : لا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب ، ما يكره المقول فيه ذلك ، أن يقال له في وجهه . يقال : غابه واغتابه ، كغاله واغتاله ، إذا ذكره بسوء في غيبته { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ } ؟ أي : فلو عرض عليكم ، نفرت عنه نفوسكم ، وكرهتموه . فلذا ينبغي أن تكرهوا الغيبة . وفيه استعارة تمثيلية ، مثل اغتياب الْإِنْسَاْن لآخر بأكل لحم الأخ ميتاً .
لطائف :
الأولى - قال الزمخشري : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ } الخ تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه ، وفيه مبالغات شتى : منها - الاستفهام الذي معناه التقرير ، وهو يفيد المبالغة من حيث إنه لا يقع في كلام مسلم عند كل سامع ، حقيقة أو دعاء . ومنها - جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة . ومنها - إسناد الفعل إلى أحدكم ، والإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك .
ومنها - أن لم يقتصر تمثيل الاغتاب بأكل لحم الْإِنْسَاْن ، حتى جعل الْإِنْسَاْن أخاً .
ومنها - أن لم يقتصر على أكل لحم الأخ ، حتى جعل ميتاً . انتهى .
وقال ابن الأثير في " المثل السائر " في بحث الكناية : فمن ذلك قوله تعالى : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ } الخ فإنه كنى عن الغيبة بأكل لحم الْإِنْسَاْن لحم إنسان آخر مثله ، ثم لم يقتصر على ذلك حتى جعله ميتاً ، ثم جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة . فهذه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له ، مطابقة للمعنى الذي وردت من أجله .
فأما جعل الغيبة كأكل لحم الْإِنْسَاْن لحم إنسان آخر مثله ، فشديد المناسبة جداً ، لأن الغيبة إنما هي ذكر مثالب الناس ، وتمزيق أعراضهم . وتمزيق العرض مماثل لأكل الْإِنْسَاْن لحم من يغتابه ، لأن أكل اللحم تمزيق على الحقيقة . وأما جعله كلحم الأخ فلِما في الغيبة من الكراهة ، لأن العقل والشرع مجتمعان على استكراهها ، آمران بتركها ، والبعد عنها . ولما كانت كذلك جعلت بمنزلة لحم الأخ في كراهته .
ومن المعلوم أن لحم الْإِنْسَاْن مستكره عند إنسان آخر ، إلا أنه لا يكون مثل كراهة لحم أخيه . فهذا القول مبالغة في استكراه الغيبة . وأما جعله ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة ، فلما جبلت عليه النفوس من الميل إلى الغيبة ، والشهوة لها ، مع العلم بقبحها فانظر أيها المتأمل إلى هذه الكناية تجدها من أشد الكنايات شبهاً ، لأنك إذا نظرت إلى كل واحدة من تلك الدلالات الأربع التي أشرنا إليها ، وجدتها مناسبة لما قصدت له . انتهى .
الثانية - الفاء في قوله تعالى : { فَكَرِهْتُمُوهُ } فصيحة في جواب شرط مقدّر . والمعنى : إن صح ذلك ، أو عرض عليكم هذا ، فقد كرهتموه ، فما ذكر جواب للشرط ، وهو ماض فيقدر معه قد ليصح دخول الفاء على الجواب الماضي ، كما في قوله تعالى : { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ } [ الفرقان : 19 ] ، وضمير : { فَكَرِهْتُمُوهُ } للأكل ، وقد جوز كونه للاغتياب المفهوم منه . والمعنى : فاكرهوه كراهيتهم لذلك الأكل . وعبر عنه بالماضي للمبالغة ، فإذا أول بما ذكر يكون إنشائياً غير محتاج لتقدير قد - أفاده الشهاب - .
الثالثة - قال ابن الفَرَس : يستدل بالآية على أن لا يجوز للمضطر أكل ميتة الآدمي لأنه ضرب به المثل في تحريم الغيبة ، ولم يضرب بميتة سائر الحيوان . فدل على أنه في التحريم فوقها . ومن أراد استيفاء مباحث الغيبة فعليه " بالإحياء " للغزالي ، فإنه جمع فأوعى .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : خافوا عقوبته بانتهائكم عما نهاكم عنه من ظن السوء ، والتجسس عما ستر والاغتياب وغير ذلك من المناهي { إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } أي : يقبل توبة التائبين إليه ، ويتكرم برحمته عن عقوبتهم بعد متابهم .
ثم نبه تعالى ، بعد نهيه عن الغيبة واحتقار الناس بعضهم لبعض ، على تساويهم في البشرية ، كما قال ابن كثير ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [ 13 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى } أي : من آدم وحواء ، أو من ماء ذكر من الرجال ، وماء أنثى من النساء . أي : من أب وأم ، فما منكم أحد إلا هو يدلي بمثل ما يدلي به الآخر ، سواء بسواء ، فلا وجه للتفاخر ، والتفاضل في النسب .
{ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا } قال ابن جرير : وجعلناكم متناسبين ، فبعضكم يناسب بعضاً نسباً بعيداً ، وبعضكم يناسب بعضاً نسباً قريباً . ليعرف بعضكم بعضاً في قرب القرابة منه وبعده ، لا لفضيلة لكم في ذلك ، وقربة تقربكم إلى الله ، بل كما قال تعالى : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } أي : أشدكم اتقاء له ، وخشية بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه ، لا أعظمكم بيتاً ، ولا أكثركم عشيرة .
{ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } أي : بظواهركم وبواطنكم ، وبالأتقى والأكرم ، وغير ذلك ، لا تخفى عليه خافية .
تنبيهات :
الأول - حكى الثعالبي في " فقه اللغة " في تدريج القبيلة من الكثرة إلى القلة عن ابن الكلبي عن أبيه : أن الشَّعب بفتح الشين ، أكبر من القبيلة ، ثم القبيلة ، ثم العِمارة ، بكسر العين ، ثم البطن ، ثم الفخذ . وعن غيره : الشَّعب ، ثم القبيلة ، ثم الفصيلة ، ثم العشيْرة ، ثم الذرية ، ثم العترة ، ثم الأسرة . انتهى . وقال الشيخ ابن بري : الصحيح في هذا ما رتبه الزبير بن بكار وهو : الشَّعب ، ثم القبيلة ، ثم العِمارة ، ثم البطن ، ثم الفخذ ، ثم الفصيلة ، قال أبو أسامة : هذه الطبقات على ترتيب خلق الْإِنْسَاْن ، فالشعب أعظمها ، مشتق من شعب الرأس ، ثم القبيلة من قبيلة الرأس لاجتماعها ، ثم العمارة وهي الصدر ، ثم البطن ، ثم الفخذ ، ثم الفصيلة وهي الساق . وزاد بعضهم العشيرة فقال :
~أَقْصِدُ الشَّعْبَ فَهُوَ أَكْثَرُ حَيٍّ عَدَداً فِيْ الحِوَاْءِ ثُمَّ الْقَبِيْلَهْ
~ثُمَّ يَتْلُوْهَا الْعِمَاْرَةُ ثُمَّ الْـ بَطْنُ وَالْفَخْذُ بَعْدَهَا وَالْفَصِيْلَهْ
~ثُمَّ مِنْ بَعْدِهَا الْعَشِيْرَةُ لَكِنْ هِيَ فِيْ جَنْبِ مَاْ ذَكَرْنَاْ قَلِيْلَهْ
فخزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عِمارة ، وقصي بطن ، وهاشم فخذ ، والعباس فصيلة . وسميت الشعوب ؛ لأن القبائل تشعبت منها . والشعوب : جمع شعب ، بفتح الشين .
قال أبو عبيد البكري في " شرح نوادر أبي علي القالي " : كل الناس حكى الشعب في القبيلة بالفتح ، وفي الجبل بالكسر ، إلا بندار فإنه رواه عن أبي عبيدة بالعكس . نقله الزبيدي في " تاج العروس " .
الثاني - في الآية الاعتناء بالأنساب ، وأنها شرعت للتعارف ، وذم التفاخر بها ، وأن التقي غير النسيب ، يقدم على النسيب غير التقي ، فيقدم الأروع في الإمامة على النسيب [ وهو على ] غيرهما .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن وهب قال : سألت مالكاً عن نكاح الموالي العربية فقال : حلال ، ثم تلا هذه الآية ، فلم يشترط في الكفاءة الحرية - نقله في " الإكليل " .
و قال ابن كثير : استدل بالآية ، من ذهب إلى أن الكفاءة في النكاح لا تشترط ، ولا يشترط سوى الدين .
الثالث - أفاد قوله تعالى : { لَتِتَعَاَرَفُواْ } حصر حكمة جعلهم شعوباً وقبائل فيه . أي : إنما جعلناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضاً ، فتصلوا الأرحام ، وتبينوا الأنساب ، والتوارث ، لا للتفاخر بالآباء والقبائل .
قال الشهاب : الحصر مأخوذ من التخصيص بالذكر ، والسكوت في معرض البيان . وقال القاشاني : معنى قوله تعالى : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } لا كرامة بالنسب ، لتساوي الكل في البشرية المنتسبة إلى ذكر وأنثى . والامتياز بالشعوب والقبائل إنما يكون لأجل التعارف بالانتساب ، لا للتفاخر ، فإنه من الرذائل . والكرامة لا تكون إلا بالاجتناب عن الرذائل الذي هو أصل التقوى . ثم كلما كانت التقوى أزيد رتبة ، كان صاحبها أكرم عند الله ، وأجل قدراً . فالمتقي عن المناهي الشرعية ، التي هي الذنوب ، في عرف ظاهر الشرع ، أكرم من الفاجر ، وعن الرذائل الخلقية كالجهل ، والبخل ، والشره ، والحرص ، والجبن ، أكرم من المجتنب عن المعاصي الموصوف بها . انتهى .
الرابع - روي في معنى الآية أحاديث كثيرة ، منها ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي : الناس أكرم ؟ قال : < أكرمهم عند الله أتقاهم > . قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : < فأكرم الناس يوسف نبي الله , ابن نبي الله , ابن نبي الله , ابن خليل الله > . قالوا : ليس عن هذا نسألك . قال : < فعن معادن العرب تسألوني ؟ > قالوا : نعم . قال : < فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا > .
وروى مسلم عنه أيضاً : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم > .
وروى الإمام أحمد عن أبي ذر قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : < انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود ، إلا أن تفضله بتقوى الله > .
وروى البراز في مسنده عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم : < كلكم بنو آدم ، وآدم خلق من تراب ، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم ، أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان > .
وروى عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عمر ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم فتح مكة : < أيها الناس ! إن الله تعالى قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بآبائها . فالناس رجلان : رجل برٌّ تقيّ كريم على الله تعالى ، ورجل فاجر يتقى ، هين على الله تعالى . إن الله عز وجل يقول : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى } الآية > . وبقيت أحاديث أخر ساقها ابن كثير ، فانظرها .
وروى الطبري عن عطاء قال : قال ابن عباس : ثلاث آيات جحدهن الناس : الإذن كله وقال : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } وقال الناس : أكرمكم أعظمكم بيتاً . قال عطاء : نسيت الثالثة .
ولما كانت طليعة السورة في الحديث عن جفاة الأعراب ، والإنكار على مساوئ أخلاقهم ، ثم تأثرها من المناهي عن المنكرات التي تكثر فيه ، ما كانوا فيها هم المقصود أولاً وبالذات ، ثم غيرهم ثانياً ، وبالعرض ختمها بتعريف أن من كان على شاكلتهم في ارتكاب تلك المناهي ، فهو ممن لم يخامر فؤاده الإيمان ، ثم بيان من المؤمن حقاً ، ليفقهوا أن الأمر ليس كما يزعمون ، فقال سبحانه وتعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 14 ] .
{ قَالَتِ الْأَعْرَابُ } أي : المحدث عنهم في أول السورة : { آمَنَّا } أي : بالله ورسوله ، فنحن مؤمنون ، زعماً أن التلفظ بمادة الإيمان هو عنوان كل مكرمة وإحسان { قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا } أي : لستم مؤمنين ، وإن أخبرتم عنه ، لأن الإيمان قول وعمل { وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } أي : انقدنا ودخلنا في السلم خوف السباء والقتل : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } أي : لأنه لو حل الإيمان في القلوب لتأثر منه البدن ، وظهر عليه مصداقه من الأعمال الصالحة ، والبعد من ركوب المناهي ، فإن لكل حق حقيقة ، ولكل دعوى شاهد .
فإن قيل : في قوله : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } بعد قوله : { قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا } شبه التكرار من غير استقلال بفائدة متجددة ؟ والجواب : إن فائدة قوله : { لَّمْ تُؤْمِنُوا } تكذيب دعواهم ، وقوله : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } توقيت لما أمروا به أن يقولوه ، كأنه قيل لهم : ولكن قولوا أسلمنا حين لم تثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم ؛ لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في : { قُولُوا } . وما في : { لَمَّا } من معنى التوقع ، دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد ، فلا تكرار . هذا ما أشار له الزمخشري ، واختار كون الجملة حالاً ، لا مستأنفة ، إخباراً منه تعالى ، فإنه غير مفيد لما ذكر .
تنبيهات :
الأول - قال في " الإكليل " : استدل بالآية من لم ير الإيمان والإسلام مترادفين , بل بينهما عموم وخصوص مطلق ، لأن الإسلام الانقياد للعمل ظاهراً ، والإيمان تصديق القلب كما قال : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } . انتهى .
وهذا الاستدلال في غاية الضعف ؛ لأن ترادفهما شرعاً لا يمنع من إطلاقهما بمعناهما اللغوي في بعض المواضع . وإبانة ذلك موكولة إلى القرائن ، وهي جلية ، كما هنا . وإلا فآية : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ } [ آل عِمْرَان : 19 ] ، أكبر مناد على اتحادهما . ومن اللطائف أن يقال في الإيمان والإسلام ما قالوه في الفقير والمسكين ، إذا اجتمعا افترقاً وإذا افترقا اجتمعا . والإيمان والإسلام ، وأمثالهما ألفاظ شرعية محضة ، ولم يطلقها الشرع إلا على القول والعمل ، كما أوضح ذلك الإمام ابن حزم في " الفصل " فانظره .
الثاني - قال في " الإكليل " : في الآية رد على الكرامية في قولهم إن الإيمان هو الإقرار باللسان ، دون عقد القلب ، وهو ظاهر . وقد استوفى الرد عليهم كغيرهم ، الإمام ابن حزم في " الفصل " ، فراجعه .
الثالث - قيل ، مقتضى الظاهر أن يقول : قل لا تقولوا آمنا ، ولكن قولوا أسلمنا . أو : لم تؤمنوا ولكن أسلمتم . فعدل عنه إلى هذا النظم احترازاً من النهي عن القول بالإيمان والجزم بإسلامهم ، وقد فقد شرط اعتباره شرعاً . وقيل : إنه من الاحتباك ، وأصله : لم تؤمنوا فلا تقولوا آمنا ، ولكن أسلمتم ، فقلوا أسلمنا ، فخذف من كل منهما نظير ما أثبت في الآخر . والأول أبغ لأنهم ادعوا الإيمان فنفي عنهم ، ثم استدرك عليه فقال : دعوا ادعاء الإيمان ، وادّعوا الإسلام ، فإنه الذي ينبغي أن يصدر عنكم على ما فيه ، فنفى الإيمان ، وأثبت لهم قول الإسلام دون الاتصاف به ، وهو أبلغ مما ذكر من الاحتباك ، مع سلامته من الخذف بلا قرينة - هذا ما في القاضي وحواشيه .
{ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : فتأمروا لأوامرهما ، وتنهوا عما نهياكم عنه . والخطاب لهؤلاء الأعراب القائلين آمنا : { لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً } أي : لا يظلمكم من أجور أعمالكم شيئاً ، ولا ينقصكم من ثوابها .
قال الزمخشري : يقال : ألته السلطان حقه أشد الألت . وهي لغة غطفان ، ولغة أسد ، وأهل الحجاز - لاته ليتاً - وحكى الأصمعي عن أم هشام السلولية أنها قالت : الحمد لله الذي لا يفات ، ولا يلات ، ولا تصمه الأصوات . وقرئ باللغتين : { لاَيَلِتْكُمْ } ولا يألتكم . ونحوه في المعنى : { فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } [ الأنبياء : 47 ] . : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : لمن أطاعه ، وتاب إليه من سالف ذنوبه ، فأنيبوا إليه أيها الأعراب ، وتوبوا من النفاق ، واعقدوا قلوبكم على الإيمان ، والعمل بمقتضياته ، يغفر لكم ويرحمكم .
ثم بين تعالى الإيمان ، وما به يكون المؤمن مؤمناً ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ 15 ] .
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } أي : لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به من وحدانية الله ، ونبوة نبيه ، وألزموا نفوسهم طاعة الله ، وطاعة رسوله ، والعمل بما وجب عليهم من فرائض الله بغير شك في وجوب ذلك عليهم { وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي : جاهدوا المشركين بإنفاق أموالهم ، وبذل مهجهم في جهادهم ، على ما أمرهم الله به من جهادهم ، وذلك سبيله ، لتكون كلمة الله العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى - قال ابن جرير : وقدّمنا مراراً أن قصر سبيل الله على غزو الكفار المعتدين ، من باب قصر العام على أهم أفراده وأعلاها ، وإلا فسبيل الله يعم العبادات والطاعات كلها ، لأنها في سبيل وجهته .
قال الشهاب : وقدم الأموال ، لحرص الْإِنْسَاْن عليها ، فإن ماله شقيق روحه . و : { جَاهَدُواْ } بمعنى : بذلوا الجهد . أو مفعوله مقدر ، أي : العدو ، أو النفس والهوى .
{ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } أي : الذين صدقوا في ادعاء الإيمان ، لظهور أثر الصدق على جوارحهم ، وتصديق أفعالهم وأقوالهم . وفيه تعريضٌ يُكذِّب أولئك الأعراب في ادعائهم الإيمان وإفادة للحضر . أي : هم الصادقون ، لا هؤلاء ، أو إيمانهم إيمان صدق ، وجد .
تنبيهات :
الأول - قال في " الإكليل " : في الآية دليل على أن الأعمال من الإيمان . وقدمنا أن هذا ما لا خلاف فيه بين السلف ، وليرجع في ذلك ما بسطه ابن حازم رحمه الله في " الفِصل " .
الثاني - قال القاشاني : في قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } الآية إشارة إلى الإيمان المعتبر الحقيقي ، وهو اليقين الثابت في القلب المستقر الذي لا ارتياب معه ، لا الذي يكون على سبيل الخطرات ، فالمؤمنون هم الموقنون الذين غلبت ملكة اليقين قلوبهم على نفوسهم ، ونورتها بأنوارها ، فتأصلت فيها ملكة القلوب حتى تأثرت بها الجوارح ، فلم يمكنها إلا الجري بحكمها ، والتسخر لهيأتها ، وذلك معنى قوله : { وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } بعد نفي الارتياب عنهم ، لأن بذل المال والنفس في طريق الحق هو مقتضى اليقين الراسخ ، وأثره في الظاهر . انتهى .
الثالث - قال في " الكشاف " : فإن قلت : ما معنى ثم ههنا ، وهي للترخي . وعدم الارتياب يجب أن يكون مقارناً للإيمان ، لأنه وصف فيه ، لما بينت من إفادة الإيمان معنى الثقة ، والطمأنينة التي حقيقتها التيقن ، وانتقاء الريب ؟ قلت : الجواب على طريقتين :
أحدهما - أن من وجد منه الإيمان ربما اعترضه الشيطان ، أو بعض المضلين ، بعد ثلج الصدر ، فشككه وقذف في قلبه ما يثلم يقينه . أو نظر هو نظراً غير سديد يسقط به على الشك ، ثم يستمر على ذلك ، راكبا رأسه ، لا يطلب له مخرجاً . فوصف المؤمنون حقاً بالبعد عن هذه الموبقات . ونظيره قوله : { ثُمَّ اسْتَقَامُواْ } .
والثاني - أن الإيقان وزوال الريب ، لما كان ملاك الإيمان ، أفرد بالذكر بعد تقدم الإيمان تنبيهاً على مكانه . وعطف على الإيمان بكلمة التراخي ، إشعاراً باستقراره في الأزمة المتراخية المتطاولة غضاً جديداً . انتهى .
يعني : أنه إما لنفي الشك عنهم فيما بعد ، فدل على أنهم كما لم يرتابوا أولاً لم تحدث لهم ريبة ، فالتراخي زماني لا رتبي على ما مر في قوله : { ثُمَّ اسْتَقَامُواْ } . أو عطفه عليه عطف جبريل على الملائكة ، تنبيهاً على أصالته في الإيمان ، حتى كأنه شيء آخر . فثم دلالة على استمراره قديماً وحديثاً .
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ 16 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [ 16 ] .
{ قُلْ } أي : لهؤلاء الأعراب القائلين بأفواههم : { ءَامَنَّا } { أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ } أي : أتخبرونه بقولكم : { ءَامَنَّا } ، بطاعتكم إياه لتكونوا مع المؤمنين عنده ، ولا تبالون بعلمه بما أنتم عليه ، من التعليم ، بمعنى الإعلام والإخبار ، فلذا تعدى للثاني بالباء . وقيل : تعدى بها لتضمين معنى الإحاطة أو الشعور . وفيه تجهيل لهم وتوبيخ . أي : لأن قولهم : { ءَامَنَّا } إن كان إخباراً للخلق فلا دليل على صدقه ، وإن كان للحق تعالى فلا معنى له ، لأنهم كيف يعلّمونه ، وهو العالم بكل شيء ، كما قال : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } قال ابن جرير : هذا ما تقدم من الله إلى هؤلاء الأعراب بالنهي عن أن يكذبوا , ويقولوا غير الذي هم عليه من دينهم . يقول : الله محيط بكل شيء عالم به ، فاحذروا أن تقولوا خلاف ما يعلم من ضمائركم ، فينالكم عقوبته ، فإنه لا يخفى عليه شيء .
ثم أشار إلى نوع آخر من جفائهم ، مختوماً بتوعدهم ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ 17 ] .
{ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا } أي : انقادوا وكثّروا سواد أتباعك { قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم } أي : بإسلامكم ، إذ لا ثمرة منه إلي : { مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ } [ الإسراء : 15 ] ، { بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي : في قولكم : { ءَامَنَّا } لكن علم الله من قلوبكم أنكم كاذبون ، لاطلاعه على الغيوب ، كما قال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ 18 ] .
{ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } قال ابن جرير يقول تعالى ذكره : إن الله أيها الأعراب لا يخفى عليه الصادق منكم من الكاذب ، ومن الداخل منكم في ملة الإسلام رغبة فيه ، ومن الداخل فيه رهبة من الرسول وجنده ، فلا تعلّمونا دينكم ، وضمائر صدوركم ، فإن الله لا يخفى عليه شيء في خبايا السماوات والأرض .
تنبيهات :
الأول - روى الحافظ أبو بكر البزار عن ابن عباس قال : جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ! أسلمنا وقاتلتك العرب ، ولم نقاتلك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إن فقههم قليل ، وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم > - ونزلت هذه الآية - .
وقال ابن زيد : هذه الآيات نزلت في الأعراب . ولا يبعد أن يكون المحدث عنهم في آخر السورة من جفاة الأعراب ، غير المعنيّين أولها ، وإنما ضموا إليهم لاشتراكهم معهم في غلظة القول وخشونته ، ويحتمل أن يكون النبأ لقبيلة واحدة - والله أعلم .
الثاني - في قوله تعالى : { بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ } الآية ، ملاحظة المنة لله ، والفضل في الهداية ، والقيام بواجب شكرها ، والاعتراف بها ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم حنين : < يا معشر الأنصار ! ألم أجدكم ضلّالاً فهداكم الله بي ، وكنتم متفرّقين فألّفكم الله بي ، وكنتم عالة فأغناكم الله بي > ؟ - كلما قال شيئاً ، قالوا : الله ورسوله أمَنّ .
وما ألطف قول أبي إسحاق الصابي في طليعة كتاب له ، بعد الثناء على الله تعالى : وبعث إليهم رسلاً منهم يهدونهم إلى الصراط المستقيم ، والفوز العظيم ، ويعدلون بهم عن المسلك الذميم ، والمورد الوخيم ، فكان آخرهم في الدنيا عصراً ، وأولهم يوم الدين ذكراً ، وأرجحهم عند الله ميزاناً ، وأوضحهم حجة وبرهاناً ، وأبعدهم في الفضل غاية ، وأبهرهم معجزة وآية ، محمد صلى الله عليه وسلم تسليماً ، الذي اتخذه صفياً وحبيباً ، وأرسله إلى عباده بشيراً ونذيراً ، على حين ذهاب منهم مع الشيطان ، وصدوف عن الرحمن ، وتقطيع للأرحام ، وسفك للدماء الحرام ، واقتراف للجرائم ، واستحلال للمآثم .
أنوفهم في المعاصي حمية ، ونفوسهم في غير ذلك ذات الله أبيّة ، يدعون معه الشركاء ، ويضيفون إليه الأكفاء ، ويعبدون من دونه ما لا يسمع ولا يبصر ، ولا يغني عنهم شيئاً . فلم يزل صلى الله عليه وسلم يقذف في أسماعهم فضائل الإيمان ، ويقرأ على قلوبهم قوارع القرآن ، ويدعوهم إلى عبادة الله باللطف لما كان وحيداً ، وبالعنف لما وجد أنصاراً وجنوداً . لا يرى للكفر أثراً إلا طمسه ومحاه ، ولا رسماً إلا أزاله وعفّاه ، ولا حجة مموّهة إلا كشفها ودحضها ، ولا دعامة مرفوعة إلا حطها ووضعها حتى ضرب الحق بجرانه ، وصدع ببنيانه ، وسطع بمصباحه ، ونصع بأوضاحه ، واستنبط الله هذه الأمة من حضيض النار ، وعلّاها إلى ذروة الصلحاء والأبرار ، واتصل حبلها بعد البتات ، والتألم شملها بعد الشتات ، واجتمعت بعد الفرقة ، وتواعدت بعد الفتنة ، فصلى الله عليه صلاة زاكية نامية ، رائحة غادية ، منجزة عدته ، رافعة درجته .
الثالث - قال الرازي : هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق . وهي إما مع الله تعالى ، أو مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو مع غيرهما من أبناء الجنس . وهم على صنفين ؛ لأنهم إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين ، وداخلين في رتبة الطاعة ، أو خارجاً عنها ، وهو الفاسق . والداخل في طائفتهم ، السالك لطريقتهم ، إما أن يكون حاضراً عندهم ، أو غائباً عنهم ، فهذه خمسة أقسام :
أحدها - يتعلق بجانب الله .
وثانيها - بجانب الرسول .
وثالثها - بجانب الفسّاق .
ورابعها - بالمؤمن الحاضر .
وخامسها - بالمؤمن الغائب .
فذكر الله تعالى في هذه السورة خمس مرات : { يَا أَيَّهَا الَّّذيِنَ ءَامَنُواْ } ، وأرشد في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة .
فقال أولاً : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } ، وذكر الرسول كان لبيان طاعة الله ، لأنها لا تعلم إلا بقول رسول الله .
وقال ثانياً : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } ، لبيان وجوب احترام النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال ثالثاً : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ } ، لبيان وجوب الاحتراز عن الاعتماد على أقوالهم ، فإنهم يريدون إلقاء الفتنة بينكم ، وبيّن ذلك عند تفسير قوله : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } .
وقال رابعاً : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ } وقال : { وَلا تَنَابَزُوا } لبيان وجوب ترك إيذاء المؤمنين في حضورهم ، والإزراء بحالهم ومنصبهم .
وقال خامساً : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } وقال : { وَلا تَجَسَّسُوا } وقال : { وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } لبيان وجوب الاحتراز عن إهانة جانب المؤمن حال غيبته ، وذكر ما لو كان حاضراً لتأذى . وهو في غاية الحسن من الترتيب .
فإن قيل : لِمَ لم يذكر المؤمن قبل الفاسق لتكون المراتب متدرجة . الابتداء بالله ، ورسوله ، ثم بالمؤمن الحاضر ، ثم بالمؤمن الغائب ، ثم الفاسق ؟ .
نقول : قدم الله ما هو الأهم على ما دونه ، فذكر جانب الله ، ثم جانب الرسول ، ثم ذكر ما يفضي إلى الاقتتال بين طوائف المسلمين بسبب الإصغاء إلى كلام الفاسق ، والاعتماد عليه ، فإنه يذكر كل ما كان أشد نفاراً للصدور . وأما المؤمن الحاضر ، أو الغائب فلا يؤذي المؤمن إلى حدٍّ يفضي إلى القتال . ألا ترى أن الله تعالى ذكر عقيب نبأ الفاسق ، آية الاقتتال فقال : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } ؟ انتهى .(/)
سورة ق
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } [ 1 ]
هو حرف من حروف التهجي المفتتَح بها أوائل السور ، مثل : { ص } و { ن } ، و { الم } ، و { حم } ، ونحوها . علم على السورة ، على الصحيح من أقوال ، كما تقدم مراراً .
تنبيه :
قال ابن كثير : روي عن بعض السلف أنهم قالوا : { ق } جبل محيط بجميع الأرض يقال له : جبل قاف .
وكأن هذا - والله أعلم - من خرافات بني إِسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس ؛ لما رأى من جواز الرواية عنهم مما لا يُصَدّق ولا يكذب . وعندي أن هذا وأمثاله من اختلاق بعض زنادقتهم يلبِّسون على الناس أمر دينهم ، كما افتُريَ في هذه الأمة - مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها - أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وما بالعهد من قدم ، فكيف بأمَّة بني إِسرائيل ، مع طول المدى ، وقلة الحفّاظ والنقاد فيهم ، وشربهم الخمور ، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه ، وتبديل كتب الله وآياته ؟ ! وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله : < وحدثوا عن بني إِسرائيل ولا حرج > فيما قد يجوِّزه العقل ، فأما فيما تحيله العقول ويحكم فيه البطلان ويغلب على الظنون كذبه ، فليس من هذا القبيل .
وقد أكثر كثير من السلف المفسرين وكذا طائفة كثيرة من الخلف ، من الحكاية عن كتب أهل الكتاب تفسير القرآن المجيد ، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم ، ولله الحمد والمنَّة .
ثم ردّ ابن كثير - رحمه الله - ما قيل من أن المراد من : قضي الأمر والله ! كقول الشاعر :
~ قلت لها قفي فقالت قاف
أي : إني واقفة ، بأن في هذا نظراً ؛ لأن الحذف في الكلام إنما يكون إذا دل دليل عليه ، ومن أين يفهم هذا من ذكر هذا الحرف ؟ . انتهى .
{ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } أي : ذي المجد والشرف على غيره من الكتب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } [ 2 ]
{ بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ } أي : لأنْ جاءهم منذر من جنسهم ، لا من جنس الملَك ، أو من جلدتهم ، وهو كما قال أبو السعود : إضراب عما ينبئ عنه جواب القسم المحذوف ، كأنه قيل : والقرآن المجيد أنزلناه إليك ؛ لتنذر به الناس ، حسبما ورد في صدر سورة الأعراف ، كأنه قيل بعد ذلك : لم يؤمنوا به ، جعلوا كلاً من المنذر والمنذر به عُرضة للنكير والتعجب ، مع كونهما أوفق شيء لقضية العقول ، وأقربه إلى التلقي بالقبول .
وقيل : التقدير : والقرآن المجيد إنك لمنذر . ثم قيل بعده : إنهم شكوا فيه ، ثم أضرب عنه . وقيل : بل عجبوا ، أي : لم يكتفوا بالشك والرد ، بل جزموا بالخلاف ، حتى جعلوا ذلك من الأمور العجيبة . وقيل : هو إضراب عما يفهم من وصف القرآن بالمجيد ، كأنه قيل : ليس سبب اقتناعهم من الإيمان بالقرآن أنه لا مجد له ، ولكن لجهلهم .
{ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } تفسير لتعجبهم ، وبيان لكونه مقارناً لغاية الإنكار ، مع زيادة تفصيل لمحل التعجب . وهذا إِشارة إلى كونه عليه الصلاة والسلام منذراً بالقرآن . وإضمارهم أولاً للإشعار بتعينهم بما أسند إليهم ، وإظهارهم ثانياً للتسجيل عليهم بالكفر بموجبه ، أو عطف لتعجبهم من البعث ، على تعجبهم من البعثة . على أن هذا إشارة إلى مبهم يفسره ما بعده من الجملة الإنكارية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ 3 ] .
{ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً } تقرير للتعجيب وتأكيد للإنكار . والعامل في إذا مضمر غنيّ عن البيان ؛ لغاية شهرته ، مع دلالة ما بعده عليه ، أي : أحين نموت ونصير تراباً نرجع ، كما ينطق به النذير والمنذر به . مع كمال التباين بيننا وبين الحياة, حينئذٍ .
ذلك إشارة إلى محل النزاع { رَجْعٌ بَعِيدٌ } أي : عن الأوهام أو العادة أو الإمكان .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } [ 4 ]
{ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ } أي : ما تأكل من أجسامهم بعد مماتهم . وهو ردٌّ لاستبعادهم ، وإزاحة له . فإن من عمّ علمه ولطف حتى انتهى إلى حيث علم ما تنقِص الأرض من أجساد الموتى وتأكل من لحومهم وعظامهم ، كيف يستبعد رجعه إياهم أحياء كما كانوا ! وقيل : المعنى ما يموت فيدفن في الأرض منهم .
{ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } قال أبو السعود : أي : حافظ لتفاصيل الأشياء كله ، أو محفوظ من التغير . والمراد : إما تمثيل علمه تعالى بكليات الأشياء وجزئياتها ، بعلم من عنده كتاب محيط يتلقى منه كل شيء . أو تأكيد لعلمه تعالى بها ، بثبوتها في اللوح المحفوظ عنده .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ } [ 5 ]
{ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ } وهو القرآن { لَمَّا جَاءهُمْ } أي : من غير تأمُّل وتفكُّر .
قال الزمخشري : إضراب أتبع الإضراب الأول ؛ للدلالة على أنهم جاؤوا بما هو أفظع من تعجبهم ، وهو التكذيب بالحق ، الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات ، في أول وهلة من غير تفكر ولا تدبر . وكونه أفظع ؛ للتصريح بالتكذيب من غير تدبر بعد التعجب منه .
{ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ } أي : مضطرب ، يعني اختلاف مقالتهم فيه من ادعاء أنه شعر أو سحر ونحوه ؛ تعنتاً وكبراً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } [ 6 ]
{ أَفَلَمْ يَنظُرُوا } أي : هؤلاء المكذبون بالبعث ، المنكرون قُدرَتنا على إحياءهم بعد فنائهم ، { إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا } أي : رفعناها بغير عمد { وَزَيَّنَّاهَا } أي : بالنجوم { وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } قال ابن جرير : يعني ومالها من صُدوع وفروق ، كقوله تعالى :
{ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ } { فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ } [ الملك 3 - 4 ] أي : كليل عن أن ترى عيباً أو نقصاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ 7 ]
{ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا } أي : بسطناها .
{ وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } أي : جبالاً ثوابت ، حفظاً لها من الاضطراب ؛ لقوة الجيشان في جوفها ، { وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ } أي : صنف { بَهِيجٍ } أي : حسن المنظر ، يُبتهَج به لحُسنه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } [ 8 ]
{ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } أي : لتبصر وتذكِّر كلَّ عبد منيب راجع إلى ربِّه ، مفكّر في بدائع صنعه .
و { تَبْصِرَةً وَذِكْرَى } منصوبات بالفعل الأخير على أنهما مفعولان له ، وإن كانتا علتين للأفعال المذكورة معنى . أو بفعل مقدر ، أي : فعلنا ما فعلنا تبصيراً وتذكيراً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ } [ 9-11 ]
{ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء } أي : المُزن { مَاء مُّبَارَكاً } أي : كثير المنافع ، { فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ } أي : أشجاراً ذوات أثمار ، { وَحَبَّ الْحَصِيدِ } أي : الزرع المحصود من البُر والشعير وسائر أنواع الحبوب . وتخصيص إنبات حبه بالذكر ، لأنه المقصود بالذات .
{ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ } أي : وأنبتنا بالماء الذي أنزلناه من السماء النخلَ طوالاً ، أو حوامل ، من أبسقت الشاةُ ، إذا حملت ، فيكون من : أفعل فهو فاعل ، والقياس : مفعل ، فهو من النوادر كالطوائح واللواقح ، في أخوات لها شاذة ؛ وإفرادها بالذكر مع دخولها في { جَنَّاتٍ } لبيان فضلها بكثرة منافعها . وتوسيط الحب بينهما لتأكيد استقلالها وامتيازها عن البقية ، مع ما فيه من مراعاة الفواصل .
{ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } أي : متراكم بعضه فوق بعض .
{ رِزْقاً لِّلْعِبَادِ } أي : لرزقهم ، قال أبو السعود : علة لقوله تعالى : { فَأَنبَتْنَا } وفي تعليله بذلك بعد تعليل أنبتنا الأول بالتبصرة والتذكير, تنبيهٌ على أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بذلك من حيث التذكر والاستبصار ، أهم من تمتعه به من حيث الرزق . وقيل : { رِزْقاً } مصدر من معنى { أَنبَتْنَا } لأن الإنبات رزق . { وَأَحْيَيْنَا بِهِ } أي : بذلك الماء { بَلْدَةً مَّيْتاً } أي : أرضاً جدبة ، فأنبتت أنواع النبات والأزهار
{ كَذَلِكَ الْخُرُوجَ } أي : خروجهم أحياء من القبور . شبه بعث الأموات ونشرهم بقدرته تعالى بإخراج النبات من الأرض بعد وقوع المطر عليها ، فـ { كَذَلِكَ } خبر { الْخُرُوجَ } ، أو مبتدأ ، فالكاف بمعنى مثل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ } [ 12 -14 ] .
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ } أي : قبل قريش { قَوْمِ نُوحٍ } قال أبو السعود : استئناف وارد لتقرير حقيقة البعث ، ببيان اتفاق كافة الرسل عليهم السلام عليها ، وتعذيب منكريها .
{ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ } وهو بئر كانوا عنده . يقال : إنهم قوم شعيب عليه السلام . ويقال غير ذلك ، كما تقدم في سورة الفرقان .
{ وَثَمُودَ } وهم اللذين جادلوا صالحاً ، وقتلوا الناقة .
{ وَعَادٍ } وهم اللذين جادلوا هوداً في أصنامهم .
{ وَفِرْعَوْنَ } وهو الذي جادل موسى فيما أُرسل به . قال الرازي : ولم يقل : وقوم فرعون ؛ لأن فرعون كان هو المغترّ المستخف بقومه والمستبد بأمره .
{ وَإِخْوَانُ لُوطٍ } وهم اللذين جادلوه في إتيان الرجال .
{ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ } أي : الغيضة من الشجر ، المجادلون شعيباً في الكيل والوزن .
{ وَقَوْمُ تُبَّعٍ } قال المهايمي : المجادلون إمامهم وعلماءهم في الدِّين . ومضى الكلام على ذلك في الحِجر والدخان .
{ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ } أي : كل من هذه الأمم وهؤلاء القرون كذبوا رسولهم ، ومن كذب رسولاً فكأنما كذب جميع الرسل ، كقوله تعالى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } [ الشعراء : 105 ] وإنما جاءهم رسول واحد ، فهم في نفس الأمر ، لو جاءهم جميع الرسل كذبوهم ، أفاده ابن كثير ، وهو توجيه لجمع الرسل . وإفراد ضمير { كَذَّبَ } مراعاة للفظ { كَذَّبَ } فإنه مفرد وإن كان جمعاً معنى . { فَحَقَّ وَعِيدِ } أي : فوجب لهم الوعيد الذي وعد به مَنْ كفر ، وهو العذاب والنقمة . قال ابن جرير :
إنما وصف تعالى في هذه الآية ما وصف من إحلاله عقوبته بهؤلاء المكذبين الرسل ؛ ترهيباً منه بذلك مشركي قريش ، وإعلاماً منه لهم أنهم إن
لم ينيبوا من تكذيبهم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أنه مُحِلٌ بهم من العذاب مثل الذي أحلَّ بهم . أي : فهو تسلية للرسول صلوات الله عليه ، وتهديد لهم .(/)
القول في تأويل لقوله تعالى :
{ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ 15 ]
{ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ } أي : أفعجزنا عن الإبداء حتى نعجز عن الإعادة ؟ ! فالهمزة للإنكار . قال الشهاب : العي هنا بمعنى العجز ، لا التعب . قال الكسائي : تقول : أعييت من التعب ، و عييت من انقطاع الحيلة ، والعجز عن الأمر . وهذا هو المعروف والأفصح ، وإن لم يفرق بينهما كثير .
{ والخلق الأول } والخلق الأول هو الإبداء على ما ذكر ، ويحتمل أن يراد به خلق السماوات والأرض ؛ لأن خلق الْإِنْسَاْن متأخر عنه ، ويدل له آية : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ } [ الأحقاف : 33 ] الآية .
وقوله { بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } عطف على مقدر ، يدل عليه ما قبله ، كأنه قيل : هم معترفون بالخلق الأول ، فلا وجه لإنكارهم للثاني ، بل هم اختلط عليهم الأمر والتبس ؛ لعدم فهمهم إعادة ما مات وتفرَّق أجزاؤه وإعراضهم عن سلطان القدرة الإلهية ، وسهولة ذلك في المقدورات الربانية .
لطيفة :
قال الناصر : في الآية أسئلة ثلاث : لِمَ عَرَّف الخلق الأول ، ونكَّر اللبس ، والخلق الجديد ؟
فاعلم : أن التعريف لا غرض منه إلا تفخيم ما قصد تعريفه وتعظيمه ، ومنه تعريف الذكور في قوله { وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ } [ الشورى : 49 ] ، ولهذا المقصد عرَّف الخلق الأول ؛ لأن الغرض جعله دليلاً على إمكان الخلق الثاني بطريق الأولى ، أي : إذا لم يعيَ تعالى بالخلق الأول - على عظمته - فالخلق الآخر أولى أن لا يَعيىَ به . فهذا سر تعريف الخلق الأول .
وأما التنكير فأمره منقسم : فمرَّةً يقصد به تفخيم المنكّر من حيث ما فيه من الإبهام ، كأنه أفخم من أن يخاطبه معرفة . ومرةً يقصد به التقليل من المنكَّر والوضع منه ، وعلى الأول : { سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 85 ] ، وقوله : { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } [ المائدة : 9 ] و [ الحجرات : 3 ] ، و { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ } [ الطور : 17 ] ، وهو أكثر من أن يحصى . والثاني : هو الأصل في التنكير ، فلا يحتاج إلى تمثيله ، فتنكير اللبس من التعظيم والتفخيم ، كأنه قال : في لبس أي : ليس . وتنكير الخلق الجديد ؛ للتقليل منه والتهوين لأمره بالنسبة إلى الخلق الأول . ويحتمل أن يكون للتفخيم ، كأنه أمرٌ أعظم من أن يرضى الإنسان بكونه ملتبساً عليه ، مع أنه أول ما تبصر فيه صحته . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } [ 16 ] .
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } أي : تحدِّث به نفسه ، وهوما يخطر بالبال . وقوله تعالى { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } تمثيل للقرب المعنوي بالصورة الحسية المشاهدة ، وقد جعل ذلك القرب أتم من غاية القرب الصوريّ الذي لا اتصال أشد منه في الأجسام ؛ إذ لا مسافة بين الجزء المتصل به وبينه .
قال الشهاب : تجوّز بقرب الذات عن قرب العلم ، لتنزّهه عن القرب المكاني ، إما تمثيلاً ، وإما إطلاق السبب وإرادة المسبب ؛ لأن القرب من الشيء سبب للعلم به وبأحواله في العادة . والمعنى : أنه تعالى أعلم بأحواله - خفيّها وظاهرها - من كل عالم . وقد ضرب المثل في القرب بحبل الوريد ؛ لأن أعضاء المرء وعروقه متصلة على طريق الجزئية ، فهي أشد من اتصال ما اتصل به من الخارج ؛ وخص هذا لأن به حياته ، وهو بحيث يشاهده كل أحد . والحبل : العرق ؛ شبه بواحد الحبال ؛ فإضافته للبيان أو لامية ، من إضافة العام للخاص . فإن أبقى الحبل على حقيقته ، فإضافته كلجَيْن الماء .
تنبيه :
تأول ابن كثير الآية على غير ما تقدم بجعل { نَحْنُ } كناية عن الملائكة ، وعبارته : يعني ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه . قال : ومن تأوله على العلم ، فإنما فرَّ لئلا يلزم حلول أو اتحاد ، وهما منفيان بالإجماع ، تعالى اللهُ وتقدس ، ولكن اللفظ لا يقتضيه ؛ فإنه يقلُّ : وأنا أقرب إليه ، وإنما قال :
{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ } كما قال في المحتضر : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ } [ الواقعة : 85 ] ، يعني : ملائكته . وكما قال تبارك وتعالى :
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] ، فالملائكة نزلت بالذكر وهو القرآن ، بإذن الله عز وجل . وكذلك الملائكة أقربُ إلى الإنسان من حبل الوريد ، بإقدار الله جلَّ وعَلا لهم على ذلك . فللملَك لمَّةٌ من الإنسان كما أن للشيطان لمَّة ؛ ولذلك الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم .
ثم أيد ابن كثير رحمه الله ما ذكره بما ورد في الآية بعدها . والوجه الأول أدق وأقرب ، وفيه من الترهيب وتناهي سعة العلم ، مع التعريف بجلالة المقام الربانيّ ما لا يخفى حسنه .
وليس تأويل من تأول بالعلم للفرار من الحلول والاتحاد فقط ، بل له ولِما تقدم أولاً ، كما أن إيثار : نحن على : أنا لا يحسم ما نفاه ؛ لاحتمال إرادة التعظيم بـ : نحن ، كما هو شائع ، فلا يتم له ذلك . نعم ! اللفظ الكريم يحتمل ما ذكره بأن يكون ورد ذلك تعظيماً للملك ؛ لأنه بأمره تعالى وبإذنه ، ولكن لا ضرورة تدعو إليه ، مع ما عرف من أن الأصل الحقيقة . وقد عنى رحمه الله بمن فهم الحلول والاتحاد مَن قال في تفسير الآية- كالقاشاني - ما مثاله : وإنما كان أقرب مع عدم المسافة بين الجزء المتصل به وبينه ؛ لأن اتصال الجزء بالشيء يشهد بالبينونة والاثنينية الراجعة للاتحاد الحقيقيّ ، ومعيته وقربه من عبده ليس كذلك ، فإن هويته وحقيقته المندرجة في هويته وتحققه ليست غيره ، بل إن وجوده المخصوص المعين إنما هو بعين حقيقته التي هي الوجود ، من حيث هو وجود ، ولولاه لكان عدماً صِرفاً ولا شيئاً محضاً . انتهى كلام القاشاني ، ولا يفهم من ذلك حلول ولا اتحاد بالمعنى المتعارف ؛ لأن لهؤلاء اصطلاحاً معروفاً ، وهم أوَّلُ من يتبرَّأ من الحلول والاتحاد ، كما أوضحت ذلك مع برهان استحالتهما في كتاب " دلائل التوحيد " الذي طبع بحمد الله من أمد قريب ، فارجع إليه واستغفر لمصنِّفه .
أقول : رأيت ابن كثير بعدُ ، مسبوقاً بما ذكره شيخه الإمام ابن تيمية ، فقد أوضح ذلك رحمه الله في كتابه " شرح حديث النزول " : ليس في القرآن وصف الرب تعالى بالقرب من كل شيء أصلاً ، بل قُربُه الذي في القرآن خاصٌّ لا عام ، كقوله تعالى :
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] فهو سبحانه قريب ممن دعاه ، وكذلك ما في الصحيحين ، عن أبي موسى الأشعريّ ، أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ، فكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير فقال : < أيها الناس ! اربَعوا على أنفسكم ؛ فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً ، وإنما تدعون سميعاً قريباً ، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدِكم من عُنقِ راحلتِه > . فقال : < إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم > لم يقل : إنه قريب إلى كل موجود . وكذلك قول صالح عليه السلام { فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } [ هود : 61 ] ، ومعلوم أن قوله : { قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } مقرون بالتوبة والاستغفار . أراد به قريب مجيب لاستغفار المستغفرين التائبين إليه ، كما أنه رحيم ودود . وقد قرن القريب بالمجيب ، ومعلوم أنه لا يقال : مجيب لكل موجود ، وإنما الإجابة لمن سأله ودعاه ، فكذلك قربُه سبحانه وتعالى ، وأسماء الله المطلقة- كاسمه السميع والبصير والغفور والشكور والمجيب والقريب - لا يجب أن تتعلَّق بكل موجود ، بل يتعلق كل اسم بما يناسبه ، واسمه العليم لمَّا كان كل شيء يصلح أن يكون معلوماً تعلَّق بكل شيء .
وأما قوله تعالى :
{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } فالمراد به قربه إليه بالملائكة ، وهذا هو المعروف عن المفسرين المتقدمين من السلف ، قالوا : ملك الموت أدنى إليه من أهله ، ولكن لا تبصرون الملائكة . وقد قال طائفة { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ } بالعلم ، وقال بعضهم : بالعلم والقدرة والرؤية . وهذه الأقوال ضعيفة ، فإنه ليس في الكتاب والسنة وصفه بقرب عامٍّ من كل موجود ؛ حتى يحتاجوا أن يقولوا : بالعلم والقدرة ، ولكن بعض الناس لمَّا ظنوا أنه يوصف بالقرب من كل شيء ، تأولوا ذلك بأنه عالم بكل شيء قادر على كل شيء ، وكأنهم ظنوا أن لفظ القرب مثل لفظ المعية . وقد ثبت عن السلف أنهم قالوا في الآية { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } [ الحديد : 4 ] : هو معهم بعلمه مع علوِّه على عرشه . وقد ذكر ابن عبد البر وغيره أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين ، لم يخالفهم فيه أحد .
ثم قال : ولم يأت في لفظ القرب مثل ذلك أنه قال : هو فوق عرشه ، وهو قريب من كل شيء ، بل قال :
{ إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } [ الأعراف : 56 ] ، وقال :
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] .
وقد روى ابن أبي حاتم بسنده أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! أقريب ربُّنا فنناجيه ، أم بعيدٌ فنناديه ؟ < فسكت النبي صلى الله عليه وسلم > ، فأنزل الله تعالى { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } الآية . ولا يقال في هذا : قريب بعلمه وقدرته ، فإنه عالم بكل شيء ، قادر على كل شيء ، وهم لم يشكّوا في ذلك ولم يسألوا عنه ، وإنما عن قُربِه إلى مَن يدعوه ويناجيه ، فأخبر أنه قريب مجيب .
وطائفة من أهل السنة تفسر القُرْب في الآية والحديث بالعلم ؛ لكونه هو المقصود ، فإنه إذا كان يعلم ويسمع دعاء الداعي حصل مقصوده ، وهذا هو الذي اقتضى أن يقول من يقول بإنه قريب من كل شيء ، بمعنى العلم والقدرة ، فإن هذا قد قاله بعض السلف وكثير من الخلف ، لكن لم يقل أحد منهم : إن نفس ذاته قريب من كل موجود ، وهذا المعنى يقرُّ به جميع المسلمين ، من يقول : إنه فوق العرش ، ومن يقول : إنه ليس فوق العرش .
ثم قال : وهؤلاء كلهم مقصودهم أنه ليس المراد أن ذات البارىء جلَّ وعلا قريبة من وريد العبد ومن الميت . ولمَّا ظنوا أن المراد قربه وحده دون الملائكة فسَّروا ذلك بالعلم والقدرة ، كما في لفظ المعية . ولا حاجة إلى هذا ، فإن المراد بقوله : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } أي : بملائكتنا ، في الآيتين ، وهذا بخلاف المعية ، فإنه لم يقل : ونحن معه ، بل جعل نفسه هو الذي مع العباد ، وأخبر أنه ينبئهم يوم القيامة بما عملوا ، وهو نفسه الذي خلق السماوات والأرض ، وهو نفسه الذي استوى على العرش ؛ فلا يجعل لفظ مثل لفظ ، مع تفريق القرآن بينهما .
ثم قال : وقوله تعالى :
{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } لا يجوز أن يراد به مجرد العلم ، فإن من كان بالشيء أعلم من غيره لا يقال : إنه أقرب إليه من غيره ، بمجرد علمه به ، ولا بمجرد قدرته عليه . ثم إنه سبحانه عالم بما يُسَرُّ من القول وما يجهر به ، وعالم بأعماله ، فلا معنى لتخصيصه حبلَ الوريد بمعنى أنه أقرب إلى العبد منه ؛ فإن حبل الوريد قريب إلى القلب ، ليس قريباً إلى قوله الظاهر ، وهو يعلم ظاهر الإنسان وباطنه . قال تعالى :
{ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } [ طه : 7 ] ، ومما يدل على أن القرب ليس المراد به العلم سياقُ الآية ، فإنه قال :
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } فأخبر أنه يعلم وَسواسَ نفسه .
ثم قال :
{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } فأثبت العلم ، وأثبت القرب ، وجعلهما شيئين ، فلا يجعل أحدهما هو الآخر ، وقيد القرب بقوله { إِذْ يَتَلَقَّى } الآية .
وأما من ظن أن المراد بذلك قرب ذاتِ الربِّ من حبل الوريد ، وأن ذاته أقرب إلى الميت من أهله ، فهذا في غاية الضعف ؛ وذلك أن الذين يقولون : إنه في كل مكان ، وإنه قريب من كل شيء بذاته ، لا يخصون بذلك شيئاً دون شيء ، ولا يمكن مسلماً أن يقول : إن الله قريب من الميت دون أهله ، ولا : إنه قريب من حبل الوريد دون سائر الأعضاء . وكيف يصح هذا الكلام على أصلهم ، وهو عندهم في جميع بدن الإنسان ، وهو في أهل الميت ، كما هو في الميت ، فكيف يكون { أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } إذا كان معه ومعهم على وجه واحد ؟ وهل يكون أقرب إلى نفسه من نفسه ، وسياق الآيتين يدل على أن المراد هو الملائكة ! ، فإنه قال :
{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى } [ 16 - 17 ] الآيتين . فقيَّد القرب بهذا الزمان ، وهو زمان تلقي المتلقيين ، وهما الملكان الحافظان اللذان يكتبان ، كما قال :
{ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ } [ ق : 18 ] الآية . ومعلوم أنه لو كان قرب ذاتٍ لم يخصَّ ذلك بهذا الحال ، ولم يكن لذكر القعيدين : الرقيب والعتيد معنى مناسب . وكذلك قوله في الآية الأخرى : { فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ } [ الواقعة : 83 - 85 ] ، فإن هذا إما يقال : إذا كان هناك من يجوِّز أن يبصر في بعض الأحوال ، لكن نحن لا نبصره ، والرب تعالى في هذا الحال لا يراه الملائكةُ ولا البشر . وأيضاً فإنه قال :
{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } فأخبر عمن هو أقرب إلى المحتضر من الناس الذين عنده في هذه الحال . وذات الرب سبحانه وتعالى إذا قيل : هي في مكان ، أو قيل : قريبة من كل موجود ، لا يختص بهذا الزمان والمكان والأحوال ، فلا يكون أقرب إلى شيء من شيء ، ولا يجوز أن يراد قرب الربّ الخاص ، كما في قوله : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } فإن ذاك إنما هو قربه إلى من دعاه أو عبَده ، وهذا المحتضر قد يكون كافراً وفاجراً ، أو مؤمناً ومقرباً ؛ ولهذا قال تعالى :
{ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } [ الواقعة : 88 - 94 ] . ومعلوم أن مثل هذا المكذب لا يخصُّه الربُّ بقُرب منه دون من حوله ، وقد يكون حوله قوم مؤمنون ، وإنما هم الملائكة الذين يحضرون عند المؤمن والكافر ، كما قال تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } [ النساء : 97 ] ، وقال تعالى :
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } [ الأنفال : 50 ] ، وقال :
{ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } [ الأنعام : 93 ] ، وقال تعالى :
{ حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } [ الأنعام : 61 ] ، وقال تعالى :
{ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } [ السجدة : 11 ] .
ومما يدل على ذلك أنه ذكره بصيغة الجمع فقال :
{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } وهذا كقوله سبحانه :
{ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ القصص : 3 ] ، وقال تعالى :
{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } [ يوسف : 3 ] ، وقال :
{ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [ القيامة : 17 - 19 ] ، فإن مثل هذا اللفظ إذا ذكره الله تعالى في كتابه دلَّ على أن المراد أنه سبحانه بجنوده وأعوانه من الملائكة ؛ فإن صيغة : نحن يقولها المتبوع المطاع المعظَّم الذي له جنود يتبعون أمره ، وليس لأحد جند يطيعونه كطاعة الملائكة ربهم ، وهو خالقهم وربُّهم ؛ فهو سبحانه العالم بما توسوس به نفسه ، وملائكته تعلم ؛ فكان لفظ : نحن هنا هو المناسب ، وكذلك قوله : { وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } فإنه سبحانه يعلم ذلك ، وملائكته يعلمون ذلك ، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < إذا هَمَّ العبدُ بحسَنةٍ كُتبت له حسنة ، فإن عمِلها كتبت له عشرُ حسنات ، وإذا هَمَّ بسيِّئةٍ لم تكتب عليه ، فإن عملها كتبت سيئة واحدة ، وإن تركها لله كتبت له حسنة > . فالملك يعلم ما يهم به العبد من حسنة وسيئة ، وليس ذلك من علمهم الغيب الذي اختص الله به .
ثم قال : وقوله : { وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } ، يقتضي أنه سبحانه وجنده الموكلين بذلك يعلمون ما توسوس به للعبد نفسُه ، كما قال : { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [ الزخرف : 80 ] ، فهو يسمع ، ومن يشاء من ملائكته .
وأما الكتابة فرسله يكتبون كما قال هاهنا :
{ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 18 ] ، وقال تعالى :
{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } [ يس : 12 ] ، وأخبر بالكتابة : نحن ؛ لأن جنده يكتبون بأمره ، وفصَّل في تلك الآية بين السماع والكتابة ؛ لأنه يسمع بنفسه .
وأما كتابة الأعمال فتكون بأمره ، والملائكة يكتبون ، فقوله :
{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ } مثل قوله :
{ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } لما كانت ملائكته متقربين إلى العبد بأمره ، كما كانوا كاتبين عمله بأمره ، فإن ذلك قربه من كل أحد بتوسط الملائكة ، كتكليمه عبده بتوسط الرسل ، كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء } [ الشورى : 51 ] ، فهذا تكليمه لجميع عباده بواسطة الرسل ، وذاك قربه إليهم عند الاحتضار ، وعند الأقوال الباطنة في النفس والظاهرة . انتهى كلامه رحمه الله .
وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ } [ 17 ] .
{ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ } أي : ونحن أقرب إلى الإنسان من وريد حلقه حين يتلقى الملكان الحفيظان ما يتلفظ به . فـ : إذْ ظرف لأقرب ، وفيه إيذان بأنه غني عن استحفاظ الملكين ، فإنه أعلم منهما ومطلع على ما يخفى عليهما ، لكنه لحكمة اقتضته ، وهي إلزام الحُجَّة في الأخرى ، والتقدم إلى ما يرغبه ويرهبه في الأولى .
وقال القاشاني : بيَّن تعالى بهذه الآية أقربيَّته لينتفي القرب بمعنى الاتصال والمقارنة ، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام : هو مع كل شيء لا بمقارنة ؛ إذ الشيء به ذلك الشيء ، وبدونه ليس شيئاً حتى يقارنه . أي : يعلم حديث نفسه الذي توسوس به نفسه وقت تلقي المتلقيين ، مع كونه أقرب إليه منهما . وإنما تلقيهما للحجة عليه ، وإثبات الأقوال والأعمال في الصحائف النورية ، للجزاء .
ثم قال : والمتلقي القاعد عن اليمين ، وهو القوة العاقلة العملية المنتقشة بصور الأعمال الخيرية المرتسمة بالأقوال الحسنة الصائبة ؛ وإنما قعد عن يمينه لأن اليمين هي الجهة القوية الشريفة المباركة ، وهي جهة النفس التي تلي الحق . والمتلقي القاعد عن الشمال هو القوة المتخيلة التي تنتقش بصور الأعمال البشرية البهيمية والسبعية ، والآراء الشيطانية والوهمية ، والأقوال الخبيثة الفاسدة ؛ وإنما قعد عن الشمال لأن الشمال هي الجهة الضعيفة الخسيسة المشؤومة ، وهي التي تلي البدن ، ولأن الفطرة الإنسانية خيِّرة بالذات ، لكونها من عالم الأنوار ، مقتضية بذاتها وغريزتها الخيرات . والشرور إنما هي أمور عرضت لها من جهة البدن وآلاته وهيئاته ، يستولي صاحب اليمين على صاحب الشمال ، فكلما صدرت منه حسنة كتبها له في الحال ، وإن صدرت منه سيئة منع صاحبَ الشمال من كتابتها في الحال انتظاراً للتسبيح ، أي : التنزيه عن الغواشي البدنية والهيئات الطبيعية ، بالرجوع إلى مقره الأصليّ وسنخه الحقيقيّ وحاله الغريزي ؛ لينمحي أثر ذلك الأمر العارضيّ بالنور الأصليّ والاستغفار ، أي : التنوُّر بالأنوار الروحية والتوجه إلى الحضرة الإلهية ، لينمحي أثر تلك الظلمة العرضية بالنور الوارد كما روي < أن كاتب الحسنات على يمين الرجل ، وكاتب السيئات على يساره ، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشراً ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب اليسار : دعهُ سبعَ ساعات ، لعلَّه يسبِّح أو يستغفر > . انتهى .
وقد كثر في كلام القاشاني رحمه الله تأويل المَلَك بالقوة الحاثة على الخير ، والشيطان بالمغوية على الشر . وسبقه إليه الحكماء ، قال بعض الحكماء : هذا الشيء الذي أودِع فينا ونسميه قوة وفكراً ، وهو في الحقيقة معنى لا يدرك كُنهه ، وروحٌ لا تُكتنه حقيقتها ، لا يبعد أن يسميه الله تعالى ملكاً ويسمي أسبابه ملائكة ، أو ما شاء من الأسماء ، فإن التسمية لا حجْر فيها على الناس ، فكيف يحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة ، والسلطان النافذ والعلم الواسع ؟ .
وقد سبق الغزاليُّ إلى هذا المعنى وعبَّر عنه بالسبب ، وقال : إنه يسمَّى ملَكا ، فإنه في شرح عجائب القلب من كتاب " الإحياء " بعد ما قسم الخواطر إلى محمود ومذموم ، قال : وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان : فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكاً ، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطاناً . . . إلخ . والبحث كله غُرر ، تجدر مراجعته .
لطيفة :
{ قَعِيدٌ } كجليس بمعنى مجالس ، لفظاً ومعنى ؛ وإنما أفرِد رعايةً للفواصل ، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، كقوله :
~فإني وقيّارٌ بها لغريبُ
وقيل : يطلق فعيل للواحد والمتعدد ، كقوله :
{ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } [ التحريم : 4 ] ، وضعف بأنه ليس على إطلاقه ، بل إذا كان فعيل بمعنى مفعول بشروطه ، وهذا بمعنى فاعل ، فلا يصح فيه ذلك إلا بطريق الحمل على فعيل بمعنى مفعول .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ 18 ] .
{ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ } أي : ملك يرقِب عمله ، { عَتِيدٌ } أي : حاضر . ولمَّا ذكر استبعادهم للبعث وأزاح ذلك بتحقيق قدرته وعلمه ، أعلمهم بأنهم يلاقون ذلك عن قريب ، ونبَّه على اقترابه بلفظ الماضي ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } [ 19 ] .
{ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ } أي : شدَّتُه المحيِّرة الشاغلة للحواس ، المذهلة للعقل { بِالْحَقِّ } أي : بالموعود الحق والأمرِ المحقَّق ، وهو الموت ؛ فالباء للملابسة . أو بالموعود الحق من أمر الآخرة ، والثواب والعقاب الذي غفل عنه ، فالباء للتعدية ، أي : أحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر ، وهي أحوالها الباطنة ، وأظهرتها عليه .
قال الشهاب : السكرة استعيرت للشدة ، ووجه الشبه بينهما أن كلاً منهما مذهِب للعقل ، فالاستعارة تصريحية تحقيقية . ويجوز أن يشبه الموت بالشراب على طريق الاستعارة المكنية . وإثبات السكرة لها تخييل .
{ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } أي : تَفرّ . والجملة على تقدير القول ، أي : يقال له وقت الموت : ذلك الأمر الذي رأيته هو الذي كنت منه تحيد في حياتك ، فلم ينفعك الهرب والفرار .
وهل المشار إليه بذلك ، الحق أو الموت ؟ قال الطيبي : إن اتصل قوله :
{ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ } إلخ ، بقوله : { فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } وما معه ، فالمشار إليه بذلك الحق ، والخطاب للفاجر ، أي : جاءك أيها الفاجر الحقُّ الذي أنكرته ، وإن اتصل بقوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ } إلخ ، فالمشار إليه الموت ، والالتفات لا يفارق الوجهين ، والثاني هو المناسب ، لقوله :
{ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } بعده ، وتفصيله { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } [ ق : 24 ] ، { وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } [ ق : 31 ] انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } [ 20 -21 ] .
{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ } يعني : نفخة البعث { ذَلِكَ } أي : النفخ { يَوْمُ الْوَعِيدِ } أي : وقت تحقق الوعيد بشهود ما قدّم من الأعمال وما أخَّر .
{ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } قال ابن جرير : أي : سائق يسوقها إلى الله ، وشاهد يشهد عليها بما عملت في الدنيا من خير أو شر . وهل هما ملكان ، أو ملك جامع للوصفين ، أو الأول ملك ، والثاني الإنسان نفسه يشهد على نفسه ، أو سائق من أعمالها ، إلى مكان جزائها ، وشهيد من أجزائها ؟ أقوال : وقال القاشاني : أي : سائق من عمله ، وشهيد من عمله ؛ لأن كل أحد ينجذب إلى محل نظره ، وما اختاره بعمله . والميل الذي يسوقه إلى ذلك الشيء إنما نشأ من شعوره بذلك الشيء وحكمه بملائمته له ، سواء كان أمراً سفلياً جسمانياً بعثه عليه هواه وأغراه عليه وهمُه وقوَّاه ، أو أمراً عُلوياً روحانياً بعثه عليه عقله ومحبَّتُه الروحانية وحرَّضه عليه قلبُه وفطرته الأصلية . فالعلم الغالب عليه سائقه إلى معلومه ، وشاهده بالميل الغالب عليه ، والحبُّ الراسخ فيه
والعمل المكتوب في صحيفته يشهد عليه بظهوره على صور أعضائه وجوارحه ، وينطق عليه كتابه بالحق ، وجوارحه بهيئات أعضائه المتشكلة بأعماله . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ 22 ] .
{ لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } في المخاطب بهذا ، أقوالُ ثلاثة :
أحدها : أنه النبي صلى الله عليه وسلم ، أتى بهذه الجملة معترضة في خلال النبأ الأُخروي ، تنويهاً بمِنَّة الإعلام بذلك ، والتعريف به ، ثم شدة نفوذ البصر به والوقوف على غوامضه بعد خلوِّ الذهن عنه رأساً . والمعنى : لقد كنت في غفلة من هذا القرآن قبل أن يوحى إليك ، فكشفنا عنك غطاءك بإنزاله إليك ؛ فبصرك اليوم حديدٌ نافذ قوي ، ترَى مالا يَرون ، وتعلم مالا يعلمون . ومثله آية { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } [ الشورى : 52 ] .
وثانيها : أنه الكافر ، وأن الكلام على تقدير القول ، أي : يقال له : لقد كنت في غفلة من هذا الذي عاينت اليوم من الأهوال ، فكشفنا عنك غطاءك بأن جلينا لك ذلك ، وأظهرناه لعينيك حتى رأيته وعاينته ، فزالت الغفلة عنك . ومثله عن الكفار آية : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [ مريم : 38 ] ، وآية : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } [ السجدة : 12 ] .
وثالثها : أنه الإنسان مطلَقاً ، لقوله : { وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ } ، والمقصود أنه كشف الغطاء عن البَرَََِّ والفاجر ، ورأى كل ما يصير إليه .
وعوَّل ابن جرير في الأولوية على الثالث .
قال الزمخشري : جعلت الغفلة كأنها غطاء غطى بها جسده كله ، أو غشاوة غطى بها عينيه ، فهو لا يبصر شيئاً ، فإذا كان يوم القيامة تيقظ وزالت الغفلة عنه وغطاؤها ، فيبصر ما لم يبصره من الحق .
وقال القاشاني في تأويل الآية : { لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا } لاحتجابك بالحس والمحسوسات وذهولك عنه ؛ لاشتغالك بالظاهر عن الباطن { فَكَشَفْنَا عَنكَ } بالموت { غِطَاءكَ } المادي الجسماني الذي احتجبت به { فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } أي : إدراكك لما ذهلتَ عنه ولم تصدِّق بوجوده ، قويّ تعاينه . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } [ 23 ]
{ وَقَالَ قَرِينُهُ } أي : قرين هذا الإنسان الذي جيء به يوم القيامة معه سائق وشهيد ، وهو إما الملك الموكل عليه في الدنيا لكتابة أعماله ، وهو الرقيب المتقدِّم ، أو الشيطان الذي قيِّض له مقارناً يغويه ، وهو الأظهر - كما اعتمده الزمخشري - لآية : { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] ، ويشهد له قوله تعالى : { قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ } [ ق : 27 ] ، { هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } أي : هذا شيء لدي حاضر معدٌّ محفوظ .
والإشارة على الأول لما في صحفه ، وعلى الثاني للشخص نفسه ، أي : هذا ما لدي عتيد لجهنم هيَّأته بإغوائي لها .
وقال القاشاني :
{ وَقَالَ قَرِينُهُ } أي : من شيطان الوهْم الذي غرَّه بالظواهر وحجبَهُ عن البواطن : { هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } مهيَّأ لجهنم ، أي : ظهر تسخير الوهم إياه في التوجه إلى الجهة السفلية ، وأنه ملَكه واستعبده في طلب اللذات البدنية ، حتى هيأه لجهنم في قعر الطبيعة . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } [ 24 ]
{ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } خطاب من الله تعالى للسائق والشهيد ، على أنهما ملكان ، لا ملك جامع للوصفين ، أو لملكين من خزنة النار ، أو لواحد ؛ وتثنية الفاعل منزل منزلة تثنية الفعل ، وتكريره على أنه أصله : ألق ، ألقِ ، ثم حذف الفعل الثاني ، وأبقى ضميره مع الفعل الأول ، فثنى الضمير للدلالة على ما ذكر ، أو الألف بدل من نون التوكيد ؛ لأنها تبدل ألفاً في الوقف ، فأجرى الوصل مجراه ، أوجه ذكروها .
وقال ابن جرير : أخرج الأمر للقرين - وهو بلفظ واحد - مَخرَجَ خطاب الاثنين . وفي ذلك وجهان من التأويل :
أحدهما : أن يكون القرين بمعنى الاثنين ، كالرسول ، والاسم الذي يكون بلفظ الواحد في الواحد والتثنية والجمع . فرد قوله : { أَلْقِيَا } إلى المعنى .
والثاني : أن يكون كما كان بعض أهل العربية يقول ، وهي : إن العرب تأمر الواحد والجماعة بما تأمر به الاثنين ، فتقول للرجل : ويلك ! ارحلاها ، وازجُراها ، كما قال :
~فقلتُ لصاحبي لا تحْبِسِانا بِنَزْعِ أصولِهِ واجتْرَّ شيحا
وقال أبو ثروان :
~فإن تزجراني يا ابن عفانَ أنْزَجِرْ وإن تَدَعَاني أَحْمِ عِرضاً مُمنَّعَا
وسبب ذلك منهم أن الرجل أدنى أعوانه في إبله وغنمه اثنان ، وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة ؛ فجرى كلام الواحد على صاحبيه . ألا ترى الشعراء أكثر شيء قيلاً : يا صاحبَي ، ياخليليّ . انتهى .
والكَفَََّّار المبالِغ في جحده وحدانيةَ الله تعالى وما جاء به رسوله صلوات الله عليه .
والعنيد المعانِد للحق وسبيل الهدى ، لا يسمع دليلاً في مقابلة كفره ، وقد زاد على العناد بوصف :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ } [ 25 ]
{ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ } أي : الكليّ ، وهو الإسلام ، أو المال . واستصوب ابن جرير أنه هنا كل حق وجب لله أو لآدمي في ماله ، لأنه لم يخصص منه شيء ؛ فدل على أنه كل خير يمكن منعه طالبه { مُعْتَدِ } أي : متجاوز الحدَّ في الاعتداء على الناس بالبَذاء والفُحش في المنطق ، وبيده بالسطوة والبطش ظلماً ، كما قال قتادة : معتدٍ في منطقه وسيرته وأمره .
{ مُرِيبٍ } أي : شاكّ في الحق ، أو ُموقع صاحبه في الرَّيب مع كثرة الدلائل .
وقال القاشاني : الخطاب في { أَلْقِيَا } للسائق والشهيد الذيْن يُوبقانه ويُلقيانه ويهلكانه في أسفل غياهِب مَهواة الهيولي الجسمانية ، وغيَابةِ جُبِّ الطبيعة الظلمانية في نيران الحرمان . أو لمالك . والمراد بتثنية الفاعل تكرار الفعل ، كأنما قال : ألق ، ألق ، لاستيلائه عليهم في الإبعاد والإلقاء إلى الجهة السفلية . ويقوّي الأول : أنه عدد الرذائل الموبقة التي أوجبت استحقاقهم لعذاب جهنم ، ووقوعهم في نيران الجحيم ، وبيَّن أنها من باب العلم والعمل . والكفران ومنع الخير كلاهما من إفراط القوة البهيمية الشهوانية ، لانهماكها في لذاتها ، واستعمالها نِعَم الله تعالى في غير مواضعها من المعاصي والاحتجاب عن المنعم بها ، ومن حقها أن تذكِّره وتبعث على شكره ، ومكالبتها عليها لفرط ولوعها بها ؛ فتمنعها عن مستحقِّيها . وذكرهما على بناء المبالغة ؛ ليدل على رسوخ الرذيلتين فيه وغلبتِهما عليه ، وتعمقِه فيهما الموجب للسقوط عن رتبة الفطرة في قعر بئر الطبيعة . والعنود والاعتداء كلاهما من إفراط القوة الغضبية ، واستيلائها لفرط الشيطنة ، والخروج عن حد العدالة . والأربعة من باب فساد العمل . والريب والشرك كلاهما من نقصان القوة النطقية ، وسقوطها عن الفطرة بتفريطها في جنب الله ، وتصورها عن حد القوة العاقلة ؛ وذلك من باب فساد العلم . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ } [ 26 ] .
{ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ } أي : عبَد معه معبوداً آخر من خلقه { فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ } أي : عذاب جهنم .
لطيفة :
الموصول إما مبتدأ مضمَّن معنى الشرط ، وخبره { فَأَلْقِيَاهُ } أو مفعول لمضمر يفسره { فَأَلْقِيَاهُ } أو بدل من { كُلَّ كَفَّارٍ } فيكون { فَأَلْقِيَاهُ } تكريراً للتوكيد . قيل على الأخير : إنه مخالف لما ذكره أهل المعاني من أن بين المؤكَّد والمؤكِّد شدة اتصال تمنع من العطف . وأجيب : بأنه من باب : وحقك ثم حقك ، نزّل التغاير بين المؤكَّد والمؤكد والمفسِر والمفسَر ، منزلةَ َالتغاير بين الذاتين بوجه خطابي . ولو جعل { الْعَذَابَ الشَّدِيدَ } نوعاً من عذاب جهنم ومن أهواله ، على أنه من باب { وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } [ البقرة : 98 ] كان حسناً .
قال الشهاب بعد نقله ما ذكر : قال ابن مالك في " التسهيل " : فصلُ الجملتين في التأكيد بـ : ثم ، إن أمن اللبس ، أجود من وصلهما ، وذكر بعض النحاة الفاء . وذكر الزمخشري في الجاثية الواوَ أيضاً ، واتفق النحاة على أنه تأكيد اصطلاحيّ ، وكلام أهل المعاني في إطلاق منعه غير سديد . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ } [ 27 ] .
{ قَالَ قَرِينُهُ } أي : قرين هذا الإنسان الكفَّار المنَّاع للخير ، وهو شيطانه الذي كان موكلاً به في الدنيا ، متبرئاَ منه { رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ } أي : بالإرابة ومنع الإسلام وجعلِ إله آخر معك { وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ } أي : في طريق جائر عن سبيل الهدى ، جوراً بعيداً بنفسه .
قال القاشاني : وقول الشيطان : { مَا أَطْغَيْتُهُ } إلخ كقوله : { إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم } [ إبراهيم : 22 ] ، لأنه لو لم يكن في ضلال عن طريق التوحيد ، بعيد عن الفطرة الأصلية بالتوجه إلى الجهة السفلية ، والتغشي بالغواشي المظلمة الطبيعية ، لم يقبل وسوسة الشيطان ، وقبل إلهام الملك ؛ فالذنب إنما يكون عليه بالاحتجاب من نور الفطرة ، واكتساب الجنسية مع الشيطان في الظلمة . انتهى .
وقال ابن جرير : وإنما أخبر تعالى عن قول قرين الكافر له يوم القيامة ، إعلاماً منه عباده ، تبرُّأ بعضهم من بعض يوم القيامة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ } [ 28 ]
{ قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ } أي : لا تختصموا اليوم في دار الجزاء وموقف الحساب ؛ فلا فائدة في اختصامكم ، وقد قدمت إليكم في الدنيا بالوعيد لمن كفر بي وعصاني وخالف أمري ونهيي في كتبي ، وعلى ألسن رسلي .
قال القاشاني : النهي عن الاختصام ليس المراد به انتهاءه ، بل عدم فائدته, والاستماع إليه . كأنه قيل : لا اختصام مسموع عندي ، وقد ثبت وصحَّ تقديم الوعيد ، حيث أمكن انتفاعكم به ؛ لسلامة الآلات وبقاء الاستعداد ، فلم تنتفعوا به ولم ترفعوا لذلك رأساً ، حتى ترسخت الهيئات المظلمة في نفوسكم ، ورانت على قلوبكم ، وتحقق الحجاب ، وحقّ القول بالعذاب . انتهى .
وعن ابن عباس : أنهم اعتذروا بغير عذر ، فأبطل الله حجتهم وردَّ عليهم قولهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } [ 29 ]
{ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ } قال ابن جرير : ما يغيَّر القول الذي قلته لكم في الدنيا وهو قوله :
{ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } ، ولا قضائي الذي قضيته فيهم فيها .
{ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } أي : فلا أعذب أحداً بذنب غيره ، ولكن بذنبه بعد قيام الحجة عليه .
وقال القاشاني :
{ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ } حيث وهبت الاستعداد ، وأنبأت على الكمال المناسب له وهديتكم إلى طريق اكتسابه ، بل أنتم الظلامون أنفسكم باكتساب ما ينافيه ، وإضاعة الاستعداد بوضع النور في الظلمة ، واستبدال ما يفنى بما يبقى .
تنبيهات :
الأول : ظاهر الآيات أن هذا التقاول على حقيقته ؛ إذ لا مانع منها . وذهب بعض المفسرين إلى أنها مجاز .
قال القاشاني : هذه المقاولات كلها معنوية ، مثلت على سبيل التخييل والتصوير ، لاستحكام المعنى في القلب ، عند ارتسام مثاله في الخيال ، فادعاء الكافر الإطغاء على الشيطان وإنكار الشيطان إياه ، عبارة عن التنازع والتجاذب الواقع بين قوتيه : الوهمية والعقلية ، بل بين كل اثنتين متضادتين من قواه : كالغضبية والشهوية مثلا ؛ ولهذا قال :
{ لَا تَخْتَصِمُوا } ولما كان الأمران في وجوده هما العقلية والوهمية ، كان أصل التخاصم بينهما ، وكذا يقع التخاصم بين كل متحاورين متخاوضين في أمر ، لتوقع نفع أولذة ، يتوقفان ما دام مطلوبهما حاصلاً ، فإذا حرما أوقعا بسعيهما في خسران وعذاب ، تدارءا ، أو نسب كلٌّ منهما التسبب في ذلك إلى الآخر ، لاحتجابهما عن التوحيد ، وتبرؤ كل منهما عن ذنبه لمحبَّة نفسه ؛ ولذلك قال حارثة رضي الله عنه للنبي عليه السلام : ورأيت أهل النار يتعاورون . و < صوب عليه السلام قوله > . انتهى .
الثاني : إن قلت : لم طرحت الواو من جملة { قَالَ قَرِينُهُ } وذكرت في الأولى ؟ قلت : لأنها استؤنفت كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول ، كما رأيت في حكاية المقاولة بين موسى وفرعون .
فإن قلت : أين المقاولة ؟ قلت : لما قال قرينة : { هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } وتبعه قوله : { قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ } وتلاه : { لَا تَخْتَصِمُوا } علم أن ثَمَّ مقاولة من الكافر ، لكنها طرحت للدلالة عليها من السياق كأنه لما قال القرين : هذا ما لدي عتيد ، قال الكافر : رب هو أطغاني ، فلما قال الكافر ذلك ، قال القرين : ما أطغيته ، فلما حكى قول القرين والكافر كأن قائلاً يقول : فماذا قال الله تعالى ؟ فقيل : { قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ } وذكر الواو في الجملة الأولى لأنها أول المقاولة ، ولا بد من عطفها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول ، أعني مجيء كل نفس مع الملكين ، وقول قرينه ما قاله له ، هذا ملخص ما في" الكشاف " .
الثالث : جوز قوله تعالى :
{ بِالْوَعِيدِ } أن تكون الباء زائدة في المفعول ، وأن يكون حالاً من الفاعل أو المفعول ، والباء للملابسة ، أو المعية ، والمعنى : قدمت هذا القول موعداً لكم به ، أو حال كون القول ملتبساً بالوعيد ، أو من { لَا تَخْتَصِمُوا } على تأويل تقديم الوعيد بالعلم به ، أي : لا تختصموا عالمين به ؛ وذلك لتصح الحالية ، ويكون بينها وبين عاملها مقارنة على اصطلاحهم .
الرابع : دل قوله تعالى :
{ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ } على أنه لا خلف في إيعاد الله تعالى ، كما لا إخلاف في ميعاد الله . وهذا يرد على المرجئة حيث قالوا : ما ورد في القرآن من الوعيد فهو تخويف لا يحقق الله شيئاً منه ، وقالوا : الكريم إذا وعد أنجز ووفَّى ، وإذا أوعد أخلف وعفا ، أفاده الرازي .
ووجه الاستدلال أنه لو صح ما ذكروه للزم تبديل قوله تعالى ، والخلف في إخباره - تقدس عن ذلك - مع أن طبيعة الذنب تقتضي العقوبة ، إلا أن يتاب منه ، أو يشاء تعالى العفو عنه .
الخامس : ذكروا في سر المبالغة في { بِظَلاَّمٍ } وجوهاً :
منها : أن فّعالاً قد ورد بمعنى فاعل ، فهذا منه .
ومنها : اعتبار كثرة الخلق .
ومنها : أن المنسوب في المعتاد إلى الملوك من الظلم تحت ظلمهم ، إن عظيماً فعظيم وإن قليلاً فقليل ، فما كان ملك الله تعالى على كل شيء ملكه ، قدس ذاته عما يتوهم مخذول ، والعياذ بالله ، أنه منسوب إليه من ظلم تحت شمول كل موجود .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ 30 ]
{ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } قال ابن جرير : فيه لأهل التأويل قولان :
الأول : أن معناه : ما من مزيد . فعن مجاهد قال : وعدها الله ليملأنها فقال : هلا وفَّيتك ؟ قالت : وهل من مسلك ؟ ! .
الثاني : معناه : زدني .
أي : فالاستفهام على الأول إنكاري ّ ، معناه النفي ، وأيد بآية { لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ هود : 119 ] و [ السجدة : 13 ] ، والقرآن يفسر بعضُه بعضاًَ وعلى الثاني تقريريّ ، دلالة على سعتها . بحيث يدخلها من يدخلها ، وفيها فراغ وخلوّ ، كأنه يطلب الزيادة .
فإن قيل : الوجه الثاني - وهو كونها فيها فراغ - منافٍ لصريح النظم من قوله { لأملأن جهنم } الآية ، قلت : لا منافاة بينهما كما توهم ؛ لأن الامتلاء قد يراد به أنه لا يخلو طبقة منها عمن سكنها ، وإن كان فيها فراغ كبير ، كما يقال : إن البلدة ممتلئة بأهلها ، ليس فيها دار خالية ، مع ما بينها من الأبنية والأفضية . أو هذا باعتبار حالين ، فالفراغ في أول دخول أهلها فيها ، ثم يساق إليها الشياطين ونحوهم فتمتلئ .
تنبيه :
ذهب جماعة إلى أن المقاولة في الآية مجاز على طريق الاستعارة التمثيلية ، وأن جهنم لشدة توقدها وزفيرها وتهافت الكفرة والعُصاة وقذفهم فيها ، كأنها طالبة للزيادة . وآخرون إلى أن ذلك حقيقة .
قال الناصرفي " الانتصاف " : إنا نعتقد أن سؤال جهنم وجوابها حقيقة ، وأن الله تعالى يخلق فيها الإدراك بذلك بشرطه . وكيف نفرض ، وقد وردت الأخبار وتظاهرت على ذلك ؟ منها هذا ، ومنها < لجاج الجنة والنار > ، ومنها < اشتكاؤها إلى ربها ، فأذن لها في نَفَسين > . وهذه وإن لم تكن نصوصاً ، فظواهر يجب حملها على حقائقها ، لأنا متعبدون باعتقاد الظاهر ، ما لم يمنع مانع ، ولا مانع هاهنا ، فإن القدرة صالحة والعقل يجوِّز ، والظواهر قاضية بوقوع ما جوَّزه العقل . وقد وقع مثل هذا قطعاً في الدنيا ، < كتسليم الشجر ، وتسبيح الحصى في كف النبي صلى الله عليه وسلم وفي يد أصحابه > . ولو فتح باب المجاز والعدول عن الظاهر في تفاصيل المقالة ، لا تسع الخرْق وضلَّ كثير من الخلق عن الحق . وليس هذا كالظواهر الواردة في الإلهيات مما لم يجوز العقل اعتقاد ظاهرها ، فإن العدول فيها عن ظاهر الكلام بضرورة الانقياد إلى أدلة العقل المرشدة إلى المعتقد الحق . انتهى .
قال الشهاب : وهو كلام حسن ، وأمور الآخرة لا ينبغي أن تقاس على أمور الدنيا . انتهى .
ولا تنس ما قلناه مراراً من أن اللغة لا تنحصر في الحقيقة ، وأن أكثر اللغة مجاز لا حقيقة ، كما أوضحه السيوطي في " المزهر " والجرجاني في " أسرار البلاغة " . وفي شواهد العرب الكثيرة ما يؤيد المجاز ، ولا محذور فيه ، عدا عن كونه أبلغ ، كما قرروه . وبالجملة فالنظم الكريم يحتملها - والله أعلم - .
و { يَوْمَ } منصوب بـ : { ظَلاَّمٍ } أو بمضمر ، نحو : اذكر وأنذر . و المزيد إما مصدر كالمَحيد ، أو اسم مفعول كالمبيع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } [ 31 ]
{ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ } أي : قرِّبت ، أودنيت ، { لِّلْمُتَّقِينَ } أي : للذين اتقوا ربهم فخافوا عقوبته بأداء فرائضه واجتناب معاصيه { غَيْرَ بَعِيدٍ } أي : مكاناً غير بعيد ، فهو صفة للظرف قام مقامه ، أو حال من الجنة . وتذكيره لأنه صفة مذكر ، أي : شيئاً غير بعيد ، أو تأويل الجنة بالبستان ، أو لكونها على زنة المصدر الذي من شأنه أن يستوي فيه المذكر والمؤنث ، فعومل معاملته وأجري مجراه . وعلى كلٍّ فهو للتأكيد ، ودفع التجوز ، فلا يقال بعد ذكر كونها قربت : لا يحتاج إلى كونها غير بعيدة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } [ 32 ]
{ هَذَا } أي : الثواب أو الإزلاف { مَا تُوعَدُونَ } أيها المتقون { لِكُلِّ أَوَّابٍ } أي : راجع عن معصية الله إلى طاعته ، تائب من ذنوبه { حَفِيظً } أي : حافظ على فرائض الله وما ائتمنه عليه .
وقال القاشاني : أي : محافظ على صفاء فطرته ونوره الأصلي ، كي لا يتكدر بظلمة النفس و { لِكُلِّ } بدل من { لِّلْمُتَّقِينَ } بإعادة الجار .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } [ 33 ]
{ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ } أي : خاف الله في سرِّه . وقال القاشاني : أي : من اتصف بالخشية وصارت الخشية مقامه . و { مَنْ } بدل بعد بدل ، أو خبر لمحذوف ، أي : هم من خشي . أو مبتدأ خبره ما بعده بتأويل : يقال لهم ادخلوها . . . . إلخ .
{ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } أي : جاء ربَّه تائب من ذنوبه ، راجع مما يكرهه تعالى إلى ما يرضيه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } [ 34 - 35 ]
{ ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ } أي : يقال لهم : ادخلوا هذه الجنة بأمان من الهمِّ والحزن والخوف .
{ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا } أي : مما تشتهيه نفوسهم وتلذّه أعينهم { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } أي : ممَّا لا يخطر على بالهم ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ } [ 36 ]
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم } أي : قبل هؤلاء المشركين من قريش { مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً } أي : قوة ، كعاد وفرعون وثمود { فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ } أي : فضربوا فيها وساروا وطافوا أقاصيها . قال امرؤ القيس :
~لقد نقَّبتُ في الآفاق حتى رَضيتُ من الغنيمةِ بالإيابِ
{ هَلْ مِن مَّحِيصٍ } أي : هل كان لهم - بتنقيبهم في البلاد - بطشاً عن الهلاك الذي وُعِدوا به لتكذيبهم الحق . والضمير على هذا في { نَقَّبُوا } للقرن الذين هم أشد بطشاً ، وجوز عوده لهؤلاء المشركين ، أي : ساروا في أسفارهم في بلاد القرون ، فهل رأوا لهم محيصاً حتى يتوقعوا مثله لأنفسهم ؟ .
قال ابن جرير : وقرأت القراء قوله { فَنَقَّبُوا } بالتشديد وفتح القاف ، على وجه الخبر عنهم . وذكر عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ : فنقِبوا بكسر القاف ، على وجه التهديد والوعيد ، أي : طوِّفوا في البلاد وترددوا فيها ، فإنكم لن تفوتونا بأنفسكم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } [ 37 ]
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : في إهلاك القرون التي أُهلِكت من قبل قريش { لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } أي : لتذكرة يتذكر بها من كان له عقل من هذه الأمة ، فينتهي عن الفعل الذي كانوا يفعلونه من كفرهم بربهم ، خوفاً من أن يحلَّ بهم مثل الذي حلَّ بهم من العذاب .
{ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ } أي : أصغى للأخبار - عن هذه القرون التي أهلِكت - بسمعه .
{ وَهُوَ شَهِيدٌ } أي : حاضر القلب متفهم لما يخبر به عنهم ، غير غافل ولا ساهٍ . على أن { شَهِيدٌ } من الشهود ، وهو الحضور ، والمراد : المتفطن ؛ لأن غير المتفطن كالغائب ، فهو استعارة أو مجاز مرسل . أو { شَهِيدٌ } بمعنى شاهد ، وفيه مضاف مقدر ، أي : شاهد ذهنه . أو هو من الشهادة ، والمراد : شاهد بصدقه ، أي : مصدق له ، لأنه المؤمن الذي ينتفع به . وهو كناية عن المؤمن ، نقله الشهاب .
لطيفة :
قيل : أو ، لتقسيم المتذكر إلى تالٍ وسامع ، أو إلى فقيه ومتعلم ، أو إلى عالم كامل الاستعداد لا يحتاج لغير التأمل فيما عنده ، وقاصر محتاج للتعلم فيتذكر إذا أقبل بكلِّيته ، وأزال الموانع بأسرها . وفي تنكير القلب وإبهامه ، تفخيم وإشعار بأن كل قلب لا يتفكر ولا يتدبر ، كلا قلب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } [ 38 ]
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } أي : إعياء .
قال قتادة : كذَّب الله ُاليهودَ وأهل الفِرى على الله ، وذلك أنهم قالوا : إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح يوم السابع ، وذلك عندهم يوم السبت وهم يسمونه يوم الراحة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } [ 39 - 40 ]
{ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } يعني : المشركين من إنكار البعث والتوحيد والنبوة { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } أي : أعقاب الصلوات . والمراد بالتسبيح إما ظاهره ، وهو قرين التحميد . أو هو الصلاة ، من إطلاق الجزء ، أو اللازم على الكل ، أو الملزوم . فالصلاة قبل الطلوع ، الصبح . وقبل الغروب ، الظهر والعصر . ومن الليل ، العشاآن والتهجد . وأدبار السجود . النوافل بعد المكتوبات .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ } [ 41 - 42 ]
{ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } أي : استمع ، أي : لِما أخبرك به من أهوال القيامة ، يوم ينادي مناديها من كل مكان قريب ، بحيث يصل نداؤه إلى الكل على السواء .
قال القاضي : ولعله في الإعادة نظير كن في الإبداء ، أي : فهو تمثيل لإحياء الموتى بمجرد الإرادة ، وإن لم يكن نداء وصوت .
وفي ورود الأمر مطلقاً ، ثم تبيينه بما بعده ، تهويلٌ وتعظيم للمخبر به ، لِما في الإبهام ثم التفسير من التهويل والتفخيم لشأن المحدَّث عنه .
{ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ } أي : صيحة البعث من القبور ، والحشر للجزاء { بِالْحَقِّ } قال ابن جرير : يعني بالأمر بالإجابة لله إلى موقف الحساب .
{ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ } أي : من القبور .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ } [ 43 ]
{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ } أي : في الدنيا بإفاضة نور الحياة أو قطعه { وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ } أي : مصير الجميع يوم القيامة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } [ 44 ]
{ يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً } أي : فيخرجون منها مسرعين { ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } أي : ذلك الإخراج لهم جمع في موقف الحساب علينا سهلٌ بلا كلفة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } [ 45 ]
{ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } يعني : مشركي مكة ، من فِريتهم على الله ورسوله ، وإنكارهم قدرته تعالى على البعث . وهو تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديدٌ لهم .
{ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ } أي : بمسلَّط ومسيطر تقهرهم على الإيمان { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } أي : بل إنما بعثت مذكراً ومبلغاً ، فذكر بما أنزل إليك من يخاف الوعيد الذي أوعِد به من عصى وطغى ، فإنه ينتفع به .
ومن دعاء قتادة : اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ، ويرجو موعدك ، يا بارّ يا رحيم .(/)
سورة الذاريات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً } [ 1 ]
{ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً } يعني : الرياح التي تذرو البخارات ذرواً ، أي : نوعاً من الذرو ليعقدها سُحباً . أو النساء الولود فإنهن يذرين الأولاد ، مجازاً شبه تتابع الأولاد بما يتطاير من الرياح . أو الأسباب التي تذري الخلائق من الملائكة وغيرهم ، وهو استعارة أيضاً شبهت الأشياء المعدة للبروز من كمون العدم ، بالرياح المفرقة للحبوب ونحوها .
{ وَالذَّارِيَاتِ } اسم فاعل ذرا المعتل بمعنى فرّق وبدَّد ما رفعه عن مكانه . ويقال : أذرى أيضاً . وأما ذرَأ المهموز فبمعنى أنشأ وأوجد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً } [ 2 ]
{ فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً } أي : السُّحب الحاملة للأمطار المنبتة للزروع والأشجار لإفادة الحبوب والثمار . كما قال زيد بن عمرو بن نفيل :
~وأسلمتُ نفسي لمن أسْلَمَتْ لهُ المزنُ تحمل عذْباً زُلالا
أو الرياح الحاملة للسحاب ، أو النساء الحوامل ، أو أسباب ذلك .
والوِقر بسكر الواو ، كالحِمل وزناً ومعنى . وقرئ بفتح الواو على أنه مصدر سمي به المحمول .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً } [ 3 - 4 ]
{ فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً } أي : السُّفن الجارية في البحر سهلاً ، أو الرياح الجارية في مهابِّها ، أو الكواكب التي تجري في منازلها . و { يُسْراً } صفة مصدر محذوف ، أو جرياً ذا يُسرٍ .
{ فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً } أي : الملائكة التي تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرهما ، أو ما يعمهم وغيرهم من أسباب القسمة ، أو الرياح يقسمن الأمطار بتصريف الرياح .
تنبيهات :
الأول : ذكرنا أن هذه الأمور الأربعة يجوز أن تكون أموراً متباينة ، وأن تكون أمراً له أربعة اعتبارات . والأول هو المأثور عن علي رضي الله عنه : أن الذاريات هي الرياح ، والحاملات هي السحاب ، والجاريات هي السفن ، والمقسمات هي الملائكة . واختار بعضهم في الجاريات أنها الكواكب ؛ ليكون ذلك ترقياً من الأدنى إلى الأعلى
، فالرياح فوقها السحاب ، والنجوم فوق ذلك ، والملائكة فوق الجميع ، تنزل بأوامر الله الشرعية والكونية .
واستظهر الرازي أن الأقرب أن تكون صفات أربع للرياح ، وأطال في ذلك .
واللفظ متسع بجوهره للكل ، والله أعلم .
الثاني : فائدة الفاء إن قيل : إنها صفات للرياح ، فلبيان ترتيب الأمور في الوجود ؛ فإن الذاريات تنشئ السحاب ، فتقسم الأمطار على الأقطار . وإن قيل : إنها أمور أربعة ، فالفاء للترتيب الذكريّ أو الرتبيّ .
الثالث : ذكر الرازي في الحكمة في القسم وجوهاً :
أحدها : أن الكفار كانوا في بعض الأوقات يعترفون بكون النبي صلى الله عليه وسلم غالباً في إقامة الدليل ، وكانوا ينسبونه إلى المجادلة ، وإلى أنه عارف في نفسه بفساد ما يقوله ، وأنه يغلبنا بقوة الجدل لا بصدق المقال . كما أن بعض الناس إذا أقام عليه الخصم الدليلَ ولم يبقِ له حجة ، يقول : إنه غلبني لعلمه بطريق الجدل ، وعجزي عن ذلك . وهو يعلم في نفسه أن الحق بيدي ، فلا يبقى للمتكلم المبرهن طريق غير اليمين ، فيقول : واللهِ إن الأمر كما أقول ، ولا أجادلك بالباطل . وذلك لأنه لو سلك طريقاً آخر من ذكر دليل آخر ، فإذا تمّ الدليل الآخر يقول الخصم فيه مثل ما قال في الأول ، إن ذلك تقرير بقوة علم الجدل ، فلا يبقى إلا السكوت ، أو التمسك بالإيمان ، وترك إقامة البرهان .
ثانيها : أن العرب كانت تحترز عن الأيمان الكاذبة ، وتعتقد أنها تدع الديارَ بلاقعَ . ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم < أكثر من الأيمان بكل شريف > ، ولم يزده ذلك إلا رفعة وثباتاً . وكان يحصل لهم العلم بأنه لا يحلف بها كاذباً ، وإلا لأصابه شؤم الأيمان ، ولناله المكروه في بعض الأزمان .
ثالثها : أن الأيمان التي أقسم الله تعالى بها كلُّها دلائل أخرجها في صورة الأيمان ، مثاله قول القائل لمنعمه : وحق نعمتِك الكثيرة إني لا أزال أشكرك . فيذكر النعم ، وهي سبب مفيد لدوام الشكر ، ويسلك مسلك كذلك هذه الأشياء كلها دليل على قدرة الله تعالى على الإعادة .
فإن قيل : فلِمَ أخرجها مخرج الأيمان ؟ نقول : لأن المتكلم إذا شرع في أول كلامه بحلف يعلم السامع أنه يريد أن يتكلم بكلام عظيم ، فيصغي إليه أكثر من أن يصغي إليه حيث يعلم أن الكلام ليس بمعتبر ؛ فبدأ بالحلف وأدرج الدليل في صورة اليمين ، حيث أقبل القول على سماعه ، فخرج لهم البرهان المبين والتبيان المتين في صورة اليمين . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ } [ 5 - 6 ]
وقوله تعالى : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ } جواب القسم ، و ما موصولة ومصدرية . والموعود هو قيام الساعة ، وبعث الموتى من قبورهم . و صادق بمعنى صدْق ؛ فوضع الاسم مكان المصدر ، أو هو من باب : { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] .
{ وَإِنَّ الدِّينَ } أي : الجزاء على الأعمال إنْ خيراً فخير ، وإن شرّاً فشر { لَوَاقِعٌ } أي : لحاصل . قال قتادة : وذلك يوم القيامة ، يوم يَدين اللهُ العباد بأعمالهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ * إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } [ 7 - 9 ]
{ وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ } أي : الطرق المختلفة التي هي دوائر سير الكواكب . و { الْحُبُكِ } أصل معناها ما يرى كالطريق في الرمل والماء ، إذا ضربته الريح ، وكذلك حبك الشَّعر : آثار تثنّيه وتكسّره . والحُبُك بضمتين جمع حِباك ، كمثال ومثل وكتاب وكتب ، أو حبيكة كطريقة وطرق . قال زهير يصف غديراً :
~مُكللٌ بأصولِ الَّنجمِ تَنْسِجُهُ ريحٌ خَريقٌ لضاحي مَائهِ حُبُكُ
ويقال : ما أملح حباك هذه الحمامة ! وهو الخط الأسود على جناحها .
وعن الحسن : { ذَاتِ الْحُبُكِ } أي : النجوم قال : حُبِكَت بالخَلْق الحسن : حبكت بالنجوم ؛ وذلك لأنها تزين السماء ، كما يزين الثوب الموشَّى تحبيكه ، فشبهت النجوم بطرائق الوشي مجازاً بالاستعارة .
وقال بعض علماء الفلك : الحبك جمع حبيكة ، بمعنى محبوكة ، أي : مربوطة . فمعنى : { ذَاتِ الْحُبُكِ } ذات المجاميع من الكواكب المربوط بعضها ببعض بحبال من الجاذبية ، فإن كل حبيكة مجموعة من الكواكب المتجاذبة ؛ فالآية الشريفة نصٌّ على تعدد المجاميع وعلى الجاذبية التي يزعم الإفرنج أنهم مكتشفوها ؛ وعليه فهي إحدى معجزات القرآن العلمية . انتهى .
{ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } أي : متخالف متناقض . قال ابن زيد : يتخرَّصون يقولون : هذا سحر ، ويقولون : { إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } [ الأنعام : 25 ]
{ يُؤْفَكُ } أي : يصرف { عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } أي : صرف عن الحق الصريح الصَّرف التام ؛ إذ لا صرف أشد منه .
وقد ذكر القاضي في مناسبة المقسم به للمقسم عليه ، هو تشبيه أقوالهم في اختلافها ، وتنافي أغراضها بالطرائق للسماوات في تباعدها ، واختلاف غاياتها .
ثم أشار أنهم لم يؤفكوا لإتباعهم الدلائل ، بل لأخذهم بالخرص والتخمين ، بقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُتِلَ الْخَرَّاصُون َ *الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ * يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ } [ 10 - 13 ]
{ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ } أي : لُعِن الآخذون بالتخمين ، مع ترك دلائل اليقين .
{ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ } أي : في جهل يَغمرهم عن وجوب اتباع الدلائل القاطعة وترك الشبهات الواهية { سَاهُونَ } أي : غافلون عما أتاهم وعما نزل إليهم ، بالانهماك في اللذات البدنية ، واستئثار الحظوظ العاجلة .
{ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ } أي : متى يوم الجزاء ، ويوم يدين اللهُ العباد بأعمالهم .
{ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ } أي : يحرقون ، وأصل الفتنة إذابة الجوهر ليظهر غشه ، ثم استعمل في التعذيب والإحراق ونحوه .
قال القاضي : جواب للسؤال ، أي : يقع يوم هم على النار يفتنون ، أو هو يوم هم . . . إلخ ، وفتح { يَوْمَ } لإضافته إلى غير متمكن ، ويدل عليه أنه قرئ بالرفع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } [ 14 ]
{ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ } أي : مقولاً لهم : ذوقوا عذابكم الذي طلبتموهُ ، بل الذي استعجلتموهُ قبل وقته ، كما قال :
{ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } أي : حصوله في الدنيا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون ٍ *آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } [ 15 - 19 ]
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ } أي : الذين اتقوا الله بطاعته واجتنابِ معاصيه في الدنيا ، وبتجنب القول بالخَرص والتخمين في الأمور الاعتقادية { فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون ٍ *آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } قال ابن جرير : أي : عاملين ما أمرهم به ربهم ، مؤدين فرائضه . وقال غيرهُ : أي : قابلين لما أعطاهم من النعيم الأخرويّ ، راضين به .
وهذا هو الوجه . ولذا قال ابن كثير : والذي فسر به ابن جرير فيه نظر ؛ لأن قوله تبارك وتعالى { آخِذِينَ } حال من قوله { فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } فالمتقون حال كونهم في الجنات والعيون آخذين ما آتاهم ربُّهم ، أي : من النعيم والسرور والغبطة .
ثم أشار إلى سر استحقاقهم لذلك بقوله :
{ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ } يعني : في الدنيا { مُحْسِنِينَ } أي : قد أحسنوا أعمالهم لغلبة محبة الله على قلوبهم بظهور آثارها في أفعالهم وأقوالهم ، كما بينه بقوله سبحانه :
{ كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } أي : كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً ؛ لتقوى نفوسُهم على عبادته تعالى بنشاط .
روى ابن جرير عن أنس في الآية : أنهم كانوا يصلّون ما بين هاتين الصلاتين ما بين المغرب والعشاء . وعن محمد بن عليّ : كانوا لا ينامون حتى يصلّوا العتمة .
وعن مطرِّف : قلَّ ليلة أتت عليهم إلا صلوا فيها من أولها أو من وسطها .
وعن الحسن قال : لا ينامون من الليل إلا أقله ، كابدوا قيام الليل .
وقرأ الأحنف بن قيس هذه الآية فقال : لست من أهل هذه الآية .
وعن الضحاك : أن الوقف على قوله تعالى :
{ كَانُوا قَلِيلاً } أي : أن المحسنين كانوا قليلاً ، ثم ابتدئ فقيل : { مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } و { مَا } نافية أي : لا يهجعون .
قال ابن كثير : هذا القول فيه بعد وتعسُّف .
لطيفة :
في هذه الجملة الكريمة مبالغات في وصف هؤلاء بقلة النوم وترك الاستراحة ، وذلك ذكر القليل . والليل الذي هو وقت النوم ، والهجوع الذي هو الخفيف من النوم ، وزيادة ما ؛ لأنها تدل على القلة .
وبالجملة ففي الآية استحباب قيام الليل ، وذمُّ نومه كله ، والأحاديث على ذلك كثيرة شهيرة .
{ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } قال القاضي : أي : أنهم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم إذا أسحروا أخذوا في الاستغفار ، كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائمَ .
قال الرازي : في الآية إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون ، ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك وأخلص منه ؛ فيستغفرون من التقصير ، وهذا سيرة الكريم : يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويستقلُّهُ ويعتذر من التقصير ، واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره ويمنّ به . وفيه وجه آخر ألطف منه : وهو أنه تعالى لمَّا بيَّن أنهم يهجعون قليلاً ، والهجوع مقتضى الطبع ، قال :
{ يَسْتَغْفِرُونَ } أي : من ذلك القدر من النوم القليل . وفيه لطيفة أخرى نبينها في جواب سؤال : وهو أنه تعالى مدحهم بقلة الهجوع ولم يمدحهم بكثرة السهر ، وما قال : كانوا كثيراً من الليل ما يسهرون ، فما الحكمة فيه ؟ مع أن السهر هو الكلفة والاجتهاد ، لا الهجوع ؟ نقول : إشارة إلى أن نومهم عبادة ، حيث مدحهم الله تعالى بكونهم هاجعين قليلاً ، وذلك الهجوع أورثهم الاشتغال بعبادة أخرى ، وهو الاستغفار ، في وجوه الأسحار ، ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم والاستكبار .
ثم قال : والاستغفار يحتمل طلب المغفرة بالذكر بقولهم : ربنا اغفر لنا . وطلب المغفرة بالفعل أي : بالأسحار ، يأتون بفعل آخر طلباً للغفران ، وهو الصلاة . والأول أظهر ، والثاني عند المفسرين أشهر . انتهى . ويؤيد الثاني الإشارة إلى الزكاة في الآية بعدها ، والزكاة قرينة الصلاة في كثير من الآيات ، وسرُّ التعبير عن الصلاة بالاستغفار الإشارةُ إلى أنه ركنها المهم في التهجد ، بل وفي غيره ، فيكون من إطلاق الجزء على الكل ، وقد ذكر في أذكار الصلاة الاستغفار في مواضع منها ، كالركوع والسجود بين السجدتين وآخر الصلاة ، كما أخرجه الشيخان وأهل السنن - و < كان صلى الله عليه وسلم يطيل الركوع والسجود والتهجد > لذلك .
لطيفة :
قال الزمخشريّ في " أساس البلاغة " : إنما سمي السَّحر استعارة ؛ لأنه وقت إدبار الليل وإقبال النهار ، فهو متنفس الصبح . انتهى .
{ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } أي : الفقير المتعفف الذي يُظَن غنياً ، فيحرم الصدقة .
قال قتادة : هذان فقيرا أهل الإسلام : سائل يسأل في كفِّه ، وفقير متعفف ، ولكليهما عليك حق يا ابن آدم .
وفي "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم : < ليس المسكين الذي تردُّّهُ اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يُغنيه ، ولا يُفطن له فيتصدق عليه > .
وروى الإمام أحمد عن الحسين بن عليّ رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < للسائل حق وإن جاء على فرس > . ورواه أبو داود وأسنده عن عليّ كرم الله وجههُ .
ويدخل في { الْمَحْرُومِ } كلُّ من لا مال له ، ومَن هلك ماله بآفة ، ومن حرِم الرزق واحتاج ، إلا أن أهم أفراده المتعفِّف ؛ ولذا عوّل عليه الأكثر .
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس : في أموالهم حق سوى الزكاة يَصِلون بها رحماً ، أو يُقرون بها ضيفاً ، أو يَحملون بها كَلاًّ .
ثم أشار تعالى إلى أنه لا حاجة إلى الخرص والتخمين في باب الاعتقادات ؛ لكثرة الآيات الواضحة ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } [ 20 ]
{ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } أي : عِبَر وعِظات لأهل اليقين ، وهم الذين يقودهم النظر إلى ما تطمئن به النفس ويَنثلج له الصدر ، فيرون فيها مما ذرأ من صنوف النبات والحيوانات ، والمهاد والجبال والقفار والأنهار والبحار عِبَراً وآيات عظاماً ، وشواهد ناطقة بقدرة الصانع ووحدانيته ، جلَّ جلالُه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } [ 21 ]
{ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } أي : في حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال ، واختلاف ألسنتها وألوانها ، وما جبلت عليه من القوى والإرادات ، وما بينها من التفاوت في العقول والأفهام ، وما في تراكيب أعضائها من الحكم في وضع كل عضو منها في المحل المفتقر إليه ، إلى غير ذلك مما لا يحصيه قلم كاتب ، ولا لسان بليغ .
أنشد الحافظ ابن أبي الدنيا في كتابه " التفكير والاعتبار " لشيخه أبي جعفر القرشيّ :
~وإذا نظرتَ تريدُ معتَبَراً فانظر إليك ففيك معتبرُ
~أنت الذي تُمسي وتُصبِحُ في الـ دنيا وكلُُّ أموره عِبَرُ
~أنت المصرَّف كان في صغر ثم استقلّ بشخصك الكبَرُ
~أنت الذي تنعاهُ خلقتهُ ينعاهُ منهُ الشَّعرُ والبَشَرُ
~أنت الذي تعطَى وتسلَب لا ينجيه من أن يُسلَب الحَذَرُ
~أنت الذي لا شيء منهُ له وأحقُّ منه بما له القَدَرُ(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [ 22 ]
{ وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } يعني بـ { السَّمَاء } المزن ، وبالرزق المطر ، فإنه سبب الأقوات . والمراد بـ { مَا تُوعَدُونَ } العذاب السماويّ ؛ لأن مؤاخذات المكذبين الأولين كانت من جهتها ، والخطاب لمشركي مكة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [ 23 ]
{ فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ } أي : الذي خلقهما للاستدلال بهما على حقيقة ما أخبر { إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } أي : مثل نطقكم ، والضمير في { إِنَّهُ } عائد لِما ذكر من أمر الآيات والرزق ، أو أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، أو إلى { مَا تُوعَدُونَ } ، ويؤيد الأخير ما تأثره من أنباء وعيد المكذبين ، وبدأ منها بنبأ قوم لوط ، لأن قراهم واقعة في ممرهم إلى فلسطين
للاتجار ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ } [ 24 - 30 ]
{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ } يعني : الملائكة الذين دخلوا عليه في صورة ضيف . قال الزمخشريّ : فيه تفخيم للحديث ، وتنبيه على أنه ليس من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما عرفه بالوحي . وإكرامهم أن إبراهيم خدمهم بنفسه ، وأخدمهم امرأته ، وعجَّل لهم القِرى ، أو أنهم في أنفسهم مكرمون .
{ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ } أي : سلام عليكم { قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } أي : أنتم قوم لا أعرفكم . وهو كالسؤال منه عن أحوالهم ليعرفهم ؛ فإن قولك لمن لقيتهُ : أنا لا أعرفك ! في قوة قولك : عرِّف لي نفسك وصِفْها .
{ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ } أي : ذهب إليهم خفية من ضيوفه . ومن أدب المضيف أن يخفي أمرهُ ، وأن يبادر بالقِرى من غير أن يشعر به الضيف ؛ حذراً من أن يكفّه ويعذرهُ ، قاله الزمخشريّ ، وأيده الناصر بما حكى عن أبي عبيد : أنه لا يقال : راغ ، إلا إذا ذهب على خفية ، وأنه يقال : روَّغ اللقمة إذا غمسها فرويت سمناً ، قال الناصر : وهو من هذا المعنى ؛ لأنها تذهب مغموسة في السمن حتى تخفى . ومن مقلوباته : غور الأرض والجرح ، وسائر مقلوباته قريبة من هذا المعنى . انتهى .
{ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ } أي : قد أنضجه شيّاً .
{ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ } أي : بأن وضعهُ بين أيديهم { قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ } أي : منه . قال القاضي : وهو مشعر بكونه حَنيذاً . والهمزة فيه للعرض ، والحثّ على الأكل على طريقة الأدب إن قاله أول ما وضعه ، وللإنكار إن قاله حينما رأى إعراضهم .
{ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } أي : أضمرها لظنِّه أنهم أرادوا به سوءاً { قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ } أي : يبلغ ويكمل علمه .
{ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ } أي : صيحة { فَصَكَّتْ } أي : لطمت { وَجْهِهَا } أي : تعجباً على عادة النساء في كل غريب عندهن { وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } أي : عاقر ليس لي ولد .
{ قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ } أي : مثل الذي قلنا وأخبرنا به قال ربك ، فإنما نخبرك عن الله ؛ فاقبلي قوله ، ولا تتوهمي عليه خلاف الحكمة ولا الجهل بعدم قبولك للولادة { إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ }(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } [ 31 - 37 ]
{ قَالُ } أي : إبراهيم لضيفه { فَمَا خَطْبُكُمْ } أي : أمركم وشأنكم { أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } أي : مؤاخذتهم ؛ { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ } أي : رجماً على فعلهم الفاحشة .
{ مُسَوَّمَةِ } أي : مرسلة ، أو معلّمة { عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ } أي : المتعدّين حدود الله ، الكافرين به .
{ فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا } أي : في تلك القرية { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : بإيحاء الخروج إليهم على لسان الملائكة ، وهم لوط وابنتاه عليهم السلام .
{ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ } يعني بيت قوم لوط عليه السلام .
{ وَتَرَكْنَا فِيهَا } أي : في تلك القرية { آيَةٍ } أي : علامة تدل على إهلاكهم الدنيويّ الدال على الأخرويّ { لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } أي : في الآخرة ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ } [ 38 - 40 ]
{ وَفِي مُوسَى } عطف على { فِيهَا } بإعادة الجار ؛ لأن المعطوف عليه ضمير مجرور ، أي : وتركنا في قصة موسى بإهلاك أعدائه آيةً وحجّةً تبين لمن رآها حقيقة دعواه .
{ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } أي : ببرهان ظاهر .
{ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ } أي : فأعرض عن الإيمان . والركن : جانب الشيء . فرُكنه جانب بدنه ، فالتولي به كناية عن الإعراض . والباء للتعدية ، لأن معناه ثنى عِطفَه ، أو للملابسة ، أو الركن فيه بمعنى الجيش ؛ لأنه يركن إليه ويتقوى به ، والباء للمصاحبة أو للملابسة .
{ وَقَالَ سَاحِرٌ } أي : هو ساحر .
{ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ } أي : فأغرقناهم في البحر { وَهُوَ مُلِيمٌ } أي : آت بما يلام عليه من الكفر والعناد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } [ 41 - 42 ]
{ وَفِي عَادٍ } أي : وتركنا في عاد - قومِ هود عليه السلام- آية { إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ } أي : التي لا خير فيها من إنشاء المطر ، أو إلقاح الشجر . وهي ريح الهلاك .
{ مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } أي : الشيء الهالك . وأصل الرميم : البالي المفتت من عَظم أو نبات أو غير ذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ } [ 43 - 45 ]
{ وَفِي ثَمُودَ } أي : وتركنا في ثمود قومِ صالح عليه السلام { إِذْ قِيلَ لَهُمُ } أي : بعد عَقرهم الناقة { تَمَتَّعُوْا } أي : في داركم { حَتَّى حِينٍ } يعني : ثلاثة أيام ، كما بينته الآية الأخرى .
{ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ } أي : فاستكبروا عن امتثاله { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ } يعني العذاب الحالّ بهم ، المعهود { وَهُمْ يَنظُرُونَ } أي : إليها ، فإنها نزلت بهم نهاراً .
{ فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ } أي : نهوض ، فضلاً عن دفاع عذاب الله { وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ } أي : ممتنعين من العذاب ، وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ } [ 46 ]
{ وَقَوْمَ نُوحٍ } قرئ بالجر عطفاً على { وَفِي ثَمُودَ } أو المجروراتِ قبل . وبالنصب مفعولاً لمضمر دل عليه السياق والسباق ، أي : وأهلكنا قوم نوح ، أو عطفاً على مفعول { فَأَخَذْنَاهُ } أو على محل { وَفِي مُوسَى } { مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ } أي : مخالفين أمر الله ، خارجين عن طاعته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ } [ 47 - 48 ]
{ وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } أي : رفعناها بقوة { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } أي : لقادرون على الإيساع ، كما أوسعنا بناءها .
{ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا } أي : مهدناها ليتمتعوا بها { فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ } أي : لهم . وفي إيثار صيغة فاعل من : مهد على فرش ، إشارة إلى أن من المواد ما تختلف صيغته في النظم فعلاً واسماً ، فيكون في أحدهما أرقَّ وألطف وأفصح ، فيؤثر على غيره في ظرف ، ويؤثر عليه غيره في آخر ، والمرجع الذوق ، كما بسطه ابن خلدون وابن الأثير .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ 49 ]
{ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } أي : ذكراً وأنثى ، أو نوعين متقابلين .
قال ابن كثير : جميع المخلوقات أزواج : سماء وأرض ، ليل ونهار ، شمس وقمر ، وبر وبحر ، وضياء وظلام ، وإيمان وكفر ، وحياة وموت ، وشقاء وسعادة ، وجنة ونار . حتى الحيوانات والنباتات . انتهى . وهو مأخوذ من كلام ابن جرير في تأييد تفسير مجاهد ، وعبارة ابن جرير :
وأولى القولين في ذلك قول مجاهد : وهو أن الله تبارك وتعالى خلق لكل ما خلق من خلقه ثانياً له مخالفاً في معناه ، فكل واحد منهما زوج للآخر ، ولذلك قيل : خَلقَنَا زوجين ، وإنما نبَّه جلّ ثناؤه بذلك من قوله { خَلْقِهِ } على قدرته على خلق ما يشاء ، وأنه ليس كالأشياء التي شأنها فعل نوع واحد دون خلافه ، إذ كل ما صفته فعل نوع واحد دون ما عداهُ ، كالنار التي شأنها التسخين ولا تصلح للتبريد ، وكالثلج الذي شأنه التبريد ولا يصلح للتسخين ، فلا يجوز أن يوصف بالكمال ، وإنما كمال المدح للقادر على فعل كل ما شاء فعله من الأشياء المختلفة والمتفقة . انتهى .
{ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } قال ابن جرير : أي : لتَذَكّروا وتعتبروا بذلك ، فتعلموا أيها المشركون بالله أنَّ ربكم الذي يستوجب عليكم العبادة هو الذي يقدر على خلق الشيء وخلافه ، وابتداع زوجين من كل شيء ، لا ما لا يقدر على ذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [ 50 ]
{ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ } أي : فِرّوا من عقابه إلى رحمته بالإيمان به واتباع أمره والعمل بطاعته . قال الشهاب : الأمر بالفرار من العقاب ، المراد به الأمر بالإيمان والطاعة ، لأنه لأمنه من العقاب بالطاعة كأنه فرَّ لمأمنه ، فهو استعارة تمثيلية .
{ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي : أنذركم عقابه وأخوِّفكم عذابه الذي أحلّه بهؤلاء الأمم الذين قصَّ عليكم قَصصهم ، والذي هو مذيقهم في الآخرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [ 51 ]
{ وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي : قد أبان النذارة ، قال أبو السعود : وفيه تأكيد لما قبله من الأمر بالفرار من العقاب إليه تعالى ، لكن لا بطريق التكرير - كما قيل - بل بالنهي عن سببه ، وإيجاب الفرار منه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ } [ 52- 54 ]
{ كَذَلِكَ } أي : كما ذكر من تكذيبهم الرسول وتسميتهم له ساحراً أو مجنوناً { مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } يعني تقليداً لآبائهم واقتداء ً لآثارهم ، فمورد جهالتهم مؤتلف ، ومشروع تعنتهم متحد .
وقوله تعالى : { أَتَوَاصَوْا بِهِ } إنكار وتعجيب من حالهم وإجماعهم على تلك الكلمة الشنيعة التي لا تكاد تخطر ببال أحد من العقلاء ، فضلاً عن التفوه بها ، أي : أأوصى بهذا القول بعضُهم بعضاً حتى اتفقوا عليه .
وقوله تعالى : { بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } إضراب عن كون مدار اتفاقهم على الشر تواصيهم بذلك ، وإثبات لكونه أمراً أقبح من التواصي وأشنع منه من الطغيان الشامل للكل ، الدالّ على أن صدور تلك الكلمة الشنيعة من كل واحد منهم ، بمقتضى جِبلَّته الخبيثة ، لا بموجب وصية من قبلهم بذلك ، أفاده أبو السعود .
{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } أي : أعرِض عن مقابلتهم بالأسوأ كقوله تعالى :
{ وَدَعْ أَذَاهُمْ } [ الأحزاب : 48 ] ، وقولِه :
{ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً } [ المزمل : 10 ] ، { فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ } أي : في إعراضهم ، إذ لست عليهم بجبار ولا مسيطر ، وما عليك من حسابهم من شيء .
تنبيه :
قول بعض المفسرين هنا- { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } : أي : فأعرض عن مجادلتهم ، بعد ما كررت عليهم الدعوة - بعيد عن المعنى بمراحل ؛ لأن مجادلتهم مما كان مأموراً بها على المدى ، لأنها العامل الأكبر لإظهار الحق ، كما قال تعالى :
{ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً } [ الفرقان : 52 ] .
وكذا قول البعض في قوله تعالى : { فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ } : أي : في إعراضك بعد ما بلغت ، فإنه منافٍ للأمر بالذكرى بعد . فالصواب ما ذكرناه في تفسير الآية ، لأنه المحاكي لنظائرها . وأعقد التفاسير ما كان بالأشباه والنظائر - كما قيل - وخير ما فسرته بالوارد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } [ 55 ]
{ وَذَكِّرْ } أي : عِظهم { فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } أي : من قدر الله إيمانه ، أو الذين آمنوا فإنهم المقصودون من الخلق ، لا من سواهم ؛ إذ هم العابدون .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ 56 ]
{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } أي : لهذه الحكمة ، وهي عبادته تعالى بما أمر على لسان رسوله ؛ إذ لا يتمُّ صلاح ولا تنال سعادة في الدارين إلا بها . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [ 57 - 58 ]
{ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } بيان لعظمته عزّ وجلّ ، وأن شأنه مع عبيده لا يقاس به شأن عبيد الخلق معهم ، فإن عبيدهم مطلوبون بالخدمة والتكسب للسادة ، وبواسطة كاسب عبيدهم ، قدّر أرزاقهم والله تعالى لا يطلب من عباده رزقاً ولا إطعاماً ، بل هو الذي يرزقهم ، وإنما يطلب منهم عبادته ليصرفوا ما أنعم به عليهم إلى ما خلقوا لأجله .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ } [ 59 ]
{ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا } أي : ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد بتكذيب الرسول والإصرار على الشرك والبغي والفساد ، { ذَنُوباً } أي : نصيباً وافراً من العذاب { مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ } أي : مثل أنصباء نظرائهم من الأمم المحكية . وأصل الذنوب الدلو العظيمة الممتلئة ماءً ، أو القريبة من الامتلاء . وهي تذّكر وتؤنث ، فاستعيرت للنصيب مطلقاً ، شراً كالنصيب من العذاب في الآية ، أو خيراً كما في العطاء في قول عمرو بن شاس :
~وفي كل حيٍّ قد خبطتَ بنعمة فحُقَّ لشَأْسٍ من نَدَاكَ ذَنُوب
وهو مأخوذ من مقاسمة السقاة الماء بالذنوب ، فيعطى لهذا ذنوب ، ولآخر مثله .
{ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ } أي : لا يطلبوا مني أن أعجل به قبل أجله ، فإنه لا بد آتيهم ، ولكن في حينه المؤخر لحكمة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ } [ 60 ]
{ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ } أي : أوعدوا فيه نزول العذاب بهم ، ماذا يلقون فيه من البلاء والجهد . و اليوم إما يوم القيامة ، أو يوم بدر .
قال أبو السعود : والأول هو الأنسب بما في صدر السورة الكريمة الآتية .
والثاني هو الأوفق لما قبله ، من حيث إنهما من العذاب الدنيوّي ، والله أعلم .(/)
سورة الطور
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ } [ 1 - 6 ].
{ وَالطُّورِ } أي : طور سِينين : جبل بِمَدْيَنَ ، سمع فيه موسى صلوات الله عليه كلامَ الله تعالى ، واندك بنور تجلِّيه تعالى .
{ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ } أي : مكتوب ، والمراد به القرآن ، أو ما يعمّ الكتب المنزلة .
{ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ } متعلق بـ : { مَّسْطُورٍ } أي : وكتاب سطّر في ورق منشور يُقرأ على الناس جهاراً ، و الرَّق الصحيفة أو الجلد الذي يكتب فيه .
{ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ } أي : الذي يُعْمَر بكثرة غاشيته ، وهو الكعبة المعمورة بالحجاج والعمّار والطائفين والعاكفين والمجاورين . وروي أنه بيت في السماء بحيال الكعبة من الأرض ، يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون فيه أبداً . والأول أظهر ، لأنه يناسب ما جاء في سورة التين من عطف { الْبَلَدِ الْأَمِينِ } على { طُورِ سِينِينَ } والقرآن يفسر بعضه بعضاً ؛ لتشابه آياته وتماثلها كثيراً ، وإن تنوعت بلاغة الأسلوب .
قال المهايميّ : أورده بعد الكتاب الذي هو الوحي ؛ لأنه محل أعظم الأعمال المقصودة منه ، ولأنه مظهر الوحي ومصدر الرحمة العامة المهداة للعالمين ؛ ولأنه أجلّ الآيات وأكبرها ، كما دل عليه آية { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] وآيات أخَر .
{ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ } يعني السماء ؛ وجعلها سقفاً لأنها للأرض كسماء البيت الذي هو سقفه .
{ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ } أي : المملوء ، أو الذي يوقد أي : يصير ناراً . كقوله { وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ } [ التكوير : 6 ] . قال ابن جرير : والأول أولى ، أعني : أن معناه البحر المملوء المجموع ماؤه بعضه في بعض ؛ لأن الأغلب معاني السّجر الإيقاد أو الامتلاء ، فإذا كان البحر غير موقد اليوم ، ثبتت له الصفة الثانية وهو الامتلاء ، لأنه كل وقت ممتلئ ، ولا تنس ما قدمناه في أوائل الذاريات من أن هذه الأقسام كلها دلائل أخرجت في صورة الإيمان .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ * يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا * فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين َ *الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ * يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُون َ *اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ 7 - 16 ]
{ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ } أي : يدفعه عن المكذبين فينقذهم منه إذا وقع .
{ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْراً } أي : تضطرب
{ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً } أي : تسير عن وجه الأرض فتصير هباءً منثوراً .
{ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } أي : بالحق الجاحدين له .
{ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ } أي : من الاعتساف والاستهزاء { يَلْعَبُونَ } أي : بآيات الله ودلائله .
{ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً } أي : يُدفعون إليها بعنف . يقال : دعَعْت في قفاه ، إذا دفعته فيه بإزعاج .
{ هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } أي : يقال لهم ذلك .
{ أَفَسِحْرٌ هَذَا } أي : الذي وردتموه الآن ، والفاء للسببية ؛ لتسبب هذا عما قالوه في الوحي { أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ } أي : كما كنتم لا تبصرون في الدنيا . قال الزمخشريّ : يعني أم أنتم عمي عن المخبَر به ، كما كنتم عمياً عن الخبر ، وهذا تقريع وتهكم .
{ اصْلَوْهَا } أي : ذوقوا حرّ هذه النار { فَاصْبِرُواْ } أي : على ألمها { أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ } أي : الأمران : الصبر وعدمه سواء عليكم { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : لا تعاقبون إلا على معصيتكم في الدنيا لربكم ، وكفركم به .
قال الزمخشريّ : فإن قلت : لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ } إلخ ؟ قلت : لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزَع ، لنفعه في العاقبة بأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير . فأما الصبر على العذاب الذي هو الجزاء ، ولا عاقبة له ولا منفعة ، فلا مزية له على الجزع .(/)
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } [ 17 - 20 ]
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } أي : متلذِّذين بما لديهم من الفواكه الكثيرة { وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } جمع عيناء وهي الواسعة العين ، في حسن .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } [ 21 ]
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ } أي : اقتفت آثارهم في الإيمان والعمل الصالح { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } أي : في الجنات والنعيم ، والخطاب ، لما كان مع الصحابة رضي الله عنهم ، وهم واثقون بوعد الله ، تمم لهم البشارة بالموعود به ، بأنه ينال ذريتهم أيضاً ، إن اتبعوا آباءهم بإحسان ، هذا هو المراد من الآية . وأما من قال في معناها : إن المؤمن ترفع له ذريته فيلحقون به ، إن كانوا دونه في العمل ، فلا تقتضيه الآية تصريحاً ولا تلويحاً { وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } أي : وما نقصناهم من ثواب عملهم شيئاً { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } أي : بما عمل من خير أو شر مرتهن به ، لا يؤاخَذ أحدٌ بذنب غيره ، وإنما يعاقب بذنب نفسه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } [ 22 - 24 ]
{ وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } أي : زدناهم وقتاً بعد وقت ، ما ذكر .
{ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً } أي : يتعاطون فيها كأس الشراب ويتجاذبونها { لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ } أي : لا يتكلَّمون في أثناء الشرب بسقط الحديث وباطله ، ولا يفعلون ما يؤثم به فاعله ، كما كان في الدنيا .
{ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } أي : مصون في كِنّ ، فهو أنقى له ، وأصفى لبياضه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } [ 25 - 28 ]
{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } أي : يتجاذبون أطراف الحديث المفضية إلى شكر المنعم ، والتحدث بالنعمة ، وذلك في مساءلة بعضهم بعضاً عما مضى لهم في الدنيا .
{ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } أي : خائفين من عذاب الله .
{ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ } يعني : عذاب النار . وأصل { السَّمُومِ } الريح الحارة التي تدخل المسامّ ؛ فسميت بها نار جهنم لمشابهتها لها ، وإن كان وجه الشبه في النار أقوى ، لكنه في ريح السموم لمشاهدته في الدنيا أعرف .
{ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ } أي : نعبده مخلصين له الدين { إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ } أي : المحسن بمن دعاه { الرَّحِيمِ } أي : لمن عبده وخافه بالهداية والتوفيق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ } [ 29 ]
{ فَذَكِّرْ } أي : من أرسلت إليهم وعِظهم { فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ } أي : تتكهن فيما تدعوا إليه { وَلَا مَجْنُونٍ } أي : له رئيٌّ من الجن يخبر عنه قومه ما أخبر عنه ، كما يعتقده العرب في بعضهم ، ولكنك رسول الله حقاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ } [ 30 - 31 ]
{ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ } أي : حوادثَ الدهر أو الموت ؛ لأن { الْمَنُونِ } قد يراد به الدهر ، وريبه : صروفه . وقد يراد به الموت ، وريبه نزوله .
{ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ } أي : حتى يأتي أمر الله فيكم . والأمر للتهكم بهم والتهديد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ } [ 32 - 34 ]
{ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا } أي : عقولهم بهذا التناقض في القول ، { أَمْ } أي : بل { هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } أي : مجاوزون الحدَّ في العناد ، مع ظهور الحق .
{ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ } أي : اختلق هذا القرآن من عند نفسه ، { بَل لَّا يُؤْمِنُونَ } أي : لا يريدون أن يؤمنوا حسداً وتقليداً ، فلذلك يرمونه بتلك الفِرى .
{ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ } أي : في الهداية بذاك الأسلوب الذي ملك ناصية الفصاحة والبلاغة ، كقوله { قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ } [ القصص : 49 ] ، { إِن كَانُوا صَادِقِينَ } أي : في زعمهم ، فإنهم من أهل لسان الرسول صلوات الله عليه ، ولا يتعذر عليهم مضاهاة بعضهم لبعض في ميدان التساجل والتراسل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ * أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ * أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ * أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ 35 - 43 ]
{ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ } قال ابن جرير : أي : أخلق هؤلاء المشركون من غير آباء ولا أمهات ، فهم كالجماد لا يعقلون ولا يفهمون لله حُجَّة ، ولا يعتبرون له بعبرة ولا يتعظون بموعظة . وقد قيل : إن معنى ذلك : أم خلقوا لغير شيء ، كقول القائل : فعلت كذا وكذا من غير شيء ، بمعنى : لغير شيء { أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } أي : أنفسهم ، أو هذا الخلق ، فهم لذلك لا يأتمرون لأمر الله ، ولا ينتهون عما نهاهم عنه ؛ لأن للخالق الأمر والنهي .
{ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ } أي : بوعيد الله ، وما أعدّ لأهل الكفر به من العذاب في الآخرة ، فلذلك فعلوا ما فعلوا .
{ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ } أي : خزائن رزقه ، فهم لاستغنائهم معرضون { أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ } أي : الجبابرة المتسلِّطون .
{ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ } أي : مرتقى إلى السماء { يَسْتَمِعُونَ فِيهِ } أي : الوحي ، فيدَّعون أنهم سمعوا هنالك من الله أن الذي هم عليه حق .
{ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } أي : بحجَّة واضحة تصدق دعواه .
{ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ } أي : حيث جعلوا - لسفاهة رأيهم - الملائكةَ إناثاً ، وأنها بناته تعالى ، مع أنه { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } [ النحل : 58 ] .
{ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً } أي : أجرة على إبلاغك إياهم رسالة الله تعالى { فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ } أي : من التزام غرامة { مُّثْقَلُونَ } أي : من أدائه ، حتى زهّدهم ذلك في إتباعك .
{ أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } أي : منه ما شاؤوا ، وينبئون الناس عنه بما أرادوا .
{ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً } أي : بالرسول وما جاء به { فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ } أي : الممكور بهم دونك ، فثق بالله وامض لِما أمرك به .
{ أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ } أي : له العبادة على جميع خلقه { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : تنزيهاً له عن شركهم ، وعبادتهم معه غيره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن يَرَوْا كِسْفاً مِّنَ السَّمَاء سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } [ 44 ]
{ وَإِن يَرَوْا كِسْفاً مِّنَ السَّمَاء سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } هذا جواب لمشركي قريش الذين كانوا يستعجلون العذاب ، ويقترحون الآيات كقولهم :
{ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً } إلى قوله { أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً } [ الإسراء : 90 - 92 ] .
قال الزمخشريّ : يريد أنهم لشدة طغيانهم وعنادهم ، لو أسقطناه عليهم لقالوا : هذا سحاب مركوم بعضه فوق بعض ، يمطرنا ، ولم يصدقوا أنه كسف ساقط للعذاب .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ } [ 45- 46 ]
{ فَذَرْهُمْ } أي : يخوضوا ويلعبوا ، ويلهِهم الأمل ، { حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ } أي : يموتون .
{ يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } أي : لا يدفع عنهم مكرُهم من عذاب الله شيئاً { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [ 47 ]
{ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ } أي : دون يوم القيامة ، وهو إما عذاب القبر, أو القحط ، أو النوازل التي تذهب بأموالهم وأنفسهم - أقوال للسلف - واللفظ صادق بالجميع { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي : سنة الله في أمثالهم من الفجرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } [ 48 ]
{ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } أي : الذي حكم به عليك ، وامض لأمره ونهيه ، وبلِّغ رسالاته .
{ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } قال ابن جرير : أي : بمرأى منا ، نراك ونرى عملك ، ونحن نَحُوطك ونحفظك ، فلا يصل إليك من أرادك بسوء من المشركين .
وقال الشهاب : يعني أن العين ، لما كان بها من الحفظ والحراسة استعيرت لذلك ، وللحافظ نفسه ، كما تسمى الربيئة عيناً ، وهو استعمال فصيح مشهور . ونكتة جمع العين هنا وإفرادها في قصة الكليم ، عدا عن أنه جمع هنا لما أضيف لضمير الجمع ، ووحد ثمة لإضافته لضمير الواحد ، هو المبالغة في الحفظ ، حتى كأن معه جماعة حفظة له بأعينهم ؛ لأن المقصود تصبير حبيبه على المكايد ومشاقّ التكاليف والطاعة ؛ فناسب الجمع ، لأنها أفعال كثيرة ، يحتاج كل منهما إلى حارس بل حراس . بخلاف ما ذكر هناك من كلاءة موسى عليه السلام { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } أي : من منامك .
وروى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < من تعارَّ من الليل فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . ثم قال : رب اغفر لي - أو قال : ثم دعا - استجيب له ، فإن عزم فتوضأ ثم صلى ، قبلت صلاته > . وأخرجه البخاري في صحيحه وأهل السُّنن .
وورد من أذكار الاستيقاظ من النوم قول : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله القدوس . و : لا إله إلا أنت ، سبحانك اللهم أستغفر لذنبي ، وأسألك رحمتك ، اللهم زدني علماً ، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني ، وهبْ لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب .
وقيل : حين تقوم إلى الصلاة ، روى مسلم في صحيحه عن عمر ، أنه كان يقول في : ابتداء الصلاة : سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك ، و رواه أحمد وأهل السنن عن أبي سعيد وغيره ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه كان < يقول ذلك > . وعن مجاهد : حين تقوم من كل مجلس . وكذا قال عطاء وأبو الأحوص .
روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : < من جلس في مجلس ، فكثُر فيه لغطُه ، فقال قبل أن يقوم من مجلسه : سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك > . فقال رجل : يا رسول الله ! إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى ؟ ! قال : < كفارة لما يكون في المجلس > !
وقد أفرد الحافظ ابن كثير لهذا الحديث جزءاً على حِدة ، ذكر فيه طرقه وألفاظه وعلّله ، فرحمه الله .
ولا يخفى أن لفظ الآية يصدق بالمواضع المذكورة كلها ، وتدلُّ الأحاديث المذكورة على الأخذ بعمومها ؛ فإن السنة بيان للكتاب الكريم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } [ 49 ]
{ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ } أي : اذكره واعبده بالتلاوة والصلاة بالليل ، كما قال تعالى :
{ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } [ الإسراء : 79 ] .
وقد روي في أذكار الليل من التسابيح ما هو معروف في كتب الحديث . وقد جمعت ذلك معرىّ عن أسانيدها في كتابي " الأوراد المأثورة " .
{ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } أي : وسبحه وقت إدبارها ، وذلك بميلها إلى الغروب عن الأفق ، بانتشار ضوء الصبح ، وقد عنى ذلك إما فريضة الفجر أو نافلته ، أو ما يشملها . قال قتادة : كنا نحدَّث أنهما الركعتان عند طلوع الفجر . وقد ثبت في" الصحيحين " عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : < لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل ، أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر > . وفي لفظ مسلم : < ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها > .
قال الزمخشريّ : وقرئ : وأدبار بالفتح ، بمعنى في أعقاب النجوم وآثارها إذا غربت .
تنبيه :
قال في " الإكليل " عن الكرمانيّ : إن بعض الفقهاء استدل به على أن الإسفار بصلاة الصبح أفضل لأن النجوم لا إدبار لها ، وإنما ذلك بالاستتار عن العيون . انتهى .
وهو استدلال متين .(/)
سورة النجم
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } [ 1- 2 ]
{ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } أي : إذا غرب وغاب عن الأبصار ، أو انتثر يوم القيامة ، أو انقضّ .
{ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم . والخطاب لقريش ، أي : ما حاد عن الحق ، ولا زال عنه .
{ وَمَا غَوَى } أي : ما صار غويّاً ، ولكنه على استقامة وسداد ورشد وهدى . وفيه تعريض بأنهم أهل الضلال والغَيِّ . وذكره صلى الله عليه وسلم بعنوان { صَاحِبُكُمْ } للإعلام بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة ، وإحاطتهم بمحاسن شؤونه المنيفة ؛ فهو تبكيت لهم على وجه أبلغ من أن يصرح باسمه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [ 3 - 4 ]
{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى } أي : وما ينطق بهذا القرآن عن هواه ورأيه . وفيه تعريض بهم أيضاً { إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } أي : ما هذا القرآن إلا وحي من الله يوحيه إليه . وجملة { إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } صفة مؤكدة لـ { وَحْيٌ } رافعة لاحتمال المجاز ، مفيدة للاستمرار التجدديّ .
والضمير للقرآن ، لفهمه من السياق ، ولأن كلام المنكرين كان في شأنه . وأرجعه بعضهم إلى ما ينطق به مطلقاً . واستدل على أن السنن القولية من الوحي ، وقوّاه بما في " مراسيل أبي داود" عن حسان بن عطية قال : كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة ، كما ينزل عليه بالقرآن ، ويعلمه إياها ، كما يعلمه القرآن ، واستدل أيضاً على منع الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم . والصواب هو الأول ، أعني : كون مرجع الضمير للقرآن ، لما ذكرنا ، فإنه ردّ لقولهم { افْتَرَاهُ } [ يونس : 38 ] والقرينة من أكبر المخصصات . وجليّ أنه صلى الله عليه ، كثيراً ما يقول بالرأي في أمور الحرب ، وأمور أخرى ؛ فلا بد من التخصيص قطعا ، وبأنه لا قوة في المراسيل ، لما تقرر في الأصول . وبأن الآية لا تدل على منع الاجتهاد المذكور ، ولو أعيد الضمير لما ينطق مطلقاً ؛ لأن الله تعالى إذا سوغ له الاجتهاد ، كان الاجتهاد وما يستند إليه كله وحياً ، لا نطقاً عن الهوى ؛ لأنه بمنزلة أن يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : متى ما ظننت كذا فهو حكمي ، أي : كل ما ألقيته في قلبك فهو مرادي ، فيكون وحياً حقيقة ، لاندراجه تحت الإذن المذكور ، لأنه من أفراده . فما قيل عليه من أن الوحي الكلام الخفيّ المدرك بسرعة ، فلا يندرج فيه الحكم الاجتهاديّ إلا بعموم المجاز ، مع أنه يأباه قوله :
{ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } [ االنجم : 5 ] غير وارد عليه ، بعدما عرفت من تقريره - نقله في " العناية " عن "الكشف " وتفصيل المسألة في مطولات الأصول .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } [ 5 ]
{ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } أي : علم محمد صلى الله عليه وسلم ملَكٌ شديد قواه ، يعني جبريل عليه السلام . كما قال :
{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } [ التكوير : 19 - 20 ] ، و { الْقُوَى } جمع قوة ، بضم القاف . ومن العرب من يكسرها كالرِّشا بكسر الراء في جمع رشوة بضمها والحِبا في جمع حُبوة ، نقله ابن جرير .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى } [ 6 - 7 ]
{ ذُو مِرَّةٍ } بكسر الميم ، أي : متابة وإحكام في علمه ، لا يمكن تغيّره ونسيانه . والعرب تقول لكل قويّ العقل والرأي :
{ ذُو مِرَّةٍ } من أمررت الحبل ، إذا أحكمت فتله .
{ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى } قال الزمخشريّ : فاستقام على صورة نفسه الحقيقة ، دون الصورة التي كان يتمثل بها ، كلما هبط بالوحي . وكان ينزل في صورة دحية . فالفاء - كما قال شراحه - سببية ، لأن تشكله يتسبب عن قوته وقدرته على الخوارق . أو عاطفة على { عَلَّمَهُ } أي : علمه على غير صورته الأصلية ، ثم استوى على صورته الأصلية .
وقيل : استوى بمعنى استولى بقوته على ما أمر بمباشرته من الأمور ، حكاه القاضي .
قال الشهاب : الأفق الناحية ، وجمعه آفاق . والمراد الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر ، لا مصطلح أهل الهيئة . انتهى .
وقال ابن كثير : وقوله تعالى :
{ فَاسْتَوَى } يعني جبريل عليه السلام ، قاله الحسن ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس { وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى } يعني جبريل استوى في الأفق الأعلى ، قاله عكرمة وغير واحد .
ثم قال ابن كثير : وقد قال ابن جرير هاهنا قولاً لم أره لغيره ، ولا حكاه هو عن أحد ، وحاصله أنه ذهب إلى أن المعنى فاستوى ، أي : هذا الشديد القوي وصاحبكم محمد صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى ، أي : استويا جميعاً بالأفق الأعلى ، وذلك ليلة الإسراء ، كذا قال ، ولم يوافقه أحد على ذلك ، ثم شرع يوجه ما قاله من حيث العربية وهو كقوله :
{ أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا } [ النمل : 67 ] ، فعطف بالآباء على المكنيّ في { كُنَّا } من غير إظهار نحن ، فكذلك قوله :
{ فَاسْتَوَى وَهُوَ } قال : وذكر الفراء عن بعض العرب أنه أنشده :
~ألَم تَر أن النَّبْعَ يَصْلُبُ عُودُهُ ولا يستوي والخِرْوعُ الْمُتَقَصِّفُ
وهذا الذي قاله من جهة العربية متجه ، ولكن لا يساعده المعنى على ذلك ، فإن هذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء ، بل قبلها ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض ، فهبط عليه جبريل عليه السلام ، وتدلى إليه ، فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها ، له ستمائة جناح ، ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ، يعني ليلة الإسراء ، وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة ، بعد ما جاءه جبريل عليه السلام أول مرة ، فأوحى الله إليه صدر سورة اقرأ ، ثم فترة الوحي فترة < ذهب النبي صلى الله عليه وسلم فيها مراراًً ليتردى من رؤوس الجبال > ، فكلما همَّ بذلك ناداه جبريل من الهواء : يا محمد ! أنت رسول الله حقا ، وأنا جبريل ، فيسكن لذلك جأشه ، وتقر عينه . وكلما طال عليه الأمر ، عاد لمثلها حتى تبدى له جبريل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح في صورته التي خلقه الله عليها ، له ستمائة جناح ، قد سدّ عظم خلقه الأفق ، فاقترب منه ، وأوحى إليه عن الله عز وجل ما أمره به ، فعرف عند ذلك عظمة الملَك الذي جاءه بالرسالة ، وجلالة قدره ، وعلو مكانته عند خالقه الذي بعثه إليه . انتهى .
أقول : قد وافق القاشانيّ ابن جرير في تأويل الآية ، وعبارته :
{ فَاسْتَوَى } فاستقام على صورته الذاتية ، والنبيّ بالأفق الأعلى ، لأنه حين كَوْن النبيّ بالأفق المبين لا ينزل على صورته ، لاستحالة تشكل الروح المجرد في مقام القلب ، إلا بصورة تناسب الصور المتمثلة في مقامه ، ولهذا كان يتمثل بصورة دحية الكلبيّ ، وكان من أحسن الناس صورة ، وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إذ لم يتمثل بصورة يمكن انطباعها في الصدر ، لم يفهم القلب كلامه ، ولم ير صورته . وأما صورته الحقيقية التي جبل عليها فلم تظهر للنبي صلى الله عليه وسلم إلا مرتين : عند عروجه إلى الحضرة الأحدية ووصوله بمقام الروح في الترقي ، وعند نزوله عنها ورجوعه إلى المقام عند سدرة المنتهى في التدلي . انتهى .
وكذا المهايميّ وافقهما وعبارته :
{ فَاسْتَوَى وَهُوَ } أي : صاحبكم عند استواء نفسه ، صار بالأفق الأعلى الروحانيّ . انتهى .
وكذا الفخر الرازيّ وعبارته :
المشهور أن { هُوَ } ضمير جبريل ، وتقديره استوى كما خلقه الله بالأفق الشرقيّ ، فسدّ المشرق لعظمته ، والظاهر أن المراد محمد صلى الله عليه وسلم ، معناه : استوى بمكان ، وهو بالمكان العالي رتبة ومنزلة في رفعة القدر ، لا حقيقة في الحصول في المكان .
فإن قيل : كيف يجوز هذا والله تعالى يقول :
{ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ } [ التكوير : 23 ] ، إشارة إلى أنه رأى جبريل بالأفق المبين ؟ نقول : وفي ذلك الموضع أيضاً نقول كما قلنا هاهنا ، أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل بالأفق المبين . يقول القائل : رأيت الهلال ، فيقال له : أين رأيته ؟ فيقول : فوق السطح ، أي : إن الرائي فوق السطح ، لا المرئي . و { الْمُبِينِ } هو الفارق ، من أبان الْإِنْسَاْن ، أي : هو بالأفق الفارق بين درجة الْإِنْسَاْن ، ومنزلة الملك ، فإنه صلى الله عليه وسلم انتهى وبلغ الغاية وصار نبياً ، كما صار بعض الأنبياء نبياً يأتيه الوحي في نومه وعلى هيئته ، وهو واصل إلى الأفق الأعلى ، والأفق الفارق بين المنزلتين . فإن قيل : ما بعده يدل على خلاف ما تذهب إليه ، فإن قوله :
{ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } إلى غير ذلك ، وقوله تعالى :
{ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى } كل ذلك يدل على خلاف ما ذكرته ؟ نقول : سنبين موافقته لما ذكرنا إن شاء الله تعالى في مواضعه ، عند ذكر تفسيره .
فإن قيل : الأحاديث تدل على خلاف ما ذكرته ، حيث ورد في الأخبار أن جبريل عليه السلام أرى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على صورته ، فسدّ المشرق ؟ فنقول : نحن ما قلنا : إنه لم يكن وليس في الحديث أن الله تعالى أراد بهذه الآية تلك الحكاية ، حتى يلزم محالفة الحديث ، وإنما نقول : إن جبريل أرى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه مرتين ، وبسط جناحيه ، وقد ستر الجانب الشرقي وسدَّه ، ولكن الآية لم ترد لبيان ذلك . انتهى كلام الرازي .
وفي القرطبيّ حكاية أقوال أخر ، وعبارته :
{ فَاسْتَوَى } أي : ارتفع جبريل وعلا إلى مكانة في السماء ، بعد أن علّم محمداً صلى الله عليه وسلم ، قاله سعيد بن المسيب وابن جبير .
وقيل :
{ فَاسْتَوَى } أي : قام وظهر في صورته التي خُلِق عليها .
وقول ثالث : إن معنى { فَاسْتَوَى } أي : استوى القرآن في صدره . وفيه على هذا وجهان :
أحدهما : في صدر جبريل حين نزل به عليه السلام .
الثاني : في صدر محمد صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه .
وقول رابع : إن معنى { فَاسْتَوَى } فاعتدل ، يعني محمداً في قوّته ، والثاني في رسالته ، ذكره الماورديّ .
وعلى الأول يكون تمام الكلام { ذُو مِرَّةٍ } ، وعلى الثاني { شَدِيدُ الْقُوَى }
وقول خامس : إن معناه فارتفع ، وفيه على هذا وجهان :
أحدهما : أنه جبريل ارتفع إلى مكانه ، على ما ذكرناه آنفاً .
الثاني : أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم ارتفع بالمعراج .
وقول سادس :
{ فَاسْتَوَى } يعني الله عز وجل ، أي : استوى على العرش ، على قول الحسين . انتهى .
هذا ما وقفنا عليه الآن من الأقوال في الآية ، وسيأتي في أول التنبيهات إيضاح ما اخترناه منها ، وإنما أخّرنا ذكره لارتباطه بالآيات الآتية .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } [ 8 - 9 ]
{ ثم دنا } أي : ثم بعد استوائه اقترب جبريل من محمد صلى الله عليه وسلم { فتدلى } أي : إليه .
قال ابن جرير : هذا من المؤخر الذي معناه التقديم ، وإنما هو ثم تدلى فدنا ، ولكنه حسن تقديم قوله : { دنا } إذ كان الدنو يدل على التدلي ، والتدلي على الدنو . كما يقال : زارني فلان فأحسن إليّ فزارني .
وقال الشهاب : التدلي مجاز عن التعلق بالنبيّ بعد الدنو منه ، لا بمعنى التنزل من علوّ ، كما هو المشهور . أو هو دنوّ بحالة التعلق ، فلا قلب ولا تأويل بـ : أراد الدنو ، كما في" الإيضاح " .
{ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } أي : كان مسافة ما بينهما مقدار قوسين . أي : بقدرهما إذا مُدّا أو أقرب . أو الضمير لجبريل ، أي : كأنه قربه قدر ذلك .
قال الشهاب : وقاب قوسين وقيبه : ما بين الوتر ومقبضه ، والمراد به المقدار ، فإنه يقدّر بالقوس ، كالذراع .
وقد قيل : إنه مقلوب ، أي : قابى قوس ، ولا حاجة إليه ؛ فإن هذا إشارة إلى ما كانت العرب في الجاهلية تفعله ، إذا تحالفوا أخرجوا قوسين ، ويلصقون إحداهما بالأخرى ، فيكون القاب ملاصقاً للآخر ، حتى كأنهما ذوا قاب واحد ، ثم ينزعانهما معاً ويرميان بهما سهماً واحداً ، فيكون ذلك إشارة إلى أن رضا أحدهما رضا الآخر ، وسخطه سخطه ، لا يمكن خلافه ، كذا قال مجاهد ، وارتضاه عامة المفسرين . انتهى .
قال السمين : وقوله تعالى :
{ أَوْ أَدْنَى } كقوله :
{ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] ، لأن المعنى : فكان بأحد هذين المقدارين في رأي الرائي ، أي : لتقارب ما بينهما ، يشك الرائي في ذلك . فهو تمثيل لشدة القرب ، وتحقيق استماعه لما أوحى إليه بأنه في رأي العين ، ورأى الواقف عليه ، كما مر في { أَوْ يَزِيدُونَ } فإن المعنى : إذا رآهم الرائي يقول : هم مائة ألف أو يزيدون .
وقيل : أو بمعنى بل ، أي : بل أدنى .
و { أَدْنَى } أفعل تفضيل ، والمفضل عليه محذوف . أي : أو أدنى من قاب قوسين . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } [ 10 ]
{ فَأَوْحَى } أي : جبريل { إِلَى عَبْدِهِ } أي : عبد الله تعالى ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وإنما أضمر اسمه تعالى لعدم اللبس ، وغاية ظهوره ، أو : فأوحى الله عز وجل ، بواسطة جبريل الذي تدلى إليه { مَا أَوْحَى } أي : مما أمره به . وفيه تفخيم للموحى به ؛ إذ الإبهام يفيد التعظيم ، كأنه أعظم من أن يحيط به بيان .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } [ 11 ]
{ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } أي : ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه من الملك الذي جاءه بالوحي من ربه . يعني : أنه رآه بعينه وتيقنه بقلب ، لاولم يشك في أن ما رآه حق وصدق ، وقرئ : { مَا كَذَبَ } بالتشديد ، أي : صدقه ولم يشك أنه ملَك رباني ، لا خيال شيطاني ، كما قال : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ } [ التكوير : 25 ] . وقد ذكر ابن كثير أن هذه الرؤية في أوائل البعثة ، كما تقدم النقل عنه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى } [ 12 ]
{ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى } أي : أفتجادلونه وتلاحونه على ما يراه معاينة من رؤية الملك والمنزل عليه .
قال القاشانيّ : أي : أفتخاصمونه على شيء لا تفهمونه ولا يمكنكم معرفته وتصوره ، فكيف يمكنكم إقامة الحجة عليه ؟ وإنما المخاصمة حيث يمكن تصور الأمر المختلف فيه ، ثم الاحتجاج عليه بالنفي والإثبات ، فحيث لا تصور ، فلا مخاصمة حقيقية . انتهى . وذلك لأن رؤية الملك وتنزله حالة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه الأنبياء عليهم السلام ، لا يمكن لغيرهم اكتناهها ، وإنما عليهم الإيمان بها والإذعان لها ، لقيام الدليل عليها . وبالجملة فالمراد أنه لا يصح المجادلة في المرئيّ ، لأنه لا يجوز الجدال في المحسوسات ، لا سيما إذا تعددت المشاهدة لها كما قال :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } [ 13 - 18 ]
{ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى } أي : مرّة أخرى من النزول ، وتأكيد الخبر عن الرؤية الثانية هذه ، لنفي الريبة والشك عنها أيضاً ، وأنه لم يكن فيها التباس واشتباه .
{ عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى } أي : موضع الانتهاء . فـ { الْمُنْتَهَى } : اسم مكان ، أو مصدر ميميّ . وقد جاء في الصحيح أنها < شجرة نبق في السماء السابعة ، إليها ينتهي ما يعرج به من أمر الله من الأرض ، فيقبض منها ، وما يهبط به من فوقها ، فيقبض منها > .
قال القاضي : ولعلها شبهت بالسدرة ، وهي شجرة النبق ، لأنهم يجتمعون في ظلها ، يعني أن شجر النبق يجتمع الناس في ظله ، وهذه يجتمع عندها الملائكة ، فشبهت بها ، وسميت { سِدْرَةِ } لذلك . فإطلاقها عليها بطريق الاستعارة ، لكن ورد في الحديث < أن كل نبقة فيها كقلة من قلال هَجَر > ، فهي على هذا حقيقية ، وهو الأظهر ، قاله الشهاب .
{ عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى } أي : التي يأوي إليها أرواح المقرّبين .
{ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } قال القاشانيّ : أي : من جلال الله وعظمته . معناه أنه رأى جبريل عليه السلام عند سدرة المنتهى حينما كانت الأرواح والملائكة تغشاها ، وتهبط عليها ، وتحف من حولها .
{ مَا زَاغَ الْبَصَرُ } أي : ما مال بصر رسول الله ، بل الله عليه وسلم عما رآه .
{ وَمَا طَغَى } أي : ما تجاوز مرئية المقصود له ، بل أثبت ما رآه إثباتاً مستيقناً صحيحاً لا شبهة فيه . وفيه وصف لأدبه صلى الله عليه وسلم وتمكّنه ، إذ لم يتجاوز ما أمر برؤيته .
{ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } يعني الملك الذي عاينه وأخبره برسالته . وفيه غاية التفخيم لمقامه ، وأنه من الآيات الكبر .
قال الناصر : ويحتمل أن تكون { الْكُبْرَى } صفة لآيات ، ويكون المرئيّ محذوفاً لتفخيم الأمر وتعظيمه ، كأنه قال : لَقَدْ رأى من آيات ربه الكبرى أموراً عظاماً لا يحيط بها الوصف . والحذف في مثل هذا أبلغ وأهول .
تنبيهات :
الأول : قدمنا في تفسير قوله تعالى :
{ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى } ما قاله المفسرون من الأقوال العديدة ، ولا يخفى ما في بعضها من التكلف والتعسف ، كتوجيه ابن جرير والرازيّ ومن وافقهما ، وبعض أقوال حكاها القرطبيّ . والأقرب في معنى الآية ما ذكره الإمام ابن كثير ، كما نقلناه عنه ، لكثرة الأحاديث الواردة فيما يفسرها بذلك ، ونحن نقول في تأييده : إن القرآن يفسر بعضه بعضاً ، لتشابه آياته الكريمة وتماثلها . والآية هذه مشابهة لما في سورة التكوير تمام المشابهة ، فقد قال تعالى ثمة :
{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ } [ التكوير : 19 - 23 ] ، فترى هذه الآيات مشابهة للآيات هنا ، وإن كان فيما هنا زيادة رؤية ، وبيان دنوّ واقتراب لم يذكر في التكوير . وسر الزيادة هو ارتقاء النبيّ صلى الله عليه وسلم في معارج الكمالات وقتاً فوقتاً ، وسورة النجم مما نزل بعد التكوير ، كما حكاه في " الإتقان " عن ابن عباس وغير واحد من السلف ، فلذلك كان في النجم زيادة هذا التكريم والتفضيل . وحاصل المعنى : أن ما ينطق به من هذا القرآن ليس عن هواه ، وإنما هو وحي علمه إياه ملك كريم ، جمّ المناقب ، لأنه شديد القوى ، ذو مرة ، رفيع المكانة بالأفق الأعلى . ثم لما شاء تعالى إنزال وحيه على نبيّه تنزل من الأفق ودنا إليه ، وكان في غاية القرب منه ، والتمكن من رؤيته ، وتلقي الوحي عنه ، وذلك كله حق وصدق لا مرية فيه . وكيف يماري من يرى ببصره ما يصدقه فؤاده فيه ولا يكذبه ، لا سيما ولم تكن رؤياه له مرة واحدة ، بل رآه نزلة ثانية ، نزل إليه بالوحي في مكان معين لا يشتبه على رائيه ، وهو سدرة المنتهى . وبالجملة ، فتوافق هذه الآيات لآيات التكوير من تفسير بعضها بعضاً ، أمر لا خفاء به عند المتدبر ، وكله ردٌّ على المشركين المفترين ، وإقسام على حقيقة الوحي والتنزيل ، وصدق ما يخبر به ، لا سيما وهو صادق عندهم لا يكذبونه . فما بقي بعد التعنت والجحد إلا انتظار سنة الله في أمثالهم من الأمم الكافرة الجاحدة ، كما أشار له في آخر السورة .
هذا ملخص معنى الآيات ، وما عداه فتوسع وحمل اللفظ على ما تجوّزه مادته . وكل ما يتسع له اللفظ هو المراد والله الموفِّق .
الثاني : ما قدمناه من رجوع الضمائر في قوله تعالى :
{ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } إلخ إلى جبريل عليه السلام ، هو الذي عوّل عليه عامة المفسرين ، وقد أيدناه بما رأيت .
قال الإمام ابن تيمية : الدنوّ والتدلّي في سورة النجم هو دنوّ جبريل وتدلّيه - كما قالت عائشة وابن مسعود - والسياق يدل عليه ، فإنه قال : { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } وهو جبريل ، { ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوى ، وهو ذو المرة ، أي : القوة ، وهو الذي استوى بالأفق الأعلى ، وهو الذي دنا فتدلّى ، فكان من محمد صلى الله عليه وسلم قدر قوسين أو أدنى ، وهو الذي رآه نزلة أخرى ، عند سدرة المنتهى ، رآه على صورته مرتين ، مرة في الأرض ، ومرة عند سدرة المنتهى . انتهى .
وروى البخاري في هذه الآيات عن ابن مسعود قال : < رأى جبريل له ستمائة جناح > .
وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم < رأى جبريل ، ولم يّره في صورته إلا مرتين ، مرة عند سدرة المنتهى ، ومرة في جياد مكان بمكة له ستمائة جناح ، قد سدّ الأفق > .
وأما ما وقع في حديث شريك في البخاريّ من قوله : < دنا الجبّار رب العزة فتدلّى ، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى > ، فإن لم يكن ذلك من زيادة شريك ، على ما ذهب إليه الإمام مسلم وغيره ، فهو دنو وتدلّ غير ما في سورة النجم ، نؤمن به ونفوض كيفيته إليه تعالى ، كسائر الصفات .
قال ابن كثير : قد تكلم كثير من الناس في رواية شريك ، فإن صح فهو محمول على وقت آخر ، وقصة أخرى ، لا أنها تفسير لهذه الآية ، فإن كانت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض ، لا ليلة الإسراء . ولهذا قال بعده : { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } ، فهذه هي ليلة الإسراء ، والأولى كانت في الأرض . انتهى .
وقال الحافظ أبو بكر البيهقيّ : وقع في حديث شريك في الإسراء زيادة على مذهب من زعم أنه صلى الله عليه وسلم رأى الله عز وجل . وقول عائشة وابن مسعود وأبي هريرة في حملهم هذه الآيات على رؤية جبريل ، أصح .
قال العماد بن كثير : وهذا الذي قاله البيهقيّ رحمه الله في هذه المسألة ، هو الحق ، فإن أبا ذّر قال : يا رسول الله ! رأيت ربك ؟ قال : < نور أنّى أراه > . وفي رواية : < رأيت نوراً > أخرجه مسلم .
وقوله :
{ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } إنما هو جبريل عليه السلام ، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن عائشة وعن ابن مسعود . وكذلك هو في صحيح مسلم عن أبي هريرة ، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة في تفسير هذا بهذا . انتهى .
وقال شمس الدين بن القيم في " زاد المعاد " : اختلف الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل رأى ربه تلك الليلة أم لا ؟ فصح عن ابن عباس أنه رأى ربه ، وصح عنه أنه قال : رآه بفؤاده ، وصحّ عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك ، وقال : إن قوله تعالى : { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى } إنما هو جبريل . وصحّ عن أبي ذرّ أنه سأله : هل رأيت ربك ؟ قال : < نور أنّى أراه > أي : حال بيني وبين رؤيته النور ، كما في لفظ آخر : < رأيت نوراً > .
وقد حكى عثمان بن سعيد الدارميّ اتفاق الصحابة على أنه لم يره .
قال الإمام ابن تيمية : وليس قول ابن عباس أنه رآه مناقضاً لهذا ، ولا قوله رآه بفؤاده . وقد صح عنه أنه قال : < رأيت ربي تبارك وتعالى > ، لكن لم يكن هذا في الإسراء ، ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح ، ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه . وعلى هذا بنى الإمام أحمد وقال : نعم رآه حقاً ، فإن رؤيا الأنبياء حق ولا بد . وأما قول ابن عباس : رآه بفؤاده مرتين ، فإن كان استناده إلى قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى } ثم قال :
{ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } والظاهر أنه مستنده ، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل ، رآه مرتين في صورته التي خلق عليها . انتهى .
وقال ابن كثير : أما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < رأيت ربي عز وجل > فإنه حديث إسناده على شرط الصحيح ، لكنه مختصر من حديث المنام ، كما رواه الإمام أحمد أيضاً عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : < أتاني ربي الليلة في أحسن صورة - أحسبه ، يعني في النوم - فقال : يا محمد ! أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قال قلت : لا . فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثدييّ - أو قال نحري - فعلمت ما في السماوات وما في الأرض . ثم قال : يا محمد ! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قال قلت : نعم ! يختصمون في الكفارات والدرجات . قال وما الكفارات ؟ قال : قلت : المكث في المساجد بعد الصلوات ، والمشي على الأقدام إلى الجماعات ، وإبلاغ الوضوء في المكاره ! من فعل ذلك عاش بخير ، ومات بخير . وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه . وقال : قل يا محمد إذا صليت : اللهم إني أسألك فعل الخيرات ، وترك المنكرات ، وحب المساكين ، وإذا أردت بعبادك فتنة ، أن تقبضني إليك غير مفتون > .
قال : < والدرجات بذل الطعام ، وإفشاء السلام ، والصلاة بالليل والناس نيام > .
ثم قال ابن كثير : وقوله تعالى :
{ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } ، كقوله :
{ لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى } [ طه : 23 ] ، أي : الدالة على قدرتنا وعظمتنا ، وبهاتين الآيتين استدل من ذهب من أهل السنة ، أن الرؤية تلك الليلة لم تقع ؛ لأنه قال :
{ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } ولو كان رأى لأخبر بذلك ، ولقال ذلك للناس . انتهى .
الثالث : ذهب بعضهم إلى أن هذه السورة أنزلت لإثبات المعراج النبويّ ، أعني : عروجه صلى الله عليه وسلم ، وصعوده وارتقاءه إلى ما فوق السماوات السبع ، كما ذكر في أحاديث المعراج عند سدرة المنتهى فوق السماوات ، ومشاهدة جبريل على صورته .
قال القليوبيّ : لما كان الإسراء مقدماً في الوجود على المعراج ، لأنه كالوسيلة والبرهان ، إذ يلزم من التصديق بخوارق العادة فيه ، التصديق بالمعراج و ما فيه . وكان ما في المعراج من الخوارق أعظم وأكثر ، صدره الله تعالى بالقسم الدال على تأكيد ثبوته ، والرد على منكريه والطاعنين فيه ، واستطرد مع ذلك الرد على من نسب إليه صلى الله عليه وسلم ما لا يجوز عليه ، فقال : { وَالنَّجْمِ } إلخ انتهى .
ومما قدمنا يظهر أن نزول السورة لتأييد الرسالة النبوية ، وتحقيق الوحي ، بأنه تعليم ملك كريم ، مرئي للحضرة النبوية رؤية تدفع كل لبس ، لا لإثبات المعراج .
ثم من الغرائب أيضاً هنا ، قول بعضهم محاولاً سرّ إفراد الإسراء عن المعراج ، وذكر كلٍّ في سورة ، ما مثاله : إن الإسراء أنزل أولاً وحده ، حملاً للمشركين على تسليم ما وضح صدقه صلى الله عليه وسلم فيه ، توصلاً للتصديق بما وراءه فإنه صلى الله عليه وسلم أرشد أن يخبر المشركين أولاً بالإسراء إلى المسجد الأقصى ، لأن قريشاً تعرفه ، فيسألونه عنه فيخبرهم بما يعرفون ، مع علمهم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل بيت المقدس قط ، فتقوم الحجة عليهم .
وكذلك وقع ، كما ذكر في الروايات . وعلى أثر هذا الإخبار أنزل بيان الإسراء ، ثم أُلهم صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بالمعراج إلى ملكوت السماوات ، ورؤية جبريل عليه السلام ، وأنزل الله تصديقه في سورة النجم . انتهى . فكل هذا مما لا سند له ، نعم ! روى البيهقيّ وابن أبي حاتم وابن جرير في حديث مطول ، أنه صلى الله عليه وسلم أصبح بمكة يخبرهم بالأعاجيب : < إني أتيت البارحة بيت المقدس ، وعرج بي إلى السماء ورأيت كذا وكذا > إلا أن يقال : ليس هذا من مرويات الصحيحين ، ولا حجة في الأخبار إلا مرويّهما . وبالجملة ، فالمعوّل عليه هو أن المعراج لم يرد له ذكر في القرآن مطلقاً ، وما ورد في هذه السورة وسورة التكوير ، فلا علاقة له بالمعراج ، وإنما هي رؤية النبي صلوات الله عليه لجبريل من الأرض على صورته الحقيقية كما تقدم . وأما المعراج فإنما كان رؤيا منامية روحانية ؛ لصريح حديث البخاريّ في ذلك من طرقه التي عن أنس ومالك بن أبي صعصعة . قال بعضهم ولذلك لم يذكر في حديث المعراج ، بحسب رواية البخاريّ التي هي من أصح الروايات بالإجماع ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سار أولاً إلى بيت المقدس ، بل المذكور فيه أنه سار مباشرة من مكة إلى السماء الأولى ، وكذلك لم يذكر فيه أن جبريل فارقه ، ثم ظهر له عند سدرة المنتهى بصورته الحقيقية ، بل المذكور أنه كان مصاحباً له من أول المعراج إلى آخره على صورة واحدة ، وذلك يدل على أن ما ذكر في القرآن مما وقع يقظة ، هو غير ما ذكر في الحديث ، مما وقع مناماً في وقت آخر ، وإلا لذكرا معاً في سياق واحد ، إما في القرآن ، وإما في أصح الأحاديث ، وهو الأمر الذي لم يحصل إلا في بعض روايات لا يعوّل عليها ، وهي من خلط بعض الرواة الحوادث بعضها ببعض . انتهى والله أعلم .
ثم قال تعالى منكراً على المشركين عبادتهم الأوثان ، واتخاذهم لها البيوت ، مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن لعبادته تعالى وحده ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى } [ 19 - 20 ]
{ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ } قال ابن كثير : هي صخرة بيضاء منقوشة ، وعليها بيت بالطائف له أستار وسَدَنة ، وحوله فناء معظّم عند أهل الطائف ، هم ثقيف ومن تابعها ، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش . قال ابن جرير : وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله ، فقالوا : { اللَّاتَ } يعنون مؤنثة من لفظه ، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً ، كما قالوا : عمرو وعمرة .
وقال الزمخشري : هي فعلة من لوى ؛ لأنهم كانوا يلوون عليها ، ويعكفون للعبادة ، أو يلتوون عليها ، أي : يطوفون .
وحكي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس أنهم قرؤوا : اللاتّ بتشديد التاء ، وفسروه بأنه كان رجلاً يلتّ للحجيج في الجاهلية السَّويق ، فلما مات عكفوا على قبره وعبدوه .
{ وَالْعُزَّى } وهي شجرة عليها بناء وأستار بنخلة ، وهي بين مكة والطائف .
قال ابن جرير : اشتقوا اسمها من اسمه تعالى العزيز ، وقال الزمخشريّ : أصلها تأنيث الأعز .
{ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى } وهي صخرة كانت بالمشلل عند قديد ، بين مكة والمدينة وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظّمونها ، ويهلون منها للحج إلى الكعبة .
روى البخاريّ عن عائشة نحوه .
قال ابن جرير : وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول : اللات والعُزّى ومناة الثالثة ، أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها . انتهى .
تنبيهات :
الأول : قال القاضي : مناة فعلة ، من مناه إذا قطعه ؛ فإنهم كانوا يذبحون عندها القرابين . ومنه سميت منى ؛ لأنه يمنى فيها القرابين ، أي : ينحر .
وقال الزمخشريّ : وكأنها سميت مناة ؛ لأن دماء المناسك كانت تمنى عندها ، أي : تراق . وقرئ : { مناءة } مفعلة من النوء ، كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركاً بها .
فإن قيل : كونها ثالثة وأخرى مغايرة لما تقدمها ، معلوم غير محتاج للبيان .
وأجيب : بأنهما صفتان للتأكيد ، أو { الثَّالِثَةَ } للتأكيد ، و { الأُخْرَى } بيان لها ، لأنها مؤخرة رتبة عندهم ، عن اللات والعزى .
قال الناصر : { الأُخْرَى } ما يثبت آخراً ، ولا شك أنه في الأصل مشتق من التأخير الوجوديّ ، إلا أن العرب عدلت به عن الاستعمال في التأخير الوجوديّ إلى الاستعمال ، حيث يتقدم ذكر معاير لا غير حتى سلبته دلالته على المعنى الأصليّ ، بخلاف آخر و آخرة على وزن فاعل وفاعلة ، فإن إشعارها بالتأخير الوجوديّ ثابت لم يغير ، ومن ثم عدلوا عن أن يقولوا : ربيع الآخَر ، على وزن الأفعل ، وجمادى الأخرى ، إلى ربيع الآخر على وزن فاعل ، وجمادى الآخرة على وزن فاعلة ؛ لأنهم أرادوا أن يفهموا التأخير الوجوديّ ، لأن الأفعل و الفعلى من هذا الاشتقاق مسلوب للدلالة على غرضهم ، فعدلوا عنها إلى الآخر والآخرة والتزموا ذلك فيهما . وهذا البحث مما كان الشيخ أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله تعالى قد حرره آخر مدتهُ ، وهو الحق إن شاء الله تعالى ، وحينئذ يكون المراد الإشعار بتقدم مغاير في الذكر مع ما نعتقده في الوفاء بفاصلة رأس الآية . انتهى .
الثاني : قال ابن كثير : كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة ، غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز ، وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها .
قال ابن إسحاق في "السيرة" : وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت ، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة ، لها سدنة وحجاب ويهدى لها كما يهدى للكعبة ، وتطوف بها كطوافها بها ، وتنحر عندها ، وهي تعرف فضل الكعبة عليها ، أنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده . فكانت لقريش ولبني كنانة العُزّى بنوسلم خالدسدنتها وحجابها بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم . وبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدمها وجعل يقول :
~يا عُزَّ كفرانَكِ لا سُبْحانَكِ إِني رأيتُ اللهَ قد أَهَانكِ
روى النسائي عن أبي الطفيل قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة ، وكانت بها العزى ، فأتاها خالد ، وكانت على ثلاث سمرات ، فقطع السمرات ، وهدم البيت الذي كان عليها ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : < ارجع ، فإنك لم تصنع شيئاً > . فرجع خالد فلما أبصر السدنة وهم حجبتها ، أمعنوا في الحيل وهم يقولون : يا عزى ! يا عزى ! فأتاها خالد ، فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها ، فغمسها بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : < تلك العزى > ! قال ابن إسحاق : وكانت اللات لثقيف بالطائف ، وكان سدنتها وحجابها بني معتب ، وقد بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صخر بن حرب فهدماها ، وجعلا مكانها مسجداً بالطائف .
قال ابن إسحاق : وكان مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر ، من ناحية المشلل بقديد ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها أبا سفيان ، صخر بن حرب فهدمها . ويقال : عليّ بن أبي طالب . انتهى .
الثالث : قال ابن جرير : اختلف أهل العربية في وجه الوقف على { اللَّاتَ } و { مَنَاةَ } فكان بعض نحويّ البصرة يقول : إذا سكت قلت : اللات ، وكذلك : مناة ، تقول : منات . وقال : قال بعضهم : اللاتّ'فجعله من اللتّ الذي يلت . ولغة العرب يسكتون على ما فيه الهاء بالتاء ، يقولون : رأيت طلحة . وكل شيء مكتوب بالهاء فإنها تقف عليه بالتاء ، نحو نعمة ربك ، وشجرة . وكان بعض نحوييّ الكوفة يقف على اللات بالهاء ، وكان غيره منهم يقول : الاختيار في كل ما لم يضف ، أن يكون بالهاء { رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي
} [ الكهف : 98 ] ، { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ } [ المؤمنون : 20 ] ، وما كان مضافاً فجائز بالهاء والتاء ، فالتاء للإضافة ، والهاء لأنه يفرد ويوقف عليه دون الثاني . وهذا القول الثالث أفشى اللغات وأكثرها في العرب ، وإن كان للأخرى وجه معروف . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى } [ 21 - 22 ]
{ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى } قال الزمخشريّ : كانوا يقولون : إن الملائكة وهذه الأصنام بنات الله ، وكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى ، مع وأدهم البنات ، فقيل لهم : { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى } ويجوز أن يراد أن اللات والعزى ومنات إناث ، وقد جعلتموهن لله شركاء ، ومن شأنكم أن تحتقروا الإناث ، وتستنكفوا من أن يولدن لكم ، وينسبن إليكم ، فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أنداداً لله ، وتسمونهن آلهة ؟ انتهى .
لطيفة :
قال الشهاب : قد مرّ مراراً الكلام في أرأيت وأنها بمعنى أخبرني ، وفي كيفية دلالتها على ذلك ، واختلاف النحاة في فعل الرؤية فيه ، هل هو بصري ؟ فتكون الجملة الاستفهامية بعدها مستأنفة لبيان المستخبر عنه . وهو الذي اختاره الرضيّ . أو علمية ، فتكون في محل المفعول الثاني ، فالرابط حينئذ أنها في تأويل : أهي بنات الله ؟
قال السمين : وكأن أصل التركيب : ألكم الذكر ، وله هن ، أي : تلك الأصنام . وإنما أوثر هذا الاسم الظاهر لوقوعه رأس فاصلة .
وقوله تعالى :
{ تِلْكَ } إشارة إلى القسمة المفهومة من الجملة الاستفهامية { إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى } أي : جائرة ، غير مستوية ، ناقصة غير تامة ، لأنكم جعلتم لربكم من الولد والند ما تكرهون لأنفسكم ، وآثرتم أنفسكم بما ترضونه .
قال ابن جرير : والعرب تقول : ضزْتُهُ حقّه بكسر الضاد ، وضُزته بضمها ، فأنا أضيزهُ وأضوزهُ ، وذلك إذا نقصته حقَهُ ومنعتهُ .
تنبيه :
قال السمين : قرأ ابن كثير : { ضئزى } بهمزة ساكنة ، والباقون بياء مكانها . وقرأ زيد بن علي : { ضَيزى } بفتح الضاد والياء ساكنة . فأما قراءة العامة فتحتمل أن تكون من ضازهُ يضيزه إذا ضامه وجار عليه ، فمعنى ضيزى جائرة . وعلى هذا فتحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون صفة على فُعلى بضم الفاء ، وإنما كسرت الفاء لتصح الياء كبيض .
فإن قيل : وأي ضرورة إلى أن يقدر أصلها ضم الفاء ، ولم لا قيل فِعلى بالكسر ؟
فالجواب : أن سيبويه حكى أنه لم يرد في الصفات فِعلى بكسر الفاء ، وإنما ورد بضمها ، نحو حبلى وأنثى ورُبّى وما أشبهه ، إلا أن غيره حكى في الصفات ذلك . حكى ثعلب : مشية حيكى ، ورجل كيسى . وحكى غيره : امرأة عزهى وامرأة سعلى . وهذا لا ينقض على سيبويه ؛ لأنه يقول في حيكى وكيسى كقوله في ضيزى لتصح الياء ، وأما عزهى وسعلى فالمشهور فيهما عزهاة سعلاة .
والوجه الثاني : أن تكون مصدراً كذكرى . قال الكسائيّ : يقال ضاز يضيز ضيزى ، كذكر يذكر ذكرى . ويحتمل أن تكون من ضأزه بالهمز كقراءة ابن كثير ، إلا أنه خفف همزها ، وإن لم يكن من أصول القراء كلهم إبدال مثل هذه الهمزة ياءً ، لكنها لغة التزمت ، فقرؤوا بها . ومعنى ضأزه يضأزه بالهمزة ، نقصه ظلماً وجوراً ، وهو قريب من الأول . و ضيزى في قراءة ابن كثير مصدر وصف به ، ولا يكون وصفاً أصلياً ؛ لما تقدم عن سيبويه .
فإن قيل : لم لا قيل في ضئزى بالكسر والهمز ، أن أصله ضيزى بالضم فكسرت الفاء ، لما قيل فيها مع الياء ؟
فالجواب : أنه لا موجب هنا للتغيير ، إذ الضم مع الهمز لا يستثقل استثقاله مع الياء الساكنة وسمع منهم : ضؤزى بضم الضاد مع الواو والهمزة .
وأما قراءة زيد فيحتمل أن تكون مصدراً وصف به ، كدعوى ، وأن تكون صفة ككسرى وعطشى . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى } [ 23 ]
{ إِنْ هِيَ } أي : الأصنام المذكورة باعتبار الألوهية التي يدعونها لهم { إِلاَّ أَسْمَاء } أي : محضة ليس تحتها مما تنبئ هي عنه من معنى الألوهية ، شيء ما أصلاً . أي : ليس لها نصيب منها إلا إطلاق تلك الأسماء عليها .
قال الشهاب : والمراد لا نصيب لها أصلاً ، ولا وجه لتسميتها بذلك ، ولو كانت الألوهية متحققة بمجرد التسمية كانت آلهة ، فهو من نفي الشيء بإثباته ، أو هو ادعاء محض لا طائل تحته .
{ سَمَّيْتُمُوهَا } أي : جعلتموها أسماء مع خلوها عن المسميات { أَنتُمْ وَآبَآؤكُم } أي : بمقتضى أهوائكم ، وتقليد التابع للمتبوع { مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } أي : برهان يتعلق به { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ } أي : إلا توهم أن ما هم عليه حق { وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ } أي : تشتهيه أنفسهم .
قال ابن جرير : لأنهم لم يأخذوا ذلك عن وحي جاءهم من الله ، ولا عن رسول الله أخبرهم به ، وإنما هو اختلاق من قبل أنفسهم ، أو أخذوه عن آبائهم الذين كانوا من الكفر بالله على مثل ما هم عليه منه { وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى } أي : الدليل الواضح ، والبيان بالوحي ، أن عبادتها لا تنبغي وأنه لا تصلح العبادة إلا له تعالى وحده .
قال أبو السعود : والجملة حال من فاعل { يُتْبِعُونَ } أو اعتراض . وأيّاً ما كان ، ففيه تأكيد لبطلان إتباع الظن ، وهوى النفس ، وزيادة تقبيح لحالهم ، فإن اتباعهما من أي : شخص كان ، قبيح ، وممن هداه الله تعالى بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم وإنزال الكتب ، أقبح .
تنبيه :
قال السيوطيّ في " الإكليل " : استدل بقوله :
{ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء } إلخ على أن اللغات توقيفية ، ووجهه أنه تعالى ذمهم على تسمية بعض الأشياء بما سموها به ، ولولا أن تسمية غيرها من الله توقيف ، لما صح هذا الذم ، لكون الكل اصطلاحاً منهم .
واستدل بقوله تعالى :
{ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ } إلخ على إبطال التقليد في العقائد واستدل به الظاهرية على إبطاله مطلقاً ، أو إبطال القياس .
أخرج ابن أبي حاتم عن عمر قال : احذروا هذا الرأي على الدِّين ، فإنما كان الرأي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيباً لأن الله كان يريه ، وإنما هو منا تكلف وظن ، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى } [ 24 ]
{ أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى } أي : ليس ما يشتهيه من الأمور التي منها طمعه الفارغ في شفاعة الأنداد ، وتعنته في دفاع اليقين بالظن ، وتركه نفسه وهواها بلا شرع يقيدهُ ولا مهيمن يَزَعُهُ . فإن ذلك من المحالات في نظر العقل السليم ، كقوله :
{ ليْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ } [ النساء : 123 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى } [ 25 ]
{ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى } أي : فمصير الأمر فيهما له تعالى ، لا للإنسان حسب ما تسول له نفسه الأمارة بالسوء ، كما قال :
{ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ } [ المؤمنون : 71 ] ، ولذا أرسل له الرسل ، وأنزل الكتب ، قطعاً للمعاذير ، ونبهه بالعقل على سبل السعادة التي لا تخفى على بصير .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى } [ 26 ]
{ وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى } هذا توبيخ من الله تعالى لعبدة الأوثان ، بإقناطهم عما علّقوا به أطماعهم من شفاعة أوثانهم ، بأن ملائكته الكرام لا يتفوهون بالشفاعة إلا من بعد إذنه ورضاه . فأنّى لهذه الطواغيت أن تفتات على هذا المقام ، ولها من الذلة والصغار ما يبعدها عنه بألف منزل .
ثم أشار إلى طغيان آخر للمشركين ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى } [ 27 ]
{ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى } أي : تسمية الإناث ، وذلك أنهم كانوا يقولون : هم بنات الله . فالأنثى بمعنى الإناث ، لأنهم اسم جنس يتناول الكثير والقليل . وقيل : بمعنى الطائفة الأنثى . وقيل : منصوب بنزع الخافض على التشبيه ، فلا تمس الحاجة إلى الجمعية . وقيل : أفرد لرعاية الفاصلة . وقيل : الملائكة في معنى استغراق المفرد ، أي : ليسمون كل واحد منهم بنتاً ، وهي تسمية الأنثى ، على وزن كسانا الأمير حلةً ، أي : كسا كلَّ واحد منا حُلة ، والإفراد لعدم اللبس .
قال أبو السعود : وفي تعليقها بعدم الإيمان بالآخرة ، إشعار بأنها في الشناعة والفظاعة ، واستتباع العقوبة في الآخرة ، بحيث لا يجترئ عليها إلا من لا يؤمن بها رأساً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا * فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } [ 28 - 29 ]
{ وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً } أي : لا يفيد فائدته ، ولا يقوم مقامه ، وذلك لأن حقيقة الشيء وما هو عليه ، إنما تدرك إدراكاً معتداً به ، إذا كان عن يقين ، لا عن ظن وتوهم .
{ فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي : من هؤلاء الكفرة الذين يرون غاية سعادتهم التنعم بلذائذها ، لقصر نظرهم على المحسوسات . والمراد من الإعراض هجرهم هجراً جميلاًً ، وترك إيذائهم . وقول الزمخشريّ : أي : أعرض عن دعوة من رأيته معرضاً عن ذكر الله . . . إلخ لا يصح ؛ لأن الصدع بالحق لا تسامح فيه ، لاسيما والدعوة للمعرضين ، وهي تستلزم أن يحاجوا به بمنتهى الطاقة لقوله تعالى :
{ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً } [ الفرقان : 52 ] ، وإنما معنى الآية : فاصفح عنهم ودع أذاهم ، في مقابلة ما يجهلون به عليك ، كما بين ذلك في مواضع من التنزيل ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى } [ 30 ]
{ ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ } يعني أمر الدنيا منتهى علمهم ، لا علم لهم فوقه . ومن كان هذا أقصى معارفه ، فما على داعيه إلا الصفح عنه ، والصبر على جهله .
و مبلغ اسم مكان مجازاً ، كأنه محل وقف فيه علمهم ادعاء - كما حققه الشهاب - والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها من قصر الإرادة على الحياة الدنيا ، ثم علل الأمر بالإعراض بقوله سبحانه :
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى } أي : ولا بد أن يعاملهم بموجب علمه فيهم ، فيجزي كلاً بما يقتضيه عمله ، وتقديم العلم بمن ضل ، لأنهم المقصودون من الخطاب ، والسياق فيهم . وقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } [ 31 ]
{ وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } تنبيه على سعة ملكه ، وعظمة قدرته ، وأن ما فيهما من قبضته ، فلا يعجزه جزاء هؤلاء الفجَرة ، كما قال :
{ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } أي : بالمثوبة الحسنى ، وهي الجنة ثم بين صفات هؤلاء المحسنين ، بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [ 32 ]
{ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ } يعني ما كبر الوعيد عليه من المناهي { وَالْفَوَاحِشَ } يعني ما فحش منها . والعطف إما من عطف أحد المترادفين أو الخاص على العام { إِلَّا اللَّمَمَ } أي : الصغائر من الذنوب . ومثّله أبو هريرة بالقُبلة والغمزة والنظرة ، فيما رواه ابن جرير ، وأصل معناه : ما قل قدره . ومنه : لمة الشعر ، لأنها دون الوفرة . وقيل : معناه الدنو من الشيء دون ارتكاب له . والاستثناء منقطع على ما ذكر . وقيل : اللمم بما دون الكبائر والفواحش ، فإنه عفو . وقيل : متصل ، والمراد مطلق الذنوب . وقيل : إنه لا استثناء فيه أصلاً . و { اللَّمَمَ } صفة بمعنى غير وتفصيله في " العناية " .
وحكى ابن جرير عن ابن عباس وغيره ، أن معنى { اللَّمَمَ } ما قد سلف لهم مما ألموا به من الفواحش والكبائر في الجاهلية قبل الإسلام ، وغفرها لهم حين أسلموا .
وعن ابن عباس أيضاً قال : هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب ولا يعود . قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
~ < إن تغفر اللهم تغفر جماً وأيّ عبد لك لا ألمّا >
وقال الحسن :
{ اللَّمَمَ } أن يقع الوقعة ثم ينتهي . وكل هذا يتناوله اللفظ الكريم والأقوى في معناه هو الأول ؛ ولذا استدل بالآية على تكفير الصغائر باجتناب الكبائر كما قال تعالى :
{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [ النساء : 31 ] .
{ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } قال ابن جرير : أي : واسع عفوه للمذنبين الذين لم تبلغ ذنوبهم الفواحش وكبائر الإثم { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ } قال ابن جرير : أي : أحدثكم منها بخلق أبيكم آدم منها { وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } أي : حيثما يصوركم في الأرحام { فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ } أي : تشهدوا لها بأنها زكية بريئة من الذنوب والمعاصي ، والمراد به الثناء تمدحاً أو رياءً { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } أي : بمن اتقاه فعمل بطاعته ، واجتنب معاصيه وأصلح ، وهذا كقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [ النساء : 49 ] .
وفي الصحيحين عن أبي بكرة قال : مدح رجل رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ويلك ! قطعت عنق صاحبك > مراراً < إذا كان أحدكم مادحاً صاحبه لا محالة ، فليقل : أحسب فلاناً ، والله حسيبه ، ولا أزكي على الله أحداً ، أحسبه : كذا وكذا إن كان يعلم ذلك > .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى * أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى } [ 33 - 35 ]
{ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى } أي : عن الذكر بعد إذ جاءه ، كما قال تعالى :
{ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [ القيامة : 31 - 32 ] .
{ وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى } أي : قطع العطاء بخلاً وشحاً .
{ أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى } أي : يراه حتى يحكم على نفسه بالتزكية والنجاة والفوز ؟ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [ 36 - 37 ]
{ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } أي : بالغ في الوفاء بما عاهد الله عليه ، كما قال : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [ البقرة : 124 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [ 38 ]
{ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } أي : لا تؤاخذ نفس بذنب غيرها ، بل كل آثمة فإنَّ إثمها عليها .
قال القاشانيّ : لأن العقاب يترتب على هيئات مظلمة رسخت في النفس بتكرار الأفاعيل والأقاويل السيئة التي هي الذنوب ، وكذلك الذنوب . وكذلك الثواب ، إنما يترتب على أضدادها من هيئات الفضائل ، كما قال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } [ 39 ]
{ وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } أي : إلا سعيه وكسبه .
تنبيهات :
الأول : قال ابن جرير : إنما عنى بقوله :
{ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } الذي ضمن للوليد بن المغيرة أن يتحمل عنه عذاب يوم القيامة ! يقول : ألم يخبر قائل هذا القول ، وضامن هذا الضمان ، بالذي في صحف موسى وإبراهيم مكتوب : أن لا تأثم آثمة إثم أخرى غيرها { وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } أي : وأنه لا يجازى عامل إلا بعمله ، خيراً كان أو شراً . انتهى .
وظاهر السياق يشعر بنزول الآيات رداً على ما كانوا يتخرصونه ويتمنونه ، ويتحكمون فيه على الغيب لجاجاً وجهلاً . ومع ذلك فمفهومها الشموليّ جليّ .
الثاني : قال السيوطيّ في " الإكليل " : استدل به على عدم دخول النيابة في العبادات عن الحيّ والميت . واستدل به الشافعيّ على أن ثواب القراءة لا يلحق الأموات . انتهى .
وقال ابن كثير : ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعيّ رحمه الله ومن تبعه ، أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى ، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم ، ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ، ولا حثهم عليه ، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ، ولو كان خيراً لسبقونا إليه . وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء ، فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ، ومنصوص من الشارع عليهما .
وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < إذا مات الْإِنْسَاْن انقطع عمله إلا من ثلاث : من ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية من بعده ، أو علم ينتفع به > فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكدّه وعمله ، كما جاء في الحديث : < إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وإن ولده من كسبه > ، والصدقة الجارية - كالوقف ونحوه - هي من آثار عمله ووقفه ، وقد قال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } [ يس : 12 ] . والعلم الذي نشره في الناس ، فاقتدى به الناس بعده ، هو أيضاً من سعيه وعمله .
وثبت في الصحيحين : < من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعهم ، من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً > . انتهى .
الثالث : قال الرازيّ : المراد من الآية بيان ثواب الأعمال الصالحة ، أو بيان كل عمل . نقول : المشهور أنها لكل عمل ، فالخير مثاب عليه ، والشر معاقب به ، والظاهر أنه لبيان الخيرات ، يدل عليه اللام في قوله تعالى : { لِلإِنسَانِ } فإن اللام لعود المنافع ، وعلى لعود المضار ، تقول : هذا له ، وهذا عليه ، ويشهد له ، ويشهد عليه ، في المنافع والمضار . وللقائل الأول أن يقول بأن الأمرين إذا اجتمعا غلب الأفضل ، كجموع السلامة تذكّر ، إذا اجتمعت الإناث مع الذكور . وأيضاً يدل عليه قوله تعالى :
{ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى } و { الْأَوْفَى } لا يكون إلا في مقابلة الحسنة ، وأما في السيئة فالمثل أو دونه ، أو العفو بالكلية . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى } [ 40 - 41 ]
{ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى } أي : يراه ، ويعرض عليه ، ويكشف له . من أرأيت الشيء ، أو يرى للخلق وللملائكة ؛ ففيه بشارة للمؤمن ، وإفراح له ، ونذارة للكافر ، وإرهاب له ، أو هو من رأى المجرد ، أي : يراه . كقوله تعالى :
{ وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } [ التوبة : 105 ] ، { ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى } أي : يجزى سعيه جزاءً وافراً لا يبخس منه شيئاً .
قال الشهاب : أصله يجزي الله الْإِنْسَاْن سعيه ، فـ { الْجَزَاء } منصوب بنزع الخافض ، و { سَعْيَهُ } هو المفعول الثاني ، وهو يتعدى له بنفسه ، نحو : جزاك الله خيرا . وجزاءه سعيه بمعنى جزائه بمثله أو هو مجاز . وقيل : المنصوب بنزع الخافض الضمير ، والتقدير : بسعيه أو على سعيه - كما في " الكشاف " .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى } [ 42 - 49 ]
{ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى } أي : انتهاء الخلق ، ورجوعهم لمجازاتهم . والمخاطب إما عام ، أي : أيها السامع أو العاقل ، ففيه وعد أو وعيد ، أو خاص بالنبي صلوات الله عليه ، ففيه تسلية عما كان يلاقيه من جفاء قومه وجهلهم .
ثم أشار إلى بعض آياته الدالة على انفراده بالألوهية ، بقوله تعالى :
{ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى } أي : خلق قوتي الضحك والبكاء ، أو أضحك أهل الجنة في الجنة ، وأبكى أهل النار في النار ، أو من شاء من أهل الدنيا ، أو أعمّ .
قال الرازيّ : اختار هذين الوصفين لأنهما أمران لا يعللان ، فلا يقدر أحد من الطبيعيين أن يبدي في اختصاص الْإِنْسَاْن بهما سبباً ، وإذا لم يعلل بأمر ، فلا بد له من موجد ، وهو الله تعالى ، وأطال في ذلك وأطاب ، رحمه الله تعالى .
{ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } أي : أمات من شاء من خلقه ، وأحيى من شاء ، قال : ابن جرير وعنى بقوله : { أَحْيَا } نفخ فيه الروح في النطفة الميتة ، فجعلها حية بتصييره الروح فيها .
{ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى } أي : ابتدع إنشاءهما من نطفة إذا تدفق في الرحم .
{ وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى } أي : إعادة الخلق بعد مماتهم في نشأة أخرى لا تعلم ، كما قال :
{ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ } [ الواقعة : 61 ] ، وذلك للحساب والجزاء ، المترتب على أعمال الخير والشر ، بالمصير إلى الجنة أو النار .
{ وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى } أي : أغنى من شاء بالمال . وأقناه أي : جعل له قنية ، وهو ما يدخره من أشرف أمواله { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى } وهو نجم مضيء خلف الجوزاء ، وكان بعض أهل الجاهلية يعبده .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى * هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى } [ 50 - 56 ]
{ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى } يعني قوم هود . وسميت { الْأُولَى } لتقدمها في الزمان .
{ وَثَمُودَ } أي : قوم صالح { فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى } أي : أشد في كفرهم { وَأَطْغَى } أي : أشد طغياناً وعصياناً من الذين أهلكوا بعدهم ، لتمردهم على الكفر ، وردّ دعوته في طول مدته بينهم ، وهي أطول مدد الأنبياء عليهم السلام .
{ وَالْمُؤْتَفِكَةَ } أي : قرى قوم لوط التي ائتفكت بأهلها ، أي : انقلبت .
{ أَهْوَى } أي : أهواها على أهلها ودمّرها .
{ فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى } أي : من العذاب السماويّ الذي صب عليها .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ } أي : نعمائه .
{ تَتَمَارَى } أي : ترتاب وتشك وتجادل في أنها ليست من عنده ، وهو الذي أنعم بالإغناء والإقناء وإرسال الرسل ، وقهر أعدائهم .
{ هَذَا } أي : القرآن { نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى } أي : إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي أنذر بها من قبلكم . أو هذا الرسول نذير من جنس من تقدمه ، ليس بدعاً من الرسل .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَزِفَتْ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ } [ 57 - 58 ]
{ أَزِفَتْ الْآزِفَةُ } أي : قربت القيامة الموصوفة بالقرب . فاللام في { الْآزِفَةِ } للعهد وقيل : الآزفة علم بالغلبة للساعة هنا ، لئلا يلزم وصف القريب بالقريب .
قال الشهاب : وفيه نظر ، لأن وصف القريب بالقرب يفيد المبالغة في قربه ، كما يدل على الافتعال في اقتربت .
{ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ } أي : ليس لقيامها غير الله مبّين لوقتها ، كقوله :
{ لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ } [ الأعراف : 187 ] ، و { كَاشِفَةٌ } صفة محذوف ، أي : نفس كاشفة ، أو حال كاشفة أو التاء للمبالغة . أو هو مصدر بني على التأنيث و { مِّن دُونِ اللّهِ } بمعنى غير الله ، أو إلا الله . وقيل : الكشف بمعنى الإزالة ، أي : ليس لها نفس كاشفة إذا وقعت ، إلا هو تعالى ، من كشف الغماء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } [ 59 - 62 ]
{ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ } يعني القرآن الذي قص ما تقدم ، وأنذر بما أخبر { تَعْجَبُونَ } أي : تعجب إنكار مع أن ما حواه مما يلجئ إلى الإذعان والإقرار ، بل مما يفيض لحقيته الدمع المدرار ، كما قال : { وَتَضْحَكُونَ } أي : استهزاء { وَلَا تَبْكُونَ } أي : مما فيه من وعيد للعصاة ، ومما فرط منكم قبل سماع ذكراه كما يفعله الموقنون به ، المحدث عنهم في آية : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } [ الإسراء : 109 ] { وَأَنتُمْ سَامِدُونَ } أي : لاهون عما فيه من العبر ، معرضون عن آياته كبراً .
قال مجاهد : كانوا يمرون على النبي صلى الله عليه وسلم غضاباً مبرطمين ، أي : شامخين .
وعن ابن عباس : هو الغناء : كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا ، وهي لغة أهل اليمن . يقولون : اسمدْ لنا : تغنّ لنا . والمآل واالمشركين . تلفت العبارة عنه . ولا ريب أن كل ذلك مما كان يصدر عن المشركين .
قال في " الإكليل " : فيه استحباب البكاء عند القراءة ، وذم الضحك والغنا واللهو واللعب والغفلة ، كما فسر بالأربعة قوله : { سَامِدُونَ } وفسره السديّ بالاستكبار .
{ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } أي : واعبدوه دون من سواه من الأوثان ، فإنه لا ينبغي أن تكون العبادة إلا له ، فلا تجعلوا له شريكاً في عبادته .
وعن عبد الله بن مسعود قال : أول سورة أنزلت فيها سجدة { وَالنَّجْمِ } < فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم > وسجد من خلفه . . . الحديث . وتقدم في أول السورة .
وروى الإمام أحمد عن المطّلب بن وداعة قال : < قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة النجم ، فسجد > وسجد من عنده ، فرفعت رأسي فأبيت أن أسجد - ولم يكن أسلم يومئذ المطلب - فكان بعد ذلك لا يسمع أحداً قرأها إلا سجد معه . ورواه النساني .(/)
سورة القمر
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ } [ 1 ]
{ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ } أي : دنَت الساعة التي تقوم فيها القيامة . كما قال :
{ أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } [ النحل : 1 ] ، وقال :
{ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 1 ] ,
قال ابن جرير : وهذا من الله تعالى إنذاره لعباده بدنوِّ القيامة ، وقرب فناء الدنيا ، وأمر لهم بالاستعداد لأهوال القيامة قبل هجومها عليهم ، وهم عنها في غفلة ساهون .
{ وَانشَقَّ الْقَمَرُ }(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } [ 2 ]
{ وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } قال ابن جرير : كان ذلك - فيما ذكر - على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قبل هجرته إلى المدينة ؛ وذلك أن كفار أهل مكة سألوه آية ، فأراهم صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر حجَّةً على صدق قوله وحقيقةِ نبوته ، فلما أراهم أعرضوا وكذبوا ، وقالوا : هذا سحر مستمر ، سحَرنا محمد . ثم روى ذلك عن أنس وابن مسعود وابن عباس ، وغير واحد من التابعين .
وقال القاضي عياض في " الشفا " : أخبر تعالى بوقوع انشقاقه بلفظ الماضي ، وإعراض الكفرة عن آياته ، وأجمع المفسرون وأهل السنَّة على وقوعه ، ثم سرد الآثار في ذلك .
وزعم ابن كثير أن أحاديثه متواترةعامة ، إلا أن الشهاب نقل عن الإمام الخطابيّ أن معجزاته صلى الله عليه وسلم ، غير القرآن ، لم تتواتر . والحكمة فيه أنها لو تواترت كانت عامة ، والمعجزة إذا عمَّت أهلَك اللهُ مَن كذبها ، كما جرت به العادة الإلهية . والنبي صلى الله عليه وسلم بعث رحمة ، وأمَّن الله أمَّته من عذاب الاستئصال .
ثم قال : وسبب تعرضهم للتواتر طعن بعضِ الملاحدة بأن القمر يشاهده كل أحد ، فلو انقسم قطعتين تواتر وشاع في جميع الناس ، ولم يخف على أحد ، والطبائع حريصة على إشاعة ما لم يعهد مثله ، ولا أغرب من هذا . مع أن الملازمة غير لازمة ، لأنه في الليل ، وزمان الغفلة ، ولا يلزم امتداده ، ولا يرى إذ ذاك في جميع الآفاق ، لاختلاف المطالع . انتهى .
وقد ذكر ابن قتيبة في " تأويل مختلف الحديث " أن الذي طعن في تلك الآثار المروية عن ابن مسعود هو النظّام ، إلا أنه لم ينقل تأويله للآية على رأيه ، ولعله هو القول الثاني الذي حكاه الزمخشريّ والبيضاويُّ ، ورواه أبو السعود عن عثمان بن عطاء عن أبيه أن المعنى : وسينشق القمر ، يعني يوم القيامة وإذا انكدرت النجوم وانتثرت . والمراد بالآية إما القرآن أو ما يقترحونه لو أجيبوا إلى طلبه .
ومعنى { مُّسْتَمِرٌّ } دائم مطرد ، أو محكم قويّ ، من : مررت الحبل ، إذا أحكمتَ فتله . أو مارّ ذاهب لا يبقى ، تعليلاً لأنفسهم بالأماني الفارغة . أو منفور عنه لشدة مرارته مجازاً .
وجملة { وَإِن يَرَوْاْ } مستأنفة أو حالية .
قال الشهاب : ولو كانت هذه الجملة حالية - والمعنى : أن الساعة اقتربت ، وانشق القمر فيها دنا زمانه ، وظهرت آثاره ، والحال أنهم مصرون على العناد - كان منتظماً أتمَّ انتظام ، ولا ضير فيه سوى مخالفته للمنقول عن السلف في تفسيرها ، فتأمل . انتهى .
أقول : ولي هاهنا كلمة لا بدَّ من التنبيه عليها ، وهي : أن الرمي بالإلحاد لمنكرِ حديث غير مجمع على تواتره ، جنايةٌ كبرى وزلة عظمى ؛ فإن باب التكفير والتضليل ليس بالأمر القليل ، ولأجله صنف حجة الإسلام الغزالي كتابه " فيصل التفرقة " ودمَغ بحُججه أولئك المتعصبين الذين سهل عليهم الرمي لمن خالفهم بالزندقة ، ولعمرُ الحقِّ إن هذا مما فرّق الكلمة ، ونفَّر حملة العلم عن تعرف المشارب والآراء ، حتى أصبح باب التوسع في العلم مرتجاً ، ومحيطه بعد مدَّه منحسراً ؛ إذ هجرت كتب الفِرَق الأخرى بل أحرقت ، وأهين من يتأثلها ، ورمي بالابتداع أو التزندق ، كما يمرُّ كثير من مثل هذا بمطالع كتب التاريخ وطبقات الرجال ، فلا جرم نسيت الأقوال الباقية ، وعدت من الشاذ غير المقبول . وإذا ألصق اسم الإلحاد بقائلها فماذا يكون حالها ؟ وهذا ، كما لا يخفاك ، حيف على قواعد العلم وغلٌّ للأفكار ، نعم ! تفلَّت منهم علم الأصول ، فلم تزل الأقوال الغريبة تتراءى على صفحاته ، وإن كان مما يغمز كثير منها ، إلا أنها سارت تلجُّ آذانهم ، ويحتج بها عليهم ، وقد تنبه كثير من المحققين لما ذكرنا ، وأشاروا له في مواضع ، فقرروا في كتب العقائد أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة .
وقال العلامة الفناريّ في " فصول البدائع " : ولا يضلَّل جاحدُ الآحاد .
وقال الإمام ابن تيمية : الصواب أن من رد الخبر الصحيح ، كما كانت الصحابة ترده ، لاعتقاده غلط الناقل أو كذبه ، لاعتقاد الراد أن الدليل قد دل على أن الرسول لا يقول هذا ، فإن هذا لا يكفر ولا يفسق ، وإن لم يكن اعتقاده مطابقاً ؛ فقد ردَّ غير واحد من الصحابة غير واحد من الأخبار التي هي صحيحة عند أهل الحديث . انتهى .
وذكر الغزاليّ في " الإحياء " في كتاب آداب تلاوة القرآن في الباب الثالث في أعمال الباطن في التلاوة ، أن من أركانها التخلي عن موانع الفهم . قال : فإن أكثر الناس مُنِعوا عن فهم معاني القرآن لأسباب وحجب أسدلها الشيطان على قلوبهم ، فعميت عليهم عجائب أسرار القرآن ، وحجُب الفهم أربعةٌ . إلى أن قال :
وثانيها : أن يكون مقلداً لمذهب سمعه بالتقليد ، وجمد عليه ، وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة ، فهذا شخص قيَّده معتقده عن أن يجاوزه ، فلا يمكنه أن يخطر بباله غير معتقده ، فصار نظره موقوفاً على مسموعه ، حمل عليه شيطان التقليد حملة ، وقال : كيف يخطر هذا ببالِك ، وهو خلاف معتقد آبائك ؟ فيرى أن ذلك غرور الشيطان فيتباعد منه ، ويحترز عن مثله . ثم قال : رابعها : أن يكون قرأ تفسيراً ظاهر ، واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما ، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي ، وأن من فسَّر القرآن برأيه فقد تبوَّأ مقعده من النار ، فهذا أيضاً من الحجب العظيمة . ثم قال :
وسنبين معنى التفسير بالرأي ، وأن ذلك لا يناقض قول عليّ رضي الله عنه : إلا أن يؤتي اللهُ عبداً فهماً في القرآن . وأنه لو كان المعنى هو الظاهر المنقول ، لما اختلف الناس فيه .
ثم ذكر بعدُ - عليه الرحمة - أن النهي عن التفسير بالرأي ينزل على أحد الوجهين :
أحدهما : أن يكون له في الشيء رأي ، وإليه ميل من طبعه وهواه ، فيتأول القرآن على وفق رأيه وهواه ، ليحتج على تصحيح غرضه ، كالمحتج على تصحيح بدعة بتأويل يخترعه تلبيساً على خصمه ، وكالجاهل المقتحم يتأول ما شاء هواه .
وثانيهما : أن يتسارع إلى تأويل بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب التنزيل . انتهى .
ويأتي مثل البحث في كثير من المواضع التي فسرها بعض السلف بشيء ، أو روى فيها ما أنكره غيره لما قام لديه ، ولا ملام في معترك الأفهام ، وبالله التوفيق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } [ 3 ]
{ وَكَذَّبُوا } أي : بآيات الله بعد ما أتتهم حقيقتها { وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ } أي : ما زيَّن لهم من دفع الحق مما وجدوا عليه آبائهم { وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } أي : كل أمر لابد أن يصير إلى غاية يستقرُّ عليها . تعريض بأن الرسول لا بد أن يستقر إلى غاية ، هي الظهور والنصرة ، وأمر مكذبيه إلى الخذلان والشقاوة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } [ 4 - 5 ]
{ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء } أي : عن القرون الخالية ، والحقائق الكونية ، مما يستحيل أن يأتي به أميٌّ غيره صلوات الله عليه { مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } أي : مرتدع عما هم مقيمون عليه من التكذيب والغفلة واللهو .
{ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } أي : بلغت غايتها من الإحكام والتنزه عن الخلل ، ومن الاشتمال على البراهين القاطعة والحجج الساطعة ، وهو بدل من : ما ، أو خبر محذوف ، أي : هو حكمة بالغة { فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } جمع نذير . و ما نافية ، أو استفهامية ، أي : أي : غناء تغنى عن قوم آثروا الضلالة على الهدى ، فأعرضوا عنه ، وكذبوا به . وجوز أن تكون { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } جملة مستأنفة للتعجب من حالهم ، مع ما جاءهم مما يقود إلى الإيمان بادئ بدء . وهو ما يفهم من تأويل ابن كثير ، وعبارته :
{ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } أي : في هدايته تعالى لمن هداه ، وإضلالِه لمن أضله { فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } يعني أي : شيء تغني النذر عمن كتب الله عليه الشقاوة وختم على قلبه ، فمن ذا الذي يهديه من بعد الله ؟ و هذه الآية كقوله تعالى :
{ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [ النحل : 9 ] ، وكذا قوله تعالى :
{ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 101 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ * خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ* م ُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } [ 6 - 8 ]
{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فتول عنهم } أي : اصفح عن أذاهم ، وانتظر ما يأتيهم من الوعيد الشديد ، كما قال :
{ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ } أي : داعي الله إلى موقف القيامة ، وهو ملَك . أو الدعاء تمثيل للإعادة كالأمر في قوله { كُن فَيَكُونُ } [ البقرة : 117 ] تمثيل للإبداء ، والداعي هو الله تعالى :
{ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ } أي : فظيع تنكره النفوس ، وهو موقف الحساب والجزاء والبلاء .
{ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ } أي : من الذل والصغار { يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ } أي : قبورهم { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } أي : في الكثرة والتموج والانتشار . الجراد مثل في الكثرة
{ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ } أي : مسرعين مادّي أعناقهم إليه { يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } أي : لشدة أهواله و { يَوْمَ يَدْعُ } ظرف لـ { يَقُولُ } وقيل : بمضمر ، وقيل : بـ { يَخْرُجُونَ } والأول أظهر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ } [ 9 ]
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ } أي : زجِر عن الإنذار والتبليغ بشدة وقساوة ، كما يدل عليه صيغة : افتعل .
قال الناصر : وليس قوله { فَكَذَّبُوا } الثاني تكراراً ، لأن الأول مطلق ، والثاني مقيد . وهو كقوله في السورة { فَتَعَاطَى فَعَقَرَ } [ القمر : 29 ] ، فإن تعاطيه هو نفس عقره ، ولكن ذكره من جهة عمومه ، ثم من ناحية خصوصه إسهاباً ، وهو بمثابة ذكره مرتين . وجواب آخر هنا وهو أن المكذب أولاً محذوف دلَّ عليه ذكر نوح ، فكأنه قال : كذبت قوم نوح نوحاً ، ثم جاء بتكذيبهم ثانياً مضافاً إلى قوله { عَبْدِنَا } فوصف نوحاً بخصوص العبودية ، وأضافه إليه إضافة تشريف ؛ فالتكذيب المخبر عنه ثانياً أبشع عليهم من المذكور أولاً ، لتلك اللمحة . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ } [ 10 ]
( فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ) أي : غلبني قومي تمرداً وعتواً فلم يسمعوا مني واستحكم اليأس منهم ، فانتقِم منهم بعذاب ترسله عليهم .
ثم أشار إلى استجابته تعالى دعاءه : بالطوفان الذي هلكوا فيه بقوله سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ * وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } [ 11 - 16 ]
{ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ } أي : مندفق . وفيه استعارة تمثيلية ، بتشبيه تدفع المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت لها أبواب السماء ، وشق لها أديم الخضراء .
{ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً } أي : وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر { فَالْتَقَى الْمَاء } أي : ماء السماء وماء الأرض { عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } أي : على حال قدره الله وقضاه ، وهو هلاك قوم نوح .
{ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } يعني السفينة . أقيمت صفاتها مقامها ، لتأديتها مؤداها ، وهو من بديع الكلام ، كما بسطه في " الكشاف " .
{ وَدُسُرٍ } جمع دِسار بكسر الدال ، أو دَسْر كسقف وسقف وهي أضلاعها ، أو حبالها التي تشد فيها أو مساميرها .
{ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } أي : بمرأى منا . كناية عن حفظها بحفظه تعالى وعنايته . { جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ } أي : كفَر به ، وهو الله تعالى ، أو نوح وما جاء به ، فهو من الكفر ضد الإيمان . أو هو نوح عليه السلام لأنه نعمة كفروها ، فهو معتد بنفسه ، استعير لنوح النعمة بطريق الكناية ، ونسب الكفران تخييلاً أو حقيقة .
{ وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا } أي : قصة نوح { آيَةٍ } أي : جعلناها عبرة يُعتبر بها { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } ؟ أي : معتبر ومتعظ . وأصله : مذتكر .
{ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } أي : عذابي لهؤلاء الكفرة ، قومِ نوح ، وإنذاراتي بما أحللت بهم ، ليحذر أمثالهم وينتهوا عما يقترفونه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [ 17 ]
{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ } أي : سهَّلناه للادكار والاتعاظ ، لكثرة ما ضرب فيه من الأمثال الكافية الشافية { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أي : فيعتبر بما فيه ، ويثوب إلى رشده .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ * تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [ 18 - 22 ]
{ كَذَّبَتْ عَادٌ } أي : نبيَّهم هوداً عليه السلام ، بمثل ما كذبت به قوم نوح { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } أي : شديد الهبوب ، لها صرير ، أو باردة ، { فِي يَوْمِ نَحْسٍ } أي : شرٍّ وشؤم عليهم { مُّسْتَمِرٌّ } أي : استمر عليهم ودام حتى أهلكهم ، أو شديد المرارة لعظم بلائه, { تَنزِعُ النَّاسَ } أي : تقلعهم عن أماكنهم .
{ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } أي : أصول نخل منقلع من مغارسه . وأصل { مُّنقَعِرٍ } ما أخرج من القعر { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } كرره للتهويل وللتنبيه على فرط عتوهم ، أي : فكيف كان عذابي لقومه وإنذاري لهم على لسانه ؟ { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } ؟(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * فَقَالُوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ * إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ * وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ * فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [ 23 - 32 ]
{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ } أي : بما أنذرهم به نبيُّهم صالح عليه السلام,
{ فَقَالُوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ } أي : جنونٍ ، أو عناء . فهو اسم مفرد . وقيل : جمع سعير ، كأنهم عكسوا عليه ، فرتبوا على اتباعهم إياه ما رتبه على اتباعهم له .
قال الزمخشريّ قالوا : { أَبَشَراً } إنكاراً لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية ، وطلبوا أن يكون من جنس أعلى من جنس البشر ، وهم الملائكة . وقالوا { مِّنَّا } لأنه إذا كان منهم كانت المماثلة أقوى . وقالوا { وَاحِداً } إنكاراً لأن تتبع الأمة رجلاً واحداً ، أو أرادوا واحداً من أفنائهم ليس بأشرفهم وأفضلهم ، ويدل عليه قولهم { أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا } يعنون : الوحي والنبوة ، أي : وفينا من هو أحق بها على زعمهم ، لكونه أعزُّ مالاً ونفراً { بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } أي : متكبر ، حمله كبره على استتباعنا له .
{ سَيَعْلَمُونَ غَداً } أي : عند نزول العذاب بهم ، أو يوم القيامة { مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ } أي : المتكبر عن الحق ، البطر له .
{ إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ } أي : آية وحجَّة لصالح على قومه امتحاناً لهم وابتلاء { فَارْتَقِبْهُمْ } أي : انتظرهم وتبصر ما هم صانعوه بها { وَاصْطَبِرْ } أي : على دعوتهم .
{ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء } أي : الذي يردونه لشرب مواشيهم { قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ } أي : مقسوم بينهم ، لها شرب يوم ، ولهم شرب يوم { كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ } أي : يحضره صاحبه في نوبته . و الشرب النصيب من الماء .
ثم أشار تعالى إلى عتوهم عن أمر ربهم بقوله : { فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى } فتناول الناقة بيده { فَعَقَر } أي : فعقرها وقتلها .
{ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ } أي : كالشجر اليابس المتكسر الذي يتخذه من يعمل الحظيرة للغنم ونحوها ، أو كالحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء . وقرئ بفتح الظاء ، اسم مكان ، أي : كهشيم الحظيرة ، أو الشجر المتخذ لها . وهو تشبيه لإهلاكهم وإفنائهم ، وأنهم بادوا عن آخرهم لم تبق منهم باقية ، وخمدوا وهمدوا كما يهمد وييبس الزرع والنبات بعد خضرة ورقه وحسن نباته .
قال ابن زيد : كانت العرب يجعلون حظاراً على الإبل والمواشي من يبس الشوك .
وعن سفيان : الهشيم ، إذا ضربت الحظيرة بالعصا ، تهشم ذاك الورق فيسقط, والعرب تسمي كل شيء كان رطباً فيبس هشيماً { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ * وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ * وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ * فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [ 33 - 40 ]
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً } أي : ملَكاً يرميهم بالحصباء والحجارة ، أو ريحاً تحصبهم بالحجارة ، أي : ترميهم { إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ } أي : في سحر . أو الباء للملابسة ، أو المصاحبة وذلك أنه تعالى أوحى إليهم أن يخرجوا من آخر الليل ، فنجوا مما أصاب قومهم . ولم يؤمن بلوط من قومه أحد ، ولا رجل واحد ، حتى ولا امرأته ، وقد أصابها ما أصابهم ، وخرج نبي الله لوط عليه السلام وبنات له ، من بين أظهرهم سالمين لم يمسسهم سوء .
{ نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا } أي : إنعاماً منها ، وهو علة لـ { نَجَّيْنَا } { كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ } أي : فأطاع ربه ، وانتهى إلى أمره ونهيه . و الشكر : صرف العبد جميع ما أنعم عليه ، إلى ما خلق لأجله .
{ وَلَقَدْ أَنذَرَهُم } أي : لوط { بَطْشَتَنَا } أي : أخذتنا بالعذاب { فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ } أي : بإنذاراته ، تكذيباً له .
{ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ } أي : طالبوه بإتيان الفاحشة معهم ، وهم الملائكة الذين وردوا عليه في صورة شباب مُرد حِسان ، محنة من الله بهم ، فأضافهم لوط عليه السلام ، وبعثت امرأته العجوز السوء إلى قومها تعلمهم بأضيافه عليه السلام ، فأقبلوا يهرعون إليه من كل مكان ، فتلقاهم يناشدهم الله ألا يخزوه في ضيفه ، فأبوا عليه ، وجاؤوا ليدخلوا عليه ، فأعمى الله أبصارهم ، فلم يروهم ، كما قال : { فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ } أي : يدوم بهم إلى النار .
{ ذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } قال الزمخشريّ : فإن قلت : ما فائدة تكرير قوله { فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ } { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا } إلخ ؟ قلت : فائدته أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ادّكاراً واتعاظاً ، وأن يستأنفوا تنبهاً واستيقاظا ، إذا سمعوا الحث على ذلك ، والبعث عليه ، وأن يقرع لهم العصا مرات ، ويقعقع لهم الشن تارات ، لئلا يغلبهم السهو ، ولا تستولي عليهم الغفلة . وهكذا حكم التكرير كقوله { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] ، عند كل نعمة عدها في سورة الرَّحْمَنِ . وقوله { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } [ المرسلات : 15 ] عند كل آية أوردها في سورة المرسلات . وكذلك تكرير الأنباء والقصص في أنفسه ، لتكون العبر حاضرة للقلوب ، مصورة للأذهان ، مذكورة غير منسية في كل أوان . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ } [ 41 - 42 ]
{ وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ } يعني موسى وهارون ، وجمعها للتعظيم ، أو هو جمع نذير بمعنى الإنذار .
{ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا } يعني الآيات التسع ، أو الأدلة والحجج التي أتتهم ناطقة بوحدانيته تعالى .
{ فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ } أي : عاقبناهم عقوبة شديدٍ لا يغالب { مُقْتَدِرٍ } أي : عظيم القدرة لا يعجزه شيء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } [ 43 - 44 ]
{ أَكُفَّارُكُمْ } يا معشر قريش { خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ } أي : الكفار المعدودين الذين حلت النقمة حتى يأمنوا جانبها { أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ } أي : براءة من عقابه تعالى ، وأمان منه ، مع أنكم على شاكلة من مضى نبؤهم { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } أي : ممتنع لا يُرام ، أو منتصر ممن أراد حربنا وتفريق كلمتنا ، أو متناصر ، ينصر بعضنا بعضاً . فالافتعال بمعنى التفاعل ، كالاختصام بمعنى التخاصم . وإفراد { مُنتَصِرً } مراعاة للفظ { جَمِيع } لخفة الإفراد ، ولرعاية الفاصلة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } [ 45 - 46 ]
{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ } يعني جمع كفار قريش { وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } أي : يولون أدبارهم المؤمنين بالله عند انهزامهم . وإفراد { الدُّبُرَ } لإرادة الجنس ، أو رعاية الفواصل ، ومشاكلة قرائنه . وقد وقع ذلك يوم بدر ، وهو من دلائل النبوة ؛ لأن الآية مكية ، ففيها إخبار عن الغيب ، وهو من معجزات القرآن .
{ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ } قال ابن جرير : ما الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون من أنهم لا يبعثون بعد مماتهم ، بل الساعة موعدهم للبعث والعقاب .
{ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } أي : أعظم داهية ، وهي الأمر المنكر الذي لا يهتدى لدوائه . وأمرّ مذاقاً ، أو أشد عليهم من الهزيمة التي سيهزمونها ، إذا التقوا مع المؤمنين للقتال .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ } [ 47 - 48 ]
{ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ } أي : عن الحق في الدنيا { وَسُعُرٍ } أي : نيران في الآخرة .
وقال القاشانيّ : أي : في ضلال عن طريق الحق ، لعمى قلوبهم بظلمة صفات نفوسهم . و { سُعُرٍ } أي : جنون ووله ، لاحتجاب عقولهم عن نور الحق بشوائب الوهم ، وحيرتها في الباطل .
{ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ } أي : يجرّون عليها .
{ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ } أي : حرّها وألمها . والاستعارة في المس تحقيقية . أو في { سَقَرَ } مكنية ، وفي المسّ تخييلية . أو المس مجاز مرسل بعلاقة السببيّة للألم . واستعارة الذوق مشهورة ، واستعمال الذوق في المصائب بمنزلة الحقيقة . و { سَقَرَ } من أسماء جهنم ، أعاذنا الله منها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [ 49 ]
{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } أي : بمقدار استوفى فيه مقتضى الحكمة ، وترتب الأسباب على مسبباتها ، ومنه خلق دار العذاب ، لما كسبت الأيدي ، وإذاقة ألمها جزاء الزيغ عن الهدى . وهذه الآية كآية { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [ الفرقان : 2 ] ، وآية { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَ ى *الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [ الأعلى : 1 - 3 ] ، أي : قدر قدراً ، وهدى الخلائق إليه . ولا مانع أن تكون هذه الآية وما بعدها إلفاتاً لعظمته تعالى ، وكبير قدرته ، وأن من كانت له تلك النعوت المثلى لجدير أن يعبد وحده ، ويرهب بأسه ، ويتقى بطشه ، لا سيما وقد صدَع الداعي بإنذاره ، ومن أنذر فقد أعذر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [ 50 ]
{ وَمَا أَمْرُنَا } أي : الذي به الإيجاد { إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } أي : كلمة واحدة يكون بها كل شيء ، بمقتضى استعداده ، كلمح بالبصر في السرعة . قال القاشانيّ :
{ إِلَّا وَاحِدَةٌ } أي : تعلق المشيئة الأزلية الموجبة لوجود كل شيء في زمان معيّن ، على وجه معلوم ، ثابت في لوح القدرة ، المسمّى في الشرع بـ : كن ، فيجب وجوده في ذلك الزمان ، على ذلك الوجه دفعة . انتهى .
وقيل : معنى الآية ، معنى قوله تعالى :
{ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ } [ النحل : 77 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [ 51 ]
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ } أي : أشباهكم في الكفر من الأمم السالفة .
قال الشهاب : أصل معنى الأشياع جمع شيعة ، وهم من يتقوى بهم المرء من الأتباع . ولما كانوا في الغالب من جنس واحد ، أريد به ما ذكر ، إما باستعماله في لازمه ، أو بطريق الاستعارة .
{ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أي : متعظ بذلك ينزجر به .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ } [ 52 ]
{ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ } أي : الكتب التي أحصتها الحَفَظة عليهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ } [ 53 ]
{ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ } أي : من الأعمال { مُسْتَطَرٌ } أي : مسطور لا يمحى ولا ينسى ، كما قال تعالى :
{ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [ الكهف : 49 ] ، وقوله سبحانه : { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُورً ا *اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [ الإسراء : 13 - 14 ] .
وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : < يا عائشة ! إياك ومحقرات الذنوب ، فإن لها من الله طالباً > .
قال ابن كثير : ورواه النسائيّ وابن ماجه من طريق سعيد بن مسلم بن ماهك المدنيّ ، وثّقه أحمد وابن معين وأبو حاتم وغيرهم . وقد رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة سعيد بن مسلم هذا ، من وجه آخر . ثم قال سعيد : فحدّثت بهذا الحديث عامر بن هشام فقال لي : ويحك يا سعيد ! لقد حدّثني سليمان بن المغيرة أنه عمل ذنباً فاستصغره ، فأتاه آت في منامه ، فقال له : يا سليمان !
~لا تحقِرَنَّ من الذُّنوبِ صَغيرا إنَّ الصغير غَداً يعودُ كبيراَ
~إنّ الصغيرَ ولَو تَقادَمَ عَهْدُهُ عند الإله مُسَطّرٌ تسطيراَ
~فازجُرْ هواك عَنِ الْبطالَة لا تكن صعبَ القياد وشَمِّرَنْ تَشْميرا
~إنّ المُحِبّ إذا أحبَّ إِلَهَهُ طارَ الفؤادُ وأُلْهِمَ التفكيرا
~فاسأل هِدايتك الإله فَتَتَّئدْ فكَفى بِرَبِّك هَادياً وَنصيِراً(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } [ 54 - 55 ]
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ } أي : الذين اتقوا عقاب الله بطاعته وأداءِ فرائضه ، واجتناب نواهيه ، { فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } أي : أنهار . واكتفى باسم الجنس المفرد لرعاية الفواصل . وقرئ بسكون الهاء ، وضم النون ، وقرئ بضمهما .
{ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ } قال ابن جرير : أي : في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم .
وقال الزمخشريّ : في مكان مرضي . قال شراحه : فالصدق مجاز مرسل في لازمه ، أو استعارة . وقيل المراد صدق المبشِّر به ، وهو الله ورسوله . أو المراد أنه ناله مَن ناله بصدقه وتصديقه للرسل ، فالإضافة لأدنى ملابسة .
{ عِندَ مَلِيكٍ } بمعنى مالك . قال الشهاب : وليس إشباعاً ، بل هي صيغة مبالغة كالمقتدر { مُّقْتَدِرً } قال القاشانيّ : أي : يقدر على تصريف جميع ما في ملكه على حكم مشيئته ، وتسخيره على مقتضى إرادته لا يمتنع عليه شيء .
قال الشهاب : في تنكير الأسمين الكريمين إشارة إلى أن ملكه وقدرته لا تدري الأفهام كنههما ، وأن قربهم منه بمنزلة من السعادة والكرامة ، بحيث لا عين رأت ولا أذن سمعت ، مما يجل عن البيان وتكل دونه الأذهان .(/)
سورة الرحمن
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ } [ 1 - 2 ]
{ الرحمن علم القران } أي : بصّر به ما فيه رضاه ، وما فيه سخطه ، برحمته ليطاع باتباع ما يرضيه ، وعمل ما أمر به ، وباجتناب ما نهى عنه ، وأوعد عليه ، فينال جزيل ثوابه ، وينجى من أليم عقابه .
قال القاضي : لما كانت السورة مقصورة على تعداد النعم الدنيوية والأخروية ، صدّرها بـ : { الرَّحْمَنِ } وقدم ما هو أصل النعم الدينية وأجلّها ، وهو إنعامه بالقرآن ، وتنزيله وتعليمه ، فإنه أساس الدين ، ومنشأ الشرع ، وأعظم الوحي ، وأعز الكتب ، إذ هو بإعجازه واشتماله على خلاصتها ، مصدق لنفسه ، ومصداق لها .
ثم أتبعه بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ خَلَقَ الْإِنْسَاْن * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } [ 3 - 4 ]
{ خلق الْإِنْسَاْن علمه البيان } إيماء بأن خلق البشر ، وما تميز به عن سائر الحيوان من البيان - وهو التعبير عما في الضمير ، وإفهام الغير - لما أدركه لتلقي الوحي, وتعرف الحق ، وتعلم الشرع ، أي : فإذا كان خلقهم إنما هو في الحقيقة لذلك اقتضى اتصاله بالقرآن ، وتنزيله الذي هو منبعه ، وأساس بنيانه .
قال الزمخشريّ : وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد ، كما تقول : زيد أغناك بعد فقر ، أعزك بعد ذل ، كثرك بعد قلة ، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد ، فما تنكر إحسانه ؟ وهذا - كما قال الشهاب - مصحح . والمرجح الإشارة إلى أن كلاً منها ربما مستقلة تقتضي الشكر ، ففيه إيماء إلى تقصيرهم في أدائه . ولو عطفت مع شدة اتصالها وتناسبه ، ربما توهم أنها كلها نعمة واحدة .
وقال الأصفهانيّ في " الذريعة " : لما كان النطق أشرف ما خص به الْإِنْسَاْن ، فإن صورته المعقولة التي بها باين سائر الحيوان ، قال عز وجل : { خلق الْإِنْسَاْن علمه البيان } ولم يقل : وعلمه ؛ إذ جعل قوله : { عَلِّمُهُ } تفسيراً لقوله : { خُلِقَ الْإِنْسَاْن } تنبيهاً أن خلقه إياه هو تخصيصه بالبيان الذي لو توهم مرتفعاً لكانت الْإِنْسَاْنية مرقفعة ، ولذلك قيل : ما الْإِنْسَاْن لولا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة . وقيل : المرء مخبوء تحت لسانه .
قال الشاعر :
~لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤادُهُ فلم يبق إلا صورةُ اللحم والدّمِ
أي : إذا توهم ارتفاع النطق الذي هو باللسان ، والقوة الناطقة التي هي بالفؤاد ، لم يبق إلا صورة اللحم والدم . فإذا كان الْإِنْسَاْن هو اللسان فلا شك أن من كان أكثر منه حظاً كان أكثر منه إنسانية . والصمت من حيث ما هو صمت مذموم ، فذلك من صفات الجمادات ، فضلاً عن الحيوانات . وقد جعل الله تعالى بعض الحيوانات بلا صوت ، وجعل لبعضها صوتاً بلا تركيب ، ومن مدح الصمت فاعتباراً بمن يسيء في الكلام ، فيقع منه جنايات عظيمة في أمور الدين والدنيا ، فإذا ما اعتبرا بأنفسهما ، فمحال أن يقال في الصمت فضل ، فضلاً أن يخاير بينه وبين النطق . وسئل حكيم عن فضلهما فقال : الصمت أفضل حتى يحتاج إلى النطق . وسئل آخر عن فضلهما فقال : الصمت عن الخنا أفضل من الكلام بالخطأ . وعنه أخذ الشاعر :
~الصَّمتُ ألْيِقُ بالفَتى من منطقٍ في غَيْرِ حينِهْ
انتهى . وقد جوّز - كما حكاه الشهاب - أن يكون { الرَّحْمَنِ } خبر محذوف ، أي : الله الرحمن ، وما بعده مستأنف لتعديد نعمه . ثم قال : و { عَلَّمَ } من التعليم ، ومفعوله مقدر ، أي : علّم الْإِنْسَاْن ، لا جبريل أو محمداً عليهما الصلاة والسلام ، وليس من العلامة من غير تقدير ، كما قيل ، أي : جعله علامة وآية لمن اعتبر ، لبُعْدِهِ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ } [ 5 - 7 ]
{ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } أي : يجريان بحساب معلوم مقدّر في بروجهما ومنازلهما ، به تتسق أمور الكائنات السفلية ، وتختلف الفصول والأوقات ، ويعلم السنون والحساب .
{ وَالنَّجْمِ } أي : النبات الذي ينجم ، أي : يطلع من الأرض ولا ساق له .
{ وَالشَّجَرَ } أي : الذي له ساق { يَسْجُدَانِ } أي : ينقادان لله فيما يريد بهما طبعاً ، انقياد الساجد من المكلفين طوعاً . فهو استعارة مصرحة تبعيّة ، شبّه جريهما على مقتضى طبيعته ، بانقياد الساجد لخالقه والجملة - إن كانت خبراً عن الرحمن لعطفها على الخبر - فالرابط محذوف لوضوحه ، أي : بحسبانه ويسجدان له . أو مستأنفة ، فالقطع لأنها مسوقة لغرض آخر . وإدخال العاطف بينهما لما أن الشمس والقمر سماويّان ، والنجم والشجر أرضيّان ، فبينهما مناسبة بالتقابل ، وبانقياد الكل لإرادته .
{ وَالسَّمَاء رَفَعَهَا } أي : خلقها مرفوعة .
{ وَوَضَعَ الْمِيزَانَ } أي : العدل بين خلقه في الأرض .
قال القاشانيّ : أي : خفض ميزان العدل إلى أرض النفس والبدن ، فإن العدالة هيئة نفسانية ، لولاها لما حصلت الفضيلة الْإِنْسَاْنية . ومنه الاعتدال في البدن الذي لو لم يكن لما وجد ولم يبق . ولمّا استقام أمر الدين والدنيا بالعدل واستتبّ كمال النفس والبدن به ، بحيث لولاه لفسد أمر بمراعاته ومحافظته قبل تعديد الأصول بتمامها ، لشدّة العناية به ، وفرط الاهتمام بأمره . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ } [ 8 - 9 ]
{ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ } أي : بالإفراط عن حدّ الفضيلة والاعتدال ، فيلزم الجور الموجب للفساد . و أنْ مصدرية على تقدير الجارّ ، أي : لئلا تطغوا فيه ، أو مفسرة لما في وضع الميزان من معنى القول ، لأنه بالوحي وإعلام الرسل .
{ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ } أي : الاستقامة في الطريقة ، وملازمة حدّ الفضيلة ، ونقطة الاعتدال في جميع الأمور ، وكل القوى .
{ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ } قال القاشانيّ : أي : بالتفريط عن حدّ الفضيلة .
قال بعض الحكماء : العدل ميزان الله تعالى ، وضعه للخلق ، ونصبه للحق . انتهى .
وممن فسّر { الْمِيزَانَ } في الآية بالعدل مجاهد وتبعه ابن جرير وكذا ابن كثير ، ونظر لذلك بآية { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } [ الحديد : 25 ] ، وجوّز أن يراد بالميزان ما يعرف به مقادير الأشياء من ميزان ومكيال ونحوهما . ومنه قال السيوطيّ في " الإكليل " : فيه وجوب العدل في الوزن ، وتحريم البخس فيه ، وعليه فوجه اتصال قوله : { وَوَضَعَ الْمِيزَانَ } بما قبله ، هو أنه لما وصف السماء بالرفعة التي هي مصدر القضايا والأقدار ، أراد وصف الأرض بما فيها ، مما يظهر به التفاوت ، ويعرف به المقدار ، ويسوّى به الحقوق والمواجب ، كذا ارتآه القاضي ، والله أعلم .
وفي الحقيقة ، الثاني من أفرد الأول ، وأخذ اللفظ عامّاً أولى وأفيد .
ومن اللطائف التي يتسع لها نظم الآية الكريمة قول الرازيّ :
{ الْمِيزَانَ } ذكر ثلاث مرات ، كل مرة بمعنى ، فالأول : هو الآلة ، والثاني : للمفعول بمعنى المصدر ، والثالث : للمفعول . قال : وهو كالقرآن ، ذكر بمعنى المناسبة ، قوله تعالى :
{ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } [ القيامة : 18 ] ، وبمعنى المقروء في قوله : { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } [ القيامة : 17 ] ، وبمعنى الكتاب الذي فيه المقروء في قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ } [ الرعد : 31 ] ، فكأنه آلة ومحل له ، وفي قوله تعالى :
{ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } [ الحجر : 87 ] . ثم قال : وبين القرآن والميزان مناسبة ، فإن القرآن فيه من العلم ما لا يوجد في غيره من الكتب ، والميزان فيه من العدل مالا يوجد في غيره من الآلات . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 10 - 13 ]
{ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ } أي : مهّدها للخلق { فِيهَا فَاكِهَةٌ } أي : صنوف مما يتفكّه به { وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ } أي : أوعية الطلع ، وهو الذي يطلع فيه العنقود ، ثم ينشقّ عن العقود فيكون بُسراً ثم رطباً ، ثم ينضج ويتناهى نفعه واستواؤه ، وإنمامختلفة بالذكر ، لما فيها من الفوائد العظيمة ، على ما عرف من اتخاذ الظروف منها ، والانتفاع بجمّارها وبالطلع والبسر والرطب وغير ذلك ؛ فثمرتها في أوقات مختلفة كأنها ثمرات مختلفة ، فهي أتم نعمة بالنسبة إلى غيرها من الأشجار ، فلذا ذكر النخل باسمه ، وذكر الفاكهة دون أشجارها ، فإن فوائد أشجارها في عين ثمارها .
{ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ } أي : وفيها الحبّ ، وهو حَبّ البُرّ والشعير ونحوهما { ذُو الْعَصْفِ } أي : الورق اليابس كالتبن { وَالرَّيْحَانُ } أي : الورق الأخضر ، تذكير بالنعمة به وبورقه في حاليته . هذا على قراءة : { الريحان } بالجرّ . وقرئ بالرفع ، وهو الزرع الأخضر مطلقاً ، سمي به تشبيهاً له بما فيه الروح ؛ لأن حياته النباتية في نضرة خضرته .
قال ابن عباس : الريحان خضر الزرع .
وقال القرطبيّ : الريحان ، إما فيعملان ، من روح ، فقلبت الواو ياء ، وأدغم ثم خفف ، أو فعلان ، قلبت واوه ياء للتخفيف ، أو للفرق بينه وبين الروحان ، وهو ما له روح .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } قال أبو السعود : الخطاب للثقلين المدلول عليهما بقوله تعالى :
{ لِلْأَنَامِ } [ الرحمن : 10 ] ، وسينطلق به قوله تعالى :
{ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ } [ الرحمن : 31 ] . والفاء لترتيب الإنكار ، والتوبيخ على فصل من فنون النعماء ، وصنوف الآلاء الموجبة للإيمان والشكر حتماً . والتعرّض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية الكلية والتربية مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد النكير ، وتشديد التوبيخ . ومعنى تكذيبهم بآلائه تعالى كفرهم بها ، إما بإنكار كونه نعمة في نفسه ، كتعليم القرآن ، وما يستند إليه من النعم الدينية ، وإما بإنكار كونه من الله تعالى ، مع الاعتراف بكونه نعمة في نفسه ، كالنعم الدنيوية الواصلة إليهم بإسناده إلى غيره تعالى استقلالاً ، أو اشتراكاً صريحاً ، أو دلالة ، فإن إشراكهم لآلهتهم به تعالى في العبادة من دواعي إشراكهم لها به تعالى فيما يوجبها . والتعبير عن كفرهم المذكور بالتكذيب ، لما أن دلالة الآلاء المذكورة على وجوب الإيمان والشكر ، شهادة منها بذلك ، فكفرهم تكذيب بها لا محالة ، أي : فإذا كان الأمر كما فصل ، فبأي فرد من أفراد آلاء مالِككما ومربيكما بتلك الآلاء تكذبان ، مع أن كلاً منهما ناطق بالحق ، شاهد بالصدق . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 14 - 16 ]
{ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ } قال أبو السعود : تمهيد للتوبيخ على إخلالهم بمواجب شكر النعمة المتعلقة بذاتي كل واحد من الثقلين . و الصلصال الطين اليابس الذي له صلصلة ، و الفخار الخزف . وقد خلق الله تعالى آدم عليه السلام من تراب جعله طيناً . ثم حمأً مسنوناً ، ثم صلصالاً ، فلا تنافي بين الآية الناطقة بأحدها ، وبين ما نطق به بأحد الآخرين .
{ وَخَلَقَ الْجَانَّ } أي : الجن ، أو أبا الجن ، { مِن مَّارِجٍ } أي : لهب صاف .
{ مِّن نَّارٍ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : مما أفاض عليكما في تضاعيف خلقكما من سوابغ النِّعَم ، ومما أظهره لكما بالقرآن .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 17 - 18 ]
{ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ } أي : مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما ، أو مشرقي الشمس والقمر ومغربيهما .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : مما فيهما من النعم والفوائد التي لا تحصى ، كاختلاف الفصول ، وحدوث ما يناسب كل فصل فيه من الخيرات والبركات التي بها قوام العالم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 19 - 21 ]
{ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ } أي : أرسلهما ، من مرج فلان دابته ، إذا خلاّها وتركها . والمعنى : أرسل وأجرى البحر الملح ، والبحر العذب { يَلْتَقِيَانِ } أي : يتجاوران .
{ بَيْنَهُمَا بَرْزَخً } أي : حاجز من قدرة الله تعالى وبديع صنعه { لَّا يَبْغِيَانِ } أي : لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة ، وإبطال الخاصية .
قال الشهاب : يعني أنهما إذا دخل أحدهما في الآخر قد يجرى فيه فراسخ ولا يتلاشى ويضمحل ، حتى يغير أحدهما طعم الآخر ولونه ، كما نشاهده .
وقيل : المراد بحرَي فارس والروم ، فإنهما يلتقيان في البحر المحيط ، وبينهما برزخ من الأرض ، لا يتجاوزان حديهما بإغراق ما بينهما ، وهو مروي عن قتادة والحسن ، قال الشهاب : لكنه أورد عليه أنه لا يوافق قوله تعالى :
{ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } [ الفرقان : 53 ] الآية ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً .
واختار ابن جرير ما روي عن ابن عباس وغيره أنه عني به بحر السماء وبحر الأرض وذلك أن الله قال : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] ، واللؤلؤ والمرجان إنما يخرج من أصداف بحر الأرض عن قطر ماء السماء ، فمعلوم أن ذلك بحر الأرض وبحر السماء . انتهى .
وفيه ما في الذي قبله من عدم موافقته لتلك الآية ، والأصل في الآي التشابه .
زاد ابن كثير : إن ما بين السماء والأرض لا يسمى برزخاً ، وحجراً محجوراً ؛ فالأولى هو الأول .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : مما في البحرين وخلقهما من الفوائد ، وقد أشار إلى بعضهما بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 22 - 23 ]
{ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } أي : كبار الدر وصغاره . أو المرجان : الخرز الأحمر المعروف . وإنما قيل : { مِنْهُمَا } مع أنه يخرج من أحدهما ، وهو الملح ، لأنه لامتزاجهما يكون خارجاً منهما حقيقة ، أو أنه نسب لهما ما هو لأحدهما ، كما يسند إلى الجماعة ما صدر من واحد منهم . قال الناصر : وهذا هو الصواب ، ومثله : { لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] ، وإنما أريد إحدى القريتين ، وكما يقال : هو من أهل مصر ، وإنما هو من محلة منها . انتهى .
قال الشهاب : ولا يخفى أن هذا - وإن اشتهر- خلاف الظاهر ؛ فإما أن يكون ضمير { مِنْهُمَا } لبحري فارس والروم ، أو يقال : معنى خروجه منهما ليس أنه متكون فيهما ، بل أنهما يحصلان في جانب من البحار انصبّت إليها المياه العذبة . انتهى . والخطب سهل .
ولما كان خروج هذين الصنفين نعمة على الناس ، لتحلّيهم بهما ، كما تشير له آية : { وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } [ فاطر : 12 ] ، قال سبحانه :
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 24 - 25 ]
وقوله تعالى : { وَلَهُ الْجَوَارِ } يعني السفن ، جمع جارية { الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ } قرئ بكسر الشين ، بمعنى الظاهرات السير اللاتي تقبلن وتدبرن ، وبفتحها بمعنى المرفوعات القلاع اللاتي تقبل بهن وتدبر . و الأعلام جمع علَم ، وهو الجبل الطويل . ولما كانت من أعظم الأسباب للمتاجر والمكاسب المنقولة من قطر إلى قطر ، وإقليم إلى إقليم مما فيه صلاح للناس في جلب ما يحتاجون إليه من سائر أنواع البضائع ، قال تعالى : { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : نعمه التي أنعم بها في هذه الجواري . قال القاضيّ : أي : من خلق موادها ، والإرشاد إلى أخذها ، وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر بأسباب لا يقدر خلقها وجمعها غيره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 26 - 28 ]
{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } أي : مَن على ظهر الأرض هالك .
{ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } أي : ذاته الكريمة { ذُو الْجَلَالِ } أي : العظمة والعلوّ والكبرياء { وَالْإِكْرَامِ } أي : التفضل العام ، وهذه الآية كآية { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] .
ولما كان فناء الخلق سبباً لبعثهم للنشأة الأخرى التي يظهر بها المحق من المبطل ، وينقلب الأول بالثواب ، ويبوء الآخر بالعقاب ، وذلك من أعظم النعم التي يشمل فيها العدل الإلهي المكلفين ، قال سبحانه : { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }
وقد أشار الرازيّ إلى ما في قوله تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } من الفوائد ، بقوله : فيه فوائد :
منها : الحث على العبادة ، وصرف الزمان اليسير إلى الطاعة .
ومنها : المنع من الوثوق بما يكون للمرء ، فلا يقول - إذا كان في نعمة - : إنها لن تذهب فيترك الرجوع إلى الله ، معتمداً على ماله وملكه .
ومنها : الأمر بالصبر إن كان في ضر ، فلا يكفر بالله معتمداً على أن الأمر ذاهب ، والضرر زائل .
ومنها : ترك اتخاذ الغير معبوداً ، والزجر عن الاغترار بالقرب من المملوك ، وترك التقرب إلى الله تعالى ؛ فإن أمرهم إلى الزوال قريب .
ومنها : حسن التوحيد ، وترك الشرك الظاهر والخفي جميعاً ، لأن الفاني لا يصلح لأن يعبد .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْن ٍ *فباي الاء ربكما تكذبان } [ 29 - 30 ]
{ يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : يدعونه ويرغبون إليه ، ويرجون رحمته لفقرهم الذاتي ، وغناه المطلق .
{ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } أي : كل وقت يحدث أموراً ، ويجدِّد أحوالاً . قال مجاهد : يعطي سائلاً ، ويفك عانياً ، ويجيب داعياً ، ويشفي سقيماً .
وروى ابن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية . فقيل : يا رسول الله ! وما ذاك الشأن ؟ قال : < يغفر ذنباً ، ويفرِّج كرباً ، ويرفع أقواماً ، ويضع آخرين > .
وقال القاشانيّ : المراد يسأله كلُّ شيء ، فغاب العقلاء ، وأتى بلفظ : { مَن } أي : كل شيء يسأله بلسان الاستعداد والافتقار دائماً { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } بإفاضة ما يستحقه ويستأهله باستعداده ، فمن استعدّ بالتصفية والتزكية للكمالات الخيرية والأنوار ، يفيضها عليه مع حصول الاستعداد ، ومن استعد بتكدير جوهر نفسه بالهيئات المظلمة والرذائل ، ولوث العقائد الفاسدة ، والخبائث ، للشرور والمكاره ، وأنواع الآلام والمصائب والعذاب والوبال : يفيضها عليه مع حصول الاستعداد . انتهى .
وقد أخذ الآية عامة من حيث السائلون خاصة بلسان الاستعداد وغيره - كابن كثير والقاضي - رآها خاصة بمن يعقل ، عامة بلسان الحال أو المقال . والأقرب هو ما يتبادر بادئ بدء إلى الفهم ، وهو ما ذكرناه أولاً { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : مما يسعف به سؤالكما ، ويخرج لكما من مخبأ قدره وخلقه آناً فآناً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 31 - 32 ]
{ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ } قال القرطبيّ : يقال : فرغت من الشغل أفرغ فراغاً وفروغاً ، وتفرغت لكذا واستفرغت مجهودي في كذا أي : بذلته . والله تعالى ليس له شغل يفرغ منه ، وإنما المعنى : سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم ، فهو وعيد لهم وتهديد ، كقول القائل لمن يريد تهديده : إذاً أتفرغ لك ، أي : أقصدك .
وقال الزجّاج : الفراغ في اللغة على ضربين : أحدهما الفراغ من الشغل ، والآخر القصد للشيء . والإقبال عليه ، كما هنا ، وهو تهديد ووعيد ، تقول : قد فرغت مما كنت فيه ، أي : قد زال شغلي به . وتقول : سأفرغ لفلان ، أي : سأجعله قصدي . فهو على سبيل التمثيل ، شبه تدبيره تعالى أمر الآخرة ، من الأخذ في الجزاء ، وإيصال الثواب والعقاب إلى المكلفين ، بعد تدبيره تعالى لأمر الدنيا بالأمر والنهي ، والإماتة والإحياء ، والمنع والإعطاء ، وأنه لا يشغله شأن ، بحال مَن إذا كان في شغل يشغله عن شغل آخر ، إذا فرغ من ذلك الشغل ، شرع في آخر . وجازت الاستعارة التصريحية أيضاً . وقد ألم به صاحب " المفتاح " حيث قال : الفراغ الخلاص عن المهام ؛ والله عز وجل لا يشغله شأن عن شأن ، وقع مستعاراً للأخذ في الجزاء وحده .
لطيفة :
ترسم { أَيُّهَا } بغير ألف ، وأما في النطق فقرأ أبو عمرو الكسائي : { أَيُّهَا } بالألف في الوقف ، ووقف الباقون على الرسم { أَيُّهَا } بتسكين الهاء ، وفي الوصل قرأ ابن عامر { أيهُ } برفع الهاء ، والباقون بنصبها .
و { الثَّقَلَانِ } تثنية ثَقَل بفتحتين ، فَعَل بمعنى مفعل ، لأنهما أثقلا الأرض ، أو بمعنى مفعول ، لأنهما أُثقلا بالتكاليف . وقال الحسن : لثقلهما بالذنوب .
والخطاب في { لَكُمْ } قيل للمجرمين ، لكن يأباه قوله :
{ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ } نعم ! المقصود بالتهديد هم ، ولا مانع من تهديد الجميع بقوله ، أفاده الشهاب ، ولا يفهم من هذا اللفظ الكريم وعيد بحت ، بل هو حامل للوعد أيضاً ، لأن المعنى : سنفرغ لحسابكم ، فنثيب أهل الطاعة ، ونعاقب العصاة ، وهو جليّ ؛ ولذا اعتد ذلك نعمة عليهم بقوله : { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : من ثوابه أهل الطاعة ، وعقابه أهل معصيته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 33 - 34 ]
{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : تجوزوا أطراف السماوات والأرض فتعجزوا ربكم ، أي : بخروجكم عن قهره ومحل سلطانه ومملكته حتى لا يقدر عليكم { فَانفُذُوا } أي : فجوزوا واخرجوا { لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ } أي : بقوة وقهر وغلبة ، وأنى لكم ذلك ونحوه : { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء } [ العنكبوت : 22 ] ، ويقال : معنى الآية : إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات والأرض فاعلموه ، ولن تعلموه إلا بسلطان ، يعني البينة من الله تعالى . والأول أظهر ، لأنه لما ذكر في الآية الأولى أنه لا محالة مُجاز للعباد ، عقبه بقوله : { إِنِ اسْتَطَعْتُمْ } إلخ ، لبيان أنهم لا يقدرون على الخلاص من جزائه وعقابه ، إذا أراده .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } قال ابن جرير : أي : من التسوية بين جميعكم ، بأن جميعكم لا يقدرون على خلاف أمر أراده بكم .
وقال القاضي : أي : من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 35 - 36 ]
{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ } أي : من لهب { مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ } أي : صُفر مذاب يصبّ على رؤوسهم { فَلَا تَنتَصِرَانِ } أي : تمتنعان وتنقذان منه . يعني : إذا أصررتما على الكفر والطغيان وعصيان الرسول ، فما أمامكم في الآخرة إلا هذا العذاب الأليم .
وقد ذهب ابن كثير إلى أن هذه الآية وما قبلها ، مما يخاطب به الكفرة في الآخرة ، وعبارته :
هذا في مقام الحشر ، والملائكة محدقة بالخلائق ، فلا يقدر أحد على الذهاب إلا بسلطان ، أي : بأمر الله { يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ } [ القيامة : 10 - 12 ] ، وقال تعالى :
{ وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ يونس : 27 ] ، ولهذا قال تعالى : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ } والمعنى لو ذهبتم هاربين يوم القيامة ، لردتكم الملائكة والزبانية بإرسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا . انتهى .
ثم رأيت قد سبقه إلى ذلك الإمامُ ابن القيم رحمه الله ، فقد قال رحمه الله في أواخر كتابه " طريق الهجرتين " في تفسير هذه الآية ، بعد أن ذكر نحو ما قدمنا من الوجهين في تأويل قوله تعالى { إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا } ما مثاله :
وفي الآية تقرير آخر ، وهو أن يكون هذا الخطاب في الآخرة ، إذا أحاطت الملائكة بأقطار الأرض ، وأحاط سرادق النار بالآفاق ، فهرب الخلائق ، فلا يجدون مهرباً ولا منفذاً ، كما قال تعالى : { وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } [ غافر : 32 - 33 ] ، قال مجاهد : فارّين غير معجزين . وقال الضحاك : إذا سمعوا زفير النار ندُّوا هرباً ، فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفاً ، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه ، فذلك قوله : { وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا } [ الحاقة : 17 ] ، وقوله :
{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ } [ الرحمن : 33 ] الآية . وهذا القول أظهر - والله أعلم - فإذا بدت الخلائق ولّوا مدبرين ، يقال لهم :
{ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : إن قدرتم أن تتجاوزوا أقطار السماوات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر على عذابكم ، فافعلوا . وكأن ما قبل هذه الآية وما بعدها يدل على هذا القول ، فإن قبلها { سَنَفْرُغُ لَكُمْ } الآية ، وهذا في الآخرة ، وبعدها { فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء } [ الرحمن : 37 ] الآية ، وهذا في الآخرة وأيضاً فإن هذا خطاب لجميع الإنس والجن فإنه أتى به بصيغة العموم ، وهي قوله : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ } فلا بد أن يشترك الكل في سماع هذا الخطاب ومضمونه ، وهذا إنما يكون إذا جمعهم الله في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر . وقال تعالى : { إِنِ اسْتَطَعْتُمْ } ولم يقل : إن استطعتما ، لإرادة الجماعة ، كما في آية أخرى : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ } [ الأنعام : 13 ] ، وقال :
{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا } ، ولم يقل : يرسل عليكم ، لإرادة الصنفين ، أي : لا يختص به صنف عن صنف ، بل يرسل ذلك على الصنفين معاً . وهذا ، وإن كان مراداً بقوله :
{ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ } [ الرحمن : 33 ] ، فخطاب الجماعة في ذلك بلفظ الجمع أحسن ، أي : من استطاع منكم . وحسَّنَ الخطاب بالتثنية في قوله : { عَلَيْكُمَا } أمر آخر ، وهو موافقة رؤوس الآي ، فاتصلت التثنية بالتثنية . وفيه التسوية بين الصنفين في العذاب بالتنصيص عليهما ، فلا يحتمل اللفظ إرادة أحدهما - والله أعلم - انتهى كلام ابن القيم .
وأنت ترى أن لا قرينة تخصص الآية بالقيامة ، وما استشهد به من الآيات لا يؤيده ، لأنه ليس من نظائره . فالوجه ما ذكرناه .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } قال القاضي : فإن التهديد لطف ، والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار ، من عداد الآلاء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 37 - 38 ]
{ فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء } أي : انفطرت فاختلّ نظامها العلوي { فَكَانَتْ وَرْدَةً } أي : كلون الورد الأحمر { كَالدِّهَانِ } أي : كالدهن الذي هو الزيت ، كما قال :
{ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ } [ المعارج : 8 ] ، وهو ردي الزيت ، يعني في لونه الكدر وذوبانه ، لصيرورتها إلى الفناء والزوال .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : مما يحلّه بكم بعد ذلك .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 39 - 40 ]
{ فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ } أي : لا يفتح له باب المعذرة ، كقوله { وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 36 ] ، ففي السؤال مجاز عن نفي سماع الاعتذار ؛ فهو من باب نفي السبب لانتفاء المسبب . وأخذ كثير السؤال على حقيقته ، وحاولوا الجمع بينه وبين ما قد ينافيه .
قال القاشانيّ : وأما الوقف والسؤال المشار إليه في قوله : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ } [ الصافات : 24 ] ، ونظائره ففي موطن آخر من اليوم الطويل الذي كان مقداره خمسين ألف سنة ، وقد يكون هذا الموطن قبل الموطن الأول في ذلك اليوم ، وقد يكون بعده .
وكذا قال ابن كثير : إن هذه الآية كقوله تعالى :
{ هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 35 - 36 ] ، فهذا حال ، وثَمّ حال يسأل الخلائق عن جميع أعمالهم ، قال تعالى :
{ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الحجر : 92 - 93 ] ، وفي الآية تأويل آخر ، قال مجاهد : لا يسأل الملائكة عن المجرم ، يعرفون بسيماهم .
وقال الإمام ابن القيم في " طريق الهجرتين " : اختلف في هذا السؤال المنفي ، فقيل : هو وقت البعث والمصير إلى الموقف ، لا يسألون حينئذ ، ويسألون بعد إطالة الوقوف ، واستشفاعهم إلى الله أن يحاسبهم ، ويريحهم من مقامهم ذلك . وقيل : المنفي سؤال الاستعلام والاستخبار ، لا سؤال المحاسبة والمجازاة ، أي : قد علم الله ذنوبهم ، فلا يسألهم عنها سؤال من يريد علمها ، وإنما يحاسبهم عليها . انتهى .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } قال ابن جرير : أي : من عدله فيكم أنه لم يعاقب منكم إلا مجرماً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 41 - 45 ]
{ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ } أي : بما يعلوهم من الكآبة والحزن والذلة ، وقيل : بسواد الوجوه ، وزرقة العيون { فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ } أي : فتأخذهم الزبانية بنواصيهم وأقدامهم ، فتسحبهم إلى جهنم ، وتقذفهم فيها . والباء للآلة ، كأخذت بالخطام ، أو للتعدية . و الناصية مقدم الرأس .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } قال ابن جرير : أي : من تعريفه ملائكته ، أهل الإجرام من أهل الطاعة منكم ، حتى خصوا بالإذلال والإهانة ، المجرمين دون غيرهم .
{ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ } أي : ماء حار { آنٍ } أي : انتهى حره ، واشتد غليانه . وكل شيء قد أدرك وبلغ فقد أنَى ، ومنه قوله : { غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } [ الأحزاب : 53 ] ، يعني إدراكه وبلوغه { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : من عقوبته أهل الكفر به ، وتكريمه أهل الإيمان به .
ثم تأثر ما عدد عليهم من الآلاء الدينية ، والدنيوية بتعداد ما أفاض عليهم في الآخرة ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ 46 - 59 ]
{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } أي : قيامه عند ربه للحساب ، فأطاعه بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه ؛ فإضافته للرب لأنه عنده ، فهو كقول العرب : ناقة رقود الحلب ، أي : رقود عند الحلب ، أو موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب ، فإضافته للرب لامية لاختصاص الملك يومئذ به تعالى . أو هو كناية عن خوف الربِّ وإثبات خوفه له بطريق برهاني بليغ ؛ لأن من حصل له الخوف من مكان أحد ، يهابه وإن لم يكن فيه ، فخوفه منه بالطريق الأولى ، وهذا كما يقول المترسلون : المقام العالي ، والمجلس السامي { جَنَّتَانِ } أي : جنة لمن أطاع من الإنس ، وجنة لمن أطاع من الجن . أو هو كناية عن مضاعفة الثواب ، وإيثار التثنية للفاصلة, { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : بإثابته المحسن ما وصف .
{ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } أي : أنواع من الأشجار والثمار ، جمع فن بمعنى النوع ، أو أغصان لينة ، جمع فنن وهو ما دقَّ ولان من الغصن .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } وهو ما غلظ من الديباج ، نبه على شرف الظهارة ، بشرف البطانة ، وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى .
قال ابن مسعود : هذه البطائن ، فكيف لو رأيتم الظواهر ؟ !
{ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } أي : وثمرهما المجنيّ داني القطوف { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ } أي : منكسرات الجفن ، خافضات النظر ، غير متطلعات لما بعد ، ولا ناظرات لغير زوجها . أو معناه : إن طرف النظر لا يتجاوزها ، كقول المتنبي :
~وخصرٍ تثبتُ الأبصارُ فيه كأنَّ عليه من حَدَقٍ نِطاقا
فالمراد : قاصرات طرف غيرهن عن التجاوز لغيرهن . أو المعنى : شديدات بياض الطرف ، كما يقال : أحور الطرف وحوراؤه ، من قولهم : ثوب مقصور وحوّاري .
وجليّ أن المعاني هاهنا لا تتزاحم لتحقق مصداقها كلها { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ } أي : لم يمسهن . وأصله خروج الدم ، ولذلك يقال للحيض : طمث ، ثم أطلق على جِماع الأبكار ، لما فيه من خروج الدم ، ثم عمّ كل جماع . وقد يقال : إن التعبير به للإشارة إلى أنها توجد بكراً كلما جومعت . ويستدل بالآية على أن الجن يطمثن ويدخلن الجنة .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ } أي : في الحسن والبهجة ، أو في حمرة الوجنة والوجه ، أدباً وحياءً { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُدْهَامَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } [ 60 - 78 ]
{ هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ } أي : في العمل { إِلَّا الْإِحْسَانُ } أي : في الثواب ، وهو الجنة { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَمِن دُونِهِمَا } أي : دون تينك الجنتين المنوّه بهما { جَنَّتَانِ } أي : بستانان آخران ، إشارة إلى وفرة الجنان واتصالها وسعة امتداد الطرف في مناظرها .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُدْهَامَّتَانِ } أي : خضراوان من الري ، تضربان إلى السواد من شدة الخضرة . أو من كثرة أشجارها الممتدة لا إلى نهاية .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } أي : فوّارتان بالماء .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } وإنما أفردهما بالذكر بياناً لفضلهما ، كأنهما لما لهما من المزية جنسان آخران .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ } جمع خيّرة بالتشديد ، إلا أنه خفف . وقد قرئ على الأصل ، أي : فاضلات الأخلاق . وإيثار ضمير المؤنث على التثنية مراعاة للفظ المسند إليه بعده { حِسَاْن } أي : حسان الوجوه .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ } الحور : جمع حوراء ، وهي البيضاء النقية ، ومعنى { مَّقْصُورَاتٌ } قصرن أنفسهنّ على منازلهنّ ، لا يهمهنّ إلا زينتهنّ ولهوهنّ . وفيه المعاني المتقدمة أيضاً . و { الْخِيَامِ } قال ابن جرير : يعني بها البيوت . وقد يسمّي العرب هوادج النساء خياماً ، ثم أنشد له .
{ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ } يعني بهنّ حور الجنتين اللتين من دون الأوليين . أو تكرير لما سبق للتنويه بهذا الوصف ، وكونه في مقدمة المشتهيات ، وطليعة الملذات :
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ } أي : سرر أو مساند أو وسائد { خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ } أي : طنافس وبُسط { حِسَاْن } أي : جياد . والصفة كاشفة ، ولذا قال ابن جبير : العبقريّ عتاق الزرابي ، أي : جيادها .
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : من إكرامه أهل طاعته منكما هذا الإكرام { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } أي : ذي العظمة والكبرياء ، والتفضل بالآلاء ، و الاسم هنا كناية عن الذات العليّة ، لأنه كثر اقتران الفعل المذكور معها ، كآية : { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً } [ الفرقان : 61 ] ، وآية { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } [ الملك : 1 ] ، ونحوهما . وسر إيثار الاسم للتنبيه على أنه لا يعرف منه تعالى إلا أسماؤه الحسنى ، لاستحالة اكتناه الذات المقدسة . فما عرف الله إلا الله . هذا هو التحقيق .
وقيل : لفظ اسم مقحم ، كقوله :
~إلى الحولِ ثم اسمُ السلام عليكما
وذهب ابن حزم إلى بقاء الاسم على حقيقته . وردّ من استدلّ بأن الاسم هو المسمى بما مثاله : لاحجة فيما احتجوا به . أما قول الله عز وجل : { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } فحقّ . ومعنى { تَبَارَكَ } تفاعل من البركة ، والبركة واجبة لاسم الله عزّ وجلّ الذي هو كلمة مؤلفة من حروف الهجاء ، ونحن نتبرك بالذكر له وبتعظيمه ونجلّه ونكرمه ، فله التبارك وله الإجلال منا ومن الله تعالى ، وله الإكرام من الله تعالى ومنا ، حينما كان من قرطاس ، أو في شيء منقوش فيه ، أو مذكور بالألسنة . ومن لم يجلّ اسم الله عزّ وجلّ كذلك ولا أكرمه ، فهو كافر بلا شك ؛ فالآية على ظاهرها دون تأويل ، فبطل تعلقهم بها . انتهى كلامه رحمه الله .
فائدة :
فيما قاله الأئمة في سر تكرير : { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } قال السيوطيّ في " الإتقان " في بحث التكرير :
قد يكون التكرير غيرَ تأكيد صناعة ، وإن كان مفيداً للتأكيد معنى ، ومنه ما وقع فيه الفصل بين المكررين ، فإن التأكيد لا يفصل بينه وبين مؤكده .
ثم قال : وجعل منه قوله تعالى : { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } فإنهما ، وإن تكررت نيفاً وثلاثين مرة ، فكل واحدة تتعلق بما قبلها ، ولذلك زادت على ثلاثة ، ولو كان الجميع عائداً إلى شيء واحد لما زاد على ثلاثة ، لأن التأكيد لا يزيد عليها ، قاله ابن عبد السلام وغيره ، انتهى .
وفي " عروس الأفراح " : فإن قلت : إذا كان المراد بكل ما قبله فليس ذلك بإطناب بل هي ألفاظٌ كلٌ أريد به غير ما أريد به الآخر ؟ .
قلت : إذا قلنا : العبرة بعموم اللفظ ، فكل واحد أريد به ما أريد بالآخر ، ولكن كرر ليكونّ نصاً فيما يليه ، ظاهراً في غيره .
فإن قلت : يلزم التأكيد ؟
قلت : والأمر كذلك ، ولا يرد عليه أن التأكيد لا يزاد به عن ثلاثة ؛ لأن ذاك في التأكيد الذي هو تابع . أما ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة ، فلا يمتنع . انتهى .
وقال العز بن عبد السلام في آخر كتابه " الإشارة إلى الإيجاز " وأما قوله :
{ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } فيجوز أن تكون مكررة على جميع أنعمه ، ويجوز أن يراد بكل واحدة منهن ما وقع بينها وبين التي قبلها من نعمة ، ويجوز أن يراد بالأولى ما تقدمها من النعم ، وبالثانية ما تقدمها ، وبالثالثة ما تقدم على الأولى ، والثانية والرابعة ما تقدم على الأولى والثانية والثالثة ، وهكذا إلى آخر السورة .
فإن قيل : كيف يكون قوله : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ } نعمة ، وقوله : { يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ } نعمة ، وكذلك قوله :
{ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ } وقوله :
{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ } وقوله :
{ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } ؟
قلنا : هذه كلها نعم جِسَام ؛ لأن الله هدد العباد بها استصلاحاً لهم ، ليخرجوا من حيز الكفر والطغيان والفسوق والعصيان إلى حيز الطاعة والإيمان والانقياد والإذعان ، فإن من حذّر من طريق الردى ، وبيّن ما فيها من الأذى ، وحث على طريق السلامة ، الموصلة إلى المثوبة والكرامة ، كان منعماً غاية الإنعام ، ومحسناً غاية الإحسان . ومثل ذلك قوله : { هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ } [ يس : 52 ] ، وعلى هذا تصلح فيه مناسبة الربط ، بذكر صفة الرحمة في ذلك المقام . وأما قوله :
{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] ، فإنه تذكير بالموت والفناء ، للترغيب في الإقبال على العمل لدار البقاء ، وفي الإعراض عن دار الفناء . انتهى .
وقال البغويّ : كررت هذه الآية في أحد وثلاثين موضعاً تقريراً للنعمة ، وتأكيداً للتذكير بها ، ثم عدد على الخلق آلاءه ، وفصل بين كل نعمتين بما نبههم عليه ، ليفهمهم النعم ويقررهم بها ، كقول الرجل لمن أحسن إليه وتابع إليه بالأيادي ، وهو ينكرها ويكفرها : ألم تكن فقيراً فأغنيتك ، أفتنكر هذا ؟ ألم تكن عرياناً فكسوتك ، أفتنكر هذا ؟ ألم تكن خاملاً فعززتك ، أفتنكر هذا ؟ ومثل هذا الكلام شائع في كلام العرب . انتهى .
وقال السيد مرتضى في " الدرر والغرر " : التكرار في سورة الرحمن ، إنما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعددة ، فكلما ذكر نعمة أنعم بها ، وبّخ على التكذيب ، كما يقول الرجل لغيره : ألم أحسن إليك بأن خولتك في الأموال ؟ ألم أحسن إليك بأن فعلت بك كذا وكذا ؟ فيحسن فيه التكرير ، لاختلاف ما يقرر به ، وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم ، كقول مهلهل يرثي كليباً :
~على أن ليس عدلاً من كُلَيبٍ إذا ما ضِيمَ جيرانُ المُجيرِ
~على أن ليس عدلاً من كليبٍ إذا رجف العِضاهُ من الدَّبورِ
~على أن ليس عدلاً من كليبٍ إذا خَرَجَتْ مُخَبَّأةُ الخُدُورِ
~على أن ليس عدلاً من كليبٍ إذا ما أُعْلِنَتْ نَجْوى الأمُورِ
~على أن ليس عدلاً من كليبٍ إذا خيفَ المَخُوفُ من الثُغُورِ
~على أن ليس عدلاً من كليبٍ غداة تَلاتِلِ الأمرِ الكبيرِ
~على أن ليس عدلاً من كليبٍ إذا ما خارَ جارُ المستجيرِ
ثم أنشد قصائد أخرى على هذا النمط ، هو من لطائف العرب ، فاعرفه .
وقال شيخ الإسلام في " متشابه القرآن " : ذكرت هذه الآية إحدى وثلاثين مرة ، ثمانية منها ذكرت عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله ، وبدائع صنعه ، ومبدأ الخلق ومعادهم ، ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها ، بعدد أبواب جهنم ، وحسن ذكر الآلاء عقبها ؛ لأن من جملة الآلاء : رفع البلاء ، وتأخير العقاب . وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلها ، بعدد أبواب الجنة ، وثمانية أخرى بعدها في الجنتين اللتين هما دون الجنتين اللتين هما دون الجنتين الأوليين ، أخذاً من قوله : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق هاتين الثمانيتين من الله ، ووقاه السبعة السابقة . انتهى .
اللهم زدنا اطلاعاً على لطائف قرآنك الكريم ، وغوصاً على لآلئ فرقانك العظيم .(/)
سورة الواقعة
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } [ 1 - 3 ]
{ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ } أي : نزلت وجاءت . و { الْوَاقِعَةُ } علم بالغلبة على القيامة ، أو منقول سميت بذلك لتحقق وقوعها ، وكأنه قيل : إذا وقعت التي لا بد من وقوعها ، واختيار { إذَا } مع صيغة المضي ، للدلالة على ما ذكر .
{ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } أي : كذب وتكذيب . وقد جاء المصدر على زنة فاعلة كالعاقبة ، والعافية . واللام للاختصاص . أو المعنى : ليس حين وقعتها نفس كاذبة ، أي : تكذب على الله ، أو تكذب في نفيها . واللام للتوقيت .
قال الشهاب : و { الْوَاقِعَةُ } السقطة القوية ، وشاعت في وقوع الأمر العظيم ، وقد تخص بالحرب ، ولذا عبر بها هنا .
{ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } أي : تخفض الأشقياء إلى الدركات ، وترفع السعداء إلى الدرجات . وقيل ، الجملة مقررة لعظمة الواقعة على طريق الكناية ؛ لأن من شأن الوقائع العظام أنها تخفض قوماً وترفع آخرين .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً } [ 4 -6 ]
{ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً } أي : زلزلت زلزالاً شديداً .
{ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً } أي : فتّتت ، أو سيقت وأذهبت ، كقوله : { وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ } [ النبأ : 20 ] { فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً } أي : متفرقاً . قال قتادة : الهباء ما تذروه الريح من حطام الشجر . وقال غيره : هو ما يرى من الكوة كهيئة الغبار .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } [ 7 - 12 ]
{ وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً } أي : أصنافاً ثَلَاثَةً .
{ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ } تقسيم وتنويع للأزواج الثلاثة ، مع الإشارة الإجمالية إلى أحوالهم قبل تفصيلها . وإطلاق { الْمَيْمَنَةِ } و { الْمَشْأَمَةِ } اللتين هما الجهتان المعروفتان على منزلة السعداء الذين هم الأبرار والمصلحون من الناس ، وعلى دركة الأشقياء الذين هم الأشرار والمفسدون من الناس ، أصله من تيمُّنِ العرب باليمين ، وتشاؤمهم بالشمال ، كما في السانح والبارح ، وقولهم للرفيع : هو منى باليمين ، و للوضيع : هو منى بالشمال ، تجوزاً به ، أو كناية به عما ذكر .
وقيل : الميمنة والمشأمة بمعنى اليمين والشؤم ، فليس بمعنى الجهة ، بل بمعنى البركة وضدها ، لما عاد عليهم من أنفسهم وأفعالهم . و في جملتي الاستفهام إشارة إلى ترقّي أحوالهما في الخير والشر ، تعجُّباً منه .
{ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } أي : الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة ، بعد ظهور الحق ، وأوذوا لأجله ، وصبروا على ما أصابهم ، وكانوا الدعاة إليه .
فإن قيل : لم خولف بين المذكورين في السابقين ، وفي أصحاب اليمين ، مع أن كل واحد منهما إنما أريد به التعظيم والتهويل لحال المذكورين ؟
فنقول : التعظيم المؤدي بقوله : { السَّابِقُونَ } أبلغ من قرينه ، وذلك أن مؤدى هذا أن أمر السابقين ، وعظمة شأنه ، مسابق . كاد يخفى . وإنما تحير فهم السامع فيه مشهور . وأما المذكور في قوله : { فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ } فإنه تعظيم على السامع بما ليس عنده منه علم سابق ، ألا ترى كيف سبق بسط حال السابقين بقوله : { أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } فجمع بين اسم الإشارة المشار به إلى معروف ، وبين الإخبار عنه بقوله :
{ الْمُقَرَّبُونَ } معرفاً بالألف واللام العهدية ؟ وليس مثل هذا مذكوراً في بسط حال أصحاب اليمين ، فإنه مصدر بقوله :
{ فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } ٍ أفاده الناصر .
و { السَّابِقُونَ } الثاني إما خبر ، أي : الذين عرفت حالهم واشتهرت أوصافهم على حدّ : وشعري شعري ، أو تأكيد ، والخبر قوله :
{ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } أي : الذين يقربهم الله منه بإعلاء منازلهم { فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ }(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ } [ 13- 14 ]
{ ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ } أي : هم جماعة كثيرة من الذين سبقوا ، لرسوخ إيمانهم وظهور أثره في أعمالهم من العمل الصالح ، والدعوة إلى الله ، والصبر على الجهاد في سبيله ، إلى غير ذلك من المناقب التي كانت ملكات لهم .
{ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ } أي : الذين جاؤوا من بعدهم في الأزمنة التي حدثت فيها الغيَر ، وتبرّجت الدنيا لخطَّابها ، ونسي معها سر البعثة ، وحكمة الدعوة ؛ فما أقلّ الماشين على قّدّم النبي صلى الله عليه وسلم وصحابه ! لا جَرمَ أنهم وقتئذ الغُرَباء ، لقّلتهم .
القول في تأويل قوله تعالى :(/)
{ عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً } [ 15 -26 ]
{ عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ } أي : مصفوفة ، أو مشبكة بالدرِّ والياقوت أو الذهب . و الوَضْنُ التشبيك والنسج .
{ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ } أي : بوجوههم ، متساوين في الرتب ، لا حجاب بينهم أصلاً .
{ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ } أي : للخدمة { وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } أي : مبْقَونَ على سنّ واحدة لا يموتون .
{ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ } أي : حال الشرب . والكوب إناء لاعروة ولا خرطوم له ، والإبريق : إناء له ذلك .
{ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } أي : خمر جارية .
ثم أشار إلى أنها لَذّة كلها ، لا ألم معها ولا خمار { لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا } أي : لا يصدر عنها صداعهم لأجل الخمار ، كخمور الدنيا ، والصداع : وجع الرأس . وقرئ بالتشديد من التفعل ، أي : لا يتفرقون { وَلَا يُنزِفُونَ } بكسر الزاي وفتحها أي : لا تذهب عقولهم بسكرها .
{ وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ } أي : يختارون ويرتضون ، وأصله أخذ الخيار والخير .
قال ابن كثير : وهذه الآية دليل على جواز أكل الفاكهة على صفة التخيّر لها ، ثم استشهد له بحديث عكراش لما أتي النبي صلى الله عليه وسلم بثريد ، وأقبل عكراش يخبط بيدهْ في جوانبه فقبض النبي صلى الله عليه وسلم بيده وقال : < يا عكراش ! كل من موضع واحد ، فإنه طعام واحد > . ثم أتي بطبق فيه تمر أو رطب ، فجعل عكراش يأكلْ من بين يديه ، وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق فقال : < يا عكراش ! كلْ من حيث شئت ، فإنه لون واحد > رواه الترمذي واستغربه .
{ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } أي : يتمنون { وَحُورٌ عِينٌ } أي : وأزواج بيض واسعة الأعين . عطف على { وِلْدَانِ } أو مبتدأ محذوف الخبر . أي : وفيها . أو ولهم حور . وقرئ بالجرّ عطف على { بِأَكْوَابٍ } قال الشهاب : وحينئذ إما أن يقال :
{ يَطُوْفُ } بمعنى ينعمون مجازاً أو كناية . على حد قوله :
~وزَجّجْنَ الحَوَاجِبَ والْعُيُونا
أو يبقى على حقيقته ، وظاهره وأن الولدان تطوف عليهم بالحور أيضاً ، لعرض أنواع اللذات عليهم من المأكول والمشروب والمنكوح ، كما تأتي الخدام بالسراري للملوك ويعرضونهم عليهم . وإلى هذا ذهب أبو عمرو وقطرب وجوّز جعله من الجر الجواري . قيل : والفصل يأباُه ويضعفه . وأما عطفه على { جَنَّاتٍ } بتقدير مضاف أي : هم في جنات .
ومصاحبة حور فقال أبو حيّان : هو فهم أعجمي ، فيه بُعد وتفكيك للكلام المرتبط ، وهو ظاهر . ومن عصّبهُ فقد تعصّب .
{ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ } أي : صفاؤهن كصفاء الدّرّ في الأصداف الذي لا تمسّه الأيدي وأصل { الْمَكْنُونِ } الذي صين في كنّ .
{ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : من الصالحات .
{ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } أي : هذياناً وكلاماً غير مفيد ، باطلاً من القول .
{ وَلَا تَأْثِيماً } أي : ما يؤثم من الفحش والكذب والغيبة وأمثالها .
{ إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً } قال القاشاني : أي : قولاً هو سلام في نفسه منزّه عن النقائص ، مبرأ عن الفضول والزوائد ، أو قولاً يفيد سلامة السامع من العيوب والنقائص ، ويوجب سروره وكرامته ، ويبين كماله وبهجته ، لكون كلامهم كله معارف وحقائق ، وتحايا ولطائف ، على اختلاف وجهي الإعراب ، أي : من كون { سَلاَماً } بدلاً من { قِيلاً } أو مفعوله . والتكرير للدلالة على فشوّ السلام بينهم وكثرته ، لأن المراد : سلاماً بعد سلاماً ، كقرأت النحو باباً باباً ، فيدلّ على تكرّره وكثرته .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَاء مَّسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ* ل َّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُباً أَتْرَابًا* ل ِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ } [ 27 - 40 ]
{ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ } أي : أي : شيء هم ! أي : هم شرفاء ، عظماء كرماء ، يتعجب من أوصافهم في السعادة .
{ فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } أي : لا شوك له ، أو موقَر بالثمار .
{ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } يعني شجر الموز الذي نضد ثمره من أسفله إلى أعلاه . قال مجاهد : كانوا يعجبون بوجّ من طلحه وسدره . وشجرة الموز ثمرتها حلوة دسمة لذيذة لا نوى لها .
{ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } أي : ممتد منبسط لا يتقلّص .
{ وَمَاء مَّسْكُوبٍ } أي : مصبوب دائم الجريان .
{ وفاكهة كثيرة لا مقطوعة } أي : لا تنقطع عنهم متى أرادوها ، لكونها غير متناهية ، { وَلَا مَمْنُوعَةٍ } أي : لا تمنع عن طالبها . والقصد مباينتها لفاكهة الدنيا ، فإنها تنقطع أحياناً ، كفاكهة الصيف في الشتاء ، وتمتنع أحياناً لعزتها أو جدبها .
{ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } أي : مرتفعة في منازلها ، أو على الأرائك للرقود والمضاجعة . وقد يؤيده تأثره بوصف من يضاجعهن فيها . وهو قوله تعالى : { إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء } أي : بديعاً فائق الوصف . فالضمير يعود على ما فهم من السياق والسباق . وقيل : قد يكنى عن الحور بالفرش ، كما يكنى عنهن باللباس ، فالضمير المذكور على طريق الاستخدام ، إذ عاد إلى الفرش بمعنى النساء ، بعد إرادة معناها المعروف منها . وقيل : على طريق الحقيقة ، أي : مرفوعة على الأرائك . كآية { هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ } [ يس : 56 ] .
{ فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً } أي : لم يطمثن .
{ عُرُباً } جمع عروب ، وهي المتحببة إلى زوجها المحبوبة لتبعلها { أَتْرَاباً } أي : على سن واحدة .
{ لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ } ، متعلق بـ أنشأنا ، أو جعلنا ، أو صفة لـ { أَبْكَاراً } أو خبر لمحذوف ، مثل هن .
{ ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ } أي : جماعة وأمّة من المتقدمين في الإيمان ، وممن جاء بعدهم من التابعين لهم بإحسان من هذه الأمة . والكثرة ظاهرة لوفرة أصحاب اليمين في أواخرهم دون السابقي ، كما بينا أولاً .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ* ل َّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ } [ 41 - 48 ]
{ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ } أي : حر نار ينفذ في المسامّ .
{ وَحَمِيمٍ } أي : ماء متناهي الحرارة .
{ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ } أي : من دخان أسود ، طبق أهويتهم المردية ، وعقائدهم الفاسدة ، وهيئات نفوسهم المسودة ، بالصفات المظلمة ، والهيئات السود الرديئة .
{ لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ } أي : ليس له صفتا الظل الذي يأوي إليه الناس من الروح ، ونفع من يأوي إليه بالراحة ، بل له إيذاء وإيلام وضرّ ، بإيصال التعب واللهب والكرب .
{ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } أي : منهمكين في اللذات والشهوات ، منغمسين في الأمور الطبيعية ، والغواشي البدنية ، فبذلك اكتسبوا هذه الهيئات الموبقة ، والتبعات المهلكة .
{ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ } أي : الذنب العظيم من الأقاويل الباطلة والعقائد الفاسدة ، التي استحقوا بها العذاب المخلد ، والعقاب المؤبد . وفسرهُ السبكي بالقسم على إنكار البعث المشار إليه بقوله تعالى :
{ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ } [ النحل : 38 ] ، قال الشهاب : وهو تفسير حسن ، لأن الحنث ، وإن فسر بالذنب مطلقاً أو الذنب العظيم ، فالمعروف استعماله في عدم البر بالقسم ، ولذا تأثره بما كانوا يعتقدونه من إنكار البعث بقوله : { وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ }(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ } [ 49 - 56 ]
{ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } أي : معين عنده تعالى ، وهو يوم القيامة .
{ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ } أي : الجاهلون المصرُّون على جهالاتهم ، والجاحدون للبعث .
{ لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ } وهو من أخبث شجر البادية في المرارة ، وبشاعة المنظر ، ونتن الريح .
{ فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ } أي : من ثمراتها الوبيئة البشعة المرقة .
{ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ } أي : الماء الذي انتهى حرهُ وغليانهُ . قال الزمخشري : وأنث ضمير الشجر على المعنى ، وذّكره على اللفظ في قوله : { مِنْهَا } و { عَلَيْهِ }
{ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ } أي : الإبل التي بها الهيام ، وهو داء لا ريّ معه ، لشدة الشغف والكلب بها .
{ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ } أي : جزاؤهم في الآخرة ، وفيه مبالغة بديعة ، لأن النزل ما يعدّ للقادم عاجلاً إذا نزلْ ، ثم يؤتى بعده بما هو المقصود من أنواع الكرامة ، فلما جعل هذا ، مع أنه أمر مهول ، كالنزل ، دلّ على أن بعده ما لا يطيق البيان شرحه ، وجعله نزلاً مع أنه ما يكرم به النازل متهكماً ، كما في قوله :
~وكنا إذا الجبارُ بالجيش ضافَنا جعلنا القَنَا والمرْهَفَاتِ لهُ نُزْلاً(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ } [ 57 - 62 ]
{ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ } أي : معشر قريش والمكذبين بالبعث ، فأوجدناكم بشراً ، ولم تكونوا شيئا { فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ } أي : بالخلق ، وهم وإن كانوا مقرين به لقوله :
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ لقمان : 25 ] إلا أنه نزل منزلة العدم والإنكار ؛ لأنه إذا لم يقترن بالطاعة والأعمال الصالحة ، لا يعد تصديقاً ، أو المعنى : فلولا تصدقون البعث ، فإن من قدر على الإبداء ، قدر على الإعادة .
{ أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ } أي : ما تقذفونه في الرحم من النطف .
{ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ } أي : بجعله بشراً سويّاً .
{ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ } أي : بإفاضة الصورة الْإِنْسَاْنية عليه .
{ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ } أي : كتبنا على كل نفس ذوقه ، أي : ومن سبيله ذلك فشأنه أن يرهب من نزوله ، ويتأهب لما يخوّف به من بعده ، والجملة مقررة لما قبلها بإيذان أنهم في قبضة القدرة ، فلا يغترون بالإمهال ، بدليل ما قدره عليهم من الموت . وفي قوله تعالى :
{ بَيْنَكُم } زيادة تنبيه ، كأنه بين ظهرانيهم ، ثم أكد ما قرره بقوله تعالى :
{ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } أي : بمغلوبين .
{ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ } أي : بعد مهلككم ، فنجيء بآخرين من جنسكم { وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ } من صور وأشكال أخرى ، فكيف نعجز عن إعادتكم ؟
قال الشهاب : والظاهر أن قوله :
{ وَنُنشِئَكُمْ } المراد به إذا بدلناكم بغيركم ، لا في الدار الآخرة ، كما توهم ، وهذا كقوله تعالى :
{ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ } [ النساء : 133 ] ، { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى } أي : أنه أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئاً مذكوراً ، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ، { فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ } أي : فتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة ، وهي البداءة قادر على النشأة الأخرى ، وهي الإعادة ، وأنها أهون عليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } [ 63 - 67 ]
{ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ } أي : ما تحرثون الأرض لأجله ، وهو الحب . و الحرث : شق الأرض للزراعة ، وإثارتها ، وإلقاء البذر فيها .
{ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ } أي : تنبتونه { أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ } أي : المنبتون ، وعن بعض السلف أنه كان إذا قرأ هذه الآية وأمثالها يقول : بل أنت يل ربّ ! { لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } أي : أيبسناه قبل استوائه واستحصاده . وأصل الحطام ما تحطم وتفتت لشدة يبسه .
{ فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } أي : تعجبون من هلاكه ويبسه بعد خضرته . أو تندمون على اجتهادكم فيه الذي ضاع وخسر . أو تفكهون على ما أصبتم لأجله من المعاصي ، فتتحدثون فيه . و التفكه : التنقل بصنوف الفاكهة ، وقد استعير للتنقل بالحديث ، لأنه ذو شجون .
وقوله تعالى : { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ } مقول قول مقدّر ، هو حال ، أي : قائلين ، أو يقولون : إنا لمغرمون ، أي : ملزمون غرامة ما أنفقن ، أو مهلكون لهلاك رزقنا . من الغرام بمعنى الهلاك قال :
~إن يعذِّب يكن غراماً و إن يعط جزيلاً فإنه لا يُبالي
{ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي : حرمنا رزقنا .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ } [ 68 - 70 ]
{ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ } يعني العذب الصالح للشرب .
{ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ } أي : السحاب المعبر عنه بالسماء في غير ما آية { أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ } أي : لكم إلى قرار الأرض ، ومسلكوه ينابيع فيها .
{ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } أي : ملحاً لا يصلح لشرب ولا زرع { فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ } أي : نعمة الله عليكم في جعله عذباً فراتاً ، لشربكم وزرعكم ، وصلاح معايشكم ومنافعكم .
لطيفة :
قال الإمام ابن الأثير في " المثل السائر " في النوع الحادي عشر من المقالة الثانية ، في بحث ورود لام التوكيد في الكلام ، وأنها لا تجيء إلا لضرب من المبالغة ، في سر مجيء اللام في قوله تعالى : { لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } دون قوله : { جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } ما مثاله :
أدخلت اللام في آية المطعوم ، دون آية المشروب ، وإنما جاءت كذلك ؛ لأن جعل الماء العذب ملحاً أسهل إمكاناً في العرب والعادة ، والموجود من الماء الملح ، أكثر من الماء العذب ، وكثيراً ما إذا جرت المياهُ العذبة على الأراضي المتغيرة التربة ، أحالتها إلى الملوحة ؛ فلم يحتج في جعل الماء العذب ملحاً إلى زيادة تأكيد ؛ فلذلك لم تدخل عليه لام التأكيد المفيدة زيادة التحقيق . وأم المطعوم فإنه جعله حطاماً من الأشياء الخارجة عن المعتاد ، وإذا وقع فلا يكون إلا عن سخط من الله شديد ؛ فلذلك قرن بلام التأكيد ، زيادة في تحقيق أمره ، وتقرير إيجاده . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [ 71 - 74 ]
{ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ } أي : تقدحون ، أي : تستخرجونها من الزند ، وهو العود الذي تقدح منه .
{ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ } أي : بل نحن جعلناها مودعة في موضع . وللعرب شجرتان : إحداهما المرخ ، والأخرى العفار ، إذا أخذ منهما غصنان أخضران فَحُك أحدهما بالآخر ، تباين من بينهما شرر النار . وقد تقدم بيانه في آخر سورة يس .
{ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً } أي : جعلنا نار الزناد تبصرة في أمر البعث ؛ لأن من أخرج النار من الشجر الأخضر المضاد لها ، قادر على إعادة ما تفرقت مواده ، أو تذكيراً لنار جهنم { وَمَتَاعاً } أي : منفعة { لِّلْمُقْوِينَ } أي : المسافرين الذين ينزلون القواء ، وهي القفر . يقال : أقوى إذا نزل القواء ، كأصحر إذا دخل الصحراء ، فإن الإفعال يكون للدخول في معنى مصدر مجرده . وعن مجاهد : المقوين المستمتعين ، المسافر والحاضر .
وعن ابن زيد : هم الجائعون ، تقول العرب : أقويت منه كذا وكذا ، أي : ما أكلت منه . وأقوت الدار : خلت من ساكنيها وانتفاعهم بها ، لأنهم يطبخون بها . ولشدة احتياجهم له ، خصوا بالذكر مع انتفاع غيرهم بها .
{ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } أي : سبِّح اسمه ، قال الزمخشري : بأن تقول : سبحان الله ، إما تنزيهاً له عما يقول الظالمون الذين يجحدون وحدانيته ، ويكفرون نعمته ، وإما تعجباً من أمرهم في غمط آلائه وأياديه الظاهرة ، وإما شكراً لله على النعم التي عدها ونبه عليها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ* ل َّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } [ 75 - 79 ]
{ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } أي : منازل الكواكب ومركزها البهيجة في السماء . أو بمساقطها ومغاربها ، وهي أوقات غيبتها عن الحواس ، أو بمساقطها وانتشارها يوم القيامة . و { لا } في { لَا أُقْسِمُ } إما مزيدة للتأكيد . وتقوية الكلام ، وقد عهدت زيادتها في كلامهم ، كما أوضحه في " فقه اللغة " وإما لا أقسم بتمامها صيغة من صيغ القسم ، على ما ارتضاه بعض المحققين .
{ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } أي : لما في القسم من الدلالة على عظيم القدرة ، وكمال الحكمة .
{ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } أي : له كرم وشرف وقدر رفيع لاشتماله على أمهات الحكم والأحكام ، وما تنطبق عليه حاجات الأنام على الدوام .
{ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } أي : محفوظ مصون ، لا يتغير ولا يتبدل . أو محفوظ عن ترداد الأيدي عليه ، كغيره من الكتب ، بل هو كالدر المصون إلا عن أهله ، كما قال : { لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } اعلم أن في الآية أقوالاً عديدة مرجعها إلى أن المس مجاز أو حقيقة ، وأن الضمير عائد للكتاب بمعنى الوحي المتلقى ، أو المصحف ، وأن { الْمُطَهَّرُونَ } هم الملائكة ، أو المتطهرون من الأحداث والأخباث ؛ وذلك لاتساع ألفاظهما الكريمة ، لما ذكر بطريق الاشتراك أو الحقيقة والمجاز ، وهاك ملخص ذلك ولبابه :
فأما أكثر المفسرين ، فعلى أنه عني بالآية الملائكة . فنفي مسّه كناية عن لازمه ، وهو نفي الاطلاع عليه ، وعلى ما فيه . والمراد بـ المطهرين حينئذ إما جنس الملائكة ، أو من نزل به وهو روح القدس . وطهارتهم نقاء ذواتهم عن كدورات الأجسام ، ودنس الهيولى ، أو عن المخالفة والعصيان .
وقال ابن زيد : زعمت كفار قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين ، فأخبر الله تعالى أنه : { لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } كما قال :
{ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } [ الشعراء : 210 - 212 ] . انتهى . قال ابن كثير : وهذا القول قول جيد .
وقال الفرّاء : لا يجد طعمه ولا نفعه إلا من آمن به . ومثله قول محمد بن الفضل : لا يقرؤه إلا الموحدون .
فنفي مسّه كناية عن ترك تقبّله ، والاهتداء به ، والعناية به ، فإن مسّ الشيء سبب حب الملموس ، وأثر الإقبال عليه ، ورائد الانصياع له ، والطهارة حينئذ هي نظافة القلب من دنس الشرك والنفاق ، والملكات الرديئة ، والغرائز الفاسدة .
وقال آخرون : عني بـ المطهرين المتطهرون من الجنابة والحدث ، قالوا : ولفظ الآية خبر ، ومعناها النهي ، إشارة إلى أن تلك الصفة طبيعة من طبائعه ، ولازم من لوازمه ، لشرفه وعظم شأنه .
قالوا : والمراد بـ الكتاب المصحف ، واحتجوا بما رواه الإمام مالك في" موطئه" عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم : < أن لا يمس القرآن إلا طاهر > . وبما روى الدارقطني في قصة إسلام عمر ، أن أخته قالت له قبل أن يسلم : إنه رجس و { لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } إلا أن فيهما مقالاً بيَّنه الحافظ ابن حجر في " تلخيص الحبير " وأشار له ابن كثير أيضاً . ومع ذلك فالدلالة ليست قطعية ، وقد أوضح ذلك الشوكاني في " نيل الأوطار " وعبارته :
الطاهر يطلق بالاشتراك على المؤمن ، والطاهر من الحدث الأكبر والأصغر ، ومن ليس على بدنه نجاسة . ويدل لإطلاقه على الأول قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة : < المؤمن لا ينجس > . وعلى الثاني : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ } [ المائدة : 6 ] ، وعلى الثالث : قوله صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين : < دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين > ، وعلى الرابع : الإجماع على أن الشيء الذي ليس عليه نجاسة حسية ولا حكمية يسمى طاهراً . وقد ورد إطلاق ذلك في كثير . فمن أجاز حمل المشترك على جميع معانيه ، حمله عليه هنا . والمسألة مدونة في الأصول ، وفيها مذاهب ، والذي يترجح أن المشترك مجمل فيها ، فلا يعمل به حتى يبين . وقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز للمحدث حدثاً أكبر أن يمس المصحف ، وخالف في ذلك داود ، واستدل المانعون للجنب بقوله تعالى : { لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } وهو لا يتم إلا بعد جعل الضمير راجعاً إلى القرآن ، والظاهر رجوعه إلى الكتاب ، وهو اللوح المحفوظ ، لأنه الأقرب . و { الْمُطَهَّرُونَ } الملائكة . ولو سلم عدم الظهور ، فلا أقل من الاحتمال ، فيمتنع العمل بأحد الأمرين ، ويتوجه الرجوع إلى البراءة الأصلية . ولو سلم رجوعه إلى القرآن على التعيين ، لكانت دلالته على المطلوب ، وهو منع الجنب من مسه ، غير مسلمة ؛ لأن المطهر من ليس بنجس ، والمؤمن ليس بنجس دائماً ، لحديث : < المؤمن لا ينجس > وهو متفق عليه ؛ فلا يصح حمل المطهر على من ليس بجنب أو حائض أو محدث أو متنجس بنجاسة عينية ، بل تعين حمله على من ليس بمشرك ، كما في قوله تعالى :
{ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } لهذا الحديث ، ولحديث النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدوّ . ولو سلم صدق اسم الطاهر على من ليس بمحدث حدثاً أكبر أو أصغر ، فقد عرفت أن الراجح كون المشترك مجملاً في معانيه ، فلا يعين حتى يبين ، وقد دل الدليل هاهنا أن المراد به غيره لحديث < المؤمن لا ينجس > ، ولو سلم عدم وجود دليل يمنع من إرادته ، لكان تعيينه لمحل النزاع ترجيحاً بلا مرجح ، وتعيينه لجميعها استعمالاً للمشترك في جميع معانيه ، وفيه الخلاف ، ولو سلم رجحان القول بجواز الاستعمال في جميع معانيه ، لما صح ، لوجود المانع ، وهو حديث : < المؤمن لا ينجس > . واستدلوا أيضاً بحديث عمرو بن حزم المتقدم ، وأجيب بأنه غير صالح للاحتجاج ؛ لأنه من صحيفة غير مسموعة ، وفي رجال إسناده خلاف شديد ، ولو سلم صلاحيته للاحتجاج ، لعاد البحث السابق في لفظ طاهر ، وقد عرفته .
قال السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير : إن إطلاق اسم النجس على المؤمن الذي ليس بطاهر من الجنابة أو الحيض أو الحدث الأصغر ، لا يصح حقيقة ولا مجازاً ولا لغة ً . صرح بذلك في جواب سؤال ورد عليه . فإن ثبت هذا فالمؤمن طاهر دائماً ، فلا يتناوله الحديث ، سواء كان جنباً أو حائضاً أو محدثاً ، أو على بدنه نجاسة . فإن قلت : إذا تم ما تريد من حمل الطاهرعلى من ليس بمشرك ، فما جوابك فيما ثبت في المتفق عليه من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل عظيم الروم : < أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين . و { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء } إلى قوله { مُّسْلِمُونَ } [ آل عمران : 64 ] > ، مع كونهم جامعين بين نجاستي الشرك والاجتناب ووقوع اللمس منهم له معلوم ؟
قلت : أجعله خاصة بمثل الآية والآيتين ، فإنه يجوز تمكين المشرك من مس ذلك المقدار لمصلحة ، كدعائه إلى الإسلام . ويمكن أن يجاب عن ذلك بأنه قد صار باختلاطه بغيره لا يحرم لمسه ، ككتب التفسير ، فلا تخصص به الآية والحديث . إذا تقرر لك هذا عرفت عدم انتهاض الدليل على منع من عدا المشرك . وقد عرفت الخلاف في الجنب . وأما المحدث حدثاً أصغر ، فذهب ابن عباس والشعبي والضحاك وزيد بسلف ، والمؤيد بالله والهادوية وقاضي القضاة وداود إلى أنه يجوز له مس المصحف . وقال القاسم وأكثر الفقهاء والإمام يحيى : لا يجوز واستدلوا بما سلف ، وقد سلف ما فيه . انتهى كلام الشوكانيّ .
تنبيه في لطف دلالة هذه الآية وما تشير إليه من العلم المكنون :
قال الإمام ابن القيم في " إعلام الموقعين " في مباحث أمثال القرآن الكريم ، ما مثاله : الواجب فيما علق عليه الشارع الأحكام من الألفاظ والمعاني أن لا يتجاوز بألفاظها ومعانيها ، ولا يقصّر بها ، ويعطي اللفظ حقه ، والمعنى مدح الله تعالى أهل الاستنباط في كتابه ، وأخبر أنهم أهل العلم ، ومعلوم أن الاستنباط إنما هو استنباط المعاني ، والعلل ونسبة بعضها إلى بعض ، فيعتبر ما يصح منها بصحة مثله وشبهه ونظيره ، ويلغى ما لا يصح ، هذا الذي يعقله الناس من الاستنباط .
قال الجوهري : الاستنباط كالاستخراج . ومعلوم أن ذلك قدر زائد على مجرد فهم اللفظ فإن ذلك ليس طريقة الاستنباط ؛ إذ موضوعات الألفاظ لا تنال بالاستنباط ، وإنما تنال به العلل والمعاني والأشباه والنظائر ، ومقاصد المتكلم . والله سبحانه ذم من سمع ظاهراً مجرداً فأذاعه وأفشاه ، وحمد من استنبط من أولي العلم حقيقة ومعناه يوضحه أن الاستنباط استخراج الأمر الذي من شأنه أن يخفى على غير مستنبطه ، ومنه استنباط الماء من أرض البئر والعين . ومن هذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقد سئل : هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس ؟ فقال : لا ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه ! ومعلوم أن هذا الفهم قدر زائد على معرفة موضوع اللفظ وعمومه أو خصوصه ، فإن هذا قدر مشترك بين سائر من يعرف لغة العرب ، وإنما هذا فهم لوازم المعنى ونظائره ، ومراد المتكلم بكلامه ، ومعرفة حدود كلامه ، بحيث لا يدخل فيها غير المراد ولا يخرج منها شيء من المراد . وأنت إذا تأملت قوله تعالى : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ* ل َّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } وجدت الآية من أظهر الأدلة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن القرآن جاء من عند الله ، وأن الذي جاء به روح مطهرة ، فما للأرواح الخبيثة عليه سبيل . ووجدت الآية أخت قوله : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } [ الشعراء : 210 - 211 ] ، ووجدتها دالة بأحسن الدلالة على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر ، ووجدتها دالة أيضاً بألطف الدلالة على أنه لا يجد حلاوته وطعمه إلا من آمن به وعمل به ، كما فهمه البخاري من الآية ، فقال في صحيحه في باب : { قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا } [ آل عمران : 93 ] ، { لاَ يَمَسُّهُ } لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن بالقرآن ، ولا يحمله بحقه إلا المؤمن لقوله : { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [ الجمعة : 5 ] ، وتجد تحته أيضاً لا ينال معانيه ويفهمه كما ينبغي ، إلا القلوب الطاهرة ، وإن القلوب النجسة ممنوعة من فهمه ، مصروفة عنه ، فتأمل هذا السبب القريب ، وعقد هذه الأخوة بين هذه المعاني وبين المعنى الظاهر من الآية ، واستنباط هذه المعاني كلها من الآية بأحسن وجه وأبينه ، فهذا من الفهم الذي أشار إليه عليّ رضي الله عنه . انتهى .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [ 80 - 82 ]
{ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } أي : الذي رباهم بالكمالات ، وهداهم إليها بتنزيلها منه .
{ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ } يعني القرآن الذي قص عليكم فخامة شأنه ، وعظمة مقداره { أَنتُم مُّدْهِنُونَ } قال ابن جرير : أي : تلينون القول للمكذبين ، ممالأة منكم لهم على التكذيب به والكفر . وأصل الادهان - كما قال الشهاب - جعل الأديم ونحوه مدهوناً بشيء من الدهن ، ولما كان ذلك مليناً له محسوساً ، أريد به اللين المعنويّ ، على أنه تجوز به عن مطلق اللين ، أو استعير لهُ ؛ ولذا سميت المداراة والملاينة مداهنة . وهذا مجاز معروف ، ولشهرته صار حقيقة عرفيه ، فلذا تجوز به هنا عن التهاون أيضاً ؛ لأن المتهاون بالأمر لا يتصلب فيه .
{ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } أي : شكر رزقكم إياه تكذيبكم به ، كفراً لنعمته ، وجحداً لمنته .
قال ابن جرير : أي : وتجعلون شكر الله على رزقه إياكم التكذيب ، وذلك كقول القائل للآخر :
~ جعلت إحساني إليك إساءة منك إليّ
بمعنى جعلت شكر إحساني أو ثواب إحساني إليك ، إساءة منك إليّ .
وقد ذكر عن الهيثم بن عديّ : أن من لغة أزدشنوءة : ما رزق فلان ، بمعنى ما شكر . انتهى .
وقد حمل بعضهم الرزق هنا على النعمة مطلقاً ، والأظهر أنه نعمة القرآن ، للسياق .
وقال القاشانيّ : أي : وتجعلون قُوتَكُمُ القلبيّ ورزقكم الحقيقيّ ، تكذيبه ، لاحتجابكم بعلومكم ، وإنكاركم ما ليس من جنسه ، كإنكار رجل جاهل ما يخالف اعتقاده كأن علمه نفس تكذيبه . أو رزقكم الصوريّ ، أي : لمداومتكم على التكذيب ، كأنكم تجعلون التكذيب غذاءكم ، كما تقول للمواظب على الكذب : الكذب غذاؤه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ } [ 83 - 85 ]
{ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ } أي : النفس ، لدلالة الكلام عليها { الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } أي : حالة نزعه ، أو تنتظرون لفظة النفس الأخير . والخطاب لمن حول المحتضر : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ } قال جمهور السلف : يعني ملك الموت أدنى إليه من أهله ، ولكن لا تبصرون الملائكة . أو لا تدركون كنه ، وترجيحيه . وبعضهم فسَّر القرب بالعلم والقدرة . وتقدم بسط الأقوال ، وترجيح الأول في تفسير آية : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } [ ق : 16 ] ، في سورة ق ، فارجع إليه فإنه مهم .
وهذه الجملة معترضة ، أو حالية كالتي قبلها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ* إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [ 86 - 96 ]
{ فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } أي : غير مجزيين يوم القيامة . أو مملوكين مقهورين . من دانه أذله واستعبده { تَرْجِعُونَهَا } أي : تردون النفس إلى مقرِّها عند بلوغها الحلقوم { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : في أنكم غير مسوسين ، مربوبين مقهورين .
يعني : أنكم مجبرون عاجزون تحت قهر الربوبية ، وإلا لأمكنكم دفع ما تكرهون أشد الكراهية ، وهو الموت { فَأَمَّا إِن كَانَ } أي : الميت { مِنَ الْمُقَرَّبِينَ } أي : السابقين من الأصناف الثلاثة المذكورة في أول السورة .
{ فَرَوْحٌ } أي : فله راحة { وَرَيْحَانٌ } أي : رزق طيب ، أو شجر ناضر يتفيأ ظلاله { وَجَنَّةُ نَعِيمٍ } أي : يتنعم فيها مما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين .
{ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ } قال ابن كثير : أي : تبشرهم الملائكة بذلك تقول لأحدهم : سلام لك ، أي : لا بأس عليك أنت في سلامة ، أنت من أصحاب اليمين .
وقال قتادة وابن زيد : سلم من عذاب الله ، وسلّمت عليه ملائكة الله ، كما قال عكرمة : تسلم عليه الملائكة ، وتخبره أنه من أصحاب اليمين . وهذا معنى حسن . ويكون ذلك كقول الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } الآيات [ فصلت : 30 ] . انتهى .
وقال الرازيّ : في السلام وجوه :
أولها : يسلم به صاحب اليمين على صاحب اليمين كما قال تعالى من قبل :
{ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً } [ الواقعة : 25 ] .
ثانيها : { فَسَلَامٌ لَّكَ } أي : سلامة لك من أمرٍ خاف قلبك منه ، فإنه في أعلى المراتب ، وهذا كما يقال لمن تعلق قلبه بولده الغائب عنه ، إذا كان يخدم عند كريم : كن فارغاً من جانب ولدك ، فإنه في راحة . ثالثها : أن هذه الجملة تفيد عظمة حالهم ، كما يقال : فلان ناهيك به ، وحسبك أنه فلان . إشارة إلى أنه ممدوح فوق حد الفضل . انتهى .
ثم قال الرازيّ :
والخطاب بقوله :
{ لَكَ } يحتمل أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم ، وحينئذ فيه وجه ، وهو ما ذكرنا أن ذلك تسلية لقلب النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنهم غير محتاجين إلى شيء من الشفاعة وغيرها ؛ فسلام لك يا محمد منهم ، فإنهم في سلامة وعافية ، لا يهمك أمرهم ، أو فسلام لك يا محمد منهم ، وكونهم ممن يسلم على محمد صلى الله عليه وسلم دليل العظمة ، فإن العظيم لا يسلم عليه إلا عظيم . انتهى .
{ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ } أي : بآيات الله { الضَّالِّينَ } أي : الجائرين عن سبيله .
{ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ } أي : ماء انتهى حره ، فهو شرابه .
{ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } أي : إحراق بالنار .
{ إِنَّ هَذَا } أي : المذكور من أحوال الفرق الثلاثة وعواقبهم { لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ } أي : حقيقة الأمر ، وجلية الحال ، لا لبس فيه ولا ارتياب . والإضافة إما من إضافة الموصوف إلى الصفة ، أي : الحق اليقين : كما يقال : دار الآخرة ، أو بالعكس ، أي : اليقين الحق . أو من إضافة العام للخاص ، أي : كعلم الأمر اليقين . فالإضافة حينئذ لامية ، أو بمعنى من .
تنبيه :
في " الإكليل " : استدل بالآيات هذه على أن الروح بعد مفارقة البدن منعّمة أو معذّبة ، وعلى أن مقر أرواح المؤمنين في الجنة ، وأرواح الكافرين في النار .
{ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } أي : نزهه عما يصفونه به من الأباطيل ، وما يتفوهون به من الأضاليل ، قولاً وعملاً .(/)
سورة الحديد
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سبح لله ما فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ 1 ]
{ سبح لله ما فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : أظهر كل موجود تنزيهه عن الشريك والولد ، وكل مالا يليق به ، وآذن بانفراده في ألوهيته ، وتدبيره وعلمه وقدرته ؛ فإن من شاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على حال من الترتيب والإحكام ، وربط الأسباب بالمسببات ، واستحالة بعض الموجودات إلى بعض ، لا تنقضي عجائبه ، ولا تنتهي غاياته ، فبالضرورة يقضي بأن هذا الترتيب المحكَم هو أثرُ خالق واحد ، مدبر لنظامه ، مريد لسيره في سننه ، كما بسطناه في " دلائل التوحيد " .
{ وَهُوَ الْعَزِيزُ } أي : القويّ الذي يقهر كل ما في السماوات والأرض { الْحَكِيمُ } أي : الذي رتب نظام كل موجود على ترتيب حكمي .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ 2 ]
{ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : سلطانهما ، ونفوذ الأمر فيهما { يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي : يوجد ما يشاء من الحيوان والنبات كيفما شاء ، ويميته بعد بلوغه أجله فيفنيه { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : تام القدرة ، فلا يتعذر عليه شيء أراده من إحياء وإماته وغيرهما .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ 3 ]
{ هُوَ الْأَوَّلُ } أي : السابق على كل موجود ، من حيث إنه موجده ومحدثه { وَالآخِرَ } أي : الباقي بعد فناء كل شيء { وَالظَّاهِرُ } أي : وجوده بالأدلة الدالة عليه . وقال ابن جرير : أي : الظاهر على كل شيء من دونه ، وهو العالي فوق كل شيء فلا شيء أعلى منه { وَالْبَاطِنُ } أي : باحتجابه بذاته وماهيته ، أو العالم بباطن كل شيء . قال ابن جرير : أي : الباطن جميع الأشياء فلا شيء أقرب إلى شيء منه ، كما قال { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } [ ق : 16 ] ، { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : تام العلم ، فلا يخفى عليه شيء .
وقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند النوم : < اللهم ربَّ السماوات السبع ورب العرش العظيم ، ربنا ورب كل شيء ، منزل التوراة والإنجيل والقرآن ، فالق الحب والنوى ، لا إله إلا أنت ، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته ، أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عنا الدَّين وأغننا من الفقر > رواه مسلم وغيره .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ 4 ]
{ هُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } قال القاشانيّ : أي : من الأيام الإلهية ، وقيل المعهودة ، والله أعلم .
{ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } قال ابن جرير : أي : هو الذي أنشأ السماوات السبع والأرضين ، فدبّرهن وما فيهن ، ثم استوى على عرشه فارتفع عليه وعلا .
{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ } أي : من خلقه ، كالأموات والبذور والحيوانات { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } أي : كالزروع { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء } أي : من الأمطار والثلوج والبرَد والأقدار والأحكام { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } أي : من الملائكة والأعمال وغيرها { وهو معكم اينما كنتم } قال ابن جرير : أي : وهو شاهد لكم ، أينما كنتم ، يعلَمكُم ويعلم أعمالكم ومتقلبكم ومثواكم ، وهو على عرشه فوق سماواته السبع .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " شرح حديث النزول " : لفظ المعية في سورة الحديد والمجادلة ، في آيتيهما ، ثبت تفسيره عن السلف بالعلم ، وقالوا : هو معهم بعلمه . وقد ذكر الإمام ابن عبد البر وغيره ، أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، ولم يخالفهم أحد يعتدّ بقوله ، وهو مأثور عن ابن عباس والضحاك ومقاتل بن حيان وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم . قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية : هو على العرش وعلمه معهم ، وهكذا عمن ذكر معه . وقد بسط الإمام أحمد الكلام على المعية في " الرد على الجهمية " . ولفظ المعية في كتاب الله جاء عاماً كما في هاتين الآيتين ، وجاء خاصاً كما في قوله تعالى :
{ إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } [ النحل : 128 ] ، وقوله :
{ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [ طه : 46 ] ، وقوله : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا } [ التوبة : 40 ] ، فلو كان المراد بذاته مع كل شيء ، لكان التعميم يناقض التخصيص ، فإنه قد علم أن قوله :
{ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا } أراد به تخصيصه وأبا بكر ، دون عدوهّم من الكفار . وكذلك قوله { إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } خصهم بذلك دون الظالمين والفجار . وأيضاً فلفظ المعية ، ليست في لغة العرب ، ولا شيء من القرآن أن يراد بها اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى ، كما في قوله :
{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ } [ الفتح : 29 ] ، وقوله : { فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } [ النساء : 146 ] ، وقوله :
{ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } [ التوبة : 119 ] وقوله : { وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ } [ الأنفال : 75 ] ، ومثل هذا كثير . وأيضاً فامتنع أن يكون قوله : { وَهُوَ مَعَكُمْ } يدل على أن ذاته مختلطة بذوات الخلق . وأيضاً فإنه افتتح الآية بالعلم ، وختمها بالعلم ، فكان السياق يدل على أنه أراد أنه عالم به . وقد بُسِط الكلام عليه في موضع آخر ، وبيّن أن لفظ المعية في اللغة ، وإن اقتضى المصاحبة والمقاربة ، فهو إذا كان مع العباد ، لم يناف ذلك علوَّه على عرشه ، ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه ، فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان ، ويخص بعضهم بالإعانة والنصر والتأييد . انتهى .
وقال الإمام موفق الدين بن قدامة المقدسي رضي الله عنه في كتاب " ذم التأويل " :
فإن قيل : فقد تأولتم آيات وأخباراً ، فقلتم في قوله تعالى :
{ وهو معكم اينما كنتم } أي : بالعلم ، ونحو هذا من الآيات والأخبار ، فيلزمكم ما لزمنا ؟
قلنا : نحن لم نتأول شيئاً ، وحملُ هذه اللفظات على هذه المعاني ليس بتأويل لأن التأويل صرف اللفظ عن ظاهره ، وهذه المعاني هي الظاهر من هذه الألفاظ ، بدليل أنه المتبادر إلى الإفهام منها . وظاهر اللفظ هو ما يسبق إلى الفهم منه ، حقيقة كان أو مجازاً ، ولذلك كان ظاهر الأسماء العرفية ، المجاز دون الحقيقة ، كاسم الرواية والظعينة وغيرهما من الأسماء العرفية ، فإن ظاهر هذا المجاز دون الحقيقة ، وصرفها إلى الحقيقة يكون تأويلاً يحتاج إلى دليل ، وكذلك الألفاظ التي لها عرف شرعيّ وحقيقة لغوية ، كالوضوء والطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج ، إنما ظاهرها العرف الشرعيّ دون الحقيقة اللغوية . وإذا تقرر هذا فالمتبادر إلى الفهم من قولهم : إن الله معك ، أي : بالحفظ والكلاءة ؛ ولذلك قال تعالى فيما أخبر عن نبيّه { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا } [ التوبة : 40 ] ، وقال لموسى : { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [ طه : 46 ] ، ولو أراد أنه بذاته مع كل أحد لم يكن لهم بذلك اختصاص ؛ لوجوده في حق غيرهم كوجوده فيهم ، ولم يكن ذلك موجباً لنفي الحزن عن أبي بكر ، ولا علة له ؛ فعلم أن ظاهر هذه الألفاظ هو ما حملت عليه ، فلم يكن تأويلاً ، ثم لو كان تأويلاً فما نحن تأولناه ، وإنما السلف رحمة الله عليهم ، الذين ثبت صوابهم ، ووجب اتباعهم ، هم الذين تأوَّلوه ، فإن ابن عباس والضحاك ومالكاً وسفيان وكثيراً من العلماء قالوا في قوله :
{ وَهُوَ مَعَكُمْ } : أي : علمه ، ثم قد ثبت بكتاب الله ، والمتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف ، أن الله تعالى في السماء على عرشه ، وجاءت هذه اللفظة مع قرائن محفوفة بها دالة على إرادة العلم منها ، وهو قوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } [ المجادلة : 7 ] ، ثم قال في آخرها : { أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فبدأها بالعلم ، وختمها به ، ثم سياقها لتخويفهم بعلم الله تعالى بحالهم ، وأنه ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ويجازيهم عليه ، وهذه قرائن كلها دالة على إرادة العلم ، فقد اتفق فيها هذه القرائن ، ودلالة الأخبار على معناها ، ومقالة السلف وتأويلهم ؛ فكيف يلحق بها ما يخالف الكتاب والأخبار ومقالات السلف ؟ فهذا لا يخفى على عاقل إن شاء الله تعالى ، وإن خفي فقد كشفناه وبيناه بحمد الله تعالى ، ومع هذا لو سكت إنسان عن تفسيرها وتأويلها لم يخرج ولم يلزمه شيء ، فإنه لا يلزم أحداً الكلام في التأويل إن شاء الله تعالى . انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله .
{ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : فيجازيكم عليه .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ 5 - 6 ]
{ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ } أي : أمور جميع خلقه ، فيقضي بينهم بحكمه .
{ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } أي : يدخل ما نقص من ساعات أحدهما فيجعله زيادة في الآخر بحكمته وتقديره { وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : بضمائر صدور عباده ، وما عزمت عليه نفوسهم من خير أو شر .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } [ 7 ]
{ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } أي : آمنوا الإيمان اليقيني ليظهر أثره عليكم ، فيسهل عليكم الإنفاق من مال الله الذي موّلكم إياه ، وجعلكم مستخلفين فيه ، بتمكينكم وإقداركم على التصرف فيه بحكم الشرع ؛ إذ الأموال كلها لله ، واختصاص نسبة التصرف إنما هو بحكمه في شريعته ، أفاده القاشانيّ .
وقال الشهاب : الخلافة إمّا عمّن له التصرف الحقيقيّ ، وهو الله تعالى ، وهو المناسب لقوله : { لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أو عمّن تصرّف فيها قبلهم ممن كانت في أيديهم فانتقلت لهم . وعلى كلٍّ ففيه حث على الإنفاق وتهوين له ، أما على الأول فظاهر ؛ لأنه أذن له في الإنفاق من ملك غيره ، ومثله يسهل إخراجه وتكثيره . وعلى الثاني أيضاً ، لأن من علم أنه لم يبق لمن قبله ، علم أنه لا يدوم له أيضاً ، فيسهل عليه الإخراج .
~وما المالُ والأهلونَ إلا ودائعُ ولا بدَّ يوماً أن تُردَ الودائع
{ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } القول في تأويل قوله تعالى :(/)
{ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ 8 ]
{ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } أي : وما يصدّكم عنه ، وقد ظهرت دواعيه, اتضحت سبله لذويه كما قال { وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ } أي : يدعوكم من طريق النظر والتفكر إلى الإيمان بالذي ربَّاكم بنعمه ، وصرّفكم بآلائه ، فوجب عليكم شكره .
{ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ } أي : بالإيمان ، إذ ركّب فيكم العقول ، ونصب الأدلّة . ومكّنكم من النظر ، بل أودع في فطركم ما يضطركم لذلك إذا نُبهتم ، وقد حصل ذلك بتذكير الرسول ، فما عليكم إلا أن تأخذوا في سبيله .
{ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } قال القاشانيّ : أي : إن بقي نور الفطرة والإيمان الأزلي فيكم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ 9 ]
{ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي : حُجَجاً واضحات ، وبراهين قاطعات
{ لِيُخْرِجَكُم } أي : الله ، أو عبده بآياته { مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ } أي : من ظلمات الجهل والكفر والأهواء المتضادّة ، إلى نور الهدى واليقين ، الذي تشعر به النفوس ، وتطمئن به القلوب . { وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }
أي في إنزاله الكتب ، وإرساله الرسل لهدايتكم ، إزاحة للعلل ، وإزالة للشبهة .
ولما كان إنزال هذه السورة للأمر بالإنفاق في سبيل الله ، والترغيب فيه ، والحث عليه ، أكثر من ذكره في ضروب من البيان ، وفنون من الإحكام ، ولذا قال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ 10 ]
{ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : يرث كل شيء فيهما ، ولا يبقى لأحد مال . وإذا كان كذلك ، فما أجدر أن ينفق المرء في حياته ، ويتخذه ذخراً يجده بعد مماته .
قال الشهاب : هذا من أبلغ ما يكون في الحث على الإنفاق ، لأنه قرنه بالإيمان أولاً لما أمرهم به ، ثم وبخهم على ترك الإيمان ، مع سطوع براهينه ، وعلى ترك الإنفاق في سبيل من أعطاه لهم ، مع أنهم على شرف الموت ، وعدم بقائه لهم إن لم ينفقوه ، وسبيل الله كل خير يوصلهم إليه ، أعم من الجهاد وغيره . وقصر بعضهم إياه على الجهاد ، لأنه فرده الأكمل ، وجزؤه الأفضل ، من باب قصر العامّ على أهم أفراده وأشملها ، لا سيما وسبب النزول كان لذلك .
{ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } أي : من قبل فتح مكة ، أو صلح الحديبية ، وقاتل لتعلو كلمة الحق . ومن أنفق من بعد وقاتل في حال قوة الإسلام ، وعزة أهله . فحذف الثاني لوضوح الدلالة عليه فإن الاستواء لا يتم إلا بذكر شيئين ، على أنه أشير إليه بقوله مستأنفاً عنهم زيادة في التنويه بهم : { أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا } أي : لعظم موقع نصرة الرسول ، صلوات الله عليه ، بالنفس ، وإنفاق المال في تلك الحال ، وفي المسلمين قلة ، وفي الكافرين شوكة وكثرة عدد ؛ فكانت الحاجة إلى النصرة والمعاونة أشد ، بخلاف ما بعد الفتح ، فإن الإسلام صار في ذلك الوقت قوياً ، والكفر ضعيفاً ، ويدل عليه قوله تعالى :
{ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ } [ التوبة : 100 ] ، وقوله عليه السلام : < لا تسبوا أصحابي ، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه > . وهذه الآية دالة على فضل من سبق إلى الإسلام وأنفق وجاهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم أفاده الرازيّ .
وفي " الإكليل " : في الآية دليل على أن للصحابة مراتب ، وأن الفضل للسابق ، وعلى تنزيل الناس منازلهم ، وعلى أن أفضلية العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين ، لأن الأجر على قدر النصب . انتهى .
{ وَكُلّاً } أي : وكل واحد من الفريقين { وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى } أي : المثوبة الحسنى ، وهي الجنة ، لا الأولين فقط ، وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء .
قال ابن كثير : وإنما نبه بهذا لئلا يهدر جانب آخر ، فيمدح الأول دون الآخر ، فيتوهم متوهم ذمه ، فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه ، مع تفضيل الأول عليه .
{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : من النفقة في سبيله ، وجهاد أعدائه ، وغير ذلك فيجازيكم على جميع ذلك .
قال ابن كثير : ولخبرته تعالى ، فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل, ومن فعل ذلك بعد ذلك ، وما ذاك إلا لعلمه بقصد الأول ، وإخلاصه التامّ ، وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق ، وفي الحديث : < سبق درهم مائة ألف > ولا شك عند أهل الإيمان أن الصدِّيق أبا بكر رضي الله عنه له الحظّ الأوفر من هذه الآية ، فإنه سيّد من عمل بها من سائر أمم الأنبياء ، فإنه أنفق ماله كله ابتغاء وجه الله عزّ وجلّ ، ولم يكن لأحد عنده نعمة يجزيه بها . وقوله تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } [ 11 ]
{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً } قال أبو السعود : ندب بليغ من الله تعالى إلى الإنفاق في سبيله ، بعد الأمر به ، والتوبيخ على تركه ، وبيان درجات المنفقين ، أي : من ذا الذي ينفق ماله في سبيله تعالى رجاء أن يعوضه ، فإنه كمن يقرضه ، وحسن الإنفاق بالإخلاص فيه ، وتحري أكرم المال ، والإنفاق وأفضل الجهات له . فالقرض مجاز عن حسن إنفاقه مخلصاً في أفضل جهات الإنفاق ؛ وذلك إما بالتجوز في الفعل ، فيكون استعارة تبعية تصريحية ، أو في مجموع الجملة ، فيكون استعارة تمثيلية ، وقد زعم بعضهم أنها مقصورة على النفقة في القتال ، وآخرون على نفقة العيال . قال ابن كثير : والصحيح أنه أعم من ذلك ، فكل من أنفق في سبيل الله بنيّة خالصة ، وعزيمة صادقة ، دخل في عموم هذه الآية .
وهو جليّ ، وقد أسلفنا بيانه مراراً .
وقوله تعالى :
{ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } أي : يعطيه ثوابه أضعافاً مضاعفة ، { وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } أي : جزاء شريف جميل . والجملة حالية ، أو معطوفة مشيرة إلى أن الأجر كما زاد كَمُّهُّ ، راد كَيْفُهُ .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ 12 ]
{ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } أي : لكونهم على الصراط المستقيم ، متوجهين إليه تعالى . و النور إما حقيقيّ حسيّ, على ما روي عن ابن مسعود : أن نورهم على قدر أعمالهم ، منهم من نوره مثل الجبل ، ومنهم من نوره مثل النخلة ، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم ، فدون ذلك . قيل : وإنما خصصت تلك الجهات ؛ لأن منها أخذت صحف الأعمال ، فجعل الله معها نوراً يعرف به أنهم من أصحاب اليمين ، وإما مجازيّ معنوي مراد به ما يكون سبباً للنجاة ، واختاره ابن جرير ، وأيده بقوله : لو عنى بذلك النور الضوء المعروف ، لم يخص عنه الخبر بالسعي بين الأيدي والأيمان ، دون الشمائل ، لأن ضياء المؤمنين الذين يؤتونه في الآخرة يضيء لهم جميع ما حولهم ، وفي تخصيص الخبر عن سعيه بين أيديهم وبأيمانهم ، دون الشمائل ، ما يدل على أنه معنيّ به غير الضياء وإن كانوا لا يخلون من الضياء ؛ فتأويل الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا : وكلاً وعد الله الحسنى يوم ترون المؤمنين والمؤمنات يسعى ثواب إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم وفي أيمانهم كتب أعمالهم تَطَايرُ . ويعني بقوله : { يَسْعَى } يمضي والباء في قوله :
{ وَبِأَيْمَانِهِم } بمعنى في ، وكان بعض نحويي البصرة يقول : الباء في قوله :
{ وَبِأَيْمَانِهِم } بمعنى على أيمانهم ، وقوله :
{ يَوْمَ تَرَى } من صلة وَعَدَ . انتهى .
{ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ } أي : يقول لهم من يتلقاهم من الملائكة : بشراكم ، أي : المبشَّر به جنات أو بشراكم دخول جنات . وقد قيل : إن البشارة تكون بالأعيان فلا حاجة لتقدير مضاف تصحيحاً للحمل .
{ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ } [ 13 ]
{ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } أي : نصب منه ، يقال : اقتبس ، أي : أخذ قبساً ، وهو الشعلة . و { انظُرُونَا } بمعنى انظروا إلينا ، على الحذف والإيصال ؛ لأن النظر بمعنى مجرد الرؤية ، يتعدى بـ إلى ، فإن أريد التأمل تعدى بـ في . وقولهم ذلك إما حينما يساق المؤمنون إلى الجنة زمراً ، والمنافقون في العرصات شاخصون إليهم ، أو حينما يشرفون من الغرف على المنافقين ، وهم في ضوضائهم وجلبتهم في جهنم ، كقوله تعالى :
{ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ } [ الأعراف : 50 ] الآية .
وقيل :
{ انظُرُونَا } بمعنى انتظرونا ، وهو الذي عول عليه ابن جرير . والمراد حينئذ من الانتظار للاقتباس ، هو رجاء شفاعتهم لهم ، أو دخولهم الجنة معهم طمعاً في غير مطمع ، يقولون لهم ذلك حينما يسرع بهم إلى الجنة .
{ قِيلَ } أي : قالت الملائكة أو المؤمنون : { ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً } قال الزمخشري : طردٌ لهم ، وتهكم بهم ، أي : ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور فالتمسوه هناك ، فمن ثم يقتبس ، أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نوراً بتحصيل سببه ، وهو الإيمان . أو ارجعوا خائبين ، وتنحوا عنا فالتمسوا نوراً آخر ، فلا سبيل لكم إلى هذا النور وقد علموا أن لا نور وراءهم ، وإنما هو تخييب وإقناط لهم . وكلامه يدل على حمل النور على حقيقته ، ولا مانع من أنه كنى به عن الإيمان والعمل الصالح ، أي : ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا إيماناً وعملاً طيباً يهديكم إلى النجاة ، كما أن النور يهدي في الظلمات ، على طريق الاستعارة . والأمر للتخسير والتنديم . وهذا مع ما ذكره الزمخشري رحمه الله ، وجه رابع .
ونقل الرازيّ عن أبي مسلم ، أن المراد من قول المؤمنين : { ارْجِعُوا } منع المنافقين عن الاستضاءة كقول الرجل لمن يريد القرب منه : وراءك أوسع لك . قال الرازيّ : فعلى هذا القول ، المقصود من قوله : { ارْجِعُوا } أن يقطعوا بأنه لا سبيل لهم إلى وجدان هذا المطلوب ، لأنه أمر لهم بالرجوع . انتهى ، وهذا وجه خامس .
ثم أشار إلى امتياز الفريقين في المنازل وتباينهما فيها ، بقوله سبحانه :
{ فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ } أي : بين المؤمنين والمنافقين بحائط متين يحجزهم عن أنوار المؤمنين ، لتتم ظلمتهم { لَهُ } أي : لذلك السور { بَابَ } أي : لأهل الجنة يدخلون منه ، ويرى به المنافقون المؤمنين ليكلموهم { بَاطِنَهُ } وهو الجانب الذي يلي المؤمنين { فِيهِ الرَّحْمَةُ } يعني : الجنة وما فيها من رضوان الله والنعيم المقيم { وَظَاهِرُهُ } وهو الذي يلي المنافقين { مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ } أي : من عنده ، ومن جهته الظلمة والنار .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ 14 - 15 ]
{ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } يريدون موافقتهم في الظاهر { قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ } أي : محنتموها بالنفاق وأهلكتموها { وَتَرَبَّصْتُمْ } أي : بالمؤمنين الدوائر ، ليظهر الكفر فتظهروا ما في أنفسكم { وَارْتَبْتُمْ } أي : في توحيد الله ونبوة نبيّه ، أو في البعث بعد الموت ، أو في قوله { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } [ التوبة : 33 ] و [ الفتح : 28 ] ، ووعده بنصر المؤمنين ، أو في جميع ذلك .
{ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ } أي : طول الآمال والطمع في امتداد الأعمار ، أو قولهم : { سَيُغْفَرُ لَنَا }
{ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ } يعني : الموت ، أو مصداق وعده بنصرة رسوله وإظهار دينه ، أو عذاب النار { وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ } أي : الشيطان ، فأطمعكم بالنجاة والفوز والغلبة . وقرئ : { الغرور } بالضم .
{ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ } هذا من تتمة قول المؤمنين للمنافقين بعد أن ميز بينهم ، أي : فاليوم لا يقبل منكم ما يفتدى به ، بدلاً من عذابكم ، وعوضاً من عقابكم { وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } يعني المجاهرين بالكفر من المحادّين لله ولرسوله { مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ } أي : أولى بكم ، أو تتولاكم كما توليتم موجباتها في الدنيا { وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي : النار .
ثم نعى عليهم رخاوة عقدهم فيما ندبوا إليه من التصدق في سبيل الله ، بأن ذلك من أثر قلة العناية بالخضوع لذكره وتنزيله ، تعريضاً بالمنافقين ، وسوقاً للمؤمنين إلى الكمال ، فقال سبحانه :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ 16 ]
{ أَلَمْ يَأْنِ } أي : لم يحن ، من : أنى الأمر يأنى ، إذا جاء إناه ، أي : وقته { لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ } أي : أن تلين وترقّ وتخلص قلوبهم لذكر اسمه الكريم وما يوجبه من الوجَل منه والخشية ، أو لذكر وعده ووعيده { وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } يعني القرآن الذي لو أنزل على جبل لتصدع . قال أبو السعود : ومعنى الخشوع له ، الانقياد التامّ لأوامره ونواهيه ، والعكوف على العمل بما فيه من الأحكام التي من جملتها ما سبق وما لحق من الإنفاق في سبيل الله تعالى . وقد قيل : إن عطفه على الذكر عطف أحد الوصفين على الآخر ، وأن ذكر الله ككلام الله ، بمعنى القرآن ، وكذا ما نزل من الحق ، فالعطف لتغاير العنوانين ، فإنه ذكر وموعظة ، كما أنه حق نازل { وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ } أي : الأجل والإمهال والاستدراج { فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } أي : لزوال الخشية والروعة التي كانت تأتيهم من الكتابين { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي : خارجون عن دينهم ، نابذون لما في كتابهم .
تنبيه :
قال ابن كثير : في الآية نهي للمؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى ، فإنهم لما تطاول عليهم الأمد ، وبدلوا كتاب الله الذي بأيديهم ، واشتروا به ثمناً قليلاً ، ونبذوه وراء ظهورهم ، وأقبلوا على الآراء المختلفة ، والأقوال المؤتفكة ، وقلدوا الرجال في دين الله ، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ، فقست قلوبهم ، وصار من سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه ؛ ولهذا نهى المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية ، ونظير الآية قوله تعالى : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } [ النساء : 155 ] ، و [ المائدة : 13 ] ، إلى آخرها .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ 17 ]
{ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } أي : فهو محييكم بعد مماتكم ومحاسبكم ، فلا منتدح لكم عن الجزاء ، أي : فاحذروا مغبة القسوة والفسق .
{ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ } أي : الحجج وضروب الأمثال { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي : لتثوبوا إلى عقولكم ومراشدكم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [ 18 - 19 ]
{ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ } أي : المتصدقين والمتصدقات في سبيل الله { وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ واَلشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } أي : لتصديقهم بجميع أخبار الله وأحكامه ، وشهادتهم بحقية جميع ذلك . وقد جوز في { اَلشُّهَدَاء } وجهان :
أحدهما : أن يكون معطوفاً على ما قبله ، أخبر عن الذين آمنوا أنهم صديقون شهداء ، وهو الظاهر ، لأن الأصل الوصل لا التفكيك .
والثاني : أن يكون مبتدأ ، خبره { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } ، و { الشُّهَدَاء } حينئذ إما الأنبياء الذين يشهدون على قومهم بالتبليغ أو الذين يشهدون للأنبياء على قومهم ، أو الذين قتلوا في سبيل الله . واختار الوجه الثاني ابن جرير ، قال : لأن الإيمان غير موجب في المتعارف للمؤمن اسم شهيد ، لا بمعنى غيره ، إلا أن يراد به شهيد على ما آمن به وصدقه ، فيكون ذلك وجهاً ، وإن كان فيه بعض البعد ، لأن ذلك ليس بالمعروف من معانيه إذا أطلق بغير وصل فتأويل قوله : { وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ } إذن والشهداء الذين قتلوا في سبيل الله ، أو أهلكوا في سبيله ، عند ربهم ، لهم ثواب الله في الآخرة ونورهم . انتهى .
ثم رأيت لابن القيم في " طريق الهجرتين " بسطاً لهذين الوجهين في بحث الصديقية ، ننقله لنفاسته ، قال رحمه الله في مراتب المكلفين في الآخرة وطبقاتهم :
الطبقة الرابعة : ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم ، وهم القائمون بما بعثوا به علماً وعملاً ، ودعوة للخلق إلى الله على طريقهم ومنهاجهم ، وهذه أفضل مراتب الخلق بعد الرسل و النبوة ، وهي مرتبة الصديقية ؛ ولهذا قرنهم الله في كتابه بالأنبياء ، فقال تعالى :
{ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] ، فجعل درجة الصديقية معطوفة على درجة النبوة ، وهؤلاء هم الربانيون ، وهم الراسخون العلم ، وهم الوسائط بين الرسول وأمته ؛ فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه ، وهم المضمون لهم أنهم لا يزالون على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، ولا من خالفهم ، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك .
وقال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } قيل : إن الوقف على قوله :
{ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } ثم يبتدئ : { وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ } فيكون الكلام جملتين ، أخبر في إحداهما عن المؤمنين بالله ورسله أنهم هم الصديقون ، والإيمان التام يستلزم العلم والعمل ، والدعوة إلى الله بالتعليم والصبر عليه . وأخبر في الثانية أن الشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم ، ومرتبة الصديقين فوق مرتبة الشهداء ولهذا قدمهم عليهم في الآيتين ، هنا وفي سورة النساء ، وهكذا جاء ذكرهم مقدماً على الشهداء في كلام النبي في قوله : < اثبت أحد فإنما عليك نبيّ وصديق وشهيد > . ولهذا كان نعت الصديقية وصفاً لأفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين أبي بكر الصديق ، ولو كان بعد النبوة درجة أفضل من الصديقية لكانت نعتاً له رضي الله عنه .
وقيل : إن الكلام جملة واحدة ، أخبر عن المؤمنين أنهم هم الصديقون والشهداء عند ربهم ، وعلى هذا فالشهداء هم الذين يستشهدهم الله على الناس يوم القيامة ، وهي قوله :
{ لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ } [ البقرة : 143 ] ، وهم المؤمنون ، فوصفهم بأنهم صديقون في الدنيا ، وشهداء على الناس يوم القيامة ، ويكون الشهداء وصفاً لجملة المؤمنين الصديقين .
وقيل : الشهداء هم الذين قتلوا في سبيل الله ، وعلى هذا القول يترجح أن يكون الكلام جملتين ، ويكون قوله :
{ وَالشُّهَدَاء } مبتدأ خبره ما بعده ، لأنه ليس كل مؤمن صديق شهيداً في سبيل الله ، ويرجحه أيضاً أنه لو كان { الشُّهَدَاء } داخلاً في جملة الخبر ، لكان قوله : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } داخلاً أيضاً في جملة الخبر عنهم ، ويكون قد أخبر عنهم بثلاثة أشياء :
أحدها : أنهم هم الصديقون .
والثاني : أنهم هم الشهداء .
والثالث : أن لهم أجرهم ونورهم .
وذلك يتضمن عطف الخبر الثاني على الأول ، ثم ذكر الخبر الثالث مجرداً عن العطف ، وهذا كما تقول : زيد كريم وعالم له مال . والأحسن في هذا تناسب الأخبار ، بأن تجردها كلها من العطف أو تعطفها جميعاً ، فقول : زيد كريم عالم له مال ، أو كريم وعالم وله مال ، فتأمله ! ويرجحه أيضاً أن الكلام يصير جملاً مستقلة قد ذكر فيها أصناف خلقه السعداء ، وهم الصديقون والشهداء والصالحون ، وهم المذكورون في الآية ، وهم المتصدقون الذين أقرضوا الله قرضاً حسناً ؛ فهؤلاء ثلاثة أصناف ، ثم ذكر الرسل في قوله تعالى :
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ } [ الحديد : 25 ] ، فيتناول ذلك الأصناف الأربعة المذكورة في سورة النساء فهؤلاء هم السعداء ، ثم ذكر الأشقياء وهم نوعان : كفار ومنافقون ، فقال :
{ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ } الآية ، وذكر المنافقين في قوله تعالى :
{ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ } [ الحديد : 13 ] الآية ، فهؤلاء أصناف العالم كلهم . وترك سبحانه ذكر المخَلّط صاحب الشائبتين ، على طريق القرآن في ذكر السعداء والأشقياء ، دون المخلطين غالباً ، لسّر اقتضته حكمته ؛ فليحذر صاحب التخليط ، فإنه لا ضمان له على الله ، فلا هو من أهل وعده المطلق ، ولا ييأس من روح الله ، فإنه ليس من الكفار الذين قطع لهم بالعذاب ، ولكنه بين الجنة والنار واقف بين الوعد والوعيد ، كل منهما يدعوه إلى موجبه لأنه أتى بسببه ، وهذا هو الذي لحظه القائلون بالمنزلة بين المنزلتين ، ولكن غلطوا في تخليده في النار ، ولو نزلوه بين المنزلتين ، ووكلوه إلى المشيئة لأصابوا . انتهى كلام ابن القيم ، وفيه موافقة لما اختاره ابن جرير في الآية .
ولما ذكر تعالى السعداء ومآلهم ، عطف بذكر الأشقياء ، وبين حالهم بقوله :
{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } ثم حقر تعالى أمر الدنيا ، وبين حاصل أمرها عند أهلها ، بقوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [ 20 ]
{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ } أي : تفريح للنفس { وَلَهْوٌ } أي : باطل { وَزِينَةً } أي : منظر حسن { وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ } أي : في الحسب والنسب { وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ } أي : مطر { أَعْجَبَ الْكُفَّارَ } أي : الزراع { نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ } أي : يجف بعد خضرته ونضرته { فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً } أي : من اليبس { ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً } أي : هشيما متكسراً ، وكذلك الدنيا لا تبقى كما لا يبقى النبات { وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ } أي : لمن ترك طاعة الله ومنع حق الله { وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ } أي : في الآخرة لمن أطاع الله ، وأدى حق الله من ماله { وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } قال المهايميّ : يأخذ صاحبها ملاعب الدنيا بدل ملاعب الحور العين ، ولهوها بملاذ الجنة ، وزينتها بزينة الجنة ، والتفاخر بدل التفاخر بجوار الله والقرب ، والتكاثر بالأموال والأولاد بدل نعم الله والولدان المخلدين في الجنة .
ولما حقر الحياة الحسية النفسية الفانية ، وصورها في صورة الخضراء السريعة الانقضاء ، دعاهم إلى الحياة الباقية ، فقال تعالى :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [ 21 ]
{ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } أي : بادروا بالتوبة من ذنوبكم إلى نيل مغفرة وتجاوز عن خطيئاتكم من ربكم { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } أي : الإيمان اليقينيّ .
{ ذَلِكَ } أي : المغفرة والجنة { فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } أي : ممن كان أهلاً له { وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } قال ابن جرير : أي : بما بسط لخلقه من الرزق في الدنيا ، ووهب لهم من النعم ، وعرفهم موضع الشكر ، ثم جزاهم في الآخرة على الطاعة ، ما وصف أنه أعده لهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور ٍ *الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [ 22 - 24 ]
{ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ } أي : من قحط وجدب ووباء وغلاء { وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ } أي : من خوف ومرض وموت أهل وولد ، وذهاب مال { إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا } أي : إلا في علم أزلي من قبل خلق المصيبة أو الأنفس . وما علم الله كونه فلا بد من حصوله { إِنَّ ذَلِكَ } أي : حفظه وتقديره على الأنفس المبروءة ما قدر ، { عَلَى اللّهِ يَسِيرً } أي : لسعة علمه وإحاطته .
{ لِكَيْلَا تَأْسَوْا } أي : تحزنوا { عَلَى مَا فَاتَكُمْ } أي : من عافية ورزق ونحوهما { وَلَا تَفْرَحُوا } أي : تبطروا { بِمَا آتَاكُمْ } أي : من نعم الدنيا . والمعنى : أعلمناكم بأنا قد فرغنا من التقدير ، فلا يتصور فيه تقديم ولا تأخير ولا تبديل ولا تغيير ، فلا الحزن يدفعه ، ولا السرور يجلبه ويجمعه . قال القاشانيّ : أي : لتعلموا علماً يقينياً أن ليس لكسبكم وحفظكم وحذركم وحراستكم فيما آتاكم ، مدخل وتأثير ، ولا لعجزكم وإهمالكم وغفلتكم وقلة حيلتكم وعدم احترازكم واحتفاظكم فيما فاتكم مدخل ؛ فلا تحزنوا على فوات خير ، ونزول شر ، ولا تفرحوا بوصول خير وزوال شر ؛ إذ كلها مقدرة { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ } أي : متبختر من شدة الفرح بما آتاه { فَخُورً } أي : به على الناس لعدم يقينه وبعده عن الحق بحب الدنيا واحتجابه بالظلمات عن النور .
{ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ } أي : بالإنفاق في سبيل الله ، لشدة محبة المال { وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } أي : لاستيلاء الرذيلة عليهم ، والموصول إما مبتدأ وخبره محذوف ، أي : لهم وعيد شديد ، أو خبر ومبتدؤه محذوف ، أي : هم اللذين ، أو بدل من كل .
{ وَمَن يَتَوَلَّ } أي : يعرض عن ذكر الله وما أمر به { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ } أي : عنه ، لاستغنائه بذاته { الْحَمِيدِ } أي : لاستقلاله بكماله ، وفيه تهديد وإشعار بأن الأمر بالإنفاق لمصلحة المنفق ، لا لما يعود عليه تعالى ، فإنه الغنيّ المطلق .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ 25 ]
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ } أي : بالحجج والبراهين القاطعة على صحة ما يدعون إليه { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ } أي : التامّ في الحكم والأحكام { وَالْمِيزَانَ } أي : العدل ، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما . قال ابن كثير : وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة ، المخالفة للآراء السقيمة { لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } أي : بالحق والعدل ، وهو إتباع الرسل فيما أمروا به ، وتصديقهم فيما أخبروا عنه ، فإن الذي جاؤوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق ، كما قال :
{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } [ الأنعام : 115 ] . أي : صدقاً في الأخبار ، وعدلاً في الأوامر والنواهي ، ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوؤوا غرف الجنات : { الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } [ الأعراف : 43 ] .
{ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } يعني القتال به ، فإن آلات الحروب متخذة منه { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } أي : في مصالحهم ومعايشهم ، فما من صناعة إلا وللحديد يدٌ فيها .
فإن قيل : الجمل المتعاطفة لابد فيها من المناسبة ، وأين هي في إنزال الحديد مع ما قبله ؟
فالجواب : أن بينهما مناسبة تامة ؛ لأن المقصود ذكر ما يتم به انتظام أمور العالم في الدنيا حتى ينالوا السعادة في الأخرى ، ومن هداه الله من الخواص العقلاء ينتظم حاله في الدارين بالكتب والشرائع المطهرة ، ومن أطاعهم وقلدهم من العامة بإجراء قوانين الشرع العادلة بينهم ، ومن تمرد وطغى وقسا يضرب بالحديد الرادّ لكل مَريد . وإلى الأولين أشار بقوله :
{ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ } فجمعهم وأتباعهم في جملة واحدة ، وإلى الثالث أشار بقوله :
{ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ } فكأنه قال : أنزلنا ما يهتدي به الخواصّ ، وما يهتدي به من لم يتبعهم ، فهي حينئذ معطوفة ، لا معترضة لتقوية الكلام كما توهم ، إذ لا داعي له ، وليس في الكلام ما يقتضيه ، بل فيه ما ينافيه . قال العتبي : في أول " تاريخه " : كان يختلج في صدري أن في الجمع بين الكتاب والميزان والحديد تنافراً ، وسألت عنه فلم أحصل على ما يزيح العلة وينقع الغلة ، حتى أعملت التفكر ، فوجدت الكتاب قانون الشريعة ، ودستور الأحكام الدينية ، يتضمن جوامع الأحكام والحدود ، وقد حظر فيه التعادي والتظالم ، ودفع التباغي والتخاصم ، وأمر بالتناصف والتعادل ، ولم يكن يتم إلا بهذه الآلة ، فلذا جمع { الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ } وإنما تحفظه العامة على اتباعها بالسيف ، وجذوة عقابه ، وعذاب عذابه ، وهو الحديد الذي وصفه الله بالبأس الشديد . فجمع بالقول الوجيز ، معاني كثيرة الشعوب ، متدانية الجنوب ، محكمة المطالع ، مقومة المبادئ والمقاطع ، نقله الشهاب .
وأوّل القاشانيّ { الْبَيِّنَاتِ } بالمعارف والحكم ، و { الْكِتَابُ } بالكتابة ، و { الْمِيزَانَ } بالعدل ، لأنه آلته ، و { الْحَدِيدِ } بالسيف ، لأنه مادته ، قال : وهي الأمور التي بها يتم الكمال النوعي ، وينضبط الكليّ المؤدي على صلاح المعاش والمعاد ؛ إذ الأصل المعتبر والمبدأ الأول ، وهو العلم والحكمة . والأصل المعول عليه في االنوع الاستقامة في طريق الكمال هو العدل ، ثم لا ينضبط النظام ولا يتمشى صلاح الكل إلا بالسيف والقلم الذين يتم بهما أمر السياسة ؛ فالأربعة هي أركان كمال النوع ، وصلاح الجمهور . ويجوز أن تكون { الْبَيِّنَاتِ } إشارة إلى المعارف والحقائق النظرية ، و { الْكِتَابُ } إشارة إلى الشريعة والحكم العملية و { الْمِيزَانَ } إلى العمل بالعدل والسوية و { الْحَدِيدِ } إلى القهر ودفع شرور البرية . وقيل : { الْبَيِّنَاتِ } العلوم الحقيقية ، والثلاثة الباقية هي النواميس الثلاثة المشهورة المذكورة في الكتب الحكمية ، أي : الشرع ، والدينار المعدل للأشياء في المعاوضات ، والملك . وأيّاً ما كان فهي الأمور المتضمنة للكمال الشخصيّ والنوعيّ في الدارين ؛ إذ لا يحصل كمال الشخص إلا بالعلم والعمل ، ولا كمال النوع إلا بالسيف والقلم ، أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فلأن الْإِنْسَاْن مدني بالطبع ، محتاج إلى التعامل والتعاون ، لا تمكن معيشته إلا بالاجتماع ، والنفوس إما خيّرة أحرار بالطبع ، منقادة للشرع ، وإما شريرة عبيد بالطبع آبية للشرع ؛ فالأولى يكفيها في السلوك طريق الكمال والعمل بالعدالة واللطف وسياسة الشرع ، والثانية لا بد لها من القهر وسياسة الملك . انتهى .
تنبيه :
لشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في معنى نزول القرآن ولفظ النزول ، حيث ذكر في كتاب الله تعالى ، بيّن فيها أن كثيراً من الناس فسروا النزول في مواضع من القرآن بغير ما هو معناه المعروف ؛ لاشتباه المعنى في تلك المواضع ، وصار ذلك حجة لمن فسر نزول القرآن بتفسير أهل البدع ، وحقق رحمه الله أن ليس في القرآن ولا في السنة لفظ : نزول إلا فيه معنى النزول المعروف ، قال : وهو اللائق بالقرآن ، فإنه نزل بلغة العرب ، ولا تعرف العرب منزولاً إلا بهذا المعنى ، ولو أريد غير هذا المعنى لكان خطاباً بغير لغتها . ثم هو استعمال اللفظ المعروف له معنى ، في معنى آخر بلا بيان ، وهذا لا يجوز بما ذكرنا ، قال : وقد ذكر سبحانه إنزال الحديد ، والحديد يخلق في المعادن ، وما يذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن آدم عليه السلام نزل من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد : السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة ، فهو كذب لا يثبت مثله . وكذلك الحديث الذي رواه الثعلبي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض ، فأنزل الحديد والماء والنار والملح ، حديث موضوع ومكذوب والناس يشهدون أن هذه الأمة تصنع من حديد المعادن ما يريدون . فإن قيل : إن آدم عليه السلام نزل معه جميع الآلات ، فهذه مكابرة للعيان .
فإن قيل : بل نزل معه آلة واحدة ، وتلك لا تعرف ، فأي فائدة في هذا لسائر الناس ؟ ثم ما يصنع بهذه الآلات إذا لم يكن ثّم حديد موجود يطرق بهذه الآلات ؟ وإذا خلق الله الحديد صنعت منه هذه الآلات .
ثم أخبر أنه أنزل الحديد ، فكان المقصود الأكبر بذكر الحديد هو اتخاذ آلات الجهاد منه ، الذي به ينصر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . وهذا لم ينزل من السماء .
فإن قيل : نزلت الآلة التي يطبع بها . قيل : فالله أخبر أنه أنزل الحديد لهذه المعاني المتقدمة ، والآلة وحدها لا تكفي ، بل لابد من مادة يصنع بها آلات الجهاد .
ثم قال : وجعل بعضهم نزول الحديد بمعنى الخلق ، لأنه أخرجه من المعادن ، وعلمهم صنعته ، فإن الحديد إنما يخلق المعادن ، والمعادن إنما تكون في الجبال ؛ فالحديد ينزله الله من معادنه التي في الجبال ، لينتفع به بنو آدم . انتهى كلامه رحمه الله .
وقوله تعالى : { وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ } أي : باستعمال الحديد في مجاهدة أعدائه . عطف على محذوف دلّ عليه ما قبله ، أي : لينتفعوا به ويستعملوه في الجهاد ، وليعلم الله . . . . إلخ . وحذف المعطوف عليه إيماء إلى أنه مقدمة لما ذكر, وهذا المقصود منه . أو اللام متعلقة بمحذوف ، أي : أنزله ليعلم . . . إلخ والجملة معطوفة على ما قبلها ؛ فحذف المعطوف ، وأقيم متعلقة مقامه ، وقيل : عطف على { لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } قال الشهاب : وهو قريب بحسب اللفظ ، بعيد بحسب المعنى .
{ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ } أي : على إهلاك من أراد إهلاكه { عَزِيزُ } أي : غالب قاهر لمن شاء .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ * ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ 26 - 27 ]
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم } أي : من الذرية { مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي : خارجون عن طاعته بترك نصوص كتبه وتحريفها ، وإيثار آراء الأحبار والرهبان عليها ، واجترام ما نهوا عنه { ثُمَّ قَفَّيْنَا } أي : أتبعنا { عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً } أي : حناناً ورقةً على الخلق لكثرة ما وصى به عيسى عليه السلام ، من الشفقة وهضم النفس والمحبة ، وكان في عهده أمتان عظيمتا القسوة والشدة : اليهود والرومان ، وهؤلاء أشد قسوة ، وأعظم بطشاً ، لا سيما في العقوبات ، فقد كان لهم أفانين في تعذيب النوع البشريّ بها ، ومنها تسليط الوحوش المفترسة عليه ، وتربيتها لذلك ، مما جاءت البعثة المسيحية على أثرها ، وجاهدت في مطاردتها ، وصبرت على منازلتها ، حتى ظهرت عليها بتأييده تعالى ونصره - كما بينه آخر سورة الصف - { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } أي : ما فرضناها عليهم ، وإنما هم التزموها من عند أنفسهم .
{ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ } استثناء منقطع ، أي : ولكنهم ابتدعوها طلبَ مرضاة الله عنهم .
{ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أي : ما قاموا بما التزموه منها حق القيام من التزهد ، والتخلي للعبادة وعلم الكتاب ، بل اتخذوها آلة للترؤس والسؤدد وإخضاع الشعب لأهوائهم .
{ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ } يعني الذين آمنوا الإيمان الخالص عن شوائب الشرك والابتداع ، ومنه الإيمان بمحمد صلوات الله عليه ، المبشر به عندهم .
{ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي : خارجون عن مواجب الإيمان ومقاصده .
تنبيهات :
الأول : الرهبانية هي المبالغة في العبادة والرياضة ، والانقطاع عن الناس ، وإيثار العزلة والتبتل ، وأصلها الفعلة المنسوبة إلى الرهَّبان ، وهو الخائف ، فعلان ، من رهب ، كخشيان من خشي .
الثاني : قال ابن كثير في قوله تعالى :
{ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } : ذَمٌ لهم من وجهين :
أحدهما : في الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله .
والثاني : في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عز وجل .
الثالث : رأيت في كثير من مؤلفات علماء المسيحيين المتأخرين ذم بدعة الرهبنة وما كان لتأثيرها في النفوس والأخلاق من المفاسد والأضرار ، فقد قال صاحب " ريحانة النفوس " منهم ، في الباب السابع عشر ، في الرهبنة :
إن الرهبنة قد نشأت من التوهم بأن الانفراد عن معاشرة الناس ، واستعمال التقشفات والتأملات الدينية ، هي ذات شأن عظيم ، ولكن لا يوجد سند لهذا الوهم في الكتب المقدسة لأن مثال المسيح ، ومثال رسله يضادانه باستقامة ، فإنهم لم يعتزلوا عن الاختلاط بالناس ، لكي يعيشوا بالانفراد ، بل إنما كانوا دائماً مختلطين بالعالم ، يعلّمون وينصحون . ونحن نقول بكل جراءة : إنه لا يوجد في جميع الكتاب المقدس مثال للرهبنة ، ولا يوجد أمر من أوامره يلزم بها ، بل العكس ، فإن روح الكتاب وفحواه يضادّ كل دعوى مبنية على العيشة المنفردة المقرونة بالتقشفات ، ولكن مع أن الكتاب المقدس لا يمدح العيشة الانفرادية ، فقد ظهر الميل الشديد إليها في الكنيسة ، في أواخر الجيل الثاني وأوائل الجيل الثالث ، وأيد الباحثين المقاومين لها وقتئذ ، أنها عادة سرت للمسيحيين من الهنود الوثنيين السمانيين ، فإن لهم أنواعاً كثيرة من عبادات تأمر كهنتها بالبتولية والامتناع عن أكل اللحم وأموراً أخرى مقرونة بخرافات .
ثم قال : ومع أن الرهبنة حصل عليها مقاومة من العقلاء ، امتدت وانتشرت في المسكونة ، وكان ابتداؤها في مصر في الجيل الرابع ، على أثر اشتهار أحد الرهبان وممارسته التقشفات ، بسبب الاضطهاد الذي أصابه ، وآثر لأجله الطواف في البراري ، فراراً من أيادي مضطهديه ، ثم عطف على الوحدة وعاش بها ، وذلك في الجيل الثالث . ثم امتدت من مصر إلى فلسطين وسورية إلى أكثر الجهات ؛ توهماً بأن رسم المسيحية الكاملة لا يوجد إلا في المعيشة الضيقة القشفة ، فدعا ذلك كثيرين إلى ترك المعيشة المألوفة بالاعتزال في الأديرة مع أن ذلك الوهم باطل ، ومضادّ للكتب المقدسة ، ولما كثر عدد البرهان كثرة هائلة ، ونجم عن حالهم أضرار عظيمة للمجتمع ، أصدر كثير من الملوك أوامر بمنع هذه العادة ، إلا أنها لم تنجح كثيراً .
وأما بدعة العزوبة والتبتل ، فنشأت من حضّ بولس عليها ، وترغيبهم فيها ، كما أفصح عنه كلامه في آخر الفصل السابع من رسالته الأولى .
وقد قال صاحب " ريحانة النفوس " أيضاً : إن هذه العادة لا يوجد لها برهان في الكتاب المقدس ، وإنما دخلت بالتدريج ، لما خامرهم من توهم أفضلية البتولية ، وظنهم أنها أزكى من الزواج ، ومدح من جاء على أثرهم لها مدحاً بالغاً النهاية في الإطراء ، فحسبوها من الواجبات الأدبية المأمور بها ، ووضع نظام وقوانين لوجوبها في الجيل الثالث ، حتى قاومتها كنائس أخرى ، ورفضت بدعة البتولية وقوانينها ، لمغايرتها للطبيعة ، ومضادتها لنص الكتب الإلهية ، واستقرائها أديرة الراهبات ، بأنها في بعض الأماكن كانت بيوتاً للفواحش والفساد .
وفي كتاب " البراهين الإنجيلية ضد الأباطيل الباباوية " : إن ذم الزيجة خطأ لأنها عمل الأفضل ، لأن الرسول أخبر بأن الزواج خير من التوقد بنار الشهوة ، وإن الأكثرين من رسل المسيح كانوا ذوي نساء ، تجول معهم . ومن المعلوم أن الطبيعة البشرية تغصب الْإِنْسَاْن على استيفاء حقها ، ومن العدل أن تستوفيه ، وليس بمحرم عليها استيفاؤه حسب الشريعة ، ولا استطاعة لجميع البشر على حفظ البتولية ؛ ولذلك نرى كثيرين من الأساقفة والقسوس والشمامسة ، لا بل الباباوات المدعين بالعصمة ، قد تكردسوا في هوة الزنا لعدم تحصنهم بالزواج الشرعي ، هذا وإن ذات النذر بالامتناع عن الزواج هو غير عادل لتضمنه سلب حقوق الطبيعة وكونه يضع الإنسان تحت خطر السقوط في الزنا ويفتح باباً واسعاً لدخول الشيطان ، وكأن الراهب ينذر على نفسه مقاومة أمرقبيح ، ويعدم وجود ألوف ألوف ، ربما كانت تتولد من ذريته ، فكأنه قد قتلها . وهذا النذر لم تأمر به الشريعة الإنجيلية قط ؛ فالطريقة الرهبانية هي اختراع شيطاني قبيح ، لم يكن له رسم في الكتب المقدسة ، ولا في أجيال الكنيسة الأولى, وهو مضر على أنفس الرهبان ، وعلى الشعب ، فمن يقاومه يقاوم الشيطان . وهؤلاء الرهبان لا نفع منهم للرعية ، إنما هم كالأمراء الذين يتخذون لأنفسهم قصوراً خارج العمران ، فيتنعمون وحدهم في أديرتهم ، ويسلبون أموال الشعب بالحيل والمخادعات وهم كسالى بطّالون ، يعيشون من أتعاب غيرهم ، خلافاً لسلوك رسل المسيح والمبشرين القدماء ، الذين لم نر واحداً منهم انفرد عن العالم في مكان نزهته ، واحتال بأن يعيش من أتعاب الشعب ؛ إن بولس كان يخدم الكنائس ، ويعيش من شغل يديه ، وهو يوصي بأن الذي لا يعمل ، فلا يطعم . ولا تتسع الصحف لشرح جميع الأضرار التي وقعت على العالم بسبب الرهبنات . انتهى . وهو حجة عليهم منهم .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ 28 ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قال ابن كثير : حمل ابن عباس هذه الآية على مؤمني أهل الكتاب ، وأنهم يؤتون أجرهم مرتين ، كما في الآية التي في القصص ، وكما في حديث الشعبي عن أبي بردة ، عن أبيه موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي ، فله أجران ، وعبد مملوك أدّى حق الله وحق مولاه ، فله أجران ، ورجل أدبَ َأمَتهُ فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران > أخرجاه في الصحيحين . ووافق ابن عباس على هذا التفسير الضحاك وعتبة بن أبي حكيم وغيرهما ، وهو اختيار ابن جرير .
وقال سعيد بن جبير : لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله تعالى هذه الآية في حق هذه الأمة . والظاهر أن لفظها أعم وأن المقصود بها حث كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم على الثبات في الإيمان والرسوخ فيه ، والانصياع لأوامره . ومنه ما حرض عليه في الآيات قبلها من الإنفاق في سبيله ، وسخاوة النفس فيه ، وأن لهم في مقابلة ذلك أجراً وافراً ، كما قال في أول السورة :
{ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } فآخر السورة ، فيه رجوع لأوائلها بتذكير ما أمرت به ، وما سبق نزولها لأجله .
وأصل الكفل الحظ ، وأصله ما يكتفل به الراكب فيحبسه ويحفظه عن السقوط ، والتثنية في مثله إما على حقيقتها ، أو هي كناية عن المضاعفة . و النور هو ما يبصر من عمى الجهالة والضلالة ، ويكشف الحق لقاصده . كما قال سبحانه :
{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [ الأنفال : 29 ] .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [ 29 ]
{ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } متعلق بمضمون الجملة الطلبية المتضمنة لمعنى الشرط والتقدير : إن تتقوا الله وتؤمنوا برسوله يؤتكم ما ذكر ، ليعلم أهل الكتاب الذين لم يسلموا عدم قدرتهم على شيء من فضل الله ، وثبوت أن الفضل بيد الله . والمراد بالفضل ما آتاه المسلمين وخصهم به ؛ لأنهم كانوا يرون أن الله فضلهم على جميع خلقه ، فأعلمهم الله جل ثناؤه أنه قد آتى أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الفضل والكرامة ما لم يؤتهم ، ليعلموا أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله ، فضلاً عن أن يتصرفوا في أعظمه ، وهو النبوة ، فيخصوا بها من أرادوا ، وأن الفضل بيد الله دونهم ، ودون غيرهم من الخلق ، يؤتيه من يشاء من عباده .
و لا في { لِئَلاَّ } صلة . قال السمين : وهو حرف شاعت زيادته .
وقال ابن جرير : وذكر أن في قراءة عبد الله : لكي يعلم قال : لأن العرب تجعل لا صلة في كل كلام دخل في أوله أو آخره جحد غير مصرح ، كقوله في الجحد السابق الذي لم يصرح به :
{ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } [ الأعراف : 12 ] ، وقوله : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأنعام : 109 ] . وقوله : { وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } [ الأنبياء : 95 ] الآية . ومعنى ذلك : أهلكناها أنهم يرجعون . انتهى .
ونقل الثعالبي في " فقه اللغة" : زيادتها في عدة شواهد في فصل الزوائد والصلات التي هي من سنن العرب ، فانظره تزدد علماً .(/)
سورة المجادلة
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [ 1 ]
{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } روى الإمام أحمد عن عائشة قالت : الحمد لله الذي وسِع سمعه الأصوات ؛ لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه ، وأنا في ناحية البيت ، ما أسمع ما تقول ! فأنزل الله عز وجل : { قَدْ سَمِعَ اللّهُ } إلى آخر الآية ، ورواه البخاري معلقاً . وفي رواية لابن أبي حاتم عن عائشة أنها قالت : تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء ، إني أسمع كلام خولة بنت ثعلبة ، ويخفى عليّ بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي تقول : يا رسول الله ! أكل شباب ، ونثرت له بطني ، حتى إذا كبرت سني ، وانقطع ولدي ، ظاهر مني ! اللهم إني أشكو إليك . قالت : فما برحت ، حتى نزل جبريل بهذه الآية { قَدْ سَمِعَ } إلخ . قال ابن كثير : ويقال فيها : خولة بنت مالك بن ثعلبة ، وقد تصغر فيقال : خويلة . ولا منافاة بين هذه الأقوال ، فالأمر فيها قريب . وفي " العناية " . المراد من قوله { قَدْ سَمِعَ اللّهُ } إلخ قَبِل قولها وأجابه ، كما في : سمع الله لمن حمده ، مجازاً بعلاقة السببية أو كناية . انتهى .
وقوله :
{ وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ } أي : تشتكي المجادلة ما لديها من الهمِّ بظِهار زوجها منها ، إلى الله ، وتسأله الفرَج .
ومعنى { تَحَاوُرَكُمَا } ترجيعكما الكلام في هذه النازلة . وذلك أن الظهار كان طلاق الرجل امرأته في الجاهلية ، فإذا تكلم به لم يرجع إلى امرأته أبداً . وقد طمعت المشتكية أن يكون غير قاطع علقة النكاح . والنبي صلى الله عليه وسلم لم يبتَّ لها في الأمر ، حتى ينزل الوحي الذي يردّ التنازع إليه . ثم أنزل تعالى فيه قوله :(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } [ 2 ]
{ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم } يعني قول الرجل لإمراته إذا غضب عليها : أنت عليّ كظهر أمي ، يعني : في حرمة الركوب .
{ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } أي : ما نساؤهم اللاتي ظاهروا منهن بأمهاتهم ، أي : يصرن بهذا القول كأمهاتهم في التحريم الأبدي .
قال المهايميّ : ما هن أمهاتهم بالحقيقة ، ولا في حكمهن بالمجاز ، إذ لا يقتضي المجاز أن يكون في حكم الحقيقة ، إلا بقلب الحقائق ، لكنها لا تنقلب .
{ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ } أي : فلا يشبه بهن في الحرمة الأزواج { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ } أي : قولاً تنكره العقلاء ، وتتجافاه الكرماء .
{ وَزُوراً } أي : باطلاً لا حقيقة له ؛ لأنه يتضمن إلحاقها بالأمّ المنافي لمقتضى الزوجية { وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } أي : لذنوب عباده ، إذا تابوا منها وأنابوا ، فلا يعاقبهم عليها بعد التوبة .(/)
القول في تأويل قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 3 - 4 ]
{ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } أي : يرجعون إلى لفظ الظهار ثانية ، فالقول على حقيقته ، أو يعزمون على غشيانهن ووطئهن رغبة في تحليلهن ، بعد تحريمهن ، فالقول بمعنى المقول فيه { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 4 ] روى الإمام أحمد عن يوسف بن عبد الله بن سلام ، عن خويلة بنت ثعلبة قالت : فيّ والله ! وفي أوس بن صامت أنزل اللهُ صدرَ سورة المجادلة قالت : كنت عنده ، وكان شيخاً كبيراً ، قد ساء خلقه وضجر ، فدخل عليّ يوماً فراجعته بشيء ، فغضب فقال : أنت عليّ كظهر أمي ، قالت : ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة ثم دخل عليّ ، فإذا هو يريدني على نفسي ، قالت : قلت : والذي نفس خويلة بيده ! لا تخلص إليّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكم . قالت : فواثبني ، فامتنعت منه ، فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف ، فألقيته عني . قال : ثم خرجت إلى بعض جاراتي ، فاستعرت منها ثيابها ثم خرجت حتى جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست بين يديه فذكرت له ما لقيت منه ، وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه . قالت : فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : < يا خويلة ! ابن عمك شيخ كبير ، فاتقي الله فيه > . قالت : فوالله ! ما برحت حتى نزل فيّ القرآن ، فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه ، ثم سرّي عنه ، فقال لي : < يا خويلة ! قد أنزل الله فيك وفي صاحبك . . . > ثم قرأ عليّ : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ } إلى قوله : { وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } قالت : فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : < مُريه فليعتق رقبة > . قالت : فقلت : يا رسول الله ! ما عنده ما يعتق ! قال : < فليصم شهرين متتابعين > . قال : فقلت : والله ! إنه لشيخ كبير ، ما به من صيام . قال : < فليطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر > . قالت : فقلت : والله ! يا رسول الله ما ذاك عنده . قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : < فإنا سنعينه بفرق من تمر > . قالت : فقلت : يا رسول الله ! وأنا سأعينه بفرق آخر . قال : < قد أصبت وأحسن ، فاذهبيي فتصدقي به عنه ، ثم استوصي بابن عمك خيراً > . قالت : ففعلت . ورواه أبو داود : وعنده خولة بنت ثعلبة ، ولا منافاة كما تقدم فإن العرب كثيراً ما تصغّر الأعلام . وروى ابن جرير عن ابن عباس قال : كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية : أنت عليّ كظهر أمي ، حرمت في الإسلام . فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس, وكانت تحته ابنة عم له يقال لها : خويلة بنت ثعلبة ، فظاهر منها ، فأسقط في يديه ، وقال : ما أراك إلا قد حرمت عليّ ، وقالت له مثل ذلك . قال : فانطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجدت عنده ماشطة تمشط رأسه ، فأخبرته فقال : < يا خويلة ! ما أمرنا في أمرك بشيء > ، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : < يا خويلة ! أبشري > . قالت : خيراً . قال : فقرأ عليها
{ قَدْ سَمِعَ اللّهُ } إلى قوله تعالى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } قالت : وأي رقبة لنا ؟ والله ! ما نجد رقبة غيري ؟ قال :
< { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } > قالت : والله ! لولا أنه يشرب في اليوم ثلاث مرات لذهب بصره . قال :
< { فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً } > قالت : من أين ؟ ما هي إلا أكلة إلى مثلها ! قال : فرعاه بشطر وسق ثلاثين صاعاً ، والوسق ستون صاعاً ، فقال : < ليطعم ستين مسكيناً وليراجعك > . قال ابن كثير : إسناده جيدّ قوي ، وسياق غريب ، وقد روي عن أبي العالية نحو هذا .
تنبيهات :
قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآية حكم الظهار ، وأنه من الكبائر ، وأنه خاص بالزوجات ، دون الأجنبيات ، وأن فيه بالعَود كفارة ، وأنه يحرم الوطء قبلها ، وأنها مرتبة : العتق ، ثم صوم شهرين متتابعين ، ثم إطعام ستين مسكيناً ، واستدّل ، مالك بقوله :
{ مِنكُمْ } على أن الكافر لا يدخل في الحكم ، وبقوله :
{ مِن نِّسَآئِهِمْ } على صحته من الزوجات والسراري ، لشمول النساء لهنّ .
واستدّل ابن جرير وداود وفرَّقه بقوله :
{ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } على أن العود الموجب للكفارة ، أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرر .
واستدّل بإطلاق الرقبة في كفارة الظهار عتق الكافرة .
واستدّل بظاهر الآية من لم ير الظهار إلا في التشبيه بظهر الأم خاصّة دون سائر الأعضاء ، ودون الاقتصار على قوله : كأمي ، وبالأم خاصة دون الجدّات وسائر المحارم من النسب أو الرضاع أو المصاهرة والأب والابن ونحو ذلك . ومن قال لا حكم لظهار الزوجة من زوجها ، لأنه تعالى خص الظهار بالرجل . ومن قال بصحة ظهار العبد لعموم { الَّذِينَ } له . ومن قال بإباحة الاستمتاعات بناء على عدم دخولها في لفظ المماسة . ومن قال يجوز الوطء ونحو ذلك قبل الإطعام إذا كان يكفر به ، لأنه لم يذكر فيه { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا }
وفي الآية ردّ على من أوجب الكفارة بمجرد لفظ الظهار ، و لم يعتبر العود . ووجه ما قاله أن جعل العود فعله في الإسلام بعد تحريمه .
وفيه رد على من اكتفى بإطعام مسكين يوم واحد ، ستين يوماً . انتهى .
وقوله تعالى { ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي : ذلك البيان أو التعليم للأحكام لتصدقّوا بالله ورسوله في قبول شرائعه ، والانتهاء عن قول الزور الجاهلي .
والمراد بقوله تعالى : { وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } الجاحدون لفرائضه وحدوده التي بيّنها . فالكفر على حقيقته ، أو المتعدّون لها ، وعنوان الكفر تغليظاً لزجرهم .(/)